الموسوعة الفقهية الكويتية

خَاتَمٌ
انْظُرْ تَخَتُّمٌ
خَادِمٌ
انْظُرْ خِدْمَةٌ.

خَارِجٌ
انْظُرْ خُرُوجٌ.

خَارِجِيٌّ
انْظُرْ فِرَقٌ

(19/5)


خَاصٌّ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَاصُّ فِي اللُّغَةِ: مِنْ خَصَّ الشَّيْءَ يَخُصُّهُ خُصُوصًا فَهُوَ خَاصٌّ مِنْ بَابِ قَعَدَ: ضِدُّ عَمَّ، وَاخْتَصَّ مِثْلُهُ، وَالْخَاصَّةُ خِلاَفُ الْعَامَّةِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ مَا وُضِعَ لِوَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ أَوْ كَثِيرٍ مَحْصُورٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاحِدُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ كَزَيْدٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَامُّ:
2 - الْعَامُّ فِي اللُّغَةِ: الأَْمْرُ الشَّامِل الْمُتَعَدِّدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الأَْمْرُ لَفْظًا أَمْ غَيْرَ لَفْظٍ؛ يُقَال عَمَّهُمُ الْخَيْرُ أَوِ الْمَطَرُ: إِذَا شَمِلَهُمْ، وَأَحَاطَ بِهِمْ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، بِوَضْعٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ (3)
__________
(1) المصباح المنير.
(2) إرشاد الفحول ص 32، وتيسير التحرير 1 / 264، وتنقيح التوضيح 1 / 33، والبحر المحيط للزركشي 3 / 240 ط: الوزارة.
(3) شرح البدخشي 2 / 56، إرشاد الفحول ص 105، والبحر المحيط 3 / 5، وانظر التنقيح والتوضيح 1 / 32.

(19/5)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - إِذَا وَرَدَ فِي النَّصِّ لَفْظٌ خَاصٌّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَدْلُولِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَإِرَادَةُ مَعْنًى آخَرَ مِنْهُ (1) .
وَإِنْ تَعَارَضَ الْخَاصُّ مَعَ الْعَامِّ بِأَنْ دَل كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى خِلاَفِ مَا يَدُل عَلَيْهِ الآْخَرُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاصَّ يُخَصِّصُ الْعَامَّ، سَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّ الْخَاصَّ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَامِّ، أَمْ تَقَارَنَا، أَمْ عُلِمَ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْخَاصِّ، أَمْ جُهِل التَّارِيخُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ نُسِخَ مِنَ الْعَامِّ بِقَدْرِ مَا يَدُل عَلَيْهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَامُّ نُسِخَ الْخَاصُّ، وَإِنْ جُهِل الْمُتَقَدِّمُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ. إِلاَّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ بِمُرَجِّحٍ (3) ، وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ لِلْمَوْسُوعَةِ.

الأَْجِيرُ الْخَاصُّ:
4 - هُوَ مَنْ يَعْمَل لِوَاحِدٍ عَمَلاً مُؤَقَّتًا بِالتَّخْصِيصِ، كَأَنِ اسْتُؤْجِرَ لِخِدْمَةٍ، أَوْ خِيَاطَةٍ، يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا وَنَحْوَهُ (4)
. وَيَجِبُ عَلَى الأَْجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَقُومَ بِالْعَمَل فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ كُلِّهِ،
__________
(1) تيسير التحرير في أصول الفقه 1 / 370.
(2) الإبهاج في شرح المنهاج 6 / 168 حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 77، حاشية التفتازاني 2 / 148.
(3) المصادر السابقة، تيسير التحرير 1 / 375 - 376، المستصفى للغزالي 2 / 102 - 103.
(4) ابن عابدين 5 / 43 مطالب أولي النهى 3 / 673 - 674.

(19/6)


سِوَى زَمَنِ التَّطَهُّرِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَزَمَنِ فِعْلِهَا بِسُنَنِهَا الْمُؤَكَّدَةِ، وَصَلاَةِ جُمُعَةٍ، وَعِيدٍ، فَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ شَرْعًا، وَلاَ يُنْقَصُ مِنَ الأُْجْرَةِ، وَلاَ يُصَلِّي النَّوَافِل، فَإِنْ صَلاَّهَا نَقَصَ مِنْ أُجْرَتِهِ (1) .
وَلاَ يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ أَنْ يُمَكِّنَ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلْجَمَاعَةِ، إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فَفِيهِ احْتِمَالٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ مِمَّنْ يُطِيل الصَّلاَةَ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَطْعًا. (2)
وَقَال الْمَجْدُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: ظَاهِرُ النَّصِّ يَمْنَعُ مِنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ إِلاَّ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ أَوْ إِذْنٍ (3) .
وَسَبْتُ الْيَهُودِ، وَيَوْمُ الأَْحَدِ لِلنَّصَارَى مُسْتَثْنًى مِنْهُ كَذَلِكَ شَرْعًا، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: هَل يُلْحَقُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ أَعْيَادِهِمْ؟ فَقَال: فِيهِ نَظَرٌ، لاَ سِيَّمَا الَّتِي تَدُومُ أَيَّامًا، وَالأَْقْرَبُ الْمَنْعُ؛ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهَا فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْل النَّاسِ لَهَا، وَتَقْصِيرِ الذِّمِّيِّ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ (4) .
وَلاَ يَجُوزُ لِلأَْجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَعْمَل لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ، فَإِنْ عَمِل لِغَيْرِهِ فَأَضَرَّهُ بِذَلِكَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الأَْجِيرِ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَةٍ (5) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 44، مطالب أولي النهى 3 / 673، وروضة الطالبين 5 / 260، أسنى المطالب 2 / 436
(2) أسنى المطالب 2 / 260.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 674.
(4) أسنى المطالب 2 / 436.
(5) ابن عابدين 5 / 44، مطالب أولي النهى 3 / 674.

(19/6)


الطَّرِيقُ الْخَاصُّ:
5 - الطَّرِيقُ الْخَاصُّ هُوَ الْمَمَرُّ غَيْرُ النَّافِذِ الْمَحْصُورُ بِدُورِ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ
، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ غَيْرِ النَّافِذِ الْمَمْلُوكُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ (أَيْ كَوْنُهُ غَيْرَ نَافِذٍ) لِعِلَّةِ الْمِلْكِ فَقَدْ يَنْفُذُ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَقَدْ يَسُدُّ مَنْفَذَهُ هُوَ لِلْعَامَّةِ لَكِنَّ ذَلِكَ (أَيْ عَدَمَ النُّفُوذِ) دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ غَالِبًا، فَأُقِيمَ مُقَامَهُ وَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ حَتَّى يَدُل الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ - وَهُمْ مَنْ نَفَذَ بَابُ دَارِهِ إِلَيْهِ - أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَلَيْسَ لأَِحَدِهِمْ أَنْ يَشْرَعَ إِلَيْهِ جَنَاحًا، أَوْ أَنْ يَبْنِيَ دَكَّةً إِلاَّ بِإِذْنِ الآْخَرِينَ (1) . وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ فِي: بَابِ الصُّلْحِ، وَأَحْكَامِ الْجِوَارِ، وَبَابِ الشَّرِكَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ، وَيَذْكُرُهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي فَصْل الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَرِيقٌ) .

الْمَال الْخَاصُّ:
6 - الْمَال الْخَاصُّ هُوَ الْمَال الَّذِي يَمْلِكُهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ أَشْخَاصٌ مَحْصُورُونَ
، وَمِنْ أَحْكَامِهِ: جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِأَصَالَةٍ أَوْ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِلاَيَةٍ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 380 - 381، قليوبي 2 / 310 - 311، 312، نهاية المحتاج 4 / 392 وما بعدها، الإنصاف 5 / 254 وما بعده، جواهر الإكليل 2 / 123 وما بعده.

(19/7)


وَيُقْطَعُ سَارِقُهُ بِشُرُوطِهِ، وَيُقَابِلُهُ الْمَال الْعَامُّ: كَبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَكُل مَا كَانَ نَفْعُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً. حَيْثُ لاَ قَطْعَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) ، وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ: فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالإِْجَارَةِ، وَفِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْمُعَامَلاَتِ، وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ.
__________
(1) الزيلعي 3 / 218، وفتح القدير 5 / 138، والدسوقي 4 / 138، وقليوبي 4 / 189، والمغني لابن قدامة 8 / 277.

(19/7)


خَالٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَال فِي اللُّغَةِ: أَخُو الأُْمِّ وَإِنْ عَلَتْ، وَجَمْعُهُ أَخْوَالٌ، وَأُخْتُ الأُْمِّ خَالَةٌ، وَالْجَمْعُ خَالاَتٌ، يُقَال: أَخْوَل الرَّجُل، فَهُوَ مُخْوِلٌ: أَيْ كَرِيمُ الأَْخْوَال، وَيُقَال أَيْضًا: أُخْوِل بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُول (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَمُّ:
2 - الْعَمُّ فِي اللُّغَةِ أَخُو الأَْبِ، أَوْ أَخُو الْجَدِّ، وَإِنْ عَلاَ، وَجَمْعُهُ أَعْمَامٌ وَالْمَصْدَرُ عُمُومَةٌ، يُقَال: أَعَمَّ الرَّجُل، إِذَا كَرُمَ أَعْمَامُهُ، يُسْتَعْمَل مَبْنِيًّا لِلْفَاعِل وَلِلْمَفْعُول (2)
تَوْرِيثُ الْخَال:
3 - الْخَال مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذُو الرَّحِمِ، هُوَ كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ، وَلاَ عَصَبَةٍ.
__________
(1) تاج العروس مادة: (خول) ، وتفسير الرازي 10 / 29.
(2) المصباح المنير مادة: (عمم) .

(19/8)


وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْرِيثِ الْخَال كَسَائِرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَال يُوَرَّثُ عِنْدَ فَقْدِ الْعَصَبَةِ وَذَوِي الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَيَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ جَمِيعَ الْمَال، بِالْقَرَابَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَصَبَةٌ، وَلاَ ذُو فَرْضٍ مُطْلَقًا، وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، إِنْ وُجِدَ لِعَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِمَا (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2) أَيْ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِحَدِيثِ: الْخَال وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ (3) وَقَالُوا: رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. وَغَيْرُهُمْ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْخَال لاَ يَرِثُ كَسَائِرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، بَل يَكُونُ الْمَال لِبَيْتِ الْمَال (4) وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ: قَال (5) : إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُل ذِي حَقٍّ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 5 / 105، ابن عابدين 5 / 504، المغني لابن قدامة 6 / 229.
(2) سورة الأنفال / 75.
(3) حديث: " الخال وارث من لا وارث له " أخرجه الترمذي (3 / 421 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: " حسن صحيح ".
(4) شرح الزرقاني 8 / 213، أسنى المطالب 3 / 6.
(5) حديث: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه " أخرجه أبو داود (3 / 824 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 92 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(19/8)


حَقَّهُ وَلَيْسَ فِي الآْيَاتِ ذِكْرٌ لِلْخَال، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِخَبَرِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكِبَ إِلَى قُبَاءٍ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي مِيرَاثِ الْعَمَّةِ، وَالْخَالَةِ، فَأُنْزِل عَلَيْهِ لاَ مِيرَاثَ لَهُمَا (1) وَقَالُوا: وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ وَارِثًا بِالْقَرَابَةِ، لَقُدِّمَ عَلَى الْمُعْتِقِ؛ لأَِنَّ الْقَرَابَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الإِْرْثِ بِالْوَلاَءِ. وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ أَفْتَوْا: بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَال، رُدَّ الْبَاقِي مِنَ الْمَال عَلَى أَهْل الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ إِرْثًا، فَإِنْ فُقِدُوا صُرِفَ لِذَوِي الأَْرْحَامِ (2) . التَّفْصِيل فِي (إِرْثٌ ف 15) .

وِلاَيَةُ الْخَال عَلَى الصَّغِيرَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْخَال عَلَى الصَّغِيرَةِ بِالتَّزْوِيجِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَال وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ عَصَبَةً، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالأَْجْنَبِيِّ (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٌ) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْخَال يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ عِنْدَ
__________
(1) خبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير الله. أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 263 - ط الرسالة) من حديث عطاء بن يسار مرسلا.
(2) المصادر السابقة.
(3) قليوبي 3 / 224، كشاف القناع 5 / 52.

(19/9)


فَقْدِ الْعَصَبَةِ وَفَقْدِ ذِي الرَّحِمِ الأَْقْرَبِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي الْوِلاَيَةِ عَلَيْهَا (1) .

نَفَقَةُ الْخَال:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَال. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَال لاَ تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَال كَكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِنْفَاقِ الْخَال عَلَى وَلَدِ أُخْتِهِ (3)

حَضَانَةُ الْخَال:
6 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ لاَ حَضَانَةَ لِلْخَال؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحْرَمًا وَارِثًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ عَصَبَةً عِنْدَ آخَرِينَ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْمُقَدَّمُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْخَال لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي: (حَضَانَةٌ) (4) .

تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْخَال:
7 - الْخَال قَرِيبٌ مَحْرَمٌ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ ابْنَةِ أُخْتِهِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 313.
(2) حاشية العدوي 2 / 123، الوجيز 2 / 116، نهاية المحتاج 7 / 218، المغني 7 / 586.
(3) البدائع 4 / 30، ابن عابدين 2 / 687، فتح القدير 3 / 350.
(4) بدائع الصنائع 4 / 42، حاشية العدوي 2 / 121، نهاية المحتاج 7 / 228، المغني 7 / 623، كشاف القناع 5 / 496.

(19/9)


بِاتِّفَاقِ أَهْل الْمِلَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ: {وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} - (1)

وِلاَيَةُ الْخَال عَلَى مَال الصَّغِيرِ:
8 - لَيْسَ لِلْخَال وِلاَيَةٌ عَلَى مَال الصَّغِيرِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي: (وِلاَيَةٌ) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) الوجيز 1 / 176، حاشية البجيرمي 2 / 441، وحاشية الزرقاني 6 / 297، ابن عابدين 4 / 411، وكشاف القناع 3 / 447.

(19/10)


خَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَالَةُ أُخْتُ الأُْمِّ، وَالأُْمُّ كُل مَنِ انْتَسَبْتَ إِلَيْهَا بِوِلاَدَةٍ، سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الأُْمِّ حَقِيقَةً وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، أَوْ مَجَازًا، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَكَ وَإِنْ عَلَتْ. مِنْ ذَلِكَ جَدَّتُكَ أُمُّ أُمِّكَ وَأُمُّ أَبِيكَ، وَجَدَّتَا أُمِّكَ، وَجَدَّتَا أَبِيكَ، وَجَدَّاتُ أَجْدَادِكَ، وَجَدَّاتُ جَدَّاتِكَ وَإِنْ عَلَوْنَ (1) . وَالْجَمِيعُ جَدَّاتٌ.

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْخَالَةِ:
تَحْرِيمُ الْخَالَةِ:
2 - الْخَالَةُ بِالنَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ مِنَ الْمَحَارِمِ الْمُحَرَّمِ نِكَاحُهُنَّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ} (2) وَخَبَرُ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ.
__________
(1) لسان العرب والمغني 6 / 568.
(2) سورة النساء / 23.
(3) حديث: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 253 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1072 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.

(19/10)


مِيرَاثُ الْخَالَةِ:
3 - الْخَالَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَتَوْرِيثُهُمْ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَصْل الْمَذْهَبَيْنِ: إِنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ لاَ يَرِثُونَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يَرِثُونَ عِنْدَ فَقْدِ الْعَصَبَةِ، وَذَوِي الْفُرُوضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ) (وَخَالٌ) .

حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْخَالَةِ:
4 - الْخَالَةُ مِمَّنْ لَهُنَّ حَقُّ الْحَضَانَةِ، أَمَّا تَرْتِيبُهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ) .

نَفَقَةُ الْخَالَةِ:
5 - لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْخَالَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْخَالَةِ بِالنَّسَبِ كَكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (خَالٌ، وَنَفَقَةٌ) .
أَمَّا الْخَالَةُ بِالرَّضَاعِ: فَلَيْسَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ، وَلاَ النَّفَقَةُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: ر: (نَفَقَةٌ، رَضَاعٌ، حَضَانَةٌ) .
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 6، وشرح الزرقاني 8 / 213.
(2) ابن عابدين 5 / 504، والمغني 6 / 229.

(19/11)


خَبَثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَبَثُ فِي اللُّغَةِ هُوَ كُل مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخِسَّةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولاً، وَيَتَنَاوَل مِنَ الاِعْتِقَادِ الْكُفْرَ، وَمِنَ الْقَوْل: الْكَذِبَ، وَمِنَ الْفِعَال الْقَبِيحَ (1) قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: الْخَبَثُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: الْمَكْرُوهُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَلاَمِ فَهُوَ الشَّتْمُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمِلَل: فَهُوَ الْكُفْرُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّعَامِ: فَهُوَ الْحَرَامُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّرَابِ فَهُوَ الضَّارُّ، وَالْخَبَثُ فِي الْمَعَادِنِ مَا نَفَاهُ الْكِيرُ مِمَّا لاَ خَيْرَ فِيهِ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّجْسُ:
2 - الرِّجْسُ: هُوَ النَّتِنُ وَالْقَذِرُ، قَال الْفَارَابِيُّ: كُل
__________
(1) الكليات في المادة.
(2) المجموع للنووي 2 / 75، وتبيين اللغة، ولسان العرب المحيط، مادة: (خبث) .
(3) حاشية الدسوقي 1 / 33، شرح الزرقاني 1 / 5.

(19/11)


شَيْءٍ يُسْتَقْذَرُ فَهُوَ رِجْسٌ، وَقِيل الرِّجْسُ: النَّجِسُ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الرِّجْسُ هُوَ النَّجِسُ الْقَذِرُ الْخَارِجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يَكُونُ الرِّجْسُ، وَالْقَذِرُ، وَالنَّجَاسَةُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَكُونُ الرِّجْسُ، وَالْقَذِرُ بِمَعْنَى غَيْرِ النَّجَاسَةِ.
وَقَال النَّقَّاشُ: الرِّجْسُ النَّجِسُ (1) ، وَمِثْل الرِّجْسِ: الرِّكْسُ وَالرِّجْزُ.

ب - الدَّنَسُ:
3 - الدَّنَسُ (بِفَتْحَتَيْنِ) الْوَسَخُ. يُقَال: دَنِسَ الثَّوْبُ أَيْ تَوَسَّخَ، وَأَيْضًا تَدَنَّسَ، وَدَنَّسَهُ غَيْرُهُ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ الْخَبَثِ مَأْمُورٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، وَاخْتَلَفُوا هَل ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟
فَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ إِزَالَةِ الْخَبَثِ مُطْلَقًا، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ، فِي خَارِجِ الصَّلاَةِ، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3) وَبِحَدِيثِ: وَكَانَ الآْخَرُ لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْل (4)
__________
(1) المصباح المنير مادة (رجس) .
(2) مختار الصحاح، قليوبي 1 / 42 - 68، الاختيار 1 / 32.
(3) سورة المدثر / 4.
(4) حديث: " وكان الآخر لا يستنزه من البول ". أخرجه مسلم (1 / 241 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.

(19/12)


أَمَّا إِزَالَةُ الْخَبَثِ لِمُرِيدِ الصَّلاَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ إِلاَّ مَا كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ (1) ر: (شُرُوطُ الصَّلاَةِ) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي حُكْمِ إِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ عَنْ ثَوْبِ الْمُصَلِّي، وَبَدَنِهِ، وَمَكَانِهِ، قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إِزَالَةَ الْخَبَثِ عَمَّا ذُكِرَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ ذَكَرَهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَسَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى إِزَالَتِهَا أَمْ لَمْ يَقْدِرْ، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا وُجُودَهَا، وَقَدَرَ عَلَى إِزَالَتِهَا بِوُجُودِ مَاءٍ مُطْلَقٍ يُزِيلُهَا بِهِ أَوْ وُجُودِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى الاِنْتِقَال مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْخَبَثُ إِلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ.
وَقَال الْحَطَّابُ: إِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلاَتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا لَهَا، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا، أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ عَلَى قَوْل مَنْ قَال: إِنَّهَا سُنَّةٌ، وَقَوْل: مَنْ قَال: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 268 - 269، البحر الرائق 1 / 283، قليوبي 1 / 180، كتاب الفروع 1 / 364، كشاف القناع 1 / 288.
(2) مواهب الجليل 1 / 130 وما بعده، والزرقاني 1 / 38، 39.

(19/12)


ر: التَّفْصِيل فِي شُرُوطِ الصَّلاَةِ وَبَابِ: (النَّجَاسَةِ) .

5 - أَمَّا أَنْوَاعُ الْخَبَثِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا مِنْ أَعْيَانِهِ عَلَى أَرْبَعَةٍ: مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ ذِي الدَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَائِيٍّ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُطْلَقًا، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَبَوْل ابْنِ آدَمَ وَرَجِيعُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ) .

(19/13)


خَبَرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَبَرُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُنْقَل وَيُتَحَدَّثُ بِهِ، وَجَمْعُهُ أَخْبَارٌ، وَاسْتَخْبَرَهُ: سَأَلَهُ عَنِ الْخَبَرِ وَطَلَبَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَالْخَبِيرُ الْعَالِمُ بِكُنْهِ الْخَبَرِ، وَخَبَرْتُ الأَْمْرَ أَيْ عَلِمْتُهُ (1) وَالْخَبِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَاهُ: الْعَالِمُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ (2) .
أَمَّا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فَقَدْ قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: الْخَبَرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَنِّ (مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ) مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ، فَيُطْلَقَانِ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَعَلَى الْمَوْقُوفِ، وَالْمَقْطُوعِ، وَقِيل: الْحَدِيثُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَبَرُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيل لِمَنْ يَشْتَغِل بِالسُّنَّةِ مُحَدِّثٌ، وَبِالتَّوَارِيخِ وَنَحْوِهَا أَخْبَارِيٌّ، وَقِيل بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُل حَدِيثٍ خَبَرٌ وَلاَ عَكْسَ، وَقِيل: لاَ يُطْلَقُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (خبر) ، والمستصفى للغزالي 1 / 132، كشف الأسرار 2 / 680، أصول الشاشي 1 / 270، مقدمة ابن الصلاح ص 42، المنثور في القواعد للزركشي 2 / 117.
(2) شأن الدعاء للخطابي 63.

(19/13)


الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ الْمَرْفُوعِ إِلاَّ بِشَرْطِ التَّقْيِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يُسَمُّونَ الْمَرْفُوعَ وَالْمَوْقُوفَ بِالأَْثَرِ، وَأَنَّ فُقَهَاءَ خُرَاسَانَ يُسَمُّونَ الْمَوْقُوفَ بِالأَْثَرِ، وَالْمَرْفُوعَ بِالْخَبَرِ (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْثَرُ:
2 - الأَْثَرُ لُغَةً بِتَحْرِيكِ الثَّاءِ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّيْءِ أَوْ هُوَ الْخَبَرُ، وَالْجَمْعُ آثَارٌ، وَحَدِيثٌ مَأْثُورٌ: أَيْ مَنْقُولٌ، يُخْبِرُ النَّاسُ بِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا أَيْ يَنْقُلُهُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ (2)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ يُطْلَقُ الأَْثَرُ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّيْءِ، كَأَثَرِ النَّجَاسَةِ، وَعَلَى الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا كَانَ أَوْ مَوْقُوفًا أَوْ مَقْطُوعًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقْصُرُونَهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَيَقُولُونَ: أَثَرُ الْعَقْدِ، وَأَثَرُ الْفَسْخِ، وَأَثَرُ النِّكَاحِ، وَنَحْوِهِ (3) .
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الأَْثَرَ أَعَمُّ فِي إِطْلاَقَاتِهِ مِنَ الْخَبَرِ.
__________
(1) تدريب الراوي ص 6.
(2) لسان العرب والمصباح المنير وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (أثر) .
(3) الموسوعة ص 1 / 249.

(19/14)


النَّبَأُ:
3 - النَّبَأُ لُغَةً الْخَبَرُ، وَقَال الرَّاغِبُ: النَّبَأُ خَبَرٌ ذُو فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ يَحْصُل بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلاَ يُقَال لِلْخَبَرِ فِي الأَْصْل نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ، وَحَقُّ الْخَبَرِ الَّذِي يُقَال فِيهِ نَبَأٌ: أَنْ يَتَعَرَّى عَنِ الْكَذِبِ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِتَضَمُّنِ النَّبَأِ مَعْنَى الْخَبَرِ يُقَال: أَنْبَأْتُهُ بِكَذَا، وَلِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِلْمِ، قِيل: أَنْبَأْتُهُ كَذَا، وَجَمْعُهُ أَنْبَاءٌ، وَيُقَال: إِنَّ لِفُلاَنٍ نَبَأً: أَيْ خَبَرًا، وَاسْتَنْبَأَ النَّبَأَ: بَحَثَ عَنْهُ (1) .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ وَالْجَمْعُ أَنْبِيَاءُ.
وَيُقَال تَنَبَّأَ الْكَذَّابُ إِذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ.

تَقْسِيمُ الْخَبَرِ:
4 - الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ. فَالْخَبَرُ عَنْ خَاصٍّ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلاَثَةٍ: الإِْقْرَارُ، وَالْبَيِّنَةُ، وَالدَّعْوَى؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ عَلَى الْمُخْبِرِ فَهُوَ الإِْقْرَارُ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الدَّعْوَى، أَوْ لِغَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ.
وَضَبَطَهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِضَابِطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل إِنْ كَانَ ضَارًّا لِقَائِلِهِ فَهُوَ الإِْقْرَارُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَارًّا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعًا لَهُ أَوْ لاَ، وَالأَْوَّل هُوَ الدَّعْوَى، وَالثَّانِي الشَّهَادَةُ.
وَالْخَبَرُ عَنْ عَامٍّ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ عَامًّا، لاَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (نبأ) .

(19/14)


يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، وَيَنْحَصِرُ أَيْضًا فِي ثَلاَثَةٍ: الرِّوَايَةِ، وَالْحُكْمِ، وَالْفَتْوَى؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَحْسُوسٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ إِلْزَامٌ فَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَالْفَتْوَى، وَعُلِمَ مِنْ هَذَا ضَابِطُ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ (1) .
وَيُنْظَرُ شُرُوطُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. انْظُرْ (شَهَادَةٌ، وَإِقْرَارٌ، وَدَعْوَى، وَقَضَاءٌ، وَفَتْوَى) .

أَحْكَامُ الْخَبَرِ:
الْخَبَرُ عَنِ النَّجَاسَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ الثِّقَةُ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ النَّجَاسَةِ وَكَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ يَقْتَضِي النَّجَاسَةَ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ؛ لأَِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْل فِي مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مَقْبُولٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَعَنْ حُرْمَةِ الطَّعَامِ أَوْ حِلِّهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَلاَ بَيْنَ الأَْعْمَى وَالْبَصِيرِ بِخِلاَفِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ فَلاَ يُقْبَل خَبَرُهُمَا فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ فَلاَ يُقْبَل خَبَرُهُمَا فِي مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ. أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُول خَبَرِهِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ قَبُول خَبَرِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) المنثور 2 / 116.

(19/15)


يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ لِصِغَرِهِ، لأَِنَّ الْعَدْل يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى قَبُول خَبَرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَيِّنِ الْمُخْبِرُ سَبَبَ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مَذْهَبُ الْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَالْمُخْبِرِ (بِكَسْرِهَا) فَلاَ يَلْزَمُهُ قَبُول خَبَرِهِ لاِحْتِمَال اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمَا لاَ يُنَجِّسُهُ أَصْلاً، أَوْ بِسَبَبٍ لاَ يَعْتَقِدُهُ الْمُخْبَرُ (بِالْفَتْحِ) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ، وَصَلاَةٌ) .
وَيَجُوزُ لِلْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) أَنْ يُحَكِّمَ رَأْيَهُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَالصَّبِيِّ، الْمُمَيِّزِ، وَالْكَافِرِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَادِقٌ عَمِل بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ فَلاَ يَعْمَل بِهِ.
وَيُقْبَل خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْكَافِرِ فِي الإِْذْنِ فِي دُخُول الدُّورِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ فِي الإِْخْبَارِ عَنِ الْهَدِيَّةِ مِنْ صَبِيٍّ يَحْمِلُهَا (1) . لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (دَعْوَى، شَهَادَةٌ) .

الْخَبَرُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأُْمُورِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُول قَوْل مَنْ يُعْتَمَدُ
__________
(1) البدائع 1 / 72، حاشية ابن عابدين 1 / 247، 279، الحطاب 1 / 86، الخرشي 1 / 80، حاشية العدوي 1 / 140، المجموع للإمام النووي 1 / 176، روضة الطالبين 1 / 35، 39، حاشية الباجوري 1 / 297، المستصفى للغزالي 1 / 159، المغني لابن قدامة 1 / 64.

(19/15)


خَبَرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ، كَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا عَدْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً.
وَلاَ يُقْبَل خَبَرُ الْكَافِرِ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ، وَلاَ خَبَرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْفَاسِقِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ قَبُول خَبَرِهِمَا؛ لأَِنَّ رِوَايَتَهُمَا وَشَهَادَتَهُمَا لاَ تُقْبَل؛ وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ لاَ يَلْحَقُهُ مَأْثَمٌ بِكَذِبِهِ، فَتَحَرُّزُهُ عَنِ الْكَذِبِ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، أَمَّا الْفَاسِقُ فَلِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى قَبُول خَبَرِهِمَا (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ) .

الْخَبَرُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَوْنِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ مِنْ بَابِ الأَْخْبَارِ، أَوْ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى قَبُول خَبَرِ ثِقَةٍ وَاحِدٍ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، عَدْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَمْ لاَ. لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: تَرَاءَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 289، الخرشي 1 / 259، المجموع للنووي 3 / 200، المغني لابن قدامة 1 / 439، 453، كشاف القناع 1 / 306.

(19/16)


النَّاسُ الْهِلاَل فَأَخْبَرْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. (1)
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ هِلاَل رَمَضَانَ فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ قَال: يَا بِلاَل أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا (2) وَلأَِنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ فَقُبِل مِنْ وَاحِدٍ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ هَؤُلاَءِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ لَدَى الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ امْرَأَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، فَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ هِلاَل رَمَضَانَ رُؤْيَةُ عَدَدٍ مِنَ الشُّهُودِ يَقَعُ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لِتَسَاوِي النَّاسِ فِي الأَْسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الرُّؤْيَةِ، وَتَفَرُّدُ وَاحِدٍ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ دَلِيل الْكَذِبِ أَوِ الْغَلَطِ فِي الرُّؤْيَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ غَيْرَ مُصْحِيَةٍ أَوْ بِهَا عِلَّةٌ، فَيُقْبَل خَبَرُ
__________
(1) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن حزم (6 / 236 - ط المنيرية) وقال ابن حزم: " هذا خبر صحيح ".
(2) حديث ابن عباس: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (2 / 755 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) ، وصوب النسائي إرساله. هذا في نصب الراية للزيلعي (2 / 443 - ط المجلس العلمي) .

