الموسوعة الفقهية الكويتية

تَخْلِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْلِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ خَلَّى، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ: التَّرْكُ وَالإِْعْرَاضُ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَمْكِينُ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ مَانِعٍ. فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَانِعِ حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ، وَيُعْتَبَرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ مُطْلَقًا. (2)
وَتُسْتَعْمَل التَّخْلِيَةُ أَحْيَانًا بِمَعْنَى الإِْفْرَاجِ، كَمَا يَقُولُونَ: يُحْبَسُ الْقَاتِل وَلاَ يُخَلَّى بِكَفِيلٍ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَبْضُ:
2 - قَبْضُ الشَّيْءِ: أَخْذُهُ. وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى حِيَازَةِ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ
__________
(1) تاج العروس ومتن اللغة مادة: " خلا "
(2) البدائع 5 / 244، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 145، وحاشية القليوبي 2 / 215، والمغني لابن قدامة 4 / 125، 126 - ومجلة الأحكام العدلية مادة: " 263 "
(3) القليوبي 4 / 122

(11/56)


فِيهِ (1) ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْلِيَةِ وَالْقَبْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ التَّخْلِيَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَبْضِ، وَيَحْصُل الْقَبْضُ بِأُمُورٍ أُخْرَى أَيْضًا، كَالتَّنَاوُل بِالْيَدِ وَالنَّقْل، وَكَذَلِكَ الإِْتْلاَفُ، فَإِذَا أَتْلَفَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَثَلاً صَارَ قَابِضًا لَهُ. (2)
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَكُونُ مِنْ قِبَل الْمُعْطِي، وَالْقَبْضَ مِنْ قِبَل الآْخِذِ، فَإِذَا خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِل بَيْنَهُمَا، حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْقَبْضُ مِنَ الْمُشْتَرِي. (3)

ب - التَّسْلِيمُ:
3 - تَسْلِيمُ الشَّيْءِ: إِعْطَاؤُهُ وَجَعْلُهُ سَالِمًا خَالِصًا، يُقَال: سَلَّمَ الشَّيْءَ لَهُ أَخْلَصَهُ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّخْلِيَةِ فِي الْمَعْنَى، حَتَّى إِنَّ الأَْحْنَافَ قَالُوا: التَّسْلِيمُ عِنْدَنَا هُوَ التَّخْلِيَةُ. (4)
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَسْلِيمٌ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا، أَمَّا فِي الْمَنْقُول فَبِحَسَبِهِ أَوْ بِالْعُرْفِ، كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) شرح مرشد الحيران 1 / 58، والبدائع 5 / 246، وقليوبي 2 / 215، والحطاب 4 / 478، والمغني 4 / 226
(2) البدائع 5 / 246، وكشاف القناع 3 / 244، وقليوبي 2 / 211 - 217
(3) القليوبي 2 / 215، والوجيز للغزالي 1 / 146، والبدائع 5 / 244، والمغني 4 / 125
(4) معجم اللغة مادة " سلم " بدائع الصنائع 5 / 244

(11/56)


وَالأَْصْل أَنَّ التَّخْلِيَةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضَ أَثَرٌ لَهُمَا، فَالتَّسْلِيمُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّقْل وَالتَّحْوِيل، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ، فَإِذَا بَاعَ دَارًا مَثَلاً، وَخَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، بِرَفْعِ الْحَائِل بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَصْبَحَ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ. (1)

الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ لِلتَّخْلِيَةِ:
4 - التَّخْلِيَةُ قَبْضٌ فِي الْعَقَارِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
أَمَّا تَخْلِيَةُ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنَ الأَْعْيَانِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا:
قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ حُكْمًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِلاَ كُلْفَةٍ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمَبِيعِ، فَفِي نَحْوِ حِنْطَةٍ فِي بَيْتٍ مَثَلاً دَفْعُ الْمِفْتَاحِ إِذَا أَمْكَنَهُ الْفَتْحُ بِلاَ كُلْفَةٍ قَبْضٌ، وَفِي نَحْوِ بَقَرٍ فِي مَرْعًى بِحَيْثُ يُرَى وَيُشَارُ إِلَيْهِ قَبْضٌ، وَفِي نَحْوِ ثَوْبٍ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ فَتَصِل إِلَيْهِ قَبْضٌ، وَفِي
__________
(1) البدائع 5 / 244، والدسوقي 3 / 145، والمجموع 9 / 265، 272، والمغني لابن قدامة 4 / 125
(2) شرح معاني الآثار للطحاوي 4 / 36، وجواهر الإكليل 2 / 52، والمجموع للنووي 9 / 265، 266، والمغني 4 / 118، 119

(11/57)


نَحْوِ فَرَسٍ أَوْ طَيْرٍ فِي بَيْتٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ بِلاَ مُعِينٍ قَبْضٌ. (1)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لاِعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ قَبْضًا أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: خَلَّيْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الإِْذْنُ بِالْقَبْضِ، لاَ خُصُوصُ لَفْظِ التَّخْلِيَةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ: إِنَّ مَا يُنْقَل فِي الْعَادَةِ، كَالأَْخْشَابِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، فَقَبْضُهُ بِالنَّقْل إِلَى مَكَانٍ لاَ اخْتِصَاصَ لِلْبَائِعِ بِهِ، وَمَا يُتَنَاوَل بِالْيَدِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثَّوْبِ وَالْكِتَابِ فَقَبْضُهُ بِالتَّنَاوُل. (3)
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ. (4) فَلاَ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ فِي الْمَنْقُول عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ لِلْمُشْتَرِي وَتَمْكِينُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِتَسْلِيمِ مَفَاتِيحِهِ إِنْ كَانَتْ، وَقَبْضُ غَيْرِهِ يَكُونُ حَسَبَ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ كَحِيَازَةِ الثَّوْبِ وَاسْتِلاَمِ مِقْوَدِ الدَّابَّةِ. (5)
5 - وَفِي الْمَوَاضِيعِ الَّتِي تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ فِيهَا تَسْلِيمًا وَقَبْضًا يَنْتَقِل الضَّمَانُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُخَلِّي إِلَى ذِمَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 43، والمجموع للنووي 9 / 265 - 270، والمغني لابن قدامة 4 / 125
(2) ابن عابدين 4 / 43
(3) المجموع للنووي 9 / 270 - 272
(4) المغني لابن قدامة 4 / 126، 129
(5) جواهر الإكليل 2 / 51

(11/57)


الْقَابِضِ، وَهُوَ يَتَحَمَّل الْخَسَارَةَ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا حَصَل الْقَبْضُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالاِتِّفَاقِ. (1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ضَمَانٌ) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الضَّمَانَ يَحْصُل فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: بَيْعُ الْغَائِبِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ، وَبَيْعُ مَا فِيهِ حَقُّ التَّوْفِيَةِ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ. (2)
وَهُنَاكَ عُقُودٌ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَعَقْدِ الرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا، فَفِي هَذِهِ الْعُقُودِ إِذَا حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ بِشُرُوطِهَا، وَاعْتُبِرَتْ قَبْضًا، تَمَّ الْعَقْدُ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل وَمَا يَتَعَلَّقُ بِآثَارِ الْقَبْضِ وَالتَّخْلِيَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَبْضٌ) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّخْلِيَةَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فِي بَحْثِ كَيْفِيَّةِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَفِي السَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا
__________
(1) البدائع 5 / 240، والقوانين الفقهية ص 164، والوجيز للغزالي 1 / 146، والمغني 4 / 120، 125
(2) الدسوقي 3 / 146، والقوانين الفقهية ص 164

(11/58)


حُكْمُ الْقَبْضِ فِيمَا إِذَا كَانَ مَوْضُوعُهَا عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، (1) كَمَا ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الإِْفْرَاجِ فِي بَحْثِ الْجِنَايَاتِ وَتَخْلِيَةِ الْمَحْبُوسِ بِالْكَفَالَةِ. (2) وَبَحَثَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَخْلِيَةَ الطَّرِيقِ بِمَعْنَى كَوْنِ الطَّرِيقِ خَالِيًا مِنْ مَانِعٍ، كَعَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، فِي كِتَابِ الْحَجِّ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 42، 44، وجواهر الإكليل 2 / 50 - 52، وقليوبي 2 / 215، والمغني 4 / 125، 126
(2) القليوبي 4 / 122
(3) المغني 3 / 163

(11/58)


تَخْمِيسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْمِيسُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّيْءِ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَال هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ خُمُسِ الْغَنَائِمِ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - تَخْمِيسُ الْغَنِيمَةِ:
2 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ تَخْمِيسُ الْغَنِيمَةِ وَتَوْزِيعُ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ عَلَى الْغَانِمِينَ، بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (2) ، وَلاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا يُعْتَبَرُ غُنَيْمَةً يُخَمَّسُ.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَخْمِيسِ الْغَنِيمَةِ إِذَا شَرَطَهُ الإِْمَامُ لِضَرُورَةٍ، فَقَدْ قَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ: شَاذٌّ وَبَاطِلٌ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس مادة: " خمس "
(2) سورة الأنفال / 41
(3) الزيلعي 3 / 254 ط دار المعرفة، وفتح القدير 4 / 320، وروضة الطالبين 6 / 376، 385، 386، ومغني المحتاج 3 / 101 نشر دار إحياء التراث العربي، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8 نشر دار المعرفة، وبداية المجتهد 1 / 390 ط دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 260، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 299

(11/59)


وَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْتَبَرُ غَنِيمَةً وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ، صَرْفُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَكَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ، وَشُرُوطُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (غَنِيمَةٌ) .

ب - تَخْمِيسُ الْفَيْءِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} (1) فَجَعَلَهُ كُلَّهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ: اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَئِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ - وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ - (2) نَصِيبُهُ مِنْهَا لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - تَخْمِيسُ الْفَيْءِ، وَصَرْفُ خُمُسِهِ إِلَى مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ.
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْفَيْءَ لأَِهْل
__________
(1) سورة الحشر / 6
(2) سرو حمير: منازل حمير بأرض اليمن

(11/59)


الْجِهَادِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْعْرَابِ وَمَنْ لاَ يَعُدُّ نَفْسَهُ لِلْجِهَادِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصُول النُّصْرَةِ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ أُعْطِيَ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُقَاتِلَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ. (1) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْفَيْءِ وَمَصْرِفِهِ تَفَاصِيل تُنْظَرُ فِي (فَيْءٍ) .

ج - تَخْمِيسُ الأَْرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً:
4 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ - تَخْمِيسَ الأَْرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ غَنِيمَةٌ كَسَائِرِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الإِْمَامُ مِنْ قَلِيل أَمْوَال الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَثِيرِهِ، وَحُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي الْغَنِيمَةِ أَنْ تُخَمَّسَ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَخْمِيسِ الأَْرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَتَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَسَائِرِ الْمَغْنَمِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ لِجِهَاتِهِ، كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 116 ط الجمالية، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 9، وبداية المجتهد 1 / 402، 403، وروضة الطالبين 6 / 355، والأحكام السلطانية للماوردي ص 126 ط الحلبي، والكافي 4 / 318، 319 نشر المكتب الإسلامي
(2) الأم للشافعي 4 / 103 ط الأميرية، والأحكام السلطانية للماوردي ص 137، وحاشية العدوي 2 / 8، والكافي 4 / 328

(11/60)


بِخَيْبَرَ، وَبَيْنَ إِقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَضَرْبِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الأَْوَّل أَوْلَى عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ. (1)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لأَِنَّهُ كَانَ هُوَ الأَْصْلَحُ إِذْ ذَاكَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْقِصَّةِ، لاَ لِكَوْنِهِ هُوَ اللاَّزِمَ. كَيْفَ وَقَدْ قَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْل مَا هُوَ الأَْصْلَحُ فَيَفْعَلُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً لاَ تُخَمَّسُ وَلاَ تُقْسَمُ، بَل تُوقَفُ وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْسِمُوا أَرْضًا افْتَتَحُوهَا. (2)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الإِْمَامَ يُخَيَّرُ فِي الأَْرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً، بَيْنَ قِسْمَتِهَا كَمَنْقُولٍ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا قَسَّمَ الإِْمَامُ الأَْرْضَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَمُقْتَضَى كَلاَمِ الْمَجْدِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ يُخَمِّسُهَا حَيْثُ قَالُوا " كَالْمَنْقُول " قَال: وَعُمُومُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 229، والهداية مع شروحها 4 / 303، 304 ط الأميرية، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 8
(2) حاشية العدوي 2 / 8، والكافي 4 / 328، والإنصاف 4 / 190 ط دار إحياء التراث العربي

(11/60)


كَلاَمِ أَحْمَدَ وَالْقَاضِي وَقِصَّةِ خَيْبَرَ، تَدُل عَلَى أَنَّهَا لاَ تُخَمَّسُ؛ لأَِنَّهَا فَيْءٌ وَلَيْسَتْ بِغَنِيمَةٍ. (1)

د - تَخْمِيسُ السَّلَبِ:
5 - إِنَّ السَّلَبَ لاَ يُخَمَّسُ، سَوَاءٌ أَقَال الإِْمَامُ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، أَمْ لَمْ يَقُلْهُ. لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِل، وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ (2) .
وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ تَنْفِيل السَّلَبِ قَبْل حُصُول الْغَنِيمَةِ فِي يَدِ الْغَانِمِينَ، وَلاَ خُمُسَ فِيمَا يُنَفَّل؛ لأَِنَّ الْخُمُسَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَالنَّفَل مَا أَخْلَصَهُ الإِْمَامُ لِصَاحِبِهِ وَقَطَعَ شَرِكَةَ الأَْغْيَارِ عَنْهُ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. (4)
__________
(1) الكافي 4 / 328، والإنصاف 4 / 190
(2) حديث: " قضى في السلب للقاتل،. . . " أخرجه أبو داود (3 / 165 - ط عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 105 ط شركة الطباعة الفنية) وهو في صحيح مسلم (5 / 149 - ط دار الفكر)
(3) روضة الطالبين 6 / 375 نشر المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 3 / 55 ط أنصار السنة، والكافي 4 / 293، والمغني على الشرح الكبير 1 / 426
(4) بدائع الصنائع 6 / 115 ط الجمالية، وفتح القدير 4 / 333، 334 ط الأميرية

(11/61)


وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ السَّلَبَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَل، يَسْتَحِقُّهُ كُل مَنْ قَتَل قَتِيلاً بَعْدَ قَوْل الإِْمَامِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَلاَ يُعْطِيهِ الإِْمَامُ إِلاَّ مِنَ الْخُمُسِ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ؛ لأَِنَّ النَّفَل لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْخُمُسِ، أَيْ لاَ مِنَ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ، فَكَذَا السَّلَبُ. (1)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْعَل الإِْمَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِل، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ الْمَقْتُول فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ، فَيُدْفَعُ خُمُسُهُ لأَِهْل الْخُمُسِ، ثُمَّ يُقْسَمُ بَاقِيهِ كَسَائِرِ الْمَغْنَمِ، الْقَاتِل وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. (2)
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ يُقَابِل الْمَشْهُورَ، بِتَخْمِيسِ السَّلَبِ وَدَفْعِ خُمُسِهِ لأَِهْل الْخُمُسِ بَاقِيهِ لِلْقَاتِل، ثُمَّ تَقْسِيمُ بَاقِي الْغَنِيمَةِ. (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السَّلَبِ وَشُرُوطِ اسْتِحْقَاقِهِ تَفَاصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (تَنْفِيلٍ، وَسَلَبٍ، وَغَنِيمَةٍ) .
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 14 نشر دار المعرفة، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 427
(2) بدائع الصنائع 6 / 115، وفتح القدير 4 / 333، 334، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 14، وبداية المجتهد 1 / 397 ط دار المعرفة، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 426 - 427، وكشاف القناع 3 / 55 ط أنصار السنة
(3) روضة الطالبين 6 / 375

(11/61)


هـ - تَخْمِيسُ الرِّكَازِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَخْمِيسِ الرِّكَازِ (1)
بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) وَلأَِنَّهُ مَال كَافِرٍ مَظْهُورٍ عَلَيْهِ بِالإِْسْلاَمِ فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْغَنِيمَةِ (3) .
وَفِي تَعْرِيفِ الرِّكَازِ وَأَنْوَاعِهِ وَحُكْمِ كُل نَوْعٍ وَشُرُوطِ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْهُ وَمَصْرِفِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ (رِكَازٌ، وَزَكَاةٌ)
.

تَخْمِينٌ

انْظُرْ: خَرْصٌ
__________
(1) الركاز: المال المدفون في الجاهلية. المصباح مادة: " ركز "
(2) حديث: " العجماء جبار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1332 - ط الحلبي) اللفظ للبخاري
(3) بدائع الصنائع 2 / 66، والزيلعي 1 / 288، وحاشية العدوي 1 / 436 نشر دار المعرفة، ومغني المحتاج 1 / 395 ط مصطفى الحلبي، وروضة الطالبين 2 / 286، والكافي 1 / 313، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 612

(11/62)


تَخَنُّثٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخَنُّثُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ، وَتَخَنَّثَ الرَّجُل إِذَا فَعَل فِعْل الْمُخَنَّثِ. وَخَنَّثَ الرَّجُل كَلاَمَهُ: إِذَا شَبَّهَهُ بِكَلاَمِ النِّسَاءِ لِينًا وَرَخَامَةً. (1)
وَالتَّخَنُّثُ اصْطِلاَحًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفِ ابْنِ عَابِدِينَ لِلْمُخَنَّثِ: هُوَ التَّزَيِّي بِزِيِّ النِّسَاءِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِي تَلْيِينِ الْكَلاَمِ عَنِ اخْتِيَارٍ، أَوِ الْفِعْل الْمُنْكَرِ.
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ: الْمُخَنَّثُ بِالْفَتْحِ مَنْ يَفْعَل الرَّدِيءَ. وَأَمَّا بِالْكَسْرِ فَالْمُتَكَسِّرُ الْمُتَلَيِّنُ فِي أَعْضَائِهِ وَكَلاَمِهِ وَخَلْقِهِ. وَيُفْهَمُ مِنَ الْقَلْيُوبِيِّ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ عِنْدَهُ الْمُتَشَبِّهُ بِحَرَكَاتِ النِّسَاءِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال التَّخَنُّثُ وَالتَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ
__________
(1) لسان العرب المصباح مادة: " خنث "
(2) ابن عابدين 4 / 381 و 5 / 239، وجواهر الإكليل 2 / 40، 41، وقليوبي 4 / 320، والمغني 6 / 562، وفتح الباري 2 / 188

(11/62)


فِي اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْكَلاَمِ وَالْمَشْيِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَال وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَالنَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَصْل خِلْقَتِهِ، فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالإِْدْمَانِ (3) عَلَى ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَتَمَادَى دَخَلَهُ الذَّمُّ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا بَدَا مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَأَمَّا إِطْلاَقُ مَنْ قَال: إِنَّ الْمُخَنَّثَ خِلْقَةً لاَ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ الذَّمُّ، فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِ التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ فِي الْمَشْيِ وَالْكَلاَمِ بَعْدَ تَعَاطِيهِ الْمُعَالَجَةَ لِتَرْكِ ذَلِكَ (4)

. إِمَامَةُ الْمُخَنَّثِ:
3 - الْمُخَنَّثُ بِالْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ فِي كَلاَمِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ
__________
(1) حديث: " لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333 - ط السلفية)
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 332 - ط السلفية)
(3) أي المواظبة والملازمة
(4) فتح الباري 10 / 332، وانظر ابن عابدين 4 / 381

(11/63)


مِنَ الأَْفْعَال الرَّدِيئَةِ لاَ يُعْتَبَرُ فَاسِقًا، وَلاَ يَدْخُلُهُ الذَّمُّ وَاللَّعْنَةُ الْوَارِدَةُ فِي الأَْحَادِيثِ، فَتَصِحُّ إِمَامَتُهُ، لَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالإِْدْمَانِ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ لَوْمٌ. (1)
أَمَّا الْمُتَخَلِّقُ بِخُلُقِ النِّسَاءِ حَرَكَةً وَهَيْئَةً، وَاَلَّذِي يَتَشَبَّهُ بِهِنَّ فِي تَلْيِينِ الْكَلاَمِ وَتَكَسُّرِ الأَْعْضَاءِ عَمْدًا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ قَبِيحَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَيُعْتَبَرُ فَاعِلُهَا آثِمًا وَفَاسِقًا. وَالْفَاسِقُ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، بِبُطْلاَنِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ (2) ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ) .
وَنَقَل الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلَهُ: لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا (3) .

شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُخَنَّثَ الَّذِي لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ هُوَ الَّذِي فِي كَلاَمِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ، إِذَا كَانَ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي
__________
(1) الزيلعي 4 / 221، وفتح الباري 10 / 332، ونهاية المحتاج 8 / 283
(2) مراقي الفلاح ص 156، وجواهر الإكليل 1 / 78 - 82، ومغني المحتاج 1 / 242، وكشاف القناع 1 / 475
(3) فتح الباري 2 / 190

(11/63)


كَلاَمِهِ لِينٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْفْعَال الرَّدِيئَةِ، فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُول الشَّهَادَةِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ مُحَرَّمًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشَبُّهِ التَّعَمُّدُ، لاَ الْمُشَابَهَةُ الَّتِي تَأْتِي طَبْعًا.
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُجُونَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَمِنَ الْمُجُونِ التَّخَنُّثُ.
وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْمَذَاهِبُ مُتَّفِقَةً فِي التَّفْصِيل الَّذِي أَوْرَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (شَهَادَةٍ) . (1)

نَظَرُ الْمُخَنَّثِ لِلنِّسَاءِ:
هـ - الْمُخَنَّثُ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، وَاَلَّذِي لَهُ أَرَبٌ فِي النِّسَاءِ، لاَ خِلاَفَ فِي حُرْمَةِ اطِّلاَعِهِ عَلَى النِّسَاءِ وَنَظَرِهِ إِلَيْهِنَّ؛ لأَِنَّهُ فَحْلٌ فَاسِقٌ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُخَنَّثًا بِالْخِلْقَةِ، وَلاَ إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يُرَخَّصُ بِتَرْكِ مِثْلِهِ مَعَ النِّسَاءِ، وَلاَ بَأْسَ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِنَّ، اسْتِدْلاَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ يَحِل لَهُمُ النَّظْرُ إِلَى النِّسَاءِ، وَيَحِل لِلنِّسَاءِ الظُّهُورُ أَمَامَهُمْ مُتَزَيِّنَاتٍ، حَيْثُ عُدَّ مِنْهُمْ أَمْثَال
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 221، وابن عابدين 4 / 381، والقليوبي 2 / 320، 321، وجواهر الإكليل 2 / 233، والحطاب 6 / 152، والمغني 9 / 174

(11/64)


هَؤُلاَءِ، وَهُوَ {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} (1) . . .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَنَّثَ - وَلَوْ كَانَ لاَ إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ - لاَ يَجُوزُ نَظَرُهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَحُكْمُهُ فِي هَذَا كَالْفَحْل: اسْتِدْلاَلاً بِحَدِيثِ لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُنَّ (2) .

عُقُوبَةُ الْمُخَنَّثِ:
6 - الْمُخَنَّثُ بِالاِخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ الْفِعْل الْقَبِيحِ مَعْصِيَةٌ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ، فَعُقُوبَتُهُ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ تُنَاسِبُ حَالَةَ الْمُجْرِمِ وَشِدَّةَ الْجُرْمِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّرَ الْمُخَنَّثِينَ بِالنَّفْيِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ (3) وَكَذَلِكَ فَعَل الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ. (4)
أَمَّا إِنْ صَدَرَ مِنْهُ مَعَ تَخَنُّثِهِ تَمْكِينُ الْغَيْرِ مِنْ فِعْل الْفَاحِشَةِ بِهِ، فَقَدِ اُخْتُلِفَ فِي عُقُوبَتِهِ،
__________
(1) سورة النور / 31
(2) ابن عابدين 5 / 239، وأسنى المطالب 3 / 112، والبجيرمي على الخطيب 3 / 314، والقرطبي 12 / 234، والمغني 6 / 561، 562. وحديث: " لا يدخلن هؤلاء عليكن ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333 - ط السلفية)
(3) حديث: " أخرجوهم من بيوتكم ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333 - ط السلفية)
(4) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 2 / 260، وفتح الباري 10 / 332

(11/64)


فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الزِّنَى:
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ تَعْزِيرِيَّةٌ قَدْ تَصِل إِلَى الْقَتْل أَوِ الإِْحْرَاقِ أَوِ الرَّمْيِ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ مَعَ التَّنْكِيسِ؛ لأَِنَّ الْمَنْقُول عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتِلاَفُهُمْ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: (حَدٌّ عُقُوبَةٌ، تَعْزِيرٌ، وَلِوَاطٌ) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّخَنُّثِ فِي مَبَاحِثِ خِيَارِ الْعَيْبِ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ مُخَنَّثًا، وَيَذْكُرُونَهَا فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَفِي مَسَائِل اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ وَأَبْوَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ وَنَحْوِهَا.

(11/65)


تَخْوِيفٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْوِيفُ مَصْدَرٌ مِنْ بَابِ التَّفْعِيل، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّخْصِ يَخَافُ، أَوْ جَعْلُهُ بِحَالَةٍ يَخَافُ النَّاسَ. يُقَال: خَوَّفَهُ تَخْوِيفًا: أَيْ جَعَلَهُ يَخَافُ، أَوْ صَيَّرَهُ بِحَالٍ يَخَافُهُ النَّاسُ. وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} (1) أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَخَافُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَقَال ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْنْذَارُ:
2 - الإِْنْذَارُ هُوَ: التَّخْوِيفُ مَعَ إِعْلاَمِ مَوْضِعِ الْمَخَافَةِ. فَإِذَا خَوَّفَ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ وَأَعْلَمَهُ حَال مَا يُخَوِّفُهُ بِهِ، فَقَدْ أَنْذَرَهُ.
فَالإِْنْذَارُ أَخَصُّ مِنَ التَّخْوِيفِ.
__________
(1) سورة آل عمران / 175
(2) محيط المحيط، والقاموس المحيط، ولسان العرب مادة: " خوف "

(11/65)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
مَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إِكْرَاهًا:

أ - التَّخْوِيفُ بِالْقَتْل وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَحْصُل بِتَخْوِيفٍ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ أَوْ حَبْسٍ طَوِيلٍ. (1)
أَمَّا التَّخْوِيفُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ الْيَسِيرَيْنِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، فَالتَّخْوِيفُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ فِي حَقِّ مَنْ لاَ يُبَالِي لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، إِلاَّ أَنَّ التَّخْوِيفَ بِهِمَا يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا فِي حَقِّ ذِي جَاهٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِمَا، كَمَا يَتَضَرَّرُ وَاحِدٌ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَذَلِكَ كَالْقَاضِي وَعَظِيمِ الْبَلَدِ، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ إِكْرَاهٌ فِي حَقِّهِ. (2)
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 436 - 437 ط مصطفى الحلبي، والبناية شرح الهداية 8 / 173، وجواهر الإكليل 1 / 340، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 260، و 261، والإنصاف 8 / 439 - 440 ط دار إحياء التراث العربي
(2) نهاية المحتاج 6 / 437، وروضة الطالبين 8 / 59، والبناية شرح الهداية 8 / 175، وحاشية ابن عابدين 5 / 81، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 261، 262، والإنصاف 8 / 440، وجواهر الإكليل 1 / 340، وبلغة السالك 2 / 169 ط عيسى الحلبي

(11/66)


الشَّافِعِيَّةِ - حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ - أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَحْصُل بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْل فَقَطْ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالْحَبْسِ لاَ يَكُونُ إِكْرَاهًا. (1)

ب - التَّخْوِيفُ بِأَخْذِ الْمَال وَإِتْلاَفِهِ:
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - حُصُول الإِْكْرَاهِ بِالتَّخْوِيفِ بِأَخْذِ الْمَال " إِذَا قَال مُتَغَلِّبٌ لِرَجُلٍ: إِمَّا أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْفَعَهَا إِلَى خَصْمِكَ، فَبَاعَهَا مِنْهُ، فَهُوَ بَيْعُ مُكْرَهٍ.
وَيَشْتَرِطُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِحُصُول الإِْكْرَاهِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ عِبَارَةِ رَدِّ الْمُحْتَارِ - كَوْنُ التَّخْوِيفِ بِإِتْلاَفِ كُل الْمَال. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِنَّ الإِْكْرَاهَ يَحْصُل بِأَخْذِ الْمَال الْكَثِيرِ وِإِتْلاَفِهِ. وَهُنَاكَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَال لَيْسَ إِكْرَاهًا. (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيل فِي مَعْنَى الإِْكْرَاهِ وَأَنْوَاعِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 437، وروضة الطالبين 8 / 59 - 60، والإنصاف 8 / 440
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 80 ط بولاق، وبلغة السالك 2 / 169 ط عيسى الحلبي
(3) بلغة السالك 2 / 169، ونهاية المحتاج 6 / 437، وروضة الطالبين 8 / 59 - 60، والإنصاف 8 / 439 - 440

(11/66)


وَشُرُوطِهِ وَأَثَرِهِ وَمَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إِكْرَاهًا تُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ) .

الْقَتْل تَخْوِيفًا:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِمْكَانِ حُصُول الْقَتْل بِالتَّخْوِيفِ. كَمَنْ شَهَرَ سَيْفًا فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ، أَوْ دَلاَّهُ مِنْ مَكَانٍ شَاهِقٍ فَمَاتَ مِنْ رَوْعَتِهِ، وَكَمَنْ صَاحَ فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ فَجْأَةً فَمَاتَ مِنْهَا، وَكَمَنْ رَمَى عَلَى شَخْصٍ حَيَّةً فَمَاتَ رُعْبًا وَمَا إِلَى ذَلِكَ. (1)
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَنْوَاعِ الْقَتْل، وَصِفَةِ كُل نَوْعٍ، وَحُكْمِ الْقَتْل بِالتَّخْوِيفِ فِي مُخْتَلَفِ صُوَرِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلٌ) .

الإِْجْهَاضُ بِسَبَبِ التَّخْوِيفِ:
6 - يَرَى الْفُقَهَاءُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ خَوَّفَ امْرَأَةً فَأَجْهَضَتْ بِسَبَبِ التَّخْوِيفِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الإِْجْهَاضِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ، (2) وَعُقُوبَةُ الإِْجْهَاضِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِجْهَاضٌ) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 9 / 578، وحاشية ابن عابدين 5 / 377 ط بولاق، وبدائع الصنائع 7 / 235 ط الجمالية، والشرح الصغير للدردير 4 / 342، ونهاية المحتاج 7 / 329، 330، وقليوبي وعميرة 4 / 145
(2) قليوبي وعميرة 4 / 159، والشرح الصغير للدردير 4 / 377، وحاشية ابن عابدين 5 / 377 ط بولاق، وكشاف القناع 6 / 16 ط عالم الكتب

(11/67)


تَخْيِيرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّخْيِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ خَيَّرَ، يُقَال: خَيَّرْتُهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، أَيْ: فَوَّضْتُ إِلَيْهِ الْخِيَارَ، وَتَخَيَّرَ الشَّيْءَ: اخْتَارَهُ، وَالاِخْتِيَارُ: الاِصْطِفَاءُ وَطَلَبُ خَيْرِ الأَْمْرَيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّخَيُّرُ. وَالاِسْتِخَارَةُ: طَلَبُ الْخِيرَةِ فِي الشَّيْءِ، وَخَارَ اللَّهُ لَكَ أَيْ: أَعْطَاكَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ. وَالْخَيْرَةُ - بِسُكُونِ الْيَاءِ - الاِسْمُ مِنْهُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِمُصْطَلَحِ (تَخْيِيرٌ) عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
فَهُوَ عِنْدَهُمْ: تَفْوِيضُ الأَْمْرِ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ فِي انْتِقَاءِ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالٍ مُعَيَّنَةٍ شَرْعًا، وَيُوكَل إِلَيْهِ تَعْيِينُ أَحَدِهَا، بِشُرُوطٍ مَعْلُومَةٍ،
كَتَخْيِيرِهِ بَيْنَ خِصَال الْكَفَّارَةِ، وَتَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَتَخْيِيرِهِ فِي جِنْسِ مَا يُخْرَجُ فِي الزَّكَاةِ، وَتَخْيِيرِهِ فِي فِدْيَةِ الْحَجِّ، وَتَخْيِيرِهِ فِي
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات ط المنيرية، والمصباح المنير مادة: " خير "

(11/67)


التَّصَرُّفِ فِي الأَْسْرَى، وَتَخْيِيرِهِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَالتَّخْيِيرُ بِهَذَا دَلِيلٌ عَلَى سَمَاحَةِ الشَّرِيعَةِ وَيُسْرِهَا وَمُرَاعَاتِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِيمَا فَوَّضَتْ إِلَيْهِمُ اخْتِيَارَهُ، مِمَّا يَجْلِبُ النَّفْعَ لَهُمْ وَيَدْفَعُ الضُّرَّ عَنْهُمْ.

التَّخْيِيرُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
2 - يَتَكَلَّمُ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الْمُبَاحِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَالنَّهْيِ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ، وَالرُّخْصَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبَاحَةُ:
3 - الإِْبَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْلاَل، يُقَال: أَبَحْتُكَ الشَّيْءَ أَيْ: أَحْلَلْتُهُ لَكَ، وَالْمُبَاحُ خِلاَفُ الْمَحْظُورِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الإِْذْنُ بِالإِْتْيَانِ بِالْفِعْل حَسَبَ مَشِيئَةِ الْفَاعِل فِي حُدُودِ الإِْذْنِ (1) .

ب - التَّفْوِيضُ:
4 - التَّفْوِيضُ مَصْدَرُ فَوَّضَ، يُقَال: فَوَّضَ إِلَيْهِ الاِخْتِيَارَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا، وَمِنْهُ
__________
(1) الموسوعة 1 / 126 مصطلح: (إباحة)

(11/68)


تَفْوِيضُ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ طَلاَقَ نَفْسِهَا أَوْ بَقَاءَهَا فِي عِصْمَتِهِ (1) .

أَحْكَامُ التَّخْيِيرِ:
لِلتَّخْيِيرِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ نُبَيِّنُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: تَخْيِيرُ الْمُصَلِّي فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْقَوْل بِتَخْيِيرِ الْمُصَلِّي فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وُكِّل إِيقَاعُ الصَّلاَةِ فِيهِ لاِخْتِيَارِ الْمُصَلِّي، فَإِنْ شَاءَ أَوْقَعَهَا فِي أَوَّلِهِ، أَوْ فِي وَسَطِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَارُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْل بِالإِْثْمِ إِنْ أَخَّرَ إِلَى وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ) .
6 - وَتَجِبُ الصَّلاَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِأَوَّل الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا. فَلَوْ أَخَّرَهَا عَازِمًا عَلَى فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَمْ يَأْثَمْ؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، إِذْ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، وَالْمَوْتُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلاَ يَأْثَمُ بِالتَّخَيُّرِ. إِلاَّ أَنْ يَظُنَّ الْمَوْتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ
__________
(1) المصباح المنير، وتهذيب الأسماء واللغات مادة: " فوض "

(11/68)


يَمُوتُ عَاصِيًا. وَكَذَا إِذَا تَخَلَّفَ ظَنُّهُ فَلَمْ يَمُتْ؛ لأَِنَّ الْمُوَسَّعَ صَارَ فِي حَقِّهِ مُضَيَّقًا، وَانْتَفَى بِذَلِكَ اخْتِيَارُهُ. فَإِنْ أَخَّرَهَا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْل أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الصَّلاَةِ أَثِمَ أَيْضًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالتَّعْيِينُ لِلْمُصَلِّي بِاخْتِيَارِهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْل.
فَإِذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ. وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْل حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ الصَّلاَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً، حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي غَيْرِهِ. (1)
7 - وَدَلِيل التَّخْيِيرِ فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ حَدِيثُ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّذِي يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَّنِي جِبْرِيل عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 183 ط المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 395 ط الرياض الحديثة - السعودية، وحاشية الدسوقي 1 / 176 - ط دار الفكر بيروت مصورة عن الطبعة الأميرية. بدائع الصنائع 1 / 96 الطبعة الأولى 1327 هـ - شركة المطبوعات العلمية - مصر

(11/69)


شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرِقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل وَقَال: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) .
وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنْ مُسْلِمٍ: وَقْتُ صَلاَتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ (2) .

ثَانِيًا: التَّخْيِيرُ فِي نَوْعِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ فِي الزَّكَاةِ
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ إِذَا بَلَغَتْ مِائَةً
__________
(1) حديث: " أمني جبريل عند البيت مرتين. . . " أخرجه الترمذي (1 / 279 - 280 ط مصطفى الحلبي من حديث ابن عباس) وقال ابن حجر: وفي إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، مختلف فيه، لكنه توبع. أخرجه عبد الرزاق عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه، قال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة (التلخيص الحبير لابن حجر 1 / 173 - ط شركة الطباع
(2) حديث بريدة: " وقت صلاتكم بين ما رأيتم ". أخرجه مسلم (1 / 428 - ط عيسى الحلبي)

(11/69)


وَعِشْرِينَ يُخَيَّرُ فِي أَخْذِ زَكَاتِهَا بَيْنَ ثَلاَثِ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعِ تَبِيعَاتٍ. وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِلسَّاعِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِلْمَالِكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَكَذَا كُلَّمَا أَمْكَنَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ مِنَ الأَْتْبِعَةِ أَوِ الْمُسِنَّاتِ.
أَمَّا الإِْبِل فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ زَكَاتُهَا حِقَّتَانِ أَوْ ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَالْخِيَارُ فِيهِ لِلسَّاعِي. فَإِنِ اخْتَارَ السَّاعِي أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ، وَكَانَ عِنْدَ رَبِّ الْمَال مِنَ الصِّنْفِ الآْخَرِ أَفْضَل أَجْزَأَهُ مَا أَخَذَهُ السَّاعِي، وَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ زَائِدٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ زَكَاتُهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ بِلاَ تَخْيِيرٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ، (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
9 - أَمَّا إِذَا ضَمَّتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِتَكْمِيل نِصَابِ السَّائِمَةِ، كَأَنْ تَضُمَّ الْعِرَابَ إِلَى الْبَخَاتِيِّ مِنَ الإِْبِل، وَالْجَوَامِيسَ إِلَى الْبَقَرِ، وَالضَّأْنَ إِلَى الْمَعْزِ مِنَ الْغَنَمِ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ السَّاعِي فِي الأَْخْذِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ إِذَا تَسَاوَى النَّوْعَانِ الْمَضْمُومَانِ، وَإِذَا لَمْ يَتَسَاوَيَا أَخَذَ مِنَ الأَْكْثَرِ إِذْ الْحُكْمُ لِلأَْغْلَبِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 435 - 436، والمجموع 5 / 382، 416، وكشاف القناع 2 / 187، 192، والبناية 3 / 52، وفتح القدير 2 / 131

(11/70)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الأَْغْلَبِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا يُؤْخَذُ مِنَ الأَْغْبَطِ لِلْمَسَاكِينِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَاجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الأَْعْلَى، كَمَا لَوِ انْقَسَمَتْ إِلَى صِحَاحٍ وَمِرَاضٍ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْوَسَطِ كَمَا فِي الثِّمَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ الْمُزَكَّيَيْنِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعَانِ سَوَاءً، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ أَحَدِهِمَا اثْنَا عَشَرَ، وَالْمُخْرَجُ مِنَ الآْخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا قِيمَتُهُ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ. (1)
10 - فَإِنِ اتَّفَقَ فِي نِصَابٍ فَرْضَانِ، كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الإِْبِل، وَهِيَ نِصَابُ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ وَنِصَابُ أَرْبَعِ حِقَاقٍ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ لِحَدِيثِ: فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ (2) ، وَلأَِنَّهُ وَجَدَ مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ كُل نَوْعٍ مِنْهُمَا.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 436، والمجموع 5 / 424، وبدائع الصنائع 2 / 33، وكشاف القناع 2 / 193
(2) حديث: " فإذا كانت مائتين ففيها. . . " أخرجه أبو داود (2 / 227 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 393 - 394 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الحاكم على شرط الشيخين

(11/70)


وَالْخِيَارُ فِي هَذَا لِلْمَالِكِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ تَجِبُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ تَغَيُّرُ الْفَرْضِ بِالسِّنِّ، لَمْ يُغَيَّرْ بِالْعَدَدِ. (1)

ثَالِثًا: التَّخْيِيرُ فِي فِدْيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ فِي الْحَجِّ
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا جَنَى عَلَى إِحْرَامِهِ بِأَنْ حَلَقَ شَعْرَهُ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، أَوْ تَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا، أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلاَثٍ: فَإِمَّا أَنْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. (2) وَتَفْصِيل مُوجِبِ الْفِدْيَةِ تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
12 - وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (3) .
وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 434، وكشاف القناع 2 / 187، والمجموع 5 / 410، وفتح القدير 2 / 130
(2) المجموع 7 / 364 - 384، وكشاف القناع 2 / 451، وفتح القدير 2 / 451، وحاشية الدسوقي 2 / 67
(3) سورة البقرة / 196

(11/71)


رَأْسِكَ، قَال: نَعَمْ يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلاَثَةً، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ شَاةً (1) .
وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ التَّخْيِيرَ فِي الْفِدْيَةِ عَلَى أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، أَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَيَفْدِي بِذَبْحِ شَاةٍ، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِي غَيْرِهَا. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَهُمَا.
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، أَنَّ الآْيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمَعْذُورِ بِدَلِيل حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمُفَسِّرَةِ لِلآْيَةِ، فَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: قَال: حُمِلْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْل يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَال: مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أَوْ مَا كُنْتُ أَرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى. أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَقَال: صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُل مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ (2) .
فَدَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا وَحُمِلَتِ الآْيَةُ عَلَيْهِ. وَدَلِيل الْجُمْهُورِ مَا تَقَدَّمَ فِي الآْيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنَ التَّخْيِيرِ بِلَفْظِ " أَوْ ".
13 - وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ
__________
(1) حديث: " لعلك آذاك هوام رأسك. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 12 ط السلفية) ومسلم (2 / 860 - ط عيسى الحلبي) من حديث كعب بن عجرة واللفظ للبخاري
(2) حديث كعب بن عجرة أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 186 - ط السلفية) ومسلم (2 / 862 - ط عيسى الحلبي)

(11/71)


تَبَعًا لِلْمَعْذُورِ؛ لأَِنَّ كُل كَفَّارَةٍ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ فِيهَا مَعَ الْعُذْرِ ثَبَتَ مَعَ عَدَمِهِ. (1)

14 - كَمَا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ قَتْل الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ. وَيُخَيَّرُ فِيهِ قَاتِلُهُ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْل مَا قَتَلَهُ مِنَ النَّعَمِ لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ، إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ. أَوْ أَنْ يُقَوِّمَهُ بِالْمَال، وَيُقَوِّمَ الْمَال طَعَامًا، وَيَتَصَدَّقَ بِالطَّعَامِ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الصَّيْدَ يُقَوَّمُ ابْتِدَاءً بِالطَّعَامِ، وَلَوْ قَوَّمَهُ بِالْمَال ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا أَجْزَأَهُ.
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا قَاتِل الصَّيْدِ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُل مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا. (2) وَدَلِيل الاِتِّفَاقِ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا} (3) وَ " أَوْ " تُفِيدُ التَّخْيِيرَ.

