الموسوعة الفقهية الكويتية

تَغْلِيظٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّغْلِيظُ مِنْ غَلُظَ غِلَظًا خِلاَفُ دَقَّ. وَكَذَا اسْتَغْلَظَ، وَالتَّغْلِيظُ التَّوْكِيدُ وَالتَّشْدِيدُ وَهُوَ مَصْدَرُ غَلَّظَ: أَيْ أَكَّدَ الشَّيْءَ وَقَوَّاهُ. وَهُوَ ضِدُّ التَّخْفِيفِ. وَمِنْهُ غَلَّظْتُ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظًا أَيْ شَدَّدْتُ عَلَيْهِ وَأَكَّدْتُ. وَغَلَّظْتُ الْيَمِينَ تَغْلِيظًا أَيْضًا قَوَّيْتُهَا وَأَكَّدْتُهَا (1)

الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
2 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ النَّجَاسَاتِ إِلَى مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْمُغَلَّظِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هِيَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا. (2)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهَا نَصٌّ لَمْ يُعَارَضْ بِنَصٍّ آخَرَ، فَإِنْ عَارَضَهُ نَصٌّ فَمُخَفَّفَةٌ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، فَالأَْرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ وَرَدَ فِيهَا
__________
(1) مختار الصحاح مادة: " غلظ ".
(2) مغني المحتاج 1 / 83، والمغني لابن قدامة 1 / 56

(13/65)


نَصٌّ يَدُل عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارًا لِلاِسْتِنْجَاءِ، فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَرَمَى الرَّوْثَةَ، وَقَال: إِنَّهَا رِكْسٌ (1) وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا مُغَلَّظَةً.
أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَمُخَفَّفَةٌ لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا. وَبَوْل مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالصَّاحِبَيْنِ، لاِنْعِدَامِ النَّصِّ الْمُعَارِضِ عِنْدَ الإِْمَامِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَجَاسَتِهِ عِنْدَهُمَا.
وَالنَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ مَا عَدَا فَضَلاَتِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ. وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّجَاسَاتِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَنَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ أَشَدُّ، وَيَلِيهَا بَوْل الآْدَمِيِّ وَعَذِرَتِهِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، ثُمَّ بَوْل الرَّضِيعِ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ دِرْهَمٍ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ
__________
(1) حديث: " ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه ليلة الجن أحجارا للاستنجاء. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 256 ط الدار السلفية) .
(2) ابن عابدين 1 / 211، وبدائع الصنائع 1 / 80، والمدونة الكبرى 1 / 19، 20، 21، والإنصاف 1 / 310

(13/66)


الْبَدَنَ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا الْمُخَفَّفَةُ فَيُعْفَى مَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ بِالدَّلْكِ. أَمَّا الْمُغَلَّظَةُ فَلاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغُسْل. وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَمَا عَدَاهَا فَتَطْهُرُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ قَلِيل النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَإِنْ قَلَّتْ، أَوْ أَصَابَتِ الْبَدَنَ، أَوِ الثَّوْبَ. أَمَّا غَيْرُ الْمُغَلَّظَةِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا (1) عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّجَاسَةُ) .

الْعَوْرَةُ الْمُغَلَّظَةُ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَوُجُوبِ سَتْرِهَا فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا.
وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَسَّمُوهَا فِي الصَّلاَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا إِلَى: مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ. فَالْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ، وَهُمَا الْقُبُل، وَالدُّبُرُ، بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّوْعِ، فَعَوْرَةُ الرَّجُل الْمُغَلَّظَةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَا عَدَا صَدْرَهَا وَأَطْرَافَهَا، وَهِيَ الذِّرَاعَانِ وَالرِّجْلاَنِ وَالْعُنُقُ.
__________
(1) الجمل على شرح المنهج 1 / 168ـ 183ـ 425، وقليوبي 1 / 69 ـ 185، وبدائع الصنائع 1 / 80، والمدونة 1 / 19

(13/66)


وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلاَةَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ. (1)
وَلَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْعَوْرَةِ، وَكُل مَا جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ كُلَّهَا يُقَدِّمُ السَّوْأَتَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلاَةِ.

تَغْلِيظُ الدِّيَةِ:
4 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ - عَلَى أَصْل تَغْلِيظِ الدِّيَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ التَّغْلِيظِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ التَّغْلِيظِ هِيَ مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَقَعَ الْقَتْل فِي حَرَمِ مَكَّةَ.
ب - أَنْ يَقْتُل فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ.
ج - أَنْ يَقْتُل قَرِيبًا لَهُ مَحْرَمًا. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
د - أَنْ يَكُونَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ. (2)
هـ - أَنْ يَقْتُل فِي الإِْحْرَامِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول مُحْرِمًا وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُغَلَّظُ فِي قَتْلٍ لَمْ يَجِبْ
__________
(1) الاختيار 1 / 146، وابن عابدين 1 / 274، وحاشية الدسوقي 1 / 214.
(2) روضة الطالبين 9 / 255، وأسنى المطالب 4 / 47، والمغني لابن قدامة 7 / 764، 765، 766، 772

(13/67)


فِيهِ قِصَاصٌ، كَقَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ الأَْبُ وَإِنْ عَلاَ، وَالأُْمُّ كَذَلِكَ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَغْلِيظَ إِلاَّ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ إِنْ قَضَى الدِّيَةَ مِنَ الإِْبِل، وَإِنْ قَضَى مِنْ غَيْرِ الإِْبِل فَلاَ تُغَلَّظُ. (2)
أَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ وَبَاقِي التَّفَاصِيل فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ) .

مَا يَجْرِي التَّغْلِيظُ فِيهِ مِنَ الدَّعَاوَى
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ يَجْرِي فِي دَعْوَى الدَّمِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإِْيلاَءِ، وَاللِّعَانِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْحِدَادِ، وَالْوَلاَءِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَكُل مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَال. أَمَّا الأَْمْوَال فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي كَثِيرِهَا، وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
أَمَّا قَلِيلُهَا - وَهُوَ مَا دُونَ ذَلِكَ - فَلاَ تَغْلِيظَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْقَاضِي التَّغْلِيظَ لِجُرْأَةِ الْحَالِفِ.
أَمَّا الْيَمِينُ الَّتِي تُغَلَّظُ فَيَسْتَوِي فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.
وَكَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تُغَلَّظُ الْيَمِينُ إِلاَّ فِيمَا
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 267، والمدونة 6 / 306، 307، وكشاف القناع 6 / 31.
(2) ابن عابدين 5 / 368

(13/67)


لَهُ خَطَرٌ، كَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعِتَاقِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَال.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ. (1)

صِفَةُ تَغْلِيظِ الأَْيْمَانِ:
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِ الأَْيْمَانِ فِي الْخُصُومَاتِ بِزِيَادَةِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ وَالْجَوَازِ. كَأَنْ يَقُول الْحَالِفُ مَثَلاً: بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلاَنِيَةِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً حَلَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ (2) ، وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 228، وروضة الطالبين 12 / 32ـ 33، والإنصاف 1 / 132
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رجلا حلف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك " لم نعثر عليه بهذا السياق الطويل في كتب الحديث التي بين يدينا وهو في المبسوط (16 / 86 ط دار المعرفة) مطولا، والحديث بمعناه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى وحسنه التهانوي في إعلاء السنن (5 / 406 ط دار القرآن) وعبد القادر الأرناؤوط (جامع الأصول 11 / 680 ط مكتبة الحلواني) .

(13/68)


مِنْ الْيَمِينِ إِذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ، وَيَتَجَاسَرُ بِدُونِهَا. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِهَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ كَالْجَامِعِ، وَأَدَاءُ الْقَسَمِ بِالْقِيَامِ، وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ وَقَعَ الْيَمِينُ فِي الْمَدِينَةِ، وَلاَ يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَيَجْرِي بَعْدَ صَلاَةِ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلاً فِي الْجَامِعِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِيهِمَا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ الرُّكْنِ الأَْسْوَدِ (2) .
وَهَل التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لاَ يُعْتَدُّ بِالْقَسَمِ إِلاَّ بِهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهُمَا: الأَْوَّل، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ تُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لاَ بِالزَّمَانِ وَلاَ بِالْمَكَانِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَحْصُل فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَوَّزُوا التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَتُغَلَّظُ
__________
(1) المبسوط 16 / 118، وحاشية الدسوقي 4 / 228، وروضة الطالبين 12 / 31، والإنصاف 1 / 120 - 121
(2) حاشية الدسوقي 4 / 228، وروضة الطالبين 12 / 31 ـ 32.

(13/68)


الْيَمِينُ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي حَقِّ أَهْل الذِّمَّةِ. (1)
7 - وَهَل يَتَوَقَّفُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ، أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْخَصْمُ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَلاَ دَخْل لِلْخَصْمِ فِي التَّغْلِيظِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ هُوَ حَقٌّ لِلْخَصْمِ، فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ غُلِّظَتْ وُجُوبًا، فَإِنْ أَبَى مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِمَّا طَلَبَهُ الْمُحَلِّفُ مِنَ التَّغْلِيظِ عُدَّ نَاكِلاً (2) .
وَانْظُرْ لِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ) .

التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيظِ اللِّعَانِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِهِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَجْرِي اللِّعَانُ عِنْدَهُمْ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ الأَْسْوَدِ وَالْمَقَامِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَيُلاَعِنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ فِي
__________
(1) المبسوط 16 / 118 - 119، وروضة الطالبين 12 / 21 - 32، والدسوقي 4 / 227 - 228، والإنصاف 1 / 120 - 121
(2) المبسوط 16 / 118، والإنصاف 12 / 120، وروضة الطالبين 12 / 32، وقليوبي 4 / 340، وحاشية الدسوقي 4 / 228

(13/69)


الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ كَالْكَنَائِسِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَبَيْتِ النَّارِ لِلْمَجُوسِ. وَقَال الْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ بَل يُلاَعَنُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ يُؤْتَى بَيْتَ الأَْصْنَامِ فِي لِعَانِ الْوَثَنِيِّينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ أَصْل لَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
وَيُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ.
وَيُغَلَّظُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَصُلَحَائِهِ.
ثُمَّ التَّغْلِيظُ بِهَذِهِ الأُْمُورِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ وُقُوعُهُ بَعْدَ صَلاَةٍ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ الاِسْتِحْبَابُ فِي الْجَمِيعِ. وَلاَ يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالزَّمَانِ وَلاَ بِالْمَكَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الأَْمْرَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَنٍ وَلاَ مَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ هِلاَلاً بِإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِزَمَنٍ وَلاَ مَكَانٍ، وَلَوْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لَنُقِل وَلَمْ يُهْمَل.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلاَعَنَا فِي الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ الَّتِي تُعَظَّمُ. (1)
__________
(1) المبسوط 7 / 39، وروضة الطالبين 8 / 334، 354، وشرح روض الطالب 3 / 384ـ 385، وشرح الزرقاني 4 / 194ـ 195، والمغني لابن قدامة 7 / 435

(13/69)


تَغْلِيظُ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَغْلِيظَ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ - وَهِيَ كُل عُقُوبَةٍ شُرِعَتْ فِي مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ - يَكُونُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الزَّجْرُ وَأَحْوَال النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ. (1)

تَغَيُّرٌ

انْظُرْ: تَغْيِيرٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 354، وروضة الطالبين 10 / 176، وأسنى المطالب 4 / 162، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 410، والمغني لابن قدامة 8 / 324، وكشاف القناع 6 / 124

(13/70)


تَغْيِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّغْيِيرِ فِي اللُّغَةِ: التَّحْوِيل. يُقَال: غَيَّرْتُ الشَّيْءَ عَنْ حَالِهِ أَيْ حَوَّلْتُهُ وَأَزَلْتُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ. وَيُقَال: غَيَّرْتُ الشَّيْءَ فَتَغَيَّرَ، وَغَيَّرَهُ إِذَا بَدَّلَهُ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) . قَال ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ حَتَّى يُبَدِّلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ. وَغَيَّرَ عَلَيْهِ الأَْمْرَ حَوَّلَهُ، وَتَغَايَرَتِ الأَْشْيَاءُ اخْتَلَفَتْ. (2)
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
أ - التَّبْدِيل:
2 - التَّبْدِيل مِنْ بَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَبْدِيلاً بِمَعْنَى غَيَّرْتُ صُورَتَهُ تَغْيِيرًا، وَأَبْدَلْتُهُ بِكَذَا إِبْدَالاً نَحَّيْتُ الأَْوَّل، وَجَعَلْتُ الثَّانِيَ مَكَانَهُ (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 53
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " غير ".
(3) المصباح المنير مادة: " بدل "، ولسان العرب مادة: " بدل ".

(13/70)


وَفَرَّقَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ بَيَانِ التَّغْيِيرِ وَبَيَانِ التَّبْدِيل. فَقَالُوا: بَيَانُ التَّغْيِيرِ هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ اللَّفْظِ مِنَ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِهِ. وَذَلِكَ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الْمُؤَخَّرِ فِي الذِّكْرِ، كَمَا فِي قَوْل الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَبَيَانُ التَّبْدِيل بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ، وَهُوَ النَّسْخُ (1)

(الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّغْيِيرِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضِعِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

تَغَيُّرُ أَوْصَافِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ:
3 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي غَيَّرَتِ النَّجَاسَةُ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْوْصَافِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلاَ التَّطَهُّرُ بِهِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ الْمُسْتَبْحَرَ لاَ تَضُرُّهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ.
كَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُل مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ - مِمَّا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَالطِّينِ - أَنَّهُ لاَ يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ أَوِ التَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلاَفًا شَاذًّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي الْمَاءِ الآْسِنِ.
وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ
__________
(1) المرآة مع المرقاة لمنلا خسرو 2 / 126

(13/71)


الأَْشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا مَتَى غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهُورِيَّتِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، بَل يُضَافُ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي خَالَطَهُ، فَيُقَال مَثَلاً: مَاءُ زَعْفَرَانٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَكُنِ التَّغَيُّرُ عَنْ طَبْخٍ. أَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالطَّبْخِ مَعَ شَيْءٍ طَاهِرٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلاَ التَّطَهُّرُ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَبْحَرِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْقَلِيل وَالْمَاءِ الْكَثِيرِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ قَلِيلاً أَصْبَحَ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا. وَهَؤُلاَءِ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ إِذَا حَرَّكَهُ آدَمِيٌّ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ تَسْرِ الْحَرَكَةُ إِلَى الطَّرَفِ الثَّانِي مِنْهُ، أَمَّا إِذَا سَرَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ فَهُوَ قَلِيلٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ هُوَ قُلَّتَانِ مِنْ قِلاَل هَجَرَ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ وَفِي لَفْظٍ لَمْ يَنْجُسْ (1) .
__________
(1) حديث: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " أخرجه أبو داود (1 / 51 ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (1 / 97 ط مصطفى الحلبي) ، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1 / 98 ط مصطفى الحلبي) . والحاكم (1 / 132 ط دار الكتاب العربي) . وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين

(13/71)


وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا وَقَال: إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُ قَلِيل الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَكْرُوهٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - وَمِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَهْل الظَّاهِرِ - إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا. (1)
وَانْظُرْ لِتَفْصِيل ذَلِكَ الْخِلاَفِ فِي بَحْثِ (مِيَاهٌ) .

تَغْيِيرُ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ، وَنَقْلَهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى آخَرَ، أَوْ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ عَالِمًا عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُبْطِل الصَّلاَةَ. (2)
وَتُنْظَرُ تَفَاصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَحْوِيلٌ، وَنِيَّةٌ) .

تَغَيُّرُ حَالَةِ الإِْنْسَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 71، وجواهر الإكليل 1 / 5 ومغني المحتاج 1 / 17، والمغني لابن قدامة 1 / 11، وسبل السلام 1 / 13
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 296، ومغني المحتاج 1 / 149، والمغني لابن قدامة 1 / 468

(13/72)


الإِْنْسَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ، كَأَنْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ أَوِ النُّفَسَاءُ، أَوْ بَلَغَ الطِّفْل، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ. وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا حَصَل هَذَا التَّغَيُّرُ فِي الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ، هَل تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى، وَصَلاَةُ الْمَغْرِبِ فِي الثَّانِيَةِ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الأُْولَى حَال الْعُذْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الصَّلاَةُ الَّتِي زَالَتْ فِي وَقْتِهَا الأَْسْبَابُ الْمَانِعَةُ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الأُْولَى خَرَجَ فِي حَال عُذْرِهِمْ. (1)
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِمِقْدَارِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
__________
(1) البدائع 1 / 95، وجواهر الإكليل 1 / 33، والمغني لابن قدامة 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 132

(13/72)


وَتَجِبُ صَلاَةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ مَا يَتَّسِعُ لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَثَلاَثَ رَكَعَاتٍ فِي السَّفَرِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ - وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ قَدْرٌ يَتَّسِعُ لِلْفَرْضِ - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ الَّتِي أَدْرَكَ بَعْضَ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَ قَدْرَ مَا يَتَّسِعُ لَهَا أَيْضًا، لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الأُْولَى فِي حَال الْجَمْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الأَْعْذَارِ يُسْقِطُ الْفَرْضَ، وَإِنْ طَرَأَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ.
وَيُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، بِخِلاَفِ الْكُفْرِ وَالصِّبَا فَلاَ يُتَصَوَّرُ حُدُوثُ الصِّبَا، لاِسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، أَمَّا حُدُوثُ الْكُفْرِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فَهُوَ رِدَّةٌ لاَ تُسْقِطُ لُزُومَ الْقَضَاءِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ بُلُوغِ الطِّفْل فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ - وَقَدْ صَلاَّهَا وَفَرَغَ مِنْهَا - أَوْ بَلَغَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بُلُوغٌ، صَلاَةٌ، صَوْمٌ)
__________
(1) البدائع 1 / 96، 144، والقوانين الفقهية ص 49، وجواهر الإكليل 1 / 33، وتحفة المحتاج 1 / 454، والمغني لابن قدامة 1 / 397.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 397، والقوانين الفقهية ص 49، ومغني المحتاج 1 / 130، والبدائع 1 / 95

(13/73)


تَغَيُّرُ الاِجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُصَلِّي فِي الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى - وَكَانَ فِي الصَّلاَةِ - اسْتَدَارَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ وَأَتَمَّ الصَّلاَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْل قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ تَحْوِيل الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَتَمُّوا صَلاَتَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالإِْعَادَةِ (1) ، وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ الْمُؤَدَّاةَ إِلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْقِبْلَةِ لأَِنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ، حَال الاِشْتِبَاهِ، وَلأَِنَّ تَبَدُّل الرَّأْيِ فِي مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ، وَهَذَا لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْعَمَل بِالْمَنْسُوخِ فِي زَمَانِ مَا قَبْل النَّسْخِ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذَا شَرْطَيْنِ أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي أَعْمَى، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ انْحِرَافُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ قَبْل تَغَيُّرِ الاِجْتِهَادِ يَسِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ بَصِيرًا أَوْ كَانَ انْحِرَافُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ كَثِيرًا، فَيَقْطَعُ صَلاَتَهُ وُجُوبًا، وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ.
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الآْمِدِيُّ أَنَّهُ لاَ يَنْقُل مِنْ جِهَتِهِ الأُْولَى، وَيَمْضِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الأَْوَّل، لِئَلاَّ يُنْقِضَ الاِجْتِهَادَ بِالاِجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُ الاِجْتِهَادِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْخَطَأُ يَقِينًا، فَلاَ يُعِيدُ
__________
(1) حديث: " أن أهل قباء لما بلغهم تحويل القبلة من بيت المقدس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 502 ط السلفية) .

(13/73)


مَا صَلَّى بِالأَْوَّل بِلاَ خِلاَفٍ. أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الْخَطَأُ يَقِينًا فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُعِيدُهَا إِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَلَمْ يَزَل فِي وَقْتِهَا، وَيَقْضِيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُعِيدُهَا إِنْ فَرَغَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ. (1)

تَغْيِيرُ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الْحَوْل:
7 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَابِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِمِثْلِهِ أَثْنَاءَ الْحَوْل لاَ يَقْطَعُ الْحَوْل؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْعُرُوضِ لاَ فِي نَفْسِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل بِجِنْسِهِ كَالإِْبِل بِالإِْبِل، أَوِ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْل وَبَنَى حَوْل الْبَدَل عَلَى حَوْل النِّصَابِ الأَْوَّل (الْمُبْدَل مِنْهُ) لأَِنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْل، فَبَنَى حَوْل بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ كَالْعُرُوضِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوْل يَنْقَطِعُ بِهَذِهِ الْمُبَادَلَةِ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلاَ يَنْقَطِعُ الْحَوْل إِلاَّ فِي الصَّرْفِ فَيَنْقَطِعُ، وَيُسْتَأْنَفُ حَوْلٌ جَدِيدٌ،
__________
(1) البدائع 1 / 119، وجواهر الإكليل 1 / 45، والقوانين الفقهية ص 61، ومغني المحتاج 1 / 147، والمغني لابن قدامة 1 / 445

(13/74)


لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ وَافَقُوا الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي الأَْثْمَانِ، وَوَافَقُوا الشَّافِعِيَّةَ فِيمَا سِوَاهَا، لأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الأَْثْمَانِ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهَا ثَمَنًا، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال الأُْخْرَى.
أَمَّا إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَإِبِلٍ بِبَقَرٍ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى انْقِطَاعِ الْحَوْل وَاسْتِئْنَافِ حَوْلٍ جَدِيدٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ. (2)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .

تَغْيِيرُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ:
8 - إِذَا خَطَبَ الرَّجُل امْرَأَةً بِعَيْنِهَا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أُوجِبَ لَهُ النِّكَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا الَّتِي خَطَبَهَا فَقَبِل، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " أخرجه الترمذي (3 / 25 ـ 26 ط مصطفى الحلبي) وابن ماجه (1 / 571 ط عيسى الحلبي) واللفظ له. وأخرجه البيهقي (4 / 95 ط دار المعرفة) . عن علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما. وقال ابن حجر: حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة. (التلخيص الحبير 2 / 156ط المكتبة الأثرية) .
(2) البدائع 2 / 15، وحاشية ابن عابدين 2 / 21، وجواهر الإكليل 1 / 120 والقوانين الفقهية ص 114 والمغني لابن قدامة 2 / 175، ومغني المحتاج 1 / 379.

(13/74)


لأَِنَّ الْقَبُول انْصَرَفَ إِلَى غَيْرِ مَنْ وَجَدَ الإِْيجَابَ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)
وَلَوْ نَكَحَ، وَشَرَطَ فِيهَا إِسْلاَمًا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا نَسَبًا أَوْ حُرِّيَّةً أَوْ بَكَارَةً أَوْ شَبَابًا أَوْ تَدَيُّنًا فَأُخْلِفَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةُ النِّكَاحِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّ الْخُلْفَ فِي الشَّرْطِ لاَ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ مَعَ تَأَثُّرِهِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَالنِّكَاحُ أَوْلَى.
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ أَوِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ يَعْتَمِدُ الصِّفَاتِ فَتَبَدُّلُهَا كَتَبَدُّل الْعَيْنِ. (2)
وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَتَقَتِ الأَْمَةُ - وَزَوْجُهَا عَبْدٌ - فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِخَبَرِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ فَخَيَّرَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا (3) . وَلأَِنَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 546، وحاشية ابن عابدين 2 / 325، وتحفة المحتاج 7 / 355، وجواهر الإكليل 1 / 277، وفتح العلي المالك 1 / 365.
(2) مغني المحتاج 3 / 207، والقوانين الفقهية ص 220، والمغني لابن قدامة 6 / 524، 526، وكشاف القناع 5 / 99
(3) حديث عائشة رضي الله عنها: " كاتبت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها فاختارت نفسها ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 408) ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1141 ط عيسى الحلبي) .

(13/75)


عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي كَوْنِهَا حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا عَتَقَتْ وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهَا، لأَِنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْكَمَال، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ.
وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ (1) .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بَقَاءِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ الَّتِي أَسْلَمَ زَوْجُهَا، سَوَاءٌ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى. كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْل زَوْجِهَا، وَقَبْل الدُّخُول بِهَا تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةَ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَمْ مَجُوسِيًّا أَوْ غَيْرَهُمَا، إِذْ لاَ يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلاَمٌ، وَنِكَاحٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة: حديث بريرة الذي يدل على أن زوجها كان حرا. فقد أخرجه النسائي (6 / 163 ط دار الكتاب العربي) ، وأصل القصة في الصحيحين، ولكن لفظ " كان حرا " من رواية النسائي، واعتبرها ابن حجر مدرجة من قول الأسود الراوي عن عائشة. (انظر الفتح 9 / 410ـ 411 ط السلفية)
(2) مغني المحتاج 3 / 191، 210، والمغني لابن قدامة 6 / 614 - 634، 659، وجواهر الإكليل 1 / 296، وابن عابدين 2 / 388.

(13/75)


تَغْيِيرُ الْمَغْصُوبِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَغْيِيرِ الْمَغْصُوبِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَيَّرَ الْمَغْصُوبَ فَزَال اسْمُهُ وَأَعْظَمُ مَنَافِعِهِ، كَطَحْنِ حِنْطَةٍ، ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ وَمَلَكَهُ، بِلاَ حِل انْتِفَاعٍ قَبْل أَدَاءِ ضَمَانِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ قَدْ زَادَ مِنْ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، فَهُوَ لِلْمَالِكِ وَلاَ شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بِسَبَبِهَا، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَثَرًا مَحْضًا، وَإِنْ نَقَصَ مِنَ الْمَغْصُوبِ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ وَأَرْشُ النَّقْصِ. (1) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْبٌ) :

تَغَيُّرُ حَالَةِ الْجَانِي أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:
10 - إِذَا تَغَيَّرَ حَال الْجَانِي أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الإِْسْلاَمِ إِلَى الْكُفْرِ أَوِ الْعَكْسِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوْ عَدَمِهِ، وَمِقْدَارِ الدِّيَةِ مَذَاهِبُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَبَاحِثِ (الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصِ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 121، وجواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 290، والمغني لابن قدامة 5 / 277.

(13/76)


تَفَاؤُلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفَاؤُل: أَنْ تَسْمَعَ كَلاَمًا حَسَنًا فَتَتَيَمَّنَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فَهُوَ الطِّيَرَةُ، يُقَال: فَأَل بِهِ تَفْئِيلاً جَعَلَهُ يَتَفَاءَل بِهِ، وَتَفَأَّل بِهِ بِالتَّشْدِيدِ تَفَؤُّلاً. وَتَفَاءَل تَفَاؤُلاً، وَيُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي الْخَيْرِ، وَفِي الأَْثَرِ: لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الصَّالِحُ (1) . وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الشَّرِّ أَيْضًا، يُقَال: لاَ فَأْل عَلَيْكَ أَيْ لاَ ضَيْرَ عَلَيْكَ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: خَيْرُهَا الْفَأْل (2) . وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ (3) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح، مادة: " فأل " وحديث: " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1746 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك
(2) حديث: " خيرها الفأل " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) الآداب الشرعية ص 279. وحديث: " لا عدوى ولا طيرة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 244 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1746 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم وهو من حديث أنس بن مالك.

(13/76)


وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَقَدْ عَرَّفَهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ: مَا يُظَنُّ عِنْدَهُ الْخَيْرُ. عَكْسُ الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ. غَيْرَ أَنَّهُ تَارَةً يَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ، وَتَارَةً لِلشَّرِّ، وَتَارَةً يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، فَالْمُتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ مِثْل الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُل مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. نَحْوُ: يَا فَلاَحُ، يَا مَسْعُودُ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّبَرُّكُ:
2 - التَّبَرُّكُ: طَلَبُ ثُبُوتِ الْخَيْرِ الإِْلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ. سُمِّيَتْ بَرَكَةً لِثُبُوتِ الْخَيْرِ فِيهِ، كَمَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِي الْبِرْكَةِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّفَاؤُل مُبَاحٌ بَل حَسَنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخَيْرِ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْمَرِيضُ يَا سَالِمُ، فَيَنْشَرِحُ لِذَلِكَ صَدْرُهُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّفَاؤُل بِالْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْمَرِيضُ يَا سَالِمُ، أَوْ يَسْمَعُ طَالِبُ الضَّالَّةِ يَا وَاجِدُ
__________
(1) الفروق 4 / 240.

(13/77)


فَتَسْتَرِيحُ نَفْسُهُ لِذَلِكَ. (1) لِخَبَرِ لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْل الصَّالِحُ وَالْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ (2) .
وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْجِبُهُ: أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ (3)
وَكَانَ لاَ يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلاً سَأَل عَنِ اسْمِهِ فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَل قَرْيَةً سَأَل عَنِ اسْمِهَا فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.، (4)
__________
(1) فتح الباري 10 / 214ـ 215، والآداب الشرعية 3 / 376، 377، 378، والفروق 4 / 240، وتفسير القرطبي 6 / 59 ـ 60، وابن عابدين 1 / 555.
(2) حديث: " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 214 ط السلفية) ، ومسلم (10 / 1746 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري وهو من حديث أنس بن مالك.
(3) حديث: " كان يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح إذا خرج لحاجته " أخرجه الترمذي (4 / 161 ط مصطفى الحلبي) وقال: حسن غريب صحيح، والطبراني في الصغير (1 / 199 ط السلفية) وهو من حديث أنس بن مالك.
(4) حديث: " كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه: فإذا أعجبه اسمه فرح به ورئي بشر ذلك في وجه. . . " أخرجه أحمد (5 / 347، 348) ط المكتب الإسلامي، وأبو داود (4 / 236) ط عبيد دعاس من حديث بريدة، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10 / 215 ط السلفية) .