(19/16)


الْوَاحِدِ الْعَدْل فِي رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ أَوْ مَحْدُودًا تَائِبًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، عَدْلاً، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تَمْنَعُ التَّسَاوِيَ فِي الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ قِطْعَةً مِنَ الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهَرَ الْهِلاَل فَرَآهُ وَاحِدٌ فَاسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْل أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِثُبُوتِ هِلاَل رَمَضَانَ مِنْ إِتْمَامِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، أَوْ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَال: أَلاَ إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلْتُهُمْ، وَأَنَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ وَانْسُكُوا لَهَا. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَافْطُرُوا. (1)
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ، شَهَادَةٌ) .
__________
(1) البدائع 2 / 80، جواهر الإكليل 1 / 144، القوانين الفقهية ص 120، مغني المحتاج 1 / 420، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 1 / 297، المغني لابن قدامة 3 / 86 - 156 الإنصاف 3 / 273، الفروع 3 / 14. حديث عبد الرحمن بن زيد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجه النسائي (4 / 132 - 133 - ط المكتبة التجارية) والدارقطني (2 / 168 - ط دار المحاسن) وإسناده صحيح.

(19/17)


خِبْرَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِبْرَةُ فِي اللُّغَةِ - بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا - الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَمَعْرِفَتُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: خَبَرْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا عَرَفْتُ حَقِيقَةَ خَبَرِهِ. وَمِثْلُهُ الْخِبْرُ وَالْخُبْرُ، وَالْمَخْبُرَةُ. وَالْمُخْبِرَةُ. وَالْخَبِيرُ بِالشَّيْءِ، الْعَالِمُ بِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْل عَلِيمٍ، وَقَدِيرٍ، وَأَهْل الْخِبْرَةِ ذَوُوهَا (1)
وَاسْتُعْمِل فِي مَعْرِفَةِ كُنْهِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَل بِهِ خَبِيرًا} (2) ، وَالْخَبِيرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. هَذَا فِي الأَْصْل. وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فِيمَا غَمُضَ مِنَ الأَْشْيَاءِ وَلَطُفَ، وَفِيمَا تَجَلَّى مِنْهُ وَظَهَرَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومتن اللغة، والمعجم الوسيط مادة: (خبر) والفروق في اللغة ص 86، وشأن الدعاء للخطابي 63.
(2) سورة الفرقان / 59.

(19/17)


وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْخِبْرَةِ بِلَفْظِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهَا بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ:
أَوَّلاً: الْعِلْمُ:
2 - الْعِلْمُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا مَا يَصِيرُ بِهِ الشَّيْءُ مُنْكَشِفًا، وَمِنْهَا الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْل، وَمِنْهَا الإِْدْرَاكُ، وَمِنْهَا الاِعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ.

ثَانِيًا: الْمَعْرِفَةُ:
3 - أَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ، بِخِلاَفِ الْعِلْمِ (2) . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخِبْرَةِ، أَنَّ الْخِبْرَةَ الْعِلْمُ بِكُنْهِ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَفِيهَا مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ (3)
ب - التَّجْرِبَةُ:
4 - التَّجْرِبَةُ مَصْدَرُ جَرَّبَ، وَمَعْنَاهُ الاِخْتِبَارُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّجْرِبَةُ اسْمٌ لِلاِخْتِبَارِ مَعَ التَّكْرَارِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ التَّجْرِيبِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 229، 233، ومعين الحكام ص 115، 116، وحاشية الجمل 5 / 356، وحاشية ابن عابدين 5 / 459.
(2) التعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون في المادة، ودستور العلماء 2 / 339، و350.
(3) الفروق في اللغة ص 72، 86.

(19/18)


الاِخْتِبَارِ وَالإِْكْثَارُ مِنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ فِي الْخِبْرَةِ التَّكْرَارُ (1) .

ح - الْبَصَرُ أَوِ الْبَصِيرَةُ:
5 - الْبَصِيرَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ وَالْخِبْرَةُ، يُقَال: هُوَ ذُو بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، أَيْ ذُو عِلْمٍ وَخِبْرَةٍ. وَيُعْرَفُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ مِمَّا أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْل الْبَصِيرَةِ وَهُمْ أَهْل النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ الشَّيْءِ (2) .

د - الْقِيَافَةُ:
6 - الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ الأَْثَرَ قِيَافَةً إِذَا تَتَبَّعَهُ. وَالْقَائِفُ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ الآْثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ، وَأَبِيهِ، وَالْجَمْعُ الْقَافَةُ. وَتُسْتَعْمَل فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى. قَال فِي الْمُغْنِي: الْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الإِْنْسَانَ بِالشَّبَهِ (3)

هـ - الْحِذْقُ:
7 - الْحِذْقُ الْمَهَارَةُ، يُقَال: حَذَقَ الصَّبِيُّ الْقُرْآنَ وَالْعَمَل يَحْذِقُهُ حِذْقًا وَحَذْقًا إِذَا مَهَرَ فِيهِ، وَحَذِقَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (جرب) والفروق في اللغة ص 211.
(2) التعريفات للجرجاني والمصباح المنير، وابن عابدين 5 / 459.
(3) المصباح ولسان العرب، وتبصرة الحكام 2 / 120، وجواهر الإكليل 2 / 139، ونهاية المحتاج 8 / 351، والمغني 5 / 719.

(19/18)


الرَّجُل فِي صَنْعَتِهِ أَيْ مَهَرَ فِيهَا، وَعَرَفَ غَوَامِضَهَا وَوَقَائِعَهَا (1) .
فَالْحِذْقُ يُسْتَعْمَل فِي الْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ غَالِبًا، وَهُوَ لِهَذَا الاِعْتِبَارِ أَخَصُّ مِنَ الْخِبْرَةِ

وَ - الْفِرَاسَةُ:
8 - الْفِرَاسَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ هِيَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَمُّل لِلشَّيْءِ وَالْبَصَرُ بِهِ، يُقَال: إِنَّهُ لَفَارِسٌ بِهَذَا الأَْمْرِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. (2)
وَيَقُول ابْنُ الأَْثِيرِ: الْفِرَاسَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تُتَعَلَّمُ بِالدَّلاَئِل وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالأَْخْلاَقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَال النَّاسِ. يَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: الْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ (3) .
فَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبَةٌ لِمَعْنَى الْخِبْرَةِ.

حُكْمُ الْخِبْرَةِ:
9 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْخِبْرَةِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا تَبَعًا لِمَوْطِنِهَا.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُهَا:
__________
(1) الصحاح والمصباح المنير في المادة.
(2) حديث: " اتقوا فراسة المؤمن " أخرجه الترمذي (5 / 298 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وضعف إسناده المناوي في فيض القدير (1 / 144 - ط المكتبة التجارية) .
(3) لسان العرب مادة: (فرس) ، وتبصرة الحكام 2 / 119.

(19/19)


الْخِبْرَةُ فِي التَّزْكِيَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَال الشُّهُودِ يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ يُزَكِّيهِمْ عِنْدَهُ لِيَعْلَمَ عَدَالَتَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ ضَرُورِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَزْكِيَةَ الشَّاهِدِ، التَّزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةُ أَيْضًا.
وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ تَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْقَاضِي مَنْ هُمْ أَوْثَقُ النَّاسِ عِنْدَهُ، وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً، وَأَدْرَاهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيَكْتُبُ لَهُمْ أَسْمَاءَ وَأَوْصَافَ الشُّهُودِ، وَيُكَلِّفُهُمْ تَعَرُّفَ أَحْوَالِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ مِنْ أَهْل الثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ، وَجِيرَانِهِمْ وَمُؤْتَمَنِي أَهَالِي مَحَلَّتِهِمْ، وَأَهْل الْخِبْرَةِ بِهِمْ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُعْتَمَدِي أَهْل صَنْعَتِهِمْ (أَيْ نَقِيبِ الْحِرْفَةِ مَثَلاً) . فَإِذَا كَتَبُوا تَحْتَ اسْمِ كُلٍّ مِنْهُمْ: (عَدْلٌ، وَمَقْبُول الشَّهَادَةِ) يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل، وَمَعْرِفَةُ خِبْرَةِ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ، لِخِبْرَةٍ، أَوْ جِوَارٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا يَشْهَدُ. وَلأَِنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) مجلة الأحكام العدلية مواد (1718 - 1722) ومعين الحكام ص 104، 106، وتبصرة الحكام 1 / 204 - 207، وقليوبي 4 / 306.

(19/19)


بَاطِنَةٍ، رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ (1)
هَذَا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَتَحْصُل فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ وَالْخَصْمَيْنِ. وَبِمَا أَنَّ تَزْكِيَةَ الْعَلاَنِيَةِ تُعْتَبَرُ شَهَادَةً، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا (2) . أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَزْكِيَةٌ، وَشَهَادَةٌ) .

الْخِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ:
11 - الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى قَاسِمٍ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ الشُّرَكَاءُ أَنْفُسُهُمْ إِذَا كَانُوا ذَوِي أَهْلِيَّةٍ وَمِلْكٍ وَوِلاَيَةٍ، فَيَقْسِمُونَ الْمَال بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ غَيْرُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُعَيِّنُونَهُ أَوْ يُنَصِّبُهُ الْحَاكِمُ (3) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاسِمِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ، عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، لِيُوصِل إِلَى كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لأَِنَّهَا مِنْ جِنْسِ عَمَل الْقَضَاءِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ بِالأَْمَانَةِ وَالْعِلْمِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة، ونهاية المحتاج 8 / 253، والمغني 9 / 63 - 65.
(2) المراجع السابقة.
(3) الزيلعي 5 / 264.
(4) الزيلعي 5 / 265

(19/20)


وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ الْقَاسِمِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشُّرَكَاءُ، وَالَّذِي نَصَّبَهُ الإِْمَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُمْ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مُتَعَدِّدًا، فَيَكْفِيَ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا وَاحِدًا ذَا مَعْرِفَةٍ وَخِبْرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ طَرِيقَهُ الْخَبَرُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، كَالْقَائِفِ وَالْمُفْتِي وَالطَّبِيبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ لِلسِّلْعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ قَاسِمَانِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ (1)
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: إِذَا اطَّلَعَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِيمَا خَصَّهُ، وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَهُوَ خَفِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ إِمْسَاكِ النَّصِيبِ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ رَدِّ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ النَّصِيبَانِ قَائِمَيْنِ رَجَعَا شَائِعَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَا قَبْل الْقِسْمَةِ. وَإِنْ فَاتَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ بِنَحْوِ صَدَقَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، أَوْ هَدْمٍ، رَدَّ آخِذُهُ قِيمَةَ نِصْفِهِ، وَكَانَ النَّصِيبُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ فَاتَا تَقَاصَّا (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَيْ: (قِسْمَةٌ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 163، والزيلعي 5 / 265، والخرشي 6 / 185، ومغني المحتاج 4 / 419، والمغني لابن قدامة 9 / 125، 126.
(2) فتح العلي المالك لمحمد عليش 2 / 178.

(19/20)


الْخِبْرَةُ فِي الْخَارِصِ:
12 - الْخَرْصُ: الْحَزْرُ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّيْءِ (مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ) لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهِ. فَإِذَا بَدَا صَلاَحُ الثِّمَارِ مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَحَل بَيْعُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الإِْمَامُ مَنْ يَخْرُصُهَا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَرْصِ؛ لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَرِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، وَالْجَاهِل بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فِيهِ، وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ عَدْلاً عَارِفًا، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْتَرَطُ اثْنَانِ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ (1) .
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فَيُعْمَل بِتَخْرِيصِ الأَْعْرَفِ مِنْهُمْ (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودَ، فَيَخْرُصُ النَّخْل حَتَّى يَطِيبَ قَبْل أَنْ يُؤْكَل مِنْهُ.
(3) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ فَلاَ يَلْزَمُ بِهِ
__________
(1) الخرشي 6 / 192، 193، ومغني المحتاج 1 / 387، وحاشية الدسوقي 1 / 454، وجواهر الإكليل 1 / 126، والمغني 2 / 706، 707.
(2) جواهر الإكليل 1 / 126.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود. . . " أخرجه أبو داود (2 / 260 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وفي إسناده جهالة. ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن عباس أخرجه أبو داود (1 / 697 - 698 تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.

(19/21)


حُكْمٌ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَرْصِ. (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْخَرْصَ الْوَارِدَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ مَا فِي نَخْلِهِمْ، ثُمَّ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ وَقْتَ الصِّرَامِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِيهَا. وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَل تَخْوِيفًا لِلْمُزَارِعِينَ لِئَلاَّ يَخُونُوا لاَ لِيَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ (2) . (ر: خَرْصٌ) .

خِبْرَةُ الْقَائِفِ:
13 - الْقَائِفُ مَنْ يَعْرِفُ الآْثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَل بِقَوْل الْقَائِفِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إِذَا كَانَ خَبِيرًا مُجَرَّبًا، وَلَمْ تُوجَدْ لإِِثْبَاتِ نَسَبِ الطِّفْل بَيِّنَةٌ، أَوْ تَسَاوَتْ بَيِّنَةُ الطَّرَفَيْنِ (3) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْخْذِ بِقَوْل الْقَائِفِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَال: يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَل عَلَيَّ فَرَأَى
__________
(1) حديث: " نهى عن الخرص ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2 / 41 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وفي إسناده ضعف.
(2) المراجع السابقة، وعمدة القاري للعيني 9 / 68 - 69.
(3) الصحاح ولسان العرب مادة: (قوف) وتبصرة الحكام 2 / 120، ونهاية المحتاج 8 / 351، ومطالب أولي النهى 4 / 269.

(19/21)


أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. (1)
وَيَكْفِي قَائِفٌ وَاحِدٌ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ لأَِنَّهُ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُجَرَّبًا فِي الإِْصَابَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ (2) وَلأَِنَّهُ أَمْرٌ عِلْمِيٌّ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ لَهُ وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ فِيهِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي كُلٍّ فَهُوَ مُجَرَّبٌ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِيَافَةٌ) .

الْخِبْرَةُ فِي التَّقْوِيمِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَهْل الصَّنْعَةِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ
__________
(1) حديث عائشة: " يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 56 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1082 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لا حكيم إلا ذو تجربة " أخرجه الترمذي (4 / 379 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وضعفه المناوي في فيض القدير (6 / 424 - ط المطبعة التجارية) .
(3) حاشية الزرقاني 6 / 110، وتبصرة الحكام 2 / 120، ونهاية المحتاج 8 / 351، وحاشية القليوبي 4 / 349، ومطالب أولي النهى 4 / 265، 266، وكشاف القناع 4 / 239، 240.

(19/22)


وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيمَةِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، وَقِيَمِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ، أَوِ الْمَأْجُورَةِ لإِِثْبَاتِ الْعَيْبِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوِ الْغَرَرِ وَنَحْوِهَا. قَال فِي الدُّرِّ: لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنْ مَال الْيَتِيمِ ثُمَّ طُلِبَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ الْقَاضِي إِلَى أَهْل الْبَصِيرَةِ، أَيْ أَهْل النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ (1) . وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا ذُكِرَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ أَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْل الْخِبْرَةِ الْخَالَيْنِ عَنِ الْغَرَضِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الثَّوْبُ سَالِمًا ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَمَا كَانَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ (2) .
وَيَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى قَوْل التَّاجِرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَل بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَوْ لاَ؟ فَهَاهُنَا لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ (3) .
لأَِنَّ الْمُقَوِّمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَشْبَاهٍ: شَبَهُ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لأَِنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ، وَشَبَهُ الْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 459.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة: (246) .
(3) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 232.

(19/22)


وَقَال أَيْضًا: يُقْبَل قَوْل الْمُقَوِّمِ الْوَاحِدِ لأَِرْشِ الْجِنَايَاتِ.
وَقَال الْخَرَشِيُّ: الْمُقَوِّمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْوِيمِهِ قَطْعٌ، أَوْ غُرْمٌ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَإِلاَّ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ. وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُرْجَعُ إِلَى أَهْل الْمَعْرِفَةِ مِنَ التِّجَارَةِ فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَعُيُوبِ الثِّيَابِ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَنَقْصِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، وَتَقْوِيمُ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ وَأَهْل الصَّنْعَةِ. لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّقْوِيمَ لاَ يَكُونُ بِالْوَاحِدِ بَل يَحْتَاجُ إِلَى اثْنَيْنِ؛ لأَِنَّهُ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِهَا مِنَ الضَّمَانِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.

الْخِبْرَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَدِيمٌ لاَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.
وَمَعَ تَفْصِيلِهِمْ وَخِلاَفِهِمْ فِي وَضْعِ ضَابِطٍ لِلْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ: (الْعَيْبُ هُوَ مَا يُنْقِصُ ثَمَنَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 232، 2 / 71، والخرشي 6 / 185.
(2) مغني المحتاج 3 / 55 / 71، 4 / 419، والمغني لابن قدامة 9 / 129.

(19/23)


الْمَبِيعِ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ. وَنُقْصَانُ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ) . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَنَحْوُهُ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ اخْتِلاَفٍ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ قَالُوا: الْقَوْل فِي نَفْيِ الْعَيْبِ أَوْ نَفْيِ قِدَمِهِ لِلْبَائِعِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ الْعَادَةِ أَيْ شَهَادَةِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ لِلْمُشْتَرِي.
وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْل أَهْل الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّخَّاسِينَ (2) فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الْحَيَوَانَاتِ (3) .
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَ الطَّرَفَانِ فِي الْمَوْجُودِ هَل هُوَ عَيْبٌ أَوْ لاَ؟ أَوِ اخْتَلَفَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، رُجِعَ فِيهِ لأَِهْل الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَال أَهْل الْخِبْرَةِ: هُوَ عَيْبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِلاَّ فَلاَ (4) . يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خِيَارُ الْعَيْبِ) .

خِبْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الأَْطِبَّاءِ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَتَحْدِيدِ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (338، 346) وحاشية ابن عابدين 4 / 72، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 32.
(2) النخاس: بياع الدواب والرقيق (القاموس) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 48، وحاشية الدسوقي 3 / 136، وانظر تبصرة الحكام 1 / 231، 2 / 72.
(4) حاشية الجمل 3 / 148، وكشاف القناع 4 / 24.

(19/23)


أَسْمَائِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، وَالدَّامِيَةِ، وَالدَّامِغَةِ وَنَحْوِهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل الْبَيَاطِرَةِ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ. وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ النُّصُوصِ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَجَال:
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْل الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجِرَاحِ فِي مَعْرِفَةِ طُول الْجُرْحِ، وَعُمْقِهِ، وَعَرْضِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْقِصَاصَ فَيَشُقُّونَ فِي رَأْسِ الْجَانِي أَوْ فِي بَدَنِهِ مِثْل ذَلِكَ وَلاَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا اخْتُلِفَ فِي الشَّجَّةِ هَل هِيَ مُوضِحَةٌ أَوْ لاَ، أَوْ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالآْمَّةِ، وَالدَّامِغَةِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا كَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، أَوْ فِي الْجَائِفَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ الأَْطِبَّاءُ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الأَْطِبَّاءُ أَوْ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، يُؤْخَذُ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ أَوْ بَيْطَارَيْنِ إِذَا وُجِدَا، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْل الصَّنْعَةِ (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مَوَاضِعِهَا (ر: شَهَادَةٌ، شِجَاجٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ) .

عَدَدُ أَهْل الْخِبْرَةِ:
17 - الأَْصْل أَنَّ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ إِنْ كَانَ عَلَى
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 / 71.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 270.

(19/24)


جِهَةِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ فِيهِ اثْنَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الإِْخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ التَّعَدُّدُ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَهْل الْمَعْرِفَةِ فِي الْعُيُوبِ، وَمِنْهُمُ الطَّبِيبُ وَالْبَيْطَارُ، وَالْخَارِصُ، وَالْقَائِفُ، وَالْقَسَّامُ، وَقَائِسُ الشِّجَاجِ وَنَحْوُهُمْ (1) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ قَوْل الْوَاحِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قَال ابْنُ فَرْحُونَ: الْقِيمَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَل بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَمْ لاَ؟ فَهَاهُنَا لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ. وَقَال نَقْلاً عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلاَنِ مِنْ أَهْل الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ (2) .
وَقَال: وَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَال، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ.
وَمِثْلُهُ مَا قَال فِي قَائِسِ الْجِرَاحِ مِنَ الاِكْتِفَاءِ بِقَوْل الْوَاحِدِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ.
وَجَاءَ فِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: مَا بَطَنَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي حَيَوَانٍ - فَالطَّرِيقُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْل الْبَصَرِ إِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلاً يَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي الْخُصُومَةِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْل الْقَائِفِ
__________
(1) معين الحكام ص 115، وتبصرة الحكام 1 / 229، 232، والخرشي 6 / 185، وابن سلمون على تبصرة الحكام 1 / 228، 229، ومغني المحتاج 1 / 387، والمغني 2 / 707 و 9 / 126، 270.
(2) تبصرة الحكام 1 / 232.

(19/24)


الْوَاحِدِ فِي النَّسَبِ، وَالتَّاجِرِ الْوَاحِدِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ.
وَقَال الْخَرَشِيُّ: الْقَاسِمُ الْوَاحِدُ يَكْفِي؛ لأَِنَّ طَرِيقَهُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَلِيل مِنَ النَّاسِ كَالْقَائِفِ، وَالْمُفْتِي، وَالطَّبِيبِ وَلَوْ كَافِرًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَجَّهَهُ الْقَاضِي فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ (1) .
وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .

اخْتِلاَفُ أَهْل الْخِبْرَةِ:
18 - إِذَا اخْتَلَفَ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي التَّقْوِيمِ، أَوِ الْخَرْصِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُل مَسْأَلَةٍ آرَاءٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ مِنْهَا:
أ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ، أَوْ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَال الآْخَرُونَ لاَ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اخْتِلاَفِ شُهُودِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي تَعَيُّبِ السِّلْعَةِ وَقِدَمِ الْعَيْبِ فِيهَا رَأْيَانِ: الأَْخْذُ بِأَعْدَل الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الْمُبْتَاعِ (3) .
__________
(1) الخرشي 6 / 185، وتبصرة الحكام 1 / 229، 232، ومعين الحكام ص 116.
(2) مغني المحتاج 4 / 418، 419، والمغني 9 / 126، 270.
(3) ابن عابدين 4 / 72، وتبصرة الحكام 2 / 69، 70.

(19/25)


قَال ابْنُ فَرْحُونَ نَقْلاً عَنِ الْمُتَيْطِيَّةِ: إِذَا أَثْبَتَ مُبْتَاعُ الدَّارِ تَشَقُّقَ الْحِيطَانِ، وَتَعَيُّبَهَا، وَأَنَّهَا مُتَهَيِّئَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَإِنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ لاَ مِنْ دَاخِلِهَا، وَشَهِدَ لِلْبَائِعِ شُهُودٌ أَنَّ الدَّارَ سَالِمَةٌ مِمَّا ادَّعَى الْمُبْتَاعُ، مَأْمُونَةُ السُّقُوطِ لاِعْتِدَال حِيطَانِهَا وَسَلاَمَتِهَا مِنَ الْمَيْل الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّهَدُّمِ، وَأَنَّ التَّشَقُّقَ لاَ يَضُرُّهَا مَعَ أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ: يُقْضَى بِأَعْدَل الْبَيِّنَتَيْنِ مِمَّنْ لَهُ بَصَرٌ بِعُيُوبِ الدُّورِ. وَقَال ابْنُ الْقَطَّانِ: بَيِّنَةُ الْمُبْتَاعِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ إِذَا قُبِلَتْ أَعْمَل مِنَ الَّتِي تَنْفِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الأَْخْذِ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ. فَلَوْ فُقِدَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَوِ اخْتَلَفُوا، صُدِّقَ الْمُشْتَرِي لِتَحَقُّقِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَالشَّكِّ فِي مُسْقِطِ الرَّدِّ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الإِْجَارَاتِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ) .
ب - إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ لِلسَّرِقَةِ فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَال غَيْرُهُمْ: قِيمَتُهَا
__________
(1) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 2 / 76، 77، والجمل 3 / 148، وكشاف القناع 4 / 23، 24.

(19/25)


ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلاَنِ مِنْ أَهْل الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَكَذَا قَال مَالِكٌ فِي سَمَاعِ عِيسَى: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلاَنِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَنْ خَالَفَهُمَا، ثُمَّ قَال فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلاً عَنْ مَالِكٍ: إِنْ دُعِيَ أَرْبَعَةٌ فَاجْتَمَعَ رَجُلاَنِ عَلَى قِيمَةٍ قَال: يَنْظُرُ الْقَاضِي إِلَى أَقْرَبِ التَّقْوِيمِ إِلَى السَّدَادِ، بِأَنْ يَسْأَل مَنْ سِوَاهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ السَّدَادُ مِنْ ذَلِكَ.
ج - إِنِ اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فِي قَدْرِ التَّمْرِ الَّذِي خَرَصُوهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُعْمَل بِتَخْرِيصِ الأَْعْرَفِ مِنْهُمْ، وَيُلْغَى تَخْرِيصُ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَفُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُل قَوْلٍ جُزْءٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ (1) . (ر: خَرْصٌ) .
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون على هامش فتح العلي المالك 2 / 77، وجواهر الإكليل 1 / 126.

(19/26)


خِتَانٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِتَانُ وَالْخِتَانَةُ لُغَةً الاِسْمُ مِنَ الْخَتْنِ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ الأُْنْثَى، كَمَا يُطْلَقُ الْخِتَانُ عَلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ.
يُقَال خَتَنَ الْغُلاَمَ وَالْجَارِيَةَ يَخْتِنُهُمَا وَيَخْتُنُهُمَا خَتْنًا.
وَيُقَال: غُلاَمٌ مَخْتُونٌ وَجَارِيَةٌ مَخْتُونَةٌ وَغُلاَمٌ وَجَارِيَةٌ خَتِينٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْخَفْضُ وَالإِْعْذَارُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْخَتْنَ بِالذَّكَرِ، وَالْخَفْضَ بِالأُْنْثَى، وَالإِْعْذَارُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا (1) .
وَالْعُذْرَةُ: الْخِتَانُ، وَهِيَ كَذَلِكَ الْجِلْدَةُ يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ. وَعَذَرَ الْغُلاَمَ وَالْجَارِيَةَ يَعْذِرُهُمَا، عُذْرًا وَأَعْذَرَهُمَا خَتَنَهُمَا.
وَالْعَذَارُ وَالإِْعْذَارُ وَالْعَذِيرَةُ وَالْعَذِيرُ طَعَامُ الْخِتَانِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (ختن) . والمطلع على أبواب المقنع ص 28.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (عذر) .

(19/26)


حُكْمُ الْخِتَانِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخِتَانِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الْقَوْل الأَْوَّل:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْمَالِكِيَّةُ (2) وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (4) : إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَهُوَ مِنَ الْفِطْرَةِ وَمِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ حَارَبَهُمُ الإِْمَامُ، كَمَا لَوْ تَرَكُوا الأَْذَانَ.
وَهُوَ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ خِتَانُهَا مَكْرُمَةً وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِنَّ كَذَلِكَ، وَفِي ثَالِثٍ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا لِلسُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَال مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ (6) وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا خَمْسٌ مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 479، والاختيار 4 / 167.
(2) الشرح الصغير 2 / 151.
(3) المجموع 1 / 300.
(4) الإنصاف 1 / 124.
(5) ينظر الفروق بين السنة والمندوب والمستحب تحت عنوان (استحباب) .
(6) حديث: " الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ". أخرجه أحمد (5 / 75 - ط الميمنية) والبيهقي في سننه (8 / 325 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أسامة الهذلي، وأعله البيهقي بأحد رواته.

(19/27)


الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ.
(1) وَقَدْ قُرِنَ الْخِتَانُ فِي الْحَدِيثِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ قَطْعُ جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى قَصِّ الأَْظْفَارِ (2) .

الْقَوْل الثَّانِي:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (5) : إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (6) قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ (7) وَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " مس من الفطرة: الختان والاستحداد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 20 / 334 - ط السلفية) ومسلم (1 / 221 - ط الحلبي) .
(2) المجموع 1 / 284، 285، المنتقى 7 / 232
(3) المجموع 1 / 298 / 299، 301، قليوبي وعميرة 4 / 11، طرح التثريب 1 / 75، فتح الباري 10 / 341.
(4) كشاف القناع 1 / 80، والإنصاف 1 / 123.
(5) المنتقى 7 / 232.
(6) سورة النحل / 123.
(7) حديث: " اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة " أخرجه البخاري (6 / 388 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1893 - ط الحلبي) .

(19/27)


أَمْرٌ لَنَا بِفِعْل تِلْكَ الأُْمُورِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فَكَانَتْ مِنْ شَرْعِنَا.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ: أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ (1) قَالُوا: وَلأَِنَّ الْخِتَانَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمَا جَازَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَا جَازَ نَظَرُ الْخَاتِنِ إِلَيْهَا وَكِلاَهُمَا حَرَامٌ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ وَاجِبًا كَسَائِرِ شِعَارِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْل (2) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ؛ وَلأَِنَّ هُنَاكَ فَضْلَةً فَوَجَبَ إِزَالَتُهَا كَالرَّجُل. وَمِنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّ بَقَاءَ الْقُلْفَةِ يَحْبِسُ النَّجَاسَةَ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ فَتَجِبُ إِزَالَتُهَا.

الْقَوْل الثَّالِثُ:
4 - هَذَا الْقَوْل نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَهُوَ أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال، وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ (3) .
__________
(1) حديث: " ألق عنك شعر الكفر واختتن ". أخرجه أبو داود (1 / 253 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده جهالة كما في التلخيص لابن حجر (4 / 82 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " إذا التقى الختانان وجب الغسل " أخرجه الشافعي في الأم (1 / 37) من حديث عائشة، وأصله في مسلم (1 / 272 - ط الحلبي) .
(3) المغني 1 / 85.

(19/28)


مِقْدَارُ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ:
5 - يَكُونُ خِتَانُ الذُّكُورِ بِقَطْعِ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ، وَتُسَمَّى الْقُلْفَةَ، وَالْغُرْلَةَ، بِحَيْثُ تَنْكَشِفُ الْحَشَفَةُ كُلُّهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ أَكْثَرِهَا جَازَ. وَفِي قَوْل ابْنِ كَجٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ شَيْءٍ مِنَ الْقُلْفَةِ وَإِنْ قَل بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا.
وَيَكُونُ خِتَانُ الأُْنْثَى بِقَطْعِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاِسْمُ مِنَ الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْل. وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ لاَ تُقْطَعَ كُلُّهَا بَل جُزْءٌ مِنْهَا (1) .
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إِلَى الْبَعْل. (2)

وَقْتُ الْخِتَانِ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَصِيرُ فِيهِ الْخِتَانُ وَاجِبًا هُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لأَِنَّ الْخِتَانَ مِنْ أَجْل الطَّهَارَةِ، وَهِيَ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ.
__________
(1) المجموع 1 / 302، الخرشي 3 / 48، البناية 1 / 273، وكشاف القناع 1 / 85.
(2) حديث أم عطية: " لا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرآة وأحب إلى البعل ". أخرجه أبو داود (5 / 421 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ثم ضعف إسناده.