رَابِعًا: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ:
15 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى تَخْيِيرِ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ
__________
(1) المراجع السابقة
(2) فتح القدير 3 / 7، والمجموع 7 / 427، والمغني 3 / 519، والحطاب على خليل 3 / 179، والشرح الصغير 2 / 115
(3) سورة المائدة / 95

(11/72)


مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوْ أُخْتَانِ، أَوْ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، فَيُخَيَّرُ فِي إِمْسَاكِ مَنْ أَرَادَ مِنْهُنَّ، بِأَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا أَوْ أَقَل، أَوْ أَنْ يُمْسِكَ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ، وَهَكَذَا. وَيُفْسَخُ نِكَاحُهُ مِمَّنْ سِوَى مَنِ اخْتَارَهُنَّ. (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ قَال: أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَال: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (2) .
وَلِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّ غَيْلاَنَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (3) . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَصَاعِدًا أَوْ أُخْتَانِ بَطَل نِكَاحُهُنَّ، إِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهُنَّ بِعَقْدٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 291، وروضة الطالبين 7 / 156، وكشاف القناع 5 / 122، وحاشية الدسوقي 2 / 271، وحاشية ابن عابدين 2 / 397
(2) قول قيس بن الحارث " أسلمت وتحتي ثمان نسوة. . . الحديث " أخرجه أبو داود (2 / 677 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي رواية: الحارث بن قيس قال الشوكاني: قال أبو عمر ابن عبد البر: ليس له إلا حديث واحد ولم يأت من وجه صحيح (نيل الأوطار 6 / 169 - ط مصطفى الحلبي)
(3) حديث محمد بن سويد الثقفي في قصة غيلان أخرجه الترمذي (3 / 435 - ط عيسى الحلبي) وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 169 - ط شركة الطباعة الفنية)

(11/72)


وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَتَّبَ فَالآْخِرُ هُوَ الَّذِي يَبْطُل. (1)
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ فَاسِدَةٌ، وَلَكِنَّا لاَ نَتَعَرَّضُ لَهُمْ؛ لأَِنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ، فَإِذَا أَسْلَمُوا بَطَلَتِ الأَْنْكِحَةُ الْفَاسِدَةُ.
16 - وَمِنْ أَحْكَامِ التَّخْيِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ وَآثَارِهِ: أَنَّ الاِخْتِيَارَ يَحْصُل بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ (2) كَأَنْ يَقُول: اخْتَرْتُ نِكَاحَ هَؤُلاَءِ، أَوِ اخْتَرْتُ إِمْسَاكَهُنَّ، كَمَا يَحْصُل بِأَنْ يُطَلِّقَ بَعْضَهُنَّ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِزَوْجَةٍ.
كَمَا يَحْصُل إِذَا وَطِئَهَا، وَإِذَا وَطِئَ الْكُل يَتَعَيَّنُ الأَْرْبَعُ الأُْوَل لِلإِْمْسَاكِ، وَمَا عَدَاهُنَّ يَتَعَيَّنُ لِلتَّرْكِ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ (3) فِي اعْتِبَارِ الْوَطْءِ اخْتِيَارًا؛ لأَِنَّ الاِخْتِيَارَ رَهْنًا كَالاِبْتِدَاءِ، وَلاَ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ وَاسْتِدَامَتُهُ إِلاَّ بِالْقَوْل.
وَإِذَا لَمْ يَخْتَرْ أُجْبِرَ عَلَى الاِخْتِيَارِ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الاِخْتِيَارَ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَأُلْزِمَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ إِنِ امْتَنَعَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ مَعَ الْحَبْسِ، بَل يُشَدِّدُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 397
(2) نهاية المحتاج 6 / 299، وكشاف القناع 5 / 123، 124
(3) روضة الطالبين 7 / 167

(11/73)


فَإِنْ أَصَرَّ عُزِّرَ ثَانِيًا وَثَالِثًا إِلَى أَنْ يَخْتَارَ. وَإِذَا حُبِسَ لاَ يُعَزَّرُ عَلَى الْفَوْرِ. فَلَعَلَّهُ يُؤَخَّرُ لِيُفَكِّرَ فَيَتَخَيَّرَ بَعْدَ رَوِيَّةٍ وَإِمْعَانِ نَظَرٍ. وَمُدَّةُ الإِْمْهَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ رَغْبَةٍ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ. (1)
وَمِنَ الأَْحْكَامِ كَذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ بَعْضُ زَوْجَاتِهِ، وَلَيْسَ الْبَوَاقِي كِتَابِيَّاتٍ، فَيَنْحَصِرُ تَخْيِيرُهُ فِي الْمُسْلِمَاتِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْنَ؛ لِعَدَمِ حِلِّهِنَّ لَهُ. (2)
وَمِنَ الأَْحْكَامِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الزَّوْجَ النَّفَقَةُ لِجَمِيعِهِنَّ فِي مُدَّةِ التَّخْيِيرِ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ؛ لأَِنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ لأَِجْلِهِ، وَهُنَّ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ. (3)

خَامِسًا: تَخْيِيرُ الطِّفْل فِي الْحَضَانَةِ:
17 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَخْيِيرِ الْمَحْضُونِ بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ إِذَا تَنَازَعَا فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيل، فَيُلْحَقُ بِأَيِّهِمَا اخْتَارَ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحْضُونُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا جَازَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَبْقَى التَّخْيِيرُ وَإِنْ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ قَبْل التَّخْيِيرِ - خِلاَفًا لِلْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ - وَلاَ فَرْقَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 300، وكشاف القناع 5 / 124
(2) كشاف القناع 5 / 123
(3) نهاية المحتاج 6 / 300، وكشاف القناع 5 / 123

(11/73)


وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُخَيَّرُ الْغُلاَمُ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ عَاقِلاً؛ لأَِنَّهَا السِّنُّ الَّتِي أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهَا بِمُخَاطَبَتِهِ بِالصَّلاَةِ. وَحَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّمْيِيزِ بِأَنْ يَأْكُل وَحْدَهُ، وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بُلُوغَهُ السَّابِعَةَ حَدًّا، فَلَوْ جَاوَزَ السَّبْعَ بِلاَ تَمْيِيزٍ بَقِيَ عِنْدَ أُمِّهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. وَهَذَا يُخَالِفُ فِي ظَاهِرِهِ مَا وَرَدَ مِنْ أَمْرِهِ بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَعَدَمُ أَمْرِهِ بِهَا قَبْل أَنْ يَبْلُغَهَا وَإِنْ مَيَّزَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي أَمْرِهِ بِالصَّلاَةِ قَبْل السَّبْعِ مَشَقَّةً، فَخَفَّفَ عَنْهُ ذَلِكَ. بِخِلاَفِ الْحَضَانَةِ؛ لأَِنَّ الْمَدَارَ فِي التَّخْيِيرِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ صَلاَحُ نَفْسِهِ وَعَدَمِهِ، فَيُقَيَّدُ بِالتَّمْيِيزِ، وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزِ السَّبْعَ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، فَيُخَيَّرُ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، أَمَّا الْبِنْتُ فَتَكُونُ فِي حَضَانَةِ وَالِدِهَا إِذَا تَمَّ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ، حَتَّى سِنِّ الْبُلُوغِ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَكُونُ عِنْدَ الأَْبِ أَيْضًا إِلَى الزِّفَافِ وُجُوبًا، وَلَوْ تَبَرَّعَتِ الأُْمُّ بِحَضَانَتِهَا؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْحَضَانَةِ الْحِفْظُ، وَالأَْبُ أَحْفَظُ لَهَا. وَلأَِنَّهَا تُخْطَبُ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَحْتَ نَظَرِهِ (1)
18 - وَالتَّخْيِيرُ فِي الْحَضَانَةِ مَشْرُوطٌ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الْفَسَادِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا لِيُمَكِّنَهُ مِنَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 219، وكشاف القناع 5 / 501

(11/74)


الْفَسَادِ، وَيَكْرَهُ الآْخَرَ لِمَا سَيُلْزِمُهُ بِهِ مِنْ أَدَبٍ، لَمْ يُعْمَل بِمُقْتَضَى اخْتِيَارِهِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّهْوَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِضَاعَةٌ لَهُ.
كَمَا أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَظْهَرَ لِلْحَاكِمِ مَعْرِفَتُهُ بِأَسْبَابِ الاِخْتِيَارِ.
19 - وَدَلِيل التَّخْيِيرِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَنَفَعَنِي، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَبُوكِ وَهَذِهِ أُمُّكِ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ (1) "
وَمَا وَرَدَ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بِذَلِكَ.
20 - وَمِنْ أَحْكَامِ التَّخْيِيرِ: أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ الْمُخْتَارُ مِنْ كَفَالَةِ الْمَحْضُونِ كَفَلَهُ الآْخَرُ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهَا أُعِيدَ التَّخْيِيرُ.
وَإِنِ امْتَنَعَا أَيِ الأَْبُ وَالأُْمُّ، خُيِّرَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ عَلَيْهَا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لأَِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَفَالَةِ. (2)
21 - وَمِنْ أَحْكَامِهِ كَذَلِكَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ الَّذِي لاَ أَبَ لَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أُمٍّ وَإِنْ عَلَتْ وَجَدٍّ وَإِنْ عَلاَ، عِنْدَ
__________
(1) حديث: " هذا أبوك وهذه أمك " أخرجه أبو داود (2 / 708 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن القطان. (التلخيص الحبير 4 / 12 - ط شركة الطباعة الفنية)
(2) نهاية المحتاج 7 / 219، وكشاف القناع 5 / 501

(11/74)


فَقْدِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، أَوْ قِيَامِ مَانِعٍ بِهِ لِوُجُودِ الْوِلاَدَةِ فِي الْكُل.
22 - وَمِنْ أَحْكَامِهِ كَذَلِكَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ إِنْ اخْتَارَ أَحَدَ الأَْبَوَيْنِ، ثُمَّ اخْتَارَ الآْخَرَ حُوِّل إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ الأَْمْرُ عَلَى خِلاَفِ مَا ظَنَّهُ، أَوْ يَتَغَيَّرُ حَال مَنِ اخْتَارَهُ أَوَّلاً. إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ اخْتِيَارِهِ لِلآْخَرِ قِلَّةُ عَقْلِهِ، فَيُجْعَل عِنْدَ أُمِّهِ وَإِنْ بَلَغَ، كَمَا قَبْل التَّمْيِيزِ.
23 - وَمِنَ الأَْحْكَامِ كَذَلِكَ: أَنَّ الْمَحْضُونَ إِذَا اخْتَارَ أَبَوَيْهِ مَعًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لاِنْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأُْمُّ أَوْلَى؛ لأَِنَّهَا أَشْفَقُ وَاسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ أَوْلَوِيَّةَ حِينَئِذٍ لأَِحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا اخْتَارَ الْمَحْضُونُ غَيْرَ مَنْ قُدِّمَ بِالْقُرْعَةِ رُدَّ إِلَيْهِ، كَمَا لَوِ اخْتَارَهُ ابْتِدَاءً.
وَلاَ يُخَيَّرُ الْغُلاَمُ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْحَضَانَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ أَهْلٍ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْغُلاَمُ عِنْدَ الآْخَرِ. وَإِنِ اخْتَارَ ابْنُ سَبْعٍ أَبَاهُ ثُمَّ زَال عَقْلُهُ رُدَّ إِلَى الأُْمِّ؛ لِحَاجَتِهِ إِلَى مَنْ يَتَعَهَّدُهُ كَالصَّغِيرِ، وَبَطَل اخْتِيَارُهُ لأَِنَّهُ لاَ حُكْمَ لِكَلاَمِهِ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلصَّغِيرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَأَنَّ الأُْمَّ أَحَقُّ بِهِمَا. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْقَى الصَّبِيُّ عِنْدَ أُمِّهِ إِلَى أَنْ
__________
(1) المراجع السابقة

(11/75)


يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَأْكُل وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْبُلُوغِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيُقَابِل الْمَشْهُورَ مَا قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ: إِنَّ أَمَدَ الْحَضَانَةِ فِي الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلاً غَيْرَ زَمِنٍ. أَمَّا الْبِنْتُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَبْقَى حَضَانَةُ أُمِّهَا إِلَى أَنْ تَحِيضَ. وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَحْتَاجُ إِلَى التَّحْصِينِ وَالْحِفْظِ وَالأَْبُ فِيهِ أَقْوَى.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبِنْتَ تُدْفَعُ إِلَى الأَْبِ إِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إِلَى الصِّيَانَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَتَبْقَى عِنْدَ أُمِّهَا إِلَى أَنْ يَدْخُل بِهَا زَوْجُهَا؛ لأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ آدَابِ النِّسَاءِ، وَالْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ. (1)
24 - وَالْعِلَّةُ فِي عَدَمِ تَخْيِيرِ الْمَحْضُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هِيَ: قُصُورُ عَقْلِهِ الدَّاعِي إِلَى قُصُورِ اخْتِيَارِهِ. فَقَدْ يَخْتَارُ مَنْ عِنْدَهُ الدَّعَةُ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّعِبِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَضَانَةِ وَهُوَ النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمَحْضُونِ.
وَمَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ تُفِيدُ تَخْيِيرَ الطِّفْل، جَاءَ فِيهَا أَنَّ اخْتِيَارَهُ كَانَ لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الأَْصْلَحِ. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ فَقَالَتْ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَال رَافِعٌ: ابْنَتِي. فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأُْمَّ نَاحِيَةً، وَالأَْبَ نَاحِيَةً، وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ نَاحِيَةً
__________
(1) فتح القدير 4 / 189، وحاشية الدسوقي 2 / 526

(11/75)


وَقَال لَهُمَا: اُدْعُوَاهَا فَمَالَتِ الصَّبِيَّةُ إِلَى أُمِّهَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا (1) } .
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَلَيْسَتْ بِنْتَهُمَا، وَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ.
كَمَا يُحْمَل مَا وَرَدَ فِي تَخْيِيرِ الْغُلاَمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا، بِدَلِيل أَنَّهُ كَانَ يَسْتَسْقِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَمَنْ يَكُونُ دُونَ الْبُلُوغِ لاَ يُرْسَل إِلَى الآْبَارِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ.

سَادِسًا: تَخْيِيرُ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى:
25 - اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ بَيْنَ خَمْسِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ الْفِدْيَةَ مُقَابِل إِعْتَاقِهِمْ سَوَاءٌ بِالْمَال، أَوْ بِمُفَادَاتِهِمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَإِمَّا أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَيُعْتِقَهُمْ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْخَصْلَتَيْنِ الأَْخِيرَتَيْنِ، وَهُمَا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الْمَنِّ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْمُفَادَاةِ بِالْمَال فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَجُوزُ فِي قَوْلٍ لأَِبِي حَنِيفَةَ،
__________
(1) حديث رافع بن سنان أخرجه أبو داود (2 / 679 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال (التلخيص الحبير لابن حجر 4 / 11 - ط شركة الطباعة الفنية)

(11/76)


وَجَائِزٌ فِي قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ. (1) وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي بَحْثِ (أَسْرَى) .
وَدَلِيل جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) .
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَل ذَلِكَ فِي أَهْل السَّوَادِ.
26 - وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْيِيرِ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى مَحَلُّهُ فِي الرِّجَال الْبَالِغِينَ، أَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلاَ خِيَارَ فِيهِمْ، وَلاَ يُحْكَمُ فِيهِمْ إِلاَّ بِالاِسْتِرْقَاقِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ سَائِرِ أَمْوَال الْغَنِيمَةِ. كَمَا فِي سَبَايَا هَوَازِنَ وَخَيْبَرَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ.
وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. (3)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلإِْمَامِ الْخِيَرَةُ فِيهِمْ بَيْنَ الاِسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ (4)
27 - وَتَخْيِيرُ الإِْمَامِ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَال مُقَيَّدٌ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي أَحَدِهَا،
__________
(1) فَأَخَذَهَا روضة الطالبين 10 / 250 - 251، والخرشي على خليل 3 / 121، وحاشية الدسوقي 2 / 184، وكشاف القناع 3 / 51 - 54، وفتح القدير 5 / 218 - 221
(2) سورة التوبة / 29
(3) حديث: " نهى عن قتل النساء والولدان " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 148 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1364 - ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي اله عنهما
(4) المراجع السابقة

(11/76)


فَيَخْتَارُ الأَْصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِهَا. فَإِنْ كَانَ الأَْسِيرُ ذَا قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ فَقَتْلُهُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا صَاحِبَ مَالٍ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ فَيَمُنُّ عَلَيْهِ تَقْرِيبًا وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ. وَإِنْ تَرَدَّدَ نَظَرُ الإِْمَامِ وَرَأْيُهُ فِي اخْتِيَارِ الأَْصْلَحِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) الْقَتْل أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ كِفَايَةِ شَرِّهِمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَحْبِسُهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ الأَْصْلَحُ. فَالتَّخْيِيرُ فِي تَصَرُّفِ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ بِخِلاَفِ التَّخْيِيرِ فِي خِصَال الْكَفَّارَةِ؛ إِذْ هُوَ تَخْيِيرٌ مُطْلَقٌ أُبِيحَ لِلْحَانِثِ بِمُوجِبِهِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّ خَصْلَةٍ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ. (2)
28 - أَمَّا إِذَا اخْتَارَ الإِْمَامُ خَصْلَةً بَعْدَ الاِجْتِهَادِ وَتَقْلِيبِ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِهَا، فَقَدْ قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ أَوَّلاً:
فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اسْتَرَقَّهُمْ لِسَبَبٍ أَمْ لِغَيْرِ سَبَبٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَهْل الْخُمُسِ مَلَكُوهُمْ بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ بِرِضَا مَنْ دَخَلُوا فِي مِلْكِهِمْ.
وَإِنِ اخْتَارَ الْقَتْل جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ، كَمَا فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْمُقِرِّ بِالزِّنَى
__________
(1) الفروق 3 / 17، وكشاف القناع 3 / 53
(2) روضة الطالبين 10 / 251، والفروق 3 / 17

(11/77)


وَسُقُوطِ الْقَتْل عَنْهُ، بَل إِنَّ الرُّجُوعَ عَنْ قَتْل الأَْسِيرِ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ مَحْضُ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَفِيهِ شَائِبَةُ حَقِّ آدَمِيٍّ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَا اخْتَارَهُ الإِْمَامُ أَوَّلاً هُوَ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ فَلاَ يَرْجِعُ عَنْهُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل نَقْضِ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا اجْتَهَدَ فِي قَضِيَّةٍ فَلاَ يَنْقُضُ اجْتِهَادَهُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ.
أَمَّا إِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ، ثُمَّ زَال ذَلِكَ السَّبَبُ، وَظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي اخْتِيَارِ الثَّانِي لَزِمَهُ الْعَمَل بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيل نَقْضِ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ؛ لأَِنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى الاِخْتِيَارِ الثَّانِي لِزَوَال مُوجِبِ الاِخْتِيَارِ الأَْوَّل.
وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ اللَّفْظُ الدَّال عَلَى اخْتِيَارِهِمَا، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْفِعْل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً صَرِيحَةً. أَمَّا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْخِصَال، فَيَكْفِي الْفِعْل لِدَلاَلَتِهِ الصَّرِيحَةِ عَلَى اخْتِيَارِهَا. (1)

سَابِعًا: تَخْيِيرُ الإِْمَامِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ:
29 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْمُحَارِبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْجِنَايَةِ، فَلِكُل جِنَايَةٍ عُقُوبَتُهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا
__________
(1) تحفة المحتاج مع الحواشي 9 / 247 - 248

(11/77)


أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ فِي بَعْضِ جِنَايَاتِ الْمُحَارِبِ دُونَ بَعْضِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ بِالْخِيَارِ فِي الْمُحَارِبِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:
أَنْ يَقْتُلَهُ بِلاَ صَلْبٍ، أَوْ أَنْ يَصْلُبَهُ مَعَ الْقَتْل، أَوْ أَنْ يَنْفِيَ الذَّكَرَ الْحُرَّ الْبَالِغَ الْعَاقِل فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيُسْجَنَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، أَوْ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَهَذِهِ الأَْرْبَعَةُ فِي حَقِّ الرِّجَال، أَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يُصْلَبْنَ وَلاَ يُنْفَيْنَ، وَحَدُّهُنَّ الْقَتْل أَوِ الْقَطْعُ.
وَتَخْيِيرُ الإِْمَامِ بَيْنَ هَذِهِ الأُْمُورِ يَكُونُ عَلَى أَسَاسِ الْمَصْلَحَةِ (2) .

ثَامِنًا: تَخْيِيرُ مُلْتَقِطِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ بِهَا:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَا الْتَقَطَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ يَحْفَظَهُ أَمَانَةً إِلَى أَنْ يَظْهَرَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فَيَدْفَعَهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ بِهَا.
__________
(1) سورة المائدة / 33
(2) فتح القدير 5 / 177، وحاشية الدسوقي 4 / 439، وروضة الطالبين 10 / 156، والمغني 8 / 288

(11/78)


وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَمْلِكُ مَا الْتَقَطَهُ حَتْمًا - كَالْمِيرَاثِ - بِمُجَرَّدِ تَمَامِ التَّعْرِيفِ بِهَا، عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ) .
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ حَتَّى يَخْتَارَ التَّمَلُّكَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ مَعَ النِّيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ. (1)
وَدَلِيل التَّمَلُّكِ وَالاِنْتِفَاعِ بِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَال: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا وَفِي أُخْرَى: وَإِلاَّ فَهِيَ كَسَبِيل مَالِكَ وَفِي لَفْظٍ: ثُمَّ كُلْهَا وَفِي لَفْظٍ: فَانْتَفِعْ بِهَا وَفِي لَفْظٍ: فَشَأْنَكَ بِهَا (2)
31 - أَمَّا دَلِيل أَنَّهُ لاَ يَتَمَلَّكُ حَتَّى يَخْتَارَ فَمَا وَرَدَ فِي
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 172، وحاشية ابن عابدين 3 / 320، والبناية شرح الهداية 6 / 23 - 26، وكشاف القناع 4 / 218، والمغني 5 / 701، والمهذب 1 / 437، وروضة الطالبين 5 / 407، ونهاية المحتاج 5 / 440
(2) حديث زيد بن خالد الجهني في اللقطة أخرج البخاري بعض هذه الروايات (فتح الباري 5 / 80، 84، 93 - ط السلفية) . ومسلم بعضها (3 / 1347، 1348، 1349، 1351 ط عيسى الحلبي) وأحمد في المسند (5 / 127 - ط الميمنية)

(11/78)


حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا (1) فَجَعَلَهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَلأَِنَّهُ تَمَلُّكٌ بِبَدَلٍ فَاعْتُبِرَ فِيهِ اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ.
وَإِنَّمَا جَازَ لِلْمُلْتَقِطِ اخْتِيَارُ التَّصَدُّقِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِيصَالاً لِلْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَال الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَال الْعِوَضِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إِجَازَةِ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ التَّصَدُّقَ بِهَا. وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ ظُهُورِهِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الصَّدَقَةِ أَوِ الرُّجُوعِ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ. (2) وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي (لُقَطَةٍ) .

تَاسِعًا: التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَرْبَعِ خِصَالٍ: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كُسْوَتُهُمْ، أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ - بِأَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ - صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
فَهِيَ كَفَّارَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الثَّلاَثَةِ الأُْولَى، وَعَلَى التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَصْلَةِ الرَّابِعَةِ. (3)
__________
(1) حديث: " فإن جاء صاحبها " تقدم في التخريج السابق
(2) البناية 6 / 23 - 26
(3) كشاف القناع 6 / 242، وحاشية الدسوقي 2 / 132، 133، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 274، وفتح القدير 4 / 365

(11/79)


وَالأَْصْل فِي التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
وَالْمَقْصُودُ بِالتَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَيِّ خَصْلَةٍ شَاءَ، وَأَنْ يَنْتَقِل عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ وَيَمِيل إِلَيْهِ وَمَا يَرَاهُ الأَْسْهَل فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا خَيَّرَهُ إِلاَّ لُطْفًا بِهِ.
وَهَذَا مَا يَفْتَرِقُ بِهِ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَنِ التَّخْيِيرِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ وَالتَّصَرُّفِ بِالأَْسْرَى حَيْثُ قُيِّدَا بِالْمَصْلَحَةِ. (2)

عَاشِرًا: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْعَفْوِ:
33 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ مُخَيَّرٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِل، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ مُقَابِل الْعَفْوِ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ مُطْلَقًا. (3)
__________
(1) سورة المائدة / 89
(2) الفروق 3 / 16، 17
(3) المغني 7 / 742 - 752، وبدائع الصنائع 7 / 241 و 247، وروضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 542، والبناية 10 / 8، وحاشية الدسوقي 4 / 239

(11/79)


وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (1) الآْيَةَ، وقَوْله تَعَالَى
: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (2) الآْيَةَ: أَيْ كَفَّارَةٌ لِلْعَافِي بِصَدَقَتِهِ عَلَى الْجَانِي.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مِنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودِيَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (3)
وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: مَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ (4) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُل مِنْ هُذَيْلٍ،
__________
(1) سورة البقرة / 178
(2) سورة المائدة / 45
(3) حديث أبي هريرة: " من قتل له قتيل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 205 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 989 - ط عيسى الحلبي)
(4) حديث أنس: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه. . . " أخرجه أبو داود (4 / 634 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال الشوكاني: إسناده لا بأس به. (نيل الأوطار 7 / 32 - ط مصطفى الحلبي)

(11/80)


وَإِنِّي عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْل (1) .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوَقُّفِ تَخْيِيرِ وَلِيِّ الدَّمِ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ عَلَى رِضَا الْجَانِي.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الدَّمِ إِلَى الدِّيَةِ إِلاَّ بِرِضَا الْجَانِي، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ جَبْرُ الْجَانِي عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْقِصَاصِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ، وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْهُ عِنْدَ سُقُوطِهِ. فَإِذَا عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَاخْتَارَ الدِّيَةَ وَجَبَتْ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الْجَانِي. وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَيَتَخَيَّرُ وَلِيُّ الدَّمِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا. (2)
34 - أَمَّا دَلِيل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نُصُوصٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) حديث: " إنكم يا معشر خزاعة. . . " أخرجه الترمذي (3 / 21 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي شريح الكعبي وقال: حسن صحيح، وقال ابن حجر: أصله متفق عليه. (التلخيص الحبير 4 / 21 - ط شركة الطباعة الفنية)
(2) بدائع الصنائع 7 / 241، وحاشية الدسوقي 4 / 240، وروضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543

(11/80)


الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) مِمَّا يُعَيِّنُ الْقِصَاصَ. فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ هُوَ الْوَاجِبَ، وَهَذَا يُبْطِل الْقَوْل بِأَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْقَتْل لاَ يُقَابَل بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، كَانَ الْقِصَاصُ هُوَ عَيْنَ حَقِّ الْوَلِيِّ، وَالدِّيَةُ بَدَل حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِل مِنْ عَيْنِ الْحَقِّ إِلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ اخْتِيَارُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِل.
وَأَمَّا دَلِيل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ جَوَازِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (2) فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْقَاتِل أَدَاءَ الدِّيَةِ إِلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا، دَفْعًا لِلْهَلاَكِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْرِيعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ هُوَ الزَّجْرَ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ بَدَل النَّفْسِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) وَالْبَاءُ تُفِيدُ الْبَدَلِيَّةَ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَخُيِّرَ وَلِيُّ الدَّمِ بَيْنَهُمَا.
__________
(1) سورة البقرة / 178
(2) سورة البقرة / 178
(3)) سورة المائدة / 45

(11/81)


تَدَاخُلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدَاخُل فِي اللُّغَةِ: تَشَابُهُ الأُْمُورِ وَالْتِبَاسُهَا وَدُخُول بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دُخُول شَيْءٍ فِي شَيْءٍ آخَرَ بِلاَ زِيَادَةِ حَجْمٍ وَمِقْدَارٍ. وَتَدَاخُل الْعَدَدَيْنِ أَنْ يَعُدَّ أَقَلُّهُمَا الأَْكْثَرَ، أَيْ يُفْنِيهِ، مِثْل ثَلاَثَةٍ وَتِسْعَةٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِنْدِرَاجُ:
2 - الاِنْدِرَاجُ مَصْدَرُ انْدَرَجَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِرَاضُ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى دُخُول أَمْرٍ فِي أَمْرٍ آخَرَ أَعَمَّ مِنْهُ، كَالْحَدَثِ الأَْصْغَرِ مَعَ الْجَنَابَةِ فِي الطَّهَارَةِ (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: " دخل "
(2) التعريفات للجرجاني / 76 ط دار الكتاب العربي
(3) المنثور 1 / 271 ط الأولى

(11/81)


ب - التَّبَايُنُ:
3 - مَعْنَى التَّبَايُنِ فِي اللُّغَةِ: التَّهَاجُرُ وَالتَّبَاعُدُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا نُسِبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إِلَى الآْخَرِ لَمْ يَصْدُقْ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا صَدَقَ عَلَيْهِ الآْخَرُ، فَإِنْ لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى شَيْءٍ أَصْلاً فَبَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ، وَإِنْ صَدَقَا فِي الْجُمْلَةِ فَبَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ الْجُزْئِيُّ. كَالْحَيَوَانِ وَالأَْبْيَضِ وَبَيْنَهُمَا الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّدَاخُل وَاضِحٌ، إِذِ التَّدَاخُل إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ، أَمَّا التَّبَايُنُ فَيَكُونُ فِي الأُْمُورِ الْمُتَفَاوِتَةِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا. (2)

ج - التَّمَاثُل:
4 - التَّمَاثُل: مَصْدَرُ تَمَاثَل، وَمَادَّةُ مِثْل فِي اللُّغَةِ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّبَهِ، وَبِمَعْنَى نَفْسِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ التَّمَاثُل بِمَعْنَى التَّسَاوِي، كَمَا فِي تَمَاثُل الْعَدَدَيْنِ فِي مَسَائِل الإِْرْثِ (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس مادة: " بين "
(2) التعريفات للجرجاني ص 72 ط دار الكتاب العربي
(3) المصباح واللسان مادة: " مثل "، والاختيار 5 / 122 ط دار المعرفة، والزرقاني 8 / 220 ط الفكر، ومغني المحتاج 3 / 33 - 34 ط الحلبي

(11/82)


د - التَّوَافُقُ:
5 - مَعْنَى التَّوَافُقِ فِي اللُّغَةِ: الاِتِّفَاقُ وَالتَّظَاهُرُ. (1)
وَتَوَافُقُ الْعَدَدَيْنِ: أَلاَّ يَعُدَّ أَقَلُّهُمَا الأَْكْثَرَ، وَلَكِنْ يَعُدُّهُمَا عَدَدٌ ثَالِثٌ، كَالثَّمَانِيَةِ مَعَ الْعِشْرِينَ، يَعُدُّهُمَا أَرْبَعَةٌ، فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالرُّبْعِ؛ لأَِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ مُخْرِجٌ لِجُزْءِ الْوَفْقِ (2) .

مَحَل التَّدَاخُل:
6 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّدَاخُل: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأَْسْبَابِ: وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأَْحْكَامِ. وَالأَْلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ الأَْوَّل، وَبِالْعُقُوبَاتِ الثَّانِي، وَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّ التَّدَاخُل فِي الْعِبَادَاتِ إِذَا كَانَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ كَانَتِ الأَْسْبَابُ بَاقِيَةً عَلَى تَعَدُّدِهَا، فَيَلْزَمُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ الاِحْتِيَاطِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الاِحْتِيَاطُ، فَقُلْنَا بِتَدَاخُل الأَْسْبَابِ فِيهَا لِيَكُونَ جَمِيعُهَا بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ وَاحِدٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إِذَا وُجِدَ دَلِيل الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا، بَل فِي دَرْئِهَا احْتِيَاطٌ فَيُجْعَل التَّدَاخُل فِي الْحُكْمِ؛ لِيَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ مُضَافًا إِلَى
__________
(1) القاموس مادة: " وفق "
(2) التعريفات للجرجاني ص 95 ط دار الكتاب العربي، وحاشية قليوبي 3 / 153 ط الحلبي

(11/82)


عَفْوِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِسُبُوغِ الْعَفْوِ وَكَمَال الْكَرَمِ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَلاَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَانٍ فَسَجَدَهَا، ثُمَّ تَلاَهَا فِيهِ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَوَّلاً؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّدَاخُل فِي السَّبَبِ لَكَانَتِ التِّلاَوَةُ الَّتِي بَعْدَ السَّجْدَةِ سَبَبًا، وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ.
وَأَمَّا فِي الْعُقُوبَاتِ: فَإِنَّهُ لَوْ زَنَى، ثُمَّ زَنَى ثَانِيَةً قَبْل أَنْ يُحَدَّ الأُْولَى، فَإِنَّ عَلَيْهِ حَدًّا وَاحِدًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ زَنَى فَحُدَّ، ثُمَّ زَنَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا. (1)
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْفُرُوقِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ التَّدَاخُل مَحَلُّهُ الأَْسْبَابُ لاَ الأَْحْكَامُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطِّهَارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ وَالأَْمْوَال. بَل ذَكَرَ أَنَّ الْحُدُودَ الْمُتَمَاثِلَةَ إِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا كَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ تَمَاثَلَتْ كَالزِّنَى مِرَارًا وَالسَّرِقَةِ مِرَارًا وَالشُّرْبِ مِرَارًا قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَوْلَى الأَْسْبَابِ بِالتَّدَاخُل؛ لأَِنَّ تَكَرُّرَهَا مُهْلِكٌ. (2)
وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الطِّهَارَاتِ وَكَفَّارَةِ الصِّيَامِ، فِيمَا لَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْجِمَاعُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَبْل
__________
(1) العناية مع فتح القدير ونتائج الأفكار 1 / 390 ط الأميرية، والبحر الرائق 2 / 135 ط العلمية
(2) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 - 30 ط دار المعرفة

(11/83)


التَّكْفِيرِ، وَفِي الْحُدُودِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَجْنَاسٍ أَنَّ التَّدَاخُل عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْسْبَابِ دُونَ الأَْحْكَامِ. (1)
هَذَا وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ التَّدَاخُل إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْحْكَامِ دُونَ الأَْسْبَابِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالإِْتْلاَفَاتِ. (2)

آثَارُ التَّدَاخُل الْفِقْهِيَّةِ وَمَوَاطِنُهُ:
7 - ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ التَّدَاخُل وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ، وَهِيَ الطِّهَارَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالصِّيَامُ وَالْكَفَّارَاتُ وَالْحُدُودُ وَالأَْمْوَال. (3)
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّهُ يَدْخُل فِي ضُرُوبٍ، وَهِيَ: الْعِبَادَاتُ وَالْعُقُوبَاتُ وَالإِْتْلاَفَاتُ. (4)
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ غَالِبًا، كَالْحَدَثِ مَعَ الْجَنَابَةِ. (5)
__________
(1) كشاف القناع 1 / 156 و 2 / 326 و 6 / 85 - 87 ط النصر، والمغني 8 / 213 ط الرياض، والإنصاف 3 / 320 ط النصر، والكافي 1 / 61 ط المكتب الإسلامي، ومنتهى الإرادات 1 / 32 ط العروبة
(2) المنثور 1 / 269 - 277 ط الأولى
(3) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 - 30 ط دار المعرفة
(4) المنثور للزركشي 1 / 269 - 277 ط الأولى
(5) الأشباه والنظائر للسيوطي / 126 ط العلمية، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 132 ط الهلال

(11/83)


هَذَا وَالتَّدَاخُل يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَالْفِدْيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْعِدَدِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ وَالدِّيَاتِ، وَالْحُدُودِ وَالْجِزْيَةِ، وَفِي حِسَابِ الْمَوَارِيثِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: -

أَوَّلاً - الطِّهَارَاتُ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْغُسْل: الْوُضُوءَ قَبْلَهُ، لأَِنَّهُ صِفَةُ غُسْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَنَصُّ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَل مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِل يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِل فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ وَيُدْخِل أَصَابِعَهُ فِي أُصُول الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَل رِجْلَيْهِ (1) .
هَذَا عَنْ تَحْصِيل السُّنَّةِ. أَمَّا الأَْجْزَاءُ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الطِّهَارَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل إِذَا تَكَرَّرَتْ أَسْبَابُهُمَا الْمُخْتَلِفَةُ كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، أَوِ الْمُتَمَاثِلَةُ كَالْجَنَابَتَيْنِ، وَالْمُلاَمَسَتَيْنِ، فَإِنَّ تِلْكَ الأَْسْبَابَ تَتَدَاخَل، فَيَكْفِي فِي الْجَنَابَتَيْنِ، أَوْ فِي
__________
(1) حديث: " كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 360 - ط السلفية) ومسلم (1 / 253 - ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم

(11/84)


الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، أَوْ فِي الْجَنَابَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ غُسْلٌ وَاحِدٌ، لاَ يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى وُضُوءٍ؛ لاِنْدِرَاجِ سَبَبِهِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْغُسْل. (1)
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ فِي الْعِبَادَاتِ، إِنْ كَانَا فِي وَاجِبٍ وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَصْدِ، تَدَاخَلاَ، كَغُسْل الْحَيْضِ مَعَ الْجَنَابَةِ، فَإِذَا أَجْنَبَتْ ثُمَّ حَاضَتْ، كَفَى لَهُمَا غُسْلٌ وَاحِدٌ (2) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَدَاخُل الْوُضُوءِ وَالْغُسْل إِذَا وَجَبَا عَلَيْهِ - كَمَا لَوْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ أَوْ عَكْسُهُ - أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، انْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَوَّلِهَا، وَاتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْبَاقِي.
أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدِ انْفَرَدُوا فِيهِ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ اخْتَارَهُ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ الْغُسْل، نَوَى الْوُضُوءَ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، غَسَل الأَْعْضَاءَ مُرَتَّبَةً أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُمَا طَهَارَتَانِ، فَتَدَاخَلَتَا. (3)
وَالثَّانِي، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَالْغُسْل؛ لأَِنَّهُمَا
__________
(1) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 ط دار المعرفة، والأشباه لابن نجيم / 132 ط الهلال
(2) المنثور 1 / 269 ط الأولى
(3) نهاية المحتاج 1 / 213، 214 ط المكتبة الإسلامية، وتحفة المحتاج 1 / 286 ط دار صادر، وحاشية قليوبي 1 / 68 ط دار المعرفة، والمنثور 1 / 269 ط الأولى، والمهذب 1 / 39 ط دار المعرفة

(11/84)


حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ يَجِبَانِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَمْ يَدْخُل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنْ نَوَى الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْل أَوْ عَكْسَهُ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ مَا نَوَى. (1)
الثَّالِثُ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُبْهِجِ: أَنَّهُ يَأْتِي بِخَصَائِصِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مُرَتَّبًا، ثُمَّ يَغْسِل سَائِرَ الْبَدَنِ؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الْغُسْل وَمُخْتَلِفَانِ فِي التَّرْتِيبِ، فَمَا اتَّفَقَا فِيهِ تَدَاخَلاَ، وَمَا اخْتَلَفَا فِيهِ لَمْ يَتَدَاخَلاَ. (2)
الرَّابِعُ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِمْ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: أَنَّهُمَا يَتَدَاخَلاَنِ فِي الأَْفْعَال دُونَ النِّيَّةِ؛ لأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُتَجَانِسَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَدَخَلَتِ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى فِي الأَْفْعَال دُونَ النِّيَّةِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (3) .
هَذَا، وَجَاءَ فِي الإِْنْصَافِ عَنِ الدَّيْنَوَرِيِّ فِي وَجْهٍ حَكَاهُ: أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ فَلاَ
__________
(1) المهذب 1 / 39 ط. دار المعرفة، والكافي 1 / 61 ط المكتب الإسلامي، ومنتهى الإرادات 1 / 32 ط العروبة، والإنصاف 1 / 259 ط التراث
(2) المهذب 1 / 39 ط. دار المعرفة، والإنصاف 1 / 259 ط التراث
(3) المهذب 1 / 39 ط دار المعرفة، والمجموع 2 / 194 - 195 ط السلفية، والإنصاف 1 / 259 ط التراث، وكشاف القناع 1 / 156 ط النصر

(11/85)


تَدَاخُل، وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ، أَوْ أَجْنَبَ ثُمَّ أَحْدَثَ يَكْفِيهِ الْغُسْل عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا حَكَاهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الأَْوَّل. (1)
ثَانِيًا: التَّدَاخُل فِي الصَّلاَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
أ - تَدَاخُل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلاَةِ الْفَرْضِ:
9 - ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ، وَالْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَدْخُل فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبِهِمَا، فَإِنَّ سَبَبَ التَّحِيَّةِ هُوَ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَسَبَبُ الظُّهْرِ مَثَلاً هُوَ الزَّوَال، فَيَقُومُ سَبَبُ الزَّوَال مَقَامَ سَبَبِ الدُّخُول، فَيَكْتَفِي بِهِ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ التَّدَاخُل فِي الْعِبَادَاتِ إِنْ كَانَ فِي مَسْنُونٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَسْنُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَفْعُول، دَخَل تَحْتَهُ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مَعَ صَلاَةِ الْفَرْضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَدْخُل فِي الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ. (2)
ب - تَدَاخُل سُجُودِ السَّهْوِ:
10 - جَاءَ صَرِيحًا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ - مِنْ
__________
(1) الإنصاف 1 / 259
(2) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 ط دار المعرفة، والأشباه لابن نجيم / 132 ط. الهلال، والمنثور 1 / 269 - 270 ط الأولى، وكشاف القناع 1 / 324 و 2 / 46