(13/77)


وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْل؛ لأَِنَّهُ تَنْشَرِحُ لَهُ النَّفْسُ وَتَسْتَبْشِرُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ. (1) وَقَال عَزَّ مَنْ قَائِلٌ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلاَ يَظُنَّنَّ بِي إِلاَّ خَيْرًا (2) .
بِخِلاَفِ الطِّيَرَةِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْمَال أَهْل الشِّرْكِ حَيْثُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُصُول الضَّرَرِ بِمَا يُتَطَيَّرُ بِهِ.

التَّفَاؤُل الْمُبَاحُ:
4 - التَّفَاؤُل الْمُبَاحُ: أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُل الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ يُسَمِّي وَلَدَهُ اسْمًا حَسَنًا فَيَفْرَحُ عِنْدَ سَمَاعِهِ.
أَمَّا أَخْذُ الْفَأْل مِنَ الْمُصْحَفِ، كَأَنْ يَفْتَحَهُ فَيَتَفَاءَل بِبَعْضِ الآْيَاتِ فِي أَوَّل الصَّفْحَةِ، أَوْ يَتَفَاءَل بِضَرْبِ الرَّمْل، فَيَتَفَاءَل بِبَعْضِ رُمُوزِهِ فَحَرَامٌ (3) .
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (تَطَيُّرٌ، وَتَسْمِيَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 555، وفتح الباري 10 / 215، وتفسير القرطبي 6 / 59ـ 60، والفروق 4 / 241، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 376، 377، 378
(2) حديث: " قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فلا يظنن بي إلا خيرا "، أخرجه أحمد بلفظ " قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيرا فله، وإن شرا فله " مسند أحمد بن حنبل (2 / 391 ط المكتب الإسلامي) ، وابن حبان في صحيحه (موارد: 2394) ط دار الكتب العلمية. من حديث أبي هريرة
(3) الفروق 4 / 240 - 241، وحاشية القليوبي 4 / 256، والأذكار للنووي 256.

(13/78)


تَفَرُّقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفَرُّقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ: تَفَرَّقَ ضِدُّ تَجَمَّعَ، يُقَال: تَفَرَّقَ الْقَوْمُ تَفَرُّقًا، وَمِثْلُهُ افْتَرَقَ الْقَوْمُ افْتِرَاقًا وَالتَّفْرِيقُ: خِلاَفُ التَّجْمِيعِ، يُقَال: فَرَّقَ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا وَتَفْرِقَةً: بَدَّدَهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، أَمَّا التَّفَرُّقُ فَلاَزِمٌ. وَالتَّفْرِيقُ أَبْلَغُ مِنَ الْفَرْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ (1) . وَالتَّفَرُّقُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
التَّجَزُّؤُ:
2 - التَّجَزُّؤُ: مِنْ تَجَزَّأَ الشَّيْءُ تَجَزُّؤًا، وَجَزَّأَ الشَّيْءَ تَجْزِئَةً: حَمَلَهُ أَجْزَاءً. (2) وَالتَّفَرُّقُ يَكُونُ بَيْنَ الأَْبْدَانِ، وَالتَّجَزُّؤُ فِي الأُْمُورِ.
__________
(1) لسان العرب، والصحاح مادة: " فرق "
(2) المصباح المنير مادة: " جزأ "

(13/78)


حُكْمُهُ:
3 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ التَّفَرُّقِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهِ: فَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِتَفَرُّقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَيَبْطُل الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ. كَرَأْسِ مَال السَّلَمِ، وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِمُتَّحِدٍّ مَعَهُ فِي الْعِلَّةِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل.

التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ وَحُكْمُهُ:
4 - التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ هُوَ: أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَادَتُهُمْ فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا، لأَِنَّ الشَّارِعَ نَاطَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، كَكُل مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَالْقَبْضِ، وَالإِْحْرَازِ.
هَذَا وَيَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالرِّبَوِيِّ، وَيَبْطُل بِالتَّفَرُّقِ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ قَبْل الْقَبْضِ. (1)
أَمَّا هَل يَقُومُ التَّخَايُرُ مَقَامَ التَّفَرُّقِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ؟ وَهَل يَجُوزُ التَّخَايُرُ قَبْل الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ؟ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ) .
__________
(1) المغني 3 / 11 - 12، وروضة الطالبين 3 / 437، وحاشية الطحاوي 3 / 137

(13/79)


تَفَرُّقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ:
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِخَبَرِ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَأَقَامَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ. (2) لِمَا رَوَى أَبُو الْوَضِيءِ - عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ -: غَزَوْنَا غَزْوَةً، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلاَمٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنَ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيل، فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ يُسَرِّجُهُ فَنَدِمَ، فَأَتَى الرَّجُل وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ، فَأَبَى الرَّجُل أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَال: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالاَ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَال: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَمَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا (3) .

الإِْكْرَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ:
6 - إِنْ أُكْرِهَ الشَّخْصُ عَلَى التَّفَرُّقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ
__________
(1) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 ط السلفية) من حديث حكيم بن حزام
(2) المجموع النووي 9 / 174ـ 175، والمغني 3 / 563.
(3) حديث أبي برزة: " أترضيان أن أحكم بينكما بقضاء رسول الله. . . " أخرجه أبو داود (3 / 736ـ 737 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري في مختصره رجال إسناده ثقات (المختصر 5 / 96نشر دار المعرفة) .

(13/79)


لِلشَّافِعِيَّةِ - وَهُمَا رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ -
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْطُل الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ أَنْ يَقُول لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ.
الثَّانِي: لاَ يَبْطُل الْخِيَارُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنَ السُّكُوتِ، وَالسُّكُوتُ لاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ. وَلَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَصْلاً. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ) .

التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِالآْخَرِ يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَإِلاَّ يَبْطُل الْعَقْدُ (2) لِخَبَرِ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (3) .
أَمَّا غَيْرُ النَّقْدَيْنِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُرْمَةِ التَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المجموع 9 / 181ـ 403، والقوانين الفقهية ص254، وحاشية الطحاوي 3 / 137، والمغني 4 / 11ـ 12.
(3) حديث: " لا تبيعوا الذهب بالذهب. . " أخرجه مسلم (3 / 1208ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.

(13/80)


فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ، إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، أَوِ اتَّحَدَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِيهِمَا، وَيَبْطُل الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي الْمَوْزُونِ وَالْمَكِيل الْمُعَيَّنِ، وَيَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ، وَلاَ يَبْطُل الْعَقْدُ بِهِ. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي (رِبًا، قَبْضٌ) .

التَّفَرُّقُ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ قَبْل التَّفَرُّقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْعَقْدُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلاَ يَبْطُل بِالتَّفَرُّقِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِخِفَّةِ الأَْمْرِ وَلأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ (3) .

التَّفَرُّقُ قَبْل التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا:
9 - الْعَرَايَا: جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ بَيْعُ مَا عَلَى
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 109، وحاشية ابن عابدين 4 / 182، والمجموع 9 / 181ـ 403، والقوانين الفقهية ص254.
(2) حاشية الطحطاوي 3 / 122، والمغني 4 / 328، ونهاية المحتاج 4 / 184
(3) حاشية الدسوقي 3 / 195

(13/80)


النَّخْلَةِ مِنْ رُطَبٍ بِتَمْرٍ عَلَى الأَْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْعَرَايَا عِنْدَ الْقَائِل بِهِ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ. (1) وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا.

تَفَرُّقُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ قَبْل انْتِهَاءِ الْمَشْرُوطِ:
10 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَنَاضِلاَنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا الْمِقْدَارَ الْمَشْرُوطَ التَّنَاضُل بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ رِيحٍ عَاصِفَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُنَاضَلَةٍ.

تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ:
11 - تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَهَذَا بِكَذَا، فَيَقْبَل الآْخَرُ، وَبِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، وَبِالْجَمْعِ فِي صَفْقَةٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَخَلٍّ، وَخَمْرٍ. وَمَعْنَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَفْرِيقُهَا فِي الْحُكْمِ. فَفِي حَالَةِ تَفْصِيل الثَّمَنِ مَثَلاً يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي قَبُول أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ وَرَدُّ الآْخَرِ، وَفِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ وَإِبْقَاءُ الآْخَرِ، وَفِي حَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ، يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي
__________
(1) المجموع 11 / 20 - 21، والموسوعة 9 / 91
(2) روضة الطالبين 10 / 369.

(13/81)


الْحَلاَل، وَيَبْطُل فِي الْحَرَامِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

تَفَرُّقُ الْمُجْتَمِعِينَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
12 - إِذَا تَفَرَّقَ الْمُجْتَمِعُونَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ، أَوْ نَقَصَ عَدَدُهُمْ لَمْ يُحْسَبِ الْجُزْءُ الْمُؤَدَّى مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ فِي غَيْبَتِهِمْ.
وَالتَّفْصِيل فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ (2) .

تَفَرُّقُ الْعُرَاةِ عِنْدَ الصَّلاَةِ:
13 - إِذَا اجْتَمَعَ عُرَاةٌ لِلصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي ظَلاَمٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وُجُوبًا، وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ) .

تَفَرُّقُ جَمْعٍ وَظُهُورُ قَتِيلٍ:
14 - إِذَا تَفَرَّقَ جَمْعٌ وَظَهَرَ فِي الْمَكَانِ قَتِيلٌ، يَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمُ الْجُنَاةُ، وَيَثْبُتُ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (الْقَسَامَةِ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 14، وحاشية الجمل 3 / 100 - 101.
(2) القليوبي 1 / 275.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 221.

(13/81)


تَفْرِيطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْرِيطُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ، يُقَال فَرَّطَ فِي الشَّيْءِ وَفَرَّطَهُ: إِذَا ضَيَّعَهُ وَقَدَّمَ الْعَجْزَ فِيهِ، وَفَرَطَ فِي الأَْمْرِ يَفْرُطُ فَرْطًا أَيْ: قَصَّرَ فِيهِ وَضَيَّعَهُ حَتَّى فَاتَ
وَاصْطِلاَحًا: لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

(الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
الإِْفْرَاطُ:
2 - الإِْفْرَاطُ لُغَةً: الإِْسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالإِْفْرَاطُ كَذَلِكَ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا أُمِرْتُ، يُقَال أَفْرَطَ إِفْرَاطًا: إِذَا أَسْرَفَ وَجَاوَزَ الْحَدَّ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
قَال الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، أَنَّ الإِْفْرَاطَ يُسْتَعْمَل فِي تَجَاوُزِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس، مادة: " فرط "، والتعريفات للجرجاني " إفراط "

(13/82)


الْحَدِّ مِنْ جَانِبِ الزِّيَادَةِ وَالْكَمَال، وَالتَّفْرِيطُ يُسْتَعْمَل فِي تَجَاوُزِ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِ النُّقْصَانِ وَالتَّقْصِيرِ (1) ، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الإِْفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ التَّضَادُّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الأَْصْل فِي التَّفْرِيطِ التَّحْرِيمُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيعِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، وَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ أَدَاءِ الصَّلاَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا إِهْمَالاً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَل الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُْخْرَى (2) .

أ - التَّفْرِيطُ فِي الْعِبَادَاتِ:
4 - هُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّفْرِيطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفْرِيطُ فِي الْعِبَادَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهَا، أَوْ يَكُونُ بِأَدَائِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا شَرْعًا. فَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِتَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيقِ تَارِكِهَا وَتَأْثِيمِهِ وَتَعْزِيرِهِ إِنْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: " فرط " والتعريفات للجرجاني " إفراط " والكليات فصل الألف والتاء
(2) حديث " أما إنه ليس في النوم تفريط. . . " أخرجه مسلم (1 / 473 ط الحلبي) من حديث أبي قتادة.

(13/82)


كَانَ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا وَكَسَلاً، وَتَكْفِيرُهُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا جُحُودًا (1) .
وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلاَنِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَذَلِكَ كَمَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ فِي الصَّلاَةِ، أَوِ الإِْمْسَاكَ فِي الصَّوْمِ، أَوِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ. (2)
وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، فَتَبْطُل الْعِبَادَةُ إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا، كَمَنْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الأَْوَّل فِي الصَّلاَةِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهِ فِي الصَّلاَةِ - فَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَيُمْكِنُ تَدَارُكُ هَذَا التَّفْرِيطِ بِالْجَبْرِ فَيَسْجُدُ سُجُودَ السَّهْوِ لِتَرْكِ وَاجِبِ الصَّلاَةِ. وَيَجِبُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ دَمٌ حَدًّا لَهُ. (3)
وَتَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْعِبَادَةِ، لَيْسَ تَفْرِيطًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ إِثْمَ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ نُقْصَانِ الثَّوَابِ، وَعِبَادَتُهُ تَقَعُ صَحِيحَةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 235، ومواهب الجليل 1 / 420، 421، ومغني المحتاج 1 / 327، 368، 420، 460، وكشاف القناع 1 / 227وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 297، 2 / 97، والدسوقي 1 / 231، 2 / 21، ومغني المحتاج 1 / 148، 423، 513، وكشاف القناع 1 / 385، 2 / 314، 521، وما بعدها
(3) ابن عابدين 1 / 306، 2 / 150، وحاشية الدسوقي2 / 21، وكشاف القناع 1 / 385، 2 / 21 وما بعدها ومغني المحتاج 1 / 148، 513.

(13/83)


وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مَشْرُوعِيَّةَ سُجُودِ السَّهْوِ لِتَرْكِ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِتَرْكِ السُّنَّةِ تَفْرِيطٌ لَكِنَّهُ لاَ يُوجِبُ فَسَادًا وَلاَ سَهْوًا، بَل إِسَاءَةً لَوْ عَامِدًا غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ، وَقَالُوا: الإِْسَاءَةُ أَدْوَنُ مِنَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَحُكْمُ السُّنَّةِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَيُلاَمُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ لُحُوقِ إِثْمٍ يَسِيرٍ. (1)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودُ السَّهْوِ) .
وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا شَرْعًا، فَإِنْ أَدَّاهَا قَبْل وَقْتِهَا فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ عَنْهَا، وَإِنْ أَدَّاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنَّهُ آثِمٌ، كَأَدَاءِ الصَّلاَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْل عِنْدَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ إِخْرَاجِهَا عَلَى الْفَوْرِ. (2)

ب - التَّفْرِيطُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ:
5 - وَهُوَ مِنْ صُوَرِ التَّفْرِيطِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
إِنَّ التَّفْرِيطَ وَالتَّقْصِيرَ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِيهَا. أَمَّا إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 318، وحاشية الدسوقي 1 / 273، 2 / 21 ومغني المحتاج 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 385، 393، والطحطاوي على مراقي الفلاح 139.
(2) ابن عابدين 2 / 150، وحاشية الدسوقي 1 / 183، ومغني المحتاج 1 / 413، وكشاف القناع 1 / 226

(13/83)


وَمِنْ صُوَرِ التَّفْرِيطِ فِي الأَْمَانَاتِ إِهْمَال حِفْظِهَا فِي حِرْزٍ مِثْلِهَا، أَوْ أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ غَيْرِ أَمِينٍ. وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهَا مِنَ الأَْمَانَاتِ. (1)
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ، وَتَعَدٍّ، وَإِعَارَةٌ) .

ج - التَّفْرِيطُ فِي الْوَكَالَةِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الْوَكِيل أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلاَ تَعَدٍّ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ فِي مَقَامِ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْهَلاَكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَصْبَحَ كَالْمُودَعِ، وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ بِدُونِ مُوجِبٍ قَوِيٍّ كَتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ضَمَانٌ، وَكَالَةٌ) .

د - تَفْرِيطُ الأَْجِيرِ:
7 - إِذَا فَرَّطَ الأَْجِيرُ فِيمَا وُكِّل إلَيْهِ مِنْ عَمَل فَتَلِفَ مَا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 494، 503، وحاشية الدسوقي 3 / 253، 419 وما بعدها، 436، ومغني المحتاج 2 / 267، 3 / 81 وما بعدها، وروضة الطالبين 4 / 96، وكشاف القناع 3 / 341، 4 / 70 وما بعدها 167.
(2) ابن عابدين 4 / 416، وبدائع الصنائع 6 / 34، وحاشية الدسوقي 3 / 390 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 230، وكشاف القناع 3 / 469.

(13/84)


بَيْنَ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ كَالْخَادِمِ وَالرَّاعِي، وَبَيْنَ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ، ضَمَانٌ) .

هـ - التَّفْرِيطُ فِي النَّفَقَةِ:
8 - إِذَا فَرَّطَ الزَّوْجُ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ دُونَ كِفَايَتِهِمْ، فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَأَوْلاَدَهَا عُرْفًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ. حِينَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (2) وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ كِفَايَتِهَا وَكِفَايَةِ وَلَدِهَا مِنْ مَالِهِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ. (3)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٌ)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 40 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 24 وما بعدها، نهاية المحتاج 5 / 307، قليوبي وعميرة 3 / 81، وكشاف القناع 4 / 32 وما بعدها.
(2) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 507 ط السلفية) ومسلم (3 / 1338 ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 649، وحاشية الدسوقي 2 / 418، وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 442، وروضة الطالبين 9 / 72، وكشاف القناع 5 / 478 وما بعدها.

(13/84)


و - تَفْرِيطُ الْوَصِيِّ:
9 - الْوَصِيُّ أَمِينٌ. فَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ، وَيُقْبَل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا اخْتَلَفَ مَعَ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا. وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ فِي مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الْمَال إِلَى الْيَتِيمِ قَبْل رُشْدِهِ بَعْدَ الإِْدْرَاكِ فَضَاعَ لأَِنَّهُ دَفَعَهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ضَمَانٌ، وَصِيٌّ)

ز - التَّفْرِيطُ فِي إِنْقَاذِ مَال الْغَيْرِ:
10 - مَنْ رَأَى مَال غَيْرِهِ مُعَرَّضًا لِلضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ فَلَمْ يَسْعَ لإِِنْقَاذِهِ، فَتَلِفَ الْمَال أَوْ ضَاعَ، فَإِنَّهُ آثِمٌ بِالتَّفْرِيطِ فِي إِنْقَاذِهِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ مَال الْغَيْرِ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَرَتُّبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ (2) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: مُصْطَلَحَ (ضَمَانٌ)

ح - التَّفْرِيطُ فِي إِنْقَاذِ حَيَاةِ الْغَيْرِ:
11 - مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ حَيَاةِ إِنْسَانٍ كَأَنْ رَآهُ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 452 وما بعدها، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 202، والمهذب 1 / 471، ومغني المحتاج 3 / 78.
(2) ابن عابدين 3 / 318، 319، وحاشية الدسوقي 2 / 111، ومواهب الجليل 3 / 225، ونهاية المحتاج 5 / 224، والمهذب 1 / 436.

(13/85)


مَهْلَكَةٍ، فَلَمْ يَمُدَّ لَهُ يَدَ الْعَوْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلَكَ الإِْنْسَانُ، فَإِنَّهُ آثِمٌ لاَ مَحَالَةَ لِوُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الأَْنْفُسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرَتُّبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ) إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ، لاَ عَنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَلاَ عَنْ طَرِيقِ التَّسَبُّبِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ. (1)
__________
(1) الاختيار 4 / 170، وحاشية الدسوقي 2 / 112، 4 / 242، ومواهب الجليل 3 / 225، ومغني المحتاج 4 / 5، والمغني 7 / 834، 835، والإنصاف 10 / 50، 51.

(13/85)


تَفْرِيقٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْرِيقُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا خِلاَفُ الْجَمْعِ يُقَال: فَرَّقَ فُلاَنٌ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا، وَتَفْرِقَةً إِذَا بَدَّدَهُ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (2) .

(الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّفْرِيقِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقِهِ:
أ - تَفْرِيقُ الْمَال الْمُخْتَلِطِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِرْبَابِ الأَْمْوَال مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، أَنْ يُفَرِّقُوا أَمْوَالَهُمُ الْمُخْتَلِطَةَ، الَّتِي وَجَبَ فِيهَا بِاجْتِمَاعِهَا فَرْضُ الزَّكَاةِ، لِيَسْقُطَ عَنْهَا الْفَرْضُ، أَوْ لِيَقِل الْوَاجِبُ. كَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً مُخْتَلِطَةً خَلْطَةَ اشْتِرَاكٍ، أَوْ خَلْطَةَ جِوَارٍ فَيُفَرِّقَاهَا قَبْل نِهَايَةِ الْحَوْل لِيَسْقُطَ عَنْهَا الْفَرْضُ بِالتَّفْرِقَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِرْبَابِ الأَْمْوَال أَنْ يَجْمَعُوا أَمْوَالَهُمُ الْمُتَفَرِّقَةَ لِيَقِل الْوَاجِبُ.
__________
(1) لسان العرب، ومعجم متن اللغة، مادة: " فرق ".
(2) حديث: " لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع. . . " أخرجه البخاري (3 / 314 ـ الفتح ط السلفية) .

(13/86)


وَكَذَا السَّاعِي لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْمُتَفَرِّقَ خَشْيَةَ سُقُوطِ الصَّدَقَةِ أَوْ قِلَّتِهَا (1) لِحَدِيثِ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (2) وَانْظُرْ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .

ب - تَفْرِيقُ أَيَّامِ الصَّوْمِ، فِي التَّمَتُّعِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ وَصْل الْمُتَمَتِّعِ صَوْمَ الأَْيَّامِ الْعَشَرَةِ إِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلاَثَةَ فِي وَقْتِهَا. وَيُجَوِّزُ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَصْل بَيْنَ الثَّلاَثَةِ وَالسَّبْعَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلاَثَةَ فِي وَقْتِهَا - وَهُوَ يَوْمٌ قَبْل التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ - يَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ وَيَعُودُ إِلَى الْهَدْيِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - إِلَى لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الثَّلاَثَةِ وَالسَّبْعَةِ، وَالأَْظْهَرُ عَلَى هَذَا - فِي مُدَّةِ التَّفْرِيقِ - أَنَّهَا تَكُونُ بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ لِتَتِمَّ. وَلَوْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ حَصَلَتْ لَهُ الثَّلاَثَةُ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِالْبَقِيَّةِ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ (3) .
وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " تَمَتُّعٌ ".
__________
(1) مواهب الجليل2 / 266ـ267، وقليوبي، 2 / 12، 13، والمغني 2 / 615 على اختلاف بين المالكية وغيرها في بعض التفاصيل.
(2) حديث: " لا يجمع بين متفرق. . . " سبق تخريجه (ف / 1) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 173 ـ 174، وحاشية الدسوقي 2 / 84 - 85 وأسنى المطالب 1 / 466، وقليوبي 2 / 130، والمغني 3 / 476.

(13/86)


ج - تَفْرِيقُ صَوْمِ جَزَاءَاتِ الْحَجِّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ أَيَّامِ الصَّوْمِ فِي جَزَاءَاتِ الْحَجِّ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا فِي أَنْوَاعِهَا كُلِّهَا، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِالتَّتَابُعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (1) . وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحُ (تَتَابُعٌ) .

د - تَفْرِيقُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا تَلَبَّسَ بِالطَّوَافِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الطَّوَافَ وَيُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَيَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ كَالْيَسِيرِ (2) .
وَفِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ تَضْيِيقًا وَتَوْسِيعًا (3) . وَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ) .

هـ - التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حَظْرِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَْمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَوَلَدِهَا الصَّغِيرِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يُمَيِّزَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 84، وابن عابدين 2 / 210ـ 215، والمغني 3 / 521، وروضة الطالبين 1 / 511.
(2) المغني 3 / 395، وحاشية الطحطاوي 1 / 498، وحاشية الدسوقي 2 / 32، وأسنى المطالب 1 / 479.
(3) القليوبي 2 / 137، والمغني 3 / 334، وحاشية الطحطاوي 1 / 526.

(13/87)


أَوْ يُثْغِرَ أَوْ يَبْلُغَ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
لِحَدِيثِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ غَيْرِ الأُْمِّ مِنَ الْمَحَارِمِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ مَحْرَمِهِ الْمُنْفَرِدِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَبِيعَ غُلاَمَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُهُمَا، فَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال أَدْرِكْهُمَا فَأَرْجِعْهُمَا، وَلاَ تَبِعْهُمَا إِلاَّ جَمِيعًا (3) وَلأَِنَّ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ، فَلَمْ يَجُزِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا كَالأُْمِّ وَوَلَدِهَا. (4)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالأُْمِّ وَوَلَدِهَا (5) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا حَرَامٌ، إِلاَّ إِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا، أَوْ بِذَبْحِهِ هُوَ لاَ بِذَبْحِهَا، وَلاَ بِبَيْعِهِ لِلذَّبْحِ. (6)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 133، وحاشية الدسوقي 3 / 63ـ 64 وقليوبي 2 / 85، والمغني 4 / 294.
(2) حديث: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 571 ط الحلبي) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(3) حديث: " أدركهما فأرجعهما. . . . " أخرجه أحمد (1 / 98 ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع: " رجاله رجال الصحيح " مجمع الزوائد (4 / 107 ط القدسي) .
(4) المصادر السابقة.
(5) حاشية الدسوقي 3 64 - 65، وقليوبي 2 185.
(6) قليوبي 2 / 185.

(13/87)


و - تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لِتَعَدُّدِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمَبِيعِ:
7 - تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ مِنَ الْمُوجِبِ أَوِ الْقَابِل، كَأَنْ يَقُول فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِمِائَةٍ، وَهَذَا بِخَمْسِينَ، فَيُقْبَل الآْخَرُ فِيهِمَا، سَوَاءٌ فَصَّل الْقَابِل أَمْ لَمْ يُفَصِّل، فَيَجُوزُ رَدُّ أَحَدِهِمَا بِعَيْبٍ، وَاسْتِبْقَاءُ الآْخَرِ. تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ لِتَعَدُّدِهَا بِتَفْرِيقِ الثَّمَنِ.
وَكَذَا إِنْ تَعَدَّدَ الْبَائِعُ، أَوِ الْمُشْتَرِي، فَيَجُوزُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْبٍ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ.
أَمَّا إِذَا قَبِل أَحَدَ الْمَبِيعَيْنِ، أَوْ نَصِيبَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلاَ تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ، لاِخْتِلاَفِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَيَبْطُل الْعَقْدُ. هَذَا التَّفْصِيل لِلشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الْمُوجِبُ، وَتَعَدَّدَ الْمُخَاطَبُ، لَمْ يَجُزِ التَّفْرِيقُ بِقَبُول أَحَدِهِمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوجِبُ بَائِعًا أَمْ مُشْتَرِيًا، وَعَلَى عَكْسِهِ لَمْ يَجُزِ الْقَبُول فِي حِصَّةِ أَحَدِهِمَا.
وَإِنِ اتَّحَدَا لَمْ يَصِحَّ قَبُول الْمُخَاطَبِ فِي الْبَعْضِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَفْرِيقُهَا مُطْلَقًا فِي الأَْحْوَال الثَّلاَثَةِ، لاِتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فِي الْكُل.
وَكَذَا إِنِ اتَّحَدَ الْعَاقِدَانِ وَتَعَدَّدَ الْمَبِيعُ، كَأَنْ يُوجِبَ بَيْعُ مِثْلِيَّيْنِ، أَوْ قِيَمِيٍّ وَمِثْلِيٍّ، لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهَا بِالْقَبُول فِي أَحَدِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الآْخَرُ بِذَلِكَ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 100، مغني المحتاج 2 / 42.

(13/88)


بَعْدَ الْقَبُول فِي الْبَعْضِ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالأَْجْزَاءِ، كَدَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، أَوْ مَكِيلٍ، فَيَكُونُ الْقَبُول إِيجَابًا جَدِيدًا وَالرِّضَا قَبُولاً.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ إِلاَّ بِالْقِيمَةِ كَثَوْبَيْنِ أَوْ دَارَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِي الْقَبُول.
فَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ كَرَّرَ لَفْظَ الْبَيْعِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ وَبِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ، يَصِحُّ التَّفْرِيقُ بِالْقَبُول.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُكَرِّرْ لَفْظَ الْبَيْعِ وَفَصَّل الثَّمَنَ، قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ، فَيَجُوزُ تَفْرِيقُهَا بِالْقَبُول، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ.
وَقِيل: إِنَّ اشْتِرَاطَ تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ لِلتَّعَدُّدِ اسْتِحْسَانٌ. وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ قِيَاسٌ. وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ يَكُونُ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمَبِيعِ أَوْ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ، عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.
فَإِذَا اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا، وَشَرَطَا الْخِيَارَ، أَوْ وَجَدَاهُ مَعِيبًا فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَلِلآْخَرِ الْفَسْخُ بِنَاءً عَلَى تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الطَّرَفَيْنِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، وَفِي قَوْلٍ لاَ تُفَرَّقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ لاَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الطَّرَفَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 19.

(13/88)


اشْتَرَى وَاحِدٌ مِنَ اثْنَيْنِ شَيْئًا وَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فَلَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَإِمْسَاكُ الآْخَرِ، تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ (1) ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (الرَّدُّ بِالْعَيْبِ) .

تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ:
إِذَا اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، إِذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لاَ يَمْلِكُهُ، كَدَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّتِهِمْ، وَيَصِحُّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ. أَمَّا إِذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ، فَيَبْطُل فِيهِمَا، إِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُل وَاحِدٍ ثَمَنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. أَمَّا إِذَا سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا:
فَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل فِيهِمَا، لأَِنَّ الْمَيْتَةَ وَالْخَمْرَ لَيْسَا بِمَالٍ، وَالْبَيْعَ صَفْقَةٌ
__________
(1) الإنصاف 4 / 323ـ 428، وكشاف القناع 3 / 178.
(2) شرح الزرقاني 5 / 150.

(13/89)


وَاحِدَةٌ، فَكَانَ الْقَبُول فِي الْمَيْتَةِ كَالْمَشْرُوطِ لِلْبَيْعِ فِي الْمَذْبُوحَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْمَذْبُوحَةِ، بِخِلاَفِ بَيْعِ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لاَ يَمْلِكُهُ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ دَخَلاَ تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْحَلاَل بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا سُمِّيَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ.
لأَِنَّ الْفَسَادَ لاَ يَتَعَدَّى الْمَحَل الْفَاسِدَ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَالِيَّةِ فِي الْمَيْتَةِ، فَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا إِذْ لاَ مُوجِبَ لِتَعَدِّيهِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدِ انْفَصَل عَنِ الآْخَرِ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ، بِدَلِيل مَا لَوْ كَانَتَا مُذَكَّاتَيْنِ فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْل الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الأُْخْرَى. (1)

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
9 - إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ بَطَلَتْ فِيهِمَا عِنْدَهُمْ، إِذَا عَلِمَ الْعَاقِدَانِ الْحَرَامَ أَوْ عَلِمَهُ أَحَدُهُمَا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمَا، كَأَنْ بَاعَ قُلَّتَيْ خَلٍّ وَخَمْرٍ عَلَى أَنَّهُمَا خَلٌّ، فَبَانَتْ إِحْدَاهُمَا خَمْرًا، أَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَذْبُوحَتَانِ فَبَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَيْتَةً، فَلَهُ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، يُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا يَخُصُّ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ بَيْعِهِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 89ـ 90.
(2) حاشية الدسوقي3 / 15.

(13/89)


مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ فِي الاِبْتِدَاءِ.
ب - أَوْ فِي الدَّوَامِ.
ج - أَوْ فِي اخْتِلاَفِ الْحُكْمِ.
فَأَمَّا تَفْرِيقُهَا ابْتِدَاءً، فَكَأَنْ يَبِيعَ حَلاَلاً وَحَرَامًا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، كَشَاةٍ وَخِنْزِيرٍ، أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ، أَوْ دَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا. فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي كُل ذَلِكَ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الْحَلاَل، وَمَا يَمْلِكُهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِعْطَاءً لِكُلٍّ حُكْمَهُ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَالْعَدْل تَصْحِيحُهَا فِي الصَّحِيحِ، وَقَصْرُ الْفَسَادِ عَلَى الْفَاسِدِ، كَنَظِيرِهِ فِيمَا لَوْ شَهِدَ فَاسِقٌ وَعَدْلٌ. وَفِي قَوْلٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِلْحَلاَل، لأَِنَّ الْعَقْدَ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَانَ الآْخَرُ كَالْمَعْدُومِ. وَفِي قَوْلٍ: يَبْطُل فِيهِمَا، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ، فَغَلَبَ الْحَرَامُ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا اجْتَمَعَ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ، إِلاَّ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلاَل، وَلِجَهَالَةِ الْعِوَضِ الَّذِي يُقَابِل الْحَلاَل. (1)
وَأَمَّا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي الدَّوَامِ فَكَأَنْ يَبِيعَ شَاتَيْنِ لَهُ، فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْل الْقَبْضِ، فَلاَ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 42، ومغني المحتاج 2 / 40 - 41.

(13/90)


يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، بَل يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَ يَأْخُذُ الْبَاقِي بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ. (1)
وَأَمَّا تَفْرِيقُهَا فِي اخْتِلاَفِ الْحُكْمِ فَكَمَا لَوْ شَمَلَتِ الصَّفْقَةُ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ، كَإِجَارَةٍ وَبَيْعٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَسَلَمٍ صَحَّا، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى الْقِيمَةِ، وَكَذَا بَيْعٌ وَنِكَاحٌ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الْمَال لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ، وَفِي الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلاَنِ: الأَْظْهَرُ صِحَّتُهُمَا، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَمَهْرِ الْمِثْل. (2)

مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
11 - قَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولاً فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ يَقُول بِعْتُكُ هَذِهِ الْفَرَسَ، وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الأُْخْرَى، بِأَلْفٍ. فَهَذَا بَاطِلٌ. (3)
لأَِنَّ الْمَجْهُول لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِجَهَالَتِهِ، فَيَصِيرُ الْمَبِيعُ الْمَعْلُومُ مَجْهُول الثَّمَنِ وَلاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ، لأَِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَبِيعَيْنِ، وَالْمَجْهُول لاَ يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ فَيَتَعَذَّرُ التَّقْسِيطُ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المصادر السابقة.
(3) المغني 4 / 261، ومغني المحتاج 2 / 16، وحاشية ابن عابدين 4 / 21. وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى هذا الحكم الذي صرح به الحنابلة.

(13/90)


ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعَانِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالأَْجْزَاءِ، كَدَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَاعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَفِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي مِلْكِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ. لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ الْمُسْتَقِل لَوِ انْفَرَدَ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ. (1)
وَهُوَ كَمَا سَبَقَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ (2) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلاَلاً وَحَرَامًا، فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ، وَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُل، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ. (3)
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعَانِ مَعْلُومَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا الثَّمَنُ بِالأَْجْزَاءِ، وَأَحَدُهُمَا مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَالآْخَرُ مِمَّا لاَ يَصِحُّ، كَخَلٍّ وَخَمْرٍ، وَمَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ، وَمَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَغَيْرِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، فَيَبْطُل الْبَيْعُ فِيمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَفِي الآْخَرِ رِوَايَتَانِ:
__________
(1) المغني 4 / 261، 262، 263.
(2) فتح القدير 6 / 89، وأسنى المطالب 2 / 42، ومغني المحتاج 2 / 40.
(3) المغني 4 / 262ـ 263.

(13/91)


إِحْدَاهُمَا: يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ مِنْ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا فَلَمْ يَبْطُل بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَبْطُل فِيهِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، لأَِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ حِينَ الْعَقْدِ. (1)

ز - تَفْرِيقُ الصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَاتِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَتَيِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ، لِثُبُوتِ التَّتَابُعِ فِيهِمَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فِي قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} (2) وَفِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (3) وَثَبَتَ التَّتَابُعُ فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ (4) لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَال: هَلَكْتُ يَا رَسُول اللَّهِ قَال: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَال: هَل تَجِدُ
__________
(1) المغني 4 / 262 ـ 263، ومغني المحتاج 2 / 40.
(2) سورة النساء / 92.
(3) سورة المجادلة / 4.
(4) أسنى المطالب 1 / 426، والمغني 3 / 127، ومواهب الجليل2 / 435، وحاشية الطحطاوي1 / 457

(13/91)


مَا تُعْتِقُ؟ قَال: لاَ. قَال: هَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ (1) . . . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ) .
13 - أَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّوْمِ فِيهَا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ، وَقَدْ قَرَآ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) . (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرُ وَاجِبٍ، (3) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالصَّوْمِ فِيهَا مُطْلَقٌ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ) .

تَتَابُعُ قَضَاءِ رَمَضَانَ:
14 - لاَ يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. (4) وَسَبَقَ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 60، والمغني 8 / 752. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت. . . " إلى آخر الحديث. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163ط السلفية) .
(2) سورة المائدة / 89.
(3) روضة الطالبين 11 / 21، وحاشية الدسوقي2 / 133.
(4) المغني 3 / 150، ومواهب الجليل 2 / 413، وأسنى المطالب 1 / 429، وحاشية الطحاوي 1 / 463.

(13/92)


تَفْسِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْكَشْفُ وَالإِْظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَغَلَبَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، كَمَا قَال الْجُرْجَانِيِّ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الآْيَةِ، وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً ظَاهِرَةً (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْوِيل:
2 - التَّأْوِيل مَصْدَرُ أَوَّل. يُقَال: أَوَّل الْكَلاَمَ تَأْوِيلاً: دَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ وَفَسَّرَهُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنَى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَل الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (2) إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني ص 87.
(2) سورة آل عمران / 27.

(13/92)


كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِل كَانَ تَأْوِيلاً (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيل أَنَّ التَّفْسِيرَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيل، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَال التَّفْسِيرِ فِي الأَْلْفَاظِ وَمُفْرَدَاتِهَا، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَال التَّأْوِيل فِي الْمَعَانِي وَالْجُمَل. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل التَّأْوِيل فِي الْكُتُبِ الإِْلَهِيَّةِ. أَمَّا التَّفْسِيرُ فَيُسْتَعْمَل فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا.
وَقَال قَوْمٌ: مَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَمُعَيَّنًا فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ سُمِّيَ تَفْسِيرًا، لأَِنَّ مَعْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ وَلاَ غَيْرِهِ، بَل يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ لاَ يَتَعَدَّاهُ، وَالتَّأْوِيل مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِمَعَانِي الْخِطَابِ، الْمَاهِرُونَ بِآلاَتِ الْعُلُومِ.
قَال الْمَاتُرِيدِيُّ: التَّفْسِيرُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ هَذَا، وَالشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَتَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَالتَّأْوِيل تَرْجِيحُ أَحَدِ الاِحْتِمَالاَتِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ (2)

ب - الْبَيَانُ:
3 - الْبَيَانُ: إِظْهَارُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُرَادَ لِلسَّامِعِ، وَهُوَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 72.
(2) الإتقان للسيوطي 2 / 173، والكليات 2 / 14ـ 15.

(13/93)


أَعَمُّ مِنَ التَّفْسِيرِ، لِشُمُولِهِ - عَدَا بَيَانَ التَّفْسِيرِ - كُلًّا مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَبَيَانِ التَّقْرِيرِ، وَبَيَانِ الضَّرُورَةِ، وَبَيَانِ التَّبْدِيل (1) .

حُكْمُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَعْنَى اللُّغَةِ، لأَِنَّهُ عَرَبِيٌّ. (2)
وَقَال السُّيُوطِيُّ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَأَجَل الْعُلُومِ الثَّلاَثَةِ الشَّرْعِيَّةِ (أَيْ: التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ) وَقَال: - نَقْلاً عَنِ الأَْصْفَهَانِيِّ - أَشْرَفُ صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا الإِْنْسَانُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ.
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى حَظْرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ وَلاَ نَقْلٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَال فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (4) وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ، وَلاَ نَقْلٍ. (5)
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) كتاب الفروع للمقدسي 1 / 556، وكشاف القناع 1 / 433.
(3) سورة الأعراف / 33.
(4) حديث: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " أخرجه الترمذي (5 / 199 ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وفي أحد رواته ضعف كما في التهذيب لابن حجر (6 / 94ـ 95) .
(5) الإتقان للسيوطي 2 / 175.

(13/93)


أَقْسَامُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ:
5 - قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - مَا لاَ سَبِيل إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَحَجَبَ عِلْمَهُ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَمِنْهُ أَوْقَاتُ وُقُوعِ الأُْمُورِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهَا كَائِنَةٌ، مِثْل وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ نُزُول عِيسَى، وَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالتَّأْوِيل.
ب - مَا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَيَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَى تَفْسِيرِهِ لأُِمُورِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، فَلاَ سَبِيل لَهُمْ أَيْضًا إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيَانِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ تَأْوِيلَهُ.
ج - مَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ أَهْل اللِّسَانِ الَّذِي نَزَل بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ عِلْمُ تَأْوِيل عَرَبِيَّتِهِ وَإِعْرَابِهِ، فَلاَ يُوصَل إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمْ (1) .

طُرُقُ التَّفْسِيرِ:
6 - قَال السُّيُوطِيُّ:
قَال الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ طَلَبَهُ أَوَّلاً مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَمَا أُجْمِل مِنْهُ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ. فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ طَلَبَهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنَةٌ لَهُ.
__________
(1) تفسير الطبري 1 / 92ـ 93.

(13/94)


وَقَال الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُل مَا حَكَمَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. (1)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} . (2)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلاَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. (3)
وَقَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي السُّنَّةِ مَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى، يُرْجَعُ إِلَى أَقْوَال الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالأَْحْوَال عِنْدَ نُزُولِهِ، وَلِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ، وَقَدْ قَال الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيل، فَأَخْبَرَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ. (4)
وَقَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ لأَِنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيل، وَحَضَرُوا التَّأْوِيل. فَتَفْسِيرُهُ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَإِذَا قَال الصَّحَابِيُّ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَهُوَ تَوْقِيفٌ.
وَقَال الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ
__________
(1) الإتقان 2 / 157.
(2) سورة النساء / 105.
(3) حديث: " ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله معه. . . " أخرجه أبو داود (5 / 10 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث المقدام بن معد يكرب، وإسناده صحيح.
(4) الإتقان 2 / 157، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص20 نشر المكتبة العلمية.

(13/94)


قَوْل الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ لَزِمَ قَبُول تَفْسِيرِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ نَقْل كَلاَمِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صَيَّرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلاَمِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ قَبُول تَفْسِيرِهِ. (1)
7 - أَمَّا تَفْسِيرُ التَّابِعِيِّ فَلاَ يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً بِالاِتِّفَاقِ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْل التَّابِعِيِّ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ.
وَنَقَل أَبُو دَاوُدَ: إِذَا جَاءَ عَنِ الرَّجُل مِنَ التَّابِعِينَ لاَ يُوجَدُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلٌ لاَ يَلْزَمُ الأَْخْذُ بِهِ. وَقَال الْمَرْوِيُّ: يُنْظَرُ مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْخَذُ وُجُوبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنِ التَّابِعِينَ، وَقَال الْقَاضِي: يُمْكِنُ حَمْل هَذَا الْقَوْل عَلَى إِجْمَاعِهِمْ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ. (2)
وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ عَرَبِيٌّ. قَال الْغَزَالِيُّ: ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لاَ تَفْهَمُهُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 434، والفروع 1 / 558.
(2) المصادر السابقة، والمستصفى للغزالي 1 / 161ـ 274.

(13/95)


الْعَرَبُ. فَإِنْ قِيل: الْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1) وَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) الْجِهَةَ، وَالاِسْتِقْرَارَ. وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ. قُلْنَا هَيْهَاتَ، فَإِنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ، وَاسْتِعَارَاتٌ يَفْهَمُهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ الْمُصَدِّقُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلاَتٌ تُنَاسِبُ تَفَاهُمَ الْعَرَبِ. (3)
وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى إِثْبَاتَ هَذِهِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا، مَعَ الْتِزَامِ التَّنْزِيهِ. وَالتَّفْصِيل فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ.
وَقَال الطَّبَرِيُّ: وَفِي حَثِّ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى الاِعْتِبَارِ بِمَا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْبَيَانَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَْلْبَابِ} (4) وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَحَثَّهُمْ فِيهَا عَلَى الاِعْتِبَارِ بِأَمْثَال آيِ الْقُرْآنِ وَالاِتِّعَاظِ بِهِ، مَا يَدُل عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ تَأْوِيل مَا لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيِهِ، لأَِنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُقَال - لِمَنْ لاَ يَفْهَمُ مَا يُقَال لَهُ، وَلاَ يَعْقِل تَأْوِيلَهُ -: اعْتَبِرْ بِمَا لاَ فَهْمَ لَكَ بِهِ، وَلاَ مَعْرِفَةَ مِنَ
__________
(1) سورة الأنعام / 18.
(2) سورة طه / 5.
(3) المستصفى 1 / 107.
(4) سورة ص / 129.

(13/95)


الْقَوْل وَالْبَيَانِ وَالْكَلاَمِ عَلَى مَعْنَى الأَْمْرِ بِأَنْ يَفْهَمَهُ، وَيَفْقَهَهُ ثُمَّ يَتَدَبَّرَهُ، وَيَعْتَبِرَ بِهِ. فَأَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَمُسْتَحِيلٌ أَمْرُهُ بِتَدَبُّرِهِ وَهُوَ جَاهِلٌ عَنْ مَعْنَاهُ.
ثُمَّ قَال: وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدْ فَسَدَ قَوْل مَنْ أَنْكَرَ تَفْسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ فِي كُتُبِ اللَّهِ، مَا لَمْ يَحْجُبِ اللَّهُ تَأْوِيلَهُ عَنْ خَلْقِهِ. (1) وَقَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ لاَ إِلَى جَمِيعِهِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ نَزَل حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّفْسِيرُ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ بَالِغَةً. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، جَازَ لِمَنْ عَرَفَ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَأَسْبَابَ النُّزُول أَنْ يُفَسِّرَهُ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا سَمِعَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، لاَ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ قَال: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآْيَةِ كَذَا - وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَحِل لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. وَقَال مُجَاهِدٌ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ (2) .

شُرُوطُ الْمُفَسِّرِ لِلْقُرْآنِ، وَآدَابُهُ:
9 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا
__________
(1) مقدمة تفسير الطبري ص 82 - 83.
(2) الإتقان للسيوطي 2 / 181.

(13/96)


بِلُغَةِ الْعَرَبِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ نَزَل بِهَا، فَبِالْعِلْمِ بِهَا يُعْرَفُ شَرْحُ مُفْرَدَاتِ الأَْلْفَاظِ، وَمَدْلُولاَتِهَا حَسَبَ الْوَضْعِ وَالاِسْتِعْمَال.
وَقَدْ نُقِل عَنْ مُجَاهِدٍ: (لاَ يَحِل لأَِحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ) .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الإِْعْرَابِ، وَبِالصَّرْفِ لأَِنَّ بِهِ يَعْرِفُ أَبْنِيَةَ الْكَلِمَاتِ وَاشْتِقَاقَاتِهَا، لأَِنَّ الاِسْمَ إِذَا كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ مَادَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ بِاخْتِلاَفِهَا.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ عُلُومَ الْبَلاَغَةِ: الْمَعَانِيَ، وَالْبَيَانَ، وَالْبَدِيعَ، لأَِنَّهُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ يَعْرِفُ خَوَاصَّ تَرَاكِيبِ الْكَلاَمِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهَا الْمَعْنَى، وَخَوَاصَّهَا مِنْ حَيْثُ اخْتِلاَفُهَا، حَسَبَ وُضُوحِ الدَّلاَلَةِ، وَخَفَائِهَا، وَتَحْسِينِ الْكَلاَمِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُول الْفِقْهِ، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ وُجُوهَ الاِسْتِدْلاَل عَلَى الأَْحْكَامِ، وَطُرُقَ الاِسْتِنْبَاطِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَسْبَابَ النُّزُول، إِذْ بِهِ يَعْرِفُ مَعْنَى الآْيَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهِ بِحَسَبِ مَا أُنْزِلَتْ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَعْرِفَ النَّاسِخَ، وَالْمَنْسُوخَ لِيَعْلَمَ الْمُحْكَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالأَْحَادِيثَ الْمُبَيِّنَةَ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَل، وَالْمُبْهَمِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفَسِّرِ صِحَّةُ الاِعْتِقَادِ، وَلُزُومُ السُّنَّةِ، وَأَلاَّ يُتَّهَمَ بِإِلْحَادٍ، وَلاَ هَوًى، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْتَمَنُ عَلَى الدُّنْيَا مَنْ كَانَ مَغْمُوصًا فِي دِينِهِ

(13/96)


فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ هُوَ لاَ يُؤْتَمَنُ فِي الدِّينِ عَلَى الإِْخْبَارِ عَنْ عَالِمٍ، فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ فِي الإِْخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ اللَّهِ؟ وَكَذَلِكَ لاَ يُؤْتَمَنُ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِإِلْحَادٍ أَنْ يَبْغِيَ الْفِتْنَةَ وَيَغُرَّ النَّاسَ بِلَيِّهِ، وَخِدَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِهَوَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْمِلَهُ هَوَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ بِدْعَتَهُ (1)
وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ عِلْمَ الْمَوْهِبَةِ قَال: وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِل بِمَا عَلِمَ، وَإِلَيْهِ الإِْشَارَةُ بِحَدِيثِ: مَنْ عَمِل بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. (2)
10 - وَنَقَل السُّيُوطِيُّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُ الْمُفَسِّرِ عَلَى النَّقْل الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ عَاصَرَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ الْمُحْدَثَاتِ - أَيِ الأَْقْوَال الْمُبْتَدَعَةَ - وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْوَال الصَّحَابَةِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا فَعَل. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا رَدَّ الأَْمْرَ إِلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ السَّمْعُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَمْعًا، وَكَانَ لِلاِسْتِدْلاَل طَرِيقٌ إِلَى تَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا رَجَّحَ مَا قَوِيَ الاِسْتِدْلاَل فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ
__________
(1) الإتقان 2 / 180 - 181.
(2) حديث: " من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم " أخرجه أبو نعيم في الحلية (10 / 15 ط السعادة) ثم قال: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم فوضع هذا الإِسناد عليه لس

(13/97)


صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ بِطُرُقِ الاِسْتِدْلاَل، لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لاَ تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ (1) ، أَمَّا مَا لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ الاِسْتِدْلاَل وَلاَ نَقْل فِيهِ فَلاَ سَبِيل إِلَى تَفْسِيرِهِ.
وَعَامَّةُ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، وَلاَ حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ كَلَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَاسْمِهِ، وَالْبَعْضُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَاسْمُ الْغُلاَمِ الَّذِي قَتَلَهُ صَاحِبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ نَشْغَل أَنْفُسَنَا بِذَلِكَ. (2)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَسِّرُ سَلِيمَ الْمَقْصِدِ فِيمَا يَقُول، لِيَلْقَى التَّسْدِيدَ مِنَ اللَّهِ، قَال تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) وَقَال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4)

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهُ لَهَا:
11 - يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، قَالُوا: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ: مَعَانِي الْقُرْآنِ،
__________
(1) الإتقان 2 / 176، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 2 / 175، والمستصفى 1 / 107.
(2) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 13، 14.
(3) سورة العنكبوت / 69.
(4) سورة البقرة / 282.

(13/97)


لاَ تِلاَوَتُهُ، فَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ فِيهِ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ الإِْخْلاَل بِتَعْظِيمِهِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُصْحَفِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِمَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ، وَحَدَثٌ) .

قَطْعُ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ سَارِقِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهَا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ) .

تَفْسِيرُ الْمُقِرِّ مَا أَبْهَمَهُ فِي الإِْقْرَارِ:
13 - إِذَا قَال ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، صَحَّ الإِْقْرَارُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 125، ومغني المحتاج 1 / 27، وروض الطالب 2 / 62، والمغني 1 / 148، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 46.

(13/98)


الْمُبْهَمِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُتَمَوَّل قُبِل تَفْسِيرُهُ، قَل أَوْ كَثُرَ. (1)
وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ يُتَمَوَّل وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّل، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ يُقْبَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ شَيْءٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى آخِذِهِ.
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُفَسَّرَ بِذِي قِيمَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَمَوَّل فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِمَنْفَعَتِهِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَوِ الْقَابِل لِلتَّعْلِيمِ، وَالسِّرْجِينِ، فَيُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، كَخَمْرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ، أَوْ كَكَلْبٍ لاَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، فَلاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِهِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، أَوْ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ قُبِل. (3)
وَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لأَِنَّ التَّفْسِيرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا أَقَرَّ بِهِ مُجْمَلاً - كَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُحْبَسُ، فَإِنْ وَقَعَ الإِْقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ جُعِل مُنْكِرًا، وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ،
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 371، والمغني 5 / 187، وابن عابدين 4 / 450، وحاشية الدسوقي 3 / 405.
(2) المصادر السابقة.
(3) ابن عابدين 4 / 449 - 448، والمغني 5 / 187، وروضة الطالبين 4 / 371.

(13/98)


فَإِنْ أَصَرَّ وَلَمْ يَحْلِفْ جُعِل نَاكِلاً، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً بِلاَ سَبْقِ دَعْوَى ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُقِرُّ لَهُ بِالْحَقِّ، وَقَالُوا: حَيْثُ أَمْكَنَ حُصُول الْغَرَضِ فَلاَ يُحْبَسُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
__________
(1) المغني 5 / 187، وروضة الطالبين4 / 187، 372، وحاشية الدسوقي 3 / 406.

(13/99)


تَفْسِيقٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْسِيقُ: مَصْدَرُ فَسَّقَ، يُقَال: فَسَّقَهُ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْفِسْقِ، وَالْفِسْقُ - فِي الأَْصْل - الْخُرُوجُ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ وَالطَّاعَةِ، يُقَال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ، أَيْ: خَرَجَتْ عَنْ قِشْرَتِهَا.
وَالْفِسْقُ هُوَ الْفُجُورُ وَالْخُرُوجُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالتَّرْكُ لأَِمْرِ اللَّهِ، وَالْعِصْيَانُ، وَفِي التَّنْزِيل {إِنَّهُ لَفِسْقٌ} أَيْ خُرُوجٌ عَنِ الْحَقِّ. (1)
وَقَال الْعَسْكَرِيُّ: الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ بِكَبِيرَةٍ، وَالْفُجُورُ الاِنْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّوَسُّعُ فِيهَا. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة: " فسق "، والكليات لأبي البقاء3 / 349، 348، وحاشية الدسوقي 4 / 165.
(2) الفروق للعسكري ص 225.

(13/99)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْدِيل:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّعْدِيل النِّسْبَةُ إِلَى الْعَدَالَةِ، يُقَال عَدَّلْتُ الشَّاهِدَ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْعَدَالَةِ وَوَصَفْتُهُ بِهَا. وَالْعَدَالَةُ لُغَةً الاِسْتِقَامَةُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ بِاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الدِّينِ فَالتَّعْدِيل ضِدُّ التَّفْسِيقِ. (1)
ب - التَّكْفِيرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي التَّكْفِيرِ النِّسْبَةُ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لُغَةً: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، يُقَال: فُلاَنٌ كَفَرَ النِّعْمَةَ إِذَا سَتَرَهَا وَلَمْ يَشْكُرْهَا، وَشَرْعًا هُوَ: تَكْذِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (ر: كُفْرٌ)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْسِيقِ وَالتَّكْفِيرِ أَنَّ التَّفْسِيقَ أَعَمُّ مِنَ التَّكْفِيرِ بِهَذَا الْمَعْنَى. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَفْسِيقُ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ:
4 - يُفَسَّقُ الْمَجْلُودُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عدل "، والقاموس المحيط مادة: " فسق ". والتعريفات الفقهية للبركتي ص 374، والكليات لأبي البقاء3 / 253.
(2) المصباح المنير مادة " كفر "، وتهذيب الأسماء واللغات 4 / 116، والكليات لأبي البقاء 3 / 349، 4 / 112، والتعريفات الفقهية للبركتي ص 445.

(13/100)


شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) فَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ - إِذَا لَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ - ثَلاَثَةُ أَحْكَامٍ: الْحَدُّ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَالتَّفْسِيقُ، تَغْلِيظًا لِشَأْنِ الْقَذْفِ، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ. (2)
وَفِي قَبُول شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطِ تَوْبَتِهِ، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (تَوْبَةٌ، شَهَادَةٌ، فِسْقٌ، وَقَذْفٌ) .

تَفْسِيقُ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيقِ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ كَالزَّانِي، وَاللاَّئِطِ، وَالْقَاتِل، وَنَحْوِهِمْ، لأَِنَّ تَفْسِيقَ الْقَاذِفِ وَرَدَّ شَهَادَتِهِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُل مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ. (3)
أَمَّا الصَّغَائِرُ فَلاَ يُفَسَّقُ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} . (4)
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) إعلام الموقعين 1 / 122، ط دار الجيل، وأحكام القرآن للهراس4 / 271 ط دار الكتب الحديثة، والمغني لابن قدامة 9 / 197 ط الرياض، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1324 ط عيسى الحلبي، والمنتقى 5 / 207 نشر دار الكتاب العربي، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 271 نشر دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 11 / 299.
(3) روضة الطالبين11 / 225، والبناية شرح الهداية 7 / 176ط دار الفكر، ومطالب أولي النهى 6 / 612، وكشاف القناع6 / 419، 420، والمغني 9 / 165، والشرح الصغير 4 / 240.
(4) سورة النجم / 32.

(13/100)


أَمَّا تَفْسِيرُ الْكَبِيرَةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (كَبَائِرُ، عَدَالَةٌ، فِسْقٌ، وَمَعْصِيَةٌ) .

تَفْسِيقُ أَهْل الْبِدَعِ:
6 - الْبِدَعُ إِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَوِ اعْتِقَادِيَّةٌ، فَأَمَّا الْبِدَعُ الْعَمَلِيَّةُ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَشُرَيْكٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ تَفْسِيقَ أَهْلِهَا، وَعَدَمَ قَبُول شَهَادَتِهِمْ لأَِنَّ الاِبْتِدَاعَ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الاِعْتِقَادُ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ أَهْل الْبِدَعِ مُتَعَمِّدِينَ لِلْبِدْعَةِ أَوْ مُتَأَوِّلِينَ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُعْذَرُونَ بِالتَّأَوُّل. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَقُولُونَ بِقَبُول شَهَادَةِ أَهْل الْبِدَعِ إِلاَّ الْخَطَّابِيَّةُ (2) فَإِنَّهُمْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ إِبَاحَةَ الْكَذِبِ عَلَى خُصُومِهِمْ لِتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ.
أَمَّا الْبِدَعُ الاِعْتِقَادِيَّةُ غَيْرُ الْمُكَفِّرَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 240، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 25 ط دار الكتب العلمية، ومطالب أولي النهى 6 / 615 نشر المكتب الإسلامي، والمغني 9 / 165، 166، والبناية 7 / 181.
(2) الخطابية قوم من غلاة الروافض ينتسبون إلى أبي الخطاب محمد بن وهب الأجدع، يستجيزون أن يشهدوا للمدعي إذا حلف عندهم أنه محق، ويقولون: المسلم لا يحلف كاذبا. وقيل: إنهم يعتقدون أن من ادعى منهم شيئا على غيره يجب أن يشهد له بقية شيعته، فتمكنت التهمة في شهادتهم والزيلعي 4 / 223، وأسنى المطالب 4 / 353) .