(19/28)


وَيُسْتَحَبُّ خِتَانُهُ فِي الصِّغَرِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ لأَِنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ أَسْرَعُ بُرْءًا فَيَنْشَأُ عَلَى أَكْمَل الأَْحْوَال.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ الاِسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّهُ يَوْمُ السَّابِعِ وَيُحْتَسَبُ يَوْمُ الْوِلاَدَةِ مَعَهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: عَقَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَخَتَنَهُمَا لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ (1) ، وَفِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ أَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلاَدَةِ. وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا بَيْنَ الْعَامِ السَّابِعِ إِلَى الْعَاشِرِ مِنْ عُمْرِهِ؛ لأَِنَّهَا السِّنُّ الَّتِي يُؤْمَرُ فِيهَا بِالصَّلاَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ وَقْتُ الإِْثْغَارِ، إِذَا سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ، وَالأَْشْبَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِطَاقَةِ الصَّبِيِّ إِذْ لاَ تَقْدِيرَ فِيهِ فَيُتْرَكُ تَقْدِيرُهُ إِلَى الرَّأْيِ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْعَاشِرَةَ لِزِيَادَةِ الأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَهَا. وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِتَانَ يَوْمَ السَّابِعِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْيَهُودِ (2) .
__________
(1) حديث جابر: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام. أخرجه البيهقي (8 / 324 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده راو متكلم فيه، وقد أورد الذهبي من مناكيره هذا الحديث في الميزان (2 / 85 - ط الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 478، مواهب الجليل 3 / 258، المجموع 1 / 313، الإنصاف 1 / 124، حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 174، النووي على مسلم 3 / 148.

(19/29)


خِتَانُ مَنْ لاَ يَقْوَى عَلَى الْخِتَانِ:
7 - مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ لَوْ خُتِنَ خِيفَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَنَ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ، بَل يُؤَجَّل حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلاَمَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَعَبُّدَ فِيمَا يُفْضِي إِلَى التَّلَفِ؛ وَلأَِنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يَسْقُطُ بِخَوْفِ الْهَلاَكِ فَالسُّنَّةُ أَحْرَى، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ، مُلَخَّصُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْخِتَانِ يَسْقُطُ عَمَّنْ خَافَ تَلَفًا، وَلاَ يَحْرُمُ مَعَ خَوْفِ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتْلَفُ بِهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخِتَانُ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2)

مَنْ مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ:
8 - لاَ يُخْتَنُ الْمَيِّتُ الأَْقْلَفُ الَّذِي مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ. لأَِنَّ الْخِتَانَ كَانَ تَكْلِيفًا، وَقَدْ زَال بِالْمَوْتِ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخِتَانِ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ زَالَتِ الْحَاجَةُ بِمَوْتِهِ. وَلأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيِّتِ فَلاَ يُقْطَعُ، كَيَدِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْقِصَاصِ وَهِيَ لاَ تُقْطَعُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَخَالَفَ الْخِتَانُ قَصَّ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ؛ لأَِنَّهُمَا يُزَالاَنِ فِي
__________
(1) المجموع 1 / 304، فتح القدير 1 / 43، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 2 / 152، الخرشي على خليل 3 / 48، مطالب أولي النهى 1 / 91.
(2) سورة البقرة / 195.

(19/29)


الْحَيَاةِ لِلزِّينَةِ، وَالْمَيِّتُ يُشَارِكُ الْحَيَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فَإِنَّهُ يُفْعَل لِلتَّكْلِيفِ بِهِ، وَقَدْ زَال بِالْمَوْتِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ لأَِنَّهُ كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَهِيَ تُزَال مِنَ الْمَيِّتِ. وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّغِيرِ (1) .

مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلاَ قُلْفَةٍ:
9 - مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلاَ قُلْفَةٍ فَلاَ خِتَانَ عَلَيْهِ لاَ إِيجَابًا وَلاَ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ الْقُلْفَةِ شَيْءٌ يُغَطِّي الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ كَمَا لَوْ خُتِنَ خِتَانًا غَيْرَ كَامِلٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ ثَانِيًا حَتَّى يُبِينَ جَمِيعَ الْقُلْفَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِزَالَتِهَا فِي الْخِتَانِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ تُجْرَى عَلَيْهِ الْمُوسَى، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقْطَعُ قُطِعَ (2) .

تَضْمِينُ الْخَاتِنِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَضْمِينِ الْخَاتِنِ إِذَا مَاتَ الْمَخْتُونُ بِسَبَبِ سِرَايَةِ جُرْحِ الْخِتَانِ، أَوْ إِذَا جَاوَزَ
__________
(1) المجموع 1 / 304، 5 / 183 فتح القدير 1 / 451 الخرشي على خليل 2 / 136، مطالب أولي النهى 1 / 858، كشاف القناع 2 / 97.
(2) المجموع 1 / 307، الاختيار 4 / 167، مواهب الجليل 3 / 258، الخرشي 3 / 48، مطالب أولي النهى 1 / 91.

(19/30)


الْقَطْعُ إِلَى الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ قُطِعَ فِي غَيْرِ مَحَل الْقَطْعِ.
وَحُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الطَّبِيبِ أَيْ أَنَّهُ يُضْمَنُ مَعَ التَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إِذَا خَتَنَ صَبِيًّا فَقَطَعَ حَشَفَتَهُ وَمَاتَ الصَّبِيُّ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاتِنِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَوْتَ حَصَل بِفِعْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ، وَالآْخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ. أَمَّا إِذَا بَرِئَ فَيُجْعَل قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَهُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلاً وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْحَشَفَةَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لاَ ثَانِيَ لَهُ فِي النَّفْسِ فَيُقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَل النَّفْسِ كَمَا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إِذَا كَانَ عَارِفًا مُتْقِنًا لِمِهْنَتِهِ وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ كَالطَّبِيبِ؛ لأَِنَّ الْخِتَانَ فِيهِ تَغْرِيرٌ فَكَأَنَّ الْمَخْتُونَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَا أَصَابَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْخَاتِنُ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ
__________
(1) فتح القدير 7 / 206، حاشية ابن عابدين 5 / 364 و 400، نهاية المحتاج 8 / 33، 34، حاشية الدسوقي 4 / 28، جواهر الإكليل 2 / 191، كشاف القناع 4 / 34 - 35.
(2) فتح القدير 7 / 206، حاشية ابن عابدين 5 / 364، 400.

(19/30)


وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ، وَفِي كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلاَنِ: فَلاِبْنِ الْقَاسِمِ إِنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ إِنَّهَا فِي مَالِهِ. لأَِنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل عَمْدًا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إِذَا تَعَدَّى بِالْجُرْحِ الْمُهْلِكِ، كَأَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لاَ يَحْتَمِلُهُ لِضَعْفٍ وَنَحْوِهِ أَوْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَمَاتَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فَإِنْ ظَنَّ كَوْنَهُ مُحْتَمِلاً فَالْمُتَّجَهُ عَدَمُ الْقَوَدِ لاِنْتِفَاءِ التَّعَدِّي. وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلاَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل بِوَلَدِهِ، وَتَلْزَمُهُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ لأَِنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ. فَإِنِ احْتَمَل الْخِتَانَ وَخَتَنَهُ وَلِيٌّ، أَوْ وَصِيٌّ، أَوْ قَيِّمٌ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ فِي الأَْصَحِّ لإِِحْسَانِهِ بِالْخِتَانِ، إِذْ هُوَ أَسْهَل عَلَيْهِ مَا دَامَ صَغِيرًا بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ لِتَعَدِّيهِ وَلَوْ مَعَ قَصْدِ إِقَامَةِ الشِّعَارِ.
وَلَمْ يَرَ الزَّرْكَشِيُّ الْقَوَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ أَيْضًا لأَِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُقِيمُ شَعِيرَةً (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إِذَا عُرِفَ مِنْهُ حِذْقُ الصَّنْعَةِ، وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ؛ لأَِنَّهُ فَعَل فِعْلاً مُبَاحًا فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ لاَ ضَمَانَ إِذَا كَانَ الْخِتَانُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ وَلِيِّ غَيْرِهِ أَوِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِذْقٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 28.
(2) نهاية المحتاج 8 / 33، 34.

(19/31)


فِي الصَّنْعَةِ ضَمِنَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، فَإِنْ قُطِعَ فَقَدْ فَعَل مُحَرَّمًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَطَبَّبَ وَلاَ يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ (1) وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَكَانَ حَاذِقًا وَلَكِنْ جَنَتْ يَدُهُ وَلَوْ خَطَأً، مِثْل أَنْ جَاوَزَ قَطْعَ الْخِتَانِ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ غَيْرَ مَحَل الْقَطْعِ، أَوْ قَطَعَ بِآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إِذَا قَطَعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ (2) .

آدَابُ الْخِتَانِ:
11 - تُشْرَعُ الْوَلِيمَةُ لِلْخِتَانِ وَتُسَمَّى الإِْعْذَارُ وَالْعَذَارُ، وَالْعُذْرَةُ، وَالْعَذِيرُ.
وَالسُّنَّةُ إِظْهَارُ خِتَانِ الذَّكَرِ، وَإِخْفَاءُ خِتَانِ الأُْنْثَى.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِي الذَّكَرِ وَلاَ بَأْسَ بِهَا فِي الأُْنْثَى لِلنِّسَاءِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ (3) ، وَالتَّفْصِيل فِي (وَلِيمَةٌ، وَدَعْوَةٌ) .
__________
(1) حديث: " من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن ". أخرجه أبو داود (4 / 710 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 212 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) كشاف القناع 4 / 34 - 35.
(3) فتح الباري 10 / 343 القليوبي 3 / 294.

(19/31)


خَدِيعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَدِيعَةُ وَالْخُدْعَةُ مَصْدَرُ خَدَعَ يَخْدَعُ إِظْهَارُ الإِْنْسَانِ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ. أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْخَتْل وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ. وَالْفَاعِل: الْخَادِعُ، وَخَدَّاعٌ وَخَدُوعٌ مُبَالَغَةٌ، وَالْخُدْعَةُ - بِالضَّمِّ - مَا يُخْدَعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِثْل اللُّعْبَةِ لِمَا يُلْعَبُ بِهِ وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ - مُثَلَّثَةُ الْخَاءِ - وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. قَال ثَعْلَبٌ: بَلَغَنَا أَنَّهَا لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَدْرُ:
2 - الْغَدْرُ، هُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، أَوْ نَقْضُهُ. قَال: غَدَرَهُ وَغَدَرَ بِهِ غَدْرًا: أَيْ خَانَهُ، وَنَقَضَ عَهْدَهُ.

ب - الْغَبْنُ:
3 - هُوَ مِنْ غَبَنَهُ يَغْبِنُهُ غَبْنًا - بِتَسْكِينِ الْبَاءِ - فِي الْبَيْعِ أَيْ: خَدَعَهُ، وَغُبِنَ الرَّأْيَ وَغُبِنَ فِيهِ غَبْنًا
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، ولسان العرب.

(19/32)


وَغَبَنًا - بِفَتْحِ الْبَاءِ - غَلِطَ فِيهِ وَنَسِيَهُ وَأَغْفَلَهُ (1) . وَالْغَبْنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَكُونُ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً.
فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَدِيعَةِ.

ج - الْخِيَانَةُ:
4 - الْخِيَانَةُ: التَّفْرِيطُ فِي الْعَهْدِ وَالأَْمَانَةِ وَتَرْكُ النُّصْحِ فِيهَا (2) . وَالْخَدِيعَةُ قَدْ تَكُونُ مَعَ خِيَانَةِ الأَْمَانَةِ وَقَدْ لاَ تَكُونُ.

د - الْغُرُورُ، وَالتَّغْرِيرُ:
5 - الْغُرُورُ مَصْدَرُ غَرَّهُ يَغُرُّهُ غُرُورًا، إِذَا خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِل (3) .
وَالتَّغْرِيرُ إِيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ.
وَالْغَرَرُ مَا انْطَوَتْ عَنْكَ عَاقِبَتُهُ، أَوْ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا (4) .

هـ - الْغِشُّ:
6 - وَهُوَ مَصْدَرُ غَشَّهُ يَغُشُّهُ - بِالضَّمِّ - غِشًّا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلاَفَ مَا يُبْطِنُهُ، يُقَال: شَيْءٌ مَغْشُوشٌ (5) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) مختار الصحاح والقاموس المحيط ولسان العرب.
(3) القاموس المحيط.
(4) القليوبي 2 / 161.
(5) تاج العروس، ولسان العرب.

(19/32)


و - التَّدْلِيسُ:
7 - التَّدْلِيسُ، كِتْمَانُ عَيْبِ الشَّيْءِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْبَيْعِ (1) .
فَالتَّدْلِيسُ نَوْعٌ مِنَ الْخَدِيعَةِ.

ز - التَّوْرِيَةُ:
8 - وَهِيَ مِنْ وَرَّى الْخَبَرَ تَوْرِيَةً: أَيْ سَتَرَهُ، وَأَظْهَرَ غَيْرَهُ (2)
فَهِيَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنَ الْخَدِيعَةِ.

ح - التَّزْوِيرُ:
9 - هُوَ تَحْسِينُ الشَّيْءِ، وَوَصْفُهُ بِخِلاَفِ صِفَتِهِ حَتَّى يُخَيَّل إِلَى مَنْ يَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ أَنَّهُ بِخِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِل بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَنَدَاتِ مِنَ الْوَثَائِقِ وَالشَّهَادَاتِ (3)

. ط - الْحِيلَةُ:
10 - هِيَ فِي اللُّغَةِ الْحِذْقُ وَجَوْدَةُ النَّظَرِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ غَلَبَ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْحِيلَةِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الرَّجُل إِلَى حُصُول غَرَضِهِ، بِحَيْثُ لاَ
__________
(1) المغرب.
(2) مختار الصحاح مادة: (ورى) .
(3) سبل السلام 4 / 130.

(19/33)


يَتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ (1) .
وَقَال الرَّاغِبُ: وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِي تَعَاطِيهِ خَبَثٌ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِيمَا فِي اسْتِعْمَالِهِ حِكْمَةٌ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
11 - الْخَدِيعَةُ بِمَعْنَى - إِظْهَارِ الإِْنْسَانِ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ - حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِيهَا خِيَانَةُ أَمَانَةٍ، أَوْ نَقْضُ عَهْدٍ. وَهَذَا لاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الأُْمَّةِ، وَتَوَاتَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْهَا.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) وَقَوْلُهُ: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (4)
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلاَل كُلِّهَا إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. (5) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَْعْيُنِ (6)
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 252.
(2) المفردات.
(3) سورة المائدة / 1.
(4) سورة التوبة / 4.
(5) حديث: " يطبع المؤمن. . . . " أخرجه أحمد (5 / 252 - ط الميمنية) من حديث أبي أمامة، وأعله الهيثمي في المجمع (1 / 92 - ط القدسي) بالانقطاع بين الأعمش وأبي أمامة.
(6) حديث: " إنه لا ينبغي لنبي. . . . . " أخرجه أبو داود (3 / 133 - 134 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 45 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث سعد بن أبي وقاص. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(19/33)


وَعَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ فَقَال: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ. (1)
وَقَال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ. (2)
قَال الصَّنْعَانِيُّ فِي سُبُل السَّلاَمِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الْعَهْدِ، وَالْوَفَاءِ بِهِ. وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ عُقُودٍ مُعَيَّنَةٍ تَدْخُل فِيهَا الْخَدِيعَةُ مِنَ النَّجْشِ، وَالتَّصْرِيَةِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ. وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَخْدُوعِ فِيهَا حَقَّ خِيَارِ الْفَسْخِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَال: إِنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَال: إِذَا بَايَعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ أَيْ لاَ خَدِيعَةَ (3) .
(ر: نَجْشٌ، وَتَصْرِيَةٌ، وَتَدْلِيسٌ) .

الْخَدِيعَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
12 - أَمَّا الْخَدِيعَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ، فَلاَ يَجُوزُ الْخُدَعُ، وَلاَ التَّبْيِيتُ بِالْهُجُومِ الْغَادِرِ، وَهُمْ آمِنُونَ مُطْمَئِنُّونَ إِلَى عَهْدٍ لَمْ يُنْقَضْ، وَلَمْ يُنْبَذْ،
__________
(1) حديث: " آية المنافق ثلاث إذا حدث. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 89 - ط السلفية) ومسلم (1 / 78 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد " أخرجه أبو داود (3 / 189 - 190 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي رافع وإسناده صحيح.
(3) حديث: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " البخاري (الفتح 4 / 337 - ط السلفية) .

(19/34)


حَتَّى لَوْ كُنَّا نَخْشَى الْخِيَانَةَ مِنْ جَانِبِهِمْ (1) . قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وَقَال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (3) وَقَال: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (4) وَأَمَّا إِذَا اسْتَشْعَرَ الإِْمَامُ عَزْمَهُمْ عَلَى الْخِيَانَةِ بِأَمَارَاتٍ تَدُل عَلَيْهَا لاَ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمٍ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ خَدْعُهُمْ وَلاَ تَبْيِيتُهُمْ بِهُجُومٍ غَادِرٍ، وَهُمْ آمِنُونَ مُطْمَئِنُّونَ إِلَى عَهْدٍ لَمْ يُنْقَضْ، وَلَمْ يُنْبَذْ. بَل يُنْبَذُ إِلَيْهِمُ الْعَهْدُ ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ (5) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . (6)
قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً: أَيْ غِشًّا، وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُعَاهَدِينَ فَاطْرَحْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، عَلَى سَوَاءٍ أَيْ أَخْبِرْهُمْ إِخْبَارًا ظَاهِرًا مَكْشُوفًا بِالنَّقْضِ، وَلاَ تُنَاجِزْهُمُ الْحَرْبَ بَغْتَةً (7) .
13 - فَأَمَّا بَعْدُ أَنْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَصَارَ عِلْمُهُمْ وَعِلْمُ الْمُسْلِمِينَ بِنَقْضِهِ عَلَى سَوَاءٍ، وَبَعْدَ أَنْ أَخَذَ كُل خَصْمٍ حِذْرَهُ، فَإِنَّ كُل وَسَائِل
__________
(1) المغني 8 / 462، شرح روض الطالب 4 / 225، حاشية ابن عابدين 3 / 224.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) سورة التوبة / 4.
(4) سورة التوبة / 7.
(5) أسنى المطالب 4 / 226، المغني 8 / 463.
(6) سورة الأنفال / 58.
(7) فتح القدير تفسير آية 58 من سورة الأنفال.

(19/34)


الْخُدْعَةِ مُبَاحَةٌ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ غَادِرَةً، فَمَنْ جَازَتْ عَلَيْهِ الْخُدْعَةُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَهُوَ غَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْدُورٍ بِهِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (1) وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْحَدِيثِ: الأَْمْرُ بِاسْتِعْمَال الْحِيلَةِ فِي الْحَرْبِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالنَّدْبُ إِلَى خِدَاعِ الْكُفَّارِ، قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كُلَّمَا أَمْكَنَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ، أَوْ أَمَانٍ فَلاَ يَجُوزُ.
(ر: أَمَانٌ، عَهْدٌ، هُدْنَةٌ) .
وَفِيهِ الإِْشَارَةُ إِلَى اسْتِعْمَال الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ بَل الاِحْتِيَاجُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الشَّجَاعَةِ (2) . وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: مَعَ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ الْحَرْبُ الْجَيِّدَةُ لِصَاحِبِهَا الْكَامِلَةُ فِي مَقْصُودِهَا إِنَّمَا هِيَ الْمُخَادَعَةُ، لاَ الْمُوَاجَهَةُ، وَذَلِكَ لِخَطَرِ الْمُوَاجَهَةِ وَحُصُول الظَّفَرِ مَعَ الْمُخَادَعَةِ بِغَيْرِ خَطَرٍ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: إِذَا دَعَتْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَاجِحَةٌ إِلَى خِدَاعِ الْمُخَاطَبِ، أَوْ حَاجَةٌ لاَ مَنْدُوحَةَ عَنْهَا إِلاَّ بِالْكَذِبِ، فَلاَ بَأْسَ بِالتَّوْرِيَةِ، وَالتَّعْرِيضِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ إِلاَّ أَنْ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَخْذِ بَاطِلٍ، أَوْ دَفْعِ
__________
(1) حديث: " الحرب خدعة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 158 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1361 ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) فتح الباري 6 / 158 - 159، المغني 8 / 369.
(3) المصدر السابق.

(19/35)


حَقٍّ فَيَصِيرُ عِنْدَئِذٍ حَرَامًا (1) .
وَفِي التَّوْرِيَةِ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول: كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إِنَّ هَذَا أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، فَإِنَّا اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ (2) وَكُل هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَوْرِيَةٌ: وَقَصَدَ بِهَا إِلَى مَعْنًى غَيْرِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ مِنْهَا.
وَمَعْنَى عَنَّانَا: كَلَّفَنَا بِالأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَمَعْنَى سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ: طَلَبَهَا لِيَضَعَهَا فِي مَكَانِهَا الصَّحِيحِ. وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ: نَكْرَهُ أَنْ نُفَارِقَهُ (3) .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا (4) .
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُرِيدُ غَزْوَ جِهَةٍ فَلاَ يُظْهِرُهَا وَيُظْهِرُ غَيْرَهَا، كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَغْزُوَ جِهَةَ الشَّرْقِ، فَيَسْأَل عَنْ أَمْرٍ فِي جِهَةِ الْغَرْبِ، فَيَتَجَهَّزُ لِلسَّفَرِ فَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ جِهَةَ الْغَرْبِ (5) .
وَهَذَا فِي الْغَالِبِ فَقَدْ صَرَّحَ بِجِهَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِلتَّأَهُّبِ لَهَا.
__________
(1) الأذكار للنووي ص 338، فتح الباري 6 / 159.
(2) مقالة كعب: إن هذا قد عنانا، وسألنا الصدقة " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 113 - ط السلفية) .
(3) فتح الباري 6 / 159.
(4) حديث: " كان إذا أراد أن يغزو غزوة ورى بغيرها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 113 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 2128 - ط الحلبي) من حديث كعب بن مالك.
(5) المصدر السابق.

(19/35)


خِدْمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِدْمَةُ مَصْدَرُ خَدَمَ وَهِيَ الْمِهْنَةُ، وَقِيل: وَهِيَ بِالْكَسْرِ الاِسْمُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. وَالْخَدَمُ وَالْخُدَّامُ جَمْعُ خَادِمٍ، وَالْخَادِمُ يَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، لأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الأَْسْمَاءِ غَيْرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الأَْفْعَال. وَيُقَال لِلأُْنْثَى فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ خَادِمَةٌ.
وَاسْتَخْدَمَهُ وَاخْتَدَمَهُ جَعَلَهُ خَادِمًا، أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَخْدُمَهُ، وَأَخْدَمْتُ فُلاَنًا: أَيْ أَعْطَيْتَهُ خَادِمًا يَخْدُمُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمِهْنَةُ:
2 - الْمِهْنَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا - الْحِذْقُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَل، وَمَهَنَ يَمْهُنُ مِهَنًا إِذَا عَمِل فِي صَنْعَةٍ، وَمَهَنَهُمْ خَدَمَهُمْ وَامْتَهَنْتُهُ أَيِ: اسْتَخْدَمْتَهُ وَابْتَذَلْتَهُ.
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: (خدم) ومغني المحتاج 3 / 433، وكشاف القناع 5 / 463.

(19/36)


وَالْمَاهِنُ الْخَادِمُ، وَالأُْنْثَى مَاهِنَةٌ، وَالْجَمْعُ مُهَّانٌ، وَيُقَال: لِلأُْنْثَى بِالْخَرْقَاءِ لاَ تُحْسِنُ الْمِهْنَةَ، أَيْ لاَ تُحْسِنُ الْخِدْمَةَ.
وَالْمِهْنَةُ الْخِدْمَةُ وَالاِبْتِذَال، وَالْمَهِينُ الضَّعِيفُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (1)
وَخَرَجَ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهِ أَيْ: فِي ثِيَابِ خِدْمَتِهِ الَّتِي يَلْبَسُهَا فِي أَشْغَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ (2) .
فَالْمِهْنَةُ أَخَصُّ؛ لأَِنَّ فِيهَا الْحِذْقَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصَّنْعَةِ.

ب - الْعَمَل:
3 - وَالْعَمَل هُوَ الْمِهْنَةُ وَالْفِعْل، وَالْجَمْعُ أَعْمَالٌ. وَالْعَامِل هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَ الرَّجُل فِي مَالِهِ، أَوْ مِلْكِهِ، أَوْ عَمَلِهِ، وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ. وَالْعُمْلَةُ وَالْعِمَالَةُ، أَجْرُ مَا عَمِل، أَوْ رِزْقُ الْعَامِل الَّذِي جُعِل لَهُ عَلَى مَا قُلِّدَ مِنَ الْعَمَل، وَالْعَمَلَةُ هُمُ الْقَوْمُ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ ضُرُوبًا مِنَ الْعَمَل فِي طِينٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَمَل وَالْخِدْمَةِ أَنَّ الْعَمَل أَعَمُّ مِنَ الْخِدْمَةِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخِدْمَةِ: خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل وَعَكْسُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ
__________
(1) سورة المرسلات / 20.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (مهن) .
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (عمل) .

(19/36)


الرَّجُل الأَْعْزَبِ الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ الْبَالِغَةَ لِلْخِدْمَةِ فِي بَيْتِهِ، مَأْمُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ وَذَلِكَ اتِّقَاءٌ لِلْفِتْنَةِ، وَلأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعْصِيَةٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّجُل مَحْرَمًا لَهَا، أَوْ صَغِيرًا، أَوْ شَيْخًا هَرِمًا، أَوْ مَمْسُوحًا أَوْ مَجْبُوبًا، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْخَادِمَةُ صَغِيرَةً لاَ تُشْتَهَى.
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ وَبَيْنَ الأَْمَةِ، وَلاَ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ كَانَتْ قَبِيحَةً يُؤْمَنُ مِنَ الرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ لاَ تَحْرُمُ خِدْمَتُهَا لَهُ فِي بَيْتِهِ لاِنْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
وَالْحُرْمَةُ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - إِذَا كَانَتِ الْخِدْمَةُ تَتَطَلَّبُ الْخَلْوَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ تَتَطَلَّبُ الْخَلْوَةَ فَيَجُوزُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الرَّجُل مَرِيضًا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدُمُهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الرَّجُل جَمِيلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ جَمِيلَةٍ مُتَجَالَّةً أَوْ غَيْرَ مُتَجَالَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَجَالَّةِ وَغَيْرِ الْمُتَجَالَّةِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الرَّجُل الْعَزَبِ الَّذِي لاَ نِسَاءَ عِنْدَهُ مِنْ قَرَابَاتٍ وَزَوْجَاتٍ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَدَيْهِ زَوْجَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ. قَال أَحْمَدُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَسْتَأْجِرَ الأَْمَةَ وَالْحُرَّةَ لِلْخِدْمَةِ، وَلَكِنْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ لَيْسَتِ الأَْمَةُ مِثْل الْحُرَّةِ وَلاَ يَخْلُو مَعَهَا فِي بَيْتٍ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً وَلاَ إِلَى شَعْرِهَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُل امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا وَكَذَلِكَ الأَْمَةُ.

(19/37)


قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ.
وَأَمَّا الاِسْتِخْدَامُ فَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قِيل لاِبْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً تَخْدُمُهُ وَهُوَ عَزَبٌ أَيَجُوزُ هَذَا أَمْ لاَ؟ قَال: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِل عَنِ امْرَأَةٍ تُعَادِل الرَّجُل فِي الْمَحْمَل وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمٌ فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَالَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، وَهُوَ يَخْلُو مَعَهَا أَشَدُّ عِنْدِي كَرَاهِيَةً مِنَ الَّذِي تُعَادِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَحْمَل (1) .
أَمَّا خَادِمُ الْمَرْأَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً كَبِيرًا مِمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، فَلاَ يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخَادِمُ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، أَوْ مَحْرَمًا لِلْمَرْأَةِ الْمَخْدُومَةِ، أَوْ عَبْدًا مَمْلُوكَهَا، أَوْ مَمْسُوحًا، أَوْ نَحْوَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْدُمَهَا.
وَهَذَا فِي الْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ، أَمَّا الْخِدْمَةُ الظَّاهِرَةُ
__________
(1) البدائع 4 / 189، وحاشية ابن عابدين 2 / 333 - 334، مواهب الجليل 5 / 393، القوانين الفقهية ص 378، المجموع 15 / 29، مغني المحتاج 2 / 265، 337، روضة الطالبين 4 / 427، نهاية المحتاج 4 / 232، المغني لابن قدامة 5 / 467، كشاف القناع 4 / 64، الإنصاف 6 / 102، المدونة الكبرى 4 / 432، القليوبي وعميرة 3 / 18، تحفة المحتاج 5 / 417.

(19/37)


مِثْل قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ السُّوقِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الرَّجُل الأَْجْنَبِيُّ.
قَال الْحَطَّابُ: وَسُئِل عَنِ الْمَرْأَةِ الْعَزَبَةِ الْكَبِيرَةِ تَلْجَأُ إِلَى الرَّجُل، فَيَقُومُ لَهَا بِحَوَائِجِهَا وَيُنَاوِلُهَا الْحَاجَةَ، هَل تَرَى لَهُ ذَلِكَ جَائِزًا؟ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ وَلْيَدْخُل مَعَهُ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ تَرَكَهَا النَّاسُ لَضَاعَتْ، وَهَذَا عَلَى مَا قَال إِنَّهُ جَائِزٌ لِلرَّجُل أَنْ يَقُومَ لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ بِحَوَائِجِهَا وَيُنَاوِلَهَا الْحَاجَةَ إِذَا غَضَّ بَصَرَهُ عَمَّا لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، مِمَّا لاَ يَظْهَرُ مِنْ زِينَتِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) وَذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْل التَّأْوِيل، فَجَائِزٌ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الدُّخُول عَلَيْهَا أَدْخَل غَيْرَهُ مَعَهُ لِيُبْعِدَ سُوءَ الظَّنِّ عَنْ نَفْسِهِ (2) .

خِدْمَةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَنْ يَخْدُمَ الْكَافِرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِإِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، وَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ وَلاَ الإِْعَارَةُ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 273، 2 / 333، 5 / 238، مواهب الجليل 5 / 393، مغني المحتاج 2 / 265، 3 / 131، 3 / 432، المغني لابن قدامة 7 / 569، الفواكه الدواني 2 / 108، القليوبي وعميرة 3 / 18، تحفة المحتاج 5 / 417، وجواهر الإكليل 2 / 145.

(19/38)


لِذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُسْلِمِ وَإِذْلاَلاً لَهُ، وَتَعْظِيمًا لِلْكَافِرِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (1)
وَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ قِصَارَتِهِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لاَ يَتَضَمَّنُ إِذْلاَلاً وَلاَ اسْتِخْدَامًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْتَقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ (2) . وَكَذَا إِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ لِعَمَلٍ غَيْرِ الْخِدْمَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ أَيْضًا.
وَكَذَا إِعَارَةُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ لاَ يَقْتَضِي الْخِدْمَةَ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا.
وَيُشْتَرَطُ فِيمَا جَازَ مِنَ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْعَمَل مِمَّا لاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ، كَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ أَوْ حَمْل الْخَمْرِ (3) .

خِدْمَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَعَكْسُهُ:
6 - إِذَا قَامَ الْوَالِدُ بِنَفْسِهِ بِخِدْمَةِ وَلَدِهِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْخِدْمَةُ أَوِ الإِْخْدَامُ لِوَلَدِهِ
__________
(1) سورة النساء / 141.
(2) حديث: " آجر علي نفسه من يهودي. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 181 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري: " في إسناده حنش، واسمه حسين بن قيس، ضعفه أحمد وغيره ".
(3) البدائع 4 / 189، الخرشي على مختصر خليل 7 / 19، حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 456، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 18، المغني لابن قدامة 5 / 554، نهاية المحتاج 4 / 232، القليوبي وعميرة 3 / 18.

(19/38)


الصَّغِيرِ أَوِ الْمَرِيضِ، أَوِ الْعَاجِزِ، إِذَا كَانَ فَقِيرًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِخْدَامِ الْفَرْعِ لأَِصْلِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْهَانَةِ وَالإِْذْلاَل وَالاِسْتِخْفَافِ الَّذِي لاَ يَلِيقُ بِمَكَانَةِ الأُْبُوَّةِ.
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَالِدَهُ لِلاِسْتِخْدَامِ وَإِنْ عَلاَ، وَكَذَلِكَ وَالِدَتُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْوَالِدُ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا؛ لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ وَالِدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الدِّينُ، وَفِي الاِسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) وَهَذَا الأَْمْرُ وَرَدَ فِي حَقِّ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، لأَِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (2) الآْيَةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْوَلَدِ تَنْزِيهًا اسْتِخْدَامُ أَحَدِ أُصُولِهِ وَإِنْ عَلاَ لِصِيَانَتِهِمْ عَنِ الإِْذْلاَل.
أَمَّا خِدْمَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، أَوِ اسْتِخْدَامُ الأَْبِ لِوَلَدِهِ فَجَائِزٌ بِلاَ خِلاَفٍ، بَل إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا، وَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْوَلَدِ خِدْمَةُ أَوْ إِخْدَامُ وَالِدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِهَذَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ قَضَى
__________
(1) سورة لقمان / 15.
(2) سورة لقمان / 15.

(19/39)


حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ (1) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَادِمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - إِخْدَامُ الزَّوْجَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُ زَوْجَتِهِ الَّتِي لاَ يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا بِأَنْ كَانَتْ تُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا، أَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الأَْقْدَارِ، لِكَوْنِ هَذَا مِنْ حَقِّهَا فِي الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ كِفَايَتِهَا وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدَّوَامِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِْخْدَامَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ، وَالْمُصَابَةِ بِعَاهَةٍ لاَ تَسْتَطِيعُ مَعَهَا خِدْمَةَ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يُخْدَمُ مِثْلُهَا؛ لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ لاَ تَسْتَغْنِي عَنِ الْخِدْمَةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا يَرَوْنَ وُجُوبَ إِخْدَامِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، لَكِنْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ ذَا سَعَةٍ وَهِيَ ذَاتُ قَدْرٍ لَيْسَ شَأْنَهَا الْخِدْمَةُ، أَوْ كَانَ هُوَ ذَا قَدْرٍ تَزْرِي خِدْمَةُ زَوْجَتِهِ بِهِ (3) .
__________
(1) البدائع 2 / 278، 4 / 190، حاشية ابن عابدين 2 / 333، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 435، مغني المحتاج 2 / 337، 3 / 213، روضة الطالبين 5 / 186، 4 / 427، الكشاف 4 / 64، الإنصاف 6 / 102، المغني لابن قدامة 5 / 225.
(2) سورة النساء / 19.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 510.

(19/39)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَخْدُمُ، أَوْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا وَتَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا دِيَانَةً وَلَوْ شَرِيفَةً، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ الأَْعْمَال بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، فَجَعَل أَعْمَال الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالدَّاخِل عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1) مَعَ أَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ (2) .

ب - الإِْخْدَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْزَامِ الزَّوْجِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ خِدْمَتُهَا فِي نَفْسِهَا وَيَحْصُل ذَلِكَ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ (3) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
__________
(1) حديث: " قسم صلى الله عليه وسلم الأعمال بين علي وفاطمة فجعل. . . " ذكر ابن حجر في الفتح (9 / 507 - السلفية) أن ذلك مستنبط من حديث علي بن أبي طالب، أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما، فدلها على ما تقول حين تأخذ مضجعها. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 506 - ط السلفية) .
(2) الدر المختار 2 / 648.
(3) ابن عابدين 2 / 648، 655، والقوانين الفقهية ص 226، ومغني المحتاج 3 / 433 و 434، والمغني 7 / 569.

(19/40)


الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَالُهَا وَمَنْصِبُهَا يَقْتَضِي، خَادِمَيْنِ أَوْ أَكْثَر فَلَهَا ذَلِكَ.
قَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ غَنِيَّةً وَزُفَّتْ إِلَيْهِ بِخَدَمٍ كَثِيرٍ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَجِل مِقْدَارُهَا عَنْ خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى مَنْ لاَ بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْخَدَمِ مِمَّنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ الْخَادِمِ الْوَاحِدِ، أَوِ الاِثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْحَاصِل: أَنَّ الْمَذْهَبَ الاِقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، وَالْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَ الْمَشَايِخِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لاَ يُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا مَثَلاً، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْخْدَامُ، بَل يَلْزَمُهَا أَنْ تَقُومَ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا الْبَاطِنَةِ (أَيْ فِي دَاخِل الْمَنْزِل) مِنْ عَجْنٍ وَطَبْخٍ، وَكَنْسٍ، وَفَرْشٍ، وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ إِذَا كَانَ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا غَزْلٌ، وَلاَ نَسْجٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِنَ السُّوقِ مَا تَحْتَاجُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ تَمَّامِ الْكِفَايَةِ.

ج - تَبْدِيل الْخَادِمِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَبْدِيل الزَّوْجِ خَادِمَهَا الَّذِي حَمَلَتْهُ مَعَهَا، أَوْ أَخْدَمَهَا إِيَّاهُ هُوَ (وَأَلِفَتْهُ) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لَهُ لِتَضَرُّرِهَا بِقَطْعِ الْمَأْلُوفِ؛ وَلأَِنَّهَا قَدْ لاَ تَتَهَيَّأُ لَهَا الْخِدْمَةُ بِالْخَادِمِ

(19/40)


الَّذِي يَجِيءُ بِهِ الزَّوْجُ بَدَل خَادِمِهَا إِلاَّ إِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ رِيبَةٌ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَضَرَّرَ بِوُجُودِهِ.
أَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ رِيبَةٌ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَضَرَّرَ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ يَخْتَلِسُ مِنْ ثَمَنِ مَا يَشْتَرِيهِ أَوْ أَمْتِعَةِ بَيْتِهِ فَلَهُ الإِْبْدَال، وَالإِْتْيَانُ بِخَادِمٍ أَمِينٍ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى رِضَاهَا إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ تَسْتَبْدِل غَيْرَهُ بِهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ إِبْدَال خَادِمٍ آخَرَ بِخَادِمِهَا إِذَا أَتَاهَا بِمَنْ يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ لأَِنَّ تَعْيِينَ الْخَادِمِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ إِلَيْهَا (1) .

د - إِخْرَاجُ الْخَادِمِ مِنَ الْبَيْتِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الزَّوْجِ لِخَدَمِ الْمَرْأَةِ الزَّائِدِ عَنِ الْوَاحِدِ، أَوِ الزَّائِدِ عَنِ الْحَاجَةِ مِنْ بَيْتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَهُ إِخْرَاجَ الزَّائِدِ عَنِ الْحَاجَةِ وَمَنْعَهُ مِنْ دُخُول الْبَيْتِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَال: لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ (2) .

هـ - إِخْدَامُ الْمُعْسِرِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الإِْخْدَامِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 654، والقوانين الفقهية ص 226، جواهر الإكليل 1 / 402، مغني المحتاج 3 / 434، المغني لابن قدامة 7 / 569، الفروع 5 / 579.
(2) المصادر السابقة وكشاف القناع 5 / 464.

(19/41)


الْمُعْسِرِ لِلزَّوْجَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْخِدْمَةَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الإِْخْدَامِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُوسِرِ فَقَطْ. أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْخْدَامُ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تَخْدُمَ نَفْسَهَا الْخِدْمَةَ الدَّاخِلِيَّةَ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَكْفِيَهَا الأَْعْمَال الْخَارِجِيَّةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ الأَْعْمَال بَيْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَيْنَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَجَعَل أَعْمَال الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَعْمَال الدَّاخِل عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1)
إِلاَّ أَنَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، يَرَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلزَّوْجَةِ خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لاَ تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وُجُوبَ الإِْخْدَامِ لِلزَّوْجَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُوسِرُ، وَالْمُتَوَسِّطُ، وَالْمُعْسِرُ، وَالْحُرُّ، وَالْعَبْدُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَلأَِنَّ الْخِدْمَةَ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَسَائِرِ الْمُؤَنِ (2) .

-
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه في ف / 8.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 654، البدائع 4 / 24، جواهر الإكليل 1 / 407، القوانين الفقهية ص 226، مغني المحتاج 3 / 432، الجمل على شرح المنهج 4 / 494، المغني لابن قدامة 7 / 570، الفروع 5 / 579 الإنصاف 9 / 357.

(19/41)


وَصِفَةُ الْخَادِمِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَادِمُ إِمَّا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، أَوْ مَحْرَمًا لِلزَّوْجَةِ الْمَخْدُومَةِ، أَوْ مَمْسُوحًا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً كَبِيرًا مِمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ فَلاَ يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ.

الْخَادِمَةُ الذِّمِّيَّةُ.
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ الذِّمِّيَّةِ هَل يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَادِمًا لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ عَدَاوَتُهَا الدِّينِيَّةُ؛ وَلأَِنَّ نَظَرَ الذِّمِّيَّةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} إِلَى أَنْ قَال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1)
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَنَعَ الْكِتَابِيَّاتِ دُخُول الْحَمَّامِ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ؛ لأَِنَّهَا رُبَّمَا تَحْكِيهَا لِلْكَافِرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لاَ تَتَعَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يُجِيزُ أَنْ تَخْدُمَ الذِّمِّيَّةُ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ؛ لأَِنَّ نَظَرَهَا إِلَى الْمُسْلِمَةِ عِنْدَهُمْ جَائِزًا (2) .
وَهَذَا فِي الْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 273، و 5 / 238، والفواكه الدواني 2 / 108، مغني المحتاج 13 / 131، 3 / 433، والمغني لابن قدامة 7 / 569.

(19/42)


أَمَّا الظَّاهِرَةُ مِثْل قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ السُّوقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الرِّجَال وَغَيْرُهُمْ.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَيَخْدُمُ الْمَرْأَةَ بِأُنْثَى أَوْ بِذَكَرٍ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ الاِسْتِمْتَاعُ: أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِخْدَامَ الْمُسْلِمَةِ بِذِمِّيَّةٍ حَيْثُ أَطْلَقُوا الأُْنْثَى وَلَمْ يُقَيِّدُوهَا بِمُسْلِمَةٍ:
وَلاَ سِيَّمَا وَأَنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ (1) .

ز - نَفَقَةُ الْخَادِمِ:
14 - نَفَقَةُ الْخَادِمِ تَشْمَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الطَّعَامَ وَالْمَسْكَنَ وَالْمَلْبَسَ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ لاَ تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ كَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ بَل يُفْرَضُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى أَنْ لاَ تَبْلُغَ نَفَقَتُهُ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ لأَِنَّهُ تَبَعٌ لَهَا (2)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ جِنْسَ طَعَامِ الْخَادِمِ هُوَ جِنْسُ طَعَامِ الْمَخْدُومَةِ، وَكَذَلِكَ لِلْخَادِمَةِ كِسْوَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ، وَمُؤْنَتَهُ، وَكِسْوَتَهُ تَكُونُ مِثْل مَا لاِمْرَأَةِ الْمُعْسِرِ (4) .

ح - طَلَبُ الزَّوْجَةِ أُجْرَةَ الْخَادِمِ:
15 - لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنَا أَخْدُمُ نَفْسِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 41، الفواكه الدواني 2 / 108، مغني المحتاج 3 / 132.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 655.
(3) روضة الطالبين 9 / 44، مغني المحتاج 3 / 433.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 570، وكشاف القناع 5 / 464.

(19/42)


وَطَلَبَتِ الأُْجْرَةَ أَوْ نَفَقَةَ الْخَادِمِ لاَ يَلْزَمُهُ قَبُول ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ فِي إِخْدَامِهَا تَوْفِيرَهَا عَلَى حُقُوقِهِ وَتَرْفِيهَهَا، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِخِدْمَتِهَا لِنَفْسِهَا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى خِدْمَتِهَا لِزَوْجِهَا أَوْ لِنَفْسِهَا؛ لأَِنَّهَا لَوْ أَخَذَتِ الأُْجْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لأََخَذَتْهَا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ.
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لاَ تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الأَْشْرَافِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَال الزَّوْجُ: أَنَا أَخْدُمُكِ بِنَفْسِي لِيُسْقِطَ مُؤْنَةَ الْخَادِمِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهَا قَبُول ذَلِكَ.
لأَِنَّ فِي هَذَا غَضَاضَةً عَلَيْهَا لِكَوْنِ زَوْجِهَا خَادِمًا لَهَا وَتُعَيَّرُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال الْمَرْجُوحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلرَّجُل أَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ بِنَفْسِهِ وَيُلْزِمَهَا الرِّضَا بِهِ، لأَِنَّ الْكِفَايَةَ تَحْصُل بِهَذَا.
وَيَرَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ الْقَفَّال أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ فِيمَا لاَ يَسْتَحِي مِنْهُ، كَغَسْل الثَّوْبِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَالطَّبْخِ دُونَ

(19/43)


مَا يَرْجِعُ إِلَى خِدْمَةِ نَفْسِهَا كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمُسْتَحِمِّ وَنَحْوِهِمَا (1) .

ط - إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمَةِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهَا الصَّبْرُ عَنْهَا.
وَلَكِنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْعِوَضِ، فَتَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْمَرْأَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الأَْذْرَعِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ اسْتَحَقَّتِ الْخِدْمَةَ لِرُتْبَتِهَا وَقَدْرِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَدِ اسْتَحَقَّتِ الْخِدْمَةَ لِمَرَضِهَا وَنَحْوِهِ فَالْوَجْهُ عَدَمُ ثُبُوتِ النَّفَقَةِ فِي الذِّمَّةِ وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَنِ الزَّوْجِ بِإِعْسَارِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} (2) وَهَذَا مُعْسِرٌ لَمْ يُؤْتِهِ شَيْئًا فَلاَ يُكَلَّفُ بِشَيْءٍ (3) .

ي - زَكَاةُ فِطْرِ الْخَادِمِ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 4 / 24، الخرشي على مختصر سيدي خليل 4 / 186، روضة الطالبين 9 / 45، المغني لابن قدامة 7 / 570، الفروع 5 / 579.
(2) سورة الطلاق / 7.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 656 - 659، الخرشي على مختصر خليل 4 / 186، القوانين الفقهية ص 226، جواهر الإكليل 1 / 404، مغني المحتاج 3 / 443، كشاف القناع 5 / 478، المغني لابن قدامة 7 / 579.

(19/43)


إِنْ كَانَ لاِمْرَأَتِهِ مَنْ يَخْدُمُهَا بِأُجْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَقْتَضِي النَّفَقَةَ، وَالْفِطْرَةُ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُرِّ وَغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا لَهَا نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَجِبُ لَهَا خَادِمٌ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا بِخَادِمِهَا فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ، لأَِنَّ الْفِطْرَةَ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ إِلاَّ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى وُجُوبَهَا عَلَى الزَّوْجَةِ.
أَمَّا إِنْ أَخْدَمَهَا بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لَهُ لاَ بِسَبَبِ خِدْمَتِهِ لِلزَّوْجَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ فِي حُكْمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَحِبَتِ الزَّوْجَةَ لِتَخْدُمَهَا بِنَفَقَتِهَا بِإِذْنِهِ، فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ لُزُومِ فِطْرَتِهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسْتَأْجَرَةِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ الرَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ فِطْرَتِهَا؛ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ (1) .
__________
(1) الخرشي على مختصر سيدي خليل 4 / 186، حاشية العدوي 1 / 452، المجموع 6 / 118، مغني المحتاج 1 / 403، 3 / 433.

(19/44)


خِدْمَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَعَكْسُهُ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الزَّوْجَةَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا أَوْ مِمَّنْ لاَ تَخْدُمُ نَفْسَهَا.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْخِدْمَةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لاَ تَجِبُ عَلَيْهَا لَكِنَّ الأَْوْلَى لَهَا فِعْل مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا دِيَانَةً لاَ قَضَاءً، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ الأَْعْمَال بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَجَعَل عَمَل الدَّاخِل عَلَى فَاطِمَةَ، وَعَمَل الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ. (1) وَلِهَذَا فَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ - عِنْدَهُمْ - أَنْ تَأْخُذَ مِنْ زَوْجِهَا أَجْرًا مِنْ أَجْل خِدْمَتِهَا لَهُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، إِلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةَ زَوْجِهَا فِي الأَْعْمَال الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا، لِقِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَعَلَى عَلِيٍّ بِمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ مِنَ الأَْعْمَال (2) وَلِحَدِيثِ: لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَِحَدٍ لأََمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه في ف / 8.
(2) لعل المالكية حملوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من تصرفه بالقضاء أما الحنفية فحملوا على أنه من الفتيا فجعلوا الوجوب ديانة أي فيما بينهما وبين الله تعالى (اللجنة) .

(19/44)


تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُل مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ لَكَانَ نَوْلُهَا أَنْ تَفْعَل (1) قَال الْجُوزَجَانِيُّ: فَهَذِهِ طَاعَتُهُ فِيمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ؟
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ بِخِدْمَتِهِ فَيَقُول: يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ وَاشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ (2)
وَقَال الطَّبَرِيُّ: إِنَّ كُل مَنْ كَانَتْ لَهَا طَاقَةٌ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خِدْمَةِ بَيْتِهَا فِي خَبْزٍ، أَوْ طَحْنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّ مِثْلَهَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ (3) .
19 - وَبِالنِّسْبَةِ لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ خِدْمَةِ الرَّجُل الْحُرِّ لِزَوْجَتِهِ وَلَهَا أَنْ تَقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 595 - ط الحلبي) من حديث عائشة. وقال البوصيري في الزوائد: " في إسناده علي بن زيد، وهو ضعيف ". ونولها أي حقها.
(2) حديث: " كان يأمر نساءه بخدمته " يا عائشة: هلمي المدية " أخرجه مسلم (3 / 1557 - ط الحلبي) " يا عائشة: أطعمينا، يا عائشة اسقينا ": أخرجه أبو داود (5 / 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث طخفة الغفاري، وإسناده صحيح.
(3) البدائع 4 / 192، حاشية ابن عابدين 2 / 333، 5 / 39، الخرشي 4 / 186، تحفة المحتاج 8 / 316، المغني لابن قدامة 7 / 21، كشاف القناع 5 / 195، فتح الباري 9 / 506، 324.

(19/45)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ اسْتِخْدَامُ زَوْجِهَا الْحُرِّ بِجَعْلِهِ خِدْمَتَهُ لَهَا مَهْرًا، أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً أَوْ يَزْرَعَ أَرْضَهَا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ صَحِيحَةٌ (1) .
وَتَجُوزُ خِدْمَتُهُ لَهَا تَطَوُّعًا: وَقَال الْكَاسَانِيُّ: لَوِ اسْتَأْجَرَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الزَّوْجِ، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَى الأَْجِيرِ (2) .

خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ خِدْمَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ.
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَبِنَاءِ دَارٍ، وَزِرَاعَةِ أَرْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ (3) . وَلأَِنَّ الأَْجِيرَ فِي الذِّمَّةِ يُمْكِنُهُ تَحْصِيل الْعَمَل بِغَيْرِهِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ لِعَمَلٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، كَعَصْرِ الْخَمْرِ
__________
(1) البدائع 4 / 192، فيه خلاف هذا بل هذه المسألة عندهم في جعل الخدمة مهرا. وظاهر البدائع جواز خدمة الزوج لامرأته ولو بأجر.
(2) البدائع 2 / 278، 4 / 192، حاشية ابن عابدين 2 / 333، 5 / 39، مغني المحتاج 3 / 433، وروضة الطالبين 9 / 45، القوانين الفقهية ص 226، الخرشي 4 / 186، تحفة المحتاج 8 / 316، المغني لابن قدامة 7 / 21، 570.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف / 5.

(19/45)


وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ بِإِجَارَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِخْدَامَ اسْتِذْلاَلٌ، فَكَانَ إِجَارَةُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُ إِذْلاَلاً لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ: أَنَّ إِجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جَائِزَةٌ، وَمَكْرُوهَةٌ، وَمَحْظُورَةٌ، وَحَرَامٌ. فَالْجَائِزَةُ - هِيَ - أَنْ يَعْمَل الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ عَمَلاً فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، كَالصَّانِعِ الَّذِي يَصْنَعُ لِلنَّاسِ. وَالْمَكْرُوهَةُ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْكَافِرُ بِجَمِيعِ عَمَل الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ مِثْل أَنْ يَكُونَ مُقَارِضًا لَهُ، أَوْ مُسَاقِيًا، وَالْمَحْظُورَةُ: أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ تَحْتَ يَدِهِ كَأَجِيرِ الْخِدْمَةِ فِي بَيْتِهِ، وَإِجَارَةِ الْمَرْأَةِ لِتُرْضِعَ لَهُ ابْنَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ تُفْسَخُ إِنْ عُثِرَ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَاتَتْ مَضَتْ، وَكَانَ لَهُ الأُْجْرَةُ. وَالْحَرَامُ: أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ فِيمَا لاَ يَحِل مِنْ عَمَل الْخَمْرِ، أَوْ رَعْيِ الْخَنَازِيرِ، فَهَذِهِ تُفْسَخُ قَبْل الْعَمَل، فَإِنْ فَاتَتْ تَصْدُقُ بِالأُْجْرَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. (1)
__________
(1) البدائع 4 / 189، الخرشي على مختصر خليل 7 / 18 - 19 - 20، جواهر الإكليل 2 / 188، الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 19، مواهب الجليل 5 / 419.

(19/46)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ خِدْمَةً مُبَاشِرَةً، كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدَيْهِ، وَتَقْدِيمِ نَعْلٍ لَهُ، وَإِزَالَةِ قَاذُورَاتِهِ، أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرَةٍ كَإِرْسَالِهِ فِي حَوَائِجِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (1)
وَلِصِيَانَةِ الْمُسْلِمِ عَنِ الإِْذْلاَل وَالاِمْتِهَانِ. وَلَكِنْ يَجُوزُ إِعَارَةُ الْمُسْلِمِ أَوْ إِجَارَتُهُ لِلْكَافِرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَفِي إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ وَلاَ يُمَكَّنُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ
وَقِيل: بِحُرْمَةِ إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ إِعَارَتِهِ لِلْكَافِرِ وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى حُرْمَةِ إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ إِعَارَتِهِ لِلْكَافِرِ لأَِجْل الْخِدْمَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلاَلَهُ لَهُ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى يَجُوزُ ذَلِكَ قِيل: مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقِيل: بِدُونِهَا. (2)
__________
(1) سورة النساء / 141.
(2) نهاية المحتاج مع حاشيته 5 / 122، تحفة المحتاج 5 / 417، 4 / 231، حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 456، مغني المحتاج 2 / 265، 4 / 258، المغني لابن قدامة 5 / 554، الإنصاف 6 / 25 و 102، الفروع 4 / 433.

(19/46)


خَذْفٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَذْفُ لُغَةً: رَمْيُكَ بِحَصَاةٍ، أَوْ نَوَاةٍ تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْكَ، أَوْ تَجْعَل مِخْذَفَةً مِنْ خَشَبٍ تَرْمِي بِهَا بَيْنَ الإِْبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْخَذْفُ: الرَّمْيُ بِالْحَصَى الصِّغَارِ بِأَطْرَافِ الأَْصَابِعِ، وَقَال مِثْلَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَال الْمُطَرِّزِيُّ، وَقِيل: أَنْ تَضَعَ طَرَفَ الإِْبْهَامِ عَلَى طَرَفِ السَّبَّابَةِ.
وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْحَصَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمِقْلاَعِ أَيْضًا، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: خَذَفَ الشَّيْءَ يَخْذِفُ، فَارِسِيٌّ.
وَرَمْيُ الْجِمَارِ يَكُونُ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ، وَهِيَ صِغَارٌ، وَفِي حَدِيثِ رَمْيِ الْجِمَارِ: عَلَيْكُمْ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ، وَحَصَى الْخَذْفِ الصِّغَارِ مِثْل النَّوَى. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح، والمصباح المنير، وفتح القدير 2 / 381، وحاشية الجمل 2 / 462، والدسوقي 2 / 50، وفتح الباري 9 / 607، والزاهر ص 181.

(19/47)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: الْحَذْفُ - الطَّرْحُ - الْقَذْفُ - الإِْلْقَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الرَّمْيُ (1) فَهِيَ تَلْتَقِي مَعَ الْخَذْفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْخَذْفَ رَمْيٌ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الأَْصْل فِي بَيَانِ حُكْمِ الْخَذْفِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَذْفِ، قَال: إِنَّهُ لاَ يَقْتُل الصَّيْدَ، وَلاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ. (2)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخَذْفِ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَذْفَ مُحَرَّمٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: نَهَى عَنِ الْخَذْفِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آلاَتِ الْحَرْبِ الَّتِي يُتَحَرَّزُ بِهَا، وَلاَ مِنْ آلاَتِ الصَّيْدِ لأَِنَّهَا تَرُضُّ، وَقَتِيلُهَا وَقِيذٌ، وَلاَ مِمَّا يَجُوزُ اللَّهْوُ بِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ فَقْءِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ السِّنِّ. (3)
وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ إِلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ - قَال النَّوَوِيُّ -: فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْخَذْفِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَيُخَافُ
__________
(1) لسان العرب في المواد: (حذف - طرح - قذف - لقي) .
(2) حديث عبد الله بن مغفل: " نهى عن الخذف ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 599 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1548 - الحلبي) .
(3) الأبي شرح مسلم 5 / 287 - 288.

(19/47)


مَفْسَدَتُهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُل مَا شَارَكَهُ فِي هَذَا، ثُمَّ قَال: وَفِيهِ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ حَاجَةٌ فِي قِتَال الْعَدُوِّ، وَتَحْصِيل الصَّيْدِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمِنْ ذَلِكَ رَمْيُ الطُّيُورِ الْكِبَارِ بِالْبُنْدُقِ إِذَا كَانَ لاَ يَقْتُلُهَا غَالِبًا بَل تُدْرَكُ حَيَّةً وَتُذَكَّى فَهُوَ جَائِزٌ. (1)
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: صَرَّحَ مُجَلِّي فِي الذَّخَائِرِ بِمَنْعِ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِيَّةِ، وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِحِلِّهِ؛ لأَِنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الاِصْطِيَادِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَالتَّحْقِيقُ التَّفْضِيل، فَإِنْ كَانَ الأَْغْلَبُ مِنْ حَال الرَّمْيِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِيثِ امْتَنَعَ، وَإِنْ كَانَ عَكْسُهُ جَازَ، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ كَانَ الرَّمْيُ مِمَّا لاَ يَصِل إِلَيْهِ الرَّمْيُ إِلاَّ بِذَلِكَ ثُمَّ لاَ يَقْتُلُهُ غَالِبًا. (2)
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: كَرِهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الرَّمْيَ بِبُنْدُقٍ مُطْلَقًا لِنَهْيِ عُثْمَانَ، قَال ابْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُنْدُقِ يُرْمَى بِهَا الصَّيْدُ لاَ لِلَّعِبِ (3) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَا يَدُل عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ بِالأَْحْجَارِ فِي حَال الْقِتَال، أَوْ فِي حَال التَّدْرِيبِ، أَوِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 106.
(2) فتح الباري 9 / 608.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 418.
(4) الشرح الصغير 1 / 356 ط الحلبي. والمهذب 1 / 421، وشرح منتهى الإرادات3 / 384.

(19/48)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخَذْفِ:
أَوَّلاً: فِي رَمْيِ الْجِمَارِ:
4 - رَمْيُ الْجِمَارِ بِالْحَصَى مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ (1) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْل بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ (2) وَقَوْلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هِيَ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَال: بِأَمْثَال هَؤُلاَءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ (3) . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِمِنًى فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا، حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ مَا يَقُول وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ، ثُمَّ قَال: بِحَصَى الْخَذْفِ. (4)
__________
(1) البدائع 2 / 157، وفتح القدير 2 / 381 - 382 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني 3 / 425.
(2) حديث: " عليكم بحصى الخذف " أخرجه مسلم (2 / 932 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " هات القط لي ". أخرجه النسائي (5 / 268 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(4) حديث عبد الرحمن بن معاذ: " خطبنا رسول الله. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 490 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.

(19/48)


وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْصُودِ بِالْخَذْفِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ.
هَل هُوَ بَيَانُ قَدْرِ الْحَصَاةِ، أَوْ هُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ، أَوْ هُمَا مَعًا؟
5 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَيَانِ الْكَيْفِيَّةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الرَّمْيَ يَصِحُّ بِطَرِيقَةِ الْخَذْفِ لَكِنَّ الأَْصَحَّ وَالأَْيْسَرَ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ بَيْنَ طَرَفَيِ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَيَرْمِيَ.
وَأَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ الْكَيْفِيَّاتِ التَّالِيَةَ:
أ - أَنْ يَضَعَ الإِْنْسَانُ طَرَفَ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى عَلَى وَسَطِ السَّبَّابَةِ، وَيَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ الإِْبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ سَبْعِينَ فَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ.
ب - أَنْ يُحَلِّقَ سَبَّابَتَهُ وَيَضَعَهَا عَلَى مَفْصِل إِبْهَامِهِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ عَشَرَةً.
قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ: وَهَذَا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّمْيِ بِهِ مَعَ الزَّحْمَةِ عُسْرٌ.
ج - أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَاةَ بِطَرَفَيْ إِبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ: هَذَا هُوَ الأَْصْل وَالأَْصَحُّ وَالأَْيْسَرُ الْمُعْتَادُ، قَالُوا: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ (أَيِ الَّتِي فِيهَا خَذْفٌ) سِوَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ارْمُوا الْجَمْرَةَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ (1) وَهَذَا
__________
(1) حديث: " ارموا الجمرة بمثل حصى الخذف ". أخرجه أحمد (4 / 343 - ط الميمنية) من حديث سنان بن سنة، وقال الهيثمي: " رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله ثقات ".