(11/85)


كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ - فِيمَنْ تَكَرَّرَ سَهْوُهُ بِحَيْثُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ جَمِيعِ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ سَجْدَتَانِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ نَسِيَ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، أَوْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ أَوِ التَّشَهُّدَيْنِ.
وَجَاءَ فِي الْمَنْثُورِ وَالأَْشْبَاهِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ جُبْرَانَاتِ الصَّلاَةِ تَتَدَاخَل لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَسُجُودُ السَّهْوِ وَإِنْ تَعَدَّدَ سَجْدَتَانِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ بِسُجُودِ السَّهْوِ إِرْغَامُ أَنْفِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَصَل بِالسَّجْدَتَيْنِ آخِرَ الصَّلاَةِ، بِخِلاَفِ جُبْرَانَاتِ الإِْحْرَامِ فَلاَ تَتَدَاخَل؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ جَبْرُ النُّسُكِ وَهُوَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالتَّعَدُّدِ. (1)
وَقَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِذَا سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِلْجَمِيعِ، لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَكَذَلِكَ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلاً لأَِحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 497 ط بولاق، والمدونة 1 / 138 ط. دار صادر، والمنثور 1 / 270 ط. الأولى، والأشباه للسيوطي / 126 ط العلمية

(11/86)


وَالثَّانِي: يَسْجُدُ سُجُودَيْنِ، قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودَانِ، أَحَدُهُمَا قَبْل السَّلاَمِ، وَالآْخَرُ بَعْدَهُ سَجَدَهُمَا فِي مَحَلَّيْهِمَا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُل سَهْوٍ سَجْدَتَانِ (1) . وَهَذَانِ سَهْوَانِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ؛ وَلأَِنَّ كُل سَهْوٍ يَقْتَضِي سُجُودًا، وَإِنَّمَا تَدَاخَلاَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لاِتِّفَاقِهِمَا، وَهَذَانِ مُخْتَلِفَانِ. (2)

ج - التَّدَاخُل فِي سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
11 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُل دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَالتَّدَاخُل فِيهَا تَدَاخُلٌ فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، فَتَنُوبُ الْوَاحِدَةُ عَمَّا قَبْلَهَا وَعَمَّا بَعْدَهَا، وَلاَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إِلاَّ بِاخْتِلاَفِ الْمَجْلِسِ أَوِ اخْتِلاَفِ التِّلاَوَةِ (أَيِ الآْيَةِ) أَوِ السَّمَاعِ، فَمَنْ تَلاَ آيَةً وَاحِدَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَدَاءُ السَّجْدَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ الأُْولَى أَوْلَى.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْزِل بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ
__________
(1) حديث: " لكل سهو سجدتان ". أخرجه أبو داود (1 / 1038 - ط تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ثوبان، وأصله في صحيح مسلم (1 / 402 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود
(2) المغني 2 / 39 - 40 ط الرياض

(11/86)


عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ، ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَانَ لاَ يَسْجُدُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً (1) .
وَإِنْ تَلاَهَا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَسَجَدَ، ثُمَّ دَخَل فِي الصَّلاَةِ فَتَلاَهَا فِيهَا، سَجَدَ أُخْرَى. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ أَوَّلاً كَفَتْهُ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الصَّلاَتِيَّةَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهَا، فَتَسْتَتْبِعُ غَيْرَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلاَةِ سَقَطَتَا فِي الأَْصَحِّ. (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ تَكْرِيرُ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ، إِنْ كَرَّرَ حِزْبًا فِيهِ سَجْدَةً، وَلاَ تَكْفِيهِ السَّجْدَةُ الأُْولَى؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلسُّجُودِ، بِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فَقَطْ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ، خِلاَفًا لأََصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْقَائِلَيْنِ بِعَدَمِ السُّجُودِ عَلَيْهِمَا وَلاَ فِي أَوَّل مَرَّةٍ.
وَمَحَل الْخِلاَفِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ إِذَا حَصَل التَّكْرِيرُ لِحِزْبٍ فِيهِ سَجْدَةٌ، وَأَمَّا قَارِئُ
__________
(1) حديث: " كان يسمع ويتلقن ثم يقرأ. . . " يدل على ذلك حديث البخاري عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه ". فهذا شامل للآيات التي فيها سجدات وقد كان يسجد فيها سجدة واح (فتح الباري 1 / 29)
(2) ابن عابدين 1 / 520، 521 ط. بولاق، بدائع الصنائع 1 / 181 ط. الجمالية، وتبيين الحقائق 1 / 207 ط. دار المعرفة، والبحر الرائق 2 / 135، 136 ط. العلمية، والاختيار 1 / 76 ط. دار المعرفة

(11/87)


الْقُرْآنِ بِتَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ جَمِيعَ سَجَدَاتِهِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَفِي الصَّلاَةِ، حَتَّى لَوْ قَرَأَهُ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَلِّمًا أَمْ مُتَعَلِّمًا اتِّفَاقًا. (1)
وَجَاءَ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ آيَاتِ السَّجَدَاتِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، سَجَدَ لِكُل وَاحِدَةٍ، وَمِثْل ذَلِكَ قِرَاءَتُهُ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي مَجْلِسَيْنِ.
فَلَوْ كَرَّرَ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْمَرَّةِ الأُْولَى كَفَاهُ سُجُودٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ سَجَدَ لِلأُْولَى فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا يَسْجُدُ مَرَّةً أُخْرَى لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ، وَالثَّانِي تَكْفِيهِ الأُْولَى، وَالثَّالِثُ إِنْ طَال الْفَصْل سَجَدَ أُخْرَى، وَإِلاَّ فَتَكْفِيهِ الأُْولَى.
وَلَوْ كَرَّرَ الآْيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَةٍ فَكَالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَكَالْمَجْلِسَيْنِ. وَلَوْ قَرَأَ مَرَّةً فِي الصَّلاَةِ، وَمَرَّةً خَارِجَهَا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ وَسَجَدَ لِلأُْولَى، فَلَمْ يَرَ النَّوَوِيُّ فِيهِ نَصًّا لِلأَْصْحَابِ، وَإِطْلاَقُهُمْ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلاَفِ فِيهِ. (2)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 73 ط دار المعرفة، والدسوقي 1 / 311 ط الفكر، والزرقاني 1 / 277، 278 ط الفكر، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 2 / 65، 66 ط النجاح
(2) روضة الطالبين 1 / 320 - 321 ط. المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 1 / 208 ط. الحلبي، ونهاية المحتاج 2 / 97 ط المكتبة الإسلامية

(11/87)


وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّ سُجُودَ التِّلاَوَةِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ التِّلاَوَةِ، حَتَّى فِي طَوَافٍ مَعَ قَصْرِ فَصْلٍ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ وَجْهَيْنِ فِي إِعَادَةِ سُجُودِ مَنْ قَرَأَ بَعْدَ سُجُودِهِ، وَكَذَا يَتَوَجَّهُ فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ إِنْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ.
وَقَال ابْنُ تَمِيمٍ: وَإِنْ قَرَأَ سَجْدَةً فَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الْحَال مَرَّةً أُخْرَى، لاَ لأَِجْل السُّجُودِ، فَهَل يُعِيدُ السُّجُودَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَال الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ: إِنْ سَجَدَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ ثُمَّ صَلَّى فَقَرَأَهَا فِيهَا أَعَادَ السُّجُودَ، وَإِنْ سَجَدَ فِي صَلاَةٍ ثُمَّ قَرَأَهَا فِي غَيْرِ صَلاَةٍ لَمْ يَسْجُدْ. وَقَال: إِذَا قَرَأَ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَقِيل يُعِيدُ السُّجُودَ، وَقِيل لاَ. (1)

ثَالِثًا: تَدَاخُل صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الاِعْتِكَافِ:
12 - مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ لِصِحَّةِ الاِعْتِكَافِ مُطْلَقًا، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صَوْمَ الاِعْتِكَافِ يَدْخُل فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الأَْمْرِ بِالصَّوْمِ، وَرُؤْيَةُ هِلاَل رَمَضَانَ هِيَ سَبَبُ تَوَجُّهِ الأَْمْرِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَدْخُل السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الاِعْتِكَافُ فِي
__________
(1) كشاف القناع 1 / 449 ط. النصر، ومنتهى الإرادات 1 / 103 دار العروبة، والإنصاف 2 / 195، 196 ط التراث

(11/88)


السَّبَبِ الآْخَرِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الْهِلاَل فَيَكْتَفِي بِهِ وَيَتَدَاخَل الاِعْتِكَافُ وَرُؤْيَةُ الْهِلاَل. (1)

رَابِعًا: تَدَاخُل الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْقَارِنِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدَ فِيمَا اشْتُهِرَ عَنْهُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَطُوفُ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ. . . (2) . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا؛
وَلأَِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَال الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى كَالطَّهَارَتَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ وَرَمْيٌ وَاحِدٌ، فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ كَالْفَرْدِ.
__________
(1) الفروق للقرافي، الفرق السابع والخمسون 2 / 29 ط دار المعرفة
(2) حديث: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 494 - ط السلفية)

(11/88)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمْ تُشْتَهَرْ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) وَتَمَامُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَال بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ (2) وَلأَِنَّهُمَا نُسُكَانِ، فَكَانَ لَهُمَا طَوَافَانِ، كَمَا لَوْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ.
وَأَثَرُ هَذَا الْخِلاَفِ يَظْهَرُ فِي الْقَارِنِ إِذَا قَتَل صَيْدًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالتَّدَاخُل. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 196
(2) حديث: " من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان. . . " ورد من فعله صلى الله عليه وسلم ولم يرد من قوله، أخرجه الدارقطني في سننه (2 / 258 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال: لم يروه عن الحكم - يعني ابن عتيبة - غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث
(3) مسلم الثبوت 2 / 48 ط. الأميرية، وابن عابدين 2 / 192 ط المصرية، والخرشي 2 / 309 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 28 ط. الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 171 ط دار المعرفة، والقرطبي 2 / 369 ط دار الكتب، وروضة الطالبين 3 / 44 ط المكتب الإسلامي، والمنثور للزركشي 1 / 272 ط الأولى، وفتح الباري 3 / 493، 494 ط، الرياض، وكشاف القناع 2 / 412 ط النصر، والمغني 3 / 465، 466 ط الرياض

(11/89)


خَامِسًا: تَدَاخُل الْفِدْيَةِ:
14 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَتَدَاخَل. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ قَلَّمَ أَظَافِرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَإِنَّ عَلَيْهِ دَمًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَهِيَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ قَلَّمَهَا فِي مَجَالِسَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُل كَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ لِكُل يَدٍ دَمٌ، وَلِكُل رِجْلٍ دَمٌ إِذَا تَعَدَّدَ الْمَجْلِسُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الْفِدْيَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُل بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيَةِ السَّجْدَةِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْعْضَاءَ مُتَبَايِنَةٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْجِنَايَةُ - وَهِيَ تَقْلِيمُ الأَْظَافِرِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ - جِنَايَةً وَاحِدَةً فِي الْمَعْنَى لاِتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الرِّفْقُ. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمِثْل ذَلِكَ فِيمَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ، وَجَامَعَ بَعْدَهُ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ فِدْيَةَ الْمُقَدِّمَةِ تَدْخُل فِي الْبَدَنَةِ الْوَاجِبَةِ جَزَاءً عَنِ الْجِمَاعِ. (2)
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ، بِأَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً فِي أَصَحِّ
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 55 ط دار المعرفة، والاختيار 1 / 162 ط، دار المعرفة
(2) حاشية قليوبي 2 / 137 ط. الحلبي، والمنثور 1 / 272 ط الأولى، ونهاية المحتاج 3 / 329 ط المكتبة الإسلامية

(11/89)


الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ وَاحِدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: إِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمًا مُنْفَرِدًا. وَكَذَا لَوْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ فِي ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَدَاخُل الْفِدْيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا أَرْبَعَ صُوَرٍ تَتَّحِدُ فِيهَا الْفِدْيَةُ وَهِيَ أَنْ يَظُنَّ الْفَاعِل الإِْبَاحَةَ:
أ - بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ فَيَفْعَل أُمُورًا كُلٌّ مِنْهَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.
ب - أَوْ يَتَعَدَّدُ مُوجِبُهَا مِنْ لُبْسٍ وَتَطَيُّبٍ وَقَلْمِ أَظْفَارٍ وَقَتْل دَوَابَّ بِفَوْرٍ.
ج - أَوْ يَتَرَاخَى مَا بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْفِعْل الأَْوَّل أَوْ إِرَادَتُهُ نَوَى تَكْرَارَ الْفِعْل الْمُوجِبِ لَهَا.
د - أَوْ يَتَرَاخَى مَا بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ التَّكْرَارَ عِنْدَ الْفِعْل الأَْوَّل مِنْهُمَا، لَكِنَّهُ قَدَّمَ مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ، كَتَقْدِيمِهِ لُبْسَ الثَّوْبِ عَلَى لُبْسِ السَّرَاوِيل. (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
__________
(1) الإنصاف 3 / 458، 459 ط التراث، وكشاف القناع 2 / 423 ط النصر
(2) الدسوقي 2 / 65، 66 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 191 ط. دار المعرفة

(11/90)


سَادِسًا: تَدَاخُل الْكَفَّارَاتِ:
أ - تَدَاخُلُهَا فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْجِمَاعُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ الْفِعْل الثَّانِيَ لَمْ يُصَادِفْ صَوْمًا، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْل فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ فِي رَمَضَانَيْنِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلأَْوَّل، فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهُ تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهَا جَزَاءٌ عَنْ جِنَايَةٍ تَكَرَّرَ سَبَبُهَا قَبْل اسْتِيفَائِهَا، فَتَتَدَاخَل كَالْحَدِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِلْفَتْوَى وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْوَاحِدَةَ لاَ تُجْزِئُهُ، بَل عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ؛ لأَِنَّ كُل يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ لَمْ تَتَدَاخَل كَالْعُمْرَتَيْنِ وَالْحَجَّتَيْنِ، (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَةٌ) .

ب - تَدَاخُل الْكَفَّارَاتِ فِي الأَْيْمَانِ:
16 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَحَنِثَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 110 ط بولاق، الفروق للقرافي 2 / 29، الفرق السابع والخمسون ط دار المعرفة، والأشباه والنظائر للسيوطي 127 ط العلمية. وحاشية قليوبي 2 / 71 ط الحلبي، والمهذب للشيرازي 1 / 191 ط دار المعرفة، والإنصاف 3 / 319 ط التراث، وكشاف القناع 6 / 232 ط النصر، والمغني 3 / 132، 133 ط. الرياض

(11/90)


فِيهَا وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا أُخْرَى وَحَنِثَ فِيهَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَلاَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ الأُْولَى عَنْ كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِيمَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا وَحَنِثَ فِيهَا. ثُمَّ أَرَادَ التَّكْفِيرَ، هَل تَتَدَاخَل الْكَفَّارَاتُ فَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ لاَ تَتَدَاخَل فَيَجِبُ عَلَيْهِ لِكُل يَمِينٍ كَفَّارَةٌ؟ تَتَدَاخَل الْكَفَّارَاتُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَتَدَاخَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلاَ الشَّافِعِيَّةِ، (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ.

سَابِعًا: تَدَاخُل الْعِدَّتَيْنِ:
17 - مَعْنَى التَّدَاخُل فِي الْعِدَدِ: أَنْ تَبْتَدِئَ الْمَرْأَةُ عِدَّةً جَدِيدَةً وَتَنْدَرِجَ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، وَالْعِدَّتَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَذَلِكَ أَيْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَزِمَهَا عِدَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاِتِّحَادِهِمَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَصْدِ. مِثَال ذَلِكَ: مَا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَوَطِئَهَا، وَقَال: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِل لِي. أَوْ طَلَّقَهَا بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، فَوَطِئَهَا فِي
__________
(1) الموسوعة الفقهية 7 / 300 نشر وزارة الأوقاف الكويتية

(11/91)


الْعِدَّةِ، فَإِنَّ الْعِدَّتَيْنِ تَتَدَاخَلاَنِ، فَتَعْتَدُّ ثَلاَثَةَ أَقْرَاءٍ ابْتِدَاءً مِنَ الْوَطْءِ الْوَاقِعِ فِي الْعِدَّةِ، وَيَنْدَرِجُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَتَا لِرَجُلَيْنِ فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَل بِالْوَاحِدَةِ فَتَتَدَاخَلاَنِ. وَمِثَالُهُ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَهَاتَانِ عِدَّتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَمِنْ جِنْسَيْنِ. وَمِثَال الْعِدَّتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَمِنْ رَجُلَيْنِ: الْمُطَلَّقَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَوَطِئَهَا الثَّانِي، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، تَتَدَاخَلاَنِ وَتَعْتَدُّ مِنْ بَدْءِ التَّفْرِيقِ، وَيَنْدَرِجُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ والْحَنَابِلَةِ فَلاَ تَتَدَاخَلاَنِ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُودَانِ لآِدَمِيَّيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلاَ كَالدَّيْنَيْنِ؛ وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ احْتِبَاسٌ يَسْتَحِقُّهُ الرِّجَال عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ فِي احْتِبَاسِ رَجُلَيْنِ كَاحْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْعِدَّتَانِ فِي الْجِنْسِ، وَكَانَتَا لِرَجُلَيْنِ، فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَجَلٌ، وَالآْجَال تَتَدَاخَل. وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مَقْصُودٌ لِلآْدَمِيِّ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلأَْوَّل لِسَبْقِهِ، ثُمَّ تَعْتَدَّ لِلثَّانِي، وَلاَ تَتَقَدَّمُ عِدَّةُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الأَْوَّل إِلاَّ بِالْحَمْل.
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتَا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ

(11/91)


الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا عَلَى مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الْجِنْسِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ لَخَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مَذْهَبَهُمْ فِي تَدَاخُل الْعِدَدِ بِقَوْلِهِ: فُرُوعٌ فِي تَدَاخُل الْعِدَّتَيْنِ:
(الْفَرْعُ الأَْوَّل) مَنْ طَلُقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ يَهْدِمُ عِدَّةَ الرَّجْعِيِّ بِخِلاَفِ الْبَائِنِ.
(الْفَرْعُ الثَّانِي) إِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ تَهْدِمُ الْعِدَّةَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ بَانَتِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الْمَسِيسِ بَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الأُْولَى، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُول اسْتَأْنَفَتْ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 134 ط الهلال، وابن عابدين 2 / 608، 609 ط بولاق، وتبيين الحقائق 3 / 31 ط دار المعرفة، وفتح القدير 3 / 283، 284 ط الأميرية، والأشباه والنظائر للسيوطي / 128 ط العلمية، وحاشية قليوبي 4 / 46، 47 ط الحلبي، وروضة الطالبين 8 / 384 - 394 ط المكتب الإسلامي، والمهذب للشيرازي 2 / 151 - 153 ط دار المعرفة، والمنثور للزركشي 1 / 276، 277 ط الأولى، ونهاية المحتاج 7 / 132 - 135 ط المكتب الإسلامي، والكافي 3 / 316 - 320 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 425 - 428 ط النصر، والمغني 7 / 482 ط الرياض

(11/92)


(الْفَرْعُ الثَّالِثُ) إِذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلاَقِ، فَدَخَل بِهَا الثَّانِي، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي، وَقِيل: تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي وَتُجْزِيهَا عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَالْوَضْعُ يُجْزِي عَنِ الْعِدَّتَيْنِ اتِّفَاقًا. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .

ثَامِنًا: تَدَاخُل الْجِنَايَاتِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ:
18 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِنَايَاتِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ إِذَا تَعَدَّدَتْ، كَمَا لَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَتَدَاخَل إِلاَّ فِي حَالَةِ اجْتِمَاعِ جِنَايَتَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا بُرْءٌ، وَصُوَرُهَا سِتَّ عَشْرَةَ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا قَطَعَ ثُمَّ قَتَل، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا عَمْدَيْنِ أَوْ خَطَأَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالآْخَرُ خَطَأً، وَكُلٌّ مِنَ الأَْرْبَعَةِ إِمَّا عَلَى وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، وَكُلٌّ مِنَ الثَّمَانِيَةِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَبْل الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ. (2)
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 157، والدسوقي 2 / 499 ط الفكر، والزرقاني 4 / 235 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 398 ط دار المعرفة، والخرشي 4 / 172 - 175 ط دار صادر، ومواهب الجليل 4 / 176 - 178 ط النجاح
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 134 ط الهلال

(11/92)


وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الطَّرَفِ تَنْدَرِجُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، أَيْ فِي الْقِصَاصِ، إِنْ تَعَمَّدَهَا الْجَانِي، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّرَفُ لِلْمَقْتُول أَمْ لِغَيْرِهِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ شَخْصٍ عَمْدًا، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ عَمْدًا، فَيُقْتَل فَقَطْ وَلاَ يُقْطَعُ شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِهِ وَلاَ تُفْقَأُ عَيْنُهُ، إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ عَلَى الطَّرَفِ مُثْلَةً - أَيْ تَمْثِيلاً وَتَشْوِيهًا - فَإِنْ قَصَدَهَا فَلاَ يَنْدَرِجُ الطَّرَفُ فِي الْقَتْل، فَيُقْتَصُّ مِنَ الطَّرَفِ، ثُمَّ يُقْتَل.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْجَانِي الْجِنَايَةَ عَلَى الطَّرَفِ، فَإِنَّهَا لاَ تَنْدَرِجُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ شَخْصٍ خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ، وَدِيَةُ الْيَدِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. (1)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْعَمْدِ أَوِ الْخَطَأِ، وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ بَعْدَ انْدِمَال الْجِنَايَةِ عَلَى الطَّرَفِ وَجَبَتْ دِيَةُ الطَّرَفِ بِلاَ خِلاَفٍ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ قَبْل انْدِمَال الْجِنَايَةِ عَلَى الطَّرَفِ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: دُخُول الْجِنَايَةِ عَلَى الطَّرَفِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ مَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ كَالسِّرَايَةِ.
وَثَانِيهِمَا: عَدَمُ التَّدَاخُل بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ، خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَبِهِ قَال الإِْصْطَخْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 265 ط دار المعرفة

(11/93)


أَمَّا إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَمْدًا وَالأُْخْرَى خَطَأً، وَقُلْنَا بِالتَّدَاخُل عِنْدَ الاِتِّفَاقِ، فَهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا التَّدَاخُل أَيْضًا.
وَأَصَحُّهُمَا: لاَ، لاِخْتِلاَفِهِمَا (1) .
والْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: التَّدَاخُل فِي الْقِصَاصِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلاً، ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْل انْدِمَال جُرْحِهِ، وَاخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلاَّ ضَرْبُ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ (2) ، وَلَيْسَ لَهُ جُرْحُهُ أَوْ قَطْعُ طَرَفِهِ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ، فَدَخَل الطَّرَفُ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ كَالدِّيَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَل بِالْجَانِي مِثْلَمَا فَعَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (3)
أَمَّا إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْقِصَاصِ، أَوْ صَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ لِكَوْنِ الْفِعْل خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهُ قُتِل قَبْل اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَل أَرْشُ الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ (4) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 307 ط المكتب الإسلامي
(2) حديث: " لا قود إلا بالسيف " أخرجه ابن ماجه (2 / 889 - ط الحلبي) وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 19 - ط شركة الطباعة الفنية) : إسناده ضعيف
(3) سورة النحل / 126
(4) المغني 7 / 685، 686 ط الرياض

(11/93)


تَاسِعًا: تَدَاخُل الدِّيَاتِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدِّيَاتِ قَدْ تَتَدَاخَل، فَيَدْخُل الأَْدْنَى مِنْهَا فِي الأَْعْلَى، وَمِنْ ذَلِكَ دُخُول دِيَةِ الأَْعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، وَدُخُول أَرْشِ الْمُوضِحَةِ الْمُذْهِبَةِ لِلْعَقْل فِي دِيَةِ الْعَقْل، وَدُخُول حُكُومَةِ الثَّدْيِ فِي دِيَةِ الْحَلَمَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) .

عَاشِرًا: تَدَاخُل الْحُدُودِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ - كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ - إِذَا اتَّفَقَتْ فِي الْجِنْسِ وَالْمُوجِبِ أَيِ الْحَدِّ فَإِنَّهَا تَتَدَاخَل، فَمَنْ زَنَى مِرَارًا، أَوْ سَرَقَ مِرَارًا، أَوْ شَرِبَ مِرَارًا، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلزِّنَى الْمُتَكَرِّرِ، وَآخَرُ لِلسَّرِقَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَآخَرُ لِلشُّرْبِ الْمُتَكَرِّرِ؛ لأَِنَّ مَا تَكَرَّرَ مِنْ هَذِهِ الأَْفْعَال هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَهُ، فَدَخَل تَحْتَهُ.
وَمِثْل ذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا قَذَفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا، أَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ اتِّفَاقًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 374 ط المصرية، وتبيين الحقائق 6 / 135 ط دار المعرفة، والفروق للقرافي 2 / 30 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 9 / 285 و 306 - 307 ط المكتب الإسلامي، والمهذب 2 / 192 ط دار المعرفة، والمغني 8 / 38 ط الرياض

(11/94)


قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ، أَوْ خَصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَذْفٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الأَْفْعَال مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا، وَلاَ يَدْخُل تَحْتَ الْفِعْل الَّذِي سَبَقَهُ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى عَدَمِ التَّدَاخُل بَيْنَ هَذِهِ الأَْفْعَال عِنْدَ اخْتِلاَفِهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَمَنْ زَنَى وَسَرَقَ وَشَرِبَ حُدَّ لِكُل فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الأَْفْعَال؛ لاِخْتِلاَفِهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَلاَ تَتَدَاخَل. أَمَّا إِذَا اتَّحَدَتْ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْجِنْسِ، كَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ مَثَلاً، فَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَتَتَدَاخَل؛ لاِتِّفَاقِهَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، وَهُوَ الْحَدُّ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَفِي الشُّرْبِ أَيْضًا مِثْلُهُ، فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا سَقَطَ عَنْهُ الآْخَرُ.
وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِلاَّ وَاحِدًا فَقَطْ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ عَمَّا ثَبَتَ.
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَهُمْ - أَيِ الْمَالِكِيَّةِ - مَا لَوْ سَرَقَ وَقَطَعَ يَمِينَ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ الْقَتْل، فَإِنْ كَانَ فِيهَا الْقَتْل، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ إِلاَّ أَحَاطَ الْقَتْل بِذَلِكَ كُلِّهِ،

(11/94)


وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَقَدْ حَصَل. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْقَتْل، بَل لاَ بُدَّ مِنِ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَكْتَفُونَ بِالْقَتْل، وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّدَاخُل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَل يُقَدِّمُونَ الأَْخَفَّ ثُمَّ الأَْخَفَّ، فَمَنْ سَرَقَ وَزَنَى وَهُوَ بِكْرٌ، وَشَرِبَ وَلَزِمَهُ قَتْلٌ بِرِدَّةٍ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا بِتَقْدِيمِ الأَْخَفِّ ثُمَّ الأَْخَفِّ. (1)

الْحَادِيَ عَشَرَ: تَدَاخُل الْجِزْيَةِ:
21 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَتَدَاخَل كَمَا إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الذِّمِّيِّ جِزْيَةُ عَامَيْنِ، فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ جِزْيَةُ عَامٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ عَلَى وَجْهِ الإِْذْلاَل. وَالْعُقُوبَاتُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا اجْتَمَعَتْ، وَكَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، تَدَاخَلَتْ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم / 133 ط الهلال، والاختيار 4 / 96 - 97 ط دار المعرفة، وفتح القدير مع العناية 4 / 208 - 209 ط الأميرية. وجواهر الإكليل 2 / 294 ط دار المعرفة، والخرشي 8 / 103 ط دار صادر، الدسوقي 4 / 347 - 348 ط الفكر، والفروق للقرافي 2 / 30 الفرق السابع والخمسون ط دار المعرفة، والأشباه للسيوطي / 126 ط العلمية، وروضة الطالبين 10 / 166 ط المكتب الإسلامي، والمنثور 1 / 270 - 271 ط الأولى، وكشاف القناع 6 / 85 - 86 ط النصر، والمغني 8 / 213 - 214 ط الرياض

(11/95)


كَالْحُدُودِ؛ وَلأَِنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلاً عَنِ الْقَتْل فِي حَقِّهِمْ وَعَنِ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَل لاَ فِي الْمَاضِي؛ لأَِنَّ الْقَتْل إِنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَال، لاَ لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَل لأَِنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَتَدَاخَل، وَلاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَالدُّيُونِ.
وَأَمَّا خَرَاجُ الأَْرْضِ فَقِيل عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ، وَقِيل لاَ تَدَاخُل فِيهِ بِالاِتِّفَاقِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَدَاخُل الْجِزْيَةِ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ التَّدَاخُل مِنْ قَوْل أَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ رُشْدٍ: وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِفِرَارِهِ بِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ لِمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِعُسْرِهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ، وَلاَ يُطَالَبُ بِهَا بَعْدَ غِنَاهُ. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِزْيَةٌ) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 376، 377 ط الأميرية، وتبيين الحقائق 3 / 279 ط دار المعرفة، وابن عابدين 3 / 270 ط بولاق، والاختيار 4 / 139 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 10 / 312 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 512 ط الرياض
(2) الدسوقي 2 / 202 ط الفكر، والحطاب 3 / 382، وجواهر الإكليل 1 / 267 ط دار المعرفة، والخرشي 3 / 145، 146 ط دار صادر

(11/95)


الثَّانِي عَشَرَ: تَدَاخُل الْعَدَدَيْنِ فِي حِسَابِ الْمَوَارِيثِ:
22 - الْعَدَدَانِ فِي حِسَابِ الْمَوَارِيثِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَمَاثِلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ. وَفِي حَال اخْتِلاَفِهِمَا إِمَّا أَنْ يَفْنَى الأَْكْثَرُ بِالأَْقَل، وَإِمَّا أَنْ يُفْنِيَهُمَا عَدَدٌ ثَالِثٌ، وَإِمَّا أَنْ لاَ يُفْنِيَهُمَا إِلاَّ وَاحِدٌ لَيْسَ بِعَدَدٍ، بَل هُوَ مَبْدَؤُهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. وَقَدْ وَقَعَ التَّدَاخُل فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ مَا إِذَا اخْتَلَفَا وَفَنِيَ الأَْكْثَرُ بِالأَْقَل عِنْدَ إِسْقَاطِهِ مِنَ الأَْكْثَرِ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْهُمَا، فَيُقَال حِينَئِذٍ: إِنَّهُمَا مُتَدَاخِلاَنِ، كَثَلاَثَةٍ مَعَ سِتَّةٍ أَوْ تِسْعَةٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِنَّ السِّتَّةَ تَفْنَى بِإِسْقَاطِ الثَّلاَثَةِ مَرَّتَيْنِ، وَالتِّسْعَةَ بِإِسْقَاطِهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ بِإِسْقَاطِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ لأَِنَّهَا خُمُسُهَا، وَسُمِّيَا مُتَدَاخِلَيْنِ لِدُخُول الأَْقَل فِي الأَْكْثَرِ.
وَحُكْمُ الأَْعْدَادِ الْمُتَدَاخِلَةِ: أَنَّهُ يُكْتَفَى فِيهَا بِالأَْكْبَرِ وَيُجْعَل أَصْل الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا فِي الأَْقْسَامِ الأُْخْرَى، وَهِيَ الأَْوَّل وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ، فَلاَ تَدَاخُل بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعَدَدَيْنِ إِنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ - كَمَا فِي الْقِسْمِ الأَْوَّل - فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا، فَيُجْعَل أَصْلاً لِلْمَسْأَلَةِ كَالثَّلاَثَةِ وَالثَّلاَثَةِ مَخْرَجَيِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ؛ لأَِنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ إِذَا سُلِّطَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ أَفْنَاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، وَلاَ يُفْنِيهِمَا إِلاَّ عَدَدٌ ثَالِثٌ - وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ - فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ،

(11/96)


وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لأَِنَّ الإِْفْنَاءَ حَصَل بِغَيْرِهِمَا، كَأَرْبَعَةٍ وَسِتَّةٍ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، لأَِنَّك إِذَا سَلَّطْتَ الأَْرْبَعَةَ عَلَى السِّتَّةِ يَبْقَى مِنْهُمَا اثْنَانِ، سَلِّطْهُمَا عَلَى الأَْرْبَعَةِ مَرَّتَيْنِ تَفْنَى بِهِمَا، فَقَدْ حَصَل الإِْفْنَاءُ بِاثْنَيْنِ وَهُوَ عَدَدٌ غَيْرُ الأَْرْبَعَةِ وَالسِّتَّةِ، فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِجُزْءِ الاِثْنَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ. وَحُكْمُ الْمُتَوَافِقَيْنِ: أَنْ تَضْرِبَ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي كَامِل الآْخَرِ، وَالْحَاصِل أَصْل الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ لاَ يَفْنَى أَكْثَرُهُمَا بِأَقَلِّهِمَا وَلاَ بِعَدَدٍ ثَالِثٍ، بِأَنْ لَمْ يُفْنِهِمَا إِلاَّ الْوَاحِدُ كَمَا فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، وَلاَ تَدَاخُل بَيْنَهُمَا أَيْضًا كَثَلاَثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، لأَِنَّك إِذَا أَسْقَطْتَ الثَّلاَثَةَ مِنَ الأَْرْبَعَةِ يَبْقَى وَاحِدٌ، فَإِذَا سَلَّطْتَهُ عَلَى الثَّلاَثَةِ فَنِيَتْ بِهِ. وَحُكْمُ الْمُتَبَايِنَيْنِ أَنَّكَ تَضْرِبُ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ فِي الآْخَرِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ حِسَابِ الْفَرَائِضِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِرْثٌ) .
__________
(1) الاختيار 5 / 122 - 124 ط دار المعرفة، وتبيين الحقائق 6 / 245 ط دار المعرفة، والزرقاني 8 / 220 ط الفكر، والدسوقي 4 / 476 وما بعدها ط الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 334، 355 ط دار المعرفة، ومغني المحتاج 3 / 33 - 34 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 35 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية قليوبي 3 / 153 - 154 ط الحلبي، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 35 ط الميمنية، وروضة الطالبين 6 / 69 - 73 ط المكتب الإسلامي، والكافي 2 / 539 ط المكتب الإسلامي

(11/96)


تَدَارُكٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدَارُكُ: مَصْدَرُ تَدَارَكَ، وَثُلاَثِيُّهُ: دَرَكَ، وَمَصْدَرُهُ الدَّرْكُ بِمَعْنَى: اللَّحَاقِ وَالْبُلُوغِ. وَمِنْهُ الاِسْتِدْرَاكُ
وَلِلاِسْتِدْرَاكِ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالاَنِ: الأَْوَّل: أَنْ يُسْتَدْرَكَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ.
الثَّانِي: أَنْ يُتَلاَفَى مَا فَرَّطَ فِي الرَّأْيِ أَوِ الأَْمْرِ مِنَ الْخَطَأِ أَوِ النَّقْصِ. (1)
وَلِلاِسْتِدْرَاكِ فِي الاِصْطِلاَحِ مَعْنَيَانِ أَيْضًا:
الأَْوَّل، لِلأُْصُولِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ: وَهُوَ رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ، أَوْ إِثْبَاتُ مَا يُتَوَهَّمُ نَفْيُهُ.
وَالثَّانِي: يَرِدُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ: وَهُوَ إِصْلاَحُ مَا حَصَل فِي الْقَوْل أَوِ الْعَمَل مِنْ خَلَلٍ أَوْ قُصُورٍ أَوْ فَوَاتٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالتَّدَارُكِ فِي مَوْضِعِ الاِسْتِدْرَاكِ، الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى فِعْل الشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ بَعْدَ مَحَلِّهِ، سَوَاءٌ أَتَرَكَ سَهْوًا أَمْ عَمْدًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الرَّمْلِيِّ: إِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط مادة: " درك "

(11/97)


مِنْ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، تَدَارَكَ الْمَسْبُوقُ بَاقِيَ التَّكْبِيرَاتِ بِأَذْكَارِهَا (1) . وَقَوْله: لَوْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ فَتَذَكَّرَهَا قَبْل رُكُوعِهِ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهَا بِالأَْوْلَى - وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ فَاتِحَتَهُ - فَاتَتْ فِي الْجَدِيدِ فَلاَ يَتَدَارَكُهَا. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْبُهُوتِيُّ، مِنْ أَنَّهُ لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْل الْغُسْل، وَقَدْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ، لَزِمَ نَبْشُهُ، وَأَنْ يُخْرَجَ وَيُغَسَّل، تَدَارُكًا لِوَاجِبِ غُسْلِهِ. (3)
وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ التَّدَارُكِ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ بِأَنَّهُ: فِعْل الْعِبَادَةِ، أَوْ فِعْل جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْل ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ.
وَبِالتَّتَبُّعِ وَجَدْنَا الْفُقَهَاءَ لاَ يُطْلِقُونَ التَّدَارُكَ إِلاَّ عَلَى مَا كَانَ اسْتِدْرَاكًا فِي الْعِبَادَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - مِنْهَا الْقَضَاءُ وَالإِْعَادَةُ وَالاِسْتِدْرَاكُ، وَكَذَلِكَ الإِْصْلاَحُ فِي اصْطِلاَحِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعَانِيهَا، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّدَارُكِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِدْرَاكٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 473 ط مصطفى الحلبي
(2) نهاية المحتاج 2 / 379
(3) كشاف القناع 2 / 86

(11/97)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الأَْصْل أَنَّ تَدَارُكَ رُكْنِ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَرْضٌ، وَذَلِكَ إِنْ فَاتَ الرُّكْنُ لِعُذْرٍ - كَنِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ - مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ فُعِل عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُجْزِئٍ.
وَلاَ يَحْصُل الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الرُّكْنِ مَعَ تَرْكِهِ؛ لِعَدَمِ الاِمْتِثَال. وَلاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلاَّ بِالتَّدَارُكِ.
فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ الرُّكْنَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فِيهِ فَسَدَتِ الْعِبَادَةُ، وَوَجَبَ الاِسْتِدْرَاكُ بِاسْتِئْنَافِ الْعِبَادَةِ أَوْ قَضَائِهَا، بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الأَْحْوَال.
وَأَمَّا تَدَارُكُ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْحُكْمُ.