(13/101)


الْفُقَهَاءُ عَلَى تَفْسِيقِ أَهْلِهَا. إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِسْقِ مَانِعًا مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ أَهْل الْبِدَعِ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى إِلاَّ التَّعَمُّقُ وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظِّمُ الذَّنْبَ حَتَّى يَجْعَلَهُ كُفْرًا، فَيَكُونُ مُمْتَنِعًا عَنِ الْكَذِبِ، فَصَارَ هَذَا كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ يَأْكُل مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مُعْتَقِدًا إِبَاحَتَهُ، فَإِنَّهُ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ كَذَا هَذَا، بِخِلاَفِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي وَالأَْفْعَال حَيْثُ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ. (1)
أَمَّا الْبِدَعُ الْمُكَفِّرَةُ فَتُرَدُّ شَهَادَةُ أَهْلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (أَهْل الأَْهْوَاءِ، بِدْعَةٌ، شَهَادَةٌ، عَدَالَةٌ، وَفِسْقٌ) .

تَفْسِيقُ مَنْ لَيْسَ فَاسِقًا:
7 - مَنْ فَسَّقَ مُسْلِمًا بِأَنْ قَذَفَهُ بِ (يَا فَاسِقُ) . وَهُوَ لَيْسَ بِفَاسِقٍ عُزِّرَ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ.
أَمَّا لَوْ قَال لِفَاسِقٍ: يَا فَاسِقُ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ. (2) التَّفَاصِيل فِي (سَبٌّ، وَفِسْقٌ) .
__________
(1) البناية7 / 181، 183، وابن عابدين 4 / 376، وأسنى المطالب 4 / 353، والمغني 9 / 181.
(2) الاختيار لتعليل المختار 4 / 96، والفتاوى الهندية 2 / 168، والمغني8 / 220 ط الرياض.

(13/101)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّفْسِيقِ بِالتَّفْصِيل فِي أَبْوَابِ الشَّهَادَاتِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالرِّدَّةِ، فَتُنْظَرُ فِيهَا، وَفِي مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ (الإِْمَامَةِ: كُبْرَى أَوْ صُغْرَى) .

(13/102)


تَفْضِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْضِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَضَّلَهُ، يُقَال: فَضَّلْتُ فُلاَنًا عَلَى غَيْرِهِ تَفْضِيلاً، أَيْ مَيَّزْتُهُ، وَحَكَمْتُ لَهُ بِالْفَضْل، أَوْ صَيَّرْتُهُ كَذَلِكَ وَالْفَضْل وَالْفَضِيلَةُ. ضِدُّ النَّقْصِ وَالنَّقِيصَةِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ تَفْضِيلٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّسْوِيَةُ:
2 - التَّسْوِيَةُ مِنْ سَوَّيْتُ الشَّيْءَ فَاسْتَوَى، أَيْ: قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ، وَقَسَمَ الشَّيْءَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، أَيْ: عَلَى سَوَاءٍ، وَمِنْ مَعَانِيهَا أَيْضًا: الْعَدْل، يُقَال: سَوَّيْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: إِذَا عَدَلْتُ بَيْنَهُمَا، وَسَوَّيْتُ فُلاَنًا بِفُلاَنٍ: مَاثَلْتُهُ بِهِ. (2)
فَالتَّسْوِيَةُ ضِدُّ التَّفْضِيل.
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط مادة: " فضل ".
(2) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط والقاموس مادة: " ساوى ".

(13/102)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّفْضِيل بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ: فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَتَفْضِيل الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِل فِي تَقْسِيمِ الْغَنِيمَةِ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعْطَى الْفَارِسَ أَكْثَرَ مِنَ الرَّاجِل، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُعْطَاهُ الْفَارِسُ، وَالْفَرَسُ، وَالرَّاجِل
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى الْفَارِسُ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لَهُ. (1) وَيُعْطَى الرَّاجِل سَهْمًا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ بِإِعْطَاءِ الْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِل سَهْمًا، لِحَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى أَهْل الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِل سَهْمًا. (2)
__________
(1) حديث: " أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه وسهم له " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 67 ط السلفية) ومسلم (3 / 1383 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) حديث: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على أهل الحديبية، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما ". أخرجه أبو داود من حديث مجمع بن جارية (3 / 175 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال أبو داود: " حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه ". يعني به حديث ابن عمر المتقدم، وقد ضعف ابن حجر إسناد حديث مجمع كما في الفتح (6 / 68ط السلفية) .

(13/103)


وَأَمَّا تَفْضِيل بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ " غَنِيمَةٌ ".
4 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْضِيل بَيْنَ الأَْصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ وَآحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَةٌ) وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ فِيهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ (مَصْرِفِ الزَّكَاةِ) . (2)
5 - وَقَدْ يَكُونُ التَّفْضِيل مَكْرُوهًا كَتَفْضِيل بَعْضِ الأَْوْلاَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِنْ وَقَعَ جَازَ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعُ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ فَاضَل بَيْنَهُمْ فِيهَا، دُونَ مَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ أَثِمَ، وَهُنَاكَ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ، هَل تَكُونُ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ، أَوْ تُعْطَى الأُْنْثَى مِثْل مَا يُعْطَى الذَّكَرُ؟ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَةٌ وَهِبَةٌ) . (3)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 234، والحطاب 3 / 371، ورضة الطالبين 6 / 383، والمغني 8 / 405، 404، 418 ونيل الأوطار 7 / 282، 284.
(2) ابن عابدين 2 / 62، والقوانين الفقهية لابن جزي / 116، وروضة الطالبين2 / 330، 331، وقليوبي 3 / 202، والمغني 2 / 669.
(3) ابن عابدين 4 / 513، والقوانين الفقهية لابن جزي / 372، وروضة الطالبين 5 / 378، 379، والمغني 5 / 664، 665، 666.

(13/103)


6 - وَقَدْ يَكُونُ التَّفْضِيل حَرَامًا كَتَفْضِيل زَوْجَةٍ عَلَى أُخْرَى.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّفْضِيل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ، وَإِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُنَّ بِشَرَفٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي تَفْضِيل الْجَدِيدَةِ عَلَى الْقَدِيمَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْقَسْمِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) . يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَسْوِيَةٌ وَقَسْمٌ) .
7 - وَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ وَآرَاءٌ حَوْل تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَتَفْضِيل قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيل الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَتَفْضِيل إِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ عَلَى تَثْلِيثِ الْوُضُوءِ وَسَائِرِ آدَابِهِ، وَالتَّفْضِيل بَيْنَ آحَادِ كُل صِنْفٍ فِي الْوَصِيَّةِ ذُكِرَ فِي مَوْطِنِهِ (2) وَيُرْجَعُ أَيْضًا إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ، مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، قَبْرٌ، مَسَاجِدُ، وَصِيَّةٌ) .
8 - وَأَيْضًا يُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي تَفْضِيل حَجِّ الْغَنِيِّ عَلَى حَجِّ الْفَقِيرِ، وَحَجِّ الْفَرْضِ عَلَى طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَبِنَاءِ الرِّبَاطِ عَلَى حَجِّ النَّفْل، وَالْحَجِّ تَطَوُّعًا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ إِذَا وَافَقَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 399، 400، 402، وفتح القدير 3 / 301، 300، والقوانين الفقهية لابن جزي / 217، وروضة الطالبين 7 / 324، 352، والمغني 7 / 27، 43، 44، والزواجر 2 / 35.
(2) ابن عابدين 2 / 256، 257، وأسنى المطالب 1 / 74، ونهاية المحتاج 6 / 79.

(13/104)


يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَفْضِيل مُجَاوَرَةِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، أَوِ الْعَكْسُ فِي (كِتَابِ الْحَجِّ (1)) .
وَمُصْطَلَحَيْ (حَجٌّ، وَجِوَارٌ) كَمَا فَصَّل الْقَرَافِيُّ الْكَلاَمَ فِي التَّفْضِيل بَيْنَ الْعُلُومِ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةَ (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 253، 256، 257.
(2) الفروق للقرافي 2 / 211 - 229 ط دار المعرفة.

(13/104)


تَفْلِيجٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْلِيجُ لُغَةً هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْسْنَانِ سَوَاءٌ، أَكَانَ خِلْقَةً، أَمْ بِتَكَلُّفٍ، بِأَنْ يَبْرُدَهَا بِالْمِبْرَدِ وَنَحْوِهِ طَلَبًا لِلْحُسْنِ، وَيُقَال: رَجُلٌ أَفْلَجُ الأَْسْنَانِ وَامْرَأَةٌ فَلْجَاءُ الأَْسْنَانِ. وَرَجُلٌ مُفْلَجُ الثَّنَايَا أَيْ مُنْفَرِجُهَا.
وَالْمُتَفَلِّجَةُ هِيَ الَّتِي تَتَكَلَّفُ، بِأَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الأَْسْنَانِ لأَِجْل الْحُسْنِ.
وَهُوَ مِنَ الْفَلَجِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللاَّمِ) وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ. (1)
وَفِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُفَلَّجَ الأَْسْنَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَفْلَجَ الأَْسْنَانِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " فلج "، وفتح الباري 10 / 372، ط رئاسة إدارة البحوث الرياض، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 22 / 62 ط المنيرية، وشرح النووي على صحيح مسلم 14 / 106 ط المطبعة المصرية بالأزهر
(2) حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين، وإذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. أخرجه الدارمي (1 / 33 ط دار المحاسن بالقاهرة) والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد للهيثمي (8 / 279 ط القدسي) وقال الهيثمي: " فيه عبد العزيز بن أبي ثابت وهو ضعيف ".

(13/105)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْرِيقُ:
2 - التَّفْرِيقُ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْفَصْل بَيْنَ الأَْشْيَاءِ، أَوِ الْفَصْل بَيْنَ أَبْعَاضِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّفْلِيجِ، حَيْثُ يَكُونُ فِي الأَْسْنَانِ وَغَيْرِهَا (1) .

ب - الْوَشْرُ:
3 - الْوَشْرُ فِي اللُّغَةِ: النَّشْرُ، يُقَال: وَشَرَ الْخَشَبَةَ وَشْرًا: إِذَا نَشَرَهَا بِالْمِنْشَارِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: تَحْدِيدُ الأَْسْنَانِ وَتَرْقِيقُ أَطْرَافِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنِ النَّامِصَةِ وَالْوَاشِرَةِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّفْلِيجَ هُوَ تَفْرِيقُ الأَْسْنَانِ، وَالْوَشْرُ هُوَ تَحْدِيدُهَا وَتَرْقِيقُهَا. (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " فرق ".
(2) حديث: " نهى عن النامصة والواشرة " أخرجه أحمد (1 / 415 ط الميمنية) من حديث ابن مسعود. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6 / 21 ط دار المعارف) .
(3) لسان العرب مادة: " وشر "، وفتح الباري10 / 372ط الرياض.

(13/105)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَفْلِيجَ الأَْسْنَانِ لأَِجْل الْحُسْنِ حَرَامٌ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ طَالِبَةُ التَّفْلِيجِ وَفَاعِلَتُهُ، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ
قَال: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَال لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ. وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَتَتْهُ. فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فَقَال: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: إِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الآْنَ. قَال: اذْهَبِي فَانْظُرِي. قَال: فَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا فَقَال: أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نُجَامِعْهَا (2) أَيْ لَمْ نَجْتَمِعْ مَعَهَا
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) حديث ابن مسعود مرفوعا: " لعن الله الواشمات " أخرجه البخاري (الفتح8 / 630 ط السلفية) ، ومسلم 3 / 1678 ط الحلبي) .

(13/106)


وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَنُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، وَالْمُتَوَشِّمَاتِ اللاَّتِي يُغَيِّرْنَ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. (1)
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَنْ تَفْعَل ذَلِكَ لِلْحُسْنِ.
لأَِنَّ اللاَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِلْحُسْنِ لِلتَّعْلِيل، أَمَّا لَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِعِلاَجٍ أَوْ عَيْبٍ فِي السِّنِّ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. (2)
5 - وَالتَّفْلِيجُ عَادَةً يَكُونُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ مِنَ الأَْسْنَانِ وَقَال الْعَيْنِيُّ: لاَ يُفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ فِي الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ وَكَانَ التَّفْلِيجُ يُسْتَحْسَنُ فِي الْمَرْأَةِ، فَرُبَّمَا صَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَكُونُ أَسْنَانُهَا مُتَلاَصِقَةً لِتَصِيرَ مُتَفَلِّجَةً قَال النَّوَوِيُّ: وَتَفْعَل ذَلِكَ الْعَجُوزُ وَمَنْ
__________
(1) حديث ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن المتنمصات والمتفلجات. أخرجه النسائي (8 / 148ط المكتبة التجارية بمصر) ، وأحمد (1 / 417ط الميمنية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6 / 26 ط المعارف) .
(2) فتح الباري شرح البخاري 10 / 372 ط رئاسة إدارة البحوث الرياض، وعمدة القاري شرح البخاري 22 / 62 وإرشاد الساري شرح البخاري 8 / 474ط الأميرية ببولاق، صحيح مسلم بشرح النووي14 / 106 ط المطبعة المصرية بالأزهر، عون المعبود شرح سنن أبي داود 11 / 226ط المكتبة السلفية.

(13/106)


قَارَبَتْهَا فِي السِّنِّ إِظْهَارًا لِلصِّغَرِ وَحُسْنِ الأَْسْنَانِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْفُرْجَةَ اللَّطِيفَةَ بَيْنَ الأَْسْنَانِ تَكُونُ لِلْبَنَاتِ الصِّغَارِ، فَإِذَا عَجَزَتِ الْمَرْأَةُ وَكَبِرَتْ سِنُّهَا فَتَبْرُدُهَا بِالْمِبْرَدِ لِتَصِيرَ لَطِيفَةً حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ وَتُوُهِّمَ كَوْنُهَا صَغِيرَةً. (1)

تَفْلِيسٌ

انْظُرْ: إِفْلاَسٌ
__________
(1) المراجع السابقة.

(13/107)


تَفْوِيضٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّفْوِيضُ لُغَةً مَصْدَرُ فَوَّضَ، يُقَال: فَوَّضْتُ إِلَى فُلاَنٍ الأَْمْرَ أَيْ صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُهُ الْحَاكِمَ فِيهِ. (1) وَمِنْهُ حَدِيثُ الْفَاتِحَةِ فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي (2) وَاصْطِلاَحًا يُسْتَعْمَل فِي بَابِ النِّكَاحِ. يُقَال: فَوَّضَتِ الْمَرْأَةُ نِكَاحَهَا إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ، وَقِيل: فَوَّضَتْ أَيْ أَهْمَلَتْ حُكْمَ الْمَهْرِ، فَهِيَ مُفَوِّضَةٌ (بِكَسْرِ الْوَاوِ) لِتَفْوِيضِهَا أَمْرَهَا إِلَى الزَّوْجِ أَوِ الْوَلِيِّ بِلاَ مَهْرٍ.
وَمُفَوَّضَةٌ (بِفَتْحِ الْوَاوِ) مِنْ فَوَّضَهَا وَلِيُّهَا إِلَى الزَّوْجِ بِلاَ مَهْرٍ. (3)
وَهُوَ فِي بَابِ الطَّلاَقِ: جَعَل أَمْرَ طَلاَقِ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " فوض ".
(2) حديث: " فوض إليَ عبدي " أخرجه مسلم (1 / 296 ط عيسى الحلبي) ، وأحمد (1 / 241 - 242 ط المكتب الإسلامي) . واللفظ له، وهو من حديث أبي هريرة.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 335، وحاشية الدسوقي 2 / 313، ومغني المحتاج 3 / 229، وكشاف القناع 5 / 156.
(4) ابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 405، ومغني المحتاج3 / 285، وكشاف القناع 5 / 257.

(13/107)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - تَوْكِيلٌ:
2 - وَكَل إِلَيْهِ الأَْمْرَ: سَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَالتَّوْكِيل هُوَ الإِْنَابَةُ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ. وَتَوْكِيل الزَّوْجَةِ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا هُوَ بِعَيْنِهِ التَّفْوِيضُ فِي الطَّلاَقِ فِي الْقَوْل الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّفْوِيضِ الثَّلاَثَةِ (التَّوْكِيل، وَالتَّمْلِيكُ، وَالتَّخْيِيرُ) ، وَجَعَل الْحَنَابِلَةُ حَمْل أَمْرِ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا، وَتَعْلِيقُ الطَّلاَقِ عَلَى مَشِيئَتِهَا، مِنْ بَابِ التَّوْكِيل. (1)
ب - التَّمْلِيكُ:
3 - أَمْلَكَهُ الشَّيْءَ وَمَلَّكَهُ إِيَّاهُ تَمْلِيكًا جَعَلَهُ مِلْكًا لَهُ وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ تَفْوِيضَ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّفْوِيضِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْحَنَابِلَةُ خَاصًّا بِصِيغَةِ الاِخْتِيَارِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ. (2)
ج - التَّخْيِيرُ:
4 - التَّخْيِيرُ مِنْ خَيَّرْتُهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَوَّضْتُ إِلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب مادة: " وكل "، والدسوقي 2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 286، وكشاف القناع 5 / 257.
(2) لسان العرب مادة: " ملك "، وابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 286، وكشاف القناع 5 / 256.

(13/108)


الاِخْتِيَارَ فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَتَخَيَّرَهُ، وَحَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ هُوَ تَخْيِيرُ الزَّوْجَةِ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي عِصْمَةِ الزَّوْجِ، أَوِ الْفِرَاقِ، سَوَاءٌ عَنْ طَرِيقِ تَمْلِيكِهَا لِلطَّلاَقِ أَوْ تَوْكِيلِهَا فِي إِيقَاعِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ وَبَدَأَ بِي (1) الْحَدِيثَ وَيَعْتَبِرُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (اخْتَارِي) أَحَدَ صِيَغِ التَّفْوِيضِ. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّفْوِيضِ:
أَوَّلاً: التَّفْوِيضُ فِي النِّكَاحِ:
حَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ وَحُكْمُهُ:
5 - الْمُرَادُ بِالتَّفْوِيضِ فِي النِّكَاحِ السُّكُوتُ عَنْ تَعْيِينِ الصَّدَاقِ حِينَ الْعَقْدِ، وَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمَا.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (3) } وَلِمَا رَوَى مَعْقِل بْنُ سِنَانٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا مَاتَ، وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا،
__________
(1) حديث: " لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه، وبدأ بي. . . " أخرجه مسلم (2 / 1104 - 1105 ط عيسى الحلبي)
(2) لسان العرب مادة: " خير "، وابن عابدين 2 / 475، وحاشية 2 / 406.
(3) سورة البقرة / 236.

(13/108)


فَجَعَل لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ (1) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَصْلَةُ وَالاِسْتِمْتَاعُ دُونَ الصَّدَاقِ، فَصَحَّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ (2) .
6 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي يَخْلُو الْعَقْدُ فِيهَا مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ هَل تُعْتَبَرُ تَفْوِيضًا فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ أَوْ لاَ؟ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ، وَالتَّرَاضِي عَلَى إِسْقَاطِهِ. فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَمِنْ ثَمَّ يُصَحِّحُونَ عَقْدَ الزَّوَاجِ فِيهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ رُكْنًا فِي الْعَقْدِ وَلاَ شَرْطًا لَهُ، بَل هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَالْخَلَل فِيهِ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ فَسَادَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَيُوجِبُونَ فَسْخَهُ قَبْل الدُّخُول، فَإِنْ دَخَل ثَبَتَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْل. (3)
أَنْوَاعُ التَّفْوِيضِ:
7 - التَّفْوِيضُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أ - تَفْوِيضُ الْمَهْرِ: وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى
__________
(1) حديث: " قضى في بروع بنت واشق " أخرجه أبو داود (2 / 588 ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (3 / 450 ط مصطفى الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 274، وتبيين الحقائق 2 / 139، وحاشية الدسوقي 2 / 313، والقوانين الفقهية 208، ومغني المحتاج 3 / 229، وكشاف القناع 5 / 156، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 218.
(3) فتح القدير 3 / 205، وحاشية الدسوقي 2 / 303، 313، ومغني المحتاج 3 / 229، وكشاف القناع 5 / 156.

(13/109)


مَا شَاءَتْ، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ الزَّوْجُ أَوِ الْوَلِيُّ، أَوْ عَلَى مَا شَاءَ غَيْرُهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يُسَمُّونَ هَذَا النَّوْعَ تَفْوِيضًا بَل يُسَمُّونَهُ التَّحْكِيمَ.
ب - تَفْوِيضُ الْبُضْعِ وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الأَْبُ ابْنَتَهُ الْمُجْبَرَةَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، أَوْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ. (1)

مَا يَجِبُ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ مَهْرَ الْمِثْل فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَتَأَكَّدُ وَيَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْوَطْءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْوَطْءِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْمَوْتِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ بِالْوَطْءِ لاَ بِالْمَوْتِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي فِيمَا بَعْدُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلاَّ الْمُتْعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (2) } عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 228، وكشاف القناع 5 / 156، وحاشية الدسوقي 2 / 313.
(2) سورة البقرة / 236.

(13/109)


فَإِلَى الْوُجُوبِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلاَ يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} لأَِنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ مِنَ الإِْحْسَانِ، وَلأَِنَّ الْمُفَوَّضَةَ لَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ فَتَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ لِلإِْيحَاشِ.
وَإِلَى النَّدْبِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُخَصَّ بِهَا الْمُحْسِنُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْل الدُّخُول فَهُوَ مَحَل خِلاَفٍ فِي إِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْل لَهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ عَنِ الْمُفَوَّضَةِ قَبْل الدُّخُول، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لِحَدِيثِ مَعْقِل بْنِ سِنَانٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا مَاتَ، وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، فَجَعَل لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ صَدَاقَ لَهَا وَإِنْ ثَبَتَ لَهَا الْمِيرَاثُ. (2)
__________
(1) حديث: " قضى في بروع بنت واشق وكان زوجها مات. . " سبق تخريجه ف / 5.
(2) تفسير القرطبي 3 / 200، وابن عابدين 2 / 334، 335، وحاشية الدسوقي 2 / 301، 313، وما بعدها 426، والقوانين الفقهية 208، ومغني المحتاج 2 / 228 وما بعدها 241، وكشاف القناع 5 / 147، 156.

(13/110)


ثَانِيًا: التَّفْوِيضُ فِي الطَّلاَقِ:
حُكْمُ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: جَوَازِ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ (1) لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَال: دَخَل أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ، لَمْ يُؤْذَنْ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ. قَال: فَأَذِنَ لأَِبِي بَكْرٍ فَدَخَل، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا، قَال: فَقَال وَاَللَّهِ لأََقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلاَهُمَا يَقُول: تَسْأَلْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ،، فَقُلْنَ: وَاَللَّهِ لاَ نَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآْيَاتُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 405، ومغني المحتاج 3 / 285، وكشاف القناع 5 / 254، وتفسير القرطبي 14 / 162، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1505، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 439.

(13/110)


فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) قَال: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَال: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَلاَّ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَتَلاَ عَلَيْهَا الآْيَةَ. قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُول اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ،، بَل أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ، وَأَسَالُكَ أَلاَّ تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِاَلَّذِي قُلْتُ. قَال: لاَ تَسْأَلْنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا. (2)

حَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ وَصِفَتُهُ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلاَقِ، وَعَلَى هَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ صِحَّةِ رُجُوعِ الزَّوْجِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّمْلِيكَ يَتِمُّ بِالْمِلْكِ وَحْدَهُ بِلاَ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبُول.
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَهُ: الرُّجُوعُ قَبْل تَطْلِيقِهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمْلِيكَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْل الْقَبُول، وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَطْلِيقَهَا عَلَى الْفَوْرِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّطْلِيقَ عِنْدَهُمْ جَوَابٌ لِلتَّمْلِيكِ، فَكَانَ كَقَبُولِهِ، وَقَبُولُهُ فَوْرٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا التَّفْوِيضَ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ: تَفْوِيضُ تَوْكِيلٍ، وَتَفْوِيضُ
__________
(1) سورة الأحزاب / 28، 29.
(2) حديث: " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس. . . " سبق تخريجه ف / 4.

(13/111)


تَخْيِيرٍ، وَتَفْوِيضُ تَمْلِيكٍ. وَيُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا مِنْ خِلاَل الأَْلْفَاظِ الصَّادِرَةِ عَنِ الزَّوْجِ. فَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى جَعْل إِنْشَاءِ الطَّلاَقِ بِيَدِ الْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِيقَاعِهِ فَهُوَ تَفْوِيضُ تَوْكِيلٍ، وَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ لَهَا الْبَقَاءَ عَلَى الْعِصْمَةِ أَوِ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَهُوَ تَفْوِيضُ تَخْيِيرٍ، وَكُل لَفْظٍ دَل عَلَى جَعْل الطَّلاَقِ بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِ غَيْرِهَا دُونَ تَخْيِيرٍ فَهُوَ تَفْوِيضُ تَمْلِيكٍ. وَلَهُ الرُّجُوعُ فِي تَفْوِيضِ التَّوْكِيل دُونَهُمَا؛ لأَِنَّهُ فِي التَّوْكِيل جَعَلَهَا نَائِبَةً عَنْهُ فِي إِنْشَائِهِ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَقَدْ جَعَل لَهَا مَا كَانَ يَمْلِكُ، فَهُمَا أَقْوَى.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ صِيَغِ التَّفْوِيضِ، فَجَعَلُوا صِيغَتَيْنِ " أَمْرُكِ بِيَدِكِ "، " وَطَلِّقِي نَفْسَكِ " مِنَ التَّوْكِيل، فَيَكُونُ لَهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ، وَجَعَلُوا صِيغَةَ " اخْتَارِي " مِنْ خِيَارِ التَّمْلِيكِ، فَهُوَ لَهَا عَلَى الْفَوْرِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهَا عَلَى التَّرَاخِي. (1)

أَلْفَاظُ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَقْسِيمِ أَلْفَاظِ التَّفْوِيضِ فِي الطَّلاَقِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ، كَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ شِئْتِ، وَالْكِنَايَةُ مَا كَانَ بِغَيْرِهِ كَاخْتَارِي نَفْسَكِ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 475، 476، 486، وحاشية الدسوقي 2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 286، وكشاف القناع 5 / 257.

(13/111)


وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلُوا لَفْظَ الأَْمْرِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَفْظَ الْخِيَارِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ. وَتَفْتَقِرُ أَلْفَاظُ التَّفْوِيضِ الْكِنَائِيَّةُ إِلَى النِّيَّةِ بِخِلاَفِ الصَّرِيحِ مِنْهَا (1) .

زَمَنُ تَفْوِيضِ الزَّوْجَةِ:
12 - صِيغَةُ التَّفْوِيضِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، أَوْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ تَكُونَ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ.
(أ) فَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفْوِيضِ مُطْلَقَةً.
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حَقَّ الطَّلاَقِ لِلْمَرْأَةِ مُقَيَّدٌ بِمَجْلِسِ عِلْمِهَا وَإِنْ طَال، مَا لَمْ تُبَدِّل مَجْلِسَهَا حَقِيقَةً كَقِيَامِهَا عَنْهُ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ تَعْمَل مَا يَقْطَعُهُ مِمَّا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ عَنْهُ، وَكَانَ الإِْمَامُ مَالِكٌ يَقُول بِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّمْلِيكَ الْمُطْلَقَيْنِ بَاقِيَانِ بِيَدِهَا مَا لَمْ تُوقَفْ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ تُمَكِّنْ زَوْجَهَا مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ مِنْهَا عَالِمَةً طَائِعَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَجَّحَهُ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَتْ بِقَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ ثُمَّ طُلِّقَتْ لَمْ يَقَعْ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا لِكُل صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّفْوِيضِ حُكْمًا خَاصًّا بِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 275، 481، 486، وحاشية الدسوقي2 / 406، ومغني المحتاج 3 / 285، 286، وكشاف القناع 5 / 256.