(19/49)


لاَ يَدُل وَلاَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ الْمَطْلُوبَةِ كَيْفِيَّةَ الْخَذْفِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى تَعْيِينِ ضَابِطِ مِقْدَارِ الْحَصَاةِ إِذْ كَانَ مِقْدَارُ مَا يُخْذَفُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِي رِوَايَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الإِْنْسَانُ، يَعْنِي عِنْدَمَا نَطَقَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ أَشَارَ بِصُورَةِ الْخَذْفِ بِيَدِهِ، فَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ كَوْنِ الرَّمْيِ بِصُورَةِ الْخَذْفِ، لِجَوَازِ كَوْنِهِ يُؤَكِّدُ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ حَصَى الْخَذْفِ، كَأَنَّهُ قَال: خُذُوا حَصَى الْخَذْفِ الَّذِي هُوَ هَكَذَا، لِيُشِيرَ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ فِي كَوْنِهِ حَصَى الْخَذْفِ، وَهَذَا لأَِنَّهُ لاَ يُعْقَل فِي خُصُوصِ وَضْعِ الْحَصَاةِ فِي الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَجْهُ قُرْبَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ، بَل بِمُجَرَّدِ صِغَرِ الْحَصَاةِ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَال: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ الرَّمْيِ خَذْفًا، عَارَضَهُ كَوْنُهُ وَضْعًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ زَحْمَةٍ يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ. (1) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا التَّعْرِيفَ اللُّغَوِيَّ لِلْخَذْفِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا: كَانَتِ الْعَرَبُ تَرْمِي بِالْحَصَى فِي الصِّغَرِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ تَجْعَلُهَا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ مِنَ الْيُسْرَى ثُمَّ تَقْذِفُهَا بِسَبَّابَةِ الْيُمْنَى أَوْ تَجْعَلُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْهَا.
ثُمَّ قَال الصَّاوِيُّ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهَيْئَةُ مَطْلُوبَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 179، وفتح القدير 2 / 383 - 384، والبدائع 2 / 157.

(19/49)


فِي الرَّمْيِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ أَخْذُ الْحَصَاةِ بِسَبَّابَتِهِ وَإِبْهَامِهِ مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَرَمْيُهَا. (1) وَهُمْ بِذَلِكَ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي الْكَيْفِيَّةِ.
وَاخْتَلَفَتِ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا هَيْئَةَ الْخَذْفِ وَهِيَ: وَضْعُ الْحَصَى عَلَى بَطْنِ الإِْبْهَامِ وَرَمْيُهُ بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَهَذَا مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ، وَحَاشِيَةِ الْجَمَل، وَحَوَاشِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلْكَرَاهَةِ بِالنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنِ الْخَذْفِ، وَهَذَا يَشْمَل الْحَجَّ وَغَيْرَهُ، قَالُوا: وَالأَْصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَى عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ الْخَذْفِ. لَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ مُقَابِل الأَْصَحِّ هُوَ مَا ذَكَرُوهُ عَنِ الرَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا: وَصَحَّحَ الرَّافِعِيُّ نَدْبَ هَيْئَةِ الْخَذْفِ. (2) أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَذْكُرُوا لِلرَّمْيِ كَيْفِيَّةً خَاصَّةً. (3)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَيْفِيَّةِ:

6 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمِقْدَارِ الْحَصَاةِ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ: ارْمُوا الْجَمْرَةَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ. (4) وَنَحْوِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 50، الشرح الصغير 1 / 282 ط الحلبي، وأسهل المدارك 1 / 273.
(2) نهاية المحتاج 3 / 304، وحواشي تحفة المحتاج 4 / 133، وحاشية 2 / 474، ومغني المحتاج 1 / 508.
(3) المغني 3 / 425، وكشاف القناع 2 / 499، وشرح منتهى الإرادات 2 / 61.
(4) حديث: فارموا بمثل حصى الخذف ". تقدم تخريجه (ف / 5) .

(19/50)


مِنَ الأَْحَادِيثِ بَيَّنَتْ قَدْرَ الْحَصَاةِ بِأَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً كَالَّتِي يَخْذِفُهَا بِهَا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الصِّغَرِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا مِقْدَارُ الْبَاقِلاَّ، أَيْ قَدْرُ الْفُولَةِ، وَقِيل: قَدْرُ الْحِمَّصَةِ، أَوِ النَّوَاةِ، أَوِ الأُْنْمُلَةِ. قَال فِي النَّهْرِ:
وَهَذَا بَيَانُ الْمَنْدُوبِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَيَكُونُ وَلَوْ بِالأَْكْبَرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قَدْرُ الْفُول، أَوِ النَّوَاةِ، أَوْ دُونَ الأُْنْمُلَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ جِدًّا كَالْحِمَّصَةِ، وَيُكْرَهُ الْكَبِيرُ خَوْفَ الأَْذِيَّةِ وَلِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ. (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: حَصَاةُ الرَّمْيِ دُونَ الأُْنْمُلَةِ طُولاً وَعَرْضًا فِي قَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلاَّ - وَيُجْزِئُ عِنْدَهُمُ الرَّمْيُ بِأَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَا كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ، وَإِنْ رَمَى بِحَجَرٍ أَكْبَرَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ يُجْزِئُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْحَصَى عَلَى مَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْثَال هَؤُلاَءِ. . . " (4) وَنَهَى عَنْ تَجَاوُزِهِ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّ الرَّمْيَ بِالْكَبِيرِ مِنَ الْحَصَى رُبَّمَا آذَى مَنْ يُصِيبُهُ. قَال فِي الْمُغْنِي. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُجْزِئُهُ مَعَ تَرْكِهِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 179.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 50.
(3) حاشية الجمل 2 / 474، ونهاية المحتاج 3 / 304.
(4) حديث: " بأمثال هؤلاء ". سبق تخريجه (ف / 4) .

(19/50)


لِلسُّنَّةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ رَمَى بِالْحَجَرِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الصَّغِيرِ. (1)
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: لاَ تُجْزِئُ حَصَاةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا، أَوْ كَبِيرَةٌ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. (2) كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْحَصَى وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رَمْيٌ - جِمَارٌ - حَجٌّ) .

ثَانِيًا: فِي الصَّيْدِ:
7 - لاَ يَحِل الصَّيْدُ بِحَصَى الْخَذْفِ لأَِنَّهُ وَقِيذٌ، وَفِي رَمْيِ الصَّيْدِ بِغَيْرِهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) .
__________
(1) المغني 3 / 425.
(2) كشاف القناع 2 / 499، وشرح منتهى الإرادات 2 / 61.

(19/51)


خَرَاجٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَرَاجُ لُغَةً، مِنْ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا أَيْ بَرَزَ وَالاِسْمُ الْخَرَاجُ، وَأَصْلُهُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ. وَالْجَمْعُ أَخْرَاجٌ، وَأَخَارِيجُ، وَأَخْرِجَةٌ. (1)
وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الدَّارِ، وَالدَّابَّةِ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. (2)
وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الأُْجْرَةِ، أَوِ الْكِرَاءِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَهَل نَجْعَل لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَل بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} . (4)
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " خرج ".
(2) حديث: " الخراج بالضمان " أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) سورة الكهف / 94.
(4) سورة المؤمنون / 72.

(19/51)


وَالْخُرْجُ وَالْخَرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَاللَّيْثِ وَهُوَ الأُْجْرَةُ. وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاَءِ بَيْنَهُمَا، فَقَال الْخُرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ أَوْ تَصَدَّقْتَ بِهِ، وَالْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ. (1)
وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الإِْتَاوَةِ، أَوِ الضَّرِيبَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَال النَّاسِ، فَيُقَال خَارَجَ السُّلْطَانُ أَهْل الذِّمَّةِ، إِذَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا لَهُ كُل سَنَةٍ.

2 - الْخَرَاجُ فِي الاِصْطِلاَحِ:
لِلْخَرَاجِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ مَعْنَيَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ.
فَالْخَرَاجُ - بِالْمَعْنَى الْعَامِّ - هُوَ الأَْمْوَال الَّتِي تَتَوَلَّى الدَّوْلَةُ أَمْرَ جِبَايَتِهَا وَصَرْفِهَا فِي مَصَارِفِهَا. وَأَمَّا الْخَرَاجُ - بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ - فَهُوَ الْوَظِيفَةُ أَوِ (الضَّرِيبَةُ) الَّتِي يَفْرِضُهَا الإِْمَامُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ.
وَعَرَّفَهُ كُلٌّ مِنَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى بِأَنَّهُ (مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا) . (2)
__________
(1) ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير 5 / 191، المكتب الإسلامي ببيروت ط 1 / 1964 م.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 146 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة ط 3 / 1393 هـ - 1973 م، أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية ص 162 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة ط 2، 1386 - 1966 م، والمغرب مادة: " خرج ".

(19/52)


الأَْلْفَاظُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ:
أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْخَرَاجِ - بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ - عِدَّةَ أَلْفَاظٍ وَمُصْطَلَحَاتٍ مِنْهَا:

أ - جِزْيَةُ الأَْرْضِ:
3 - يُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ جِزْيَةُ الأَْرْضِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِزْيَةِ خَرَاجُ الرَّأْسِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّفْظَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ. (1)
ب - أُجْرَةُ الأَْرْضِ:
4 - أَطْلَقَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْخَرَاجِ " أُجْرَةَ الأَْرْضِ " (2) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَرَاجَ الْمَفْرُوضَ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ بِمَثَابَةِ الأُْجْرَةِ لَهَا. فَالإِْمَامُ يَقِفُ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتْرُكُهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.

ج - الطَّسْقُ:
5 - أَوَّل مَنِ اسْتَعْمَل هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الإِْسْلاَمِ الإِْمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ
__________
(1) عليش: شرح منح الجليل على مختصر خليل 1 / 756 - مكتبة النجاح بليبيا، الآبي: جواهر الإكليل على مختصر خليل 1 / 266 - مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.
(2) أبو عبيد: الأموال ص 98 - مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة ط 1 (1388هـ 1968م) .

(19/52)


كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ أَسْلَمَا، كِتَابًا جَاءَ فِيهِ: (ارْفَعِ الْجِزْيَةَ عَنْ رُءُوسِهِمَا وَخُذِ الطَّسْقَ عَنْ أَرْضِيهِمَا) وَبَوَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الأَْمْوَال بَابًا بِاسْمِ (أَرْضُ الْعَنْوَةِ تُقَرُّ فِي يَدِ أَهْلِهَا وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الطَّسْقُ وَهُوَ الْخَرَاجُ) .
وَالطَّسْقُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يُرَادُ بِهَا الْوَظِيفَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى الأَْرْضِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَنِيمَةُ:
6 - الْغَنِيمَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْخَرَاجُ كَمَا تَقَدَّمَ، الْوَظِيفَةُ الَّتِي يَفْرِضُهَا الإِْمَامُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ.

ب - الْفَيْءُ:
7 - الْفَيْءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كُل مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ (2) . وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا انْجَلُوا عَنْهُ أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ: خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب مادة: (طسق) ، أبو عبيد: الأموال ص 81، ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3 / 124.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع - 9 / 4345 - مطبعة الإمام بالقاهرة 1972 م.

(19/53)


عَنْهُمْ وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ، وَالْعُشُورِ. (1) وَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْخَرَاجِ.

ج - الْجِزْيَةُ:
8 - الْجِزْيَةُ مَالٌ يُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ لاَ عَلَى الأَْرْضِ، وَالْخَرَاجُ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الأَْرْضِ (2) .

د - الْخُمُسُ:
9 - الْخُمُسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ (3) .

هـ - الْعُشْرُ:
10 - الْعُشْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي زَكَاةِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ. وَالْعُشْرُ يَتَّفِقُ مَعَ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ فِي أَنَّهُمَا يَجِبَانِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.
وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَحَلِّهِمَا، فَمَحَل الْعُشْرِ الأَْرْضُ الْعُشْرِيَّةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَمَحَل الْخَرَاجِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ. (4)
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد 1 / 402 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة - ط 3 / 1379 هـ - 1960 م، والتعريفات للجرجاني (فيء) والماوردي في الأحكام السلطانية ص 126.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 142، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 153.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 190 - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة.
(4) ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 351 - دار الفكر ببيروت 1399هـ - 1979 م.

(19/53)


الْخَرَاجُ فِي الإِْسْلاَمِ:
11 - لَمَّا آلَتِ الْخِلاَفَةُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَازْدَادَتِ الْفُتُوحَاتُ الإِْسْلاَمِيَّةُ، وَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ، وَزَادَتْ نَفَقَاتُهَا، رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لاَ يَقْسِمَ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ، بَل يَجْعَلُهَا وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَضْرِبُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا. فَوَافَقَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَخَالَفَهُ آخَرُونَ فِي بِدَايَةِ الأَْمْرِ.
قَال أَبُو يُوسُفَ (1) : وَشَاوَرَهُمْ فِي قِسْمَةِ الأَْرَضِينَ الَّتِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ فِيهَا، وَأَرَادُوا أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ وَمَا فَتَحُوا. فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِدُونَ الأَْرْضَ بِعُلُوجِهَا قَدِ اقْتُسِمَتْ وَوُرِثَتْ عَنِ الآْبَاءِ وَحِيزَتْ، مَا هَذَا بِرَأْيٍ. فَقَال لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ مَا الأَْرْضُ وَالْعُلُوجُ إِلاَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَقَال عُمَرُ: مَا هُوَ إِلاَّ كَمَا تَقُول، وَلَسْتُ أَرَى ذَلِكَ، وَاللَّهِ لاَ يُفْتَحُ بَعْدِي بَلَدٌ فَيَكُونُ فِيهِ كَبِيرُ نَيْلٍ، بَل عَسَى أَنْ يَكُونَ كُلًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا قُسِمَتْ أَرْضُ الْعِرَاقِ بِعُلُوجِهَا، (2) وَأَرْضُ الشَّامِ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 24 - 27.
(2) العلوج: جمع علج وهو الرجل الذي يقوى على العمل من كفار العجم وغيرهم، والمراد بعلوج الأرض العمال الذين يقومون بزراعة الأرض.

(19/54)


بِعُلُوجِهَا، فَمَا يُسَدُّ بِهِ الثُّغُورُ، وَمَا يَكُونُ لِلذُّرِّيَّةِ وَالأَْرَامِل بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ؟ فَأَكْثَرُوا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: أَتَقِفُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ بِأَسْيَافِنَا عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَحْضُرُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا، وَلأَِبْنَاءِ الْقَوْمِ وَلآِبَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرُوا؟ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بِلاَل بْنَ رَبَاحٍ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ تَمَسُّكًا بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ، حَتَّى قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلاَلاً وَأَصْحَابَهُ " (1) وَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَاجُّهُمْ إِلَى أَنْ وَجَدَ مَا يُؤَيِّدُ رَأْيَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَال: قَدْ وَجَدْتُ حُجَّةً، قَال تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ فَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي الْقُرَى كُلِّهَا. ثُمَّ قَال تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
__________
(1) المعني: اللهم اكفني خلافهم، وأعني على مناقشتهم وإقناعهم، ولا يظن بأنه دعا عليهم وعلى بلال بالموت، لأنه هو الذي يقول فيه: " أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا ".
(2) سورة الحشر / 6.

(19/54)


الْعِقَابِ} (1) ثُمَّ قَال {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . (2) ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فَهَذَا فِيمَا بَلَغَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِلأَْنْصَارِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَل فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) فَكَانَتْ هَذِهِ عَامَّةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَقَدْ صَارَ الْفَيْءُ بَيْنَ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا فَكَيْفَ نَقْسِمُهُ لِهَؤُلاَءِ، وَنَدَعُ مَنْ تَخَلَّفَ بَعْدَهُمْ بِغَيْرِ قَسْمٍ؟ . قَالُوا: فَاسْتَشِرْ. فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ فَاخْتَلَفُوا، فَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ رَأْيُهُ أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ. وَرَأْيُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَأْيُ عُمَرَ. فَأَرْسَل إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ: خَمْسَةٍ مِنَ الأَْوْسِ، وَخَمْسَةٍ مِنَ
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) سورة الحشر / 8.
(3) سورة الحشر / 9.
(4) سورة الحشر / 10.

(19/55)


الْخَزْرَجِ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَال: إِنِّي لَمْ أُزْعِجْكُمْ إِلاَّ لأََنْ تَشْتَرِكُوا فِي أَمَانَتِي فِيمَا حُمِّلْتُ مِنْ أُمُورِكُمْ، فَإِنِّي وَاحِدٌ كَأَحَدِكُمْ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ، خَالَفَنِي مَنْ خَالَفَنِي، وَوَافَقَنِي مَنْ وَافَقَنِي، وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَتَّبِعُوا هَذَا الَّذِي هُوَ هَوَايَ، مَعَكُمْ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ نَطَقْتُ بِأَمْرٍ أُرِيدُهُ مَا أُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الْحَقَّ ". قَالُوا: نَسْمَعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَال: قَدْ سَمِعْتُمْ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنِّي أَظْلِمُهُمْ حُقُوقَهُمْ. وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْكَبَ ظُلْمًا، لَئِنْ كُنْتُ ظَلَمْتُهُمْ شَيْئًا هُوَ لَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُ غَيْرَهُمْ لَقَدْ شَقِيتُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُفْتَحُ بَعْدَ كِسْرَى، وَقَدْ غَنَّمَنَا اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ، وَأَرْضَهُمْ، وَعُلُوجَهُمْ، فَقَسَمْتُ مَا غَنِمُوا مِنْ أَمْوَالٍ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَخْرَجْتُ الْخُمُسَ فَوَجَّهْتُهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَنَا فِي تَوْجِيهِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَحْبِسَ الأَْرَضِينَ بِعُلُوجِهَا، وَأَضَعَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْخَرَاجَ، وَفِي رِقَابِهِمُ الْجِزْيَةُ يُؤَدُّونَهَا فَتَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَلِمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ. أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الثُّغُورَ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ رِجَالٍ يَلْزَمُونَهَا، أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْمُدُنَ الْعِظَامَ - كَالشَّامِّ، وَالْجَزِيرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَمِصْرَ - لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تُشْحَنَ بِالْجُيُوشِ، وَإِدْرَارِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْطَى هَؤُلاَءِ إِذَا قُسِمَتِ الأَْرْضُونَ

(19/55)


وَالْعُلُوجُ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: الرَّأْيُ رَأْيُكَ فَنِعْمَ مَا قُلْتَ وَمَا رَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُشْحَنْ هَذِهِ الثُّغُورُ وَهَذِهِ الْمُدُنُ بِالرِّجَال وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ رَجَعَ أَهْل الْكُفْرِ إِلَى مُدُنِهِمْ فَقَال: قَدْ بَانَ لِي الأَْمْرُ، فَمِنْ رَجُلٍ لَهُ جَزَالَةٌ، وَعَقْلٌ، يَضَعُ الأَْرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ؟ فَاجْتَمَعُوا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَالُوا: تَبْعَثُهُ إِلَى أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ بَصَرًا وَعَقْلاً وَتَجْرِبَةً فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَوَلاَّهُ مِسَاحَةَ أَرْضِ السَّوَادِ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْخَرَاجِ:
12 - الْخَرَاجُ وَاجِبٌ عَلَى كُل مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ نَامِيَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا، أَمْ كَافِرًا، صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، عَاقِلاً، أَمْ مَجْنُونًا، رَجُلاً، أَمِ امْرَأَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مَئُونَةُ الأَْرْضِ النَّامِيَةِ، وَهُمْ فِي حُصُول النَّمَاءِ سَوَاءٌ. (2)

أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخَرَاجِ:
13 - يَسْتَنِدُ اجْتِهَادُ الإِْمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 24 - 27.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 239 - دار إحياء التراث العربي ببيروت ص 3 سنة 1400هـ - 1980 م، ابن نجيم: البحر الرائق 5 / 114 - دار المعرفة ببيروت، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 142، أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية ص 153، البهوتي: كشاف القناع 3 / 94 - مطبعة النصر الحديثة بالرياض.

(19/56)


فِي تَشْرِيعِ الْخَرَاجِ إِلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ.

1 - الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ:
بَيَّنَتِ الآْيَاتُ السَّابِقَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الإِْمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حُكْمَ مَسْأَلَةِ وَقْفِ أَرْضِ السَّوَادِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

2 - السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ:
أ - رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، (1) وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا (2) وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا (3) وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ (4) شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبُوَّةِ لإِِخْبَارِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الأَْقَالِيمَ
__________
(1) القفيز: مكيال وهو ثمانية مكاكيك، والمكوك، مكيال قيل: يسع صاعا ونصفا، المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) المدي: مكيال يسع تسعة عشر صاعا، وهو غير المد (المصباح المنير) .
(3) الإردب: كيل معروف، وهو أربعة وستون منا، وذلك أربعة وعشرون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم: والجمع أرادب (المصباح المنير) .
(4) حديث: " منعت العراق درهمها. . . . " أخرجه مسلم (4 / 2220 - 2221 - ط الحلبي) .

(19/56)


وَوَضْعِهِمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ بُطْلاَنِ ذَلِكَ (1) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سَيَضَعُونَ الْخَرَاجَ عَلَى الأَْرْضِ وَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إِلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، بَل قَرَّرَهُ وَحَكَاهُ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَال يَحْيَى بْنُ آدَمَ: يُرِيدُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْقَفِيزَ وَالدِّرْهَمَ قَبْل أَنْ يَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى الأَْرْضِ ". (2)
ب - رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. (3)
فَالْحَدِيثُ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ خَيْبَرَ حَيْثُ وَقَفَ نِصْفَهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً.

3 - الْمَصْلَحَةُ:
رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار 8 / 98 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة - الطبعة الأخيرة.
(2) يحيى بن آدم: الخراج ص 72 - دار المعرفة ببيروت.
(3) حديث: " سهل بن أبي حثمة: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين ". أخرجه أبو داود (3 / 410 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . ونقل الزيلعي عن ابن عبد الهادي أنه جود إسناده. نصب الراية (3 / 398 - ط المجلس العلمي بالهند) .

(19/57)


أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَدَمَ تَقْسِيمِ الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً، وَوَقْفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَضَرْبَ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا. وَأَهَمُّ مَا تَقْضِي بِهِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ.

أ - تَأْمِينُ مَوْرِدٍ مَالِيٍّ ثَابِتٍ لِلأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
بِأَجْيَالِهَا الْمُتَعَاقِبَةِ وَمُؤَسَّسَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ:
نَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مُسْتَقْبَل الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَأَجْيَالِهَا الْقَادِمَةِ، فَرَأَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا سَيَقَعُ فِي شَظَفِ الْعَيْشِ وَالْحِرْمَانِ، إِذَا مَا قُسِمَتْ تِلْكَ الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً وَوُزِّعَتْ عَلَى الْفَاتِحِينَ. وَلِهَذَا رَأَى عَدَمَ التَّقْسِيمِ، وَوَقَفَ الأَْرَضِينَ، وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا لِيَكُونَ مَوْرِدًا مَالِيًّا ثَابِتًا لِلأَْجْيَال الْقَادِمَةِ.
وَقَال: لَوْلاَ أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا (1) لَيْسَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَلَكِنْ أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ (2) .

ب - تَوْزِيعُ الثَّرْوَةِ وَعَدَمُ حَصْرِهَا فِي فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ:
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (3)
وَقَدْ أَشَارَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 24 وبيانا - أي معدما لا شيء له.
(2) نيل الأوطار للشوكاني 8 / 18 - مطبعة الحلبي بالقاهرة.
(3) سورة الحشر / 7.

(19/57)


عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا رَأَى إِصْرَارَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ إِذًا لَيَكُونَنَّ مَا تَكْرَهُ. إِنَّكَ إِنْ قَسَمْتَهَا صَارَ الرِّيعُ الْعَظِيمُ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ يُبِيدُونَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى الرَّجُل الْوَاحِدِ، أَوِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَسُدُّونَ مِنَ الإِْسْلاَمِ مَسَدًّا، فَلاَ يَجِدُونَ شَيْئًا، فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ (1) فَرَضِيَ عُمَرُ قَوْل مُعَاذٍ، فَوَقَفَ الأَْرْضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ، وَأَصْبَحَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِمَا فِيهِمُ الْفُقَرَاءُ وَالأَْغْنِيَاءُ.

ج - عِمَارَةُ الأَْرْضِ بِالزِّرَاعَةِ وَعَدَمُ تَعْطِيلِهَا:
إِنَّ عِمَارَةَ الأَْرْضِ بِالزِّرَاعَةِ وَالاِنْتِفَاعَ بِمَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ مَعَادِنَ مَطْلُوبٌ مِنَ النَّاسِ عَامَّةً، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الاِسْتِخْلاَفِ الْعَامِّ لِلنَّاسِ فِي الأَْرْضِ {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً} . (2)
وَكَانَ قَصْدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ضَرْبِ الْخَرَاجِ أَنْ تَبْقَى الأَْرْضُ عَامِرَةً بِالزِّرَاعَةِ فَأَهْلُهَا أَقْدَرُ مِنَ الْغَانِمِينَ عَلَى ذَلِكَ لِتَوَفُّرِ الْخِبْرَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَال
__________
(1) أبو عبيد: الأموال ص 83 - 84.
(2) سورة البقرة / 30.

(19/58)


فِي أَهْلِهَا: يَكُونُونَ عُمَّارَ الأَْرْضِ فَهُمْ أَعْلَمُ بِهَا وَأَقْوَى عَلَيْهَا ". (1)
وَقَدْ سَلَكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ وَصَارَتِ الأَْرْضُ وَالأَْمْوَال الْمَغْنُومَةُ تَحْتَ يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعُمَّال مَا يَكْفُونَ عِمَارَةَ الأَْرْضِ وَزِرَاعَتَهَا، دَفَعَهَا إِلَى أَهْلِهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ نِصْفُ ثَمَرَتِهَا. وَبَقِيَتْ عَلَى ذَلِكَ طِيلَةَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ (2) .

أَنْوَاعُ الْخَرَاجِ:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخَرَاجَ - بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ - إِلَى أَنْوَاعٍ:
فَقَسَمُوهُ - بِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الأَْرْضِ - إِلَى خَرَاجِ وَظِيفَةٍ، وَمُقَاسَمَةٍ.
وَقَسَمُوهُ - بِاعْتِبَارِ الأَْرْضِ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْخَرَاجِ إِلَى خَرَاجٍ عَنْوِيٍّ، وَصُلْحِيٍّ
وَفِيمَا يَلِي هَذِهِ الأَْنْوَاعُ.

1 - خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ:
أ - خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ:
14 - يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ أَيْضًا خَرَاجَ الْمُقَاطَعَةِ وَخَرَاجَ الْمِسَاحَةِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ يَنْظُرُ إِلَى مِسَاحَةِ الأَْرْضِ وَنَوْعِ مَا يُزْرَعُ عِنْدَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا.
__________
(1) أبو يوسف: الخراج ص 141.
(2) بتصرف من كتاب الأموال لأبي عبيد ص 79.

(19/58)


وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقَعِ الزَّرْعُ بِالْفِعْل فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ قَائِمٌ وَهُوَ الَّذِي قَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهِ. فَيَتَحَمَّل نَتِيجَةَ تَقْصِيرِهِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَرَاجِ هُوَ الَّذِي وَظَّفَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ (1) .

ب - خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ:
15 - هُوَ: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، كَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَرَاجِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ لاَ بِالتَّمَكُّنِ، فَلَوْ عَطَّل الْمَالِكُ الأَْرْضَ لاَ يَجِبُ الْخَرَاجُ. (2)
وَقَدْ حَدَثَ هَذَا النَّوْعُ فِي عَهْدِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيِّ (عَامَ 169 هـ) حَيْثُ قَرَّرَهُ بَدَلاً مِنْ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ الَّذِي كَانَ مَعْمُولاً بِهِ مُنْذُ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَال يَحْيَى بْنُ آدَمَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: (أَمَّا مُقَاسَمَةُ السَّوَادِ فَإِنَّ النَّاسَ سَأَلُوهَا السُّلْطَانَ فِي آخِرِ خِلاَفَةِ الْمَنْصُورِ (عَامَ 158 هـ) فَقُبِضَ قَبْل
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 237، حاشية ابن عابدين 4 / 186 - دار الفكر ببيروت.
(2) المراجع السابقة.

(19/59)


أَنْ يُقَاسِمُوا، ثُمَّ أَمَرَ الْمَهْدِيَّ بِهَا فَقُوسِمُوا فِيهَا دُونَ عَقَبَةَ حُلْوَانَ) . (1)
أَمَّا الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْفَرَّاءُ فَقَدْ ذَكَرَا وَجْهًا آخَرَ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى خَرَاجِ مُقَاسَمَةٍ حَيْثُ قَالاَ: (وَلَمْ يَزَل السَّوَادُ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ إِلَى أَنْ عَدَل بِهِمُ الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَنِ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُقَاسَمَةِ؛ لأَِنَّ السِّعْرَ نَقَصَ، فَلَمْ تَفِ الْغَلاَّتُ بِخَرَاجِهَا، وَخَرِبَ السَّوَادُ، فَجَعَلَهُ مُقَاسَمَةً، وَأَشَارَ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ أَنْ يَجْعَل أَرْضَ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً) . (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ، وَخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ أَيْضًا، أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلاَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ.
أَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَيَتَكَرَّرُ أَخْذُهُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ.

2 - الْخَرَاجُ الصُّلْحِيُّ وَالْعَنَوِيُّ:
أ - الْخَرَاجُ الصُّلْحِيُّ:
1 6 - هُوَ: (الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ
__________
(1) البلاذري: فتوح البلدان ص 280. المراد بها حلوان العراق، وهي آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد وله أخبار في فتوحها تنظر في: معجم البلدان 2 / 290.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 176، الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 185.

(19/59)


لَهُمْ، وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ) قَال الْبَاجِيُّ: (فَمَا صَالَحُوا عَلَى بَقَائِهِ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مَال صُلْحٍ، أَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ) .