التَّدَارُكُ فِي الْوُضُوءِ:
أ - التَّدَارُكُ فِي أَرْكَانِ الْوُضُوءِ:
4 - أَرْكَانُ الْوُضُوءِ يَتَحَتَّمُ الإِْتْيَانُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ غَسْل عُضْوٍ مِنَ الثَّلاَثَةِ أَوِ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ تَرَكَ مَسْحَ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَدَارُكِهِ، بِالإِْتْيَانِ بِالْفَائِتِ مِنْ غَسْلٍ أَوْ مَسْحٍ ثُمَّ الإِْتْيَانُ بِمَا بَعْدَهُ، فَمَنْ نَسِيَ غَسْل الْيَدَيْنِ، وَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ حَتَّى يُعِيدَ غَسْل الْيَدَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِل رِجْلَيْهِ.
وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَجْعَل التَّرْتِيبَ فَرْضًا فِي

(11/98)


الْوُضُوءِ، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، وَعَلَى الْقَوْل الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا مَنْ أَجَازُوا الْوُضُوءَ دُونَ تَرْتِيبٍ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمُ التَّدَارُكُ بِغَسْل الْمَتْرُوكِ وَحْدَهُ. وَإِعَادَةُ مَا بَعْدَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ وَاجِبًا.
وَلَوْ تَرَكَ غَسْل الْيُمْنَى مِنَ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ غَسْل الْيُسْرَى، أَجْزَأَهُ غَسْل الْيُمْنَى فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ غَسْل الْيُسْرَى اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ.
وَإِنَّمَا يُجْزِئُ التَّدَارُكُ بِالإِْتْيَانِ بِالْفَائِتِ وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ بِالْفَائِتِ وَحْدَهُ - عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ - إِنْ لَمْ تَفُتِ الْمُوَالاَةُ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهَا، فَإِنْ طَال الْفَصْل، وَفَاتَتِ الْمُوَالاَةُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْوُضُوءِ كُلِّهِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْمُوَالاَةَ - وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَهُمُ التَّدَارُكُ بِغَسْل الْفَائِتِ وَحْدَهُ. (1)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (وُضُوءٍ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 83، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 99، ونهاية المحتاج 1 / 178 ط مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 1 / 104

(11/98)


ب - التَّدَارُكُ فِي وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ:
5 - لَيْسَ لِلْوُضُوءِ وَلاَ لِلْغُسْل وَاجِبَاتٌ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَمِنْ وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَثَلاً التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِهِ - وَلَيْسَتْ رُكْنًا فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ - قَالُوا: وَتَسْقُطُ لَوْ تَرَكَهَا سَهْوًا. وَإِنْ ذَكَرَهَا فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ سَمَّى وَبَنَى، أَيْ فَلاَ يَلْزَمُهُ الاِسْتِئْنَافُ. قَالُوا: لأَِنَّهُ لَمَّا عُفِيَ عَنْهَا مَعَ السَّهْوِ فِي جُمْلَةِ الطَّهَارَةِ، فَفِي بَعْضِهَا أَوْلَى. وَهُوَ الْمَذْهَبُ خِلاَفًا لِمَا صَحَّحَهُ فِي الإِْنْصَافِ. (2)

ج - التَّدَارُكُ فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ:
6 - أَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ تَدَارُكِهَا إِذَا فَاتَ مَحَلُّهَا.
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ سُنَّةَ الْوُضُوءِ يُطَالَبُ بِإِعَادَتِهَا لَوْ نَكَّسَهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، طَال الْوَقْتُ أَوْ قَصُرَ. (3) أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا - وَذَلِكَ مُنْحَصِرٌ عِنْدَهُمْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ وَمَسْحِ الأُْذُنَيْنِ - قَال الدَّرْدِيرُ: يَفْعَلُهَا اسْتِنَانًا دُونَ مَا بَعْدَهَا طَال التَّرْكُ أَوْ لاَ. وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ إِعَادَةُ مَا بَعْدَهُ لِنَدْبِ تَرْتِيبِ السُّنَنِ فِي نَفْسِهَا، أَوْ
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 70، والشرح الكبير للدردير 1 / 96 حيث لم يذكر واجبات للوضوء
(2) كشاف القناع 1 / 91
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 99

(11/99)


مَعَ الْفَرَائِضِ. وَالْمَنْدُوبُ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - إِذَا فَاتَ لاَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ لِعَدَمِ التَّشْدِيدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتَدَارَكُهَا لِمَا يُسْتَقْبَل مِنَ الصَّلَوَاتِ، لاَ إِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْبَقَاءِ عَلَى طَهَارَةٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ، أَيْ بِحَضْرَةِ الْمَاءِ وَقَبْل فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ. (1)
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَدَّمَ مُؤَخَّرًا، كَأَنِ اسْتَنْشَقَ قَبْل الْمَضْمَضَةِ - وَهُمَا عِنْدَهُمْ سُنَّتَانِ - قَال الرَّمْلِيُّ: يُحْتَسَبُ مَا بَدَأَ بِهِ، وَفَاتَ مَا كَانَ مَحَلُّهُ قَبْلَهُ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ، خِلاَفًا لِمَا فِي الْمَجْمُوعِ، أَيْ فَلاَ يَتَدَارَكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، فَيُحْسَبُ مِنْهَا مَا أَوْقَعَهُ أَوَّلاً، فَكَأَنَّهُ تَرَكَ غَيْرَهُ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِفِعْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (2)
لَكِنْ فِي التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ - وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ - قَالُوا: إِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (أَوْ فِي أَوَّل طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَذَلِكَ) يَأْتِي بِهَا فِي أَثْنَائِهِ تَدَارُكًا لِمَا فَاتَهُ، فَيَقُول: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَلاَ يَأْتِي بِهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ، بِخِلاَفِ الأَْكْل، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا بَعْدَهُ. (3)
وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. حَيْثُ قَالُوا: لَوْ نَسِيَهَا، فَسَمَّى فِي خِلاَل الْوُضُوءِ لاَ تَحْصُل
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 100
(2) نهاية المحتاج 1 / 171
(3) نهاية المحتاج 1 / 169

(11/99)


السُّنَّةُ، بَل الْمَنْدُوبُ، (1) فَيَأْتِي بِهَا لِئَلاَّ يَخْلُوَ وُضُوءُهُ مِنْهَا.
وَأَمَّا فِي الطَّعَامِ فَتَحْصُل السُّنَّةُ فِي بَاقِيهِ. وَهَل تَكُونُ التَّسْمِيَةُ أَثْنَاءَهُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ، فَتَحْصُل فِيهِ، أَمْ لاَ تَحْصُل؟ .
قَال شَارِحُ الْمُنْيَةِ: الأَْوْلَى أَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ (2) . وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَال فِي الْوُضُوءِ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، حَصَل اسْتِدْرَاكُ السُّنَّةِ أَيْضًا، بِدَلاَلَةِ النَّصِّ. (3)
7 - أَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَفِعْلُهُمَا فَرْضٌ؛ لأَِنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَجْهِ، وَلَيْسَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَلِذَا فَلاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَيَجِبُ أَنْ يَتَدَارَكَ
__________
(1) السنة عند الحنفية: هي التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم مع الترك بلا عذر مرة أو مرتين، وحكمها الثواب، وفي تركها العتاب لا العقاب. وأما المندوب عندهم: فهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه. وحكمه الثواب بفعله وعدم ال
(2) حديث: " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى. . . " أخرجه أبو داود (4 / 140 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 288 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (4 / 108 ط دائرة المعارف العثمانية) ووافقه الذهبي
(3) رد المحتار 1 / 74 و 75

(11/100)


الْمَضْمَضَةَ بَعْدَ الاِسْتِنْشَاقِ، أَوْ بَعْدَ غَسْل الْوَجْهِ، وَحَتَّى بَعْدَ غَسْل سَائِرِ الأَْعْضَاءِ، (1) إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ تَذَكَّرَهُمَا بَعْدَ غَسْل الْيَدَيْنِ تَدَارَكَهُمَا وَغَسَل مَا بَعْدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ.

التَّدَارُكُ فِي الْغُسْل:
8 - التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالاَةُ فِي الْغُسْل غَيْرُ وَاجِبَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال اللَّيْثُ: لاَ بُدَّ مِنَ الْمُوَالاَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: وُجُوبُ الْمُوَالاَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ لأَِصْحَابِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ.
فَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ: إِذَا تَوَضَّأَ مَعَ الْغُسْل لَمْ يَلْزَمِ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ
مِنْ أَجْل ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ غَسْل عُضْوٍ أَوْ لُمْعَةٍ مِنْ عُضْوٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَمْ فِي غَيْرِهَا، تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ وَحْدَهُ بَعْدُ، طَال الْوَقْتُ أَوْ قَصُرَ، وَلَوْ غَسَل بَدَنَهُ إِلاَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ تَدَارَكَهَا، وَلَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا. (2)
وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَرَكَ الْوُضُوءَ فِي الْغُسْل، أَوِ الْمَضْمَضَةَ أَوِ الاِسْتِنْشَاقَ كُرِهَ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَلَوْ طَال الْفَصْل
__________
(1) كشاف القناع 1 / 93، 94
(2) شرح منية المصلي ص 50، وحاشية الدسوقي 1 / 133، والمغني 1 / 220، وكشاف القناع 1 / 53

(11/100)


دُونَ إعَادَةٍ لِلْغُسْل. (1) وَيَجِبُ تَدَارُكُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ إِذْ هُمَا وَاجِبَانِ فِي الْغُسْل عِنْدَهُمْ، بِخِلاَفِهِمَا فِي الْوُضُوءِ، فَهُمَا فِيهِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ (2)

تَدَارُكُ غُسْل الْمَيِّتِ:
9 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ دُونَ غُسْلٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ، لَزِمَ نَبْشُهُ وَأَنْ يُخْرَجَ وَيُغَسَّل، تَدَارُكًا لِوَاجِبِ غُسْلِهِ. أَيْ مَا لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. وَكَذَلِكَ تَكْفِينُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ يَجِبُ تَدَارُكُهُمَا بِنَبْشِهِ.
قَال الدَّرْدِيرُ: وَتُدُورِكَ نَدْبًا بِالْحَضْرَةِ (وَهِيَ مَا قَبْل تَسْوِيَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ) وَمِثَال الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تُتَدَارَكُ: تَنْكِيسُ رِجْلَيْهِ مَوْضِعَ رَأْسِهِ، أَوْ وَضْعِهِ غَيْرَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ، وَكَتَرْكِ الْغُسْل، أَوِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، فَيُتَدَارَكُ إِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. (3)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَلاَ يُنْبَشُ الْمَيِّتُ إِذَا أُهِيل عَلَيْهِ التُّرَابُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا لَوْ دُفِنَ دُونَ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 209
(2) شرح منية المصلي ص 46
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 419، والجمل على شرح المنهج 2 / 211، وكشاف القناع 2 / 86، 143

(11/101)


غُسْلٍ أَوْ صَلاَةٍ، وَيُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ دُونَ غُسْلٍ. (1)
التَّدَارُكُ فِي الصَّلاَةِ:
10 - إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ، أَوْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُجْزِئٍ، فَإِنَّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَدَارُكِهِ تَفْصِيلاً:

أ - (تَدَارُكُ الأَْرْكَانِ) :
11 - إِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكْنًا، وَكَانَ تَرْكُهُ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ حَالاً لِتَلاَعُبِهِ. وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ شَكَّ فِي تَرْكِهِ وَجَبَ تَدَارُكُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ رُكْنًا مِنْهَا، فَإِنَّ الرُّكْنَ لاَ يَسْقُطُ عَمْدًا وَلاَ سَهْوًا وَلاَ جَهْلاً وَلاَ غَلَطًا، وَيُعِيدُ مَا بَعْدَ الْمَتْرُوكِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَدَارُكِهِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (أَرْكَانِ الصَّلاَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ) .
وَقَدْ يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ مَعَ تَدَارُكِهِ، عَلَى مَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنَ الْخِلاَفِ، فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا (2) عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُجُودِ السَّهْوِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 582، 602
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 302، 310، ونهاية المحتاج 1 / 430، 521، وكشاف القناع 1 / 338، 403

(11/101)


تَدَارُكُ الْوَاجِبَاتِ:
12 - لَيْسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَاجِبَاتٌ لِلصَّلاَةِ غَيْرَ الأَْرْكَانِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ لاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا، بَل يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ إِنْ كَانَ تَرْكُهُ سَهْوًا، وَتَجِبُ إِعَادَتُهَا إِنْ كَانَ عَمْدًا مَعَ الْحُكْمِ بِإِجْزَاءِ الأُْولَى. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَوَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ - كَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَالتَّكْبِيرِ لِلاِنْتِقَال، وَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا ثُمَّ تَذَكَّرَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَدَارُكُهُ مَا لَمْ يَفُتْ مَحَلُّهُ، بِانْتِقَالِهِ بَعْدَهُ إِلَى رُكْنٍ مَقْصُودٍ؛ إِذْ لاَ يَعُودُ بَعْدَهُ لِوَاجِبٍ. فَيَرْجِعُ إِلَى تَسْبِيحِ رُكُوعٍ قَبْل اعْتِدَالٍ لاَ بَعْدَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى التَّشَهُّدِ الأَْوَّل مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ. ثُمَّ إِنْ فَاتَ مَحَل الْوَاجِبِ - كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ مَنْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الأَْوَّل - لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَفِي كِلاَ الْحَالَيْنِ يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ. (2)

- تَدَارُكُ سُنَنِ الصَّلاَةِ:
13 - السُّنَنُ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا وَلَوْ عَمْدًا،
__________
(1) شرح منية المصلي ص 13
(2) كشاف القناع 1 / 350، 404، 405

(11/102)


وَلاَ تَجِبُ الإِْعَادَةُ، وَإِنَّمَا حُكْمُ تَرْكِهَا: كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ نَسِيَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ يَسْتَدْرِكُهَا مَا لَمْ يَفُتْ مَحَلُّهَا، فَلَوْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الأَْوْسَطَ، وَتَذَكَّرَ قَبْل مُفَارَقَتِهِ الأَْرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، يَرْجِعُ لِلإِْتْيَانِ بِهِ، وَإِلاَّ فَقَدْ فَاتَ. وَأَمَّا السُّجُودُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ سُنَّةٍ، فَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (سُجُودِ السَّهْوِ) . (2)
وَالسُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ أَبْعَاضٌ يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَرْكِهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، كَالْقُنُوتِ، وَقِيَامِهِ، وَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَقُعُودِهِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ.
وَنَوْعٌ لاَ يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِهِ، كَأَذْكَارِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنْ سَجَدَ لِشَيْءٍ مِنْهَا عَامِدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ زَادَ عَلَى الصَّلاَةِ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلِهِ.
وَعَلَى كُل حَالٍ فَلاَ يُتَدَارَكُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِذَا فَاتَ مَحَلُّهُ، كَالاِسْتِفْتَاحِ إِذَا شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ. (3)
وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تُتَدَارَكُ السُّنَنُ إِذَا فَاتَ مَحَلُّهَا، كَمَا إِذَا تَرَكَ الاِسْتِفْتَاحَ حَتَّى تَعَوَّذَ، أَوْ تَرَكَ
__________
(1) شرح منية المصلي ص 13
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 278
(3) نهاية المحتاج 2 / 66 - 67، 455

(11/102)


التَّعَوُّذَ حَتَّى بَسْمَل، أَوْ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ تَرَكَ التَّأْمِينَ حَتَّى شَرَعَ فِي السُّورَةِ. لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتَعَاذَ فِي الأُْولَى عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا يَسْتَعِيذُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَدَارُكِ التَّعَوُّذِ الْفَائِتِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَسْتَعِيذُ لِلْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ. وَكَمَا لاَ تُتَدَارَكُ السُّنَنُ إِذَا فَاتَ مَحَلُّهَا، فَكَذَلِكَ لاَ يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، قَوْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً، وَإِنْ سَجَدَ لِذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ. (1)

د - تَدَارُكُ الْمَسْبُوقِ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ:
14 - مَنْ جَاءَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَدَخَل مَعَ الإِْمَامِ، لاَ يَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ مَعَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ قَبْل الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُهَا. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَأَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ تُنْظَرُ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ (صَلاَةِ الْمَسْبُوقِ) (2)

هـ - تَدَارُكُ سُجُودِ السَّهْوِ:
15 - لَوْ نَسِيَ مَنْ سَهَا فِي صَلاَتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 336، 339، 356، 393
(2) نهاية المحتاج 1 / 472، 2 / 231 - 235

(11/103)


عَنْ قُرْبٍ، يَتَدَارَكُهُ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (سُجُودُ السَّهْوِ) .

و تَدَارُكُ النَّاسِي لِلتَّكْبِيرِ فِي صَلاَةِ الْعِيدِ:
16 - إِذَا نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَاتَتْ فَلاَ يَتَدَارَكُهَا فِي الرَّكْعَةِ نَفْسِهَا، لأَِنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، كَمَا لَوْ نَسِيَ الاِسْتِفْتَاحَ أَوِ التَّعَوُّذَ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2) وَلأَِنَّهُ إِنْ أَتَى بِالتَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ أَلْغَى الْقِرَاءَةَ الأُْولَى، وَهِيَ فَرْضٌ يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْقِرَاءَةِ فَقَدْ حَصَلَتِ التَّكْبِيرَاتُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ - يُسَنُّ إِذَا نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَنْ يَتَدَارَكَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ تَكْبِيرَاتِهَا، كَمَا فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ (الْجُمُعَةِ) فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا فِيهَا سُنَّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا مَعَ سُورَةِ (الْمُنَافِقُونَ) فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَتَدَارَكُ التَّكْبِيرَاتِ إِذَا نَسِيَهَا، سَوَاءٌ أَذَكَرَهَا أَثْنَاءَ الْقِرَاءَةِ أَمْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ أَثْنَاءَ
__________
(1) المغني 2 / 34، وكشاف القناع 1 / 409، ونهاية المحتاج 2 / 86، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 257، وابن عابدين 1 / 505، والقوانين الفقهية ص 51
(2) نهاية المحتاج 2 / 379، والقليوبي 1 / 305، وكشاف القناع 2 / 54
(3) النهاية وحاشية الشبرامسلي 2 / 379، وكشاف القناع 2 / 54

(11/103)


الرُّكُوعِ. فَإِنْ نَسِيَهَا حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَاتَتْ فَلاَ يُكَبِّرُ. غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا، قَبْل أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهَا السُّورَةَ، يُعِيدُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وُجُوبًا، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ ضَمِّ السُّورَةِ كَبَّرَ وَلَمْ يُعِدِ الْقِرَاءَةَ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ تَمَّتْ فَلاَ يُحْتَمَل النَّقْضُ. (1)
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ نَاسِيَ التَّكْبِيرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا يُكَبِّرُ حَيْثُ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ أَوْ بَعْدَهَا مَا لَمْ يَرْكَعْ. وَيُعِيدُ الْقِرَاءَةَ اسْتِحْبَابًا، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ الأُْولَى وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا.
فَإِنْ رَكَعَ قَبْل أَنْ يَتَذَكَّرَ التَّكْبِيرَ تَمَادَى لِفَوَاتِ مَحَل التَّدَارُكِ، وَلاَ يَرْجِعُ لِلتَّكْبِيرِ، فَإِنْ رَجَعَ فَالظَّاهِرُ الْبُطْلاَنُ. (2)

ز - تَدَارُكُ الْمَسْبُوقِ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ:
17 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَدَارَكُ الْمَسْبُوقُ مَا فَاتَهُ مِنْ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ، فَيُكَبِّرُ لِلاِفْتِتَاحِ قَائِمًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ وَيُدْرِكَ الرُّكُوعَ فَعَل، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَكَعَ، وَاشْتَغَل بِالتَّكْبِيرَاتِ وَهُوَ رَاكِعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، وَإِنْ رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ سَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 2 / 46، والفتاوى الهندية 1 / 151، وابن عابدين 1 / 560
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 397

(11/104)


مِنَ التَّكْبِيرِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ قَائِمًا لاَ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ؛ لأَِنَّهُ يَقْضِي الرَّكْعَةَ مَعَ تَكْبِيرَاتِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَدَارَكُهَا إِنْ أَدْرَكَ الْقِرَاءَةَ مَعَ الإِْمَامِ، لاَ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا. ثُمَّ إِنْ أَدْرَكَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرَاتِ يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، ثُمَّ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ. وَلاَ يُكَبِّرُ مَا فَاتَهُ خِلاَل تَكْبِيرِ الإِْمَامِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الإِْمَامِ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةِ: إِنْ حَضَرَ الْمَأْمُومُ، وَقَدْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِالتَّكْبِيرَاتِ أَوْ بِبَعْضِهَا، لَمْ يَتَدَارَكْ شَيْئًا مِمَّا فَاتَهُ؛ لأَِنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ فَاتَ مَحَلُّهُ.
وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقْضِي؛ لأَِنَّ مَحَلَّهُ الْقِيَامُ وَقَدْ أَدْرَكَهُ. قَال الشِّيرَازِيُّ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. (3)
التَّدَارُكُ فِي الْحَجِّ:
أ - التَّدَارُكُ فِي الإِْحْرَامِ:
18 - إِنْ تَجَاوَزَ الَّذِي يُرِيدُ الْحَجَّ الْمِيقَاتَ دُونَ أَنْ يُحْرِمَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ. لَكِنْ إِنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 151، وشرح فتح القدير 2 / 46، ومراقي الفلاح ص 292
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 397.
(3) الشبرامسلي على النهاية 2 / 397، والجمل على شرح المنهج 2 / 96، وكشاف القناع 2 / 54، والمجموع 5 / 15، وانظر القليوبي 1 / 305.

(11/104)


تَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ وَالإِْحْرَامِ مِنْهُ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِنْ رَجَعَ قَبْل أَنْ يُحْرِمَ، أَمَّا إِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ دُونَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَدْ قِيل: يَسْتَقِرُّ الدَّمُ عَلَيْهِ وَلاَ يَنْفَعُهُ التَّدَارُكُ. وَقِيل: يَنْفَعُهُ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ) (1) .

ب - التَّدَارُكُ فِي الطَّوَافِ:
19 - إِنْ تَرَكَ جُزْءًا مِنَ الطَّوَافِ الْمَشْرُوعِ، كَمَا لَوْ طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ بَعْضَ طَوَافِهِ، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ، قَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ؛ لاِشْتِرَاطِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ الطَّوَافَاتِ. وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْبَعْضُ الْمُوَالاَةَ، وَمِمَّنْ قَال ذَلِكَ: سَائِرُ الشَّافِعِيَّةِ، بَل هُوَ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبٌّ. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ حَجِّهِ يَجِبُ التَّدَارُكُ مَا لَمْ يَتَحَلَّل، وَلاَ يُؤَثِّرُ الشَّكُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرَ ابْنِ الْهُمَامِ: الْفَرْضُ فِي الطَّوَافِ أَكْثَرُهُ - وَهُوَ أَرْبَعُ طَوْفَاتٍ - وَمَا زَادَ وَاجِبٌ، أَمَّا عِنْدَ ابْنِ الْهُمَامِ فَالسَّبْعُ كُلُّهَا فَرْضٌ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 266، وابن عابدين 2 / 154، وفتح القدير 3 / 40، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 24، 25، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 94.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 108، والمغني 3 / 396
(3) شرح المنهاج 2 / 108

(11/105)


كَقَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَعَلَى قَوْل جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ تَرَكَ ثَلاَثَ طَوْفَاتٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ أَقَل صَحَّ طَوَافُهُ لِفَرْضِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا نَقَصَ مِنَ الْوَاجِبِ. لَكِنْ إِنْ تَدَارَكَ فَطَافَ الأَْشْوَاطَ الْبَاقِيَةَ صَحَّ وَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَلَوْ كَانَ طَوَافُهُ بَعْدَ فَتْرَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إيقَاعُ الطَّوْفَاتِ الْمُتَمِّمَةِ قَبْل آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. (1)
وَإِنْ تَرَكَ الْحَاجُّ طَوَافَ الْقُدُومِ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلاَ يَلْزَمُهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَفِي فَوَاتِهِ بِالتَّأْخِيرِ - أَيْ عَنْ قُدُومِ مَكَّةَ - وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لاَ يَفُوتُ إِلاَّ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَإِذَا فَاتَ فَلاَ يُقْضَى. (2) عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي مُلاَحَظَةُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ، أَوْ طَافَهُ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ، كَأَنْ طَافَهُ مُحْدِثًا وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ عِنْدَ كُل مَنْ شَرَطَ لِصِحَّةِ السَّعْيِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الطَّوَافُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (3) (ر: سَعْيٌ) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ طَافَ لِلْقُدُومِ، أَوْ تَطَوُّعًا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ كَانَ جُنُبًا؛ لِوُجُوبِ الطَّوَافِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 250
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 102
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 34

(11/105)


فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لاَ غَيْرَ. وَيُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِإِعَادَةِ الطَّوَافِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ أَوِ الصَّدَقَةُ. وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ. (1)
أَمَّا الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ فَهُمَا سُنَّتَانِ فِي حَقِّ الرِّجَال، فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ خَاصَّةً، فَلَوْ تَرَكَهُمَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهُ تَدَارُكُهُمَا، وَمِثْلُهُمَا تَرْكُ الرَّمَل بَيْنَ الْمِيلَيْنِ (الأَْخْضَرَيْنِ) فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ أَوِ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: إِنْ تَرَكَ الرَّمَل فِي أَشْوَاطِ الطَّوَافِ الأُْولَى لاَ يَرْمُل بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَقْضِي الاِضْطِبَاعَ فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ. (2)

ج - التَّدَارُكُ فِي السَّعْيِ:
20 - الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ إِنْ لَمْ يَسْعَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُ السَّعْيِ، فَيَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَلاَ بُدَّ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ السَّعْيَ عِنْدَهُمْ رُكْنٌ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَاجِبٌ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 209، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 34
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 43، والمغني لابن قدامة 3 / 375 - 377، 388، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 108، وفتح القدير 2 / 358.

(11/106)


فَقَطْ، فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ يُجْبَرُ بِدَمٍ وَحَجُّهُ تَامٌّ. وَهَذَا إِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ السَّعْيَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَقَل فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ التَّصَدُّقُ بِنِصْفِ صَاعٍ عَنْ كُل شَوْطٍ، وَكُل هَذَا عِنْدَهُمْ إِنْ كَانَ التَّرْكُ بِلاَ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. (1)
وَلَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَتَرَكَ بَعْضَ الأَْشْوَاطِ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ تَرَكَ فِي بَعْضِهَا أَنْ يَصِل إِلَى الصَّفَا أَوْ إِلَى الْمَرْوَةِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، وَلَوْ كَانَ مَا تَرَكَهُ ذِرَاعًا وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ، وَيُمْكِنُ التَّدَارُكُ بِالإِْتْيَانِ بِالْبَعْضِ الَّذِي تَرَكَهُ وَلَوْ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَلاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ السَّعْيِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ بِخِلاَفِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. (2) وَقِيل: هِيَ مُشْتَرَطَةٌ فِي السَّعْيِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ: مَا لَوْ سَعَى مُبْتَدِئًا بِالْمَرْوَةِ، فَإِنَّ الشَّوْطَ الأَْوَّل لاَ يُعْتَبَرُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) الآْيَةَ ثُمَّ قَال: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ (4)
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 34، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 110، والمغني 3 / 388، وفتح القدير 2 / 466
(2) المغني 3 / 396
(3) سورة البقرة / 158.
(4) حديث " نبدأ بما بدأ الله " وفي رواية " ابدؤوا بما بدأ الله به " أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: " أبدأ بما بدأ الله "، وأخرجه مالك في الموطأ (1 / 372 ط الحلبي) من حديثه كذلك بلفظ: " نبدأ بما بدأ الله ". ولمح الحافظ ابن حجر في التلخيص (2 / 250 ط شركة الطباعة الفنية) إلى شذوذ رواية " ابدؤوا ".

(11/106)


د - الْخَطَأُ فِي الْوُقُوفِ:
21 - إِذَا وَقَفَ الْحَجِيجُ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُمْ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ أَجْزَأَهُمُ الْوُقُوفُ وَلاَ يُعِيدُونَ، دَفْعًا لِلْحَرَجِ الشَّدِيدِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ يُجْزِئُهُمُ الْوُقُوفُ إِلاَّ أَنْ يَقِلُّوا عَلَى خِلاَفِ الْعَادَةِ فِي الْحَجِيجِ، فَيَقْضُونَ هَذَا الْحَجَّ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي قَضَائِهِمْ مَشَقَّةٌ عَامَّةٌ.
أَمَّا إِذَا وَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، ثُمَّ عَلِمُوا بِخَطَئِهِمْ، وَأَمْكَنَهُمُ التَّدَارُكُ قَبْل الْفَوَاتِ، أَعَادُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمُ الْوُقُوفُ دُونَ تَدَارُكٍ؛ لأَِنَّهُمْ لَوْ أَعَادُوا الْوُقُوفَ لَتَعَدَّدَ، وَهُوَ بِدْعَةٌ، كَمَا قَال الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
أَمَّا لَوْ عَلِمُوا بِخَطَئِهِمْ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُمُ التَّدَارُكُ، لِلْفَوَاتِ، فَالْحُكْمُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُمْ هَذَا الْوُقُوفُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ لِهَذَا الْحَجِّ.

(11/107)


وَفَرَّقُوا بَيْنَ تَأْخِيرِ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا وَتَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّأْخِيرَ أَقْرَبُ إِلَى الاِحْتِسَابِ مِنَ التَّقْدِيمِ، وَبِأَنَّ اللَّفْظَ فِي التَّقْدِيمِ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْحِسَابِ، أَوِ الْخَلَل فِي الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِتَقْدِيمِ الْهِلاَل، وَالْغَلَطُ بِالتَّأْخِيرِ قَدْ يَكُونُ بِالْغَيْمِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَمِثْل ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَهَذَا أَحَدُ التَّخْرِيجَيْنِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّخْرِيجُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ الْوُقُوفَ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ - كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ - وَلأَِنَّ الْقَوْل بِعَدَمِ الإِْجْزَاءِ فِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ - كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ - (1)

هـ - التَّدَارُكُ فِي وُقُوفِ عَرَفَةَ:
22 - لَوْ تَرَكَ الْحَاجُّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلاً حَتَّى طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ، فَلاَ يُمْكِنُ التَّدَارُكُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحِل بِعُمْرَةٍ. (2)
وَلَوْ وَقَفَ نَهَارًا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْل الْغُرُوبِ، فَقَدْ أَتَى بِالرُّكْنِ، وَتَرَكَ وَاجِبَ الْوُقُوفِ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل، فَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الهداية والعناية 3 / 85، وحاشية الدسوقي 2 / 38، وشرح المحلي مع المنهاج 2 / 115، و 116، والفروع 3 / 524، وكشاف القناع 2 / 525.
(2) شرح المنهاج 2 / 115، والمغني 3 / 396.

(11/107)


وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ إِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لأَِنَّ أَخْذَ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل عَلَى هَذَا الْقَوْل سُنَّةٌ لاَ غَيْرَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الدَّمُ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ.
وَلَوْ تَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَرَفَةَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبَقِيَ إِلَى مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ اتِّفَاقًا. وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ عِنْدَهُمْ لَزِمَهُ بِالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ، فَلاَ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ يَدْفَعُ الْحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ دَفَعَ قَبْل الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْعَوْدُ لَيْلاً (تَدَارُكًا) وَإِلاَّ بَطَل حَجُّهُ. (1)

و تَدَارُكُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ:
23 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوُجُودُ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ وَلَوْ لَحْظَةً، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْل بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْمُكْثُ، بَل يَكْفِي مُجَرَّدُ الْمُرُورِ بِهَا.
وَمَنْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْل مُنْتَصَفِ اللَّيْل، وَعَادَ إِلَيْهَا قَبْل الْفَجْرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَتَى
__________
(1) المغني 3 / 494، وابن عابدين 2 / 176، 206، ونهاية المحتاج 3 / 290، والفواكه الدواني 1 / 421، والقوانين الفقهية (90) ، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 37.

(11/108)


بِالْوَاجِبِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَعَلَيْهِ دَمٌ عَلَى الأَْرْجَحِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَيَجِبُ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ لَحْظَةً، فَإِنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْعُذْرُ كَأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ، وَإِنْ أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْل ذَلِكَ لاَ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ إِنْ تَدَارَكَ الْوُقُوفَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: النُّزُول بِمُزْدَلِفَةَ بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَال - وَإِنْ لَمْ تَحُطَّ بِالْفِعْل - وَاجِبٌ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِل بِهَا بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَال حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَالدَّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَإِنْ تَرَكَ النُّزُول لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. (1)

ز - تَدَارُكُ رَمْيِ الْجِمَارِ:
24 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ - عَمْدًا أَوْ سَهْوًا - تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَدَاءً، وَفِي قَوْلٍ قَضَاءً، وَلاَ دَمَ مَعَ التَّدَارُكِ.
__________
(1) شرح فتح القدير 2 / 380، وابن عابدين 2 / 178، والشرح الكبير وعليه حاشية الدسوقي 2 / 44، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 116، والفروع 3 / 510.

(11/108)


وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَى اللَّيْل، فَرَمَى قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَلاَ شَيْءِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ اللَّيْل وَقْتٌ لِلرَّمْيِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ.
وَأَمَّا رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَرَمَى قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ تَأْخِيرَ الرَّمْيِ إِلَى اللَّيْل يَكُونُ تَدَارُكُهُ قَضَاءً، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ. (1)

ح - تَدَارُكُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ:
25 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ طَوَافًا صَحِيحًا - سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِبًا أَمْ نَفْلاً - وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ.
أَمَّا مَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ، وَخَرَجَ إِلَى بَلَدِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مُحْرِمًا لِيَطُوفَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا صَحِيحًا.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْحَجِّ.
__________
(1) البدائع 2 / 137، وفتح القدير 3 / 86، والدسوقي 2 / 51، وجواهر الإكليل 1 / 182، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 123 - 124، والمغني 3 / 5، والفروع لابن مفلح 3 / 518 - 519.

(11/109)


وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، لَكِنَّهُ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ (الْوَدَاعِ) أَوْ طَوَافَ نَفْلٍ، وَقَعَ الطَّوَافُ عَمَّا نَوَاهُ، وَلاَ يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مُحْرِمًا، لِيَطُوفَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ لأَِنَّهُ رُكْنٌ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ. (1)

ط - تَدَارُكُ طَوَافِ الْوَدَاعِ:
26 - طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ الْحَائِضِ يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهُ لِنِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ، وَهَذَا قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالثَّانِي عِنْدَهُمْ: هُوَ سُنَّةٌ لاَ يَجِبُ جَبْرُهُ، فَعَلَى قَوْل الْوُجُوبِ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَرَجَ بِلاَ وَدَاعٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِتَدَارُكِهِ إِنْ كَانَ قَرِيبًا، أَيْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ عَادَ قَبْل مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَطَافَ لِلْوَدَاعِ سَقَطَ عَنْهُ الإِْثْمُ وَالدَّمُ، وَإِنْ تَجَاوَزَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَلَوْ تَدَارَكَهُ بَعْدَهَا لَمْ يَسْقُطِ الدَّمُ، وَقِيل: يَسْقُطُ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ، وَيُجْزِئُ
__________
(1) المغني 3 / 464، والقليوبي على شرح المنهاج 2 / 103، 110، والدر المختار 2 / 187، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 36.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 125، والمغني 3 / 458 - 462.

(11/109)


عَنْهُ مَا لَوْ طَافَ نَفْلاً بَعْدَ إِرَادَةِ السَّفَرِ، فَإِنْ سَافَرَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَل ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِتَدَارُكِهِ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْمِيقَاتَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ بِعُمْرَةٍ، فَيَبْتَدِئُ بِطَوَافِهَا ثُمَّ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: طَوَافُ الْوَدَاعِ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ تَرَكَهُ وَخَرَجَ، أَوْ طَافَهُ طَوَافًا بَاطِلاً يَرْجِعُ لِتَدَارُكِهِ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رُفْقَتِهِ الَّذِينَ يَسِيرُ بِسَيْرِهِمْ، أَوْ خَافَ مَنْعًا مِنَ الْكِرَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. (1)
تَدَارُكُ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لِلْعِبَادَاتِ: أَوَّلاً - بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ:
27 - لاَ تَدَارُكَ لِمَا فَاتَ مِنْ صَلاَةٍ حَال الْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِل (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 186، والشرح الكبير والدسوقي عليه 2 / 53.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أحمد (1 / 116 ط الميمنية) والحاكم (4 / 389 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الذهبي: فيه إرسال. ولكن له شاهد من حديث عائشة، أخرجه أبو داود (4 / 558 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59) وصححه ووافقه الذهبي.

(11/110)


صَلَوَاتٍ - أَوْ سِتًّا عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ - قَضَاهَا، وَإِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ، وَقَال بِشْرٌ: الإِْغْمَاءُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الإِْغْمَاءِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَلَمْ يُوجِبُوا الْقَضَاءَ عَلَى مَا فَاتَ حَال الْجُنُونِ، وَأَوْجَبُوهُ فِيمَا فَاتَ حَال الإِْغْمَاءِ؛ لأَِنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ تَطُول مُدَّتُهُ غَالِبًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَال: هَل صَلَّيْتُ؟ قَالُوا: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلاَثٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى تِلْكَ الثَّلاَثَ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَحْوُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ.
28 - وَمَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الْوَقْتِ وَهُوَ أَهْلٌ ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَا أَدْرَكَهُ لاَ يَسَعُ الْفَرْضَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَإِنْ كَانَ مَا أَدْرَكَهُ يَسَعُ الْفَرْضَ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِيَ الأَْهْلِيَّةَ فِيهِ لاِسْتِحَالَةِ الإِْيجَابِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفًا لِبَعْضِ أَهْل الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.

(11/110)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ فَلَزِمَ الْقَضَاءُ.
29 - وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ: لاَ يُصْبِحُ مُدْرِكًا لِلْفَرْضِ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.
وَالثَّانِي، لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَصِيرُ مُدْرِكًا إِذَا أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ. (1)

ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ:
30 - إِذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ شَهْرَ رَمَضَانَ بِأَكْمَلِهِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَى الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ، أَكَانَ الْجُنُونُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 512، والاختيار 1 / 77، والزيلعي 1 / 203 - 204، والبدائع 1 / 95 - 96 - 246، والفروق للقرافي 2 / 137، وجواهر الإكليل 1 / 34، والكافي لابن عبد البر 1 / 238، والمهذب 1 / 60 - 61 وأسنى المطالب 1 / 123، والمغني 1 / 373 - 397 - 400، وكشاف القناع 1 / 259.

(11/111)


أَصْلِيًّا أَمْ عَارِضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِحَدِيثِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ. . . وَإِذَا اسْتَوْعَبَ الإِْغْمَاءُ الشَّهْرَ كُلَّهُ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَدَلِيل وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَالإِْغْمَاءُ مَرَضٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْنُونِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَالْجُنُونُ مَرَضٌ، وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ مِثْل ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْنُونِ.
وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ.
وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ فَقَال: لاَ قَضَاءَ لِمَا فَاتَ فِي الْجُنُونِ الأَْصْلِيِّ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا كَانَ الْجُنُونُ عَارِضًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ قَضَاءَ لِمَا فَاتَ زَمَنَ الْجُنُونِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ - وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِمَا فَاتَ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
31 - أَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُدْرِكًا لِصِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ إِنْ كَانَ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

(11/111)


وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَاسْتَمَرَّ الْجُنُونُ أَوِ الإِْغْمَاءُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نِصْفَ يَوْمٍ فَأَقَل أَجْزَأَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الإِْغْمَاءُ أَوِ الْجُنُونُ مَعَ الْفَجْرِ أَوْ قَبْلَهُ فَالْقَضَاءُ مُطْلَقًا؛ لِزَوَال الْعَقْل وَقْتَ النِّيَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ يَضُرُّ صَوْمَهُ إِذَا أَفَاقَ لَحْظَةً مِنْ نَهَارٍ، أَيَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ، اكْتِفَاءً بِالنِّيَّةِ مَعَ الإِْفَاقَةِ فِي جُزْءٍ.
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَضُرُّ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: لاَ يَضُرُّ إِذَا أَفَاقَ أَوَّل النَّهَارِ. وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ جُنَّ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: فِي الْجَدِيدِ يَبْطُل الصَّوْمُ؛ لأَِنَّهُ عَارِضٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلاَةِ فَأَبْطَل الصَّوْمَ، وَقَال فِي الْقَدِيمِ: هُوَ كَالإِْغْمَاءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْجُنُونُ كَالإِْغْمَاءِ يُجْزِئُ صَوْمُهُ إِذَا كَانَ مُفِيقًا فِي أَيِّ لَحْظَةٍ مِنْهُ مَعَ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ.
32 - أَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي تَحْدُثُ فِيهِ الإِْفَاقَةُ مِنَ الْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَجْنُونَ جُنُونًا عَارِضًا لَوْ أَفَاقَ فِي النَّهَارِ قَبْل الزَّوَال، فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ. وَفِي الْجُنُونِ الأَْصْلِيِّ خِلاَفٌ، وَيُجْزِئُ فِي الإِْغْمَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَفَاقَ قَبْل الْفَجْرِ أَجْزَأَ ذَلِكَ الْيَوْمُ عَنِ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى

(11/112)


عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الإِْفَاقَةُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي النَّهَارِ فَعَلَى الأَْصَحِّ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الإِْمْسَاكُ، وَهَذَا فِي وَجْهٍ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي: يَجِبُ الْقَضَاءُ، أَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِذَا أَفَاقَ أَجْزَأَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي قَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفَاقَ فِيهِ الْمَجْنُونُ وَإِمْسَاكِهِ رِوَايَتَانِ، أَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَيَصِحُّ صَوْمُهُ إِنْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ. (1)

ثَالِثًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ:
33 - مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ ثُمَّ أَفَاقَ مِنْهُ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَوَقَفَ، أَجْزَأَهُ الْحَجُّ بِاتِّفَاقٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ لِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، وَلَكِنَّهُ أَفَاقَ مِنْ قَبْل الْوُقُوفِ، وَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ أَيْضًا الْمَجْنُونُ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِ الإِْحْرَامِ عَنْهُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ - إِذَا أَفَاقَا قَبْل الْوُقُوفِ وَوَقَفَا أَجْزَأَهُمَا الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 123، والبدائع 2 / 88 - 89، وفتح القدير 2 / 285، وجواهر الإكليل 1 / 148، والشرح الصغير 1 / 247 ط الحلبي، والمهذب 1 / 184، 192، ونهاية المحتاج 3 / 183، والمغني 3 / 98، 99، 156، ومنتهى الإرادات 1 / 118.

(11/112)


بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُفِيقٌ، أَوْ أَحْرَمَ وَلِيُّهُ عَنْهُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: كَانَ حَجُّهُمَا صَحِيحًا، مَعَ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ وُقُوعِهِ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَانَ حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ صَحِيحًا، وَفِي الْمَجْنُونِ خِلاَفٌ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل جَمِيعِ مَا مَرَّ فِي الْعِبَادَاتِ فِي: (صَلاَةٍ، صَوْمٍ، حَجٍّ، جُنُونٍ، إِغْمَاءٍ) .

تَدَارُكُ الْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنِ الإِْيمَاءِ:
34 - مَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ فِي الصَّلاَةِ بِرَأْسِهِ لِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ (عَيْنِهِ) وَنَوَى بِقَلْبِهِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلاَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَوْمَأَ بِطَرْفِهِ (2) .
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِطَرْفِهِ أَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ، فَإِنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 147، 188، 189، والبدائع 2 / 121، وجواهر الإكليل 1 / 160 - 161، ومنح الجليل 1 / 434، 476، ونهاية المحتاج 3 / 230، 234، 290، وأشباه السيوطي 234، والمغني 3 / 249، 255، 416، وشرح منتهى الإرادات 2 / 13، 58.
(2) الحديث " يصلي المريض قائما. . . " عزاه الزيلعي في نصب الراية (2 / 176 ط المجلس العلمي) إلى الدارقطني في سننه، وضعفه.

(11/113)


لَمْ يَسْتَطِعْ أَتَى بِالصَّلاَةِ بِقَدْرِ مَا يُطِيقُ وَلَوْ بِنِيَّةِ أَفْعَالِهَا، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا مَا دَامَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَقْلٍ، وَيَأْتِي بِالصَّلاَةِ بِأَنْ يَقْصِدَ الصَّلاَةَ بِقَلْبِهِ مُسْتَحْضِرًا الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال إِنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) .
وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرَ زُفَرَ: الإِْيمَاءُ يَكُونُ بِالرَّأْسِ فَقَطْ وَلاَ يَكُونُ بِعَيْنَيْهِ أَوْ جَبِينِهِ أَوْ قَلْبِهِ؛ لأَِنَّ فَرْضَ السُّجُودِ لاَ يَتَأَتَّى بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ، بِخِلاَفِ الرَّأْسِ لأَِنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ السُّجُودِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْحَال لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَرَأَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لاَ غَيْرَ نَفْيًا لِلْحَرَجِ. (2)

تَدَارُكُ النَّاسِي وَالسَّاهِي:
35 - النِّسْيَانُ أَوِ السَّهْوُ إِنْ وَقَعَ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ، بَل يَجِبُ تَدَارُكُهُ. فَمَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ زَكَاةً أَوْ كَفَّارَةً أَوْ نَذْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِالْقَضَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ،
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) الاختيار 1 / 76 - 77، والبدائع 1 / 107، 246، والفواكه الدواني 1 / 285، ونهاية المحتاج 1 / 450، والمهذب 1 / 108، وكشاف القناع 1 / 499، وشرح منتهى الإرادات 1 / 271.