(13/112)


فَلَوْ قَال لَهَا " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " فَلاَ يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ، وَلَهَا حَقُّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا عَلَى التَّرَاخِي وَذَلِكَ لأَِنَّهُ تَوْكِيلٌ يَعُمُّ الزَّمَانَ مَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ قَال لَهَا " طَلِّقِي نَفْسَكِ " فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي، لأَِنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَيْهَا فَأَشْبَهَ " أَمْرُكِ بِيَدِكِ ".
وَلَوْ قَال لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ " فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ، وَبِعَدَمِ الاِشْتِغَال بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ، وَلأَِنَّهُ خِيَارُ تَمْلِيكٍ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْقَبُول. إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُول لَهَا " اخْتَارِي نَفْسَكِ يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا " وَنَحْوَهُ فَتَمْلِكُهُ.
(ب) وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفْوِيضِ تَعُمُّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ فَيَكُونُ لَهَا حَقُّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا مَتَى شَاءَتْ وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ.
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ وَقْفِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتُطَلِّقَ أَوْ تُسْقِطَ التَّمْلِيكَ، أَوْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَدُل عَلَى إِسْقَاطِهِ، كَأَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالَةِ التَّفْوِيضِ حَتَّى تُجِيبَ بِمَا يَقْتَضِي رَدًّا أَوْ أَخْذًا، وَإِلاَّ لأََدَّى إِلَى الاِسْتِمْتَاعِ فِي عِصْمَةٍ مَشْكُوكٍ فِي بَقَائِهَا. وَهَذَا فِي تَفْوِيضِ التَّمْلِيكِ وَالتَّخْيِيرِ دُونَ التَّوْكِيل لِقُدْرَةِ الزَّوْجِ عَلَى عَزْلِهَا.
(ج) وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ التَّفْوِيضِ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ حَقُّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا إِلَى

(13/112)


أَنْ يَنْتَهِيَ هَذَا الزَّمَنُ، وَلاَ يَبْطُل التَّفْوِيضُ الْمُؤَقَّتُ بِانْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ وَلاَ بِالإِْعْرَاضِ عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَسْتَمِرُّ مَا لَمْ تُوقَفْ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ يَكُنْ مِنْهَا مَا يَدُل عَلَى إِسْقَاطِهِ (1) .

عَدَدُ الطَّلَقَاتِ الْوَاقِعَةِ بِأَلْفَاظِ التَّفْوِيضِ وَنَوْعُهَا:
13 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ التَّفْوِيضِ بِصَرِيحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا بِتَفْوِيضِ الزَّوْجِ لَهَا الطَّلاَقَ بِصَرِيحِهِ، فَإِنَّ طَلاَقَهَا يَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَا شِئْتِ.
وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ بِالْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَاخْتَارَتِ الزَّوْجَةُ الْفُرْقَةَ فَإِنَّهَا تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْكُبْرَى فَتُوقِعَهَا بِلَفْظِهَا أَوْ بِنِيَّتِهَا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْبَيْنُونَةِ إِذَا قُرِنَ بِالصَّرِيحِ صَارَ رَجْعِيًّا.
وَإِنَّمَا كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا فِي التَّفْوِيضِ بِالْكِنَايَةِ دُونَ الصَّرِيحِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَاتُ عَلَى أَصْلِهِمْ مُبِينَاتٌ، وَلأَِنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ جَعَل أَمْرَ نَفْسِهَا بِيَدِهَا، فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةً نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةً
__________
(1) ابن عابدين 2 / 475، وحاشية الدسوقي 2 / 475، ونهاية المحتاج 6 / 429، وروضة الطالبين 8 / 46، وكشاف القناع 5 / 254 ومابعدها.

(13/113)


نَفْسَهَا بِالْبَائِنِ لاَ بِالرَّجْعِيِّ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْقَوْل بِنَاءً عَلَى تَقْسِيمِهِمُ التَّفْوِيضَ إِلَى أَنْوَاعٍ ثَلاَثَةٍ. فَفِي تَفْوِيضِ التَّوْكِيل - لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُوقِعَ مِنَ الطَّلَقَاتِ مَا وَكَّلَهَا بِهِ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي تَفْوِيضِ التَّمْلِيكِ، فَلَهَا أَنْ تُوقِعَ مِنَ الطَّلَقَاتِ مَا جُعِل بِيَدِهَا مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا أَطْلَقَ.
وَأَمَّا فِي تَفْوِيضِ التَّخْيِيرِ، فَيَقَعُ طَلاَقُهَا ثَلاَثًا إِنِ اخْتَارَتِ الْفِرَاقَ، فَإِنْ قَالَتِ اخْتَرْتُ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلاَّ أَنْ يُخَيِّرَهَا فِي طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ خَاصَّةً فَتُوقِعُهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَفْوِيضَ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَحَلًّا لِلرَّجْعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَقُول لَهَا: طَلِّقِي وَنَوَى ثَلاَثًا فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ، وَنَوَتْهُنَّ فَيَقَعُ ثَلاَثًا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلاَثًا فِي التَّوْكِيل وَالتَّمْلِيكِ، وَأَمَّا فِي الاِخْتِيَارِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ جَعَلَهُ لَهَا بِلَفْظِهِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ، وَتَقَعُ رَجْعِيَّةً (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 478 وما بعدها، وبدائع الصنائع 3 / 112 ومابعدها، والقوانين الفقهية 238، ومغني المحتاج 3 / 287، وروضة الطالبين8 / 49، وكشاف القناع5 / 254 وما بعدها.

(13/113)


ثَالِثًا: التَّفْوِيضُ فِي الْوِزَارَةِ:
أَنْوَاعُ الْوِزَارَةِ:
14 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوِزَارَةَ إِلَى ضَرْبَيْنِ: وِزَارَةِ تَفْوِيضٍ، وَوِزَارَةِ تَنْفِيذٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَى وِزَارَةِ التَّنْفِيذِ فِي (وِزَارَةٌ، وَتَنْفِيذٌ) .

تَعْرِيفُ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ:
15 - وِزَارَةُ التَّفْوِيضِ هِيَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ الإِْمَامُ مَنْ يُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الأُْمُورِ بِرَأْيِهِ وَإِمْضَاءَهَا عَلَى اجْتِهَادِهِ.

مَشْرُوعِيَّتُهَا:
16 - وِزَارَةُ التَّفْوِيضِ مَشْرُوعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاجْعَل لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (1) فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي النُّبُوَّةِ كَانَ فِي الإِْمَامَةِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ مَا وُكِّل إِلَى الإِْمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الأُْمَّةِ لاَ يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَةِ جَمِيعِهِ إِلاَّ بِاسْتِنَابَةٍ، وَنِيَابَةُ الْوَزِيرِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي التَّدْبِيرِ أَجْدَى فِي تَنْفِيذِ الأُْمُورِ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا، لِيَسْتَظْهِرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الزَّلَل وَأَمْنَعَ مِنَ الْخَلَل.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مَا مُفَادُهُ: (2) يُشْتَرَطُ فِي لَفْظِ تَوْلِيَةِ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ اشْتِمَالُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ،
وَالثَّانِي:
__________
(1) سورة طه / الآيات من 29 إلى 32.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص23، ولأبي يعلى 13.

(13/114)


النِّيَابَةُ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ فَكَانَ بِوِلاَيَةِ الْعَهْدِ أَخَصَّ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوِزَارَةُ، وَإِنِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى النِّيَابَةِ فَقَدْ أَبْهَمَ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ أَوْ تَنْفِيذٍ وَتَفْوِيضٍ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوِزَارَةُ، وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا انْعَقَدَتْ وَتَمَّتْ.

شُرُوطُ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ:
17 - يُعْتَبَرُ فِي تَقْلِيدِ وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ، شُرُوطُ الإِْمَامَةِ إِلاَّ النَّسَبُ وَحْدَهُ.
وَيُزَادُ عَلَى الإِْمَامَةِ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّل إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ خَبِيرًا بِهِمَا، فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُمَا تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً يَسْتَنِيبُ فِيهِمَا. (1)

اخْتِصَاصَاتُ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ:
18 - لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ اخْتِصَاصَاتٌ وَاسِعَةٌ فَكُل مَا صَحَّ مِنَ الإِْمَامِ صَحَّ مِنْ هَذَا الْوَزِيرِ إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: وِلاَيَةُ الْعَهْدِ فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى مَنْ يَرَى وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ الأُْمَّةَ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الإِْمَامُ.
وَمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ، فَإِنْ عَارَضَهُ الإِْمَامُ فِي رَدِّ
__________
(1) المصدران السابقان.

(13/114)


مَا أَمْضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمٍ نَفَذَ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ فِي مَالٍ وُضِعَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ مَا نَفَذَ بِاجْتِهَادِهِ مِنْ حُكْمٍ وَلاَ اسْتِرْجَاعِ مَا فَرَّقَ بِرَأْيِهِ مِنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ فِي تَقْلِيدِ وَالٍ أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ وَتَدْبِيرِ حَرْبٍ جَازَ لِلإِْمَامِ مُعَارَضَتُهُ بِعَزْل الْمُوَلَّى وَالْعُدُول بِالْجَيْشِ إِلَى حَيْثُ يَرَى، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ بِمَا هُوَ أَوْلَى، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَال نَفْسِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَهُ مِنْ أَفْعَال وَزِيرِهِ. (1)

تَعَدُّدُ وُزَرَاءِ التَّفْوِيضِ:
19 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مَا مُفَادُهُ: (2)
لاَ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ عَلَى الاِجْتِمَاعِ لِعُمُومِ وِلاَيَتِهِمَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ إِمَامَيْنِ لأَِنَّهُمَا رُبَّمَا تَعَارَضَا فِي الْعَقْدِ وَالْحَل، وَالتَّقْلِيدِ وَالْعَزْل.
فَإِنْ قَلَّدَ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ لَمْ يَخْل حَال تَقْلِيدِهِ لَهُمَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ النَّظَرِ فَلاَ يَصِحُّ لِمَا ذُكِرَ، وَيُنْظَرُ فِي تَقْلِيدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَل تَقْلِيدُهُمَا مَعًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ صَحَّ تَقْلِيدُ السَّابِقِ وَبَطَل تَقْلِيدُ الْمَسْبُوقِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ، وَلاَ يَجْعَل إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ
__________
(1) المصدران السابقان.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي 27 ولأبي يعلى 14.

(13/115)


بِهِ، فَهَذَا يَصِحُّ وَتَكُونُ الْوِزَارَةُ بَيْنَهُمَا لاَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ الْخَلِيفَةِ وَخَارِجًا عَنْ نَظَرِ هَذَيْنِ الْوَزِيرَيْنِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ قَاصِرَةً عَلَى وِزَارَةِ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى تَنْفِيذِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: زَوَال نَظَرِهِمَا عَمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ وَيُفْرِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِلآْخَرِ نَظَرٌ، وَهَذَا يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ النَّظَرِ خَاصَّ الْعَمَل، مِثْل أَنْ يَرُدَّ إِلَى أَحَدِهِمَا وِزَارَةَ بِلاَدِ الشَّرْقِ وَإِلَى الآْخَرِ وِزَارَةَ بِلاَدِ الْغَرْبِ. وَإِمَّا أَنْ يَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَظَرٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ الْعَمَل خَاصَّ النَّظَرِ، مِثْل أَنْ يَسْتَوْزِرَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْحَرْبِ وَالآْخَرَ عَلَى الْخَرَاجِ، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ عَلَى كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لاَ يَكُونَانِ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ وَيَكُونَانِ وَالِيَيْنِ عَلَى عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لأَِنَّ وِزَارَةَ التَّفْوِيضِ مَا عَمَّتْ، وَنَفَذَ أَمْرُ الْوَزِيرَيْنِ بِهَا فِي كُل عَمَلٍ وَكُل نَظَرٍ، وَيَكُونُ تَقْلِيدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورًا عَلَى مَا خُصَّ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُعَارَضَةُ الآْخَرِ فِي نَظَرِهِ وَعَمَلِهِ.

(13/115)


تَقَابُضٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَابُضُ: صِيغَةٌ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْقَبْضِ. وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ وَتَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ، وَيُقَال: قَبَضَ عَلَيْهِ بِيَدِهِ: ضَمَّ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ، وَقَبَضَ عَنْهُ يَدَهُ: امْتَنَعَ عَنْ إِمْسَاكِهِ. (1)
وَيُسْتَعْمَل الْقَبْضُ لِتَحْصِيل الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَخْذٌ بِالْكَفِّ، نَحْوُ قَبَضْتُ الدَّارَ وَالأَْرْضَ مِنْ فُلاَنٍ أَيْ: حُزْتُهُمَا. قَال تَعَالَى: {وَالأَْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) أَيْ فِي حَوْزِهِ، حَيْثُ لاَ تُمْلَكُ لأَِحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُسْتَعْمَل الْقَبْضُ ضِدَّ الْبَسْطِ أَيْضًا.
وَالْقَبْضُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس ولسان العرب، مادة: " قبض ".
(2) سورة الزمر / 67.
(3) البدائع 5 / 246، وشرح مرشد الحيران 1 / 58، وقليوبي 2 / 215، والحطاب 4 / 478.

(13/116)


وَقَدْ غَلَبَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، التَّعْبِيرُ عَنِ الْقَبْضِ، بِالْحَوْزِ وَالْحِيَازَةِ. (1)
فَالتَّقَابُضُ أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْعِوَضَ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعَاطِي:
2 - التَّعَاطِي صِيغَةٌ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بِمَعْنَى حُصُول الإِْعْطَاءِ مِنْ طَرَفَيْنِ وَمِنْهُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ، وَإِعْطَاءُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ دُونَ تَلَفُّظٍ بِإِيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ. (2)
ب - التَّخْلِيَةُ:
3 - التَّخْلِيَةُ: مَصْدَرُ خَلَّى، وَمِنْ مَعَانِيهَا: التَّرْكُ، يُقَال: خَلَّيْتُ الشَّيْءَ وَتَخَلَّيْتُ عَنْهُ، وَمِنْهُ إِذَا تَرَكْتُهُ. (3)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَمْكِينُ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ حَائِلٍ وَإِذَا مَكَّنَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ. (4)
__________
(1) كفاية الطالب للقيرواني ص 212، 216.
(2) الكليات للكفوي، والفروق اللغوية 2 / 102.
(3) تاج العروس ومتن اللغة مادة: " خلا ".
(4) البدائع 5 / 244، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 145، والقليوبي 2 / 215.

(13/116)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْلِيَةِ وَالْقَبْضِ: أَنَّ الأَْوَّل مِنْ طَرَفِ الْمُعْطِي، وَالثَّانِي مِنْ طَرَفِ الْقَابِضِ. (1)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) أَيْ مُقَابَضَةً.
وَإِذَا بِيعَ الْمَال الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ اشْتُرِطَ الْحُلُول وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ جَازَ التَّفَاضُل، وَاشْتُرِطَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ إِلاَّ إِنِ اتَّحَدَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْعِوَضَيْنِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ
__________
(1) البدائع، وكشاف القناع 3 / 344، وقليوبي 2 / 211، 217.
(2) حد يث " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) رد المحتار 4 / 182، 183، وفتح القدير 5 / 275، والاختيار 2 / 31.

(13/117)


قَبْل التَّفَرُّقِ إِلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فَيَمْتَنِعُ النَّسَاءُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ. بَل يُكْتَفَى فِيهَا بِالتَّعْيِينِ، لأَِنَّ الْبَدَل فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ قَبْل الْقَبْضِ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، بِخِلاَفِ الْبَدَل فِي الصَّرْفِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إِذِ الأَْثْمَانُ لاَ تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً إِلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَبْدِيلُهَا. (1)
5 - وَالتَّقَابُضُ الْمُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ. هُوَ مَا كَانَ قَبْل الاِفْتِرَاقِ بِالأَْبْدَانِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ أَيْضًا مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الأَْثْمَانِ، الثَّمَنَ (2) فِي عَقْدِ الصَّرْفِ لاِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ.
وَإِنَّمَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِي الأَْثْمَانِ عَدَا الصَّرْفَ لأَِنَّهَا دُيُونٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (مِثْل الْمَهْرِ، وَالأُْجْرَةِ، وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا) لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ،
__________
(1) الأم 3 / 31، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، والمنتقى للباجي 4 / 260، والفواكه الدواني 2 / 112 - 113، وكشاف القناع 3 / 216.
(2) الثمن ما يثبت في الذمة دينا، (رد المحتار 4 / 173) .

(13/117)


فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ. (1)
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الأَْثْمَانِ، وَاسْتَثْنَوُا الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْل الْقَبْضِ
أَمَّا الصَّرْفُ فَلأََنْ كُلًّا مِنْ بَدَلَيِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَبِيعًا لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ ثَمَنًا أَيْضًا لاَ يَصِحُّ لاِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ، وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ أَنْ يَدْخُل بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ (2) .
وَأَمَّا السَّلَمُ: فَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لأَِنَّهُ مَبِيعٌ، وَرَأْسُ الْمَال (الثَّمَنُ) أُلْحِقَ بِالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ فِي حُرْمَةِ الاِسْتِبْدَال شَرْعًا (3) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل (فِي الصَّرْفِ، وَالرِّبَا، وَالسَّلَمِ) .

2
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل. . . " أخرجه أبو داود (3 / 650 - 651 تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعل بالإرسال كما في التلخيص الحبير (3 / 26 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البناية شرح الهداية 6 / 689.
(3) البدائع 5 / 234، وفتح القدير 5 / 269، ورد المحتار 4 / 173.

(13/118)


تَقَادُمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَادُمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَقَادَمَ يُقَال: تَقَادَمَ الشَّيْءُ أَيْ: صَارَ قَدِيمًا. (1) وَقَدْ عَبَّرَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةُ عَنِ التَّقَادُمِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ. (2) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

التَّقَادُمُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى:
2 - لِوَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُ الْقُضَاةِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي أَحْوَالٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ بَعْدَ مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَمَعَ أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، إِلاَّ أَنَّ وَجْهَ هَذَا الْمَنْعِ هُوَ تَلاَفِي التَّزْوِيرِ وَالتَّحَايُل؛ لأَِنَّ تَرْكَ الدَّعْوَى زَمَانًا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَتِهَا، يَدُل عَلَى عَدَمِ الْحَقِّ ظَاهِرًا.
وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى سُقُوطِ الْحَقِّ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعِ
__________
(1) مختار الصحاح ومجلة الأحكام.
(2) مجلة الأحكام المادة 1660 ومابعدها.

(13/118)


الْقُضَاةِ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ

مُدَّةُ التَّقَادُمِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى:
3 - فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي لاَ تُسْمَعُ بَعْدَهَا الدَّعْوَى فِي الْوَقْفِ وَمَال الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ وَالإِْرْثِ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَبَعْضُهُمْ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَبَعْضُهُمْ ثَلاَثِينَ فَقَطْ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَدُ طَوِيلَةً اسْتَحْسَنَ أَحَدُ السَّلاَطِينِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ جَعْلَهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ، وَحَيْثُ كَانَ الْقَضَاءُ يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، وَيَقْبَل التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ، فَقَدْ نُهِيَ قُضَاةُ ذَلِكَ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى تَرَكَهَا الْمُدَّعِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلاَ عُذْرٍ، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ بَعْضَ مَسَائِل، وَعَلَى هَذَا النَّهْيِ اسْتَقَرَّ خُلَفَاؤُهُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ التَّقَادُمَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ، نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ.
وَالثَّانِي: أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ يَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ فِي زَمَنِهِ اتِّبَاعُهُ، لأَِنَّهُمْ بِمُقْتَضَاهُ مَعْزُولُونَ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى مَضَى عَلَيْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِدُونِ عُذْرٍ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ السُّلْطَانِ، وَالْوَكِيل

(13/119)


يَسْتَمِدُّ التَّصَرُّفَ مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا خَصَّصَ لَهُ تَخَصَّصَ، وَإِذَا عَمَّمَ تَعَمَّمَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ بِأَنَّ مَنْعَ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَبْنِيٌّ عَلَى النَّهْيِ السُّلْطَانِيِّ، فَمَنْ نَهَى عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِسَمَاعِهَا، وَأَمَّا عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ ثَلاَثِينَ سَنَةً فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ الْفُقَهَاءِ، فَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنْقُضَهُ، لأَِنَّ أَمْرَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَنْفُذُ إِذَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَدَعَاوَى الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ وَالْمِيرَاثِ وَمَا لاَ يَعُودُ مِنَ الدَّعَاوَى إِلَى الْعَامَّةِ وَلاَ إِلَى أَصْل الْوَقْفِ فِي الْعَقَارَاتِ الْمَوْقُوفَةِ بَعْدَ أَنْ تُرِكَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلاَ عُذْرٍ لاَ تُسْمَعُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى تَعُودُ إِلَى أَصْل الْوَقْفِ فَتُسْمَعُ، وَلَوْ تُرِكَتِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ بِلاَ عُذْرٍ.
4 - وَمُدَّةُ الْمَنْعِ مَعَ سَمَاعِ الدَّعْوَى تُحْسَبُ بِالتَّارِيخِ الْقَمَرِيِّ (الْهِجْرِيِّ) كَمَا قَرَّرَتْ ذَلِكَ جَمْعِيَّةُ الْمَجَلَّةِ اتِّبَاعًا لِلْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ إِلاَّ إِذَا اتُّفِقَ عَلَى خِلاَفِهِ وَعَيَّنَا تَارِيخًا شَمْسِيًّا، وَالْمَنْعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِنَّمَا هُوَ لِلْقُضَاةِ، أَمَّا الْمُحَكَّمُونَ فَلاَ يَشْمَلُهُمُ النَّهْيُ، فَلَوْ حَكَّمَ اثْنَانِ شَخْصًا فِي نِزَاعٍ مَضَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ فَإِنَّ الْمُحَكَّمَ يَسَعُهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي النِّزَاعِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ فِي أَصْل الْوَقْفِ (وَهُوَ

(13/119)


كُل مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَقْفِ) فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى سِتٍّ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ فِي غَيْرِ أَصْل الْوَقْفِ كَأُجْرَةِ النَّاظِرِ وَاَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْوَقْفِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ حَتَّى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ. (1)

الأَْعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً:
5 - أَوْرَدَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي يُبَاحُ مَعَهَا سَمَاعُ الدَّعْوَى بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، الصِّغَرُ، وَالْجُنُونُ، وَالْغَيْبَةُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ مُدَّةَ السَّفَرِ، أَوْ كَوْنُ خَصْمِهِ مِنَ الْمُتَغَلِّبَةِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُهَا:
1 - الصِّغَرُ: إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ صَغِيرًا وَسَكَتَ عَنِ الدَّعْوَى الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ تَارِيخِ بُلُوغِهِ رَشِيدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ بِاتِّفَاقٍ، وَمَعَ الْخِلاَفِ فِي حَال وُجُودِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ، وَرَجَّحَتْ لَجْنَةُ الْمَجَلَّةِ الإِْطْلاَقَ لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَصِيٌّ. (2)
وَمِثْل ذَلِكَ الْمَجْنُونُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ إِفَاقَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ تَارِيخِ زَوَال الْعَتَهِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 342، 343 طبع دار إحياء التراث العربي، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص272، وشرح المجلة للأتاسي المادة 1660.
(2) شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي المادة: 1663.

(13/120)


2 - غَيْبَةُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنِ الْبَلَدِ مُدَّةَ السَّفَرِ وَهِيَ مُدَّةُ الْقَصْرِ.
3 - إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَغَلِّبَةِ بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا جَائِرًا مَثَلاً فَذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلْمُدَّعِي السُّكُوتَ عَنْ رَفْعِ الدَّعْوَى، وَلاَ تَبْتَدِئُ الْمُدَّةُ حَتَّى يَزُول الْجَوْرُ وَلَوْ طَال الزَّمَنُ. (1)

مَتَى تَبْتَدِئُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ؟
6 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ مِنْ تَارِيخِ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَمُرُورُ الزَّمَانِ فِي دَعْوَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ إِنَّمَا يَبْتَدِئُ مِنْ تَارِيخِ حُلُول الأَْجَل لأَِنَّهُ قَبْل حُلُولِهِ لاَ يَمْلِكُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ، فَمَثَلاً لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى آخَرَ فَقَال: لِي عَلَيْكَ كَذَا دَرَاهِمَ مِنْ ثَمَنِ الشَّيْءِ الَّذِي بِعْتُهُ لَكَ قَبْل خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُؤَجَّلاً ثَمَنُهُ لِثَلاَثِ سِنِينَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ مَرَّ اعْتِبَارًا مِنْ حُلُول الأَْجَل اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً لاَ غَيْرُ، وَمَثَلاً لَوْ وَقَفَ وَاقِفٌ وَقْفَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الاِسْتِحْقَاقُ لِذُرِّيَّتِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الأَْوَّل، فَلَوْ وَقَفَ رَجُلٌ عَقَارًا وَشَرَطَ وِلاَيَتَهُ وَغَلَّتَهُ لأَِوْلاَدِهِ ثُمَّ لأَِحْفَادِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَقَامَ أَحَدُ أَوْلاَدِهِ لِصُلْبِهِ " أَيْ مِنَ الْبَطْنِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 343، 344.

(13/120)


الأَْوَّل " وَبَاعَ ذَلِكَ الْعَقَارَ لآِخَرَ وَظَل الآْخَرُ مُتَصَرِّفًا فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ تُوُفِّيَ الْبَائِعُ فَقَامَ أَحَدُ أَبْنَائِهِ يَدَّعِي ذَلِكَ الْعَقَارَ عَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِنَادًا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلاَ يَمْنَعُهُ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لأَِنَّ حَقَّ إِقَامَةِ الدَّعْوَى لاَ يَثْبُتُ لِلْحَفِيدِ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ بِمُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، فَلاَ يَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِحَقِّهِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ لَوْ وَقَفَ وَاقِفٌ عَقَارًا وَشَرَطَ غَلَّتَهُ لأَِوْلاَدِهِ الذُّكُورِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِهِمْ عَلَى بَنَاتِهِ، فَبَاعَ أَوْلاَدُهُ الذُّكُورُ، ذَلِكَ الْعَقَارَ لِرَجُلٍ وَسَلَّمُوهُ إِيَّاهُ وَبَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً مَثَلاً انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّةُ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ فَقَامَتْ بَنَاتُهُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ الْعَقَارَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ الْوَقْفِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُنَّ وَلاَ يَمْنَعُ مُرُورُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُنَّ، لأَِنَّ حَقَّ إِقَامَةِ الدَّعْوَى لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ إِلاَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ.
وَيَبْتَدِئُ مُرُورُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِمُؤَجَّل الصَّدَاقِ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ أَوْ مِنْ تَارِيخِ مَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، لأَِنَّ الصَّدَاقَ الْمُؤَجَّل لاَ يَصِيرُ مُعَجَّلاً إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ أَوِ الْوَفَاةِ.
7 - وَتَبْتَدِئُ مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ مِنْ تَارِيخِ زَوَال الإِْفْلاَسِ كَأَنْ كَانَ لِدَائِنٍ عَلَى مَدِينٍ مَبْلَغٌ مِنَ الْمَال مَثَلاً وَكَانَ الْمَدِينُ مُفْلِسًا مُدَّةَ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مَثَلاً فَإِنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لاَ تَدْخُل فِي الزَّمَنِ وَتَبْتَدِئُ مُدَّةُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ تَارِيخِ يَسَارِ الْمُفْلِسِ لأَِنَّ

(13/121)


تَرْكَ الدَّعْوَى بِسَبَبِ إِفْلاَسِ الْمَدِينِ كَانَ بِعُذْرٍ إِذْ لاَ يَتَأَتَّى لَهُ إِقَامَةُ الدَّعْوَى مَا دَامَ الْمَدِينُ مُفْلِسًا.
وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (1669) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ " إِذَا تَرَكَ وَاحِدٌ دَعْوَاهُ بِلاَ عُذْرٍ وَمَرَّ عَلَيْهَا الزَّمَانُ عَلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا فَكَمَا لاَ تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِي حَيَاتِهِ لاَ تُسْمَعُ أَيْضًا مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ". وَجَاءَ فِي شَرْحِهَا: وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَمَا يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْمُوَرِّثِ يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْوَارِثِ. وَلَكِنَّ هَذَا إِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ ذَلِكَ الْمِلْكَ بِالإِْرْثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ، أَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلاَ يَكُونُ تَرْكُ مُوَرِّثِهِ لِلدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ، لأَِنَّهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَلاَ يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَهُ، فَمَثَلاً لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَقَارٍ لاِبْنِ زَيْدٍ الْقَاصِرِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَامَ ابْنُ زَيْدٍ الَّذِي بَلَغَ رَشِيدًا وَادَّعَى ذَلِكَ الْعَقَارَ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَارِثِ الْمُوصِي تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْهَا تَرْكُ أَبِيهِ ذَلِكَ الْعَقَارَ فِي يَدِ وَارِثِ الْمُوصِي لأَِنَّهُ هَاهُنَا لاَ يَدَّعِي الْمِلْكَ بِسَبَبِ الإِْرْثِ عَنْ أَبِيهِ بَل بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُوصِي قَدْ تَرَكَ الدَّعْوَى بِهَذَا الْعَقَارِ وَهُوَ فِي يَدِ آخَرَ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لاَ تُسْمَعُ بِهِ دَعْوَى الْمُوصَى لَهُ لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَمَا مُنِعَ عَنْهُ الْمُوصِي مُنِعَ عَنْهُ الْمُوصَى لَهُ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَمِثْل الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ.