ب - الْخَرَاجُ الْعَنْوِيُّ:
17 - هُوَ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً بَعْدَ أَنْ وَقَفَهَا الإِْمَامُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَيَدْخُل فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي جَلاَ عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي صُولِحَ أَهْلُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.
قَال الْبَاجِيُّ: (وَمَا صَالَحُوا بِهِ أَوْ أَعْطَوْهُ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَتَأْمِينِهِمْ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ) ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَال صُلْحٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْل حَرْبٍ قُوتِلُوا حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ حَقٌّ وَيُؤَمَّنُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ أَوِ الْمُقَامِ بِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ أَرْضَ صُلْحٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَرْضَ صُلْحٍ مَا صُولِحُوا عَلَى بَقَائِهَا بِأَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ حَرْبٌ، أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَرْبٌ.
وَأَمَّا الْعَنْوَةُ فَهِيَ الْغَلَبَةُ، فَكُل مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ عَيْنٍ

(19/60)


دُونَ اخْتِيَارِ مَنْ غُلِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ فَهُوَ أَرْضُ عَنْوَةٍ سَوَاءٌ دَخَلْنَا الدَّارَ غَلَبَةً، أَمْ أُجْلُوا عَنْهَا مَخَافَةَ الْمُسْلِمِينَ، تَقَدَّمَتْ فِي ذَلِكَ حَرْبٌ، أَمْ لَمْ تَتَقَدَّمْ، أَقَرَّ أَهْلُهَا فِيهَا أَمْ نُقِلُوا عَنْهَا. . وَقَال أَيْضًا: (وَمُرَادُنَا بِالصُّلْحِ وَالْعَنْوَةِ أَنَّ الأَْرْضَ آل حَالُهَا إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّتْ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا بِصُلْحٍ صَالَحُوا عَلَيْهَا أَوْ زَال عَنْهَا مُلْكُهُمْ بِالْعَنْوَةِ وَالْغَلَبَةِ) . (1)

أَنْوَاعُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
18 - النَّوْعُ الأَْوَّل: الأَْرْضُ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَهِيَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لأَِهْلِهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ، فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لأَِهْلِهَا وَتُعْتَبَرُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُقَرُّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ. (2)
19 - النَّوْعُ الثَّانِي: الأَْرْضُ الَّتِي جَلاَ عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا وَبِدُونِ قِتَالٍ. فَهِيَ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ وَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) المنتقى للباجي 3 / 219، وانظر الأحكام السلطانية للماوردي 137 - 138.
(2) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 279، الباجي: المنتقى 3 / 221، أبو عبد الله الدمشقي: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني 2 / 174 - دار إحياء الكتب العربية بمصر، ابن قدامة: المغني 2 / 716، الأحكام السلطانية للفراء ص 148.

(19/60)


وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا فَيْءٌ وَلَيْسَتْ غَنِيمَةً. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَلاَ تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِوَقْفِ الإِْمَامِ لَهَا؛ لأَِنَّهَا مَالٌ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّتِهِمْ فَلاَ يَكُونُ وَقْفًا بِنَفْسِ الاِسْتِيلاَءِ كَالْمَنْقُول. (1)
أَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَكُلُّهَا أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَلأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلاَ يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا لاَ تَثْبُتُ الْجِزْيَةُ فِي رِقَابِهِمْ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَرْضٌ، وَأَرْضُ الْعَرَبِ) . (2)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الأَْرْضُ الَّتِي افْتَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِ الأَْرْضِ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ.
فَيَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ تَقْسِيمِهَا، وَيَرَى آخَرُونَ وَقْفَهَا، وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَخْيِيرَ الإِْمَامِ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ. رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (أَرْضٌ) .
__________
(1) الكاساني: البدائع 2 / 936، المنتقى: للباجي 3 / 221، الأحكام السلطانية للماوردي ص 147، الأحكام السلطانية للفراء ص 148، وكشاف القناع للبهوتي 3 / 95، المبدع لابن مفلح 3 / 378 - المكتب الإسلامي.
(2) الهداية بشرحها ط بيروت (5 / 278) ، والأموال لأبي عبيد ص 98، والمنتقى للباجي 3 / 222 والأحكام السلطانية للماوردي ص 147.

(19/61)


شُرُوطُ الأَْرْضِ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْخَرَاجِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ خَرَاجِيَّةً.
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ الَّتِي تَخْضَعُ لِوَظِيفَةِ الْخَرَاجِ، لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً، وَلِذَا فَلاَ تَجِبُ وَظِيفَةُ الْخَرَاجِ عَلَى الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، كَالأَْرْضِ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا.
وَالأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الأَْرْضُ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَكَذَا الأَْرْضُ الَّتِي جَلاَ عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَتَرَكَهَا الإِْمَامُ فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَهْلُهَا بَعْدَ فَتْحِهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ نَامِيَةً.
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ تَخْضَعُ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِوَظِيفَةِ الْخَرَاجِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَامِيَةً.
وَالنَّمَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مُغِلَّةً بِالْفِعْل، كَأَنْ تَكُونَ مَزْرُوعَةً بِالأَْشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالنَّخِيل وَالْعِنَبِ وَغَيْرِهِمَا.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ تَقْدِيرِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ بَيْضَاءَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ. وَصَلاَحِيَّتُهَا لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ تَكُونَ تُرْبَتُهَا قَابِلَةً لِلزِّرَاعَةِ، وَأَنْ يَنَالَهَا الْمَاءُ.
وَلِذَا فَلاَ يَجِبُ الْخَرَاجُ فِي الأَْرْضِ الْمَبْنِيَّةِ مَسَاكِنَ وَدُورًا، وَلاَ فِي الأَْرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي

(19/61)


لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، كَأَنْ تَكُونَ نَزَّةً - لاَ تُمْسِكُ الْمَاءَ - أَوْ سَبِخَةً، لِعَدَمِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي الزِّرَاعَةِ، وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْوَقْفِ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ. (1)
رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَال: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْل السَّوَادِ عَلَى كُل جَرِيبٍ (2) عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ (3) .
وَقَدْ عَلَّقَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: (وَفِي تَأْوِيل حَدِيثِ عُمَرَ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ جَعَل الْخَرَاجَ عَلَى الأَْرَضِينَ الَّتِي تُغِل مِنْ ذَوَاتِ الْحَبِّ وَالثِّمَارِ، وَالَّتِي تَصْلُحُ لِلْغَلَّةِ مِنَ الْعَامِرِ وَالْغَامِرِ، وَعَطَّل مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاكِنَ وَالدُّورَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُهُمْ فَلَمْ يَجْعَل عَلَيْهَا فِيهَا شَيْئًا) . (4)
__________
(1) الكاساني: البدائع 2 / 933، المبسوط للسرخسي 10 / 79، حاشية الدسوقي 2 / 198، الصاوي: بلغة السالك - دار الباز بمكة المكرمة 1 / 361، حاشية الشرقاوي 1 / 422، دار المعرفة ببيروت، النهاية للرملي 8 / 74، كشاف القناع للبهوتي 3 / 98، والمبدع لابن مفلح 3 / 382 - المكتب الإسلامي ببيروت، الأحكام السلطانية للفراء ص 169.
(2) الجريب: الوادي، ثم استعير للقطعة المتميزة من الأرض، ويختلف مقداره بحسب اصطلاح كل إقليم، فقيل: إنه عشرة آلاف ذراع مربع، وقيل ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مربع.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 98.
(4) نفس المرجع ص 102.

(19/62)


وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ بِمَثَابَةِ أُجْرَةِ الأَْرْضِ وَمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لاَ أَجْرَ لَهُ.

انْتِقَال الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إِلَى الذِّمِّيِّ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لإِِفْضَائِهِ إِلَى إِسْقَاطِ عُشْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ لِلذِّمِّيِّ؛ بِأَنَّهَا مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِ مِنْ بَيْعِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ يَسْقُطُ الْعُشْرُ فَيَتَضَرَّرُ الْفُقَرَاءُ. (1)
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَظِيفَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ إِذَا تَمَلَّكُوا الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عِنْدَهُمْ، وَالثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إِلَى
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 280، الفتاوى الهندية 2 / 240، دار إحياء التراث العربي ببيروت ط 3 - 1400هـ 1980 م. الأحكام السلطانية للماوردي ص 119، المغني لابن قدامة 2 / 729.

(19/62)


الذِّمِّيِّ وَلاَ يُفْرَضُ عَلَيْهَا عُشْرٌ، وَلاَ خَرَاجٌ لِفَقْدِ مُوجِبِهِمَا.
فَالْخَرَاجُ يَجِبُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي خَضَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْغَلَبَةِ، أَوِ الصُّلْحِ وَلاَ يَجِبُ بِالْبَيْعِ وَلاَ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إِلَى ذِمِّيٍّ.
وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
كَمَا قَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَسْأَلَةِ انْتِقَال الْحَيَوَانَاتِ السَّائِمَةِ إِلَى الذِّمِّيِّ فَكَمَا تَسْقُطُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ، يَسْقُطُ الْعُشْرُ عَنِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً، وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْخَرَاجُ لاَ الْعُشْرُ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ، وَلِهَذَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً. وَإِذَا تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْعُشْرِ وَجَبَ الْخَرَاجُ إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ فَرْضِ وَظِيفَةٍ عَلَى الأَْرْضِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً، فَفِي رِوَايَةٍ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِالشِّرَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إِذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا، سَوَاءٌ زَرَعَ أَمْ لَمْ يَزْرَعْ.

(19/63)


وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ خَرَاجِيَّةً وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا، كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ نَصَارَى تَغْلِبَ. وَلأَِنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الذِّمِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ، فَإِذَا تَعَرَّضَ أَهْل الذِّمَّةِ لِذَلِكَ ضُوعِفَ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ كَمَا لَوْ اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِمْ ضُوعِفَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ فَأُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَيُوضَعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى أَنَّهَا تَبْقَى عُشْرِيَّةً، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ سِوَى الْعُشْرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ كُل أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا لاَ يَتَبَدَّل الْحَقُّ بِتَبَدُّل الْمَالِكِ، كَالْخَرَاجِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَئُونَةُ الأَْرْضِ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ، حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، فَلاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَالِكِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْمَأْخُوذِ وَمَصْرِفِهِ، فَقِيل: يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لأَِنَّهُ قَدْرُ الْوَاجِبِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ، فَلَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ، لأَِنَّ مَال الصَّدَقَةِ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَالاً مَأْخُوذًا مِنْ كَافِرٍ، فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ.
وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ

(19/63)


وَالْخَرَاجِ مَعًا، فَأَمَّا الْعُشْرُ فَاسْتِصْحَابًا، وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَغُرْمٌ يَلْحَقُهُ بِمَصِيرِهَا إِلَيْهِ. (1)

إِحْيَاءُ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ:
24 - إِذَا كَانَ الْمُحْيِي لِلأَْرْضِ الْمَوَاتِ ذِمِّيًّا، فَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ ذَلِكَ - بِإِذْنِ الإِْمَامِ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الأَْرْضُ ضِمْنَ دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَمْ دَارِ الْعَهْدِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي وَظِيفَةِ الأَْرْضِ، فَالْمُسْلِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ الْعُشْرُ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ سِوَى الْخَرَاجِ لأَِنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِهِ. (2)
وَيَرَى آخَرُونَ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
انْظُرْ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) ف 22 وَ 23

مِقْدَارُ الْخَرَاجِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ، وَفِي جَرِيبِ الرَّطْبَةِ (الْفَصْفَصَةِ) خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ
__________
(1) البدائع للكاساني 2 / 927 - 928 الأحكام السلطانية للماوردي ص 119، الأحكام السلطانية للفراء ص 123، المغني لابن قدامة 2 / 729
(2) الفتاوى الهندية 2 / 237، المغني لابن قدامة 5 / 566، الاستخراج في أحكام الخراج لابن رجب ص 11، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 101.

(19/64)


(الْعِنَبِ) عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَْصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ وَغَيْرِهَا، يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.
وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَال: وَضَعَ عُمَرُ عَلَى أَهْل السَّوَادِ عَلَى كُل جَرِيبٍ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الْحِنْطَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ - قَال وَلَمْ يَذْكُرِ النَّخْل - وَعَلَى رُءُوسِ الرِّجَال ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ.
26 - وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِتَقْدِيرِ إِمَامٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ السَّابِقِينَ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِأَيِّ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا قَال: الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ الأَْرْضُ مِنْ ذَلِكَ لاِخْتِلاَفِهَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَيَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا عَلَيْهِ بِأَهْل الْخِبْرَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 4 / 235، المرغيناني: الهداية - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة 2 / 157، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 283، الفتاوى الهندية 2 / 238، وأبو عبيد: الأموال ص 98.

(19/64)


الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ ابْنَ حُنَيْفٍ إِلَى السَّوَادِ فَطَرَّزَ الْخَرَاجَ فَوَضَعَ عَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْل ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّيْتُونِ اثْنَيْ عَشَرَ. وَوَضَعَ عَلَى الرَّجُل الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ فِي الشَّهْرِ (1) .
27 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْخَرَاجِ فِي كُل سَنَةٍ، مَا فَرَضَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لَمَّا بَعَثَهُ عُمَرُ مَاسِحًا وَهُوَ عَلَى كُل جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. وَعَلَى كُل جَرِيبِ شَجَرٍ، وَقَصَبِ سُكَّرٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ نَخْلٍ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ كَرْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ زَيْتُونٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا. (2)
28 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْل ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ (3) سِتَّةُ دَرَاهِمَ.
__________
(1) ابن هبيرة: الإفصاح - مطبعة الكيلاني بالقاهرة 1980، 2 / 284، أبو عبد الله الدمشقي: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني - دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 2 / 172 وأبو عبيد: الأموال ص 97.
(2) النووي: روضة الطالبين 10 / 276 - المكتب الإسلامي ببيروت - ط2 - 1405 هـ - 1985م، الشربيني الخطيب، مغني المحتاج في شرح المنهاج 4 / 235، حاشية البجيرمي 4 / 262 - المكتبة الإسلامية بتركيا.
(3) الرطبة: (بفتح الراء وسكون الطاء) نبات يقيم في الأرض سنينا كلما جز نبت، كالقضبة وهي كل نبات اقتضب فأكل طريا. المطلع للبعلي ص 233، المصباح المنير للفيومي ص 313.

(19/65)


وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ حَيْثُ قَال: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَتَاهُ ابْنُ حُنَيْفٍ - فَجَعَل يُكَلِّمُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُول: وَضَعْتُ عَلَى كُل جَرِيبٍ مِنَ الأَْرْضِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ لاَ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُجْهِدُهُمْ (1) .

الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِتَقْدِيرَاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْخَرَاجِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَاقَةِ الأَْرْضِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّحَمُّل.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: (لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الأَْرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ) (2) فَإِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ يُزَادُ بِقَدْرِ
__________
(1) ابن مفلح: المبدع: 3 / 381 - المكتب الإسلامي، وانظر: الخراج والنظم المالية للريس ص 321 - 325 وأبو عبيد: الأموال ص 101.
(2) صحيح البخاري 4 / 204.

(19/65)


الطَّاقَةِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ لاَ تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ لِقِلَّةِ رِيعِهَا فَتَنْقُصُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، لِقَوْل عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (وَلَوْ زِدْنَا لأََطَاقَتْ) (2) فَلَمْ يَزِدْ عُمَرُ مَعَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الأَْرْضَ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ (3) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ، لِقَوْل عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لِعُمَرَ: وَاللَّهِ لَوْ زِدْتُ عَلَيْهِمْ لأََجْهَدْتُهُمْ (4) فَدَل عَلَى إِبَاحَةِ الزِّيَادَةِ مَا لَمْ يُجْهِدْهُمْ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ نَاظِرٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، فَجَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهِ دُونَ النُّقْصَانِ (5) وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لأَِنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ كَالإِْجْمَاعِ لِعَدَمِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ. (6)
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 283، السرخسي: المبسوط 10 / 79، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150 ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 67.
(2) صحيح البخاري 4 / 204.
(3) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 283، السرخسي: المبسوط 10 / 79.
(4) صحيح البخاري 4 / 204.
(5) ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 67.
(6) نفس الرجع.

(19/66)


مَا يُرَاعَى عِنْدَ تَقْدِيرِ الْخَرَاجِ:
30 - يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تُرْبَةِ الأَْرْضِ، وَمَدَى إِنْتَاجِيَّتِهَا وَخُصُوبَتِهَا، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْجَيِّدَةِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الرَّدِيئَةِ.
وَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي كُل عَامٍ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي عَامٍ، وَتُرَاحُ فِي عَامٍ. فَيُرَاعَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي لاَ تُزْرَعُ فِي كُل عَامٍ حَالُهَا، وَاعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ أَصْلَحَ الأُْمُورِ لأَِرْبَابِ هَذِهِ الأَْرْضِ، وَأَهْل الْفَيْءِ يَكُونُ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلاَثٍ.
أ - إِمَّا أَنْ يُجْعَل خَرَاجُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ.
ب - وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُل جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالآْخَرُ لِلْمَتْرُوكِ.
ج - وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مِسَاحَةِ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَيَسْتَوْفِي مِنْ أَرْبَابِهِ الشَّطْرَ مِنْ مِسَاحَةِ أَرْضِهِمْ. (1)
خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا:
31 - مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُرَاعَى أَيْضًا عِنْدَ تَحْدِيدِ
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 118، البهوتي: كشاف القناع 3 / 98، ابن مفلح: المبدع 3 / 382.

(19/66)


وَظِيفَةِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا. فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالأَْنْهَارِ، وَأَوْجَبَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الآْبَارِ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَى مَئُونَةٍ.
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الأَْمْطَارِ، أَوِ الْعُيُونِ، أَوِ الأَْنْهَارِ يَزِيدُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الآْبَارِ.

نَوْعِيَّةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمَزْرُوعَةِ فِي الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
32 - الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالْقَمْحِ، أَوِ الشَّعِيرِ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالأَْشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالْعِنَبِ، وَالنَّخِيل، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ قِيمَةِ كُل نَوْعٍ عَنِ الآْخَرِ.
33 - قُرْبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ وَبُعْدُهَا عَنْهَا:
فَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ لأَِنَّ بُعْدَهَا عَنِ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ يَزِيدُ مِنَ الْمَئُونَةِ وَالْكُلْفَةِ.

(19/67)


مَا يَنْزِل بِأَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنْ نَوَائِبَ
وَمُلِمَّاتٍ.
34 - يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ الَّتِي قَدْ تَنْزِل بِأَرْبَابِ الأَْرْضِ فَيَتْرُكَ لَهُمْ مِنْ غَايَةِ مَا تَحْتَمِلُهُ الأَْرْضُ نِسْبَةً مُعَيَّنَةً لِمُوَاجَهَةِ تِلْكَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ.
كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرْصِ الثِّمَارِ الْمُزَكَّاةِ حَيْثُ قَال: إِذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ (1) وَقَدْ عَلَّل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ فِي الْمَال الْعَرِيَّةَ وَالْوَطِيَّةَ (2) وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَال الْعَرِيَّةَ (3)
__________
(1) حديث: " إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذوا. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 269 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سهل بن حثمة، وفي إسناده راو فيه لين.
(2) حديث: " فإن المال العرية والوطية ". أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال (ص 586 - نشر دار الفكر بيروت) من حديث مكحول مرسلا.
(3) قال أبو عبيد: العرية تفسر تفسرين: الأول: كان مالك بن أنس يقول: هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج يعريه إياها، فيأتي المعرى - وهو الموهوب له - إلى نخلته تلك ليجتنيها، فيشق على المعري - وهو الواهب - دخوله عليه لمكان أهله في النخل قال: فجاءت الرخصة ل وانظر الماوردي (ص 149) .

(19/67)


وَالأَْكَلَةَ (1) .
وَقَدْ رَاعَى عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ عِنْدَمَا وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ فَقَال: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ مُطِيقَةٌ لَهُ، مَا فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ (2) فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَقَدْ تَرَكَهُ لَهُمْ. وَقَال أَيْضًا: (وَلَوْ زِدْنَا لأََطَاقَتْ (3) .
وَقَدْ نَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلاَ يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلْيَجْعَل مِنْهُ لأَِرْبَابِ الأَْرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ، حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْل مِنْ أَمْوَال السَّوَادِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ لاَ تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى
__________
(1) أثر عمر: " خففوا على الناس في الخرص فإن في المال العرية والأكلة ". أخرجه أبو عبيد قاسم بن سلام في كتاب " الأموال " (ص 587 - نشر دار الفكر - بيروت) من طريق الأوزاعي قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال. . . . فذكره، وإسناده ضعيف لانقطاعه.
(2) صحيح البخاري 4 / 204.
(3) نفس المرجع.

(19/68)


دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا) . (1)
اسْتِيفَاءُ الْخَرَاجِ:
إِذَا وُضِعَ الْخَرَاجُ عَلَى أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ فَلاَ بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ حُلُول وَقْتِ الْوُجُوبِ لِيُصْرَفَ أَيْ مَصَارِفَهُ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ سَدِّ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:
35 - لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ - غَالِبًا - مَا يَكُونُ بَعْدَ حُلُول وَقْتِ الْوُجُوبِ.

أ - وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ
35 م - وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ الْخَرَاجِ الْمَفْرُوضِ عَلَى رَقَبَةِ الأَْرْضِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ، يَكُونُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ كَمَال الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ، وَيَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ وَظِيفَةٍ، فَلاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلاَ يَتَكَرَّرُ، وَلَوِ
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 159.
(2) منلا خسرو: درر الحكام في شرح غرر الأحكام - مطبعة أحمد كامل بالقاهرة 1329هـ - 1 / 297، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 149 أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 168، ابن رجب: الاستخراج ص 72، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 116.

(19/68)


اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا فِي السَّنَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَأْخُذِ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ؛ وَلأَِنَّ رِيعَ عَامَّةِ الأَْرَاضِي يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ الْغَالِبِ.
وَالْوَظِيفَةُ الْمَفْرُوضَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الأَْرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ.
فَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الأَْرْضِ، فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا السَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا.
وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا السَّنَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الأَْمْطَارُ وَيُزْرَعُ الزَّرْعُ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ، الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَوَّل السَّنَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الأَْرْضِ النَّامِيَةِ فِي يَدِهِ سَنَةً، إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَيَأْخُذُهُ الإِْمَامُ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَلَّةِ. (2)
__________
(1) ابن رشد: المقدمات على هامش المدونة 1 / 397 - 398، الرملي: نهاية المحتاج 8 / 74، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 149، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 168.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 243.

(19/69)


ب - تَعْجِيل الْخَرَاجِ:
36 - الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيل الْخَرَاجِ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْل حُلُول وَقْتِ وُجُوبِهِ. فَهَل يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُطَالَبَةُ أَهْل الذِّمَّةِ بِالْخَرَاجِ قَبْل حُلُول وَقْتِهِ؟
أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَعْجِيل الْخَرَاجِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ سَبَبَهُ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْرْضِ؛ وَلأَِنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ عُجِّل رِفْقًا فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَجَلِهِ كَالدَّيْنِ (1) .
وَمُقْتَضَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَعْجِيلِهِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ، وَالأُْجْرَةُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَلَوْ تَعَجَّل الإِْمَامُ الْخَرَاجَ قَبْل وُجُوبِهِ ثُمَّ انْقَطَعَ وُجُوبُهُ فَهَل يَرُدُّ الإِْمَامُ مَا أَخَذَهُ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ؟
فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَدْ صُرِفَ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بَاقِيًا. فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا رَدَّهُ الإِْمَامُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ صُرِفَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لأَِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الْخَرَاجِ أَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الأَْرْضِ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 244، داماد: مجمع الأنهر 1 / 669، ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 73.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 244.

(19/69)


وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ مُطْلَقًا - أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَاقِيًا أَوْ قَدْ صُرِفَ - لأَِنَّهُ أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ لِيَقَعَ نَفْلاً. (1)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ. وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لَهُمْ بِذَلِكَ.

ج - تَأْخِيرُ الْخَرَاجِ:
37 - إِذَا تَأَخَّرَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَل حُبِسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَالٌ فَيُبَاعُ فِي خَرَاجِهِ كَالْمَدْيُونِ. وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَيُتْرَكُ الأَْمْرُ لِلإِْمَامِ، إِمَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَهَا عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ مِنْ أُجْرَتِهَا وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ. وَإِنْ نَقَصَتِ الأُْجْرَةُ عَنِ الْخَرَاجِ كَانَ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ نُقْصَانُهَا. (2)
وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الأَْرْضِ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّاحِبَيْنِ
__________
(1) ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 73.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 172، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 123.

(19/70)


مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) ، وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ لِلأَْرْضِ، وَالأُْجْرَةُ لاَ تَسْقُطُ بِالإِْعْسَارِ كَأُجْرَةِ الدَّارِ وَالْحَوَانِيتِ. (2)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ بِالإِْعْسَارِ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، لأَِنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الأَْرْضِ - أَيْ لَيْسَ بَدَلاً عَنْ شَيْءٍ (3) - وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَأْيَهُمْ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ خَرَاجَ الأَْرْضِ أُجْرَةٌ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.

الشَّخْصُ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْخَرَاجُ:
38 - الْمُطَالَبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِيَدِهِ ابْتِدَاءً أَمِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ. (4)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالْخَرَاجِ، أَنْ تَبْقَى الأَْرْضُ فِي يَدِهِ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَقَدَّرُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، ابن مفلح: المبدع 3 / 382، البهوتي: كشاف القناع 3 / 98 - 99، الكاساني: بدائع الصنائع 9 / 433، حاشية ابن عابدين 4 / 192 - 201.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع 9 / 433، حاشية ابن عابدين 4 / 192 - 201.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 239، الباجي:. المنتقى 3 / 222، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، البهوتي: كشاف القناع 3 / 98، ابن مفلح: المبدع 3 / 382.

(19/70)


بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِذَا بَاعَ رَجُلٌ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً مِنْ غَيْرِهِ، فَبَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ شَهْرٍ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِهِ كَذَلِكَ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الأَْرْضُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لاَ خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ. (1)
وَإِذَا آجَرَ مَنْ بِيَدِهِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ أَرْضَهُ، أَوْ أَعَارَهَا، أَوْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً، فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُعِيرِ، لاَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الأَْرْضِ وَهُوَ لِلْمَالِكِ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ أَوِ الْمُؤَجِّرُ مِنَ الأُْجْرَةِ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ النَّمَاءِ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الأَْرْضِ. فَلاَ يَكُونُ النَّفْعُ لَهُ وَالْخَرَاجُ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ إِنَّمَا دَخَل عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِالأَْرْضِ مَجَّانًا فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ. (2)
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ قِيَاسًا عَلَى الْعُشْرِ؛ وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ تَمَامِ تُرْبَةِ الأَْرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْيِ وَالْحَرْثِ، وَتَهْيِئَتِهَا لِلزِّرَاعَةِ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 239.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 239، الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 32، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 93، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 121.

(19/71)


الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالأَْرْضِ حَقِيقَةً. (1)
وَإِذَا غَصَبَ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ غَاصِبٌ، فَإِمَّا أَنْ يُعَطِّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَزْرَعَهَا وَيَسْتَغِلَّهَا. فَإِذَا عَطَّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ فَلاَ خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ وَاسْتَغَلَّهَا، فَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَهَا الزِّرَاعَةُ، وَإِمَّا أَنْ لاَ تُنْقِصَهَا، فَإِذَا لَمْ تُنْقِصْهَا الزِّرَاعَةُ فَيَجِبَ خَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِبِ.
وَإِذَا نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، يَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِلنَّقْصِ، وَلَمَّا كَانَ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ صَارَ كَالْمُسْتَأْجِرِ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: يُنْظَرُ إِلَى ضَمَانِ نُقْصَانِ الأَْرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ. فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ. فَيَأْخُذُ مِنَ الْغَاصِبِ غَرَامَةَ النُّقْصَانِ وَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَل مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ. (2)
وَيُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أُجْرَةَ الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمَنَافِعِ، أَنَّ
__________
(1) ابن رجب الاستخراج ص 93، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 121.
(2) الكاساني: البدائع 2 / 932.

(19/71)


غَاصِبَ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَضْمَنُ الْخَرَاجَ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الأُْجْرَةِ. (1)

مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:
39 - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الأَْئِمَّةُ وَالسَّلاَطِينُ. فَالإِْمَامُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْخَرَاجَ ابْتِدَاءً، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَيُقَرِّرُ صَرْفَهُ وَفْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْمَامَ وَكِيلٌ عَنِ الأُْمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَفِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهَا. قَال الْقُرْطُبِيُّ: الأَْمْوَال الَّتِي لِلأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ.
وَالثَّانِي: الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُل فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ، وَالْقَهْرِ، وَالْغَلَبَةِ.
وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلاَ إِيجَافٍ، كَالصُّلْحِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تُجَّارِ الْكُفَّارِ. (2)
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالْمُطَالِبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ الإِْمَامُ، وَيَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الأَْرْضِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 31، الجمل على المنهج 3 / 488، ومغني المحتاج 2 / 289، والقليوبي 3 / 37، المغني 5 / 246
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن - دار إحياء التراث العربي - بيروت 18 / 14.

(19/72)


لأَِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ.

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْعَدْل:
40 - الإِْمَامُ الْعَادِل: هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الأُْمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الأَْمْوَال مَالاً لاَ يَطْلُبُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالاً عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ، وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ. (1)
وَقَال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَال بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ (2) فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (3)
فَإِذَا طَلَبَ الإِْمَامُ الْعَادِل الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ تَوْزِيعُ خَرَاجِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْخَرَاجَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِنَفْسِهِ فَلِلإِْمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ ثَانِيًا، لأَِنَّ حَقَّ الأَْخْذِ لَهُ.
__________
(1) حديث: " ما أعطيكم ولا أمنعكم ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 217 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) أبو يوسف: الخراج ص 36.
(3) سورة النساء / 6.

(19/72)


أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَعَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. (1)

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ:
41 - الإِْمَامُ الْجَائِرُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الأُْمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ، فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ.
فَإِذَا طَلَبَ الإِْمَامُ الْجَائِرُ الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ دَفْعُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا أَدَّوْا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ سَقَطَ عَنْهُمْ وَلاَ يُطَالَبُونَ بِهِ مِنْ قِبَل أَئِمَّةِ الْعَدْل. (2)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا سَلاَطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ، وَالْعُشُورَ، وَالْخَرَاجَ، لاَ يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَل تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟ .
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لاَ يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لأَِنَّ حَقَّ الأَْخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَال عَلَيْهِمْ.
__________
(1) ابن مودود: الاختيار لتعليل المختار - دار المعرفة - بيروت 4 / 145، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 18 / 14، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 16، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 28، ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 115.
(2) الكاساني: البدائع 2 / 884، الحطاب: مواهب الجليل 2 / 364، الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 4 / 132.

(19/73)


وَقَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ، وَلاَ تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ يَصْرِفُونَ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا " (1) وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْجَائِرِ، فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ كَطَلَبِ الْخَرَاجِ، بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل تَسُوسُهُمُ الأَْنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي. وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَال: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ. (2)
قَال الشَّوْكَانِيُّ - فِي بَيَانِ مَعْنَى " ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ": - أَيِ ادْفَعُوا إِلَى الأُْمَرَاءِ حَقَّهُمُ الَّذِي لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَمْ يَعُمُّ، وَذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، كَالزَّكَاةِ، وَفِي الأَْنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ
__________
(1) الكاساني: المرجع السابق.
(2) حديث: كانت بنو إسرائيل " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 495 ط السلفية) ومسلم (3 / 1471 - 1472 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الشوكاني: نيل الأوطار 7 / 194.