(11/113)


لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) .
وَتَكُونُ الصَّلاَةُ أَدَاءً إِذَا أَدَّى مِنْهَا رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ، أَوِ التَّحْرِيمَةَ عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ تَدَارَكَهَا بِالْقَضَاءِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةٍ، صَوْمٍ، زَكَاةٍ) .

تَدَارُكُ مَنْ أَفْسَدَ عِبَادَةً شَرَعَ فِيهَا مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ:
36 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ عِبَادَةً مَفْرُوضَةً وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إِنْ كَانَ وَقْتُهَا يَسَعُهَا كَالصَّلاَةِ، أَوِ الْقَضَاءُ إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ كَانَ لاَ يَسَعُهَا كَالصَّلاَةِ إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَكَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ لِعَدَمِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَتَجِبُ إِتْمَامُهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ تَجِبُ بِالشُّرُوعِ، وَيُسْتَحَبُّ الإِْتْمَامُ فِيمَا عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَلْزَمَانِ بِالشُّرُوعِ، وَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ". . أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) .
(2) أشباه ابن نجيم 303، والبدائع 1 / 245، وحاشية الدسوقي 1 / 184، وأشباه السيوطي 207، 429 ط عيسى الحلبي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 118.

(11/114)


دَخَل فِي عِبَادَةِ تَطَوُّعٍ وَأَفْسَدَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) .
وَلاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَقَال: إِنِّي إِذًا أَصُومُ، ثُمَّ دَخَل عَلَيَّ يَوْمًا آخَرَ فَقَال: هَل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَال: إِذًا أُفْطِرُ، وَإِنْ كُنْت قَدْ فَرَضْتُ الصَّوْمَ (2) .
أَمَّا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَيَجِبُ قَضَاؤُهُمَا إِذَا أَفْسَدَهُمَا؛ لأَِنَّ الْوُصُول إِلَيْهِمَا لاَ يَحْصُل فِي الْغَالِبِ إِلاَّ بَعْدَ كُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِهَذَا يَجِبَانِ بِالشُّرُوعِ. (3)

تَدَارُكُ الْمُرْتَدِّ لِمَا فَاتَهُ:
37 - مَا فَاتَ الْمُرْتَدَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، إِذَا تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ،
__________
(1) سورة محمد / 33.
(2) حديث عائشة: " هل عندك شيء؟ " أخرجه مسلم (2 / 809 ط الحلبي) والدارقطني في سننه (2 / 175 - ط دار المحاسن - مصر) واللفظ له.
(3) ابن عابدين 1 / 463 - 464، والبدائع 1 / 290 - 291، والحطاب 2 / 90، والمهذب 1 / 195، وكشاف القناع 2 / 324.

(11/114)


وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ (2) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ أَيَّامَ رِدَّتِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ كَانَ مُقِرًّا بِإِسْلاَمِهِ وَلأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ.
38 - وَمَا فَاتَهُ أَيَّامَ إِسْلاَمِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ قَبْل رِدَّتِهِ وَحَال إِسْلاَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنَ الرِّدَّةِ؛ لاِسْتِقْرَارِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ حَال إِسْلاَمِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُطَالَبُ بِمَا فَاتَهُ قَبْل رِدَّتِهِ، فَالرِّدَّةُ تُسْقِطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ إِلاَّ الْحَجَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُل، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِذَا أَسْلَمَ؛ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ وَهُوَ الْعُمْرُ.
39 - وَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَأَدْرَكَ وَقْتَ صَلاَةٍ، أَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ (3)
.
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث: " الإسلام يجب ما قبله ". أخرجه أحمد (4 / 199 - ط الميمنية) وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 351 ط القدسي) إلى أحمد والطبراني وقال: رجالهما ثقات.
(3) ابن عابدين 1 / 494 و 3 / 302، وأشباه ابن نجيم 189، 326، وحاشية الدسوقي 4 / 307، والمهذب 1 / 51، والجمل 1 / 288، وكشاف القناع 6 / 184.

(11/115)


تَدَاوِي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدَاوِي لُغَةً: مَصْدَرُ تَدَاوَى أَيْ: تَعَاطَى الدَّوَاءَ، وَأَصْلُهُ دَوِيَ يَدْوِي دَوًى أَيْ مَرِضَ، وَأَدْوَى فُلاَنًا يُدْوِيهِ بِمَعْنَى: أَمْرَضَهُ، وَبِمَعْنَى: عَالَجَهُ أَيْضًا، فَهِيَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَيُدَاوِي: أَيْ يُعَالِجُ، وَيُدَاوِي بِالشَّيْءِ أَيْ: يُعَالِجُ بِهِ، وَتَدَاوَى بِالشَّيْءِ: تَعَالَجَ بِهِ، وَالدَّوَاءُ وَالدِّوَاءُ وَالدُّوَاءُ: مَا دَاوَيْتُهُ بِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَدُل عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُهُمْ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّطْبِيبُ:
2 - التَّطْبِيبُ لُغَةً: الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلاَجُ، يُقَال: طَبَّ فُلاَنٌ فُلاَنًا أَيْ: دَاوَاهُ، وَجَاءَ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ: أَيْ يَسْتَوْصِفُ الأَْدْوِيَةَ أَيُّهَا يَصْلُحُ لِدَائِهِ.
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح والمعجم الوسيط مادة: " دوي ".

(11/115)


وَالطِّبُّ: عِلاَجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، فَالتَّطْبِيبُ مُرَادِفٌ لِلْمُدَاوَاةِ (1) .

ب - التَّمْرِيضُ:
3 - التَّمْرِيضُ مَصْدَرُ مَرَّضَ، وَهُوَ التَّكَفُّل بِالْمُدَاوَاةِ. يُقَال: مَرَّضَهُ تَمْرِيضًا: إِذَا قَامَ عَلَيْهِ وَوَلِيَهُ فِي مَرَضِهِ وَدَاوَاهُ لِيَزُول مَرَضُهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: التَّمْرِيضُ حُسْنُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرِيضِ (2) .

ج - الإِْسْعَافُ:
4 - الإِْسْعَافُ فِي اللُّغَةِ: الإِْعَانَةُ وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُدَاوَاةِ، وَيَكُونُ الإِْسْعَافُ فِي حَال الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّدَاوِي؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي حَال الْمَرَضِ. (3)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّدَاوِي مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل لِكُل دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (4) ، وَلِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومختار الصحاح مادة: " طبب ".
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " مرض "
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " سعف ".
(4) حديث: " إن الله أنزل الداء والدواء. . . " أخرجه أبو داود (4 / 217 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المناوي: فيه إسماعيل بن عياش وفيه مقال (فيض القدير 2 / 216 - ط المكتبة التجارية بمصر) .

(11/116)


قَال: قَالَتِ الأَْعْرَابُ يَا رَسُول اللَّهِ أَلاَ نَتَدَاوَى؟ قَال: نَعَمْ عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا. قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَال: الْهَرَمُ (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ: فَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَال: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل. (2)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (3) وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَدَاوَى، فَقَدْ رَوَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَقُول لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّتَاهُ، لاَ أَعْجَبُ مِنْ فِقْهِك، أَقُول: زَوْجَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ
__________
(1) حديث: " نعم عباد الله تداووا. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 383 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن شريك وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " ما أرى بها بأسا. . . " أخرجه مسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(3) حديث: " لا بأس بالرقى. . . " جزء من حديث عوف بن مالك السابق.

(11/116)


النَّاسِ، أَقُول: ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ، كَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَال: فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَتْ: " أَيْ عُرَيَّةُ؟ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَكَانَتْ تَنْعَتُ لَهُ الأَْنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ، فَمِنْ ثَمَّ عَلِمْتُ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ (1) .
وَقَال الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُول: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الأَْدْيَانِ وَعِلْمُ الأَْبْدَانِ. (2)
6 - وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ، غَيْرَ أَنَّ عِبَارَةَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بَأْسَ بِالتَّدَاوِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل
__________
(1) حديث عروة مع عائشة: أخرجه أحمد (6 / 67 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (9 / 242 - ط القدس) فيه عبد الله بن معاوية الزبيري، قال أبو حاتم: مستقيم الحديث، وفيه ضعف.
(2) الفواكه الدواني 2 / 439، وروضة الطالبين 2 / 96، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 193، والمغني لابن قدامة 5 / 539، وزاد المعاد 3 / 66 وما بعدها ط مصطفى الحلبي، والآداب الشرعية 2 / 365، وما بعدها، وتحفة الأحوذي 6 / 190 ط الفجالة الجديدة.

(11/117)


لِكُل دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (1) .
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، وَاَلَّتِي فِيهَا الأَْمْرُ بِالتَّدَاوِي. قَالُوا: وَاحْتِجَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَدَاوِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّدَاوِي. وَمَحَل الاِسْتِحْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَطْعِ بِإِفَادَتِهِ. أَمَّا لَوْ قَطَعَ بِإِفَادَتِهِ كَعَصْبِ مَحَل الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَل، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالُوا: لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّل. (2)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الأَْمْرُ بِالتَّدَاوِي، وَأَنَّهُ لاَ يُنَافِي التَّوَكُّل، كَمَا لاَ يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا، بَل لاَ تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلاَّ بِمُبَاشَرَةِ الأَْسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ مُقْتَضِيَاتٍ لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَأَنَّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التَّوَكُّل، كَمَا يَقْدَحُ فِي الأَْمْرِ وَالْحِكْمَةِ، وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُهَا أَنَّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التَّوَكُّل، فَإِنَّ تَرْكَهَا عَجْزٌ يُنَافِي التَّوَكُّل الَّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُول مَا يَنْفَعُ
__________
(1) حديث: " إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء " تقدم تخريجه (ف 5) .
(2) ابن عابدين 5 / 215، 249، والهداية تكملة فتح القدير 8 / 134، والفواكه الدواني 2 / 440، وروضة الطالبين 2 / 96، وكشاف القناع 2 / 76، والإنصاف 2 / 463، والآداب الشرعية 2 / 359 وما بعدها، وحاشية الجمل 2 / 134.

(11/117)


الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلاَ بُدَّ مَعَ هَذَا الاِعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الأَْسْبَابِ، وَإِلاَّ كَانَ مُعَطِّلاً لِلْحِكْمَةِ وَالشَّرْعِ، فَلاَ يَجْعَل الْعَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلاً، وَلاَ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا (1) .

أَنْوَاعُ التَّدَاوِي:
7 - التَّدَاوِي قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ، فَالتَّدَاوِي بِالْفِعْل: يَكُونُ بِتَنَاوُل الأَْغْذِيَةِ الْمُلاَئِمَةِ لِحَال الْمَرِيضِ، وَتَعَاطِي الأَْدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ، وَيَكُونُ بِالْفَصْدِ وَالْكَيِّ وَالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ.
فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ (2) وَفِي رِوَايَةٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ (3) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ، وَاللَّدُودُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشْيُ (4) وَإِنَّمَا كَرِهَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الأَْلَمِ الشَّدِيدِ وَالْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُول فِي أَمْثَالِهَا "
__________
(1) زاد المعاد 4 / 15 ط الرسالة.
(2) حديث: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 137 - ط السلفية) .
(3) حديث: " وما أحب أن أكتوي ". أخرجه مسلم (4 / 1430 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) حديث: " خير ما تداويتم به السعوط. . . " أخرجه الترمذي (4 / 388 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف. (ميزان الاعتدال للذهبي 2 / 376 - ط الحلبي) .

(11/118)


آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ " وَقَدْ كَوَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَغَيْرَهُ، وَاكْتَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ لَيْسَ الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْفِيرُ عَنِ الْكَيِّ إِذَا قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَصْرَ فِي الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَى أُصُول الْعِلاَجِ.
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّرْكِ: فَيَكُونُ بِالْحِمْيَةِ، وَذَلِكَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ كُل مَا يُزِيدُ الْمَرَضَ أَوْ يَجْلِبُهُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ أَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوِ الاِمْتِنَاعِ عَنِ الدَّوَاءِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ يَزِيدُ مِنْ حِدَّةِ الْمَرَضِ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَأْكُل مِنَ الدَّوَالِي إِنَّك نَاقِهٌ (1) .

التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (2)
__________
(1) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 78 - ط السلفية) معلقا، ووصله الإمام أحمد من قول ابن مسعود موقوفا عليه في كتاب الأشربة (ص 63 ط وزارة الأوقاف العراقية) وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 79 - ط السلفية) .

(11/118)


وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَل الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَل لِكُل دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (1)
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ " إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُدَلِّكُ بِالْخَمْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ كَمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، فَلاَ تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ، فَإِنَّهَا نَجَسٌ ".
وَقَدْ عَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ فِي كُل نَجَسٍ وَمُحَرَّمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ خَمْرًا، أَمْ مَيْتَةً، أَمْ أَيَّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدَاوِي بِهِ عَنْ طَرِيقِ الشُّرْبِ أَوْ طِلاَءِ الْجَسَدِ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صِرْفًا أَوْ مَخْلُوطًا مَعَ دَوَاءٍ جَائِزٍ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةً وَاحِدَةً أَجَازُوا التَّدَاوِيَ بِهِمَا، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ التَّدَاوِي بِالطِّلاَءِ، وَيُخَافُ بِتَرْكِهِ الْمَوْتُ، سَوَاءٌ كَانَ الطِّلاَءُ نَجَسًا أَوْ مُحَرَّمًا، صِرْفًا أَوْ مُخْتَلِطًا بِدَوَاءٍ جَائِزٍ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ كُل مُسْتَخْبَثٍ، كَبَوْل مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِهِ، إِلاَّ أَبْوَال الإِْبِل فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الدَّوَاءَ الْمَسْمُومَ إِنْ غَلَبَتْ مِنْهُ
__________
(1) حديث: " إن الله أنزل الداء والدواء " سبق تخريجه (ف 5) .

(11/119)


السَّلاَمَةُ، وَرُجِيَ نَفْعُهُ، أُبِيحَ شُرْبُهُ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، كَغَيْرِهِ مِنَ الأَْدْوِيَةِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ، بِغَيْرِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا إِلَى حُرْمَةِ التَّدَاوِي بِصَوْتِ مَلْهَاةٍ، كَسَمَاعِ الْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ.
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، وَلاَ يَجِدُ دَوَاءً غَيْرَهُ، قَالُوا: وَمَا قِيل إِنَّ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَإِنَّ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ إِنَّمَا لاَ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، أَمَّا إِذَا عَلِمَ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَهُ، فَيَجُوزُ.
وَمَعْنَى قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَ الْمُحَرَّمِ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَغْنِي بِالْحَلاَل عَنِ الْحَرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَال تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلاَ يَكُونُ الشِّفَاءُ بِالْحَرَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْحَلاَل.
وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى النَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ الصِّرْفِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِمَا، أَمَّا إِذَا كَانَا مُسْتَهْلَكَيْنِ مَعَ دَوَاءٍ آخَرَ، فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِمَا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالطِّبِّ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فِي نَفْسِهِ، أَوْ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَأَنْ يَتَعَيَّنَ هَذَا الدَّوَاءُ فَلاَ يُغْنِي عَنْهُ طَاهِرٌ.

(11/119)


وَإِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ لِتَعْجِيل الشِّفَاءِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُمْ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) .

التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَال لِحِكَّةٍ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي الْقَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (2) . وَرَوَى أَنَسٌ أَيْضًا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَيَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمْل فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِي الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ (3) وَجَازَ لِلْمَرِيضِ قِيَاسًا عَلَى الْحِكَّةِ وَالْقَمْل.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 113، 215، وحاشية الدسوقي 4 / 353، 354، والفواكه الدواني 2 / 441، وحواشي الشرواني وابن القاسم على التحفة 9 / 170، وقليوبي وعميرة 3 / 203، وكشاف القناع 2 / 76، 6 / 116، 200، والإنصاف 2 / 463، 464، والفروع 2 / 165 وما بعدها.
(2) حديث: " رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في سفر في. . . " أخرجه مسلم (3 / 1646 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل فأرخص. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 101 - ط السلفية) .

(11/120)


وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهِ فِي الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ لُبْسُهُ فِي زَوَالِهَا، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَافِعًا فِي لُبْسِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ عَصْبَ الْجِرَاحَةِ بِالْحَرِيرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1)
10 - كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الأَْنْفِ مِنَ الذَّهَبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: السِّنَّ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الأُْنْمُلَةَ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى جَوَازِ رَبْطِ السِّنِّ أَوِ الأَْسْنَانِ بِالذَّهَبِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلاَبِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ (2) .
وَلِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَأَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، وَأَبِي رَافِعِ بْنِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِسْمَاعِيل بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ شَدُّوا أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ. وَالسِّنُّ مَقِيسٌ عَلَى الأَْنْفِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقِيَاسِ الأُْنْمُلَةَ دُونَ الأُْصْبُعِ وَالْيَدِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 226، والفواكه الدواني 2 / 403، وقليوبي وعميرة 1 / 302، وكشاف القناع 1 / 282، والمغني 1 / 589.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم عرفجة فاتخذ أنفا من ذهب " أخرجه الترمذي (4 / 240 - ط الحلبي) وحسنه.

(11/120)


الأُْنْمُلَةِ وَالأُْصْبُعِ أَوِ الْيَدِ أَنَّهَا تَعْمَل بِخِلاَفِهِمَا، وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ الْجَوَازَ عَلَى الأَْنْفِ فَقَطْ لِضَرُورَةِ نَتْنِ الْفِضَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. قَالُوا: وَقَدِ انْدَفَعَتْ فِي السِّنِّ بِالْفِضَّةِ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الأَْعْلَى، وَهُوَ الذَّهَبُ. (1)

تَدَاوِي الْمُحْرِمِ:
11 - الأَْصْل أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ فَمَاتَ: لاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تُحَنِّطُوهُ (2) فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنَ الطِّيبِ لإِِحْرَامِهِ فَالْحَيُّ أَوْلَى، وَمَتَى تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لأَِنَّهُ اسْتَعْمَل مَا حُظِرَ عَلَيْهِ بِالإِْحْرَامِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَاللِّبَاسِ.
وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الأَْصْل مَا لَوْ تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالطِّيبِ، أَوْ بِمَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا الْحُكْمَ بِالطِّيبِ بِنَفْسِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَل مِمَّا فِيهِمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بِسَبَبِ مَا يُلْقَى فِيهِمَا مِنَ الأَْنْوَارِ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 231، وحاشية الدسوقي 1 / 63، والفواكه الدواني 2 / 404، وقليوبي وعميرة 2 / 23، 24، وكشاف القناع 2 / 238.
(2) حديث: " لا تمسوه طيبا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 137 - ط السلفية) .

(11/121)


فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنْ تَدَاوَى بِهَا.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ، ثُمَّ خَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا مَعَ الأُْولَى، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ تَبْرَأِ الأُْولَى، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَصْدِهِ وَعَدَمِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إِذَا خَضَّبَ (أَيِ الْمُحْرِمُ) رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لأَِجْل الْمُعَالَجَةِ مِنَ الصُّدَاعِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا صَحِيحٌ أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ خِلاَفٌ؛ لأَِنَّ التَّغْطِيَةَ مُوجِبَةٌ بِالاِتِّفَاقِ، غَيْرَ أَنَّهَا لِلْعِلاَجِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّمَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: فِيهِ صَدَقَةٌ؛ لأَِنَّهُ يُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيَقْتُل الْهَوَامَّ، فَإِنِ اسْتَعْمَل زَيْتًا مُطَيَّبًا كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ، فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ طِيبٌ، وَهَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَصْل الطِّيبِ، أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لأَِنَّهُ طِيبٌ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي. (1)
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: أَنَّ الْجَسَدَ وَبَاطِنَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 225 - 227 ط دار صادر.

(11/121)


الْكَفِّ وَالرِّجْل يَحْرُمُ دَهْنُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا كُلًّا أَوْ بَعْضًا، إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَإِلاَّ فَلاَ حُرْمَةَ. وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَإِنْ كَانَ الدُّهْنُ مُطَيَّبًا افْتَدَى مُطْلَقًا كَانَ الإِْدْهَانُ لِعِلَّةٍ أَوْ لاَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ افْتَدَى أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ فَقَوْلاَنِ. وَفِي الْكُحْل إِذَا كَانَ فِيهِ طِيبٌ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالزِّينَةِ، وَلاَ حُرْمَةَ إِذَا اسْتَعْمَلَهُ لِضَرُورَةِ حَرٍّ وَنَحْوِهِ، وَالْفِدْيَةُ لاَزِمَةٌ لِمُسْتَعْمِلِهِ مُطْلَقًا اسْتَعْمَلَهُ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ الْكُحْل لاَ طِيبَ فِيهِ فَلاَ فِدْيَةَ مَعَ الضَّرُورَةِ، وَافْتَدَى فِي غَيْرِهَا. (1)
وَفِي الإِْقْنَاعِ لِلشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ اسْتِعْمَال الطِّيبِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ غَيْرَهُ، وَلَوْ أَخْشَمَ بِمَا يَقْصِدُ مِنْهُ رَائِحَتَهُ غَالِبًا وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَبُ لِلصَّبْغِ وَالتَّدَاوِي أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَلْبُوسِهِ كَثَوْبِهِ أَمْ فِي بَدَنِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ (2) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِأَكْلٍ أَمِ اسْتِعَاطٍ أَمِ احْتِقَانٍ، فَيَجِبُ مَعَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةُ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 61.
(2) حديث: " لا تلبسوا من الثياب ما مسه ورس أو زعفران ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 401 - ط السلفية) .

(11/122)


وَلَوِ اسْتَهْلَكَ الطِّيبَ فِي الْمُخَالِطِ لَهُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ رِيحٌ وَلاَ طَعْمٌ وَلاَ لَوْنٌ، كَأَنِ اُسْتُعْمِل فِي دَوَاءٍ، جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَكْلُهُ وَلاَ فِدْيَةَ. وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الأَْكْل أَوِ التَّدَاوِي لاَ يَحْرُمُ وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، كَالتُّفَّاحِ وَالسُّنْبُل وَسَائِرِ الأَْبَازِيرِ الطَّيِّبَةِ كَالْمُصْطَكَى؛ لأَِنَّ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الأَْكْل أَوِ التَّدَاوِي لاَ فِدْيَةَ فِيهِ. (1)
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ حُرْمَةُ التَّدَاوِي بِمَا لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لِلْمُحْرِمِ. أَمَّا مَا لاَ طِيبَ فِيهِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالشَّحْمِ وَدُهْنِ الْبَانِ فَنَقَل الأَْثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْهُنُ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَقَال: نَعَمْ يَدْهُنُ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُل. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَدَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالُوا: أَلاَ نَدْهُنُكَ بِالسَّمْنِ؟ فَقَال: لاَ. قَالُوا: أَلَيْسَ تَأْكُلُهُ؟ قَال: لَيْسَ أَكْلُهُ كَالإِْدْهَانِ بِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَال: إِنْ تَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (2)

أَثَرُ التَّدَاوِي فِي الضَّمَانِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُدَاوِ جُرْحَهُ وَمَاتَ كَانَ عَلَى الْجَانِي الضَّمَانُ؛ لأَِنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلاَ مُسْتَحَبٍّ، فَتَرْكُهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ.
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 239 ط مصطفى الحلبي.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 315، 322 م الرياض الحديثة.

(11/122)


وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ عِلاَجِ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِلاَجَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَمَاتَ، فَعَلَى الْجَانِي الضَّمَانُ؛ لأَِنَّ الْبُرْءَ لاَ يَوْثُقُ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجُرْحُ غَيْرَ مُهْلِكٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْجَانِي. (1)
التَّدَاوِي بِالرُّقَى وَالتَّمَائِمِ:
13 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَل بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَال: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (2) وَمَا لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ فَيُمْنَعُ احْتِيَاطًا.
وَقَال قَوْمٌ: لاَ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ (3) وَأُجِيبَ بِأَنَّ
__________
(1) حواشي الشرواني وابن القاسم على التحفة 8 / 385، وحاشية الجمل 5 / 14، وكشاف القناع 5 / 505، والإنصاف 9 / 434.
(2) حديث عوف بن مالك: " كنا نرقي في الجاهلية " أخرجه مسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة " أخرجه الترمذي (4 / 394 - ط الحلبي) واختلف في إسناده كما بينه الحافظ ابن حجر في الفتح (10 / 156 - ط السلفية) ، ورجح كون هذه الرواية محفوظة.

(11/123)


مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهِ أَنَّهُمَا أَصْل كُل مَا يَحْتَاجُ إِلَى الرُّقْيَةِ، وَقِيل: الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ مَعْنَى الأَْفْضَل، أَوْ لاَ رُقْيَةَ أَنْفَعَ، كَمَا قِيل لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو الْفَقَارِ.
وَقَال قَوْمٌ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الرُّقَى مَا يَكُونُ قَبْل وُقُوعِ الْبَلاَءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتَّوَلَةَ شِرْكٌ (1)
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ لأَِنَّهُمْ أَرَادُوا دَفْعَ الْمَضَارِّ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلاَ يَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَكَلاَمِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ اسْتِعْمَال ذَلِكَ قَبْل وُقُوعِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِ " قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ (2) .
وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " أخرجه أحمد (1 / 381 - ط الميمنية) والحاكم (4 / 417، 418 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " كان إذا أوى إلى فراشه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 209 ط السلفية) .

(11/123)


التَّامَّةِ، مِنْ كُل شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ (1) .
قَال الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقْيَةِ فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ يَرْقِيَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَعْرِفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قُلْتُ: أَيَرْقِي أَهْل الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَال: نَعَمْ إِذَا رَقُوا بِمَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ، وَقَال ابْنُ التِّينِ: الرُّقْيَةُ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ، إِذَا كَانَ عَلَى لِسَانِ الأَْبْرَارِ مِنَ الْخَلْقِ حَصَل الشِّفَاءُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا عَزَّ هَذَا النَّوْعُ فَزِعَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ الْجُسْمَانِيِّ. (2)
__________
(1) حديث: " كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 408 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 10 / 195 وما بعدها ط الرياض، وحاشية ابن عابدين 5 / 232، والفواكه الدواني 2 / 439، 442، والفتاوى الحديثية ص 88، وكشاف القناع 2 / 77.

(11/124)


تَدْبِيرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - دَبَّرَ الرَّجُل عَبْدَهُ تَدْبِيرًا: إِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالتَّدْبِيرُ فِي الأَْمْرِ: النَّظَرُ إِلَى مَا تَئُول إِلَيْهِ عَاقِبَةُ الأَْمْرِ، وَالتَّدْبِيرُ أَيْضًا: عِتْقُ الْعَبْدِ عَنْ دُبُرٍ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرِ (2) .

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّدْبِيرُ نَوْعٌ مِنَ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ، وَيَكُونُ كَفَّارَةً لِلْجِنَايَاتِ، إِمَّا وُجُوبًا أَيْ فِي قَتْل الْخَطَأِ، وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ نَدْبًا (3) أَيْ فِي قَتْل الْعَمْدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لأَِنَّ الْعِتْقَ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (4) .
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح مادة: " دبر ".
(2) المغني 9 / 386.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 359، 382.
(4) سورة هود / 114.

(11/124)


وَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَيُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ مَال الْمَيِّتِ فِي قَوْل بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. (1)

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ:
3 - يُؤَدِّي التَّدْبِيرُ إِلَى حُرِّيَّةِ الْمُدَبَّرِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ دَبَّرَهُ، وَالشَّارِعُ يَحْرِصُ عَلَى تَحْرِيرِ الرِّقَابِ، وَالتَّدْبِيرُ طَرِيقَةٌ مُيَسَّرَةٌ لِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ تَدُومُ مَعَهُ مَنْفَعَةُ الرَّقِيقِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ قُرْبَةً لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

صِيغَتُهُ:
4 - يَثْبُتُ التَّدْبِيرُ بِكُل لَفْظٍ يُفِيدُ إِثْبَاتَ الْعِتْقِ لِلْمَمْلُوكِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، كَأَنْ يَقُول، مُعَلِّقًا: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ يَقُول مُضِيفًا لِمُسْتَقْبَلٍ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. وَلاَ تُفِيدُ الصِّيغَةُ حُكْمَهَا إِلاَّ إِذَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ عَلَى سَبِيل الْوَصِيَّةِ.

آثَارُهُ:
5 - الْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّدْبِيرِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُرْهَنُ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْكِ إِلاَّ
__________
(1) المغني 9 / 387.

(11/125)


بِالإِْعْتَاقِ وَالْكِتَابَةِ، وَيُسْتَخْدَمُ وَيُسْتَأْجَرُ، وَمَوْلاَهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ وَأَرْشِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُبَاعُ مُطْلَقًا فِي الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ، وَعِنْدَ حَاجَةِ السَّيِّدِ إِلَى بَيْعِهِ وَعَدَمِهَا. لِحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي. فَبَاعَهُ مِنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ وَقَال: أَنْتَ أَحْوَجُ مِنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (1)
وَفَسَّرَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَاجَةَ هُنَا بِالدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَيْدًا احْتِرَازِيًّا، بَل هُوَ اتِّفَاقِيٌّ لِمَا وَرَدَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (2) .

مِنْ مُبْطِلاَتِهِ:
6 - مِنْ مُبْطِلاَتِ التَّدْبِيرِ: قَتْل الْمُدَبَّرِ سَيِّدَهُ، وَاسْتِغْرَاقُ تَرِكَةِ السَّيِّدِ بِالدَّيْنِ. وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ وَأَحْكَامٌ فِي الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفَةٌ لاَ حَاجَةَ لإِِيرَادِهَا؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الرِّقِّ الآْنَ.
__________
(1) حديث: " أن رجلا أعتق مملوكا. . . " أخرج أصله البخاري (الفتح 4 / 354 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1289 ط الحلبي) واللفظ للبيهقي (10 / 310 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) الدر المختار 3 / 32، 33، والقليوبي 4 / 359، والدسوقي 4 / 385، والمغني 9 / 393.

(11/125)


تَدْخِينٌ

انْظُرْ: تَبَغٌ

تَدْرِيسٌ

انْظُرْ: تَعْلِيمٌ

(11/126)


تَدْلِيسٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدْلِيسُ: مَصْدَرُ دَلَّسَ، يُقَال: دَلَّسَ فِي الْبَيْعِ وَفِي كُل شَيْءٍ: إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ عَيْبَهُ.
وَالتَّدْلِيسُ فِي الْبَيْعِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَمِنْ هَذَا أُخِذَ التَّدْلِيسُ فِي الإِْسْنَادِ. (1)
وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ كِتْمَانُ الْعَيْبِ.
قَال صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.
وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَدْلِيسُ الإِْسْنَادِ. وَهُوَ: أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ مُوهِمًا أَنَّهُ لَقِيَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ.
وَالآْخَرُ: تَدْلِيسُ الشُّيُوخِ. وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ
__________
(1) مختار الصحاح والمصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب. مادة: " دلس ".

(11/126)


عَنْ شَيْخٍ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْهُ فَيُسَمِّيهِ أَوْ يُكَنِّيهِ، وَيَصِفُهُ بِمَا لَمْ يُعْرَفْ بِهِ كَيْ لاَ يُعْرَفَ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِلاَبَةُ:
2 - الْخِلاَبَةُ هِيَ: الْمُخَادَعَةُ. وَقِيل: هِيَ الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ. (2)
وَالْخِلاَبَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لأَِنَّهَا كَمَا تَكُونُ بِسَتْرِ الْعَيْبِ، قَدْ تَكُونُ بِالْكَذِبِ وَغَيْرِهِ.

ب - التَّلْبِيسُ:
3 - التَّلْبِيسُ مِنَ اللَّبْسِ، وَهُوَ: اخْتِلاَطُ الأَْمْرِ. يُقَال: لَبَّسَ عَلَيْهِ الأَْمْرَ يُلَبِّسُهُ لَبْسًا فَالْتَبَسَ. إِذَا خَلَطَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَعْرِفَ جِهَتَهُ، وَالتَّلْبِيسُ كَالتَّدْلِيسِ وَالتَّخْلِيطِ، شُدِّدَ لِلْمُبَالَغَةِ. (3)
وَالتَّلْبِيسُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لأَِنَّ التَّدْلِيسَ يَكُونُ بِإِخْفَاءِ الْعَيْبِ، وَالتَّلْبِيسُ يَكُونُ بِإِخْفَاءِ الْعَيْبِ، كَمَا يَكُونُ بِإِخْفَاءِ صِفَاتٍ أَوْ وَقَائِعَ أَوْ غَيْرِهَا لَيْسَتْ صَحِيحَةً.

ج - التَّغْرِيرُ:
4 - وَهُوَ مِنَ الْغَرَرِ، يُقَال: غَرَّرَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 77، وتدريب الراوي ص 139 - 143 ط الأولى 1379 هـ - 1959 م.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " خلب ".
(3) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " لبس ".

(11/127)


تَغْرِيرًا وَتَغِرَّةً: عَرَّضَهُمَا لِلْهَلَكَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ. وَيُقَال: غَرَّهُ يَغُرُّهُ غَرًّا وَغُرُورًا وَغُرَّةً: خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِل.
وَالتَّغْرِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ، وَالْغَرَرُ: مَا انْطَوَتْ عَنْكَ عَاقِبَتُهُ. (1)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّغْرِيرُ أَعَمَّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ لأَِنَّ الْغَرَرَ قَدْ يَكُونُ بِإِخْفَاءِ عَيْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُجْهَل عَاقِبَتُهُ.

د - الْغِشُّ:
5 - وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْغِشِّ، مَصْدَرُ غَشَّهُ: إِذَا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلاَفَ مَا أَضْمَرَهُ. (2) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ؛ إِذِ التَّدْلِيسُ خَاصٌّ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّدْلِيسَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا (3)
__________
(1) متن اللغة، والمبسوط 13 / 194، والمهذب 1 / 262.
(2) القاموس والمصباح المنير. مادة " غش ".
(3) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 ط الحلبي) .

(11/127)


وَقَال عَلَيْهِ أَفْضَل الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ: مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَل فِي مَقْتِ اللَّهِ، وَلَمْ تَزَل الْمَلاَئِكَةُ تَلْعَنُهُ (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2)
وَلِهَذَا يُؤَدِّبُ الْحَاكِمُ الْمُدَلِّسَ؛ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِحَقِّ الْعِبَادِ.

التَّدْلِيسُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل تَدْلِيسٍ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ لأَِجْلِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ: كَتَصْرِيَةِ الشِّيَاهِ وَنَحْوِهَا قَبْل بَيْعِهَا لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، وَصَبْغَ الْمَبِيعِ بِلَوْنٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِ الْخِيَارِ بِالتَّصْرِيَةِ بِحَدِيثِ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ (3) . وَقِيسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، وَهُوَ كُل فِعْلٍ مِنَ الْبَائِعِ
__________
(1) حديث: " من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 755 - ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس، وشيخه ضعيف.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء " أخرجه مسلم (3 / 1159 - ط الحلبي) .

(11/128)


بِالْمَبِيعِ يَظُنُّ الْمُشْتَرِي بِهِ كَمَالاً فَلاَ يُوجَدُ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالتَّصْرِيَةِ لِذَاتِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ التَّلْبِيسِ وَالإِْيهَامِ (1)
شَرْطُ الرَّدِّ بِالتَّدْلِيسِ:
8 - لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِمُجَرَّدِ التَّدْلِيسِ، بَل يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَعْلَمَ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ قَبْل الْعَقْدِ، فَإِنْ عَلِمَ فَلاَ خِيَارَ لَهُ لِرِضَاهُ بِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْعَيْبُ ظَاهِرًا، أَوْ مِمَّا يَسْهُل مَعْرِفَتُهُ.
وَيَثْبُتُ خِيَارُ التَّدْلِيسِ فِي كُل مُعَاوَضَةٍ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. (2)
التَّدْلِيسُ الْقَوْلِيُّ:
9 - التَّدْلِيسُ الْقَوْلِيُّ كَالتَّدْلِيسِ الْفِعْلِيِّ فِي الْعُقُودِ، كَالْكَذِبِ فِي السِّعْرِ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَاتِ (وَهِيَ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْحَطِيطَةُ) فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ التَّدْلِيسِ. (3)
التَّدْلِيسُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 469، وجواهر الإكليل 2 / 42، والمغني 4 / 157، وحاشية ابن عابدين 4 / 71، وحاشية الدسوقي 3 / 228، والفروع 4 / 93.
(2) المصادر السابقة، ومطالب أولي النهى 3 / 105، ومغني المحتاج 2 / 64، والفروع 4 / 93، وابن عابدين 4 / 71، والزرقاني 5 / 181.
(3) روضة الطالبين 3 / 470، وشرح الزرقاني 5 / 133.

(11/128)


وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَلَّسَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، بِأَنْ كَتَمَ عَيْبًا فِيهِ، يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلاَ قَبْلَهُ. أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَصْفًا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَال كَإِسْلاَمٍ، وَبَكَارَةٍ، وَشَبَابٍ، فَتَخَلُّفُ الشَّرْطِ: يُثْبِتُ لِلْمُدَلَّسِ عَلَيْهِ وَالْمَغْرُورِ بِخَلْفِ الْمَشْرُوطِ خِيَارَ فَسْخِ النِّكَاحِ. (1)
وَقَال: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِعَيْبٍ، فَالنِّكَاحُ عِنْدَهُمْ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ.
وَقَالُوا: إِنَّ فَوْتَ الاِسْتِيفَاءِ أَصْلاً بِالْمَوْتِ لاَ يُوجِبُ الْفَسْخَ، فَاخْتِلاَلُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى بِأَلاَّ يُوجِبَ الْفَسْخَ؛ وَلأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ، وَالْمُسْتَحَقُّ هُوَ التَّمَكُّنُ، وَهُوَ حَاصِلٌ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبٍ فِي الزَّوْجِ مِنَ الْعُيُوبِ الثَّلاَثَةِ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ فَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ أَوِ الْبَقَاءِ مَعَهُ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْوُصُول إِلَى حَقِّهَا بِمَعْنًى فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا، أَوْ عِنِّينًا بِخِلاَفِ الرَّجُل؛ لأَِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 176 - 183، ومغني المحتاج 3 / 202 - 208، وقليوبي 3 / 261، ومطالب أولي النهى 5 / 141 - 150، والزرقاني 3 / 235 - 243، والمغني 6 / 650.

(11/129)


عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلاَقِ (1)
وَالْكَلاَمُ عَنِ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ مَوْطِنُهُ بَابُ النِّكَاحِ.

سُقُوطُ الْمَهْرِ بِالْفَسْخِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ يَقُول بِالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ قَبْل الدُّخُول، أَوِ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ يُسْقِطُ الْمَهْرَ.
وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالزَّوْجِ فَهِيَ الْفَاسِخَةُ (أَيْ طَالِبَةُ الْفَسْخِ) فَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِهَا فَسَبَبُ الْفَسْخِ مَعْنًى وُجِدَ فِيهَا، فَكَأَنَّهَا هِيَ الْفَاسِخَةُ؛ لأَِنَّهَا غَارَّةٌ وَمُدَلِّسَةٌ.
وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُول، بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ إِلاَّ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ بِالدُّخُول، فَلاَ يَسْقُطُ بِحَادِثٍ بَعْدَهُ. (2)
رُجُوعُ الْمَغْرُورِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ:
12 - إِنْ فَسَخَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ بَعْدَ الدُّخُول، يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ وَكِيلٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) الهداية 2 / 26 - 27، وفتح القدير 4 / 133 - 134 ط إحياء التراث العربي بيروت، وابن عابدين 2 / 593.
(2) مغني المحتاج 3 / 204 - 205، وشرح الزرقاني 3 / 243 - 244، والمغني 6 / 655.

(11/129)


وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لِلتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ بِإِخْفَاءِ الْعَيْبِ الْمُقَارِنِ (1)
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؛ لاِسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ. أَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلاَ يَرْجِعُ جَزْمًا. (2)
أَمَّا هَل خِيَارُ الْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَهَل يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ؟ وَحُكْمِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ، وَالتَّفْصِيل فِي ذَلِكَ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيرٌ) (وَفَسْخٌ) .

الْمَغْرُورُ بِخَلْفِ الشَّرْطِ:
13 - لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَال، مِمَّا لاَ يَمْنَعُ عَدَمُهُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَبَكَارَةٍ وَشَبَابٍ وَإِسْلاَمٍ، أَوْ نَفْيِ عَيْبٍ لاَ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ كَأَلاَّ تَكُونَ عَوْرَاءَ أَوْ خَرْسَاءَ، أَوْ شَرَطَ مَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَال وَلاَ النَّقْصَ كَطُولٍ وَبَيَاضٍ وَسُمْرَةٍ، فَتَخَلَّفَ الشَّرْطُ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَثَبَتَ لِلْمَغْرُورِ خِيَارُ الْفَسْخِ. (3) عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيرٌ، وَشَرْطٌ) .
__________
(1) الزرقاني 3 / 244، والمغني 6 / 656، ومغني المحتاج 3 / 205.
(2) مغني المحتاج 3 / 205، وروضة الطالبين 7 / 181.
(3) مغني المحتاج 3 / 208، والمغني 6 / 526، والزرقاني 3 / 238.

(11/130)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِخَلْفِ الشَّرْطِ.
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَلَوْ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَالْعُذْرَةِ (الْبَكَارَةِ) وَالْجَمَال، وَالرَّشَاقَةِ، وَصِغَرِ السِّنِّ: فَظَهَرَتْ ثَيِّبًا عَجُوزًا شَوْهَاءَ، ذَاتَ شِقٍّ مَائِلٍ، وَلُعَابٍ سَائِلٍ، وَأَنْفٍ هَائِلٍ، وَعَقْلٍ زَائِلٍ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (1) .