(13/121)


وَإِذَا تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى مُدَّةً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ مُدَّةً أُخْرَى وَبَلَغَ مَجْمُوعُ الْمُدَّتَيْنِ حَدَّ مُرُورِ الزَّمَانِ فَلاَ تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى، لأَِنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْوَارِثُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ كَانَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ حُكْمًا، فَلَوْ تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى ثَمَانِيَ سِنِينَ مَثَلاً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ سَبْعَ سِنِينَ صَارَ كَأَنَّ الْوَارِثَ تَرَكَ الدَّعْوَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَمِثْل الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي كَالْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ مُتَصَرِّفًا فِي عَرْصَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِدَارٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَصَاحِبُ الدَّارِ سَاكِتٌ، ثُمَّ أَوْصَى صَاحِبُ الدَّارِ بِدَارِهِ هَذِهِ إِلَى رَجُلٍ، فَقَامَ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي أَنَّ الْعَرْصَةَ طَرِيقٌ خَاصٌّ لِلدَّارِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا لاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ.
وَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ وَفِي وَرَثَتِهِ بَالِغٌ وَقَاصِرٌ، فَإِنَّ الْبَالِغَ إِذَا تَرَكَ الدَّعْوَى الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَأَمَّا الْقَاصِرُ فَلاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ مُرُورُ الزَّمَانِ إِلاَّ مِنْ تَارِيخِ بُلُوغِهِ رَشِيدًا، مَعَ مُلاَحَظَةِ الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي وُجُودِ الْوَصِيِّ وَعَدَمِهِ.
8 - وَكُل مَا تَقَدَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي تُسْمَعُ دَعْوَى الْمُدَّعِي مَهْمَا طَال الزَّمَانُ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الإِْنْكَارِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ الإِْنْكَارِ أَمَامَ الْقَاضِي فَلاَ يُعْتَبَرُ عَدَمُ الإِْنْكَارِ خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلاَ يَصِحُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِ لِوُجُودِ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ سَمَاعِ أَصْل الدَّعْوَى

(13/122)


فَفَرْعُهَا وَهُوَ ادِّعَاءُ الإِْقْرَارِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ السَّمَاعِ لأَِنَّ النَّهْيَ يَشْمَلُهَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ الإِْقْرَارُ الْمُدَّعَى بِهِ قَدْ أُيِّدَ بِسَنَدٍ جَاءَ بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ خَتْمِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ وَلَمْ تَمُرَّ مُدَّةُ التَّقَادُمِ مِنْ تَارِيخِ السَّنَدِ إِلَى وَقْتِ رَفْعِ الدَّعْوَى فَعِنْدَ ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَى الإِْقْرَارِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَالأَْحْكَامُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْخَاصَّةُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هِيَ لِلْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالإِْقْرَارِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُْمُورِ الْعَامَّةِ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا فَلاَ تَسْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ مُرُورِ الزَّمَانِ، فَتُسْمَعُ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ خُلاَصَةُ أَحْكَامِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمُرُورِ الزَّمَانِ.

9 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُعَبِّرُونَ عَنْ مُرُورِ الزَّمَانِ بِالْحَوْزِ وَالْحِيَازَةِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ دَعَاوَى لاَ تُسْمَعُ مُطْلَقًا، وَهِيَ الدَّعَاوَى الَّتِي تُوجِبُ مَعَرَّةً كَالدَّعَاوَى الَّتِي تُرْفَعُ عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالاِسْتِقَامَةِ وَالشَّرَفِ فِي الْمُعَامَلَةِ كَأَنْ يَدَّعِي شَخْصٌ مَعْرُوفٌ بِالْفَقْرِ وَالتَّجَنِّي عَلَى النَّاسِ عَلَى شَخْصٍ يُطَالِبُهُ بِعَقَارٍ فِي يَدِهِ.
وَالْحِيَازَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ:
1 - حِيَازَةٌ مَعَ جَهْل أَصْل الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ؟ .
2 - حِيَازَةٌ مَعَ عِلْمِ أَصْل الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ؟ .
فَالأُْولَى تَكْفِي فِيهَا الْحِيَازَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِمُدَّةِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحُوزُ عَقَارًا أَمْ غَيْرَهُ.
وَالثَّانِيَةُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ فِي

(13/122)


الْعَقَارِ، أَوْ عَامَيْنِ فِي الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا، وَيُشْتَرَطُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى فِي كُلٍّ مِنَ الْحِيَازَتَيْنِ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِذِكْرِ الْيَدِ، وَتَصَرُّفُ الْحَائِزِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَالنِّسْبَةُ، وَعَدَمُ الْمُنَازَعِ، وَطُول الْمُدَّةِ عَشْرَةُ أَشْهُرٍ فِي الأُْولَى وَعَشَرُ سِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ، وَعَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمَا يُفَوِّتُ عَلَى الْمَالِكِ الأَْصْلِيِّ حَقَّهُ فِي اسْتِرْجَاعِ مِلْكِهِ، فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ مَعَ فَقْدِ هَذِهِ الأُْمُورِ أَوْ صِيغَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمُدَّعِي، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّاهِدِ ذِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ.
10 - وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَل عَنْ مَصْدَرِ حِيَازَتِهِ فَلاَ يُقَال لَهُ: كَيْفَ حُزْتَ مَا تَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهِ؟ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ سُؤَال الْحَائِزِ عَنْ مَصْدَرِ حِيَازَتِهِ، هَل هُوَ الْمِيرَاثُ مَثَلاً أَوِ الشِّرَاءُ أَوِ الْهِبَةُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَلاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ دَعْوَى الْمِلْكِ دُونَ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ الْحِيَازَةِ إِذَا ثَبَتَ أَصْل الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ. (1)
وَرَأَى ابْنُ رُشْدٍ خِلاَفَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَعْمُول بِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْحَائِزُ مَعْرُوفًا بِالتَّسَلُّطِ وَالْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي، فَلاَ بُدَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يُبَيِّنَ بِأَيِّ وَجْهٍ صَارَ إِلَيْهِ وَلاَ يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ اشْتَرَيْتُهُ مِنَ الْقَائِمِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ بَل لاَ بُدَّ
__________
(1) المواد 1660 إلى 1675 من مجلة الأحكام العدلية، شرح سليم رستم باز من ص 983: ص 998 طبعت بالأستانة، وابن عابدين 4 / 343.

(13/123)


مِنْ إِثْبَاتِهِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ بِيَدِهِ بِمَا يَقُولُهُ أَهْل الْمَعْرِفَةِ.
وَإِنْ عُرِفَ أَنَّ حِيَازَتَهُ كَانَتْ بِبَاطِلٍ لَمْ يَنْفَعْهُ طُول الْحِيَازَةِ وَإِنِ ادَّعَى شِرَاءَهُ، إِلاَّ أَنْ يَطُول ذَلِكَ نَحْوَ الْخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوَهَا وَالْقَائِمُ حَاضِرٌ لاَ يُغَيِّرُ وَلاَ يَدَّعِي شَيْئًا، وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَائِزَ إِذَا حَازَ الْعَقَارَ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ مَعَ وُجُودِ الْمُدَّعِي وَسُكُوتِهِ بِلاَ عُذْرٍ فَإِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَمْنَعُ سَمَاعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَمَا قَارَبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْعَشْرِ فَإِذَا نَقَصَتْ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَخَذَتْ حُكْمَ الْعَشْرِ، وَأَمَّا إِذَا قَامَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْحَائِزِ أَمَامَ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْمُحَكِّمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْمُدَّةَ، وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مُضِيُّ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَهُنَاكَ خِلاَفَاتٌ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّخَاصُمُ يَقْطَعُ مُضِيَّ الْمُدَّةِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَكْرَارَ التَّخَاصُمِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ سَلْمُونٍ عَنْ سَحْنُونٍ، وَإِذَا سَكَتَ بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ عَشْرَ سِنِينَ فَإِنَّ سُكُوتَهُ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعِي عَنْ مُخَاصَمَةِ الْحَائِزِ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ رَفَعَ الْمُدَّعِي أَمْرَهُ لِيَقْضِيَ لَهُ وَعَلَّل سُكُوتَهُ بِأَنَّ بَيِّنَتَهُ كَانَتْ غَائِبَةً ثُمَّ جَاءَتْ، فَقِيل: يُقْبَل عُذْرُهُ وَقِيل: لاَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: كُنْتُ فَاقِدًا مُسْتَنَدِي ثُمَّ وَجَدْتُهُ، وَكَذَلِكَ جَهْل الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَهْلَهُ أَنَّ الْحِيَازَةُ تَمَلُّكُ الْحَائِزِ لَيْسَ عُذْرًا وَسُكُوتُ

(13/123)


الْمُوَرِّثِ ثُمَّ الْوَارِثِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى لأَِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَقِيل تُحْسَبُ مُدَّةُ الْمُوَرِّثِ وَحْدَهَا وَمُدَّةُ الْوَارِثِ وَحْدَهَا فَلاَ يُجْمَعَانِ مَعًا. (1)
11 - وَنَفَقَةُ غَيْرِ الزَّوْجَةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلاَ تَصِيرُ بِفَوْتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِاقْتِرَاضِ قَاضٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْذُونِهِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَنْعٍ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ احْتِيَاجُ الْفَرْعِ وَغِنَى الأَْصْل مَثَلاً.

أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ فَلاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بَل تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ هُنَا مَا سِوَى الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لِلاِسْتِمْتَاعِ وَالتَّمْكِينِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ بَعْدَ الدُّخُول فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ، بَل يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَيُسْتَحَقُّ بِالْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ وَيَصِيرُ مَأْمُونًا مِنْ سُقُوطِهِ. (2)
12 - وَيُبَيِّنُ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ يَكَادُونَ يَتَّفِقُونَ عَلَى إِبَاحَةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى لِلأَْعْذَارِ، وَهِيَ عَلَى الْجُمْلَةِ الصِّغَرُ وَالْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ وَالْجُنُونُ وَالْعَتَهُ وَكُل عُذْرٍ يَمْنَعُ الْمُدَّعِيَ مِنْ رَفْعِ الدَّعْوَى كَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا سَطْوَةٍ وَيُخَافُ مِنْهُ - عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ.
__________
(1) البهجة شرح التحفة ج 2 ص 252 - 256، والعقد المنظم على هامش تبصرة الحكام ج 2 ص 54 وما بعدها.
(2) حاشية الشرقاوي 2 / 351 ط دار المعرفة، والمنثور في القواعد 3 / 370، والمغني 6 / 711 ط الرياض.

(13/124)


التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ:

أ - تَقَادُمُ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ تُقْبَل وَلَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنَ الْوَاقِعَةِ لِعُمُومِ آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُبْطِلُهُ، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا صَارَتْ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الصِّدْقِ، وَتَقَادُمُ الْعَهْدِ لاَ يُخِل بِالصِّدْقِ فَلاَ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً كَالإِْقْرَارِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَحَدُّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُقَرِّ عَنْهَا فَيَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهَا مَانِعًا. وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالتَّقَادُمُ فِيهِ لاَ يَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا تُقْبَل دَعْوَاهُ، وَلاَ يَصِحُّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إِقْرَارِهِ فِيهِ، وَلأَِنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ، فَلاَ يُتَّهَمُ الشُّهُودُ فِي ذَلِكَ، وَنَقَل ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالإِْقْرَارِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ. (2)
__________
(1) القوانين الفقهية ص 136 ط دار القلم، ومغني المحتاج 4 / 151 ط مصطفى الحلبي، والمغني 8 / 208 ط الرياض، وفتح القدير 4 / 162 ط بولاق.
(2) الاختيار 4 / 82 دار المعرفة، وبدائع الصنائع 7 / 51، وابن عابدين 3 / 158 ط بولاق، والمبسوط 9 / 69، وفتح القدير 4 / 162 ط بولاق.

(13/124)


ب - تَقَادُمُ الإِْقْرَارِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقَادُمَ فِي الإِْقْرَارِ لاَ أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِتِلْكَ الْحُدُودِ مَا عَدَا حَدَّ الشُّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْبَل الإِْقْرَارُ بِالزِّنَى وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ. (1)

تَقَاصٌّ

انْظُرْ: مُقَاصَّةٌ

تَقَاضِي

انْظُرْ: قَضَاءٌ

تَقَايُلٌ

انْظُرْ: إِقَالَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 51، والمغني 8 / 309

(13/125)


تَقَبُّلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقَبُّل مَصْدَرُ تَقَبَّل أَيْ تَكَفَّل، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ الاِلْتِزَامُ وَالتَّعَهُّدُ، يُقَال: تَقَبَّلْتُ الْعَمَل مِنْ صَاحِبِهِ إِذَا الْتَزَمْتُهُ بِعَقْدٍ. وَمِنْهُ الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ اسْمُ الْمَكْتُوبِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْتَزِمُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِالْكَسْرِ: الْعَمَل، وَالْقَبِيل الْكَفِيل، وَالْقُبَالَةُ الْكَفَالَةُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّقَبُّل عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَاسْتُعْمِل التَّقَبُّل فِي الاِصْطِلاَحِ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالاِلْتِزَامِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجَلَّةِ أَنَّ: (التَّقَبُّل تَعَهُّدُ الْعَمَل وَالْتِزَامُهُ) (2)
وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ غَالِبًا عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا إِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلاَ عَمَلاً مِنَ الْخِيَاطَةِ أَوِ الْقِصَارَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا. وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ شَائِعَةٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَذَاهِبِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " قبل ".
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة (1055) وشرحها لعلي حيدر (درر الحكام) شرح مجلة الأحكام 3 / 8.

(13/125)


الأُْخْرَى، وَتُسَمَّى أَيْضًا شَرِكَةَ الأَْعْمَال وَشَرِكَةَ الصَّنَائِعِ وَشَرِكَةَ الأَْبْدَانِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَفَالَةُ:
2 - الْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالتَّحَمُّل وَالاِلْتِزَامُ (2) ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَالَبَةِ بِشَيْءٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ. (3)
فَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالتَّقَبُّل أَنَّ التَّقَبُّل يَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ، لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِالأَْمْوَال بِخِلاَفِ التَّقَبُّل الَّذِي يَخُصُّ الأَْعْمَال فَقَطْ.

ب - الاِلْتِزَامُ:
3 - الاِلْتِزَامُ مَصْدَرُ الْتَزَمَ، وَأَصْلُهُ مِنَ اللُّزُومِ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، يُقَال: أَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل وَغَيْرَهُ فَالْتَزَمَهُ. فَالاِلْتِزَامُ بِالشَّيْءِ قَبُولُهُ وَاعْتِنَاقُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ بِإِرَادَتَيْنِ، عَلَى عَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ (4) وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّقَبُّل وَالْكَفَالَةِ (ر: الْتِزَامٌ) .
__________
(1) البدائع 6 / 57، وتبيين الحقائق للزيلعي 3 / 320، وابن عابدين 3 / 347، وجوا هر الإكليل 2 / 120، والدسوقي 3 / 360، وكشاف القناع 3 / 527، والمغني 5 / 5 وما بعدها.
(2) المصباح واللسان مادة: " كفل ".
(3) ابن عابدين 4 / 249، ومجلة الأحكام مادة (612) ، والمطلع على أبواب المقنع ص248، 249.
(4) المصباح المنير مادة " لزم "، والموسوعة الفقهية 6 / 144.

(13/126)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى جَوَازِ شَرِكَةِ التَّقَبُّل (شَرِكَةِ الصَّنَائِعِ) فِي الأَْعْمَال الَّتِي تَصْلُحُ فِيهَا الْوَكَالَةُ، لأَِنَّهَا قِسْمٌ مِنْ شَرِكَةِ الْعَقْدِ فَيُعْتَبَرُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلاً لِلآْخَرِ. وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْعَمَل يَصِيرُ فِي ضَمَانِهِمَا يُطَالَبَانِ بِهِ، وَيَلْزَمُهُمَا عَمَلُهُ، وَلَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا أَوْ سَافَرَ أَوِ امْتَنَعَ عَمْدًا بِلاَ عُذْرٍ فَالآْخَرُ مُطَالَبٌ بِالْعَمَل، وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، لأَِنَّ الْعَمَل مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا. كَمَا أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةَ بِالأُْجْرَةِ، فَتَبْرَأُ ذِمَّةُ مَنْ يَدْفَعُ الأُْجْرَةَ لأَِحَدِهِمَا، وَإِنْ تَلِفَتِ الأُْجْرَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِمَا، تَضِيعُ عَلَيْهِمَا مَعًا. (1)
5 - وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِهَا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيل الْمَال بِالتَّوْكِيل، فَكَمَا أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ يَسْتَحِقَّانِ الرِّبْحَ بِالاِشْتِرَاكِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَل وَمِنَ الآْخَرِ بِالْمَال كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ يَسْتَحِقَّانِهِ بِالْمَال فَقَطْ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّرِكَاتِ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّاهُ بِالْعَمَل فَقَطْ. وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ يَعْقِدُونَ هَذِهِ الشَّرِكَةَ وَيَتَعَامَلُونَ بِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَسَعْدٌ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة (1387 - 1393) ، وابن عابدين 3 / 347، 348، وجواهر الإكليل 2 / 120، 121، وكشاف القناع 3 / 527، 528.

(13/126)


أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ، وَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَمِثْل هَذَا لاَ يَخْفَى عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ (1)
6 - وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقَبُّل وَشَرِكَةِ الأَْعْمَال اتِّحَادُ الْمَكَانِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُونَهَا: وَهُمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِشَرِكَةِ التَّقَبُّل مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ تَحْصِيل الرِّبْحِ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِ الْعَمَل فِي دَكَاكِينَ أَوْ دُكَّانٍ. (2)
كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ أَوِ الْعَمَل، وَلاَ اتِّحَادُ الصَّنْعَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (3)
فَيَصِحُّ بِالْمُنَاصَفَةِ أَوِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَل أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، اتَّفَقَتْ صَنْعَتُهُمَا كَخَيَّاطِينَ، أَوِ اخْتَلَفَتْ كَخَيَّاطٍ وَقَصَّارٍ أَوْ صَبَّاغٍ، وَكَاشْتِرَاكِ حَدَّادٍ وَنَجَّارٍ وَخَيَّاطٍ، لأَِنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي مَكْسَبٍ مُبَاحٍ فَصَحَّ كَمَا لَوِ اتَّفَقَتِ الصَّنَائِعُ.
__________
(1) الزيلعي 3 / 321، والدسوقي 3 / 360، 361، والمغني لابن قدامة 5 / 5 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 527. وحديث: أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار وسعد - يعني ابن أبي وقاص - فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء. أخرجه أبو داود (3 / 681 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري في مختصر السنن (5 / 53 نشر دار المعرفة) : " منقطع، فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ".
(2) ابن عابدين 3 / 347، وجواهر الإكليل 2 / 120، والدسوقي 3 / 361.
(3) ابن عابدين 3 / 347، 349، والزيلعي 3 / 321، وكشاف القناع.

(13/127)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَتِ الشَّرِكَةُ بِالْعَمَل إِنِ اتَّحَدَ، كَخَيَّاطِينَ، أَوْ تَلاَزَمَ بِأَنْ تَوَقَّفَ عَمَل أَحَدِهِمَا عَلَى عَمَل الآْخَرِ، كَنَسْجٍ وَإِصْلاَحِ غَزْلٍ بِتَهْيِئَةٍ لِلنَّسْجِ، وَكَأَنْ يُفَوَّضَ أَحَدُهُمَا لِطَلَبِ اللُّؤْلُؤِ، وَالثَّانِي يُمْسِكُ عَلَيْهِ وَيَجْذِبُ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَل بِأَنْ يَأْخُذَ كُل وَاحِدٍ بِقَدْرِ عَمَلِهِ مِنَ الْغَلَّةِ، أَوْ يَتَقَارَبَا فِي الْعَمَل وَحَصَل التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمَا. (1)
7 - وَكَمَا تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي الصَّنَائِعِ وَنَحْوِهَا، تَصِحُّ كَذَلِكَ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الاِحْتِشَاشِ، وَالاِصْطِيَادِ، وَالاِحْتِطَابِ، وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ التَّقَبُّل وَشَرِكَةُ الأَْعْمَال فِي الْمُبَاحَاتِ مِنَ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ، وَمَا يَكُونُ فِي الْجِبَال مِنَ الثِّمَارِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِيهَا، لأَِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمُبَاحَاتِ الأَْخْذُ وَالاِسْتِيلاَءُ، فَإِنْ تَشَارَكَا فَأَخَذَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِلْكًا لَهُ خَاصَّةً. (3)
8 - هَذَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِبُطْلاَنِ شَرِكَةِ الأَْبْدَانِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَال فِيهَا، وَلِمَا فِيهَا
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 3 / 361، وجواهر الإكليل 2 / 120.
(2) جواهر الإكليل 2 / 120، والمغني 5 / 5 وما بعدها.
(3) البدائع 6 / 63.

(13/127)


مِنَ الْغَرَرِ، إِذْ لاَ يَدْرِي الشَّرِيكُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَكْسِبُ أَمْ لاَ، وَلأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزٌ بِبَدَنِهِ وَمَنَافِعِهِ، فَيَخْتَصُّ بِفَوَائِدِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي مَاشِيَتِهِمَا وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ وَيَكُونُ الدَّرُّ وَالنَّسْل بَيْنَهُمَا. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَرِكَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 212، والقليوبي 2 / 332، 333

(13/128)


تَقْبِيلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْبِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّل، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ وَهِيَ اللَّثْمَةُ، وَالْجَمْعُ الْقُبَل. يُقَال قَبَّلَهَا تَقْبِيلاً أَيْ لَثَمَهَا (1) وَتَقَبَّلْتُ الْعَمَل مِنْ صَاحِبِهِ إِذَا الْتَزَمْتُهُ بِعَقْدٍ.
وَالْقَبَالَةُ: اسْمُ الْمَكْتُوبُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْتَزِمُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: كُل مَنْ تَقَبَّل بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ هُوَ الْقَبَالَةُ " بِالْفَتْحِ " وَالْعَمَل قِبَالَةٌ " بِالْكَسْرِ ".
وَتَقْبِيل الْخَرَاجِ: هُوَ أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ، صُقْعًا، أَوْ بَلْدَةً، أَوْ قَرْيَةً، إِلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ، مُقَاطَعَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ، يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عَنْ خَارِجِ أَرْضِهَا، أَوْ جِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا أَهْل الذِّمَّةِ. (2)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي التَّقْبِيل بِهَذَا الإِْطْلاَقِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " خَرَاجٌ، وَقَبَالَةٌ ".
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، ومتن اللغة مادة: " قبل ".
(2) الرتاج 2 / 3 مطبعة الإرشاد - بغداد.

(13/128)


أَقْسَامُ التَّقْبِيل:
2 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّقْبِيل عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: قُبْلَةُ الْمَوَدَّةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْخَدِّ، وَقُبْلَةُ الرَّحْمَةِ لِوَالِدَيْهِ عَلَى الرَّأْسِ، وَقُبْلَةُ الشَّفَقَةِ لأَِخِيهِ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَقُبْلَةُ الشَّهْوَةِ لاِمْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى الْفَمِ، وَقُبْلَةُ التَّحِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْيَدِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ قُبْلَةَ الدِّيَانَةِ لِلْحَجَرِ الأَْسْوَدِ. (1)
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ التَّقْبِيل بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ آثَارٍ:

أَحْكَامُ التَّقْبِيل
أَوَّلاً: التَّقْبِيل الْمَشْرُوعُ:
أ - تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
3 - يُسَنُّ تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فِي حَالَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ يَقْدِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّل الْحَجَرَ ثُمَّ قَال: وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (2) . فَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّقْبِيل اقْتَصَرَ عَلَى الاِسْتِلاَمِ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّلَهَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الاِسْتِلاَمِ بِالْيَدِ
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 246، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 271، 272.
(2) حديث: " والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 475 - ط السلفية) ومسلم (2 / 925 - ط عيسى الحلبي) .

(13/129)


وَكَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّل يَدَهُ (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّل الْمِحْجَنَ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُقَبِّلَهُ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِعُودٍ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: طَوَافٌ، وَالْحَجَرُ الأَْسْوَدُ ".

ب - تَقْبِيل الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
4 - يُنْدَبُ اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فِي الطَّوَافِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ
__________
(1) حديث: " أنه استلم الحجر الأسود باليد ثم قبل يده " أخرجه مسلم (2 / 924 - ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر ولفظه عن نافع قال: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده. وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ".
(2) حديث: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 472 - 473 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 927 - ط عيسى الحلبي) واللفظ له.
(3) ابن عابدين 2 / 166، وقليوبي 2 / 106، 110، والمجموع 8 / 29، 33، والمغني 3 / 380، 381، وجواهر الإكليل 1 / 178، والحطاب 3 / 107.

(13/129)


الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ فِي كُل طَوَافٍ. (1)
أَمَّا تَقْبِيلُهُ فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُقَبِّلُهُ: لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَسْتَلِمُهُ بِالْيَدِ وَيُقَبِّل الْيَدَ بَعْدَ اسْتِلاَمِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَلْمِسُهُ بِيَدِهِ وَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ.
وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُقَبِّلُهُ إِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ.
هَذَا وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَقْبِيل عَتَبَةِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا مِنْ قُبْلَةِ الدِّيَانَةِ. (2)
ثَانِيًا: التَّقْبِيل الْمَمْنُوعُ:
أ - تَقْبِيل الأَْجْنَبِيَّةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ لَمْسِ وَتَقْبِيل الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَلَوْ لِلْخِطْبَةِ. (3)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: " خِطْبَةٌ وَنِكَاحٌ ".
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في. . . " أخرجه أبو داود (2 / 440 ـ 441 ـ ط عبيد الدعاس) . والنسائي (5 / 231 ـ ط المكتبة التجارية) واللفظ له، وأصله في البخاري (الفتح 3 / 473 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 2 / 169، 5 / 246، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 107، وقليوبي 2 / 106، والمغني 3 / 379، 380.
(3) ابن عابدين 5 / 233، 234، 237، وجواهر الإكليل 1 / 275، والقليوبي 3 / 208، ونهاية المحتاج 6 / 190، وكشاف القناع 5 / 10، والمغني 6 / 553 وما بعدها.

(13/130)


ب - تَقْبِيل الأَْمْرَدِ
6 - الأَْمْرَدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَبِيحَ الْوَجْهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرِّجَال فِي جَوَازِ تَقْبِيلِهِ لِلْوَدَاعِ وَالشَّفَقَةِ دُونَ الشَّهْوَةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ صُبَيْحَ الْوَجْهِ يُشْتَهَى فَيَأْخُذُ حُكْمَ النِّسَاءِ وَإِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَتَحْرُمُ مُصَافَحَتُهُ وَتَقْبِيلُهُ وَمُعَانَقَتُهُ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: " أَمْرَدُ ".

ج - تَقْبِيل الرَّجُل لِلرَّجُل، وَالْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ:
7 - لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل تَقْبِيل فَمِ الرَّجُل أَوْ يَدِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَا تَقْبِيل الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَالْمُعَانَقَةُ وَمُمَاسَّةُ الأَْبْدَانِ، وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: نَهَى عَنِ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ: الْمُعَانَقَةُ، وَعَنِ الْمُعَاكَمَةِ وَهِيَ: التَّقْبِيل (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْفَمِ، وَعَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ، أَوْ لأَِجْل الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَمَا يَأْتِي (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 233، والزرقاني 1 / 167، وجواهر الإكليل 1 / 20، 275، والجمل 4 / 126، وحاشية القليوبي 2 / 213، وكشاف القناع 5 / 12 - 15.
(2) حديث: " نهى عن المكامعة وهي المعانقة، وعن المعاكمة وهي التقبيل " أورده الهروي في غريب الحديث (1 / 171ـ ط دار الكتاب العربي) . عن عياش بن عباس مرسلا.
(3) ابن عابدين 5 / 244، 246، والبناية على الهداية 9 / 326، 327، وجواهر الإكليل 1 / 20، والقليوبي 3 / 213، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 126.

(13/130)


د - تَقْبِيل يَدِ الظَّالِمِ:
8 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْبِيل يَدِ الظَّالِمِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَوْفٍ، قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: لاَ رُخْصَةَ فِي تَقْبِيل الْيَدِ لِغَيْرِ عَالِمٍ وَعَادِلٍ، وَيُكْرَهُ مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال مِنْ تَقْبِيل يَدِ نَفْسِهِ إِذَا لَقِيَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ تَقْبِيل يَدِ صَاحِبِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ عَالِمًا وَلاَ عَادِلاً، وَلاَ قَصَدَ تَعْظِيمَ إِسْلاَمِهِ وَلاَ إِكْرَامَهُ. (1)

هـ - تَقْبِيل الأَْرْضِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُظَمَاءِ:
9 - تَقْبِيل الأَْرْضِ بَيْنَ يَدَيِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُظَمَاءِ حَرَامٌ، وَالْفَاعِل وَالرَّاضِي بِهِ آثِمَانِ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الْوَثَنِ، وَهَل يَكْفُرُ؟ إِنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالتَّعْظِيمِ كَفَرَ، وَإِنْ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ لاَ، وَصَارَ آثِمًا مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الدُّرِّ. (2)

و التَّقْبِيل فِي الاِعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْبِيل أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الآْخَرَ فِي حَالَةِ الاِعْتِكَافِ إِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 245، 246، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 272، وتحفة الأحوذي 7 / 527.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 246، والبناية شرح الهداية 9 / 326، 327.

(13/131)


عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ التَّقْبِيل فِي الصِّيَامِ لِمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُفْسِدَ مِنَ الإِْنْزَال وَالْجِمَاعِ، بَل صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْحُرْمَةِ فِي حَالَةِ خَوْفِ الْمُفْسِدِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ السَّلاَمَةِ. (2)
وَهَل يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالتَّقْبِيل؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي فِي بَيَانِ آثَارِ التَّقْبِيل.