(19/73)


كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَال: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ. (1)

دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْبُغَاةِ:
42 - الْبُغَاةُ: هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الإِْمَامَ مُتَأَوِّلِينَ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَالَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الإِْمَامِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الدُّخُول فِي طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشَبَهِهَا فَيَدْعُونَ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ (2) .
فَإِذَا غَلَبَ أَهْل الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، وَنَصَّبُوا إِمَامًا فَجَبَى الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِهِ إِمَامُ أَهْل الْعَدْل مَرَّةً ثَانِيَةً، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْل الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ. وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهِ ضَرَرًا عَظِيمًا، وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلاَدِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ ذَلِكَ لأََدَّى إِلَى ثَنْيِ الْوَاجِبِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ وَلأَِنَّ حَقَّ الإِْمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ. (3)
__________
(1) حديث: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ". أخرجه مسلم (3 / 1472 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) ابن جزي: القوانين الفقهية ص 293.
(3) الكاساني: البدائع 9 / 4402، ابن جزي: القوانين الفقهية ص 294 الشافعي: الأم - دار المعرفة ببيروت 4 / 220، الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 4 / 133، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 55، المرداوي: الإنصاف - مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة ط 1 - 1375 - 1956 م - 10 / 318.

(19/74)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّهُ أَعْطَاهُ إِلَى مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا. (1)
دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ":
43 - الْمُحَارِبُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلاَحِ، فَيَغْصِبُونَ الْمَال مُجَاهَرَةً، أَوْ يَقْتُلُونَ، أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ (2) .
فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ الْخَرَاجُ بِأَدَائِهِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ، لأَِنَّهُ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا. (3)
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى - الْعِمَالَةُ عَلَى الْخَرَاجِ:
44 - تَعْيِينُ عَامِل الْخَرَاجِ مِنَ اخْتِصَاصَاتِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْعَامِل بِهَذَا التَّعْيِينِ
__________
(1) الإمام مالك: المدونة 1 / 244، الحطاب: مواهب الجليل 2 / 364، القرافي: الفروق - دار المعرفة ببيروت 4 / 171.
(2) ابن مفلح: المبدع 9 / 144.
(3) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 63، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 58.

(19/74)


وَكِيلاً عَنِ الإِْمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ وَقَبْضِهِ، فَتَكُونُ جِبَايَتُهُ لِلْخَرَاجِ مُحَدَّدَةً بِمَا رَسَمَهُ لَهُ الإِْمَامُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْسِيمُ مَا جَبَاهُ مِنْ أَمْوَال الْخَرَاجِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال لاَ تُصْرَفُ إِلاَّ بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ.
وَعَامِل الْخَرَاجِ - بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ - أَمِينٌ إِذَا أَدَّى الأَْمَانَةَ فَلاَ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَلاَ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ. (1)

شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِل الْخَرَاجِ:
يُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ: الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالأَْمَانَةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

1 - الإِْسْلاَمُ:
45 - عَامِل الْخَرَاجِ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ إِلَى بَيْتِ الْمَال.
فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْسْلاَمُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْعَمَل وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الأَْمَانَةِ.
وَلِذَا فَلاَ يُوَلَّى الذِّمِّيُّ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ، وَوَضْعِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
قَال أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي
__________
(1) الماوردي: الأحكام ص 130، أبو يعلى: الأحكام ص 140 - 186، أبو يوسف: الخراج ص 107.

(19/75)


أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يُسْتَعْمَل الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي أَعْمَال الْمُسْلِمِينَ مِثْل الْخَرَاجِ؟ قَال: لاَ يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . (2)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الآْيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْيَهُودِ، وَأَهْل الأَْهْوَاءِ دُخَلاَءَ، وَوُلَجَاءَ، يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الآْرَاءِ، وَيَسْنُدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ. (3)
وَقَال إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: فِي الآْيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. (4)
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قِيل لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَاهُنَا غُلاَمًا مِنْ أَهْل الْحِيرَةِ نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا، فَلَوِ اتَّخَذْتُهُ كَاتِبًا، فَقَال: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (5) .
__________
(1) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 208.
(2) سورة آل عمران / 118.
(3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4 / 178.
(4) إلكيا الهراسي: أحكام القرآن - مطبعة حسان بالقاهرة 2 / 68.
(5) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم - دار المعرفة ببيروت 1402 هـ - 1982 م 1 / 98.

(19/75)


عَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذَا الأَْثَرِ بِقَوْلِهِ: فَفِي هَذَا الأَْثَرِ مَعَ هَذِهِ الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلاَعٌ عَلَى دَوَاخِل أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الأَْعْدَاءِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، وَلِهَذَا قَال تَعَالَى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} . (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ (2) أَيْ لاَ تَسْتَنْصِحُوهُمْ، وَلاَ تَسْتَضِيئُوا بِرَأْيِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْسَل إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِطَابًا جَاءَ فِيهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ فِي عَمَلِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لاَ يَتِمُّ أَمْرُ الْخَرَاجِ إِلاَّ بِهِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُقَلِّدَهُ دُونَ أَمْرِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ، قَرَأْتُ كِتَابَكَ فِي أَمْرِ النَّصْرَانِيِّ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ قَدْ مَاتَ وَالسَّلاَمُ (3) .
وَقَدْ سَارَ الْخُلَفَاءُ الَّذِينَ لَهُمْ ثَنَاءٌ حَسَنٌ فِي الأُْمَّةِ عَلَى نَهْجِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اسْتِبْعَادِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حديث: " لا تستضيئوا بنار المشركين ". أخرجه النسائي (8 / 177 - ط المكتبة التجارية) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده " أزهر بن راشد " وهو مجهول كما في ميزان الاعتدال (1 / 171 ط الحلبي) .
(3) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 211.

(19/76)


أَهْل الذِّمَّةِ عَنِ الْوَظَائِفِ الَّتِي فِيهَا اطِّلاَعٌ عَلَى دَوَاخِل الْمُسْلِمِينَ.
فَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَحَدِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ فِي عَمَلِكَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا يَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانًا - يَعْنِي ذَلِكَ الْكَاتِبَ - إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا، وَنَحْنُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى فَلاَ تَسْتَعِنْ بِهِ، وَلاَ تَتَّخِذْ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الإِْسْلاَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَسْلَمَ حَسَّانٌ وَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ (2) .
وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ مُتَوَلِّي هَذَا الْعَمَل الأَْمَانَةَ وَالنُّصْحَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحِرْص عَلَى مَصَالِحِهِمْ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِفَاتِهِمْ فَهُمْ لاَ يُحِبُّونَ الْخَيْرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَغُشُّونَ، وَلاَ يَنْصَحُونَ، قَال تَعَالَى فِيهِمْ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (3)
وَقَال تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ
__________
(1) سورة المائدة / 57.
(2) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 211.
(3) سورة البقرة / 105.

(19/76)


أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} . (1) .
وَلِهَذَا وَلِغَيْرِهِ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُسْتَعْمَل الذِّمِّيُّ فِي عَمَلٍ يَخْتَصُّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ.
فَإِذَا كَانَ يَجْبِيهِ مِنَ الذِّمِّيِّينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَيْدِيهِمُ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ.
وَالأَْصَحُّ عَدَمُ الْجَوَازِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (2) .

2 - الْحُرِّيَّةُ:
46 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ الْمُخْتَصِّ بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ الْحُرِّيَّةُ. وَلِذَا فَلاَ يُوَلَّى الْعَبْدُ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ وَوَضْعَهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْعَمَل وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِل جَابِيًا فَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي هَذَا الْعَمَل إِلاَّ عَنِ اسْتِنَابَةٍ، وَلاَ تُشْتَرَطُ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الاِسْتِنَابَةِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالرَّسُول لِلْمَأْمُورِ. (3)
3 - الأَْمَانَةُ:
47 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ الأَْمَانَةُ. وَلِذَا فَلاَ
__________
(1) سورة الممتحنة / 2.
(2) النووي: روضة الطالبين - المكتب الإسلامي ببيروت 6 / 367 الماوردي: الأحكام السلطانية ص 130، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 140.
(3) المراجع السابقة.

(19/77)


يُوَلَّى الْخَائِنُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ، لِئَلاَّ يَخُونَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَغُشُّ فِيمَا قَدِ اسْتُنْصِحَ فِيهِ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وَقَال تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} . (2)
قَال أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ: وَرَأَيْتُ أَنْ تَتَّخِذَ قَوْمًا مِنْ أَهْل الصَّلاَحِ، وَالدِّينِ، وَالأَْمَانَةِ فَتُوَلِّيهِمُ الْخَرَاجَ. (3)
4 - الْكِفَايَةُ:
48 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ الْكِفَايَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَكَيْفِيَّةِ خَرْصِ الثِّمَارِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: فَمَنْ رَجُلٌ لَهُ جَزَالَةٌ وَعَقْلٌ يَضَعُ الأَْرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ. (4) فَأُخْبِرَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَعَيَّنَهُ، لأَِنَّهُ كَانَ ذَا بَصَرٍ وَعَقْلٍ، وَتَجْرِبَةٍ.
قَال ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ - فِي بَيَانِ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ كِفَايَةُ عَامِل الْخَرَاجِ -:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِحَفْرِ الأَْنْهَارِ، وَمَجَارِي
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) أبو يوسف: الخراج ص 106، 110.
(4) أبو يوسف: المرجع السابق ص 27.

(19/77)


الْمِيَاهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمِسَاحَاتِ، وَتَخْمِينِ الْغَلاَّتِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفُصُول السَّنَةِ، وَمَجَارِي الشَّمْسِ، وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْحِسَابِ وَكُسُورِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ دُرْبَةٌ بِعَقْدِ الْجُسُورِ، وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا يُدْفَعُ عَنِ الزَّرْعِ فِي الأَْرَاضِي، وَأَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَوْقَاتِ الزَّرْعِ وَأَحْوَال الأَْسْعَارِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحُقُوقِ بَيْتِ الْمَال وَمَا يَجِبُ لَهُ. (1)
هَذَا إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرَهُ، أَمَّا إِنِ اقْتَصَرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى طَلَبِ جِبَايَتِهِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.

5 - الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ:
49 - إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ اعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ، وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلاَيَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا. (2)
آدَابُ عَامِل الْخَرَاجِ:

1 - الرِّفْقُ بِأَهْل الْخَرَاجِ:
50 - يَنْبَغِي لِعَامِل الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْل الْخَرَاجِ. وَمِنْ مَظَاهِرِ الرِّفْقِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِالْخَرَاجِ كُلَّمَا خَرَجَتْ غَلَّةٌ، فَيَأْخُذَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْخَرَاجِ فِي آخِرِ الْغَلَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَزِّعَ الْخَرَاجَ عَلَى
__________
(1) أحمد بن الربيع: سلوك المالك في تدبير الممالك. مطبعة الهدف ببيروت (1978 م) ص 160.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 152.

(19/78)


قَدْرِ الْغَلَّةِ، حَتَّى إِنَّ الأَْرْضَ إِذَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ قَسَمَ الْخَرَاجَ نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْخَرَاجِ مِنْ غَلَّةِ الرَّبِيعِ، وَيُؤَخِّرُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إِلَى غَلَّةِ الْخَرِيفِ. (1)
2 - الْعَدْل وَالإِْنْصَافُ:
51 - يَجِبُ عَلَى عَامِل الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَادِلاً فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ، وَتَقْدِيرِهِ، فَيُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَلاَ يُحَابِي الْقَرِيبَ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلاَ الشَّرِيفَ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِلاَ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ. (2)
3 - الْعِفَّةُ:
52 - يَجِبُ عَلَى عَامِل الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفَ النَّفْسِ، فَلاَ يَطْلُبُ رِشْوَةً مِنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَقْبَل هَدِيَّةً مِنْ أَهْل الْخَرَاجِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. (3)
قَال الْخَطَّابِيُّ: الرَّاشِي الْمُعْطِي، وَالْمُرْتَشِي الآْخِذُ. وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُمَا الْعُقُوبَةُ مَعًا إِذَا اسْتَوَيَا فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 243، أبو يوسف: الخراج ص 109.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 243.
(3) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " أخرجه أبو داود (4 / 9 - 10 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والترمذي (3 / 614 - ط الحلبي) وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".

(19/78)


الْقَصْدِ وَالإِْرَادَةِ. فَرِشَا الْمُعْطِي لِيَنَال بِهِ بَاطِلاً وَيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى ظُلْمٍ. فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى لِيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَقٍّ أَوْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ فِي شَيْءٍ وَهُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُل عَنْ نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، إِذَا خَافَ الظُّلْمَ. (1)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اسْتَعْمَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَْزْدِ يُقَال لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَال: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَال: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. (2) ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ (3) .
اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ. ثَلاَثًا. (4)
__________
(1) الخطابي: معالم السنن 4 / 161.
(2) تيعر: أي تصوت، واليعار: صوت الشاة.
(3) العفرة: بياض ليس بالخالص.
(4) حديث: أبي حميد الساعدي: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 ط السلفية) ومسلم (3 / 1464 ط الحلبي) .

(19/79)


فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْل الْخَرَاجِ إِلَى الْعُمَّال حَرَامٌ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّال سُحْتٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيل سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ، وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي، وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ، وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لأَِهْلِهِ. (1)

وَاجِبُ الإِْمَامِ تُجَاهَ عُمَّال الْخَرَاجِ:

1 - الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّال الْخَرَاجِ:
53 - لِضَمَانِ تَحْقِيقِ الْعَدْل بَيْنَ النَّاسِ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِقَابَةٌ فَعَّالَةٌ عَلَى عُمَّال الْخَرَاجِ. وَقَدْ نَصَحَ أَبُو يُوسُفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَال: وَأَنَا أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْل الصَّلاَحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّال وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلاَدِ وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَلَى مَا وُظِّفَ عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ، أُخِذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الأَْخْذِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَال حَتَّى لاَ يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ. فَإِنَّ كُل مَا عَمِل بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ
__________
(1) الخطابي: معالم السنن 3 / 8.

(19/79)


مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَل هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِل وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ، أَوْ خَبَثِ طُعْمَتِهِ، أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ، وَالاِسْتِعَانَةُ بِهِ، وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ، أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ. بَل عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْل مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ. (1)
2 - ضَرُورَةُ مَنْحِ عُمَّال الْخَرَاجِ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ:
54 - لاِجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّال الْخَرَاجِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، لاَ بُدَّ أَنْ تُصْرَفَ لَهُمْ أُجُورٌ " رَوَاتِبُ " مُجْزِيَةٌ تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَال لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْل الدِّينِ عَلَى سَلاَمَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ قَال: أَمَا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ.
يَقُول: إِذَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِل لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، لاَ يَحْتَاجُونَ (2) .
__________
(1) أبو يوسف: الخراج ص 11.
(2) نفس المرجع ص 113.

(19/80)


الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: نِظَامُ التَّقْبِيل " التَّضْمِينِ ":
55 - نَشَأَ عَنْ تَطْبِيقِ الْخَرَاجِ بَعْضُ الظَّوَاهِرِ الاِقْتِصَادِيَّةِ، كَنِظَامِ التَّقْبِيل " التَّضْمِينِ " حَيْثُ بَدَأَ وُجُودُ هَذَا النِّظَامِ فِي الْعَصْرِ الأُْمَوِيِّ، وَانْتَشَرَ فِي الْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ عَلَى تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى نَوْفَل بْنِ الْفُرَاتِ - عَامِل خَرَاجِ مِصْرَ - سَنَةَ 141 هـ أَنِ اعْرِضْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الأَْشْعَثِ ضَمَانَ خَرَاجِ مِصْرَ. فَإِنْ ضَمِنَهُ فَأَشْهِدْ عَلَيْهِ، وَاشْخُصْ إِلَيَّ (أَيْ عُدْ أَنْتَ إِلَيَّ) وَإِنْ أَبَى فَاعْمَل عَلَى الْخَرَاجِ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى (1) .
وَالتَّقْبِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّل أَيْ كَفَل، يُقَال قَبَل (بِالْفَتْحِ) إِذَا كَفَل أَوْ قَبُل (بِالضَّمِّ) إِذَا صَارَ قَبِيلاً أَيْ كَفِيلاً. (2)
وَالتَّقْبِيل فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَكَفَّل شَخْصٌ بِتَحْصِيل الْخَرَاجِ، وَأَخْذِهِ لِنَفْسِهِ مُقَابِل قَدْرٍ مُحَدَّدٍ يَدْفَعُهُ. وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ نِظَامِ الاِلْتِزَامِ. وَقَدْ عَرَّفَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَتَقَبَّل الرَّجُل النَّخْل وَالشَّجَرَ، وَالزَّرْعَ النَّابِتَ، قَبْل أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَيُدْرَكَ (3) .
__________
(1) المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار دار صادر ببيروت 1 / 306.
(2) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث - دار الفكر ببيروت 4 / 10.
(3) أبو عبيد: الأموال ص 100

(19/80)


حُكْمُ التَّقْبِيل " التَّضْمِينِ ":
56 - لَمْ يَرْتَضِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا النِّظَامَ وَاعْتَبَرُوهُ بَاطِلاً غَيْرَ مَشْرُوعٍ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ. (1) قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّال لأَِمْوَال الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، فَبَاطِلٌ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إِلَى جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَال: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: الْقَبَالاَتُ رِبًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: الْقَبَالاَتُ حَرَامٌ (3) قَال أَحْمَدُ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّل بِالْقَرْيَةِ وَفِيهَا الْعُلُوجُ وَالنَّخْل، وَمَعْنَاهُ حُكْمُهُ حُكْمُ الرِّبَا (4) وَقَالُوا: يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الظُّلْمُ وَالْعَسْفُ، وَخَرَابُ الدِّيَارِ. وَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ يُحَذِّرُهُ مِنْ تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ مَا نَصُّهُ: وَرَأَيْتُ أَنْ لاَ تَقْبَل شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَلاَ غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبِلاَدِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّل إِذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ، عَسَفَ بِأَهْل الْخَرَاجِ وَحَمَّل عَلَيْهِمْ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 186، أبو يوسف: الخراج ص 105، أبو عبيد: الأموال ص 100، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 176.
(2) الماوردي: المرجع السابق.
(3) أبو عبيد: المرجع السابق.
(4) الفراء: المرجع السابق.

(19/81)


وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ لِيَسْلَمَ مِمَّا دَخَل فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلاَدِ وَهَلاَكُ الرَّعِيَّةِ.
وَالْمُتَقَبِّل لاَ يُبَالِي بِهَلاَكِهِمْ بِصَلاَحِ أَمْرِهِ فِي قَبَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِل بَعْدَ أَنْ يَتَقَبَّل بِهِ فَضْلاً كَثِيرًا، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ، وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الأَْعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَال أَهْل الْخَرَاجِ مِمَّا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ، لأَِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَحْمِل هَذَا الْمُتَقَبِّل عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا، وَيَدَعُوهُ فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ. (1)
وَالأَْصْل فِي كَرَاهَتِهِ هَذَا أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، وَلَمْ يُخْلَقْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَكِرَاءُ الأَْرْضِ الْبَيْضَاءِ، فَلَيْسَتَا مِنَ الْقَبَالاَتِ وَلاَ يَدْخُلاَنِ فِيهِمَا، وَقَدْ رُخِّصَ فِي هَذَيْنِ، وَلاَ نَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الْقَبَالَةِ.
فَإِذَا أَمِنَ الإِْمَامُ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَالْجَوْرِ، وَالْعَسْفِ وَرَضِيَ أَهْل الْخَرَاجِ بِهَذَا النِّظَامِ، فَقَدْ قَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ جَاءَ أَهْل طَسُّوجٍ - نَاحِيَةٍ - أَوْ مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ وَمَعَهُمْ
__________
(1) أبو يوسف: الخراج ص 105 - 106.

(19/81)


رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ مُوسِرٌ، فَقَالُوا: هَذَا أَخَفُّ عَلَيْنَا، نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ صَلاَحًا لأَِهْل هَذَا الْبَلَدِ وَالطَّسُّوجِ، قُبِل وَضُمِنَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ وَصِيرَ مَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ يُوثَقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ أَرَادَ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْخَرَاجِ، أَوِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ تَحْمِيلَهُ شَيْئًا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ، مَنَعَهُ الأَْمِيرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ.
وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى عَيْنًا بِمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رَأَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لأَِهْل الْخَرَاجِ، وَأَوْفَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَال عَمِل عَلَيْهِ مِنَ الْقَبَالَةِ، وَالْوِلاَيَةِ بَعْدَ الإِْعْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْمُتَقَبِّل، وَالْوَالِي يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَالْوَعِيدُ لَهُ إِنْ حَمَّلَهُمْ مَا لاَ طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، أَوْ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَل فَفُوا لَهُ بِمَا أَوْعَدَ بِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا وَنَاهِيًا لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (1)
(وَسَيَأْتِي التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: قَبَالَةٌ) .

مُسْقِطَاتُ الْخَرَاجِ:
أَوَّلاً: انْعِدَامُ صَلاَحِيَّةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ:
57 - الْمَقْصُودُ بِانْعِدَامِ صَلاَحِيَّةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ هُوَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ طَارِئٌ خَارِجٌ عَنْ فِعْل الإِْنْسَانِ، يَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الاِنْتِفَاعِ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 105 و 106 والأموال لأبي عبيد ص 71.

(19/82)


بِهَا كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، أَوْ غَلَبَتِهِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ.
فَإِذَا تَعَرَّضَتِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهَا الْخَرَاجُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَرَاجُ الْوَاجِبُ مُقَاسَمَةً، أَمْ وَظِيفَةً، فَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. (1)
هَذَا فِي حَالَةِ عَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ إِصْلاَحِهَا وَإِعْمَارِهَا، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِصْلاَحُهَا وَإِعْمَارُهَا فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَعْمُرَ الأَْرْضَ وَيُصْلِحَهَا مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَلاَ يَجُوزُ إِلْزَامُ أَهْلِهَا بِعِمَارَتِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
فَإِنْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجِهَا فَرَضُوا بِذَلِكَ جَازَ.
وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ عَاجِزًا عَنْ سَدِّ نَفَقَاتِ إِصْلاَحِ هَذِهِ الأَْرْضِ أُجْبِرَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَلأَِصْحَابِ الْفَيْءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الاِنْتِفَاعُ بِتِلْكَ الأَْرْضِ بَعْدَ أَنْ بَارَتْ فِي
__________
(1) (1) حاشية ابن عابدين 4 / 190، الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 284، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 274، الباجي: المنتقى 3 / 222، الماوردي: الأحكام السلطانية ص150، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 168، البهوتي: منتهى الإرادات 2 / 119، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 116.

(19/82)


غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَالرَّعْيِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُوضَعُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ جَدِيدٌ بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ.
وَهَذِهِ الأَْرْضُ تَخْتَلِفُ عَنْ أَرْضِ الْمَوَاتِ، فَإِنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ. (1)

ثَانِيًا: تَعْطِيل الأَْرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ:
58 - إِنْ كَانَ التَّعْطِيل مِنْ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِ الأَْرْضِ، كَأَنْ يَدْهَمَ الْبِلاَدَ عَدُوٌّ يَمْنَعُ أَهْل الأَْرْضِ مِنْ زِرَاعَتِهَا وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ يَلْحَقَهُمْ جَوْرٌ مِنَ الْوُلاَةِ لَمْ تُمْكِنْهُمُ الإِْقَامَةُ عَلَيْهِ. فَهَذَا يُسْقِطُ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ حَتَّى تَعُودَ الأَْرْضُ كَمَا كَانَتْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا. (2)
وَإِنْ كَانَ التَّعْطِيل مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الأَْرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.
فَإِذَا عَطَّلَهَا بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ يَتْرُكَهَا بِلاَ زِرَاعَةٍ وَاسْتِغْلاَلٍ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَقَادِرٌ عَلَى زِرَاعَتِهَا سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. (3)
وَلاَ يُقِرُّ الْمُفَرِّطُ عَلَى عَدَمِ اسْتِغْلاَلِهِ لِلأَْرْضِ
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 117.
(2) المرجعان السابقان.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 191، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 274 - 275، الباجي: المنتقى 3 / 224، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150، الفراء: الأحكام السلطانية ص 172، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 124.

(19/83)


الْخَرَاجِيَّةِ، بَل يُؤْمَرُ بِزِرَاعَتِهَا وَاسْتِغْلاَلِهَا لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ أَصْحَابُ الْفَيْءِ.
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلاَ يَسْقُطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الإِْجَارَةِ فَإِذَا عَطَّل الْمُسْتَأْجِرُ الاِنْتِفَاعَ بِالْمُؤَجَّرِ لَمْ تَسْقُطِ الأُْجْرَةُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ بِتَعْطِيل الأَْرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ، سَوَاءٌ عَطَّلَهَا مُخْتَارًا أَمْ مَعْذُورًا، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ. (1)
وَإِذَا عَطَّلَهَا بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ تَرَكَ زِرَاعَتَهَا لِعَدَمِ قُوَّتِهَا وَقُدْرَتِهِ الْجِسْمِيَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّل تَكَالِيفِ الزِّرَاعَةِ وَنَفَقَاتِهَا يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً. (2)
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ.
وَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الأَْرْضِ تَصَرُّفًا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ لأَِهْل الْفَيْءِ، وَلِصَاحِبِ الأَْرْضِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَأْمُرَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.

(19/83)


صَاحِبَ الأَْرْضِ بِتَأْجِيرِهَا لِمَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا وَإِلاَّ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا، وَلاَ تُتْرَكُ بِيَدِهِ خَرَابًا وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا، لِئَلاَّ تَصِيرَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا، فَيَتَضَرَّرَ أَهْل الْفَيْءِ بِتَعْطِيلِهَا. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الإِْمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ دَفَعَ الأَْرْضَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا مُزَارَعَةً، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِهِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الأُْجْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ زَرَعَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال فَإِذَا حَصَلَتِ الْغَلَّةُ أَخَذَ قَدْرَ الْخَرَاجِ وَمَا أَنْفَقَ، وَيَحْفَظُ الْبَاقِيَ لِمُسْتَغِل الأَْرْضِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال قَرْضًا لِيَعْمَل وَيَسْتَغِل أَرْضَهُ.
فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الإِْمَامُ مَنْ يَعْمَل فِي تِلْكَ الأَْرْضِ مُزَارَعَةً أَوْ بِالأُْجْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْعَهَا وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْ ثَمَنِهَا، وَيُحْفَظُ الْبَاقِي لِمُسْتَغِل الأَْرْضِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَإِنَّمَا يَحْجُرُهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يَرَى جَوَازَ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْعَامَّةِ. (2)
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 152، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 172، البهوتي: كشاف القناع 3 / 99، ابن القيم أحكام أهل الذمة 1 / 124.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 240 - 241، حاشية ابن عابدين 4 / 191.

(19/84)


ثَالِثًا: هَلاَكُ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ:
59 - إِذَا زَرَعَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَهُ بِزَرْعٍ مَا، فَأَصَابَتْهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، أَوْ حَرْقٍ، أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ، أَوْ جَرَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْهَلاَكُ قَبْل الْحَصَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.
أ - فَإِذَا هَلَكَ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْل الْحَصَادِ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ إِذَا أَدَّتْ تِلْكَ الآْفَةُ إِلَى هَلاَكِ جَمِيعِ الزَّرْعِ؛ لأَِنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُصَابٌ وَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ؛ وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الأَْرَاضِي، فَلاَ يُمْكِنُ إِيجَابُهَا بَعْدَ هَلاَكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ اسْتِغْلاَل الأَْرْضِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الْخَرَاجِ بِهَذَا السَّبَبِ شَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ تَبْقَى مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ زِرَاعَةِ الأَْرْضِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَزْرَعَ الأَْرْضَ ثَانِيَةً لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ لِتَحَقُّقِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ، وَقَدَّرُوا الْمُدَّةَ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَبْقَى مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الأَْرْضِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الأَْرْضِ لَمْ

(19/84)


يَسْقُطِ الْخَرَاجُ وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّارِعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ. وَإِنْ بَقِيَ أَقَل مِنْ ضِعْفِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الأَْرْضِ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ، وَيُكْتَفَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَخْذِ نِصْفِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ بَعْدَ خَصْمِ نَفَقَاتِ الزِّرَاعَةِ. (1)
هَذَا مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - إِذَا هَلَكَ الْخَارِجُ مِنَ الأَْرْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، وَحَرْقٍ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً.
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ هَلَكَ الْخَارِجُ فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ قَبْل الْحَصَادِ أَوْ بَعْدَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي. (2)
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلاَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الْخَارِجِ
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 284، السرخسي: المبسوط 10 / 83، حاشية ابن عابدين 4 / 190، داماد: مجمع الأنهر 1 / 668، الفتاوى الهندية 2 / 242، ابن عبد البر: الكافي - مكتبة الرياض الحديثة ط 2 - 1400هـ 2 / 761، روضة الطالبين 5 / 240، الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 2 / 355، ابن قدامة: المغني 5 / 486، ابن مفلح: المبدع 5 / 106.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 190.

(19/85)


بَعْدَ الْحَصَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ وَزِرَاعَتِهَا، وَبِالْحَصَادِ قَدْ تَحَقَّقَ الاِنْتِفَاعُ بِالأَْرْضِ، وَحَصَلَتِ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْل فَلاَ يَسْقُطُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ بِهَلاَكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: ذَكَرَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ هَلاَكَ الْخَارِجِ قَبْل الْحَصَادِ يُسْقِطُ الْخَرَاجَ، وَهَلاَكُهُ بَعْدَ الْحَصَادِ لاَ يُسْقِطُهُ. (1) وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الإِْمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
60 - إِذَا رَأَى الإِْمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَمَّنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ مَنْ بِيَدِهِ تِلْكَ الأَْرْضُ يَقُومُ بِعَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُونَ، كَالْقَضَاءِ، أَوِ التَّدْرِيسِ، أَوْ حِمَايَةِ الثُّغُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، أَوِ التَّجَسُّسِ عَلَى الأَْعْدَاءِ لِمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِل الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَهَل يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ لاَ؟ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ لَهُ حَقُّ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 242.

(19/85)


الْمُسْلِمِينَ، وَفِعْل مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ أَنَّ: (تَصَرُّفَ الإِْمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ) (1) وَقَالُوا: لَوْ صَارَ الْخَرَاجُ فِي يَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ شَخْصًا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى؛ وَلأَِنَّ صَاحِبَ الْخَرَاجِ لَهُ حَقٌّ فِي الْخَرَاجِ فَصَحَّ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي يَنْوِي الإِْمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَنْهُ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ الْخَرَاجَ كَالْفَقِيهِ وَالْجُنْدِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْمُؤَذِّنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (2)
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطُهُ كَالْعُشْرِ (3) . وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) ابن نجيم: الأشباه والنظائر - طبعة مؤسسة الحلبي بالقاهرة 1387 هـ - 1968 م ص 123، الزركشي: المنثور في القواعد - مطبعة الفليج بالكويت من منشورات وزارة الأوقاف الكويتية ط 1 - 1402هـ 1982 م 1 / 309.
(2) البهوتي: كشاف القناع 3 / 100، ابن مفلح: المبدع 3 / 383، حاشية ابن عابدين 4 / 193، الفتاوى الهندية 2 / 240، أبو يوسف: الخراج ص 86، عبد العزيز الرحبي: الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج - مطبعة الإرشاد ببغداد 1975م 1 / 589.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 193، الفتاوى الهندية 2 / 240.