تَأْدِيبُ الْمُدَلِّسِ:
14 - يُؤَدَّبُ الْمُدَلِّسُ بِالتَّعْزِيرِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ زَاجِرًا وَمُؤَدِّبًا.
جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: قَال مَالِكٌ: مَنْ بَاعَ شَيْئًا وَبِهِ عَيْبٌ غَرَّ بِهِ أَوْ دَلَّسَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ غَشَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، أَوْ غَرَّهُ، أَوْ دَلَّسَ بِعَيْبٍ: أَنْ يُؤَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ: أَحَدُهُمَا لِلَّهِ؛ لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَالآْخَرُ لِلْمُدَلَّسِ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَلاَ يَتَدَاخَلاَنِ، (2) وَتَعْزِيرُ الْمُدَلِّسِ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، كَكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ. (3)
__________
(1) فتح القدير 4 / 133 دار إحياء التراث العربي لبنان بيروت.
(2) مواهب الجليل 4 / 449، وشرح الزرقاني 5 / 133.
(3) قليوبي 4 / 205، وابن عابدين 3 / 182، ومطالب أولي النهى 3 / 531.

(11/130)


تَدْمِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّدْمِيَةُ لُغَةً: مِنْ دَمَّيْتُهُ تَدْمِيَةً: إِذَا حَزَبْتُهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ، وَمِثْلُهُ أَدْمَيْتُهُ (1)
وَاصْطِلاَحًا: قَوْل الْمَقْتُول قَبْل مَوْتِهِ: دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ، أَوْ قَتَلَنِي فُلاَنٌ
وَهُوَ اصْطِلاَحُ الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ قَدْ تَنَاوَل هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ وَلَمْ يُسَمِّهَا بِالتَّدْمِيَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّامِيَةُ
2 - الدَّامِيَةُ هِيَ: جِرَاحَةٌ تُضْعِفُ الْجِلْدَ حَتَّى يَرْشَحَ مِنْهُ شَيْءٌ كَالدَّمِ مِنْ غَيْرِ انْشِقَاقِ الرَّأْسِ. (2) وَهِيَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي لَهَا أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ، فَهِيَ غَيْرُ التَّدْمِيَةِ الاِصْطِلاَحِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهَا وَالتَّدْمِيَةُ لُغَةً مِنْ بَابٍ وَاحِدَةٍ
__________
(1) لسان العرب، مادة: " دمي ".
(2) جواهر الإكليل 2 / 259، ورحمة الأمة ص 265 ط البابي الحلبي.

(11/131)


3 - الإِْشْعَارُ هُوَ إِدْمَاءُ الْهَدْيِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ بِطَعْنٍ أَوْ رَمْيٍ أَوْ وَجْءٍ بِحَدِيدَةٍ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ. (1)
فَالإِْشْعَارُ تَدْمِيَةٌ لُغَةً، وَلَيْسَ كَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ (التَّدْمِيَةَ) مِنَ اللَّوْثِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْقَسَامَةُ، إِنْ صَدَرَ مِنْ حُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، إِنْ شَهِدَ عَلَى قَوْلِهِ عَدْلاَنِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ. وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ التَّدْمِيَةُ الْحَمْرَاءُ، وَهِيَ إِنْ كَانَ بِالْمَقْتُول جُرْحٌ. وَأَثَرُ الضَّرْبِ أَوِ السُّمِّ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْجُرْحِ، وَالْعَمَل بِالتَّدْمِيَةِ قَوْل اللَّيْثِ.
أَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ رَأَوْا أَنَّ قَوْل الْمَقْتُول: دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ، دَعْوَى مِنَ الْمَقْتُول وَالنَّاسُ لاَ يُعْطَوْنَ بِدَعْوَاهُمْ، وَالأَْيْمَانُ لاَ تُثْبِتُ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا تَرُدُّهَا مِنَ الْمُنْكِرِ.
وَرَأَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الشَّخْصَ عِنْدَ مَوْتِهِ لاَ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْكَذِبِ فِي سَفْكِ الدَّمِ، كَيْفَ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْدَمُ فِيهِ النَّادِمُ وَيُقْلِعُ فِيهِ الظَّالِمُ. وَمَدَارُ الأَْحْكَامِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِكَوْنِ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً احْتِيَاطًا فِي الدِّمَاءِ؛ وَلأَِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْقَاتِل إِخْفَاءُ الْقَتْل
__________
(1) لسان العرب، مادة: " شعر ".

(11/131)


عَلَى الْبَيِّنَاتِ، فَاقْتَضَى الاِسْتِحْسَانُ ذَلِكَ. (1)
أَمَّا التَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ، فَهِيَ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا جُرْحٌ، وَلاَ أَثَرُ ضَرْبٍ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ قَبُولِهَا. فَإِذَا قَال الْمَيِّتُ فِي حَال مَرَضِهِ، وَلَيْسَ بِهِ جُرْحٌ، وَلاَ أَثَرُ ضَرْبٍ: قَتَلَنِي فُلاَنٌ، أَوْ دَمِّي عِنْدَ فُلاَنٍ، فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ. (2)
وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَفِي الْقَسَامَةِ.

تَدْيِينٌ

انْظُرْ: دِيَانَةٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 288.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 288، وشرح الزرقاني 8 / 54.

(11/132)


تَذْفِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّذْفِيفُ بِالذَّال وَبِالدَّال فِي اللُّغَةِ: الإِْجْهَازُ عَلَى الْجَرِيحِ، وَهُوَ قَتْلُهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ الإِْسْرَاعُ بِقَتْلِهِ، يُقَال: ذَفَفْتُ عَلَى الْقَتِيل: إِذَا أَسْرَعْتَ فِي قَتْلِهِ، وَيُقَال: ذَفَفْتُ عَلَى الْجَرِيحِ إِذَا عَجَّلْتَ قَتْلَهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّذْفِيفِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ:

أ - التَّذْفِيفُ فِي الْجِهَادِ:
2 - يَجُوزُ التَّذْفِيفُ عَلَى جَرْحَى الْكُفَّارِ فِي الْمَعْرَكَةِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُمْ أَحْيَاءً ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " ذفف "، والنظم المستعذب شرح غريب المهذب بذيل المهذب 2 / 219.
(2) الاختيار 4 / 152، وجواهر الإكليل 2 / 277، والمهذب 2 / 219، والمغني 8 / 109.

(11/132)


وَتَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِهَادٌ) . (1)

ب - الإِْجْهَازُ عَلَى جَرِيحِ الْبُغَاةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جَرْحَى الْبُغَاةِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَلِّيهِمْ. فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْل مُدْبِرِهِمْ وَالإِْجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى هَذِهِ الْفِئَةِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَتَجَمَّعُوا وَيُثِيرُوا الْفِتْنَةَ تَارَةً أُخْرَى، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْل الإِْسْلاَمِ، وَقَتْلِهِمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُذَفَّفْ عَلَيْهِمْ يَتَحَيَّزُونَ إِلَى الْفِئَةِ، وَيَعُودُ شَرُّهُمْ كَمَا كَانَ، (2) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ قَائِمَةٌ يَحْرُمُ قَتْل جَرْحَى الْبُغَاةِ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَل: لاَ تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ. وَقَدْ حَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْبُغَاةِ فِئَةٌ. (3) وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ جَرِيحَ الْبُغَاةِ وَمُدْبِرَهُمْ يَخْتَارُ الإِْمَامُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 377، والسياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية لابن تيمية ص 193 ط الثانية، ونهاية المحتاج 8 / 65 ط الجهاد، وكشاف القناع 3 / 50.
(2) البدائع 7 / 140، 141، وفتح القدير 4 / 411.
(3) فتح القدير 4 / 412 ط بولاق.

(11/133)


مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، تَارِكًا هَوَى النَّفْسِ وَالتَّشَفِّي، وَإِنْ وُجِدَتِ الْفِئَةُ. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَرْحَى الْبُغَاةِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَدَى تَيَقُّنِ الإِْمَامِ مِنَ الْتِحَاقِهِمْ بِالْبُغَاةِ، أَوْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَمِنَ الإِْمَامُ بَغْيَهُمْ لاَ يَجُوزُ لَهُ اتِّبَاعُ مُنْهَزِمِهِمْ، وَلاَ التَّذْفِيفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ الإِْمَامُ بَغْيَهُمُ اتَّبَعَ مُنْهَزِمَهُمْ، وَذَفَّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، حَسَبَ مُقْتَضَيَاتِ مَصْلَحَةِ الْحَرْبِ لِحُصُول الْمَقْصُودِ. (2)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ الْفِئَةِ الَّتِي يُحْتَمَل التَّحَيُّزُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ هِيَ الأَْسَاسُ عِنْدَهُمْ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ) .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلاَ يَتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا إِلَيْهِمْ، لاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ لأَِمْنِ غَائِلَتِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالتَّذْفِيفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. (4)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ أَهْل الْبَغْيِ إِذَا تَرَكُوا الْقِتَال بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلاَحِ،
__________
(1) حاشية رد المحتار 4 / 265.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 299، 300 ط عيسى الحلبي بمصر.
(3) الشرح الصغير للدردير 4 / 429.
(4) نهاية المحتاج 7 / 386، 387، والمهذب 2 / 221 ط دار المعرفة / بيروت - لبنان.

(11/133)


أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، (1) وَبِهَذَا قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2)
وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الآْثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْل الْمُدْبِرِ وَالإِْجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال يَوْمَ الْجَمَل: لاَ يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ. كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ؟ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَنْ لاَ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُقْتَل أَسِيرُهُمْ، وَلاَ يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ. (3) وَلأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْقَتْل، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْدُ إِلَى الْقَتْل مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ (ر: بُغَاةٌ) .

ج - التَّذْفِيفُ فِي الذَّبَائِحِ:
4 - مِنْ صُوَرِ الذَّكَاةِ مَا إِذَا رَمَى الصَّيْدَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَلاَ يَحِل إِلاَّ بِتَذْكِيَتِهِ. أَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَبْقَ بِهِ إِلاَّ حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 114، 115.
(2) المهذب 2 / 219.
(3) حديث: " يا ابن مسعود. . . " أخرجه الحاكم (2 / 155 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: قلت: كوثر - يعني ابن حكيم راويه عن نافع - متروك. وكذا أعله البيهقي في سننه الكبرى (8 / 182 - ط دائرة المعارف العثمانية) .

(11/134)


فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَحِل وَلَوْ لَمْ يُذَفَّفْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ لاَ تُعْتَبَرُ حَيَاةً عِنْدَهُمْ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - فِيمَا نَقَل عَنْهُ الْجَصَّاصُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل مَا لَمْ يُذَفَّفْ عَلَيْهِ بِالتَّذْكِيَةِ؛ لأَِنَّهُ يَعْتَبِرُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ حَيَاةً. وَالنَّقْل الرَّاجِحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوَافِقُ الْجُمْهُورَ. (1)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) (وَذَبَائِحٌ) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 201، 202، والاختيار 5 / 19، والتاج والإكليل 3 / 207 - 209، والمغني لابن قدامة 8 / 573 - 575، والوجيز 2 / 212 ط دار المعرفة. بيروت - لبنان.

(11/134)


تَذَكُّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّذْكِيرُ وَالتَّذَكُّرُ: مِنْ مَادَّةِ ذَكَرَ، ضِدُّ نَسِيَ، يُقَال: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ بَعْدَ نِسْيَانٍ، وَذَكَرْتُهُ بِلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَتَذَكَّرْتُهُ، وَأَذْكَرْتُهُ غَيْرِي، وَذَكَّرْتُهُ تَذْكِيرًا. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّهْوُ:
2 - السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: نِسْيَانُ الشَّيْءِ وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ وَذَهَابُ الْقَلْبِ إِلَى غَيْرِهِ، فَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلاَةِ: الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: السَّهْوُ مِنَ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَالسَّهْوُ عَنْهُ: تَرْكُهُ مَعَ الْعِلْمِ، (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة: " ذكر ".
(2) لسان العرب، والمصباح مادة: " سها ".
(3) سورة الماعون / 5.

(11/135)


وَاصْطِلاَحًا، قَال صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ: السَّهْوُ زَوَال الصُّورَةِ عَنِ الْمُدْرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْحَافِظَةِ، (1) وَقِيل: هُوَ الذُّهُول عَنِ الشَّيْءِ، بِحَيْثُ لَوْ نُبِّهَ لَهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ لَتَنَبَّهَ (2)
وَفِي الْمِصْبَاحِ: إِنَّ السَّهْوَ لَوْ نُبِّهَ صَاحِبُهُ لَمْ يَتَنَبَّهْ

ب - النِّسْيَانُ:
3 - النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ، يُقَال: نَسِيَهُ نَسْيًا، وَنِسْيَانًا، وَهُوَ تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (3) أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَحَرَمَهُمْ رَحْمَتَهُ. وَيُقَال: رَجُلٌ نِسْيَانٌ أَيْ: كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ (4) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الذُّهُول عَنِ الشَّيْءِ، لَكِنْ لاَ يَتَنَبَّهُ لَهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ، لِكَوْنِ الشَّيْءِ قَدْ زَال مِنَ الْمُدْرِكَةِ وَالْحَافِظَةِ مَعًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ (5)
__________
(1) الشبراملسي على النهاية 2 / 62.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 495 ط دار إحياء التراث العربي لبنان، وحاشية الدسوقي 1 / 272.
(3) سورة التوبة / 67.
(4) لسان العرب مادة: " نسي ".
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 495، وحاشية الدسوقي 1 / 273، والشبرامسلي على النهاية 2 / 62.

(11/135)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَذَكُّرُ الْمُصَلِّي لِصَلاَتِهِ بَعْدَ الأَْكْل فِيهَا:
4 - قَال الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: (1) لاَ تَبْطُل صَلاَةُ مَنْ أَكَل نَاسِيًا وَإِنْ كَثُرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَكَل فِي الصَّلاَةِ نَاسِيًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ قَل. (3)
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ إِذَا كَانَ قَلِيلاً. (4)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةٍ) (وَنِسْيَانٍ) .

سَهْوُ الإِْمَامِ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ بِعَدَمِ الإِْتْمَامِ لاَ يُعْتَبَرُ شَكُّهُ، وَعَلَيْهِ الأَْخْذُ بِقَوْلِهِمْ. أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ مَثَلاً أَنَّهُ مَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَشَكَّ فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ أَعَادَ احْتِيَاطًا. أَمَّا
__________
(1) المغني 2 / 62، وحاشية الدسوقي 1 / 289.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . " أخرجه الحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وحسنه النووي كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 230 - نشر دار الكتب العلمية) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 418.
(4) روضة الطالبين 1 / 296.

(11/136)


إِذَا كَذَّبَهُ، فَلاَ يُعِيدُ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الإِْمَامُ وَالْقَوْمُ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ لَمْ يُعِدْ، وَإِلاَّ أَعَادَ بِقَوْلِهِمْ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَتْهُ جَمَاعَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، يُفِيدُ خَبَرُهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِتَمَامِ صَلاَتِهِ أَوْ نَقْصِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ مَأْمُومِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ تَيَقَّنَ كَذِبَهُمْ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَعْمَل بِالْخَبَرِ إِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَكَانَا مِنْ مَأْمُومِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مَأْمُومِيهِ فَلاَ يَرْجِعُ لِخَبَرِهِمَا، بَل يَعْمَل عَلَى يَقِينِهِ.
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَالْمَأْمُومُ فَلاَ يَرْجِعَانِ لِخَبَرِ الْعَدْلَيْنِ، وَإِنْ أَخْبَرَ الإِْمَامَ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِالتَّمَامِ فَلاَ يَرْجِعُ لِخَبَرِهِ، بَل يَبْنِي عَلَى يَقِينِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ بِالنَّقْصِ (2) رَجَعَ لِخَبَرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الإِْمَامَ إِذَا شَكَّ هَل صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ أَخَذَ بِالأَْقَل، وَلاَ يُعْمَل بِتَذْكِيرِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانُوا جَمْعًا غَفِيرًا كَانُوا يَرْقُبُونَ صَلاَتَهُ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّذْكِيرُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ
__________
(1) حاشية الطحاوي 1 / 317، وحاشية ابن عابدين 1 / 507.
(2) المدونة الكبرى 2 / 133، وحاشية الدسوقي 1 / 283.
(3) روضة الطالبين 1 / 308، وحاشية الجمل 1 / 454 - 455.

(11/136)


فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ. (1)
وَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ، وَعَوْدِهِ لِلصَّلاَةِ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْل الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَذَكُّرِهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ لأَِنَّهُمْ بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ، أَيِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا سَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ بِقَوْلِهِمَا لِتَذْكِيرِهِ، لَزِمَهُ الْقَبُول وَالرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمَا، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خِلاَفُهُ. وَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَجَعَ إِلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا: " أَحَقٌّ مَا قَال ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالاَ: نَعَمْ " (3) مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِيمَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ بِدَلِيل أَنَّهُ أَنْكَرَهُ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ لِيُذَكِّرُوا الإِْمَامَ، وَيَعْمَل بِقَوْلِهِمْ. (4) وَلِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى فَزَادَ أَوْ نَقَصَ. . . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ،
__________
(1) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى. . . " أخرجه مسلم (1 / 400 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " ذي اليدين " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 99 ط السلفية) ومسلم (1 / 404 - ط عيسى الحلبي) .
(4) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 77 - ط السلفية) .

(11/137)


فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي. (1) وَإِنْ سَبَّحَ وَاحِدٌ لِتَذْكِيرِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَيَعْمَل بِغَالِبِ ظَنِّهِ، لاَ بِتَسْبِيحِ الْغَيْرِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَل قَوْل ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ. وَإِنْ ذَكَّرَهُ فَسَقَةٌ بِالتَّسْبِيحِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِمْ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ (2) .

تَذَكُّرُ الصَّائِمِ لِصَوْمِهِ وَهُوَ يَأْكُل:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَذَكَّرَ وَأَمْسَكَ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَكَل نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلاَ يُفْطِرُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ (3) .
وَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ أَكَل نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ.
وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، فَكَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ مَا يُخَالِفُ عَمْدُهُ سَهْوَهُ كَالصَّلاَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَطَاوُوسٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ.
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون. . . " أخرجه مسلم (1 / 400 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 2 / 20.
(3) حديث: " من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 549 - ط السلفية) . وفي رواية: " من أكل أو شرب ناسيا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 100 - ط عيسى الحلبي) .

(11/137)


وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبُ قَلِيلاً، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَقَدْ أَفْطَرَ (1) ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .

تَذَكُّرُ الْقَاضِي لِحُكْمٍ قَضَاهُ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رَأَى خَطَأً فِي حُكْمِهِ، لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ فِي إِمْضَاءِ الْحُكْمِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لأَِنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّزْوِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى خَتْمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ إِنْفَاذُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَحُكْمِ غَيْرِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِْمَامُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ، وَتَحْتَ يَدِهِ جَازَ الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَحْتَمِل التَّغْيِيرَ فِيهِ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَمَل بِالْخَطِّ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 394 وما بعدها ط مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 514، ونهاية المحتاج 3 / 169، والمغني 3 / 116.
(2) قليوبي 4 / 304، وروضة الطالبين 11 / 157، وحاشية ابن عابدين 4 / 375، والمغني لابن قدامة 9 / 76.

(11/138)


خَطُّهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطُّ بِيَدِهِ؛ لأَِنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ فِي مِثْل ذَلِكَ، وَأَثَرُ التَّغْيِيرِ يُمْكِنُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ، وَقَلَّمَا يَتَشَابَهُ الْخَطُّ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ جَازَ الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ، تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ. (1)
أَمَّا إِذَا شَهِدَ عَدْلاَنِ عِنْدَ الْقَاضِي: بِأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَمَل بِقَوْلِهِمَا:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ الْعَمَل بِذَلِكَ وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِل، فَكَذَلِكَ يُقْبَل إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ. وَلأَِنَّهُمَا شَهِدَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَجِبُ قَبُول شَهَادَتِهِمَا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يَعْمَل بِقَوْلِهِمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ. (3)

تَذَكُّرُ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ وَعَدَمُهُ:
8 - إِذَا رَأَى الشَّاهِدُ بِخَطِّهِ شَهَادَةً أَدَّاهَا عِنْدَ حَاكِمٍ، وَلَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 354 ط إحياء التراث العربي ببيروت.
(2) المغني 9 / 76 - 77، وحاشية الدسوقي 4 / 159.
(3) قليوبي 4 / 304 و 305، وروضة الطالبين 11 / 159.

(11/138)


يَشْهَدْ عَلَى مَضْمُونِهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ لإِِمْكَانِ التَّزْوِيرِ. (1)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)

تَذَكُّرُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ وَعَدَمُهُ:
9 - أَمَّا رِوَايَةُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَرْوِيَ مَضْمُونَ خَطِّهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، لِعَمَل الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا. وَقَدْ يَتَسَاهَل فِي الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّهَا تُقْبَل مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ. (3) هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُعْمَل بِهَا لِمُشَابَهَةِ الْخَطِّ بِالْخَطِّ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. (4)

تَذْكِيرٌ

انْظُرْ: تَذَكُّرٌ
.
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 157، وحاشية الدسوقي 4 / 193.
(2) المغني 9 / 160، وابن عابدين 4 / 375.
(3) روض الطالب 4 / 308، وروضة الطالبين 11 / 157.
(4) ابن عابدين 4 / 375.

(11/139)


تَذْكِيَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ذَكَّى، وَالاِسْمُ (الذَّكَاةُ) وَمَعْنَاهَا: إِتْمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّل لِحِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا. (2)
هَذَا تَعْرِيفُ الْجُمْهُورِ،
وَيُعْرَفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: بِأَنَّهُ السَّبِيل الشَّرْعِيَّةُ لِبَقَاءِ طَهَارَةِ الْحَيَوَانِ، وَحِل أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولاً، وَحِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ذكي " والقرطبي 6 / 52، 53. وحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه ". أخرجه أحمد (3 / 39 - ط الميمنية) وحسنه المنذري كما في نصب الراية للزيلعي (4 / 189 - ط المجلس العلمي) .
(2) الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 1 / 312.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 186، 195 - 196 و 305، والاختيار 5 / 9، وجواهر الإكليل 1 / 208، والقليوبي 4 / 342، والمغني لابن قدامة 8 / 573، 275.

(11/139)


أَنْوَاعُ التَّذْكِيَةِ:
التَّذْكِيَةُ لَفْظٌ عَامٌّ، يَشْمَل: الذَّبْحَ، وَالنَّحْرَ، وَالْعَقْرَ، وَالصَّيْدَ، وَلِكُلٍّ مَوْطِنُهُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - الذَّبْحُ:
2 - الذَّبْحُ لُغَةً: الشَّقُّ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قَطْعُ الْحُلْقُومِ مِنْ بَاطِنٍ عَنِ الْمِفْصَل بَيْنَ الْعُنُقِ وَالرَّأْسِ. وَيُسْتَعْمَل فِي ذَكَاةِ الاِخْتِيَارِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّذْكِيَةِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَشْمَل ذَكَاةَ الاِخْتِيَارِ وَالاِضْطِرَارِ (1) .

ب - النَّحْرُ:
3 - نَحَرَ الْبَعِيرَ: طَعَنَهُ فِي مَنْحَرِهِ حَيْثُ يَبْدَأُ الْحُلْقُومُ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ، قَال فِي الْمُغْنِي: مَعْنَى النَّحْرِ أَنْ يَضْرِبَ الْبَعِيرَ بِالْحَرْبَةِ أَوْ نَحْوِهَا فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْل عُنُقِهَا وَصَدْرِهَا. فَهُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ فِي أَسْفَل الْعُنُقِ عِنْدَ الصَّدْرِ، وَبِهَذَا يَفْتَرِقُ عَنِ الذَّبْحِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ فِي أَعْلَى الْعُنُقِ.
وَالنَّحْرُ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ (2) .
__________
(1) الكليات لأبي البقاء، وابن عابدين 1 / 186، والمراجع السابقة.
(2) المغني 8 / 576، وابن عابدين 5 / 192، وجواهر الإكليل 1 / 208، والقليوبي 2 / 240.

(11/140)


ج - الْعَقْرُ:
4 - الْعَقْرُ: هُوَ الْجُرْحُ. وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي: تَذْكِيَةِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ بِالطَّعْنِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ مِنَ الْبَدَنِ. وَبِهَذَا يَخْتَلِفُ عَنِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ؛ لأَِنَّهُمَا تَذْكِيَةٌ اخْتِيَارًا، وَالْعَقْرُ تَذْكِيَةٌ ضَرُورَةً (1) .

د - الصَّيْدُ:
5 - الصَّيْدُ: هُوَ إِزْهَاقُ رُوحِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ، بِإِرْسَال نَحْوِ سَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ صَقْرٍ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - التَّذْكِيَةُ سَبَبٌ لإِِبَاحَةِ أَكْل لَحْمِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُحَرَّمِ وَاَلَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الذَّبْحُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالذَّبْحِ أَمِ النَّحْرِ أَمِ الْعَقْرِ.
أَمَّا مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الذَّبْحُ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَيَحِلاَّنِ بِلاَ ذَكَاةٍ (3) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُذَكِّي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، كَمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 192، وجواهر الإكليل 1 / 210، والقليوبي 4 / 240.
(2) البدائع 5 / 43، ونهاية المحتاج 8 / 108، والمقنع 3 / 538، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 34.
(3) ابن عابدين 5 / 186، وجواهر الإكليل 1 / 208، وقليوبي 4 / 241.

(11/140)


الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) : أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي مُمَيِّزًا؛ لِيَعْقِل التَّسْمِيَةَ وَالذَّبْحَ. وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ التَّمْيِيزُ (1) .
7 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ وَقْتَ التَّذْكِيَةِ إِلاَّ إِذَا نَسِيَهَا (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ وَقْتَ التَّذْكِيَةِ (3) .
وَيَحِل الذَّبْحُ بِكُل مُحَدَّدٍ يَجْرَحُ، كَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ وَذَهَبٍ وَخَشَبٍ وَحَجَرٍ وَزُجَاجٍ، وَلاَ يَجُوزُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ الْقَائِمَيْنِ اتِّفَاقًا. (4) أَمَّا إِذَا كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِحٌ) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّذْكِيَةِ فِي أَبْوَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالأُْضْحِيَّةِ، وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَحْكَامَهَا فِي بَابِ الذَّكَاةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 188، وجواهر الإكليل 1 / 208، والقليوبي 4 / 240، والمغني 8 / 573، 581.
(2) ابن عابدين 5 / 190، وجواهر الإكليل 1 / 212، والمغني 8 / 581.
(3) القليوبي 4 / 243.
(4) ابن عابدين 5 / 187، وجواهر الإكليل 1 / 213، والقليوبي 4 / 243، والمغني 8 / 574.

(11/141)


تُرَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التُّرَابُ: مَا نَعُمَ مِنْ أَدِيمِ الأَْرْضِ. بِهَذَا عَرَّفَهُ الْمُعْجَمُ الْوَسِيطُ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَال الْمُبَرِّدُ: هُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ تُرَابَةٌ، وَجَمْعُهُ أَتْرِبَةٌ وَتِرْبَانٌ، وَتُرْبَةُ الأَْرْضِ: ظَاهِرُهَا.
وَأَتْرَبْتُ الشَّيْءَ: وَضَعْتُ عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَتَرَّبْتُهُ تَتْرِيبًا فَتَتَرَّبَ: أَيْ تَلَطَّخَ بِالتُّرَابِ. وَيُقَال: تَرِبَ الرَّجُل: إِذَا افْتَقَرَ، كَأَنَّهُ لَصِقَ بِالتُّرَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ (1) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءَ، بَل الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ. وَيُقَال: أَتْرَبَ الرَّجُل: أَيِ اسْتَغْنَى، كَأَنَّهُ صَارَ لَهُ مِنَ الْمَال بِقَدْرِ التُّرَابِ (2) .
وَفِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ: أَنَّهُ جُزْءُ
__________
(1) حديث: " فاظفر بذات الدين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 ط الحلبي) .
(2) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير، مادة: " ترب ".

(11/141)


الأَْرْضِ السَّطْحِيِّ الْمُتَجَانِسِ التَّرْكِيبِ، أَوِ الَّذِي تَتَنَاوَلُهُ آلاَتُ الْحِرَاثَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنَّ الرَّمْل وَنُحَاتَةَ الصَّخْرِ لَيْسَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِنْ أُعْطِيَا حُكْمَهُ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصَّعِيدُ:
2 - الصَّعِيدُ: وَجْهُ الأَْرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، قَال الزَّجَّاجُ: وَلاَ أَعْلَمُ اخْتِلاَفًا بَيْنَ أَهْل اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ. (3)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّعِيدُ أَعَمَّ مِنَ التُّرَابِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أ - فِي التَّيَمُّمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَصِحُّ بِكُل تُرَابٍ طَاهِرٍ فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُل نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ
__________
(1) المصطلحات العلمية ملحق لسان العرب ط بيروت مادة: " ترب ".
(2) حاشية قليوبي 1 / 86.
(3) المصباح المنير، والمغرب، مادة: " صعد ".
(4) سورة المائدة / 6.

(11/142)


خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُل أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَْرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيَّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِمَا عَدَا التُّرَابَ، كَالنُّورَةِ وَالْحِجَارَةِ وَالرَّمْل وَالْحَصَى وَالطِّينِ الرَّطْبِ وَالْحَائِطِ الْمُجَصَّصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ ذِي الْغُبَارِ الْعَالِقِ. وَكَذَا يَصِحُّ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالتَّفَاصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ) .

ب - فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا نَجَسَ بِمُلاَقَاةِ شَيْءٍ، مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، يُغْسَل سَبْعَ مَرَّاتٍ: إِحْدَاهُنَّ
__________
(1) حديث: " أعطيت خمسا. . . " أخرجه مسلم (1 / 371 - ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 53، والدر المختار 1 / 160، والقوانين الفقهية ص 30، والشرح الكبير للدردير 1 / 156، ومغني المحتاج 1 / 96، والمغني لابن قدامة 1 / 247، والفروع 1 / 223.

(11/142)


بِالتُّرَابِ. سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لُعَابَهُ أَوْ بَوْلَهُ أَوْ سَائِرَ رُطُوبَاتِهِ أَوْ أَجْزَاءَهُ الْجَافَّةَ إِذَا لاَقَتْ رَطْبًا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي رِوَايَةٍ: أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي أُخْرَى وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ (1) وَأُلْحِقَ الْخِنْزِيرُ بِالْكَلْبِ لأَِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً. (2) وَلِهَذَا قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (3)
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى بِوُجُوبِ غَسْل نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ (4) وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعُمَّ التُّرَابُ الْمَحَل، وَأَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، وَأَنْ يَكُونَ قَدْرًا يُكَدِّرُ الْمَاءَ، وَيَكْتَفِي بِوُجُودِ التُّرَابِ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَسَلاَتِ السَّبْعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الأَْخِيرَةِ، وَجَعْلُهُ فِي الأُْولَى أَوْلَى. (5)
__________
(1) حديث: " طهور إناء أحدكم. . . " أخرجه مسلم (1 / 234 - 235 - ط الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 52، وسبل السلام 1 / 25.
(3) سورة الأنعام / 145.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 52.
(5) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 52 وما بعدها، والجمل على شرح المنهاج 1 / 184 وما بعدها.

(11/143)


وَالأَْظْهَرُ تَعَيُّنُ التُّرَابِ جَمْعًا بَيْنَ نَوْعَيِ الطَّهُورِ. فَلاَ يَكْفِي غَيْرَهُ، كَأُشْنَانٍ وَصَابُونٍ. وَمُقَابِلُهُ أَنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ التُّرَابُ. وَيَقُومُ مَا ذُكِرَ وَنَحْوُهُ مَقَامَهُ. وَهُنَاكَ رَأْيٌ ثَالِثٌ: بِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ فَقْدِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ يَقُومُ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَفِي قَوْلٍ رَابِعٍ: أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا يُفْسِدُهُ التُّرَابُ، كَالثِّيَابِ دُونَ مَا لاَ يُفْسِدُهُ. (1)
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ كَالْكَلْبِ، بَل يَكْفِي لإِِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ تُرَابٍ، كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ الْوَارِدَ فِي التَّتْرِيبِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْكَلْبِ فَقَطْ. (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فَيَرَوْنَ الاِكْتِفَاءَ بِغَسْل مَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ مِنَ الأَْوَانِي مِنْ غَيْرِ تَتْرِيبٍ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَاتِ التَّتْرِيبِ فِي الْحَدِيثِ مُضْطَرِبَةٌ حَيْثُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ: إِحْدَاهُنَّ، فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى بِلَفْظِ: أُولاَهُنَّ، وَفِي ثَالِثَةٍ بِلَفْظِ: أُخْرَاهُنَّ، وَفِي رَابِعَةٍ: السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ، وَفِي خَامِسَةٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ، وَالاِضْطِرَابُ قَادِحٌ فَيَجِبُ طَرْحُهَا. ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ التُّرَابِ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُل الرِّوَايَاتِ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 53.
(2) مغني المحتاج 1 / 84، والمغني لابن قدامة 1 / 55.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 139، والبدائع 1 / 87، ومواهب الجليل 1 / 179، وجواهر الإكليل 1 / 14، وسبل السلام 1 / 25، والمغني لابن قدامة 1 / 53.

(11/143)


وَالتَّفَاصِيل يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ، وَطَهَارَةٌ، وَصَيْدٌ، وَكَلْبٌ) .
5 - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْخُفَّ وَالنَّعْل إِذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ كَالرَّوْثِ فَمَسْحُهُمَا بِالتُّرَابِ يُطَهِّرُهُمَا. (1) وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمًا، فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، فَخَلَعَ الْقَوْمُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا أَذًى فَخَلَعْتُهُمَا، ثُمَّ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا بِالأَْرْضِ، فَإِنَّ الأَْرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ (2)
وَأَمَّا مَا لاَ جِرْمَ لَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ كَالْبَوْل فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ) (وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 84، وحاشية ابن عابدين 1 / 206، والإنصاف 1 / 323، وجواهر الإكليل 1 / 12.
(2) حديث أبي سعيد " صلى يوما فخلع نعليه. . . " أخرجه أبو داود (1 / 426 - ط عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 260 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.

(11/144)


فَيَرَوْنَ أَنَّ التُّرَابَ لاَ يُطَهِّرُ الْخُفَّ أَوِ النَّعْل، وَأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا إِذَا أُرِيدَ تَطْهِيرَهُمَا (1) .

ج - فِي الصَّوْمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْل التُّرَابِ وَالْحَصَاةِ وَنَحْوَهُمَا عَمْدًا يُبْطِل الصَّوْمَ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَل إِلَى الْجَوْفِ عَنْ طَرِيقِ الأَْنْفِ أَوِ الأُْذُنِ أَوْ نَحْوِهِمَا عَمْدًا؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الإِْمْسَاكُ عَنْ كُل مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَبْحَثِ (كَفَّارَةٌ) .
أَمَّا الْغُبَارُ الَّذِي يَصِل إِلَى الْجَوْفِ عَنْ طَرِيقِ الأَْنْفِ أَوْ نَحْوِهِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ فَلاَ يُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ. (2)
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الصَّائِمَ لَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَل التُّرَابُ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْ لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْ جِنْسِهِ (3) . وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .

د - فِي الْبَيْعِ:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) الإنصاف 1 / 323، ومغني المحتاج 1 / 17.
(2) بدائع الصنائع 2 / 93، وحاشية ابن عابدين 2 / 108، وكشف المخدرات ص 159، وجواهر الإكليل 1 / 142، والمغني لابن قدامة 3 / 115.
(3) مغني المحتاج 1 / 429.

(11/144)


وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّ بَيْعَ التُّرَابِ مِمَّنْ حَازَهُ جَائِزٌ لِظُهُورِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ. (1)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ التُّرَابِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ مَرْغُوبٍ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيل مِثْلِهِ بِلاَ تَعَبٍ وَلاَ مُؤْنَةٍ. لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَنْ لاَ يَعْرِضَ لَهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مَالاً مُعْتَبَرًا كَالنَّقْل وَالْخَلْطِ بِغَيْرِهِ. (2) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) .

هـ - فِي الأَْكْل:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل التُّرَابِ لِمَنْ يَضُرُّهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةَ أَكْلِهِ. (3)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 12، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4 / 265، والإنصاف 4 / 270.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 4، 101.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 340، 341، ومواهب الجليل (4 / 265) ونهاية المحتاج 8 / 148، والمغني لابن قدامة 8 / 611 ط الرياض

(11/145)


تُرَابُ الصَّاغَةِ

التَّعْرِيفُ:
1 - تُرَابُ الصَّاغَةِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ يَتَكَوَّنُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَهُمَا، تُرَابٌ: وَالصَّاغَةُ.
أَمَّا التُّرَابُ: فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَتْرِبَةٍ وَتِرْبَانٍ، وَتُرْبَةُ الأَْرْضِ ظَاهِرُهَا. (1)
وَأَمَّا الصَّاغَةُ: فَهِيَ جَمْعُ صَائِغٍ، وَهُوَ الَّذِي حِرْفَتُهُ الصِّيَاغَةُ، وَهِيَ جَعْل الذَّهَبِ حُلِيًّا. يُقَال: صَاغَ الذَّهَبَ: إِذَا جَعَلَهُ حُلِيًّا، وَصَاغَ اللَّهُ فُلاَنًا صِيغَةً حَسَنَةً: خَلَقَهُ. وَصَاغَ الشَّيْءَ: هَيَّأَهُ عَلَى مِثَالٍ مُسْتَقِيمٍ. وَتُرَابُ الصَّاغَةِ - كَمَا عَرَفَهُ الْمَالِكِيَّةُ - هُوَ الرَّمَادُ (الَّذِي يُوجَدُ فِي حَوَانِيتِهِمْ) وَلاَ يُدْرَى مَا فِيهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّبْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التِّبْرِ فِي اللُّغَةِ: مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ
__________
(1) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " ترب " وحاشية قليوبي 1 / 86 ط الحلبي.
(2) المدونة 4 / 20 ط دار صادر، والشرح الكبير 3 / 16 ط الفكر.

(11/145)


غَيْرَ مَضْرُوبٍ، فَإِذَا ضُرِبَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَيْنٌ. وَلاَ يُقَال تِبْرٌ إِلاَّ لِلذَّهَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ لِلْفِضَّةِ أَيْضًا، وَقَدْ يُطْلَقُ التِّبْرُ عَلَى غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَعْدِنِيَّاتِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: الذَّهَبُ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْل ضَرْبِهِمَا، أَوْ لِلذَّهَبِ فَقَطْ، وَالْمُرَادُ الأَْعَمُّ (3) .

ب - تُرَابُ الْمَعَادِنِ:
3 - أَمَّا التُّرَابُ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ: جَمْعُ مَعْدِنٍ بِكَسْرِ الدَّال، وَالْمَعْدِنُ - كَمَا قَال اللَّيْثُ: مَكَانُ كُل شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَبْدَؤُهُ كَمَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (4)
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً، بِخِلاَفِ الرِّكَازِ وَالْكَنْزِ؛ إِذِ الْكَنْزُ اسْمٌ لِمَدْفُونِ الْعِبَادِ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً، أَوْ بِدَفْنِ الْعِبَادِ. (5)
وَقَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْمَعْدِنَ لَهُ
__________
(1) الصحاح، واللسان، مادة: " تبر "، وابن عابدين 2 / 44.
(2) جواهر الإكليل 2 / 171 ط دار المعرفة.
(3) حاشية قليوبي 3 / 52 ط الحلبي.
(4) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " عدن ".
(5) تبيين الحقائق 1 / 287 - 288 ط دار المعرفة.

(11/146)


إِطْلاَقَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ، وَالآْخَرُ عَلَى الْمُخْرَجِ مِنْهُ (1) .
هَذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَتُرَابِ الصَّاغَةِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ تُرَابَ الْمَعْدِنِ: هُوَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَعْدِنِ نَفْسِهِ، دُونَ اخْتِلاَطٍ بِجَوْهَرٍ آخَرَ.
أَمَّا تُرَابُ الصَّاغَةِ فَهُوَ الْمُتَسَاقِطُ مِنَ الْمَعْدِنِ مُخْتَلِطًا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمْل أَوْ نَحْوِهِمَا. (2)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تُرَابُ الصَّاغَةِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مَجْهُولاً أَوْ مَعْلُومًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصَفَّى وَيُمَيَّزَ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ أَوْ لاَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَى تُرَابَ الْفِضَّةِ بِفِضَّةٍ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي التُّرَابِ شَيْءٌ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَاهُ بِتُرَابِ فِضَّةٍ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْبَدَلَيْنِ هُمَا الْفِضَّةُ لاَ التُّرَابُ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِتُرَابِ ذَهَبٍ أَوْ بِذَهَبٍ جَازَ، لِعَدَمِ لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ، لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، فَلَوْ ظَهَرَ أَنْ لاَ شَيْءَ فِي التُّرَابِ لاَ يَجُوزُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 96 ط المكتبة الإسلامية.
(2) المدونة 4 / 19 - 20 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 7.

(11/146)


وَكُل مَا جَازَ فَمُشْتَرِي التُّرَابِ بِالْخِيَارِ إِذَا رَأَى، لأَِنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي تُرَابِ الصَّاغَةِ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّهُ مَال رِبًا بِيعَ بِجِنْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ تُعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ لِشِدَّةِ الْغَرَرِ فِيهِ، وَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ قَبْل تَصْفِيَتِهِ وَتَمْيِيزُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ بِذَهَبٍ أَمْ بِفِضَّةٍ أَمْ بِغَيْرِهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مَجْهُولٌ أَوْ مَسْتُورٌ بِمَا لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ فِيهِ كَبَيْعِ اللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْل السَّلْخِ. (1)
__________
(1) المبسوط 14 / 44 ط دار المعرفة، فتح القدير 5 / 379 ط الأميرية، الفتاوى الهندية 3 / 227 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي مع الشرح 3 / 16 ط الفكر، الزرقاني 5 / 25 ط الفكر، والمدونة 4 / 19 - 20 ط دار صادر، والخرشي مع حاشية الشيخ على العدوي 5 / 23 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 6 - 7 ط دار المعرفة، والمجموع 9 / 307 ط السلفية، وتحفة المحتاج 4 / 258 ط دار صادر، ونهاية المحتاج 3 / 399 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 2 / 20 ط الحلبي، والمغني 4 / 65 ط الرياض.