ثَالِثًا: التَّقْبِيل الْمُبَاحُ:
أ - تَقْبِيل الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ، وَتَقْبِيل الْمَوَدَّةِ وَالشَّفَقَةِ:
11 - يَجُوزُ تَقْبِيل يَدِ الْعَالِمِ الْوَرِعِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِل، وَتَقْبِيل يَدِ الْوَالِدَيْنِ، وَالأُْسْتَاذِ، وَكُل مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالإِْكْرَامَ، كَمَا يَجُوزُ تَقْبِيل الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَبَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنْ كُل ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ، أَوِ الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ، وَتَدَيُّنًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَبَّل بَيْنَ عَيْنَيْهِ (3)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) الاختيار 1 / 134، ابن عابدين 2 / 136، والدسوقي 1 / 544، وجواهر الإكليل 1 / 147، وحاشية القليوبي 2 / 58، 77، والمغني لابن قدامة 3 / 212، 213، وكشاف القناع 2 / 216.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من. . " أخرجه أبو داود (5 / 392 ـ ط عبيد الدعاس) وقال المنذري: هذا حديث مرسلا لأنه من رواية الشعبي به.

(13/131)


فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةً قَال: فَدَنَوْنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلْنَا يَدَهُ. (1)
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْكَرَ مَالِكٌ تَقْبِيل الْيَدِ وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ. قَال الأَْبْهَرِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكَبُّرِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ لِدِينِهِ أَوْ لِعِلْمِهِ أَوْ لِشَرَفِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. (2)
كَذَلِكَ يَجُوزُ بَل يُسَنُّ تَقْبِيل الْوَلَدِ لِلْمَوَدَّةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدِّ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَبَّل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَال الأَْقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَقَال: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ. (3)
__________
(1) حديث: ابن عمر: " أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 393 ـ ط عبيد الدعاس) . وابن ماجه (2 / 1221 ـ ط عيسى الحلبي) . قال المنذري: أخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن. (مختصر سنن أبي داود (8 / 88 ـ ط دار المعرفة) .
(2) تحفة الأحوذي 7 / 527. وانظر في هذه المسائل: ابن عابدين 5 / 245، 246، والبناية 9 / 317، 318، 326، 327، وجواهر الإكليل 1 / 20، والقليوبي 3 / 213، وحاشية الجمل 4 / 126، وكشاف القناع 5 / 16، والآداب الشرعية لابن مفلح2 / 270، 271، 277، 279.
(3) حديث: " قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي، فقال. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 426 ـ ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1808ـ 1809 ـ ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.

(13/132)


وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟ . (1)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاطِمَةَ ابْنَتِهِ، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا يُقَبِّلُهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا قَامَتْ لَهُ فَتُقَبِّلُهُ وَتُجْلِسُهُ فِي مَجْلِسِهَا. (2)

ب - تَقْبِيل الْمَيِّتِ:
12 - يَجُوزُ لأَِهْل الْمَيِّتِ وَأَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ تَقْبِيل وَجْهِهِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَهُوَ يَبْكِي
__________
(1) وحديث: " عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " تقبلون الصبيان فما. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 426 ـ ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1808، ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري. قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون الأعرابي الأقرع بن حابس، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم، وهو الأرحج (فتح الباري 10 / 430ـ ط السلفية) .
(2) حديث: " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما رأيت أحد أشبه. . . " أخرجه أبو داود (5 / 391 ـ ط عبيد الدعاس) ، والترمذي (5 / 700 ـ ط مصطفى الحلبي) . وقال حديث حسن غريب.

(13/132)


أَوْ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (1) وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَقْبَل أَبُو بَكْرٍ فَتَيَمَّمَ (2) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْهُ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَال: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُول اللَّهِ لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ (3) .

ج - تَقْبِيل الْمُصْحَفِ:
13 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - جَوَازُ تَقْبِيل الْمُصْحَفِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ اسْتِحْبَابُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ: كَانَ يَأْخُذُ الْمُصْحَفَ كُل غَدَاةٍ وَيُقَبِّلُهُ، وَيَقُول: عَهْدُ رَبِّي وَمَنْشُورُ رَبِّي عَزَّ وَجَل، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَبِّل الْمُصْحَفَ وَيَمْسَحُهُ عَلَى وَجْهِهِ. وَقَال النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ: رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون، وهو. . . " أخرجه أبو داود (3 / 513 ـ ط عبيد الدعاس) . والترمذي (3 / 305ـ 306 ـ ط مصطفى الحلبي) وقال حديث حسن صحيح.
(2) تيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مشى إليه وقصده.
(3) البناية على الهداية 9 / 324، 325، والقليوبي 1 / 344، 3 / 213، والمغني لابن قدامة 2 / 470 وحديث: " أقبل أبو بكر فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 113 ـ ط السلفية) .

(13/133)


أَبِي جَهْلٍ كَانَ يَضَعُ الْمُصْحَفَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَقُول: كِتَابُ رَبِّي كِتَابُ رَبِّي (1) .
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْقُنْيَةِ: وَقِيل: إِنَّ تَقْبِيل الْمُصْحَفِ بِدْعَةٌ، وَرَدَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ.
وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ: التَّوَقُّفُ فِي تَقْبِيل الْمُصْحَفِ، وَفِي جَعْلِهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَفْعُهُ وَإِكْرَامُهُ، لأَِنَّ مَا طَرِيقُهُ التَّقَرُّبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ لاَ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْظِيمٌ إِلاَّ بِتَوْقِيفٍ، وَلِهَذَا قَال عُمَرُ عَنِ الْحَجَرِ: لَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (2) . وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى حُكْمٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

د - تَقْبِيل الْخُبْزِ وَالطَّعَامِ:
14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ تَقْبِيل الْخُبْزِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ، لأَِنَّهُ لاَ دَلِيل عَلَى التَّحْرِيمِ وَلاَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ عَنْهُ نَهْيٌ، أَوْ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَوِيٌّ، وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ إِكْرَامَهُ لأَِجْل الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِكْرَامِهِ فَحَسَنٌ، وَدَوْسُهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 246، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 192، وكشاف القناع 1 / 137، والآداب الشرعية 2 / 295.
(2) كشاف القناع 1 / 137، 138.

(13/133)


مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بَل مُجَرَّدُ إِلْقَائِهِ فِي الأَْرْضِ مِنْ غَيْرِ دَوْسٍ مَكْرُوهٌ (1) .
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُؤَيِّدًا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ تَقْبِيل الْخُبْزِ: (وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ) (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لاَ يُشْرَعُ تَقْبِيل الْخُبْزِ وَلاَ الْجَمَادَاتِ إِلاَّ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ (3) .

آثَارُ التَّقْبِيل
أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الْوُضُوءِ:
15 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - بِعَدَمِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الزَّوْجَةِ وَلاَ بِتَقْبِيلِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمْسِ فِي الآْيَةِ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (5) الْجِمَاعُ كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
__________
(1) حاشية الشرواني على المنهاج 7 / 435.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 246.
(3) كشاف القناع 5 / 181، والآداب الشرعية 3 / 240.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ " أخرجه الترمذي (1 / 133 ـ ط مصطفى الحلبي) . وصححه أحمد شاكر (سنن الترمذي 1 / 133 ـ ط الحلبي) .
(5) سورة النساء / 43.
(6) الاختيار 1 / 10، 11، وابن عابدين 1 / 99، والمغني 1 / 192، 193.

(13/134)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِنَّ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيل نَاقِضَانِ لِلْوُضُوءِ مُطْلَقًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) ، وَلأَِنَّهُ مَظِنَّةُ الاِلْتِذَاذِ الْمُثِيرِ لِلشَّهْوَةِ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ بَاقِي صُوَرِ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اللاَّمِسِ وَالْمَلْمُوسِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْمَمْسُوسُ مَيِّتًا (2) .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ قَبَّل لِشَهْوَةٍ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَبَّل لِرَحْمَةٍ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الأَْجْنَبِيَّةِ وَالْمَحْرَمِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي تُشْتَهَى - أَيْ ذَاتِ سَبْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ - وَالْكَبِيرَةِ، لِعُمُومِ النَّصِّ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا بِعَدَمِ النَّقْضِ بِلَمْسِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فِي الأَْظْهَرِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: تَقْبِيل فَمِ مَنْ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً نَاقِضٌ لِوُضُوئِهِمَا مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ اللَّذَّةَ أَوْ لَمْ يَجِدْهَا، وَإِنْ كَانَ بِكُرْهٍ أَوِ اسْتِغْفَالٍ، لأَِنَّ الْقُبْلَةَ عَلَى الْفَمِ لاَ تَنْفَكُّ عَنِ اللَّذَّةِ غَالِبًا، وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ (4) .
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) حاشية القليوبي 1 / 32، والمغني 1 / 192ـ 195.
(3) نفس المراجع.
(4) جواهر الإكليل 1 / 20، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 120، 121.

(13/134)


أَمَّا تَقْبِيل سَائِرِ الأَْعْضَاءِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ لَذَّةً أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ يُنْقِضُهُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَا بَالِغَيْنِ وَإِلاَّ انْتَقَضَ وُضُوءُ الْبَالِغِ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ تَقْبِيلُهُ لِمَنْ يُشْتَهَى عَادَةً. وَالْمُعْتَبَرُ عَادَةُ النَّاسِ لاَ عَادَةُ الْمُقَبِّل وَالْمُقَبَّل، قَال الدُّسُوقِيُّ: فَعَلَى هَذَا لَوْ قَبَّل شَيْخٌ شَيْخَةً انْتَقَضَ وُضُوءُ كُلٍّ مِنْهُمَا، لأَِنَّ عَادَةَ الْمَشَايِخِ اللَّذَّةُ بِالنِّسَاءِ الْكِبَارِ (1) .
وَإِذَا كَانَ التَّقْبِيل لِوَدَاعٍ عِنْدَ فِرَاقٍ أَوْ لِرَحْمَةٍ كَتَقْبِيل الْمَرِيضِ لِلشَّفَقَةِ فَلاَ نَقْضَ.

أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الصَّلاَةِ:
16 - التَّقْبِيل مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ.
كَذَلِكَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِالتَّقْبِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي التَّقْبِيل بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: لَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا وَلَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَوْ مَصَّ صَبِيٌّ ثَدْيَهَا وَخَرَجَ اللَّبَنُ تَفْسُدُ صَلاَتُهُمَا (2)
لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَبَّلَتْهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ وَلَمْ يَشْتَهِهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ (3) .
__________
(1) نفس المراجع.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 420ـ 422، والدسوقي 1 / 120، 121، والقليوبي 1 / 32، 34.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 422.

(13/135)


أَثَرُ التَّقْبِيل عَلَى الصِّيَامِ:
17 - يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ تَقْبِيل الزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ وُقُوعَ مُفْسِدٍ مِنَ الإِْنْزَال وَالْجِمَاعِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ شَابٌّ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ - أُقَبِّل وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَال: لاَ. فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَال: أُقَبِّل وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَال: نَعَمْ، فَنَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ (1) . وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنِ الْمُفْسِدَ رُبَّمَا وَقَعَ فِي الْجِمَاعِ فَيَفْسُدُ صَوْمُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَحَل الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَتِ الْقُبْلَةُ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ لاَ إِنْ كَانَ بِدُونِ قَصْدِهَا، كَأَنْ تَكُونَ بِقَصْدِ وَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلاَ كَرَاهَةَ (2) .
وَإِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وُقُوعَ مُفْسِدٍ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّقْبِيل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ (3) .
__________
(1) حديث: " إن عبد الله بن عمر قال: " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال. . " أخرجه أحمد (2 / 185 ـ ط المكتب الإسلامي) . قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه كلام (مجمع الزوائد: 3 / 166 ط دار الكتاب العربي) .
(2) الاختيار 1 / 134، ابن عابدين 2 / 112، 113، والقليوبي 2 / 58، والمغني لابن قدامة 3 / 112، 113.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم "، أخرجه البخاري (الفتح 4 / 194 ـ ط السلفية) . ومسلم (2 / 777ـ ط عيسى الحلبي) .

(13/135)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ لِلصَّائِمِ لَوْ عُلِمَتِ السَّلاَمَةُ مِنْ خُرُوجِ مَنِيٍّ أَوْ مَذْيٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّلاَمَةَ حَرُمَتْ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقْبِيل وَلَوْ كَانَ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ مَا لَمْ يُسَبِّبِ الإِْنْزَال، أَمَّا إِذَا قَبَّل وَأَنْزَل بَطَل صَوْمُهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ (2) .
وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْ عَدَمِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ) .

أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الاِعْتِكَافِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالتَّقْبِيل وَاللَّمْسِ إِذَا أَنْزَل، لأَِنَّهُ بِالإِْنْزَال صَارَ التَّقْبِيل فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُنْزِل فَلاَ يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالتَّقْبِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِشَهْوَةٍ أَمْ بِدُونِهَا، كَمَا لاَ يَبْطُل بِهِ الصَّوْمُ، لِعَدَمِ مَعْنَى الْجِمَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ حَرَامٌ إِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 147.
(2) نفس المراجع السابقة، وانظر الزيلعي 1 / 323، والشرح الصغير للدردير 1 / 707، والمهذب 1 / 183، منتهى الإرادات 1 / 221.
(3) سورة البقرة / 187.

(13/136)


وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَالتَّقْبِيل عَلَى سَبِيل الشَّفَقَةِ وَالاِحْتِرَامِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، كَغَسْل الْمَرْأَةِ رَأْسَ زَوْجِهَا الْمُعْتَكِفِ، وَتَرْجِيل شَعْرِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا قَبَّل وَقَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ لَمَسَ أَوْ بَاشَرَ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وَجَدَهَا بَطَل الاِعْتِكَافُ، أَمَّا لَوْ قَبَّل صَغِيرَةً لاَ تُشْتَهَى أَوْ قَبَّل زَوْجَتَهُ لِوَدَاعٍ أَوْ لِرَحْمَةٍ وَلَمْ يَقْصِدِ اللَّذَّةَ وَلاَ وَجَدَهَا لَمْ يَبْطُل. وَهَذَا إِذَا كَانَ التَّقْبِيل عَلَى غَيْرِ الْفَمِ. أَمَّا الْقُبْلَةُ عَلَى الْفَمِ فَتُبْطِل الاِعْتِكَافَ مُطْلَقًا، وَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهَا الشَّهْوَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ يُبْطِلُهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا يُبْطِل الْوُضُوءَ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ التَّقْبِيل لاَ يُبْطِل الاِعْتِكَافَ مُطْلَقًا كَالْحَجِّ، لَكِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى كُل قَوْلٍ (2) .

أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الْحَجِّ:
19 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اللَّمْسُ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ، سَوَاءٌ أَنْزَل أَمْ لَمْ يُنْزِل؟ ، لَكِنَّهُ لاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 136، والدسوقي 1 / 544، والقليوبي 2 / 77، وكشاف القناع 2 / 261، ومغني المحتاج 1 / 452.
(2) جواهر الإكليل 1 / 157، والدسوقي 1 / 544، والقليوبي 2 / 77، ومغني المحتاج 1 / 452.

(13/136)


خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا بِفَسَادِ الْحَجِّ إِنْ أَنْزَل، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ.
أَمَّا الْقُبْلَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِأَنْ كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ لِرَحْمَةٍ أَوْ بِقَصْدِ تَحِيَّةِ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ فَلاَ تُفْسِدُ الْحَجَّ، وَلاَ فِدْيَةَ فِيهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِحْرَامٌ وَحَجٌّ) .

أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الرَّجْعَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيل بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ نِيَّةِ الرَّجْعَةِ لاَ يُعْتَبَرُ رَجْعَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ التَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ، وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَمًا، أَوْ خَدًّا أَوْ ذَقَنًا، أَوْ جَبْهَةً، أَوْ رَأْسًا، وَلَوْ قَبَّلَهَا اخْتِلاَسًا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ نَائِمًا، أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ مَعْتُوهًا، إِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّقْبِيل وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا بِشَرْطِ أَنْ يُصَدِّقَهَا، أَمَّا إِذَا ادَّعَتْهُ وَأَنْكَرَهُ فَلاَ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّجْعَةِ النِّيَّةَ، فَالتَّقْبِيل لِلْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا رَجْعَةٌ إِذَا قَارَنَهُ نِيَّةُ الرَّجْعَةِ،
__________
(1) الهداية مع الفتح 2 / 237، 238، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد 1 / 486، 489، ونهاية المحتاج 2 / 456، والمجموع 7 / 410، 411، والمغني 3 / 338ـ 340.
(2) ابن عابدين 2 / 530، والبدائع 2 / 181، 182.

(13/137)


وَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل دُونَ نِيَّةٍ، وَلَوْ بِأَقْوَى الأَْفْعَال كَالْوَطْءِ (1) .
وَلاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - بِالْفِعْل كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مِنَ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل، لأَِنَّ ذَلِكَ حَرُمَ بِالطَّلاَقِ، وَمَقْصُودُ الرَّجْعَةِ حِلُّهُ، فَلاَ تَحْصُل إِلاَّ بِالْقَوْل (2) .
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ وَلَوْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
أَمَّا لَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ، وَيُعْتَبَرُ رَجْعَةً فِي وَجْهٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (3) .

أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الظِّهَارِ:
21 - الظِّهَارُ هُوَ: أَنْ يُشَبِّهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ تَأْبِيدًا. فَإِذَا ظَاهَرَ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ، كَأَنْ يَقُول أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ قَبْل الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ وَيُفْضِي إِلَيْهِ، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَعَ التَّمَاسَّ قَبْل الْكَفَّارَةِ حَيْثُ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 417، وجواهر الإكليل 1 / 362.
(2) القليوبي على المنهاج 4 / 3، والمغني لابن قدامة 7 / 283.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 283.

(13/137)


قَال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (1) ، وَالتَّمَاسُّ شَامِلٌ لِلْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُل بِالنَّصِّ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ التَّقْبِيل لِلشَّفَقَةِ، كَأَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ مَثَلاً (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ (3) . (ر: ظِهَارٌ) .

أَثَرُ التَّقْبِيل فِي الإِْيلاَءِ:
22 - الإِْيلاَءُ: حَلِفُ الزَّوْجِ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ وَطْئِهِ زَوْجَتَهُ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ التَّقْبِيل وَاللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لاَ يُعْتَبَرُ إِيلاَءً. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ أَيْ لِلرُّجُوعِ عَنِ الإِْيلاَءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، فَلاَ يَنْحَل الإِْيلاَءُ بِوَطْءٍ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ، وَلاَ بِالتَّقْبِيل أَوِ اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِشَهْوَةٍ، لأَِنَّ حَقَّهَا هُوَ الْجِمَاعُ فِي الْقُبُل، فَلاَ يَحْصُل الرُّجُوعُ بِدُونِهِ، وَلأَِنَّهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلاَ يَزُول الضَّرَرُ إِلاَّ بِالإِْتْيَانِ بِهِ (4) . (ر: إيلاَءٌ) .
__________
(1) سورة المجادلة / 173.
(2) ابن عابدين 2 / 575، 576، وجواهر الإكليل 1 / 371، 373، وحاشية القليوبي 4 / 18، والمغني 7 / 348.
(3) القليوبي 4 / 18، والمغني لابن قدامة 7 / 348.
(4) البدائع 3 / 173، 178، وابن عابدين 2 / 522، وجواهر الإكليل 1 / 365، 369، والقليوبي 4 / 8، 13، والمغني 7 / 324.

(13/138)


أَثَرُ التَّقْبِيل فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ:
23 - التَّقْبِيل إِذَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ لاَ يُؤَثِّرُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، فَمَنْ قَبَّل امْرَأَةً بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبِنْتِهَا أَوْ أُمِّهَا، وَيَجُوزُ لَهَا الزَّوَاجُ بِأُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَبَّل أُمَّ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْقُبْلَةُ عَلَى الْفَمِ، فَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمُ الْخَدَّ بِالْفَمِ (1) .
أَمَّا التَّقْبِيل أَوِ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِهِمَا، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) الْمُبَاشَرَةُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ وَالتَّقْبِيل وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لاَ يُحَرِّمُ عَلَى الْمُقَبِّل أُصُول مَنْ يُقَبِّلُهَا وَلاَ فُرُوعَهَا، زَوْجَةً كَانَتْ أَمْ أَجْنَبِيَّةً (2) ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ التَّقْبِيل وَاللَّمْسَ بِشَهْوَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 280، 283، والاختيار 3 / 88، والدسوقي 2 / 251، وجواهر الإكليل 1 / 289، وقليوبي 3 / 241، والمغني 6 / 579.
(2) ابن عابدين 2 / 282، 283، 5 / 243، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 251، وجواهر الإكليل 1 / 289، والقليوبي 3 / 241، ونهاية المحتاج 6 / 174، والمغني 6 / 579، 580.
(3) سورة النساء / 24.

(13/138)


يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، فَمَنْ مَسَّ أَوْ قَبَّل امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ لاَ تَحِل لَهُ أُصُولُهَا وَلاَ فُرُوعُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَيْهَا أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ. وَمَنْ قَبَّل أُمَّ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.
24 - وَإِذَا أَقَرَّ بِالتَّقْبِيل وَأَنْكَرَ الشَّهْوَةَ، قِيل: لاَ يُصَدَّقُ، لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ شَهْوَةٍ، فَلاَ يُقْبَل إِنْكَارُهُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ خِلاَفُهُ. وَقِيل: يُصَدَّقُ، وَقِيل: بِالتَّفْصِيل بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدِّ فَيُصَدَّقُ، أَوْ عَلَى الْفَمِ فَلاَ، وَهَذَا هُوَ الأَْرْجَحُ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} (2) قَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ، فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ (3) . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةِ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ وَأَبِيهِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 282، 283، والبدائع 2 / 260، 261.
(2) سورة النساء / 22.
(3) البدائع 2 / 260، 261، الاختيار 3 / 88، 89، ابن عابدين 2 / 281ـ 283.
(4) حديث: " من نظر إلى فرج امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على ابنه وأبيه " أخرجه ابن أبي شيبة 4 / 165 ط السلفية) من حديث أبي هانئ بلفظ " من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا أبنتها " وإسناده ضعيف لضعف حجاج بن أرطاة، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب (152 ط دار الرشيد) صدوق كثير الخطأ والتدليس أ. هـ وقد عنعن.

(13/139)


هَذَا وَلاَ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِالتَّقْبِيل وَلَوْ بِشَهْوَةٍ بَيْنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، فَلَوْ قَبَّل أُخْتَ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ اتِّفَاقًا. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة.

(13/139)


تَقْرِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْرِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَرَّرَ، يُقَال قَرَّرَ الشَّيْءَ فِي الْمَكَانِ: ثَبَّتَهُ، وَقَرَّرَ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ: تَرَكَهُ قَارًّا، وَقَرَّرَ فُلاَنًا بِالذَّنْبِ: حَمَلَهُ عَلَى الاِعْتِرَافِ بِهِ، وَقَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ أَوِ الرَّأْيَ وَضَّحَهُ وَحَقَّقَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ - كَمَا ذُكِرَ فِي أَقْسَامِ السُّنَّةِ: سُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إنْكَارِ قَوْلٍ قِيل بَيْن يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَمِل بِهِ، أَوْ سُكُوتُهُ عَنْ إنْكَارِ فِعْلٍ حِينَ فُعِل بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْقْرَارُ:
2 - الإِْقْرَارُ لُغَةً: الإِْذْعَانُ لِلْحَقِّ وَالاِعْتِرَافُ بِهِ. يُقَال: أَقَرَّ بِالْحَقِّ أَيِ اعْتَرَفَ بِهِ.
__________
(1) لسان العرب والصحاح للجوهري، ومشارق الأنوار والمعجم الوسيط، والقاموس المحيط مادة: " قرر ".
(2) إرشاد الفحول ص 41.

(13/140)


وَاصْطِلاَحًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِلتَّقْرِيرِ (1) .

ب - السُّكُوتُ:
3 - السُّكُوتُ: تَرْكُ الْكَلاَمِ وَالسُّكُوتُ عَنِ الأَْمْرِ عَدَمُ الإِْنْكَارِ، وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّقْرِيرِ هِيَ أَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَدْ يَكُونُ تَقْرِيرًا وَقَدْ لاَ يَكُونُ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ، لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ اسْتُثْنِيَ بِهَا مَسَائِل عَدِيدَةٌ اعْتُبِرَ السُّكُوتُ فِيهَا تَقْرِيرًا وَمِنْ ذَلِكَ:
سُكُوتُ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا فِي النِّكَاحِ.
وَقَبُول التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ وَالسُّكُوتُ عَلَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا بِالنَّسَبِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: السُّكُوتُ بِمُجَرَّدِهِ يُنَزَّل مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالنُّطْقِ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ لَهُ الْعِصْمَةُ، وَلِهَذَا كَانَ تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَرْعِهِ، وَكَانَ الإِْجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ حُجَّةً عِنْدَ كَثِيرِينَ. أَمَّا غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُنَزَّل مَنْزِلَةَ نُطْقِهِ إِلاَّ إِذَا قَامَتْ قَرَائِنُ تَدُل عَلَى الرِّضَا فَيُنَزَّل مَنْزِلَةَ النُّطْقِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، والكليات للكفوي مادة: " قرر "، والهداية 1 / 180.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية لابن الأثير مادة: " سكت "، والمنثور في القواعد 2 / 205، وحاشية ابن عابدين 2 / 591.

(13/140)


ج - الإِْجَازَةُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الإِْجَازَةِ: الإِْنْفَاذُ، يُقَال: أَجَازَ الشَّيْءَ إِذَا أَنْفَذَهُ وَجَوَّزَ لَهُ مَا صَنَعَ وَأَجَازَ لَهُ: أَيْ سَوَّغَ لَهُ ذَلِكَ وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتُهُ جَائِزًا نَافِذًا وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ كَالتَّقْرِيرِ لِلأَْمْرِ الَّذِي حَدَثَ، وَمِنْ ذَلِكَ إِجَازَةُ الْمَالِكِ لِتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .

(الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :

أَوَّلاً - التَّقْرِيرُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
5 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ التَّقْرِيرَ بِاعْتِبَارِهِ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَسْكُتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِنْكَارِ قَوْلٍ قِيل بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ أَوْ سَكَتَ عَنْ إِنْكَارِ فِعْلٍ فُعِل بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ. وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ: قَوْل الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَل كَذَا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَأَضَافَهُ إِلَى عَصْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِمَّا لاَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ.
6 - وَالتَّقْرِيرُ حُجَّةٌ وَيَدُل عَلَى الْجَوَازِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، لَكِنْ ذَلِكَ لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ قُدْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِْنْكَارِ، وَكَوْنِ الْمُقَرَّرِ مُنْقَادًا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح للجوهري مادة: " جوز "، والهداية 3 / 68، وراجع مصطلح إجازة (1 / 303، ما بعدها و (9 / 115، وما بعدها) من الموسوعة الفقهية.

(13/141)


لِلشَّرْعِ، وَكَوْنِ الأَْمْرِ الْمُقَرَّرِ ثَابِتًا لَمْ يَسْبِقِ النَّهْيُ عَنْهُ.
لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ (1) .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ التَّقْرِيرَ لاَ يَدُل عَلَى الْجَوَازِ لأَِنَّ السُّكُوتَ وَعَدَمَ الإِْنْكَارِ يَحْتَمِل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَلاَ يَكُونُ الْفِعْل إِذْ ذَاكَ حَرَامًا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ سَكَتَ عَنْهُ لأَِنَّ الإِْنْكَارَ لَمْ يَنْجَحْ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُ ثَانِيًا لاَ يُفِيدُ فَلَمْ يُعَاوِدْهُ، وَبِذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ التَّقْرِيرُ دَلِيلاً عَلَى الْجَوَازِ وَالنَّسْخِ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ثَانِيًا - التَّقْرِيرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
7 - يَأْتِي التَّقْرِيرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعَانٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى تَثْبِيتِ حَقِّ الْمُقَرَّرِ فِي شَيْءٍ وَتَأْكِيدِهِ:
أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ التَّقْرِيرَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَةِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ، إِذْ أَنَّهُمْ يَقْسِمُونَ طَلَبَ الشُّفْعَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالْمِلْكِ، فَطَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ هُوَ طَلَبُ
__________
(1) إرشاد الفحول ص 41، 61، والأحكام للآمدي 1 / 189، 2 / 38، 99، والبزدوي 3 / 148، المستصفى 2 / 25.
(2) المراجع السابقة.

(13/141)


الشُّفْعَةِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِهَا، لِبَيَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنِ الشُّفْعَةِ وَالإِْشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ.
وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ هُوَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى طَلَبِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ عِنْدَ الْمُبْتَاعِ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ.
فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ اسْتَقَرَّتْ شُفْعَتُهُ. وَهَذَا الطَّلَبُ يُسَمَّى طَلَبَ التَّقْرِيرِ أَوْ طَلَبَ الإِْشْهَادِ؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ قَرَّرَ حَقَّهُ وَأَكَّدَهُ.
وَالشَّفِيعُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الإِْشْهَادُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ. أَمَّا إِذَا اسْتَطَاعَ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ الإِْشْهَادَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْعَقَارِ فَذَلِكَ يَكْفِيهِ وَيَقُومُ مَقَامَ الطَّلَبَيْنِ، وَالإِْشْهَادُ إِنَّمَا هُوَ لإِِثْبَاتِ الْحَقِّ عِنْدَ التَّجَاحُدِ (1) .
هَذَا وَبَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ الإِْشْهَادَ دُونَ لَفْظِ التَّقْرِيرِ، وَفِي اعْتِبَارِ الإِْشْهَادِ شَرْطًا لاِسْتِقْرَارِ الشُّفْعَةِ أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ. يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِشْهَادٌ، وَشُفْعَةٌ)

الثَّانِي: بِمَعْنَى اسْتِمْرَارِ الأَْمْرِ الْمَوْجُودِ وَإِبْقَائِهِ عَلَى حَالِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

أ - فِي الشَّرِكَةِ:
8 - إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالتَّرِكَةِ دَيْنٌ وَلاَ دِيَةٌ فَلِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 18، ابن عابدين 5 / 135 إلى 143، وفتح القدير 8 / 308، ومجلة الأحكام العدلية المواد 1028، 1029، 1030، 1031 وشرحها للأتاسي 3 / 602.

(13/142)


وَتَقْرِيرِ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ تَقْرِيرُ الشَّرِكَةِ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ (1) . (ر: شَرِكَةٌ)

ب - فِي الْقِرَاضِ:
9 - إِذَا مَاتَ الْمَالِكُ وَأَرَادَ الْوَارِثُ الاِسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمَال نَاضًّا فَلَهُمَا ذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَا عَقْدًا بِشَرْطِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهَل يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّرْكِ وَالتَّقْرِيرِ بِأَنْ يَقُول الْوَارِثُ: تَرَكْتُكَ أَوْ قَرَّرْتُكَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى.
وَإِذَا مَاتَ عَامِل الْمُضَارَبَةِ وَأَرَادَ الْمَالِكُ تَقْرِيرَ وَارِثِ الْعَامِل مَكَانَهُ فَتَقْرِيرُهُ مُضَارَبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ عَلَى نَقْدٍ مَضْرُوبٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُضَارَبَةٍ (قِرَاضٌ) .

ج - فِي الْقَضَاءِ::
10 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمٍ سَابِقٍ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا. بَل كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. لَكِنْ هَل تَقْرِيرُ الْقَاضِي مَا رُفِعَ إِلَيْهِ يُعْتَبَرُ حُكْمًا لاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ؟
عَقَدَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي تَبْصِرَتِهِ فَصْلاً بِعِنْوَانِ " تَقْرِيرُ الْحَاكِمِ مَا رُفِعَ إِلَيْهِ. قَال: اخْتَلَفَ أَهْل الْمَذْهَبِ (يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ) هَل يَكُونُ تَقْرِيرُ الْحَاكِمِ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 283، 284، والمغني 5 / 22.
(2) روضة الطالبين 5 / 143، وجواهر الإكليل 2 / 177، ومنتهى الإرادات 2 / 336.

(13/142)


عَلَى الْوَاقِعَةِ حُكْمًا بِالْوَاقِعِ فِيهَا أَمْ لاَ؟ كَمَا إِذَا زَوَّجَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ فَأَقَرَّهُ وَأَجَازَهُ ثُمَّ عُزِل، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَسْخُهُ وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فَلاَ يَعْتَرِضُهُ قَاضٍ آخَرُ، وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ: لَيْسَ بِحُكْمٍ وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ رُفِعَ لَهُ فَقَال: لاَ أُجِيزُ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسْخِهِ فَهَذِهِ فَتْوَى وَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِمَا يَرَاهُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (قَضَاءٌ) .

الثَّالِثُ - التَّقْرِيرُ بِمَعْنَى طَلَبِ الإِْقْرَارِ مِنَ الْمُتَّهَمِ وَحَمْلُهُ عَلَى الاِعْتِرَافِ
11 - لِلْقَاضِي تَقْرِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ الْقَاضِي مِنْهُ الْجَوَابَ إِمَّا بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالإِْنْكَارِ.
وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ لاَ يُعْمَل بِهِ فِي الْجُمْلَةِ. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ جَعَلُوا مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ مُرَاعَاةَ شَوَاهِدِ الْحَال وَأَوْصَافَ الْمُتَّهَمِ وَقُوَّةَ التُّهْمَةِ فَأَجَازُوا التَّوَصُّل إِلَى الإِْقْرَارِ بِالْحَقِّ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ اسْتِنَادًا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} (2) وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ
__________
(1) التبصرة بهامش العلي المالك 1 / 89، وشرح منتهى الإرادات 3 / 474.
(2) سورة يوسف / 27.

(13/143)


عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ خِطَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْل مَكَّةَ، وَفِي الْكِتَابِ إِخْبَارٌ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَأَدْرَكَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ الْمَرْأَةَ وَاسْتَنْزَلاَهَا وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا الْكِتَابَ فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا فَقَال لَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ كَذَبْنَا، وَلْتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ اسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا (1) .
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَل يَكُونُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَوْ لِوَالِي الْمَظَالِمِ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي وَلِلْوَالِي ضَرْبُ الْمُتَّهَمِ ضَرْبَ تَقْرِيرٍ لأَِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنِ الإِْمَامِ فِي تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ وَلاَ يَكُونُ لِلْقَاضِي، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَسْبَابِهَا وَتَحَقُّقِهَا (2) .
__________
(1) حديث: " بعث علي والزبير في أثر المرأة التي حملت خطاب حاطب ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 143ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1941 ـ 1942 ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 3 / 148، 188، 195، والتبصرة 2 / 139، 143، 147، والأحكام السلطانية للماوردي 90 - 91، ومعين الحكام ص 211، 212، والطرق الحكمية من 101 إلى 104.

(13/143)


12 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الدَّعَاوَى قِسْمَانِ: دَعْوَى تُهْمَةٍ وَدَعْوَى غَيْرِ تُهْمَةٍ.
فَدَعْوَى التُّهْمَةِ أَنْ يَدَّعِيَ فِعْل مُحَرَّمٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ مِثْل قَتْلٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُدْوَانِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الأَْحْوَال.
وَدَعْوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ كَأَنْ يَدَّعِيَ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَكُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ حَدًّا مَحْضًا كَالشُّرْبِ وَالزِّنَى، وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا لآِدَمِيٍّ كَالأَْمْوَال، وَقَدْ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلأَْمْرَيْنِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. فَهَذَا الْقِسْمُ (أَيْ دَعْوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ) إِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي حُجَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلاَّ فَالْقَوْل قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) .
13 - أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل مِنَ الدَّعَاوَى: وَهُوَ دَعَاوَى التُّهَمِ وَهِيَ دَعْوَى الْجِنَايَةِ وَالأَْفْعَال الْمُحَرَّمَةِ كَدَعْوَى الْقَتْل وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ
__________
(1) حديث: " لو يعطى الناس بداعوهم لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ". أخرجه مسلم 3 / 1336 ط الحلبي) .

(13/144)


وَالْقَذْفِ وَالْعُدْوَانِ فَهَذَا يَنْقَسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا لَيْسَ مِنْ أَهْل تِلْكَ التُّهْمَةِ، أَوْ فَاجِرًا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ مَجْهُول الْحَال لاَ يَعْرِفُ الْوَالِي وَالْحَاكِمُ. فَإِنْ كَانَ بَرِيئًا لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ صِيَانَةً لِتَسَلُّطِ أَهْل الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى أَعْرَاضِ الْبُرَآءِ.
قَال مَالِكٌ وَأَشْهَبُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لا أَدَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ أَذِيَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَيْبَهُ وَشَتْمَهُ فَيُؤَدَّبُ. وَقَال أَصْبَغُ: يُؤَدَّبُ قَصَدَ أَذِيَّتَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ.
14 - (الْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُول الْحَال لاَ يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلاَ فُجُورٍ فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ. وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الأَْئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي. هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ <: قَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تُهْمَةٍ > قَال أَحْمَدُ: وَذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَمْرُهُ. ثُمَّ الْحَاكِمُ قَدْ يَكُونُ مَشْغُولاً عَنْ تَعْجِيل الْفَصْل وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ حُكُومَاتٌ سَابِقَةٌ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَحْبُوسًا مُعَوَّقًا مِنْ حِينِ يُطْلَبُ إِلَى أَنْ يُفْصَل بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَهَذَا حَبْسٌ بِدُونِ التُّهْمَةِ فَفِي التُّهْمَةِ أَوْلَى.

(13/144)


وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الْحَبْسُ فِي التُّهَمِ إنَّمَا هُوَ لِوَالِي الْحَرْبِ دُونَ الْقَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي أَدَبِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْحَبْسِ فِي التُّهْمَةِ هَل هُوَ مُقَدَّرٌ أَوْ مَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَالْحَاكِمِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا فَقَال الزُّبَيْرِيُّ: هُوَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ (1) .
15 - (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْقَتْل وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيَسُوغُ ضَرْبُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُتَّهَمِينَ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بِتَعْذِيبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي غَيَّبَ مَالَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ فِي قِصَّةِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ (2)
قَال شَيْخُنَا: وَاخْتَلَفُوا فِيهِ هَل الَّذِي يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي أَوْ كِلاَهُمَا أَوْ لاَ يَسُوغُ ضَرْبُهُ؟ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي أَوِ الْقَاضِي هَذَا قَوْل طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَاضِي مِصْرَ فَإِنَّهُ قَال:
__________
(1) الطرق الحكمية ص 93، 100 ـ 103.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به في قصة ابن أبي الحقيق ". أوردها ابن القيم في الطرق الحكمية ولم نعثر عليها في كتب الحديث التي بين أيدينا.

(13/145)


يُمْتَحَنُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي وَهَذَا قَوْل بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ (أَبُو يَعْلَى وَالْمَاوَرْدِيُّ) وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِثْبَاتِ أَسْبَابِهَا وَتَحَقُّقِهَا.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ (1) . وَهَذَا قَوْل أَصْبَغَ وَكَثِيرٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الثَّلاَثَةِ بَل قَوْل أَكْثَرِهِمْ لَكِنَّ حَبْسَ الْمُتَّهَمِ عِنْدَهُمْ أَبْلَغُ مِنْ حَبْسِ الْمَجْهُول.
ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ عَنْ بِدْعَتِهِ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُحْبَسُ إِلَى الْمَوْتِ.
وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا عُقُوبَتَهُ لِلْوَالِي دُونَ الْقَاضِي قَالُوا: وِلاَيَةُ أَمِيرِ الْحَرْبِ مُعْتَمَدُهَا الْمَنْعُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَقَمْعُ أَهْل الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ وَذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالْعُقُوبَةِ لِلْمُتَّهَمِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالإِْجْرَامِ بِخِلاَفِ وِلاَيَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا إِيصَال الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا قَال شَيْخُنَا: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ لَكِنَّ كُل
__________
(1) في الأصل (يضرب) بدون (لا) وهو خطأ مطبعي.

(13/145)


وَلِيِّ أَمْرٍ يَفْعَل مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ وَلِيَّ الصَّدَقَاتِ يَمْلِكُ مِنَ الْقَبْضِ وَالصَّرْفِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ وَالِي الْخَرَاجِ وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ وَالِي الْحَرْبِ وَوَالِي الْحُكْمِ يَفْعَل كُلٌّ مِنْهُمَا مَا اقْتَضَتْهُ وِلاَيَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ رِعَايَةِ الْعَدْل وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرِيعَةِ (1) .
__________
(1) الطرق الحكمية لابن القيم ص 103 إلى 105.

(13/146)


تَقْسِيمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْسِيمُ فِي اللُّغَةِ: التَّجْزِئَةُ وَالتَّفْرِيقُ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَسَّمَ، يُقَال: قَسَّمَ الشَّيْءَ: إِذَا جَزَّأَهُ أَجْزَاءً، وَقَسَّمَ الْقَوْمَ: فَرَّقَهُمْ (1) وَيَسْتَعْمِل الأُْصُولِيُّونَ لَفْظَ التَّقْسِيمِ بِمَعْنَى حَصْرِ الأَْوْصَافِ الَّتِي يُظَنُّ صَلاَحِيَّتُهَا عِلَّةً فِي الأَْصْل.
وَقَدْ أَطْلَقَ الأُْصُولِيُّونَ مَجْمُوعَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى حَصْرِ الأَْوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِي الأَْصْل - الْمَقِيسِ عَلَيْهِ - وَإِبْطَال مَا لاَ يَصْلُحُ مِنْهَا لِلْعِلِّيَّةِ، وَتَعْيِينِ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى السَّبْرِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّقْسِيمِ كَمَا فَعَل الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ.
قَال السَّعْدُ فِي حَاشِيَةِ الْعَضُدِ: عِنْدَ التَّحْقِيقِ الْحَصْرُ رَاجِعٌ إِلَى التَّقْسِيمِ، وَالسَّبْرُ إِلَى الإِْبْطَال (2) .
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة: " قسم ".
(2) حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 2 / 270 ط الحلبي، وشرح العضد لمختصر المنتهى الأصولي لابن حاجب الملكي مع حاشية 2 / 236 ط الكليات الأزهرية، وإرشاد الفحول / 213، وفواتح الرحموت 2 / 299 ط الأميرية، والإبهاج في شرح المنهاج 3 / 77 ط دار الكتب العلمية.

(13/146)


وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمُ التَّقْسِيمَ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: مَمْنُوعٌ،
وَالآْخَرُ: مُسَلَّمٌ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي أَحَدِهِمَا (1) .
وَيُرَادُ بِالتَّقْسِيمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَبْيِينُ الأَْقْسَامِ، وَيُرَادِفُهُ الْقِسْمَةُ، وَهِيَ تَعْيِينُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ بِمِقْيَاسٍ مَا، كَالْكَيْل وَالْوَزْنِ وَالذِّرَاعِ (2)
فَالْقِسْمَةُ وَالتَّقْسِيمُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْقِسْمَةِ، هَل هِيَ مُجَرَّدُ إِفْرَازٍ أَوْ مُبَادَلَةٍ.
وَالإِْفْرَازُ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ، وَهُوَ عَزْل شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَتَمْيِيزُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّقْسِيمِ وَالإِْفْرَازِ، أَنَّ التَّقْسِيمَ قَدْ يَكُونُ بِالإِْفْرَازِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ بَيَانُ الْحِصَصِ
__________
(1) إرشاد الفحول ص 231، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4 77 ط المكتب الإسلامي، والبناني على شرح جمع الجوامع 2 33 ط الحلبي.
(2) طلبة الطلبة ص 121 ط المطبعة العامرة. والأقسام جمع ومفرده القسم (بالكسر) يطلق على الحصة والنصيب، المصباح المنير مادة: " قسم ".
(3) المصباح المنير مادة: " فرز " ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 6، 101، م1046، 1114) والموسوعة الفقهية 5 / 286.

(13/147)


وَالأَْقْسَامِ دُونَ إِفْرَازٍ كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ:
2 - التَّنْقِيحُ فِي اللُّغَةِ: التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَنَاطُ هُوَ الْعِلَّةُ.
وَالْمُرَادُ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ، إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالأَْصْل بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَال: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ إِلاَّ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لَهُ.
وَمِثَالُهُ قِيَاسُ الأَْمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ الذُّكُورَةَ، وَهَذَا الْفَرْقُ مُلْغَى بِالإِْجْمَاعِ إِذْ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلاَلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ، إِمَّا اسْتِقْلاَلاً أَوِ اعْتِبَارًا، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ لاَ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
3 - يَعْتَبِرُ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَمِنَ الْعِلَل الَّتِي تُعْرَفُ بِوَاسِطَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ قَوْل مُجْتَهِدٍ مَثَلاً - فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ فِي الرِّبَوِيَّةِ: بَحَثْتُ عَنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ فَمَا وَجَدْتُ ثَمَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلرِّبَوِيَّةِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، إِلاَّ الطَّعْمَ أَوِ الْقُوتَ أَوِ الْكَيْل،
__________
(1) إرشاد الفحول ص 221، 222، والإبهاج في شرح المنهاج 3 / 80، 81.

(13/147)


وَلَكِنَّ كُلًّا مِنَ الطَّعْمِ وَالْقُوتِ لاَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّل، فَتَعَيَّنَ الْكَيْل، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الرِّبَا فِي كُل الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ مَكِيلاَتٍ أَوْ مَوْزُونَاتٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْل الأُْصُول جَعْل السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ مَسْلَكًا لِلْعِلِّيَّةِ.
قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: السَّبْرُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِ أَوْصَافِ الْمَحَل وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إِلَى إِبْطَال مَا يَظْهَرُ إِبْطَالُهُ مِنْهَا، فَإِذًا لاَ يَكُونُ مِنَ الأَْدِلَّةِ، وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الأُْصُولِيُّونَ فِي ذَلِكَ (1) .
وَلِلتَّوَسُّعِ فِي أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ، حَوْل حُجِّيَّةِ السَّبْرِ، وَالتَّقْسِيمِ، وَشُرُوطِ الاِحْتِجَاجِ بِهِ، وَأَقْسَامِهِ، وَطُرُقِ الْحَذْفِ. انْظُرِ (الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ) .

ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
تَقْسِيمُ مَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ:
4 - إِذَا ظَهَرَ الإِْمَامُ عَلَى بِلاَدِ الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلاَثَةٍ: الْمَتَاعُ وَالأَْرَاضِي وَالرِّقَابُ.
أَمَّا الْمَتَاعُ فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ تَخْمِيسُهُ، وَتَقْسِيمُ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
__________
(1) إرشاد الفحول ص 213، 214 ط الحلبي، وشرح العضد لمختصر المنتهى الأصولي مع حواشيه 2 / 236 وما بعدها، والأحكام في أصول الإحكام للآمدي 3 / 264، والمنخول ص 350، وفواتح الرحموت، 2 / 299 ط الأميرية.

(13/148)


غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} (1) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَل لِنَفْسِهِ الْخُمُسَ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ لأَِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ (2) .
وَإِنْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يَقْسِمَ الأَْثْمَانَ فَذَلِكَ لَهُ (3) .
وَهُنَاكَ تَفَاصِيل فِي كَيْفِيَّةِ تَقْسِيمِ الْخُمُسِ تُنْظَرُ فِي " غَنِيمَةٌ ".
أَمَّا الأَْرَاضِي فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ (4) ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى فِي الأَْرَضِينَ وَغَيْرِهَا {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ (5) وَبَنِيَّ النَّضِيرِ وَخَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (6) .
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) أحكام القرآن، للجصاص 3 / 75 ط المطبعة البهية المصرية، والزيلعي 3 / 254، وبدائع الصنائع 7 / 118 ط الجمالية، المنتقى 3 / 178، وبداية المجتهد 1 / 390 ط دار المعرفة، وكشاف القناع 3 / 88، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 257.
(3) المنتقى 3 / 178.
(4) زاد المعاد 3 / 117 ط مؤسسة الرسالة، وصحيح مسلم بشرح النووي 12 / 91ط المطبعة المصرية، والبناية 5 / 686، وبدائع الصنائع 7 / 118، والقوانين الفقهية ص 100، والإقناع 2 / 257، وكشاف القناع 3 / 94.
(5) حديث: " تقسيم أرض بني قريظة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 329 ـ ط السلفية) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(6) حديث: " تقسيم أرض بني النضير " ذكره ابن كثير في السيرة النبوية نقلا عن ابن إسحاق في مغازيه. (السيرة 3 / 148 ـ نشر دار إحياء التراث) .

(13/148)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّ أَرْضَ الزِّرَاعَةِ الْمَفْتُوحَ بَلَدُهَا عَنْوَةً، وَدُورَ الْكُفَّارِ لاَ تُقَسَّمُ، بَل تَصِيرُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ فَتْحِ بَلَدِهَا، وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
5 - ثُمَّ اخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ التَّقْسِيمِ أَمْرًا مُلْزِمًا لِلإِْمَامِ أَمْ أَنَّ لَهُ خِيَارَاتٍ أُخْرَى:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ - إِنْ شَاءَ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيِهِمُ الْخَرَاجَ، كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - بِوُجُوبِ تَقْسِيمِ الأَْرَاضِي كَالْمَتَاعِ، لإِِطْلاَقِ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَعَمَلاً بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ تَخْيِيرَ الإِْمَامِ بَيْنَ تَقْسِيمِ الأَْرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَبَيْنَ وَقْفِهَا
__________
(1) القوانين الفقهية ص 100 ط دار القلم، والفواكه الدواني 1 / 470، والإنصاف 4 / 190.
(2) البناية 5 / 686، والقوانين الفقهية ص 100.
(3) الإقناع 2 / 275، والإنصاف 4 / 190. وحديث: " تقسيم أرض خيبر " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 490 ـ ط السلفية) من حديث عمر رضي الله عنه.

(13/149)


بِلَفْظٍ يَحْصُل بِهِ الْوَقْفُ (1) .

وَأَمَّا الرِّقَابُ: فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهَا بَيْنَ عِدَّةِ خِصَالٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَسْرَى) .

تَقْسِيمُ التَّرِكَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَدِينَةً وَأُخْرِجَتْ مِنْهَا سَائِرُ الْحُقُوقِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - عَدَمَ جَوَازِ تَقْسِيمِهَا؛ لأَِنَّ الْوَرَثَةَ لاَ يَمْلِكُونَهَا، إِذِ الدَّيْنُ الْمُسْتَغْرِقُ يَمْنَعُ مِنْ دُخُول التَّرِكَةِ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ. فَلِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ بِحَسَبِ حِصَصِهِمُ الإِْرْثِيَّةِ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لاَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ تَصَرَّفُوا فِي التَّرِكَةِ بِالتَّقْسِيمِ فَتَصَرُّفُهُمْ صَحِيحٌ، فَإِنْ قَضَوُا الدَّيْنَ وَإِلاَّ نُقِضَتْ تَصَرُّفَاتُهُمْ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ السَّيِّدُ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَ الْجِنَايَةِ (3) . وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (إِرْثٌ، وَتَرِكَةٌ، وَقِسْمَةٌ) .
__________
(1) الإنصاف 4 / 190.
(2) تبيين الحقائق 5 / 52، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 173، وجواهر الإكليل 2 / 327، 328، والقرطبي 5 / 61، والمغني 9 / 220، 221، ط الرياض.
(&#
x663 ;) المغني 9 / 220، 221، والتحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية ص 47 ط الحلبي.

(13/149)


تَقْصِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّقْصِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَصَّرَ. يُقَال: قَصَّرَ ثَوْبَهُ: إِذَا جَعَلَهُ قَصِيرًا، وَقَصَّرَ شَعْرَهُ: إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَقَصَّرَ فِي الأَْمْرِ: تَوَانَى فِيهِ وَفَرَّطَ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعَدِّي:
2 - التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ: مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ (2) . وَفِي الشَّرْعِ: إِضْرَارٌ بِالْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَالتَّعَدِّي أَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ بَابِ التَّرْكِ وَالإِْهْمَال، أَمَّا التَّعَدِّي فَفِيهِ عَمَلٌ وَعُدْوَانٌ.

ب - الْقَصُّ:
3 - الْقَصُّ: الأَْخْذُ مِنَ الشَّعْرِ بِالْمِقْرَاضِ خَاصَّةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْصِيرِ الشَّعْرِ، أَنَّ التَّقْصِيرَ إِزَالَةُ الشَّعْرِ بِأَيِّ آلَةٍ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " قصر ".
(2) مختار الصحاح مادة: " عدا ".
(3) قليوبي 2 / 118، والقاموس المحيط مادة: " قص ".

(13/150)


حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّقْصِيرِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلَّقِهِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي:

تَقْصِيرُ الشَّعْرِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَقْصِيرَ الشَّعْرِ أَوْ حَلْقَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ نُسُكٌ يُثَابُ عَلَيْهِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (2) ، وَخَبَرِ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، وَالْمُقَصِّرِينَ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، فَلاَ يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ وَيَحْصُل التَّحَلُّل بِدُونِهِ (4) .
وَالتَّقْصِيرُ أَفْضَل لِمَنِ اعْتَمَرَ قَبْل الْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَوْ حَلَقَ فِيهِ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَنْبُتْ لَهُ شَعْرٌ، لِيَكُونَ الْحَلْقُ لِلْحَجِّ. وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْمَرْأَةِ، لِمَا فِي الْحَلْقِ مِنَ الْمُثْلَةِ فِي حَقِّهَا (5) .
أَمَّا هَل هُوَ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلاَ يُجْبَرُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 181ـ 182، وحاشية الدسوقي 2 / 46، وقليوبي 2 / 118، والمغني 3 / 390ـ 435.
(2) سورة الفتح / 27.
(3) حديث: " اللهم ارحم المحلقين والمقصرين " أخرجه البخاري ومسلم بلفظ " اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: والمقصرين ": (الفتح 3 / 561 ط السلفية، ومسلم 2 / 945 ط عيسى الحلبي) .
(4) قليوبي 2 / 118، والمغني 3 / 435.
(5) المصادر السابقة.

(13/150)


بِالدَّمِ، أَوْ وَاجِبٌ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَقَدْرُ التَّقْصِيرِ مِنَ الشَّعْرِ، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَحَلُّلٌ، وَحَلْقٌ) .

التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ:
6 - التَّقْصِيرُ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِيمَا لاَ ضَمَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالإِْجَارَةِ، لأَِنَّ الْمُقَصِّرَ مُتَسَبِّبٌ فِي تَلَفِهَا بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حِفْظِهَا وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَالتَّقْصِيرُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ هُوَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ تَقْصِيرًا عُرْفًا فِي حِفْظِ مِثْل نَوْعِ الأَْمَانَةِ.
وَيَخْتَلِفُ التَّقْصِيرُ بِاخْتِلاَفِ طَبِيعَةِ الأَْمْرِ الْمُقَصَّرِ فِيهِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلتَّقْصِيرِ فِي أَبْوَابِهَا الْمُخْتَلِفَةِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.

تَقْصِيرُ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ:
7 - إِذَا قَصَّرَ الْحَاكِمُ فِي النَّظَرِ فِي مُسْتَنَدِ حُكْمِهِ، كَأَنْ يَحْكُمَ بِجَلْدِ إِنْسَانٍ أَوْ قَطْعِهِ أَوْ قَتْلِهِ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ، فَجُلِدَ أَوْ قُتِل أَوْ قُطِعَ، فَبَانَ الشُّهُودُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ: كَأَنْ بَانَا كَافِرَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ، أَوْ صَبِيَّيْنِ، ضَمِنَ الْحَاكِمُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْحَثْ
__________
(1) كشاف القناع4 / 179، والوجيز 1 / 284، والفروق 4 / 27، وحاشية ابن عابدين 4 / 494، وحاشية الدسوقي 3 / 419، ونيل المآرب 1 / 408، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 341، المقنع 2 / 157.

(13/151)


حَالَةَ الشُّهُودِ، أَوْ قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ؛ لأَِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِي التَّلَفِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِحُكْمِهِ (2) .
أَمَّا هَل يَضْمَنُ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ، أَوْ تَتَحَمَّل عَنْهُ الْعَاقِلَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَال، فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) .

تَقْصِيرُ الطَّبِيبِ:
8 - يَضْمَنُ الطَّبِيبُ إِذَا عَالَجَ الْمَرِيضَ فَقَصَّرَ فِي مُعَالَجَتِهِ، أَوْ أَخْطَأَ فِيهَا خَطَأً فَاحِشًا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .

(تَقْصِيرُ الإِْزَارِ:
9 - تَقْصِيرُ الإِْزَارِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَاجِبٌ إِذَا خِيفَ تَنَجُّسُهُ، وَمُحَرَّمٌ إِسْبَالُهُ لِلْخُيَلاَءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الأَْثَرِ مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) الوجيز 2 / 184، وقليوبي 4 / 210، والمغني 9 / 257، وحاشية الدسوقي 4 / 355.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 342ـ 396.
(3) الوجيز 2 / 184، وقليوبي 4 / 210، وحاشية الدسوقي 4 / 355، ونيل المآرب 1 / 434، ابن عابدين 5 / 43.
(4) حديث: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 254ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1652ـ ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.

(13/151)


وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ تَقْصِيرَهُ مُسْتَحَبٌّ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْبَالٌ) .

(تَقْصِيرُ الصَّلاَةِ:
10 - يَنْبَغِي تَقْصِيرُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ لِلإِْمَامِ الَّذِي يَخْشَى فِتْنَةَ مَنْ وَرَاءَهُ، أَوْ ضَرَرَهُمْ بِالتَّطْوِيل لِحَدِيثِ: يَا مُعَاذُ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (1) وَلِحَدِيثِ: مَنْ أَمَّ بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ (2) وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ مَنْ وَرَاءَهُ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيل. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ إِمَامَةٌ (6 213)

تَقْصِيرُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
11 - يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ طُول صَلاَةِ الرَّجُل وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ فِي فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ. (3)
__________
(1) حديث: " يا معاذ أفتان أنت " أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري (فتح الباري 2 / 200 ط السلفية) .
(2) حديث: " من أم بالناس فليتجوز. . . . " أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود (فتح الباري 2 / 200 ـ ط السلفية) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 263، ونهاية المحتاج 2 / 326، والمغني 2 / 308، وحديث: " وإن طول صلاة الرجل وقصر خطبته. . " أخرجه مسلم (2 / 594 ـ ط عيسى الحلبي) .

(13/152)


التَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ:
12 - يَسْقُطُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِمَا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
أَمَّا هَل طَلَبُ الشُّفْعَةِ فَوْرِيٌّ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، فَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيِ: (الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالشُّفْعَةُ) .
__________
(1) الوجيز 1 / 143، 1 / 220، والمغني 5 / 224، والطحطاوي 3 / 57، 4 / 121، وكشاف القناع 3 / 224، وشرح الزرقاني 6 / 181.

(13/152)