(11/147)


تُرَابُ الْمَعَادِنِ

التَّعْرِيفُ:
1 - تُرَابُ الْمَعَادِنِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ، أَمَّا التُّرَابُ: فَهُوَ ظَاهِرُ الأَْرْضِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ. (1) وَأَمَّا الْمَعَادِنُ: فَهِيَ جَمْعُ مَعْدِنٍ - بِكَسْرِ الدَّال - وَهُوَ كَمَا قَال اللَّيْثُ: مَكَانُ كُل شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَبْدَؤُهُ كَمَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. (2) وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ، كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً. (3) وَقَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْمَعْدِنَ لَهُ إِطْلاَقَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ، وَالآْخَرُ عَلَى الْمُخْرَجِ مِنْهُ (4) .
__________
(1) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " ترب " وحاشية قليوبي 1 / 86 ط الحلبي.
(2) الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح، مادة: " عدن ".
(3) تبيين الحقائق 1 / 287 - 288 ط دار المعرفة، وابن عابدين 2 / 44.
(4) نهاية المحتاج 3 / 96 ط المكتبة الإسلامية.

(11/147)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - تُرَابُ الصَّاغَةِ:
2 - وَهُوَ - كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ - الرَّمَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي حَوَانِيتِ الصَّاغَةِ، وَلاَ يُدْرَى مَا فِيهِ (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَتُرَابِ الْمَعْدِنِ، هُوَ أَنَّ تُرَابَ الصَّاغَةِ هُوَ الْمُتَسَاقِطُ مِنَ الْمَعْدِنِ مُخْتَلِطًا بِتُرَابٍ أَوْ رَمْلٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمَّا تُرَابُ الْمَعْدِنِ فَهُوَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَعْدِنِ نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَخْتَلِطَ بِجَوْهَرٍ آخَرَ (2) .

ب - الْكَنْزُ:
3 - هُوَ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ كَنَزَ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ الْمَال وَادِّخَارُهُ، وَجَمْعُ التَّمْرِ فِي وِعَائِهِ، وَالْكَنْزُ أَيْضًا: الْمَال الْمَدْفُونُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ كُنُوزٌ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ (3) . وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَدْفُونِ الْعِبَادِ (4) .

ج - الرِّكَازُ:
4 - الرِّكَازُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَال الْمَدْفُونُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْبِسَاطِ بِمَعْنَى الْمَبْسُوطِ، وَيُقَال هُوَ الْمَعْدِنُ (5) .
__________
(1) المدونة 4 / 20، والشرح الكبير 3 / 16.
(2) جواهر الإكليل 2 / 7، والمدونة 4 / 19
(3) المصباح، مادة: " كنز ".
(4) تبيين الحقائق 1 / 287، 288 ط دار المعرفة، والدر المختار 2 / 44.
(5) المصباح، مادة: " ركز ".

(11/148)


وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ تَحْتَ الأَْرْضِ خِلْقَةً أَوْ بِدَفْنِ الْعِبَادِ (1) .
فَالرِّكَازُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالدَّفِينِ (2) .
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَوْنِهِ دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ (3) .

أَنْوَاعُ الْمَعَادِنِ:
5 - لِلْمَعَادِنِ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ:
(أ) جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ.
(ب) جَامِدٌ لاَ يَذُوبُ، كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ، وَالْكُحْل وَالزِّرْنِيخِ.
(ج) مَائِعٌ لاَ يَتَجَمَّدُ، كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ (4) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِتُرَابِ الْمَعَادِنِ فِي مَوَاطِنَ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

أ - تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِتُرَابِ الْمَعَادِنِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 287 ط دار المعرفة.
(2) فتح القدير 1 / 537 ط الأميرية.
(3) نهاية المحتاج 3 / 98، والمحلي على المنهاج 2 / 26.
(4) العناية على الهداية هامش فتح القدير 1 / 537 ط الأميرية.

(11/148)


الْمُطْلَقِ بِتُرَابِ الْمَعْدِنِ لاَ يَضُرُّ، وَيَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ تَغَيَّرَ بِمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِمَا لاَ يُمْكِنُ صَوْنُهُ عَنْهُ مِنْ تُرَابِ الْمَعَادِنِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَقَرِّهِ أَوْ مَمَرِّهِ لاَ يَمْنَعُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَلاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاهٌ) .

ب - حُكْمُ التَّيَمُّمِ بِتُرَابِ الْمَعَادِنِ:
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ، أَوْ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، وَأَمَّا مَا لاَ غُبَارَ لَهُ كَالصَّخْرِ وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ فَلاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى التُّرَابِ (2) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا لاَ يَنْطَبِعُ وَلاَ يَلِينُ مِنَ الْمَعَادِنِ، كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْل وَالزِّرْنِيخِ، سَوَاءٌ الْتَصَقَ عَلَى يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَلْتَصِقْ.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الَّتِي تَلِينُ وَتَنْطَبِعُ، كَالْحَدِيدِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 21 ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 1 / 125 ط المصرية، وجواهر الإكليل 1 / 7 ط الفكر، وروضة الطالبين 1 / 10 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 27 ط النصر.
(2) روضة الطالبين 1 / 108 - 109 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 1 / 87 ط. الحلبي، وكشاف القناع 1 / 172 ط. النصر، والمغني 1 / 247 ط. الرياض.

(11/149)


وَالنُّحَاسِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا إِلاَّ فِي مَحَالِّهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهَا التُّرَابُ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالتُّرَابِ لاَ بِهَا؛ وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْل فِي رِوَايَةٍ، أَوْ بِالتُّرَابِ فَقَطْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (1) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّيَمُّمُ بِالْمَعَادِنِ الْمُنْطَبِعَةِ وَغَيْرِ الْمُنْطَبِعَةِ مَا لَمْ تُنْقَل مِنْ مَحَالِّهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ بِاسْتِثْنَاءِ مَعْدِنِ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا: تِبْرُ الذَّهَبِ وَنُقَارُ الْفِضَّةِ (2) . وَالْجَوَاهِرُ النَّفِيسَةُ كَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْمَرْجَانِ مِمَّا لاَ يَقَعُ بِهِ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ) .

ج - زَكَاةُ تُرَابِ الْمَعَادِنِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَعْدِنَيِ: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 53 ط الجمالية، وفتح القدير 1 / 88 ط الأميرية، ومراقي الفلاح / 64 ط الأميرية، وابن عابدين 1 / 160 ط المصرية، وتبيين الحقائق 1 / 39 ط دار المعرفة.
(2) جمع نقرة، وهي القطعة المذابة من الفضة أو الذهب. القاموس مادة: " نقر ".
(3) حاشية الدسوقي 1 / 156 ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 27 ط دار المعرفة، الزرقاني 1 / 121، 122 ط الفكر، الخرشي 1 / 192، 193 ط دار صادر.
(4) فتح القدير 1 / 537 وما بعدها ط الأميرية، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي عليه 1 / 288 ط دار المعرفة، والخرشي 2 / 207 - 209 ط دار صادر، والزرقاني 2 / 169 - 171 ط الفكر، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 486 - 488 ط الفكر، وروضة الطالبين 2 / 282 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 3 / 96 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 2 / 222 - 223 ط النصر، والمغني 3 / 24 ط الرياض.

(11/149)


أَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعَادِنِ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَوَقْتِ وُجُوبِهَا، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ)

د - بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ:
9 - تُرَابُ الْمَعَادِنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْنَافٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصَفَّى وَيُمَيَّزَ مَا فِيهِ أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَتُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ ذَهَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْنَافٍ كَتُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِخِفَّةِ الْغَرَرِ فِيهِ؛ وَلِعَدَمِ لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ قَبْل تَصْفِيَتِهِ وَتَمْيِيزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ بِذَهَبٍ أَمْ بِفِضَّةٍ أَمْ بِغَيْرِهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ النَّقْدُ وَهُوَ مَجْهُولٌ أَوْ مَسْتُورٌ بِمَا

(11/150)


لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ فِيهِ، كَبَيْعِ اللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْل السَّلْخِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٍ) (وَرِبًا) (وَصَرْفٍ) .
__________
(1) المبسوط 14 / 44 ط دار المعرفة، وفتح القدير 5 / 379 ط الأميرية، الفتاوى الهندية 3 / 227 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي مع الشرح 3 / 16 ط الفكر، والزرقاني 5 / 25 ط الفكر، والمدونة 4 / 19 - 20 ط دار صادر، والخرشي مع حاشية الشيخ على العدوي 5 / 23 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 6 - 7 ط دار المعرفة، والمجموع 9 / 307 ط السلفية، وتحفة المحتاج 4 / 258 ط، دار صادر، ونهاية المحتاج 3 / 399 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 2 / 20 ط الحلبي، والمغني 4 / 65 الرياض.

(11/150)


تَرَاخِي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَاخِي: مَصْدَرُ تَرَاخَى، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَاعُدُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّقَاعُسِ عَنْهُ.
وَتَرَاخَى الأَْمْرُ تَرَاخِيًا: امْتَدَّ زَمَانُهُ، وَفِي الأَْمْرِ تَرَاخٍ أَيْ: فُسْحَةٌ (1) .
وَمَعْنَى التَّرَاخِي فِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ الأَْدَاءِ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَوَّل وَقْتِ الإِْمْكَانِ إِلَى مَظِنَّةِ الْفَوْتِ. (2)
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَوْرُ:
2 - يُطْلَقُ الْفَوْرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى: الْوَقْتِ الْحَاضِرِ الَّذِي لاَ تَأْخِيرَ فِيهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، والصحاح، مادة: " رخو ".
(2) كشاف مصطلحات الفنون 3 / 594.

(11/151)


الْمَاءُ يَفُورُ فَوْرًا أَيْ: نَبَعَ وَجَرَى، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْحَالَةِ الَّتِي لاَ بُطْءَ فِيهَا (1) .
يُقَال: جَاءَ فُلاَنٌ فِي حَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ أَيْ: مِنْ حَرَكَتِهِ الَّتِي وَصَل فِيهَا وَلَمْ يَسْكُنْ بَعْدَهَا، وَحَقِيقَتُهُ: أَنْ يَصِل مَا بَعْدَ الْمَجِيءِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ.
وَمَعْنَى الْفَوْرِ فِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ الأَْدَاءِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرَاخِي: أَنَّ الْفَوْرَ ضِدُّ التَّرَاخِي.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
تُبْحَثُ الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالتَّرَاخِي فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ تُوجَزُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: مَوَاضِعُهُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ التَّرَاخِيَ فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ:

أ - الأَْمْرُ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُقَيَّدْ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ أَوْ مُعَيَّنٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَسَّعًا أَوْ مُضَيَّقًا، وَالْخَالِي عَنْ قَرِينَةٍ تَدُل عَلَى أَنَّهُ لِلتَّكْرَارِ أَوْ لِلْمَرَّةِ: هَل يُفِيدُ الْفَوْرَ، أَوِ التَّرَاخِيَ، أَوْ
__________
(1) المصباح، مادة: " فور ".
(2) التعريفات للجرجاني مادة: " فور "، والكليات 3 / 318 ط دمشق.

(11/151)


غَيْرَهُمَا؟ فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْل بِالتَّكْرَارِ اسْتِغْرَاقُ الأَْوْقَاتِ بِالْفِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لِلْمَرَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: إِنَّهُ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَفُوتُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالآْمَدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ (1) .
الثَّانِي: أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَوْرَ، فَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُفِيدُ التَّرَاخِيَ جَوَازًا، فَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ عَلَى الْفَوْرِ بِمُطْلَقِ الأَْمْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْل الْبَيْضَاوِيُّ وَنَسَبَهُ لِقَوْمٍ، وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ (3) .
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 387 ط الأولى بولاق، وشرح البدخشي 2 / 47 ط صبيح، إرشاد الفحول / 99 ط الحلبي، والأحكام للآمدي 2 / 165 ط المكتب الإسلامي.
(2) مسلم الثبوت 1 / 397 ط الأولى بولاق، وإرشاد الفحول / 100 ط الحلبي.
(3) شرح البدخشي 2 / 47 ط صبيح، وأصول السرخسي 1 / 26 ط دار الكتاب العربي بحيدر آباد.

(11/152)


الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، وَهُوَ رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي دَلاَلَتِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الْفَوْرِ وَلاَ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِنَّمَا تَوَقَّفُوا فِيهِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَيْضًا الْجُوَيْنِيُّ، كَمَا جَاءَ فِي إِرْشَادِ الْفُحُول، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الأَْمْرَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ لاَ يُفِيدُ الْفَوْرَ وَلاَ التَّرَاخِيَ، فَيَمْتَثِل الْمَأْمُورُ بِكُلٍّ مِنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، مَعَ التَّوَقُّفِ فِي إِثْمِهِ بِالتَّرَاخِي لاَ بِالْفَوْرِ؛ لِعَدَمِ احْتِمَال وُجُوبِ التَّرَاخِي، وَقِيل بِالتَّوَقُّفِ فِي الاِمْتِثَال، أَيْ لاَ يَدْرِي هَل يَأْثَمُ إِنْ بَادَرَ، أَوْ إِنْ أَخَّرَ؟ لاِحْتِمَال وُجُوبِ التَّرَاخِي (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْحَجِّ، أَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ عَلَى التَّرَاخِي؟ .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: الأَْمْرُ بِالْكَفَّارَاتِ، وَالأَْمْرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَبِقَضَاءِ الصَّلاَةِ. وَمَحَل تَفْصِيل مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ، مَعَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ، هُوَ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ، وَمُصْطَلَحُ: (أَمْرٍ) .

الْفَوْرُ فِي النَّهْيِ:
4 - النَّهْيُ يَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالْعُمُومَ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنْ أَهْل الأُْصُول وَأَهْل الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ لِلْفَوْرِ. وَقِيل: هُوَ كَالأَْمْرِ فِي عَدَمِ اقْتِضَائِهِ الدَّوَامَ (2) .
__________
(1) إرشاد الفحول / 100 ط الحلبي، وشرح البدخشي 2 / 47 ط صبيح.
(2) مسلم الثبوت 1 / 406.

(11/152)


ب - الرُّخْصَةُ:
5 - ذَكَرَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثَّبُوتِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّخْصَةِ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا رُخْصَةً. وَذَكَرَ أَنَّ ثَانِيَ تِلْكَ الأَْقْسَامِ، مَا تَرَاخَى حُكْمُ سَبَبِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ إِلَى زَوَال الْعُذْرِ الْمُوجِبِ لِلرُّخْصَةِ، كَفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَإِنَّ سَبَبِيَّةَ الشَّهْرِ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّهِمَا، حَتَّى لَوْ صَامَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ أَجْزَأَ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيِّ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ (1) . وَتَأَخَّرَ الْخِطَابُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رُخْصَةٍ) .

ج - مَعْنَى (ثُمَّ) :
6 - أَوْرَدَ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ (ثُمَّ) فِي أَصْل الْوَضْعِ هُوَ: الْعَطْفُ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي.
وَحُكْمُ هَذَا التَّرَاخِي فِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ وَمُصْطَلَحِ (طَلاَقٌ) .
__________
(1) حديث: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 179 - ط السلفية) ومسلم (2 / 789 - ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 184.

(11/153)


وَأَثَرُ هَذَا الْخِلاَفِ يَظْهَرُ فِي قَوْل الزَّوْجِ لِغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا، أَوْ لِلْمَدْخُول بِهَا، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَيْ مَعَ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ أَوْ تَأْخِيرِهِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ وَمُصْطَلَحِ: (طَلاَقٌ) .

ثَانِيًا: مَوَاضِعُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ التَّرَاخِيَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي عَدَدٍ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، تُوجَزُ فِيمَا يَلِي:

أ - التَّرَاخِي فِي رَدِّ الْمَغْصُوبِ:
7 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ عُذْرٌ فِي التَّرَاخِي، كَخَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَغْصُوبٍ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (2) وَلأَِنَّهُ يَأْثَمُ بِاسْتِدَامَتِهِ تَحْتَ يَدِهِ لِحَيْلُولَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ،
__________
(1) أصول السرخسي 1 / 209، 210 ط دار الكتاب العربي حيدر آباد، والتلويح على التوضيح 1 / 104 - 105 ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 234 - 236 ط الأولى بولاق، وانظر ما ذكره الآمدي في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 1 / 69 ط المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه. . . " أخرجه أبو داود (3 / 822 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(11/153)


فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى الْفَوْرِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَإِنْ تَكَلَّفَ عَلَيْهِ أَضْعَافُ قِيمَتِهِ؛ إِذْ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ مَا دَامَ فِي يَدِهِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمُ الْعَامَّةَ فِي وُجُوبِ رَفْعِ الظُّلْمِ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.

ب - تَرَاخِي الإِْيجَابِ عَنِ الْقَبُول فِي الْهِبَةِ:
8 - لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي الْهِبَةِ، بَل يُشْتَرَطُ الاِتِّصَال الْمُعْتَادُ كَالْبَيْعِ. وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ التَّرَاخِيَ فِي الْمَجْلِسِ إِذَا لَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُ الاِتِّصَال. وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ) .

ج - التَّرَاخِي فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ
__________
(1) حاشية قليوبي 3 / 28 ط الحلبي، مطالب أولي النهى 4 / 69، 70 ط المكتب الإسلامي.
(2) روضة الطالبين 5 / 366 ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 4 / 385 ط المكتب الإسلامي، والفتاوى الهندية 4 / 374 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 / 211 - 217 ط دار المعرفة.

(11/154)


ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الشُّفْعَةُ كَحَل الْعِقَال (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ طَلَبَهَا إِلَى سَنَةٍ وَمَا قَارَبَهَا وَتَسْقُطُ بَعْدَهَا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَةٌ) .

د - التَّرَاخِي فِي قَبُول الْوَصِيَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ، وَمَحَل الْقَبُول بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَهُ الْقَبُول عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٍ) .

هـ - حُكْمُ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ
__________
(1) حديث: " الشفعة كحل العقال. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 835 - ط الحلبي) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) : إسناده ضعيف جدا.
(2) تبيين الحقائق 5 / 242 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 5 / 107 ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 4 / 110 ط المكتب الإسلامي، وحاشية الدسوقي 3 / 485 ط الفكر.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 90 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 / 317 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 6 / 141، 142 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 4 / 344 ط النصر.

(11/154)


ارْتِبَاطِ الْقَبُول بِالإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، حَتَّى إِنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَكْفِي، بَل يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ. إِلاَّ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّأْخِيرُ الْيَسِيرُ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنْ طَال الْفَصْل بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا؛ لأَِنَّ الْمَجْلِسَ لَهُ حُكْمٌ حَالَةَ الْعَقْدِ، بِدَلِيل صِحَّةِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ) .

و التَّرَاخِي فِي خِيَارِ الْعُيُوبِ وَالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ:
12 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْعُيُوبِ وَالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ عَلَى التَّرَاخِي؛ لأَِنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقَّقٍ، فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، كَخِيَارِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ، فَلاَ يَسْقُطُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ مِمَّنْ لَهُ الْخِيَارُ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، مِنَ الزَّوْجِ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، أَوْ مِنَ الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهَا، أَوْ
__________
(1) الروضة 7 / 38 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 6 / 205 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 1 / 277 ط دار المعرفة.
(2) بدائع الصنائع 2 / 232 ط الجمالية، ومطالب أولي النهى 5 / 50 ط المكتب الإسلامي.

(11/155)


يَأْتِي بِصَرِيحِ الرِّضَا كَأَنْ يَقُول: رَضِيتُ بِالْعَيْبِ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ نَصَّ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ عَلَى: أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، وَقَال: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ.
وَرُوِيَ قَوْلاَنِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَمْتَدُّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
وَالثَّانِي: يَبْقَى إِلَى أَنْ يُوجَدَ صَرِيحُ الرِّضَا بِالْمَقَامِ مَعَهُ أَوْ مَا يَدُل عَلَيْهِ. حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ (2) .
وَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ وَالشَّرْطِ - سَوَاءٌ جُعِل الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا - ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ هُوَ الْجَبَّ وَالْخِصَاءَ وَالْعُنَّةَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ (3) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْخِيَارَ بِشُرُوطِهِ إِذَا وَجَدَ بِصَاحِبِهِ عَيْبًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِكَوْنِ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 112 ط النصر.
(2) روضة الطالبين 7 / 180 ط المكتب الإسلامي.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 273 ط المكتبة الإسلامية.

(11/155)


عَلَى التَّرَاخِي (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .

ز - التَّرَاخِي فِي تَطْلِيقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بَعْدَ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا:
13 - إِذَا فَوَّضَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَإِنَّ تَطْلِيقَهَا نَفْسَهَا لاَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ كَوْنِ التَّفْوِيضِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا، فَإِنْ قَيَّدَهُ بِوَقْتٍ كَسَنَةٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّفْوِيضِ إِلَى أَنْ تَخْتَارَ الْبَقَاءَ أَوِ الْفِرَاقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ التَّفْوِيضَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَرْطٍ (4) . (ر: طَلاَقٌ) .
وَتَفْصِيل مَا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا مِنْ مَسَائِل التَّرَاخِي مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) الخرشي 3 / 235 ط دار صادر، والدسوقي 2 / 277 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 298 ط دار المعرفة.
(2) ابن عابدين 2 / 476 ط المصرية، ومطالب أولي النهى 5 / 353 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 5 / 254 ط النصر.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 405 - 408 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 357 ط دار المعرفة.
(4) نهاية المحتاج 6 / 429، 430 ط المكتبة الإسلامية، والروضة 8 / 51 ط المكتب الإسلامي.

(11/156)


تَرَاضي

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَاضِي فِي اللُّغَةِ: تَفَاعُلٌ مِنَ الرِّضَا ضِدُّ السُّخْطِ، وَالرِّضَا: هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْل أَوِ الْقَوْل وَالاِرْتِيَاحُ إِلَيْهِ، وَالتَّفَاعُل يَدُل عَلَى الاِشْتِرَاكِ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى، حِينَمَا يَتَّفِقُ الْعَاقِدَانِ عَلَى إِنْشَاءِ الْعَقْدِ دُونَ إِكْرَاهٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَيَقُولُونَ مَثَلاً: الْبَيْعُ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال بِالتَّرَاضِي (2) . وَفِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . (3)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَنْ رِضًا مِنْكُمْ، وَجَاءَتْ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ، إِذِ التِّجَارَةُ تَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " رضي ".
(2) فتح القدير 5 / 455، وابن عابدين 4 / 7.
(3) سورة النساء / 29.
(4) تفسير القرطبي 5 / 153.

(11/156)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ:
2 - الإِْرَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ وَالْمَشِيئَةُ. وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى: الْقَصْدِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَى الشَّيْءِ، فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الرِّضَا، فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا وَيَرْتَاحُ إِلَيْهِ، فَيَجْتَمِعُ الرِّضَا مَعَ الإِْرَادَةِ، وَقَدْ لاَ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَلاَ يُحِبُّهُ، فَتَنْفَرِدُ الإِْرَادَةُ عَنِ الرِّضَا (1) .

ب - الاِخْتِيَارُ:
3 - الاِخْتِيَارُ: إِرَادَةُ الشَّيْءِ بَدَلاً مِنْ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَالْمُخْتَارُ هُوَ الْمُرِيدُ لِخَيْرِ الشَّيْئَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ خَيْرُ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ دُونَ النَّظَرِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْفَرِدُ الإِْرَادَةُ عَنِ الاِخْتِيَارِ.
وَقَدْ يَخْتَارُ الْمُرْءُ أَمْرًا لاَ يُحِبُّهُ وَلاَ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ، فَيَأْتِي الاِخْتِيَارُ بِدُونِ الرِّضَا، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: (يَخْتَارُ أَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ) ، وَالْمُكْرَهُ قَدْ يَخْتَارُ الشَّيْءَ وَلاَ يَرْضَاهُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس مادة: " رود "، والفروق في اللغة ص 118، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 1503.
(2) الفروق في اللغة ص 118، وكشاف اصطلاحات الفنون، والقاموس المحيط مادة: " خير "، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 1503، وابن عابدين 4 / 7، ومجلة الأحكام العدلية م (29) .

(11/157)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الأَْصْل أَنَّ التَّرَاضِيَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ يَكُونُ قَوْلاً بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَقَدْ يَكُونُ قَوْلاً مِنْ أَحَدِهِمَا وَفِعْلاً مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، أَوْ فِعْلاً مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْمُعَاطَاةِ، (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْدٍ) .
وَإِذَا حَصَل التَّرَاضِي بِالْقَوْل يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، وَيَرْتَفِعُ الْخِيَارُ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَمَّامُ التَّرَاضِي وَلُزُومُهُ بِافْتِرَاقِ الأَْبْدَانِ، فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، (3) كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا (4) .
وَقَدْ فَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِافْتِرَاقِ الأَْقْوَال بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (5) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 455، وابن عابدي 4 / 7 - 9، والدسوقي 3 / 2، 3، وجواهر الإكليل 2 / 2، والقليوبي 3 / 211، و 217، والمغني 4 / 453.
(2) تفسير الألوسي 5 / 16، والاختيار لتعليل المختار 2 / 5، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 3، والشرح الصغير للدردير 3 / 134، وتفسير القرطبي 5 / 153.
(3) نهاية المحتاج 4 / 3، والقليوبي 2 / 153، والمغني لابن قدامة 3 / 563.
(4) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1163 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(5) ابن عابدين 4 / 20، 21، وبلغة السالك 3 / 134.

(11/157)


وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (افْتِرَاقٍ، وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ) .
5 - هَذَا، وَحَيْثُ إِنَّ التَّرَاضِيَ أَسَاسُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ، وَالإِْيجَابَ وَالْقَبُول أَوِ التَّعَاطِيَ وَنَحْوَهُمَا وَسِيلَةٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرِّضَا الَّذِي دَل عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ خَالِيًا عَنِ الْعُيُوبِ، وَإِلاَّ اخْتَل التَّرَاضِي، فَيَخْتَل الْعَقْدُ.

وَيَخْتَل التَّرَاضِي بِأَسْبَابٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - الإِْكْرَاهُ:
6 - وَهُوَ حَمْل الإِْنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِل عَلَى إِيقَاعِهِ (1) .
وَبِمَا أَنَّ الإِْكْرَاهَ يُعْدِمُ الرِّضَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَيَصِيرُ قَابِلاً لِلْفَسْخِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُكْرَهِ بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ، (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاهٍ) .

ب - الْهَزْل:
7 - وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، بِأَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَلاَ مَا صَحَّ لَهُ اللَّفْظُ اسْتِعَارَةً. وَالْهَازِل يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنْ لاَ يَخْتَارُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَلاَ يَرْضَاهُ، وَلِهَذَا لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 4 / 1503.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة: (1006) والدسوقي 3 / 6، ومغني المحتاج 2 / 7، والبدائع 1 / 177.

(11/158)


الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ آثَارُهُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ كَالزَّوَاجِ وَالطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ (1) (ر: هَزْلٌ) .

ج - الْمُوَاضَعَةُ أَوِ التَّلْجِئَةُ:
8 - وَهِيَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الْعَاقِدَانِ بِإِنْشَاءِ عَقْدٍ صُورِيٍّ لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَلاَ يُرِيدَانِهِ فِي الْوَاقِعِ، وَالْعَقْدُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ: فَاسِدٌ، أَوْ بَاطِلٌ، أَوْ جَائِزٌ (2) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ: (مُوَاضَعَةٌ وَتَلْجِئَةٌ) .

د - التَّغْرِيرُ:
9 - هُوَ إِيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ، أَيِ: الْخَطَرِ، كَأَنْ يُوصَفَ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صِفَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ لِتَرْغِيبِهِ فِي الْعَقْدِ. فَإِذَا غَرَّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الآْخَرَ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ غَبْنًا فَاحِشًا (3) فَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ (4) عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 7، والدسوقي 3 / 4، والمغني 6 / 535، والقليوبي 3 / 323، 331.
(2) البدائع 5 / 176، 177، وأسنى المطالب 2 / 11، وابن عابدين 4 / 460، 5 / 244، والمغني 4 / 214، 215 ط الرياض.
(3) اختلفت عبارات الفقهاء في تحديد الغبن الفاحش، فحدده الحنفية على قدر نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار، وقيل: بالثلث مطلقا، وقيل: بالسدس، وقيل: يحدد بالعرف والعادة (مجلة الأحكام م 165، والمغني 3 / 584، 585 ط الرياض.
(4) مجلة الأحكام العدلية م: (164، 357) ، والمغني 3 / 584، 585 ط الرياض.

(11/158)


تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَبْنٌ وَتَغْرِيرٌ) . وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى يَخْتَل بِهَا التَّرَاضِي كَالْغَلَطِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْجَهْل وَالنِّسْيَانِ وَنَحْوِهَا، وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ التَّرَاضِي فِي: إِنْشَاءِ الْعُقُودِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ، وَفِي الإِْقَالَةِ، وَفِي مُوَافَقَةِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِيهِ فِي بَحْثِ الْمَهْرِ، وَفِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ، وَاتِّفَاقِ الأَْبَوَيْنِ عَلَى فِطَامِ الْمَوْلُودِ لأَِقَل مِنْ سَنَتَيْنِ فِي بَحْثِ الرَّضَاعِ. وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالتَّرَاضِي مِنْ طَرَفَيْنِ أَوْ طَرَفٍ وَاحِدٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (رِضًا) .

تَرَاوِيحُ

انْظُرْ: صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ

تَرَبُّصٌ

انْظُرْ: عِدَّةٌ.

(11/159)


تَرَبُّعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرَبُّعُ فِي اللُّغَةِ: ضَرْبٌ مِنَ الْجُلُوسِ، وَهُوَ خِلاَفُ الْجُثُوِّ وَالإِْقْعَاءِ. وَكَيْفِيَّتُهُ: أَنْ يَقْعُدَ الشَّخْصُ عَلَى وَرِكَيْهِ، وَيَمُدَّ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى إِلَى جَانِبِ يَمِينِهِ، وَقَدَمَهُ الْيُمْنَى إِلَى جَانِبِ يَسَارِهِ. وَالْيُسْرَى بِعَكْسِ ذَلِكَ. (1)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - التَّرَبُّعُ: غَيْرُ الاِحْتِبَاءِ: وَالاِفْتِرَاشِ، وَالإِْفْضَاءِ، وَالإِْقْعَاءِ، وَالتَّوَرُّكِ.

فَالاِحْتِبَاءُ:
أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ، رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا (2) .

وَالاِفْتِرَاشُ:
أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَبْسُطَهَا وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَيُخْرِجَهَا مِنْ تَحْتِهِ، وَيَجْعَل بُطُونَ أَصَابِعِهِ عَلَى الأَْرْضِ
__________
(1) تاج العروس، والقاموس المحيط، ولسان العرب، مادة: " ربع " والتعريفات الفقهية للمجلد البركتي ص 226.
(2) أسنى المطالب 1 / 56 نشر المكتبة الإسلامية، والموسوع الفقهية الكويتية 2 / 66.

(11/159)


مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا لِتَكُونَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهَا إِلَى الْقِبْلَةِ (1) .

وَالإِْفْضَاءُ
فِي الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ هُوَ: أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَهُ بِالأَْرْضِ، وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَظَاهِرُ إِبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الأَْرْضَ، وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى (2) .

وَالإِْقْعَاءُ:
أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالأَْرْضِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ. أَوْ أَنْ يَجْعَل أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ. (3)
وَفِي نَصِّ الشَّافِعِيَّةِ: الإِْقْعَاءُ الْمَكْرُوهُ: أَنْ يَجْلِسَ الشَّخْصُ عَلَى وَرِكَيْهِ نَاصِبًا رُكْبَتَيْهِ (4) .

وَالتَّوَرُّكُ:
أَنْ يَنْصِبَ الْيُمْنَى وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَقْعُدَ عَلَى الأَْرْضِ (5) .
وَلِتَمَامِ الْفَائِدَةِ تُنْظَرُ هَذِهِ الأَْلْفَاظُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 523 ط الرياض، والجمل على شرح المنهج 1 / 383.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 240، 241 نشر دار المعرفة، والفواكه الدواني 1 / 216، والشرح الصغير 1 / 330، والزرقاني 1 / 213، والمغني 1 / 539.
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية 6 / 87، 88، وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 2 / 120 ط دار الفكر.
(4) شرح المنهاج مع حاشية القليوبي 1 / 145.
(5) أوجز المسالك إلى موطأ مالك 1 / 113، وعمدة القاري 6 / 102 ط المنيرية.

(11/160)


حُكْمُ التَّرَبُّعِ:
أَوَّلاً - التَّرَبُّعُ فِي الصَّلاَةِ:
أ - التَّرَبُّعُ فِي الْفَرِيضَةِ لِعُذْرٍ:
3 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُطِيقُ الْقِيَامَ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا. (1)
وَلأَِنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (3)
4 - وَاخْتَلَفُوا فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ الْقِيَامِ كَيْفَ يَقْعُدُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا قَعَدَ الْمَعْذُورُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مُتَرَبِّعًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ وَهِيَ
__________
(1) حديث: " صل قائما فإن لم تستطع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط السلفية) وزيادة " فإن لم تستطع فمستلقيا " للنسائي كما في (فتح القدير 1 / 375 ط الأميرية والبناية 2 / 688) .
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 781، والبناية شرح الهداية 2 / 687 وما بعدها، وروضة الطالبين 1 / 234، وحاشية العدوي 1 / 306 نشر دار المعرفة.
(3) سورة البقرة / 286.

(11/160)


مَا صَحَّحَهَا الْعَيْنِيُّ - أَنَّ الْمَعْذُورَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ يَجْلِسُ كَيْفَمَا شَاءَ، لأَِنَّ عُذْرَ الْمَرَضِ يُسْقِطُ الأَْرْكَانَ عَنْهُ، فَلأََنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْهَيْئَاتِ أَوْلَى.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ، وَإِذَا رَكَعَ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَجْلِسُ عَلَيْهَا.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّهُ يَقْعُدُ مُفْتَرِشًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ - أَنَّ الْمَعْذُورَ يَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفَاصِيل فِيمَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَفِي هَيْئَةِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ وَلاَ عَلَى الْقِيَامِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (صَلاَةُ الْمَرِيضِ، عُذْرٌ، وَقِيَامٌ) .

ب - التَّرَبُّعُ فِي الْفَرِيضَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ:
5 - التَّرَبُّعُ مُخَالِفٌ لِلْهَيْئَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْفَرِيضَةِ فِي التَّشَهُّدَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ التَّرَبُّعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأَى ابْنَهُ يَتَرَبَّعُ فِي صَلاَتِهِ، فَنَهَاهُ عَنْ
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 307 نشر دار المعرفة، وكشاف القناع 1 / 498 نشر عالم الكتب، وروضة الطالبين 1 / 235، ونهاية المحتاج 1 / 449، والبناية شرح الهداية 2 / 689 ط دار الفكر، وعمدة القاري 17 / 161 ط المنيرية.

(11/161)


ذَلِكَ، فَقَال: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يَا أَبَتِ، فَقَال: إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِي. وَلأَِنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، فَكَانَ أَوْلَى (1) .
وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، لأَِنَّهُمْ يَعُدُّونَ الإِْفْضَاءَ فِي الْجُلُوسِ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الصَّلاَةِ، وَيَعْتَبِرُونَ تَرْكَ سُنَّةٍ خَفِيفَةٍ عَمْدًا مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ مَكْرُوهًا.
وَيُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي قُعُودِ آخِرِ الصَّلاَةِ التَّوَرُّكُ، وَفِي أَثْنَائِهَا الاِفْتِرَاشُ.
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ بِسُنِّيَّةِ الاِفْتِرَاشِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَالتَّوَرُّكِ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي (2) .
وَنَقَل ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّرَبُّعِ لِلصَّحِيحِ فِي الْفَرِيضَةِ. وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: لَعَل الْمُرَادَ بِكَلاَمِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِنَفْيِ الْجَوَازِ إِثْبَاتُ الْكَرَاهَةِ (3) .

ج - التَّرَبُّعُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلاَ فِي أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَل، (4) لِقَوْل
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 215 ط الجمالية، وفتح القدير 1 / 292 ط الأميرية، والاختيار 1 / 60.
(2) الشرح الصغير 1 / 329 و 342، ونهاية المحتاج 1 / 500، وروضة الطالبين 1 / 261، والمبدع 1 / 472، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 581.
(3) فتح الباري 2 / 306 ط السلفية.
(4) المغني مع الشرح الكبير 1 / 776، وبدائع الصنائع 1 / 297 ط الجمالية، ونهاية المحتاج 1 / 451، والشرح الصغير 1 / 358.

(11/161)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (1) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلاَتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ. (2)
7 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقُعُودِ فِي التَّطَوُّعِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يُكَبِّرَ لِلإِْحْرَامِ مُتَرَبِّعًا وَيَقْرَأَ، ثُمَّ يُغَيِّرَ هَيْئَتَهُ لِلرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. (3)
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - فِيمَا نَقَلَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْهُ - تَخْيِيرَ الْمُتَطَوِّعِ فِي حَالَةِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالتَّرَبُّعِ وَالاِحْتِبَاءِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْتَبِي، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الإِْمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ؛ لأَِنَّ عَامَّةَ صَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 586 - ط السلفية) .
(2) حديث: " لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من. . . " أخرجه مسلم (1 / 506 - عيسى الحلبي) .
(3) المغني مع الشرح الكبير 1 / 780، وروضة الطالبين 1 / 235، والبحر الرائق 2 / 68، والشرح الصغير 1 / 360.

(11/162)


فِي آخِرِ الْعُمْرِ كَانَ مُحْتَبِيًا؛ وَلأَِنَّهُ يَكُونُ أَكْثَرَ تَوَجُّهًا بِأَعْضَائِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَقَال زُفَرُ: يَقْعُدُ فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ، هَذَا مَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ.
وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ شَرْعًا فِي الصَّلاَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال: إِنَّ الْمُتَطَوِّعَ يَقْعُدُ مُفْتَرِشًا. (1)

ثَانِيًا - التَّرَبُّعُ عِنْدَ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ:
8 - لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي كُل حَالٍ: قَائِمًا أَوْ جَالِسًا، مُتَرَبِّعًا أَوْ غَيْرَ مُتَرَبِّعٍ، أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ (2) وَعَنْهَا قَالَتْ: إِنِّي لأََقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى سَرِيرِي.
__________
(1) البحر الرائق 2 / 68 - 69، وروضة الطالبين 1 / 235.
(2) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 401 - ط السلفية) .

(11/162)


تَرْتِيبٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْتِيبُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل كُل شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ جَعْل الأَْشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ، وَيَكُونُ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ نِسْبَةٌ إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّتَابُعُ وَالْمُوَالاَةُ:
2 - التَّتَابُعُ: مَصْدَرُ تَتَابَعَ، يُقَال: تَتَابَعَتِ الأَْشْيَاءُ وَالأَْمْطَارُ وَالأُْمُورُ، إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهَا خَلْفَ وَاحِدٍ عَلَى أَثَرِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْقَطْعِ وَفَسَّرَ الْفُقَهَاءُ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ: بِأَنْ لاَ يُفْطِرَ الْمَرْءُ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ (2) .
__________
(1) متن اللغة، والتعريفات للجرجاني، مادة: " رتب "، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 527، 528، ودستور العلماء 1 / 285.
(2) متن اللغة، وتاج العروس مادة: " تبع "، وتفسير الطبري 9 / 56، وروح المعاني 5 / 115، والمنثور للزركشي 1 / 241، والقليوبي 2 / 94، والمغني 7 / 365.

(11/163)


وَعَلَى ذَلِكَ، فَالتَّتَابُعُ وَالْمُوَالاَةُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّتَابُعَ غَالِبًا فِي الاِعْتِكَافِ وَكَفَّارَةِ الصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْمُوَالاَةَ غَالِبًا فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْغُسْل.
وَيَخْتَلِفُ التَّرْتِيبُ عَنِ التَّتَابُعِ وَالْمُوَالاَةِ فِي أَنَّ التَّرْتِيبَ يَكُونُ لِبَعْضِ الأَْجْزَاءِ نِسْبَةٌ إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، بِخِلاَفِ التَّتَابُعِ وَالْمُوَالاَةِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ التَّتَابُعَ وَالْمُوَالاَةَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا عَدَمُ الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَضُرُّهُمَا التَّرَاخِي، بِخِلاَفِ التَّرْتِيبِ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّرْتِيبُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كَالأَْعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْجَمَرَاتِ الثَّلاَثِ، فَإِنِ اتَّحَدَ الْمَحَل وَلَمْ يَتَعَدَّدْ فَلاَ مَعْنَى لِلتَّرْتِيبِ كَمَا يَقُول الزَّرْكَشِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ فِي الْغُسْل؛ لأَِنَّهُ فَرْضٌ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، تَسْتَوِي فِيهِ الأَْعْضَاءُ كُلُّهَا. وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ الْوَاحِدُ وَالسُّجُودُ الْوَاحِدُ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ التَّرْتِيبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ظَهَرَ أَثَرُهُ. (2)
__________
(1) المراجع السابقة، ابن عابدين 2 / 83، وجواهر الإكليل 1 / 15، والمغني 1 / 139.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 277.

(11/163)


هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ وَأَهَمِّيَّةَ التَّرْتِيبِ فِي مَبَاحِثِ الْعِبَادَاتِ مِنَ: الطَّهَارَةِ، وَأَرْكَانِ الصَّلاَةِ، وَنُسُكِ الْحَجِّ، وَالْكَفَّارَاتِ فِي النُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ وَنَحْوِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَالتَّرْتِيبِ فِي أَرْكَانِ الصَّلاَةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ - التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ:
4 - التَّرْتِيبُ فِي أَعْمَال الْوُضُوءِ فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الآْيَةِ مُرَتَّبَةً، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) لأَِنَّ إِدْخَال الْمَمْسُوحِ (أَيِ الرَّأْسِ) بَيْنَ الْمَغْسُولاَتِ (أَيِ الأَْيْدِي وَالأَْرْجُل) قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَالْعَرَبُ لاَ تَقْطَعُ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ إِلاَّ لِفَائِدَةٍ، وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا التَّرْتِيبُ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (3) إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، بَل هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الأَْعْضَاءِ، وَعَطَفَ
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) القليوبي 1 / 50، والمغني لابن قدامة 1 / 137.
(3) ابن عابدين 1 / 83، وجواهر الإكليل 1 / 16.

(11/164)


بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَهِيَ لاَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ (1) .
وَالتَّرْتِيبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عُضْوَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي حُكْمِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجِبْ، وَلِهَذَا لاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا (2) . وَلَكِنْ يُسَنُّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ (3) .

ب - التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ:
5 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الْوَقْتِيَّةِ إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ. فَمَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ أَوْ صَلَوَاتٌ وَهُوَ فِي وَقْتِ أُخْرَى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ مُرَتَّبَةً، ثُمَّ يُؤَدِّيَ الصَّلاَةَ الْوَقْتِيَّةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا لاَ يَتَّسِعُ لأَِكْثَرَ مِنَ الْحَاضِرَةِ فَيُقَدِّمُهَا، ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 83، والدسوقي 1 / 99.
(2) المنثور للزركشي 1 / 277، 279، والمراجع السابقة.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 269 - ط السلفية) ومسلم (1 / 226 - ط الحلبي) .

(11/164)


عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ مَعَ صَلاَةٍ حَاضِرَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ، بَل يُسَنُّ تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ، كَأَنْ يَقْضِيَ الصُّبْحَ قَبْل الظُّهْرِ، وَالظُّهْرَ قَبْل الْعَصْرِ. وَكَذَلِكَ يُسَنُّ تَقْدِيمُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْحَاضِرَةِ مُحَاكَاةً لِلأَْدَاءِ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْحَاضِرَةِ بَدَأَ بِهَا وُجُوبًا لِئَلاَّ تَصِيرَ فَائِتَةً. (2)
هَذَا، وَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْيَانِ، وَخَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ مُسْقِطًا آخَرَ هُوَ زِيَادَةُ الْفَوَائِتِ عَلَى خَمْسٍ. (3) وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .

ج - التَّرْتِيبُ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ:
6 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: لَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، يَقُومُ الرِّجَال صَفًّا مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ ثُمَّ الإِْنَاثُ (4) . وَإِذَا تَقَدَّمَتِ
__________
(1) الاختيار 1 / 63، 64، وابن عابدين 1 / 487، وجواهر الإكليل 1 / 58، والمغني 1 / 607، 610.
(2) حاشية القليوبي على المنهاج 1 / 118.
(3) الاختيار للموصلي 1 / 64، وجواهر الإكليل 1 / 58، 59، والمغني 1 / 608، 612.
(4) البدائع 1 / 159، وجواهر الإكليل 1 / 83، والمهذب 1 / 107، وكشاف القناع 1 / 488.

(11/165)


النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَال فَسَدَتْ صَلاَةُ مَنْ وَرَاءَهُنَّ مِنْ صُفُوفِ الرِّجَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ حِينَئِذٍ دُونَ الْفَسَادِ، (1) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاءٌ، صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَرِدُ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - إِضَافَةً إِلَى مَا سَبَقَ - فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:

أ - التَّرْتِيبُ فِي الْجَنَائِزِ:
7 - إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ حِينَ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يَصُفُّ الرِّجَال مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، ثُمَّ صَفَّ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ صَفَّ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي وَضْعِ الأَْمْوَاتِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِ الْجَنَائِزِ.

ب - التَّرْتِيبُ فِي الْحَجِّ:
8 - التَّرْتِيبُ فِي أَعْمَال الْحَجِّ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْخْلاَل بِهِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. (ر: إِحْرَامٌ) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 138، 139، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 332، ومغني المحتاج 1 / 245، وكشاف القناع 1 / 488.

(11/165)


ج - الدُّيُونُ:
9 - التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا (ر: دَيْنٌ) .

د - أَدِلَّةُ الإِْثْبَاتِ:
10 - التَّرْتِيبُ فِي أَدِلَّةِ الإِْثْبَاتِ مِنَ الإِْقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَرَائِنِ وَنَحْوِهَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.

هـ - النِّكَاحُ:
11 - تَرْتِيبُ الأَْوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَحَقِّ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ كَالإِْرْثِ وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهِمَا مَذْكُورٌ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

و الْكَفَّارَاتُ:
12 - التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَاتِ فِي الأَْيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا أَوْرَدَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

تَرْتِيلٌ
انْظُرْ: تِلاَوَةٌ.

(11/166)


تَرْجَمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْجَمَةُ: مَصْدَرُ تَرْجَمَ، يُقَال: تَرْجَمَ كَلاَمَهُ: إِذَا بَيَّنَهُ، وَيُقَال: تَرْجَمَ كَلاَمَ غَيْرِهِ: إِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانٍ آخَرَ. وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ، وَالتَّرْجُمَانُ، وَالتَّرْجَمَانُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّرْجَمَةِ عَنِ الْمَعْنَى الثَّانِي (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّفْسِيرُ:
2 - التَّفْسِيرُ مَصْدَرُ فَسَّرَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ وَالإِْظْهَارِ (3) .
وَفِي الشَّرْعِ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الآْيَةِ (أَيْ وَنَحْوِهَا) وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً ظَاهِرَةً (4) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، ومتن اللغة مادة: " ترجم "، وكشاف القناع 6 / 352.
(2) كشاف القناع 6 / 352 ط عالم الكتب.
(3) مختار الصحاح، ومتن اللغة، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: " فسر ".
(4) التعريفات للجرجاني، ودستور العلماء مادة: " التفسير ".

(11/166)


فَالتَّرْجَمَةُ تَكُونُ بِلُغَةٍ مُغَايِرَةٍ، وَعَلَى قَدْرِ الْكَلاَمِ الْمُتَرْجَمِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، بِخِلاَفِ التَّفْسِيرِ فَقَدْ يَطُول وَيَتَنَاوَل الدَّلاَلاَتِ التَّابِعَةَ لِلَّفْظِ.

تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَنْوَاعُهَا:
3 - قَال الشَّاطِبِيُّ: لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ - مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ - نَظَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ مُطَلَّقَةٍ، وَهِيَ الدَّلاَلَةُ الأَْصْلِيَّةُ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُقَيَّدَةً، دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ خَادِمَةٍ، وَهِيَ الدَّلاَلَةُ التَّابِعَةُ.
فَالْجِهَةُ الأُْولَى: هِيَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الأَْلْسِنَةِ، وَإِلَيْهَا تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلاَ تَخْتَصُّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَل فِي الْوُجُودِ فِعْلٌ لِزَيْدٍ مَثَلاً كَالْقِيَامِ، ثُمَّ أَرَادَ كُل صَاحِبِ لِسَانٍ الإِْخْبَارَ عَنْ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ، تَأَتَّى لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ. وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الإِْخْبَارُ عَنْ أَقْوَال الأَْوَّلِينَ - مِمَّنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ - وَحِكَايَةِ كَلاَمِهِمْ. وَيَتَأَتَّى فِي لِسَانِ الْعَجَمِ حِكَايَةُ أَقْوَال الْعَرَبِ وَالإِْخْبَارُ عَنْهَا، وَهَذَا لاَ إِشْكَال فِيهِ.
وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا لِسَانُ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْحِكَايَةِ وَذَلِكَ الإِْخْبَارِ، فَإِنَّ كُل خَبَرٍ يَقْتَضِي فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أُمُورًا خَادِمَةً لِذَلِكَ

(11/167)


الإِْخْبَارِ، بِحَسَبِ الْمُخْبِرِ، وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالْمُخْبَرِ بِهِ، وَنَفْسِ الإِْخْبَارِ، فِي الْحَال وَالْمَسَاقِ، وَنَوْعِ الأُْسْلُوبِ: مِنَ الإِْيضَاحِ وَالإِْخْفَاءِ، وَالإِْيجَازِ، وَالإِْطْنَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُول فِي ابْتِدَاءِ الإِْخْبَارِ: قَامَ زَيْدٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ عِنَايَةٌ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، بَل بِالْخَبَرِ. فَإِنْ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ قُلْتَ: زَيْدٌ قَامَ. وَفِي جَوَابِ السُّؤَال أَوْ مَا هُوَ مُنَزَّلٌ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ: إِنَّ زَيْدًا قَامَ. وَفِي جَوَابِ الْمُنْكِرِ لِقِيَامِهِ: وَاَللَّهِ إِنَّ زَيْدًا قَامَ. وَفِي إِخْبَارِ مَنْ يَتَوَقَّعُ قِيَامَهُ، أَوِ الإِْخْبَارِ بِقِيَامِهِ: قَدْ قَامَ زَيْدٌ، أَوْ زَيْدٌ قَدْ قَامَ. وَفِي التَّنْكِيتِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ.
ثُمَّ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا بِحَسَبِ تَعْظِيمِهِ أَوْ تَحْقِيرِهِ - أَعْنِي الْمُخْبَرَ عَنْهُ - وَبِحَسَبِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَبِحَسَبِ مَا يُقْصَدُ فِي مَسَاقِ الإِْخْبَارِ، وَمَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى الْحَال، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَائِرٌ حَوْل الإِْخْبَارِ بِالْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ.
فَمِثْل هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْكَلاَمِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِهَا، لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الأَْصْلِيَّ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مُكَمِّلاَتِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ. وَبِطُول الْبَاعِ فِي هَذَا النَّوْعِ يَحْسُنُ مَسَاقُ الْكَلاَمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنْكَرٌ. وَبِهَذَا النَّوْعِ الثَّانِي اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَقَاصِيصِ الْقُرْآنِ؛ لأَِنَّهُ يَأْتِي مَسَاقُ الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ عَلَى وَجْهٍ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَفِي ثَالِثَةٍ عَلَى وَجْهٍ

(11/167)


ثَالِثٍ، وَهَكَذَا مَا تَقَرَّرَ فِيهِ مِنَ الإِْخْبَارَاتِ لاَ بِحَسَبِ النَّوْعِ الأَْوَّل، إِلاَّ إِذَا سَكَتَ عَنْ بَعْضِ التَّفَاصِيل فِي بَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ. وَذَلِكَ أَيْضًا لِوَجْهٍ اقْتَضَاهُ الْحَال وَالْوَقْتُ. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1)
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلاَ يُمْكِنُ لِمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَجْهَ الأَْخِيرَ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلاَمًا مِنَ الْكَلاَمِ الْعَرَبِيِّ بِكَلاَمِ الْعَجَمِ عَلَى حَالٍ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنُ وَيُنْقَل إِلَى لِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ، إِلاَّ مَعَ فَرْضِ اسْتِوَاءِ اللِّسَانَيْنِ فِي اعْتِبَارِهِ عَيْنًا، كَمَا إِذَا اسْتَوَى اللِّسَانُ فِي اسْتِعْمَال مَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ وَنَحْوُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الْمَنْقُول إِلَيْهِ مَعَ لِسَانِ الْعَرَبِ، أَمْكَنَ أَنْ يُتَرْجَمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ. وَإِثْبَاتُ مِثْل هَذَا بِوَجْهٍ بَيِّنٍ عَسِيرٌ جِدًّا. وَرُبَّمَا أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَهْل الْمَنْطِقِ مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ وَلاَ مُغْنٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَقَدْ نَفَى ابْنُ قُتَيْبَةَ إِمْكَانَ التَّرْجَمَةِ فِي الْقُرْآنِ يَعْنِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَمِنْ جِهَتِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيل مَعَانِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ، فَصَارَ هَذَا الاِتِّفَاقُ حُجَّةً فِي صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمَعْنَى الأَْصْلِيِّ (2) .
__________
(1) سورة مريم / 64.
(2) الموافقات 2 / 66 - 68.

(11/168)


4 - هَذَا وَتَنْقَسِمُ التَّرْجَمَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - التَّرْجَمَةُ الْحَرْفِيَّةُ: وَهِيَ النَّقْل مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى، مَعَ الْتِزَامِ الصُّورَةِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْكَلِمَةِ، أَوْ تَرْتِيبِ الْعِبَارَةِ. (1)
ب - التَّرْجَمَةُ لِمَعَانِي الْكَلاَمِ: وَهِيَ تَعْبِيرٌ بِأَلْفَاظٍ تُبَيِّنُ مَعَانِيَ الْكَلاَمِ وَأَغْرَاضَهُ، وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهَل تُسَمَّى قُرْآنًا؟
5 - ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ كِتَابَةِ آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ بِحُرُوفٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، لاَ كِتَابَتِهِ كُلِّهِ، لَكِنْ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَتَفْسِيرُ كُل حَرْفٍ وَتَرْجَمَتُهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ. لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْفُرْسِ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَتَبَ لَهُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِالْفَارِسِيَّةِ.

ب - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
وَنَظَرُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى اخْتِلاَفِ آرَائِهِمْ مُتَوَجِّهٌ إِلَى عَدَمِ الإِْخْلاَل بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ لاَ تَكُونَ مُؤَدِّيَةً إِلَى التَّهَاوُنِ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُسَمَّى قُرْآنًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ. (2)
__________
(1) الصحاح في اللغة والعلوم مادة: " ترجم ".
(2) ابن عابدين 1 / 325، 326، 327، وبدائع الصنائع 1 / 112 ط دار الكتاب العربي، والقوانين / 65، ومواهب الجليل 1 / 159 ط دار الفكر، والقليوبي 1 / 151 ط عيسى البابي الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 244 ط دار المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 1 / 462 ط مصطفى البابي الحلبي.

(11/168)


6 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ قِرَاءَتَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يُحْسِنْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1) أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُنَزَّل بِلُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) وَقَال أَيْضًا: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (3)
وَلأَِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبِيل التَّفْسِيرِ، وَلَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُنَزَّل عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْقُرْآنُ دَلِيل النُّبُوَّةِ وَعَلاَمَةُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْمُعْجِزُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالإِْعْجَازُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُول بِزَوَال النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، فَلاَ تَكُونُ التَّرْجَمَةُ قُرْآنًا لاِنْعِدَامِ الإِْعْجَازِ، وَلِذَا لَمْ تَحْرُمْ قِرَاءَةُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِهَا مَنْ حَلَفَ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. (4)
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) سورة يوسف / 2.
(3) سورة الشعراء / 195.
(4) القوانين ص 65، ومواهب الجليل 1 / 519، والقليوبي 1 / 151، وروضة الطالبين 1 / 244، ونهاية المحتاج 1 / 462، والمجموع 3 / 299، والمغني 1 / 486، 487، كشاف القناع 1 / 340.

(11/169)


وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ يَجُوزُ. وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُنَزَّل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْظُومِ هَذَا النَّظْمِ الْخَاصِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا. وَالأَْعْجَمِيَّةُ إِنَّمَا تُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا، وَلِذَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُتَرْجَمِ إِلَيْهَا (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ - فِيمَا يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ حَرْفِيًّا - كَمَا يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لاَ يُحْسِنُ، فَتَجِبُ لأَِنَّهَا اعْتُبِرَتْ خَلَفًا عَنِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، وَلَيْسَ لِكَوْنِهَا قُرْآنًا، فَهِيَ حِينَئِذٍ رُخْصَةٌ عِنْدَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِيرُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ (2) . وَقَدْ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى رَأْيِ صَاحِبَيْهِ كَمَا سَبَقَ.
ثُمَّ الْجَوَازُ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - الْمَرْجُوعِ عَنْهُ - مَقْصُورٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لاَ يَكُونُ مُتَّهَمًا بِالْعَبَثِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مُعْتَادًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 325، وبدائع الصنائع 1 / 112.
(2) الهداية 1 / 47 ط مصطفى البابي الحلبي، وبدائع الصنائع 1 / 112 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 1 / 325، 326، 327.

(11/169)


بِالْعَجَمِيَّةِ، أَمَّا اعْتِيَادُ الْقِرَاءَةِ بِالأَْعْجَمِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ مُطْلَقًا. (1)

ج - مَسُّ الْمُحْدِثِ التَّرْجَمَةَ وَحَمْلَهَا وَقِرَاءَتَهَا:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ وَلاَ مَسُّهُ، وَلَوْ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَنْعُ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. (2)
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ: جَوَازُ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا، قَل التَّفْسِيرُ أَوْ كَثُرَ، لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ. (3)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ حَمْل التَّفْسِيرِ وَمَسِّهِ، إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَسَاوَيَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَحِل إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ لإِِخْلاَلِهِ بِالتَّعْظِيمِ. (4) وَالتَّرْجَمَةُ مِنْ قَبِيل التَّفْسِيرِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 326، 327 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) ابن عابدين 1 / 195، 325، وبدائع الصنائع 1 / 112.
(3) مواهب الجليل 1 / 375، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135، وتصحيح الفروع للمقدسي 1 / 308 ط مطبعة المنار.
(4) القليوبي 1 / 37، وروضة الطالبين 1 / 80.

(11/170)


د - تَرْجَمَةُ الأَْذَانِ:
8 - لَوْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ. (1) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الأَْذَانِ: أَنْ يَكُونَ بِالأَْلْفَاظِ الْمَشْرُوعَةِ. (2)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِيهِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَمْ يُجْزِئِ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُحْسِنُهَا. وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لاَ يُجْزِئُهُ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ. (3)

هـ - تَرْجَمَةُ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَأَذْكَارِ الصَّلاَةِ:
9 - لَوْ كَبَّرَ الْمُصَلِّي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، عَجَزَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يَعْجِزْ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، (4) وَقِيَاسًا عَلَى إِسْلاَمِ الْكَافِرِ (5) .
وَشَرَطَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَجْزَ الشَّخْصِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 237.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 191.
(3) المجموع 3 / 129.
(4) سورة الأعلى / 15.
(5) ابن عابدين 1 / 325، 326، وبدائع الصنائع 1 / 3، والمجموع 3 / 301.

(11/170)


وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: الْخُطْبَةُ وَأَذْكَارُ الصَّلاَةِ، كَمَا لَوْ سَبَّحَ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَعَوَّذَ، أَوْ هَلَّل، أَوْ تَشَهَّدَ، أَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِحُّ عِنْدَهُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَشَرَطَا الْعَجْزَ وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ الشَّخْصُ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ، أَوْ لَبَّى عِنْدَ الإِْحْرَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لاَ، جَازَ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ رَجَعَا إِلَى قَوْل الإِْمَامِ فِي جَوَازِ التَّكْبِيرِ وَالأَْذْكَارِ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمَا فِي عَدَمِ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ التَّكْبِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ سَقَطَ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِهَا، وَيَكْفِيهِ نِيَّتُهُ كَالأَْخْرَسِ، فَإِنْ أَتَى الْعَاجِزُ عَنْهُ بِمُرَادِفِهِ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى لَمْ تَبْطُل، قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَلَوْ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ شُيُوخِ الْقَاضِي عِيَاضٍ: يَجُوزُ الإِْتْيَانُ بِالتَّكْبِيرِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ الْجَمَاعَةُ عَجَمًا لاَ يَعْرِفُونَ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ الإِْتْيَانَ بِالْخُطْبَةِ عَرَبِيَّةً لَمْ تَلْزَمْهُمْ جُمُعَةٌ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 325، وبدائع الصنائع 1 / 113.
(2) مواهب الجليل 1 / 515، وحاشية الدسوقي 1 / 233 و 1 / 378.

(11/171)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِذَا أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (1) وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُكَبِّرُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَيْضًا قَال لِلْمُسِيءِ فِي صَلاَتِهِ: إِذَا قُمْتَ لِلصَّلاَةِ فَكَبِّرْ. . (2) وَلأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ الْعُدُول عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. هَذَا إِذَا أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ لَزِمَهُ تَعَلُّمُ التَّكْبِيرِ بِهَا إِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ، وَإِلاَّ كَبَّرَ بِلُغَتِهِ. وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزَانِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ (3) .
وَأَمَّا خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّمُهَا، خَطَبَ بِغَيْرِهَا، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ إِمْكَانِ التَّعَلُّمِ - وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا - عَصَوْا كُلُّهُمْ وَلاَ جُمُعَةَ لَهُمْ (4) .
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إذا قمت للصلاة فكبر " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 277 - ط السلفية) ومسلم (1 / 298 - ط الحلبي) .
(3) المجموع 3 / 299، 301، ونهاية المحتاج 1 / 462، وروضة الطالبين 1 / 221، 226، والقليوبي 1 / 143، 151، 168، والمغني 1 / 545، وكشاف القناع 2 / 34.
(4) روضة الطالبين 2 / 26، والجمل على شرح المنهج 2 / 27، والمنثور للزركشي 1 / 282.

(11/171)


وَفِي السَّلاَمِ بِالْعَجَمِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَجُزْ، وَقَال النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ صِحَّةُ سَلاَمِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهَا (1) .
وَالضَّابِطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجَمَةِ هُوَ: أَنَّ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ لإِِعْجَازِهِ امْتَنَعَ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ امْتَنَعَ لِلْقَادِرِ، كَالأَْذَانِ وَتَكْبِيرِ الإِْحْرَامِ وَالتَّشَهُّدِ وَالأَْذْكَارِ الْمَنْدُوبَةِ، وَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَالسَّلاَمِ وَالْخُطْبَةِ. وَمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، فَجَائِزٌ، كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهَا.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ كَوْنَ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، قَال النَّوَوِيُّ: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْوَعْظُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُل اللُّغَاتِ (2) .

و الدُّعَاءُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
10 - الْمَنْقُول عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَهَى عَنْ رَطَانَةِ الأَْعَاجِمِ، وَالرَّطَانَةُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ: الْكَلاَمُ بِالأَْعْجَمِيَّةِ. وَظَاهِرُ التَّعْلِيل: أَنَّ الدُّعَاءَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 230.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 282، 283، والمجموع 4 / 522. وترى اللجنة أن ما اختلفوا في صحته بالعجمية أو عدم صحته بها هو أركان الخطبة التي لا تجزئ الخطبة إلا بها، أما ما زاد على ذلك فلا بأس به بغير العربية إن لم يكن السامعون عربا.

(11/172)


بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا فِي الصَّلاَةِ، وَتَنْزِيهًا خَارِجَهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ - عَلَى مَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْقَرَافِيِّ - مُعَلِّلاً بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُنَافِي التَّعْظِيمَ، وَقَيَّدَ اللَّقَّانِيُّ كَلاَمَ الْقَرَافِيِّ بِالأَْعْجَمِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ الْمَدْلُول، أَخْذًا مِنْ تَعْلِيلِهِ، وَهُوَ اشْتِمَالُهَا عَلَى مَا يُنَافِي جَلاَل الرُّبُوبِيَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا عَلِمَ مَدْلُولَهَا فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا مُطْلَقًا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (3) وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الدُّسُوقِيُّ أَيْضًا. (4)
وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْكَلاَمَ فَقَالُوا: الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا أَوْ غَيْرَ مَأْثُورٍ. أَمَّا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ، فَإِنْ فَعَل بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 350.
(2) سورة البقرة / 31.
(3) سورة إبراهيم / 4.
(4) ابن عابدين 1 / 350، وحاشية الدسوقي 1 / 233 ط دار الفكر.

(11/172)


وَالثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الدُّعَاءُ غَيْرُ الْمَأْثُورِ فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ اخْتِرَاعُهُ وَالإِْتْيَانُ بِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ قَوْلاً وَاحِدًا.
وَأَمَّا سَائِرُ الأَْذْكَارِ كَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَالْقُنُوتِ، وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ، فَعَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ الدُّعَاءِ بِالأَْعْجَمِيَّةِ تَجُوزُ بِالأُْولَى، وَإِلاَّ فَفِي جَوَازِهَا لِلْعَاجِزِ أَوْجُهٌ:
أَصَحُّهَا: الْجَوَازُ. وَالثَّانِي: لاَ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ فِيمَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْحَاوِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِكُل الأَْذْكَارِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا أَتَى بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: فَمَا كَانَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلاَمِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَا كَانَ سُنَّةً كَالتَّسْبِيحِ وَالاِفْتِتَاحِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ (1) .

ز - الإِْتْيَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الإِْسْلاَمَ:
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَرَادَ الإِْسْلاَمَ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ عَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
__________
(1) المجموع 3 / 299، 300، والمغني 3 / 292، وكشاف القناع 2 / 420، 421.

(11/173)


جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ الإِْخْبَارُ عَنِ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِكُل لِسَانٍ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالْعَرَبِيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ لِعَجْزٍ - بِخَرَسٍ وَنَحْوِهِ - مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى تَصْدِيقِهِ بِقَلْبِهِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالإِْسْلاَمِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ إِسْلاَمُ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. (3) وَأَمَّا إِنْ قَال: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ، قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ بِهَذَا وَإِنْ لَمْ يَلْفِظِ الشَّهَادَتَيْنِ.

ح - الأَْمَانُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
12 - الأَْمَانُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِذَا قُلْتُمْ: لاَ بَأْسَ أَوْ: لاَ تَذْهَل أَوْ: مَتْرَسَ (4) ، فَقَدْ آمَنْتُمُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الأَْلْسِنَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِثْل ذَلِكَ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 325، والمجموع 3 / 301.
(2) جواهر الإكليل 1 / 22 ط دار المعرفة.
(3) المغني 1 / 141.
(4) ابن عابدين 3 / 226، 227، والقوانين / 159، والقليوبي 4 / 226، والمغني 8 / 489، وكشاف القناع 3 / 106.

(11/173)


ط - انْعِقَادُ النِّكَاحِ وَوُقُوعُ الطَّلاَقِ، بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
أَوَّلاً - تَرْجَمَةُ صِيغَةِ النِّكَاحِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلِسَانِهِ؛ لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا سِوَاهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ كَالأَْخْرَسِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ بِحَيْثُ يَشْتَمِل عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا كَانَتِ الْعَرَبِيَّةُ شَرْطًا فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَقْدِرُ عَلَى لَفْظِ النِّكَاحِ بِالْعَرَبِيَّةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهَا؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِهِ الْخَاصِّ، فَانْعَقَدَ بِهِ، كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلأَِنَّ اللُّغَةَ الْعَجَمِيَّةَ تَصْدُرُ عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِهَا عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ وَإِلاَّ فَلاَ (1) . وَقَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ الآْخَرِ أَتَى الَّذِي يُحْسِنُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 270، وروضة الطالبين 7 / 36، والمغني 6 / 533، وكشاف القناع 5 / 38، 40.

(11/174)


الْعَرَبِيَّةَ بِمَا هُوَ مِنْ قِبَلِهِ - مِنْ إِيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ - بِالْعَرَبِيَّةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْعَاقِدُ الآْخَرُ يَأْتِي بِمَا هُوَ مِنْ قِبَلِهِ بِلُغَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لاَ يُحْسِنُ لِسَانَ الآْخَرِ تَرْجَمَ بَيْنَهُمَا ثِقَةٌ يَعْرِفُ اللِّسَانَيْنِ (1) .

ثَانِيًا - التَّطْلِيقُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْعَجَمِيَّ إِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلاَقِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَانَ طَلاَقًا، وَإِذَا أَتَى بِالْكِنَايَةِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِنِيَّتِهِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الأَْلْفَاظِ الَّتِي تُعْتَبَرُ صَرِيحَ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ بَعْضَهَا فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ بِالْعَجَمِيَّةِ لَزِمَهُ إِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ عَدْلاَنِ يَعْرِفَانِ الْعَجَمِيَّةَ. قَال ابْنُ نَاجِي: قَال أَبُو إِبْرَاهِيمَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ التُّرْجُمَانَ لاَ يَكُونُ أَقَل مِنْ عَدْلَيْنِ (3) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَلاَقٌ) .

ي - التَّرْجَمَةُ فِي الْقَضَاءِ:
15 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُتَرْجِمًا (4) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 39.
(2) ابن عابدين 2 / 429، 464، والفتاوى الهندية ط المطبعة الأميرية، والقليوبي 3 / 324، 327، ونهاية المحتاج 6 / 428، وروضة الطالبين 8 / 23، 25، والمغني 7 / 124، 238.
(3) مواهب الجليل 4 / 44.
(4) ابن عابدين 4 / 374، ومواهب الجليل 6 / 111، والشرح الصغير 4 / 202، وروضة الطالبين 11 / 136، والمغني 9 / 100، 101، وكشاف القناع 6 / 352.

(11/174)


وَأَمَّا تَعَدُّدُهُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّهُ يَكْفِي وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ، قَال: فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِمْ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كَتَبُوا (1) .
وَلأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ فَأَجْزَأَ فِيهِ الْوَاحِدُ كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْل إِنْ رَتَّبَهُ الْقَاضِي. أَمَّا غَيْرُ الْمُرَتَّبِ بِأَنْ أَتَى بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ طَلَبَهُ الْقَاضِي لِلتَّبْلِيغِ، فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ كَالشَّاهِدِ. وَفِي قَوْلٍ: لاَ بُدَّ مِنْ تَعَدُّدِهِ، وَلَوْ رُتِّبَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ؛ لأَِنَّ الْمُتَرْجِمَ يَنْقُل إِلَى الْقَاضِي قَوْلاً لاَ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي، وَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلِذَا فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ. فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَتَيْنِ قُبِلَتِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَمَا لاَ
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " أنه أمره أن يتعلم كتاب يهود. . . " أخرجه الترمذي (5 / 67 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) الشرح الصغير 4 / 202، ومواهب الجليل 6 / 116.

(11/175)


يَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ يُشْتَرَطُ فِي تَرْجَمَتِهِ رَجُلاَنِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا قَوْلاَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَكْفِي فِيهِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُولٍ:
وَالثَّانِي: يَكْفِي فِيهِ اثْنَانِ. وَقِيل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي رَجُلاَنِ قَطْعًا (1) .

تَرْجِيحٌ

انْظُرْ: تَعَارُضٌ.
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 136، والمغني 9 / 100، 101، وكشاف القناع 6 / 352، 353.

(11/175)


تَرْجِيعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْجِيعُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: تَرْدِيدُ الصَّوْتِ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ أَذَانٍ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَرَنَّمُ بِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِهِمَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّثْوِيبُ:
2 - التَّثْوِيبُ لُغَةً: الْعَوْدُ إِلَى الإِْعْلاَمِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ.
وَاصْطِلاَحًا: قَوْل الْمُؤَذِّنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ، أَوْ بَعْدَ الأَْذَانِ وَقَبْل الإِْقَامَةِ - كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ (3) .
وَيَخْتَلِفُ التَّثْوِيبُ عَنِ التَّرْجِيعِ - بِالْمَعْنَى
__________
(1) لسان العرب مادة: " رجع ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 259.
(3) الزيلعي 1 / 92، وروضة الطالبين 1 / 199 نشر المكتب الإسلامي. وقليوبي وعميرة 1 / 128.

(11/176)


الأَْوَّل - فِي أَنَّ التَّثْوِيبَ يَكُونُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَوْ بَعْدَ الأَْذَانِ، وَأَمَّا التَّرْجِيعُ فَيَكُونُ فِي الإِْتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي كُل أَذَانٍ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ - أَنَّهُ لاَ تَرْجِيعَ فِي الأَْذَانِ (2) ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ.
فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ. فَقُمْتُ مَعَ بِلاَلٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ (3) .
فَإِذَا رَجَعَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَدْ نَصَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَاعْتُبِرَ الاِخْتِلاَفُ فِي التَّرْجِيعِ مِنَ الاِخْتِلاَفَاتِ الْمُبَاحَةِ، وَقَال
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 223 نشر دار المعرفة، والمجموع للنووي بتحقيق محمد نجيب المطيعي 3 / 89، وروضة الطالبين 1 / 199.
(2) الزيلعي 1 / 90، والبحر الرائق 1 / 269، والبناية في شرح الهداية 2 / 9 نشر دار الفكر، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 416، والإنصاف 1 / 412 الطبعة الأولى 1374 هـ.
(3) حديث: " عبد الله بن زيد من غير ترجيع ". أخرجه أبو داود (1 / 338 ط عزت عبيد دعاس) . وصححه البخاري كما في التلخيص لابن حجر (1 / 197 ط شركة الطباعة الفنية) .

(11/176)


ابْنُ نُجَيْمٍ: الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّرْجِيعَ مُبَاحٌ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ؛ لأَِنَّ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَل الْحَصْكَفِيُّ عَنْ مُلْتَقَى الأَْبْحُرِ كَرَاهَةَ التَّرْجِيعِ فِي الأَْذَانِ، وَحَمَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُسَنُّ التَّرْجِيعُ فِي الأَْذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْقَى عَلَيْهِ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَقَال لَهُ: قُل: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، ثُمَّ قَال: ارْجِعْ فَامْدُدْ صَوْتَكَ، ثُمَّ قَال: قُل: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. . إِلَخْ (2) .
وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ: أَنَّ التَّرْجِيعَ رُكْنٌ لاَ يَصِحُّ الأَْذَانُ إِلاَّ بِهِ. قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: نَقَل الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الإِْمَامِ
__________
(1) البحر الرائق ومنحة الخالق 1 / 269، وحاشية ابن عابدين 1 / 259، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 417.
(2) حديث أبي محذورة. أخرجه النسائي (2 / 6 ط المكتبة التجارية) وصحه ابن دقيق العيد. التلخيص (1 / 200 ط شركة الطباعة الفنية) .

(11/177)


الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ التَّرْجِيعَ لاَ يَصِحُّ أَذَانُهُ (1) .

مَحَل التَّرْجِيعِ:
4 - التَّرْجِيعُ يَكُونُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ بَعْدَ الإِْتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعًا، فَلاَ يُرَجِّعُ الشَّهَادَةَ الأُْولَى قَبْل الإِْتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ (2) .

حِكْمَةُ التَّرْجِيعِ:
5 - حِكْمَةُ التَّرْجِيعِ هِيَ تَدَبُّرُ كَلِمَتَيِ الإِْخْلاَصِ؛ لِكَوْنِهِمَا الْمُنَجِّيَتَيْنِ مِنَ الْكُفْرِ، الْمُدْخِلَتَيْنِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَتَذَكُّرِ خَفَائِهِمَا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ ظُهُورِهِمَا (3) .
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 223، والمجموع للنووي 3 / 90، 91، وروضة الطالبين 1 / 199، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 416.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 223، والزرقاني 1 / 158.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 224، ونهاية المحتاج 1 / 391.

(11/177)


تَرْجِيلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرْجِيل لُغَةً: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَحْسِينُهُ. يُقَال: رَجَّلْتُهُ تَرْجِيلاً: إِذَا سَرَّحْتُهُ وَمَشَّطْتُهُ
وَقَدْ يَكُونُ التَّرْجِيل أَخَصَّ مِنَ التَّمْشِيطِ؛ لأَِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الزِّيَادَةُ فِي تَحْسِينِ الشَّعْرِ (1) .
أَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ: إِرْسَال الشَّعْرِ وَحَلُّهُ قَبْل الْمَشْطِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ التَّسْرِيحُ مُغَايِرًا لِلتَّرْجِيل، وَمُضَادًّا لِلتَّمْشِيطِ.
وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَرْجِيلُهُ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ بِالْمُشْطِ. فَعَلَى الْمَعْنَى الأَْوَّل يَكُونُ مُغَايِرًا لِلتَّرْجِيل، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُرَادِفًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ التَّرْجِيل عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير، ولسان العرب وتاج العروس، والمصباح المنير مادة: " رجل "، " مشط ".
(2) لسان العرب مادة: " سرح "، وحاشية السندي على سنن النسائي 8 / 132 ط المطبعة المصرية بالأزهر.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 84، وعمدة القاري 22 / 60.

(11/178)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي تَرْجِيل الشَّعْرِ الاِسْتِحْبَابُ (1) ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّرْجِيل، وَكَانَ يُرَجِّل نَفْسَهُ تَارَةً، وَتُرَجِّلُهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَارَةً أُخْرَى
فَقَدْ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ (3) .

وَهُنَاكَ حَالاَتٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ التَّرْجِيل بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْوْقَاتِ مِنْهَا:

أ - تَرْجِيل الْمُعْتَكِفِ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ إِلاَّ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَجُوزُ لَهُ تَرْجِيل شَعْرِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 234، والمجموع 1 / 293 نشر المكتبة الإسلامية، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 73، وعمدة القاري 22 / 60 ط المنيرية، ونيل الأوطار 1 / 146 ط الحلبي، وزاد المعاد 1 / 176 ط مؤسسة الرسالة، والفواكه الدواني 2 / 402 نشر دار المعرفة، والمنتقى 7 / 268، 269، وحاشية ابن عابدين 5 / 161، وحاشية الطحطاوي 4 / 203.
(2) حديث: " من كان له شعر فليكرمه ". أخرجه أبو داود (4 / 395 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (1 / 368 - ط السلفية) .
(3) حديث: " كان يصغي إلي رأسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط السلفية) .

(11/178)


قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُدْنِيَ الْمُعْتَكِفُ رَأْسَهُ لِمَنْ هُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ لِتَرْجِيل شَعْرِهِ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ التَّرْجِيل فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّ التَّرْجِيل لاَ يَخْلُو مِنْ سُقُوطِ شَيْءٍ مِنَ الشَّعْرِ، وَالأَْخْذُ مِنَ الشَّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَافٍ) .

ب - تَرْجِيل الْمُحْرِمِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّرْجِيل لِلْمُحْرِمِ - وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ التَّرْجِيل بِالدُّهْنِ - لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِل (3) . وَالْمُرَادُ بِالشَّعَثِ انْتِشَارُ شَعْرِ الْحَاجِّ فَلاَ يَجْمَعُهُ بِالتَّسْرِيحِ وَالدَّهْنِ وَالتَّغْطِيَةِ وَنَحْوِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " كان يصغي إلي رأسه. . . " سبق تخريجه (ف / 2) . وانظر روضة الطالبين 2 / 392، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 151، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 11 / 144 ط المنيرية، وفتح الباري 4 / 272، 273 ط السلفية.
(2) جواهر الإكليل 1 / 159، والزرقاني 2 / 226، والحطاب 2 / 463، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 407.
(3) حديث: " الحاج الشعث التفل " أخرجه الترمذي (5 / 225 ط الحلبي) وإسناده ضعيف، (التلخيص لابن حجر 2 / 221 - ط شركة الطباعة الفنية المحدودة) .
(4) الاختيار لتعليل المختار 1 / 143، ومنح الجليل 1 / 512.

(11/179)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهِيَّةِ التَّرْجِيل لِلْمُحْرِمِ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّرْجِيل فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ لاَ بَأْسَ بِهِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى إِبَانَةِ شَعْرِهِ (2) .
أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْمُحْرِمُ سُقُوطَ الشَّعْرِ بِالتَّرْجِيل فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَتِهِ حِينَئِذٍ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِحْرَامٍ) .

ج - تَرْجِيل الْمُحِدَّةِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّرْجِيل لِلْمُحِدَّةِ بِشَيْءٍ مِنَ الطِّيبِ أَوْ بِمَا فِيهِ زِينَةٌ. أَمَّا التَّرْجِيل بِغَيْرِ مَوَادِّ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ - كَالسِّدْرِ وَشِبْهِهِ مِمَّا لاَ يَخْتَمِرُ فِي الرَّأْسِ - فَقَدْ أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلاَ بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ، قَالَتْ: قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَال: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ (4) وَلأَِنَّهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ لاَ لِلتَّطَيُّبِ.
__________
(1) شرح روض الطالب 1 / 510، والمجموع 7 / 352 ط المنيرية.
(2) كشاف القناع 1 / 423.
(3) قليوبي وعميرة 2 / 134، والشرح الصغير 2 / 85، وجواهر الإكليل 1 / 189، وشرح منتهى الإرادات 2 / 20 ط عالم الكتب.
(4) حديث: " لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب. . . " أخرجه أبو داود (2 / 728 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله عبد الحق الإشبيلي بجهالة بعض رواته، نيل الأوطار (6 / 333 - ط الحلبي) .

(11/179)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ تَرْجِيل الْمُحِدَّةِ - وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ طِيبٍ - لأَِنَّهُ زِينَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَبِمُشْطٍ ذِي أَسْنَانٍ مُنْفَرِجَةٍ دُونَ الْمَضْمُومَةِ. وَقَيَّدَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ جَوَازَ تَرْجِيل الْمُحِدَّةِ بِأَسْنَانِ الْمُشْطِ الْوَاسِعَةِ بِالْعُذْرِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِحْدَادٌ، وَامْتِشَاطٌ) .

كَيْفِيَّةُ التَّرْجِيل:
6 - يُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي التَّرْجِيل، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ (2) .

الإِْغْبَابُ فِي التَّرْجِيل:
يُسَنُّ تَرْجِيل الشَّعْرِ وَدُهْنُهُ غِبًّا (3) ، فَالاِسْتِكْثَارُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 686، ومواهب الجليل 4 / 155 ط ليبيا، ونهاية المحتاج 7 / 143، وروضة الطالبين 8 / 408، والكافي 3 / 328 ط المكتب الإسلامي، والاختيار 2 / 236، والبناية شرح الهداية 4 / 805 ط دار الفكر، وحاشية ابن عابدين 2 / 617، ونيل الأوطار 6 / 334 ط الحلبي، والموسوعة الفقهية 2 / 107.
(2) حديث: " كان يعجبه التيامن في تنعله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 269 - ط السلفية) . وانظر عمدة القاري 3 / 29 - 32 و 22 / 60، وسبل السلام 1 / 50، 51 ط الحلبي، والعدة على شرح عمدة الأحكام 1 / 209، وقليوبي 1 / 54، 55، وفتح الباري 1 / 269، 270 ط السلفية.
(3) الغب بكسر المعجمة وتشديد الباء: أن يفعل يوما ويترك يوما. قال السندي: والمراد كراهة المداومة عليه، وخصوصية الفعل يوما والترك يوما غير مراد. (حاشية السندي على سنن النسائي 8 / 132) .

(11/180)


مِنَ التَّرْجِيل وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ إِلاَّ لِحَاجَةٍ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّرَجُّل إِلاَّ غِبًّا (1) .
وَلِمَا رَوَى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُل يَوْمٍ (2) .
__________
(1) حديث: " نهي عن الترجل إلا غبا " أخرجه أبو داود (4 / 392 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 234 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) حديث: " نهي أن يمتشط أحدنا كل يوم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 30 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (1 / 130 - ط المكتبة التجارية) وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 367 - ط السلفية) وانظر المجموع للنووي 1 / 293 نشر المكتبة السلفية، وكشاف القناع 1 / 74 ط عالم الكتب، ومطالب أولي النهى 1 / 85 نشر المكتب الإسلامي، ونيل الأوطار 1 / 147 ط الحلبي، وحاشية السندي على سنن النسائي 8 / 132، 133.

(11/180)