(19/86)


خَامِسًا: الْبِنَاءُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ وَظِيفَةِ الْخَرَاجِ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا أَبْنِيَةٌ وَحَوَانِيتُ.
1 - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِمْرَارِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ عَنْ تِلْكَ الأَْرْضِ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ (1) . رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ أَنَّهُ سَأَل أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، تَرَى أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُل عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ دَارٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ عَلَى مَا وَظَّفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كُل جَرِيبٍ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَقَال مَا أَجْوَدُ هَذَا. فَقَال يَعْقُوبُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُعْطِي مِنْ دَارِكَ الْخَرَاجَ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ. فَقَال: نَعَمْ. وَقَدْ عَلَّل عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِعْل أَحْمَدَ بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَل ذَلِكَ لأَِنَّ بَغْدَادَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا عُمَرُ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا بُنِيَتْ مَسَاكِنُ، رَاعَى أَحْمَدُ حَالَهَا الأُْولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) . (2)
2 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 189، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151 أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 170 البهوتي: كشاف القناع 3 / 98، ابن مفلح: المبدع 3 / 383.
(2) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 120.

(19/86)


أَبْنِيَةً وَحَوَانِيتَ، وَلاَ يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى الأَْرْضِ إِلاَّ إِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا، أَوْ مَزْرَعَةً؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الأَْرْضِ وَغَلَّتِهَا. (1)
3 - وَيَرَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً ضَرُورِيَّةً لاَ غِنًى لَهُ عَنْهَا. كَأَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَسْكُنُهُ. وَأَمَّا الأَْبْنِيَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَلاَ تَكُونُ سَبَبًا فِي سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ كَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا أَبْنِيَةً لِلاِسْتِغْلاَل وَالنَّمَاءِ (2) .

سَادِسًا: إِسْلاَمُ مَالِكِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوِ
انْتِقَالُهَا إِلَى مُسْلِمٍ:
62 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَرَاجَ الْعَنْوِيَّ لاَ يَسْقُطُ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بِإِسْلاَمِ صَاحِبِهَا وَلاَ بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً مَوْقُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا بِمَثَابَةِ الأُْجْرَةِ فَلاَ يَسْقُطُ بِإِسْلاَمِ مَنْ بِيَدِهِ هَذِهِ الأَْرْضُ وَلاَ بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ (الْمَضْرُوبِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 240.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151.
(3) السرخسي: المبسوط 10 / 80، الباجي: المنتقى 3 / 224، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 147، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 102.

(19/87)


عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَى أَنَّ لَهُمُ الأَْرْضَ وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ) هَل يَسْقُطُ بَعْدَ إِسْلاَمِ صَاحِبِهَا، أَوِ انْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ:
1 - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ إِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الأَْرْضِ، أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، لِمَا رَوَى الْعَلاَءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، أَوْ إِلَى هَجَرَ، فَكُنْتُ آتِي الْحَائِطَ يَكُونُ بَيْنَ الإِْخْوَةِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنَ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ. (1) وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ الصُّلْحِيَّ بِمَثَابَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَإِذَا زَال الْكُفْرُ سَقَطَ الْخَرَاجُ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ. (2)
2 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ الْعَنْوِيِّ؛ وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الأَْرْضِ، وَالأَْصْل فِيهَا أَنَّهَا لاَ تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّل الْمَالِكِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَلاَ ضَرُورَةَ
__________
(1) حديث العلاء بن الحضرمي: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحرين. . . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 586 - ط الحلبي) ، وأعله البوصيري في الزوائد بجهالة راويين فيه وبانقطاع فيه.
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 278، ابن عبد البر: الكافي 1 / 482، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 147، أبو عبد الله الدمشقي: رحمة الأمة على هامش الميزان 2 / 174، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 169، ابن قدامة: المغني 2 / 725.

(19/87)


لِتَغَيُّرِ الْمُؤْنَةِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْل وُجُوبِ الْخَرَاجِ - أَيْ فِي الْجُمْلَةِ - (1)

اجْتِمَاعُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ:
63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَمْلِكُ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ " الْعُشْرِ " وَالْخَرَاجِ مَعًا إِذَا زَرَعَهَا أَوِ انْتَفَعَ بِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لاِجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} . (2) فَالآْيَةُ عَامَّةٌ فِي كُل أَرْضٍ يُنْتَفَعُ بِهَا وَتُزْرَعُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَرَاجِيَّةً، أَوْ عُشْرِيَّةً، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا (3) الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ. (4) وَلأَِنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا، وَسَبَبًا، وَمَصْرِفًا، وَدَلِيلاً: أَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا ذَاتًا فَلأَِنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْخَرَاجُ فِيهِ
__________
(1) السرخسي: المبسوط 10 / 80، الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 285، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 271، أبو يوسف: الخراج ص 63، 69، الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 928.
(2) سورة البقرة / 267.
(3) العثري: ما يشرب بعروقه من ماء المطر المجتمع في حفيرة.
(4) حديث: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 247 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.

(19/88)


مَعْنَى الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا سَبَبًا فَلأَِنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الأَْرْضِ النَّامِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّمَاءُ حَقِيقِيًّا أَمْ تَقْدِيرِيًّا بِأَنْ يُتَمَكَّنَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ.
وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا مَصْرِفًا، فَلأَِنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ: الأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ، الْمُحَدَّدُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ: الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ.
وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا دَلِيلاً، فَلأَِنَّ دَلِيل الْعُشْرِ: النَّصُّ، وَدَلِيل الْخَرَاجِ الاِجْتِهَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ.
وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلاَفُهُمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلاَ مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الآْخَرِ، كَاجْتِمَاعِ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ قَتْل الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فِي الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَلاَ يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ سِوَى الْخَرَاجِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ
__________
(1) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 287، عليش: منح الجليل 1 / 336، النووي: المجموع شرح المهذب - دار العلوم للطباعة بالقاهرة 1972 م 5 / 454، البكري: إعانة الطالبين - مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 2 / 162، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 169، ابن قدامة: المغني 2 / 26، ابن رجب: الاستخراج ص 112، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 102.

(19/88)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ. (1)
وَبِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَال كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةَ نَهْرِ الْمَلِكِ - كُورَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الأَْرْضِ الَّتِي بُنِيَتْ بِهَا بَغْدَادُ - أَسْلَمَتْ فَكَتَبَ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ (2) .
فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأََمَرَ بِهِ.
وَلأَِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْل، وَوُلاَةِ الْجَوْرِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا؛ وَلأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ، فَلاَ يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لاَ يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ. (3)

مَصَارِفُ الْخَرَاجِ:
64 - لَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ فِي
__________
(1) حديث: " لا يجتمع على مسلم خراج وعشر. . . . " أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6 / 2710 - ط دار الفكر) وعنه البيهقي (4 / 132 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وأنكر البيهقي وصله ورفعه.
(2) رواه أبو عبيد في الأموال ص 124.
(3) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 286، حاشية ابن عابدين 4 / 192، الكاساني: البدائع 2 / 932، الغنيمي الميداني: اللباب في شرح الكتاب دار الكتاب العربي ببيروت ط 4 / 1399 هـ 1 / 152، ابن نجيم: البحر الرائق 5 / 118، الجصاص: أحكام القرآن 3 / 14.

(19/89)


الصَّرْفِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
فَالْفَيْءُ يَتَوَقَّفُ صَرْفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ فِي تَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَتَقْدِيمِ الأَْهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَالزَّكَاةُ تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا آيَةُ الصَّدَقَاتِ. وَالْغَنِيمَةُ تُخَمَّسُ، وَتُقْسَمُ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا حَدَّدَتْ آيَةُ الْغَنَائِمِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: يُصْرَفُ خَرَاجُهَا - أَيْ خَرَاجُ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً - فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُل الْخَيْرِ (1) .
(وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ كَفَيْءٍ لأَِنَّهُ مِنْهُ) . (2)
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلاَحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلاَةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْل الْفَتْوَى مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْفُ الطُّرُقِ وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلاَحُ الأَْنْهَارِ الَّتِي لاَ مِلْكَ لأَِحَدٍ فِيهَا. (3)
(وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الأَْرْضِ يَصْرِفُهُ الإِْمَامُ فِي مَصَالِحِ
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد 1 / 401.
(2) البهوتي: كشاف القناع 3 / 100.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 959.

(19/89)


الْمُسْلِمِينَ الأَْهَمِّ فَالأَْهَمِّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالأَْغْنِيَاءِ مِنْ أَهْل الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ) . (1)
هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ الْمَصْرُوفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: بَيْتُ الْمَال، وَفَيْءٌ) .

حُكْمُ تَخْمِيسِ الْخَرَاجِ:
65 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ، بَل يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الإِْمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلِينَ، وَالْوُلاَةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُمَّال، وَالأَْئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَكُل مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُصْرَفُ عَلَى بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَشَقِّ الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَبْدَأُ الإِْمَامُ بِالأَْهَمِّ فَالْمُهِمِّ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ شَيْءٌ قَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
__________
(1) النووي: روضة الطالبين 10 / 276.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 9 / 4341، حاشية الدسوقي 2 / 190، حاشية الخرشي على مختصر خليل 3 / 129، الأبي: جواهر الإكليل 1 / 260، الفراء: الأحكام السلطانية ص 139، ابن قدامة: المغني 6 / 404، المرداوي: الإنصاف 4 / 199، البهوتي: كشاف القناع 3 / 100.

(19/90)


وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (1)
قَال الْمُفَسِّرُونَ: طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَمِّسَ أَمْوَال بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا عَنْهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ تَحْصُل لَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً يَفْعَل مِنْهُ مَا يَشَاءُ. (2) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ثُمَّ يَجْعَل مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ (3) وَالسِّلاَحِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ (4) . هَذَا مَا كَانَ يُفْعَل بِالْفَيْءِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ خَاصَّةً، يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدِّمُ الأَْهَمَّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الإِْمَامَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلاَنِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.
__________
(1) سورة الحشر / 6.
(2) ابن الجوزي: زاد المسير 8 / 209.
(3) الكراع: الدواب التي تصلح للحرب.
(4) الأثر عن عمر: " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عز وجل. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 93 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1376 - 1377 - ط الحلبي) .

(19/90)


وَلِذَا لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفَيْءِ لِنَفْسِهِ لأَِنَّ الإِْمَامَ يُنْصَرُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ لاَ بِسَبَبِهِ خَاصَّةً فَكَانَتْ أَمْوَال الْفَيْءِ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} . (1)
فَذِكْرُ الأَْصْنَافِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مِنْ بَابِ التَّعْدِيدِ لِلأَْصْنَافِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَال وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلاَءِ (2) .
(انْظُرْ: خُمُسٌ، وَفَيْءٌ) .
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 126، النووي: روضة الطالبين 6 / 354، الشيرازي: المهذب مع المجموع 18 / 182.

(19/91)


خَرَسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَرَسُ مَصْدَرُ خَرِسَ، يُقَال: خَرِسَ الإِْنْسَانُ خَرَسًا، إِذَا مُنِعَ الْكَلاَمَ خِلْقَةً، أَيْ خُلِقَ وَلاَ نُطْقَ لَهُ. أَوْ ذَهَبَ كَلاَمُهُ عِيًّا.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اعْتِقَال اللِّسَانِ:
2 - الاِعْتِقَال: الْحَبْسُ، وَاعْتُقِل لِسَانُهُ: إِذَا حُبِسَ وَمُنِعَ الْكَلاَمَ (2) . وَالْمُعْتَقَل اللِّسَانِ وَسَطٌ بَيْنَ الأَْخْرَسِ وَالنَّاطِقِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْخْرَسِ:
إِسْلاَمُ الأَْخْرَسِ:
3 - يَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِالإِْذْعَانِ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ، فَإِنْ كَانَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة " خرس " وابن عابدين 2 / 590، جواهر الإكليل 2 / 259 والجمل 4 / 433.
(2) لسان العرب مادة: (عقل) .

(19/91)


عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ لِخَرَسٍ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِي إِسْلاَمِهِ بِالإِْشَارَةِ مَعَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ عَلَى أَنَّهُ أَذْعَنَ بِقَلْبِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال: وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ إِسْلاَمِ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ، وَلَمْ أَرَ الآْنَ فِيهَا نَقْلاً صَرِيحًا.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ صَلاَةِ الأَْخْرَسِ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ بِالإِْشَارَةِ.
جَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: يَصِحُّ إِسْلاَمُ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَقِيل: لاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ إِلاَّ إِذَا صَلَّى بَعْدَ الإِْشَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الأُْمِّ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الأَْوَّل، وَحَمْل النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الإِْشَارَةُ مُفْهِمَةً. (1)

تَكْبِيرُ الأَْخْرَسِ وَقِرَاءَتُهُ فِي الصَّلاَةِ:
4 - تَشْتَمِل الصَّلاَةُ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَمِنَ الأَْقْوَال مَا هُوَ فَرْضٌ، كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ سُنَّةٌ كَالتَّكْبِيرَاتِ الأُْخْرَى. فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ لِخَرَسٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الأَْقْوَال، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم / 343، والدسوقي 1 / 131 وروضة الطالبين 8 / 282، وأشباه السيوطي 338.

(19/92)


فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - عَدَا الْقَاضِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لاَ يَجِبُ عَلَى الأَْخْرَسِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ لِلصَّلاَةِ بِقَلْبِهِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ عَبَثٌ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى الأَْخْرَسِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، وَشَفَتَيْهِ، وَلَهَاتِهِ بِالتَّكْبِيرِ قَدْرَ إِمْكَانِهِ، قَال فِي الْمَجْمُوعِ: وَهَكَذَا حُكْمُ تَشَهُّدِهِ، وَسَلاَمِهِ، وَسَائِرِ أَذْكَارِهِ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ كَالْمَرِيضِ.
لَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَرَسِ الطَّارِئِ، أَمَّا الْخَرَسُ الْخِلْقِيُّ فَلاَ يَجِبُ مَعَهُ تَحْرِيكُ شَيْءٍ (1) . وَنَحْوُ ذَلِكَ قَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِنَّ تَحْرِيكَ لِسَانِ الأَْخْرَسِ فِي تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ وَالتَّلْبِيَةِ لاَزِمٌ عَلَى الْقَوْل بِهِ، أَوْ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَأَمَّا بِالْقِرَاءَةِ فَلاَ عَلَى الْمُخْتَارِ. .

الاِقْتِدَاءُ بِالأَْخْرَسِ:
5 - لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاطِقِ بِالأَْخْرَسِ وَلَوْ كَانَ النَّاطِقُ أُمِّيًّا؛ لأَِنَّ الأَْخْرَسَ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الأُْمِّيِّ لِقُدْرَةِ الأُْمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، وَعَجْزِ الأَْخْرَسِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 324، ومراقي الفلاح ص 119 وأشباه ابن نجيم / 121، وحاشية الدسوقي 1 / 333 والحطاب 1 / 519 ونهاية المحتاج 1 / 443، ومغني المحتاج 1 / 152، وحاشية الجمل 1 / 337، وكشاف القناع 1 / 331، والمغني 1 / 463.

(19/92)


عَنِ الإِْتْيَانِ بِالتَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الأَْخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأَْخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْعَجْزِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأَْخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُحْسِنَ أَحَدُهُمَا مَا لاَ يُحْسِنُهُ الآْخَرُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لأَِحَدِهِمَا قُوَّةٌ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا أَحْسَن مَا لاَ يُحْسِنُهُ الآْخَرُ. (1)

إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الصَّلاَةِ:
6 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْكَلاَمَ فِي الصَّلاَةِ يُبْطِلُهَا، فَهَل تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الصَّلاَةِ مِثْل كَلاَمِ النَّاطِقِ؟
فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا لاَ تَبْطُل بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ؛ لأَِنَّ الإِْشَارَةَ فِي الصَّلاَةِ جَائِزَةٌ مِنَ النَّاطِقِ.
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الإِْشَارَةَ فِعْلاً لاَ قَوْلاً، فَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَثُرَتْ عُرْفًا وَتَوَالَتْ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 399 ومراقي الفلاح ص 157 والشرح الصغير 1 / 156 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 2 / 165 والشرواني على التحفة 2 / 285 وكشاف القناع 1 / 476، والمغني 2 / 194.

(19/93)


الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ، لأَِنَّ إِشَارَتَهُ كَالْكَلاَمِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ قَصَدَ الْكَلاَمَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ لَمْ تَبْطُل (1) .
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل عِنْدَهُمْ بِالإِْشَارَةِ.
كَمَا قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ بَأْسَ بِتَكْلِيمِ الْمُصَلِّي وَإِجَابَتِهِ بِرَأْسِهِ، كَمَا لَوْ طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ أُرِيَ دِرْهَمًا، وَقِيل: أَجَيِّدٌ؟ فَأَوْمَأَ بِنَعَمْ أَوْ لاَ، أَوْ قِيل كَمْ صَلَّيْتُمْ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ (2) .

ذَبْحُ الأَْخْرَسِ وَصَيْدُهُ:
7 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً. وَلَكِنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى حِل ذَبِيحَةِ الأَْخْرَسِ وَصَيْدِهِ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى النُّطْقِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُذَكِّي أَخْرَسَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ أَشَارَ إِشَارَةً تَدُل عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّسْمِيَةَ، كَانَ فِعْلُهُ كَافِيًا لِقِيَامِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ نُطْقِهِ.
وَقَالُوا فِي الصَّيْدِ: لاَ تُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ عِنْدَ إِرْسَال السَّهْمِ وَالْجَارِحَةِ لِتَعَذُّرِهَا
__________
(1) الحطاب 2 / 32 وروضة الطالبين 1 / 292، وكشاف القناع 1 / 378.
(2) ابن عابدين 1 / 433 وفتح القدير 1 / 358.

(19/93)


مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِشَارَتِهِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الذَّكَاةِ لِقِيَامِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ نُطْقِهِ. وَمَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ هُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ: الأَْخْرَسُ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ الْحِل أَيْضًا، وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ، وَالرَّأْيُ الثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْمَجْنُونِ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ (1) .

تَصَرُّفَاتُ الأَْخْرَسِ:
8 - إِذَا كَانَ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ مَفْهُومَةٌ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْعَقْدِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمَانِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْحُلُول كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ.
فَالإِْشَارَةُ تُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي حَقِّ الأَْخْرَسِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الأَْخْرَسُ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مُقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَكَذَلِكَ تَقُومُ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ - أَيِ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَعَارَفَهُ النَّاسُ -
__________
(1) ابن عابدين 5 / 189، 191، والدسوقي 2 / 106، والمجموع 9 / 77، 86، وكشاف القناع 6 / 209، 227 وشرح منتهى الإرادات 3 / 407.

(19/94)


مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ زِيَادَةُ بَيَانٍ (1) .
وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ تَقْيِيدَاتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٌ) .

طَلاَقُ الأَْخْرَسِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الأَْخْرَسِ بِإِشَارَتِهِ الْمُفْهِمَةِ يَقَعُ، وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ بِالطَّلاَقِ إِنْ فَهِمَ طَلاَقَهُ بِهَا كُل أَحَدٍ، فَصَرِيحَةٌ، وَإِنِ اخْتَصَّ بِفَهْمِ الطَّلاَقِ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ كِنَايَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ. (2)

لِعَانُ الأَْخْرَسِ:
10 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الأَْخْرَسِ أَوْ كِتَابَتِهِ فِي اللِّعَانِ، وَقِيَامُهَا مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ.
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِنْ كَانَ
__________
(1) (1) الهداية / 269 - 270 وأشباه ابن نجيم / 343 وابن عابدين 2 / 425، والدسوقي 2 / 313، 327، 384، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 79 - 80، وأشباه السيوطي / 338 والمنثور 1 / 164 ونهاية المحتاج 6 / 426 والروضة 8 / 39، وكشاف القناع 5 / 392 ومنتهى الإرادات 2 / 246 و3 / 130، 570 والمغني 3 / 566، 600 و7 / 238 والبهجة شرح التحفة 2 / 84.
(2) فتح القدير 8 / 511 وابن عابدين 2 / 425 وجواهر الإكليل 1 / 348، ومغني المحتاج 3 / 284 وشرح المنتهى 3 / 130.

(19/94)


لِلأَْخْرَسِ (زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً) إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ صَحَّ لِعَانُهُ بِالإِْشَارَةِ، كَمَا يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ، وَيُكَرِّرُ الإِْشَارَةَ أَوِ الْكِتَابَةَ كَالنَّاطِقِ الَّذِي يُكَرِّرُ اللَّفْظَ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِ الأَْخْرَسِ أَوِ الْخَرْسَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِ النَّاطِقِ مِنْ أَحْكَامٍ، كَسُقُوطِ الْحَدِّ، وَنَفْيِ النَّسَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ لاَعَنَ الأَْخْرَسُ بِالإِْشَارَةِ، أَوِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ انْطَلَقَ لِسَانُهُ فَتَكَلَّمَ فَأَنْكَرَ اللِّعَانَ، أَوْ قَال: لَمْ أُرِدْهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ فَيُطَالَبُ بِالْحَدِّ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ، فَلاَ تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلاَعِنَ فِي الْحَال لإِِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُقْبَل إِنْكَارُهُ مُطْلَقًا. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنَ الأَْخْرَسِ أَوِ الْخَرْسَاءِ، لاَ بِالإِْشَارَةِ وَلاَ بِالْكِتَابَةِ؛ لأَِنَّ اللِّعَانَ لَفْظٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الأَْخْرَسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا أَخْرَسَيْنِ أَمْ أَحَدُهُمَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَلاَعَنَ الزَّوْجَانِ وَهُمَا نَاطِقَانِ، ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ اللِّعَانِ قَبْل التَّفْرِيقِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 464 والخرشي 4 / 130 والفواكه الدواني 2 / 85، وروضة الطالبين 8 / 352 - 353 ونهاية المحتاج 7 / 110 وكشاف القناع 5 / 392، والمغني 7 / 396.

(19/95)


بِخَرَسِهِمَا، أَوْ خَرَسِ أَحَدِهِمَا بَطَل اللِّعَانُ، وَلاَ تَفْرِيقَ، وَلاَ حَدَّ لِدَرْئِهِ بِالشُّبْهَةِ (1) .

إِقْرَارُ الأَْخْرَسِ:
11 - تُعْتَبَرُ الإِْشَارَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ إِذَا كَانَتْ مَفْهُومَةً قَائِمَةً مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي إِقْرَارِهِ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ فِي كُل مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِمَا فِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الأَْخْرَسِ (2) .
وَاخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِ الأَْخْرَسِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الأَْخْرَسَ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُهُ كَالنَّاطِقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ احْتِمَالٌ لِكَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي - إِلَى أَنَّ الأَْخْرَسَ لاَ تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ أَوْ كِتَابَتُهُ فِي إِقْرَارِهِ بِمَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 590 والبدائع 3 / 242 والاختيار 3 / 170 والمغني 7 / 396.
(2) الأشباه لابن نجيم / 343 وابن عابدين 5 / 470 - 471 والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 40، 80 وجواهر الإكليل 2 / 132 وأشباه السيوطي / 338، والمنثور 1 / 164 وشرح منتهى الإرادات 3 / 207 - 208 وكشاف القناع 5 / 392 والمغني 8 / 195 - 196.

(19/95)


يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِكَوْنِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى. (1)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 54 - 58، وَحَدٌّ، وَقِصَاصٌ) .

شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الأَْخْرَسِ لاَ تُقْبَل؛ لأَِنَّ مُرَاعَاةَ لَفْظِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا، وَلاَ عِبَارَةَ لِلأَْخْرَسِ أَصْلاً، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ وَلَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ، وَلِذَلِكَ لاَ يُكْتَفَى بِإِشَارَةِ النَّاطِقِ.
لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَدَّى الأَْخْرَسُ الشَّهَادَةَ بِخَطِّهِ فَإِنَّهَا تُقْبَل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ وَيُؤَدِّيهَا بِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، فَإِذَا قَطَعَ الْحَاكِمُ بِفَهْمِ مَقْصُودِهِ مِنْ إِشَارَتِهِ حُكِمَ بِهَا؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ يُؤَدِّيهِ الشَّاهِدُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا فُهِمَ عَنْهُ بِطَرِيقٍ يُفْهَمُ
__________
(1) الهداية 4 / 270، ابن عابدين 3 / 144، 192 و5 / 353 والبدائع 7 / 51، والقوانين الفقهية / 161 والزرقاني 8 / 87، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 80، ونهاية المحتاج 7 / 110، 410 ومغني المحتاج 4 / 150 وروضة الطالبين 10 / 94، والمغني 8 / 195 - 196 وشرح منتهى الإرادات 3 / 207 - 208.

(19/96)


عَنْ مِثْلِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ، كَالنُّطْقِ إِذَا أَدَّاهَا بِالصَّوْتِ (1) .

قَضَاءُ الأَْخْرَسِ وَفُتْيَاهُ:
13 - النُّطْقُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّ الأَْخْرَسَ لاَ يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِالْحُكْمِ، وَلاَ يَفْهَمُ جَمِيعُ النَّاسِ إِشَارَتَهُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ عَدَا وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ النُّطْقِ شَرْطٌ فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الأَْخْرَسِ الْقَضَاءَ وَلاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ. وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ صِفَةَ النُّطْقِ وَاجِبًا غَيْرَ شَرْطٍ فِي الاِبْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، وَلِذَا يَجِبُ عَزْلُهُ. لَكِنْ إِنْ وَقَعَ وَحُكِمَ نَفَذَ حُكْمُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ أَنَّ فِي وِلاَيَةِ الأَْخْرَسِ عَلَى الْقَضَاءِ قَوْلاً آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ بِصِحَّتِهَا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ (2) .
__________
(1) البدائع 6 / 286 وابن عابدين 4 / 302 والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 79 والكافي 2 / 899 وروضة الطالبين 8 / 39 و11 / 245 وأشباه السيوطي / 338 والمهذب 2 / 325 وكشاف القناع 6 / 417 والمغني 9 / 190.
(2) ابن عابدين 4 / 302 والبدائع 7 / 3 وحاشية الدسوقي 4 / 130 والفواكه الدواني 2 / 297 ونهاية المحتاج 8 / 226 وحاشية الجمل 5 / 337 والروضة 11 / 7، والمهذب 2 / 291 وكشاف القناع 6 / 295 وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 74.

(19/96)


أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلإِْفْتَاءِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ فَتْوَى الأَْخْرَسِ وَذَلِكَ حَيْثُ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ. (1)

يَمِينُ الأَْخْرَسِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الأَْخْرَسِ فِي الْيَمِينِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الأَْيْمَانِ مِنَ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ وَيُفْهَمُ عَنْهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُسْتَحْلَفُ الأَْخْرَسُ فَيَقُول لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لِهَذَا عَلَيْكَ هَذَا الْحَقُّ؟ وَيُشِيرُ الأَْخْرَسُ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ. (2)
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالإِْشَارَةِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا.
فَالْقَوْل بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالإِْشَارَةِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، قَال: تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الدَّعَاوَى وَلاَ يَنْعَقِدُ بِهَا الأَْيْمَانُ إِلاَّ اللِّعَانُ.
وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِذَلِكَ فَقَال: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ كَنُطْقِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِل، وَمِنْهَا: حَلَفَ بِالإِْشَارَةِ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ.
وَأَمَّا الْقَوْل بِانْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ فَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَقِبَ كَلاَمِهِ بِعَدَمِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 302 وكشاف القناع 6 / 300.
(2) الأشباه لابن نجيم / 343 والاختيار 2 / 114 والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 80.

(19/97)


الاِنْعِقَادِ فَقَال: وَفِي الْبَيَانِ فِي كِتَابِ الأَْقْضِيَةِ قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الأُْمِّ: إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَهُوَ أَخْرَسُ لاَ تُفْهَمُ إِشَارَتُهُ وَقَفَ الْيَمِينُ إِلَى أَنْ تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ، وَإِنْ سَأَل الْمُدَّعِي أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَمْ تُرَدَّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ نُكُولُهُ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَل قَال: وَقَعَ لِلزَّرْكَشِيِّ فِي الْقَوَاعِدِ عَدَمُ انْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ خِلاَفُهُ أَخْذًا مِمَّا صَرَّحُوا بِهِ فِي انْعِقَادِ لِعَانِهِ بِالإِْشَارَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِشَارَتَهُ مِثْل الْعِبَارَةِ إِلاَّ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ فَلاَ تَبْطُل بِالإِْشَارَةِ، وَالْحِنْثُ، وَالشَّهَادَةُ.
قَال الْجَمَل: ثُمَّ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا الرَّمْلِيَّ اعْتَمَدَ انْعِقَادَ يَمِينِهِ بِالإِْشَارَةِ. (1)
وَاخْتَلَفَتْ أَيْضًا أَقْوَال فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ. فَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى الْحَلِفُ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ.
فَدَل عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ ثُمَّ قَال: لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْفُرُوعِ فِي بَابِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ مِنْهُ كَالنِّيَّةِ.
وَصَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بِانْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ فَقَال: إِنْ تَوَجَّهَتْ يَمِينٌ عَلَى وَرَثَةٍ وَفِيهِمْ أَخْرَسُ مَفْهُومُ الإِْشَارَةِ حَلَفَ وَأُعْطِيَ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ وَقَفَ حَقُّهُ. (2)
__________
(1) الأشباه للسيوطي / 338 ومغني المحتاج 4 / 346 والمهذب 2 / 138، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 164 - 165 وحاشية الجمل 5 / 286.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 357 والمغني لابن قدامة 9 / 219.

(19/97)


الْخَرَسُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ:
15 - اللِّسَانُ آلَةُ الْكَلاَمِ، وَالاِعْتِدَاءُ عَلَى الإِْنْسَانِ بِمَا يُفْقِدُهُ النُّطْقَ وَيَجْعَلُهُ أَخْرَسَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَطْعِ اللِّسَانِ، أَوْ بِضَرْبٍ يُؤَدِّي إِلَى ذَهَابِ الْكَلاَمِ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ.
وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفِي مُوجِبِ ذَلِكَ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَدِيَةٌ) .

الْجِنَايَةُ عَلَى لِسَانِ الأَْخْرَسِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ فِي لِسَانِ الأَْخْرَسِ حُكُومَةَ عَدْلٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لِعَدَمِ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ تَشْرِيفًا لِلآْدَمِيِّ؛ لأَِنَّ اللِّسَانَ جُزْءٌ مِنْهُ. وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَذْهَبَ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الدِّيَةُ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّ فِيهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 356 والبدائع 7 / 307، 308، 311، 317 والاختيار 5 / 31 والدسوقي 4 / 252، 253، 271، والزرقاني 8 / 40 والشرح الصغير 2 / 389 والمدونة 6 / 310 وجواهر الإكليل 2 / 259 والمهذب 2 / 181 ومغني المحتاج 4 / 35، والجمل 5 / 34 والمغني 7 / 716، 717، 723، و8 / 15، 16 وكشاف القناع 5 / 552، 556 - 557.

(19/98)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إِذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إِذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا. (1)
وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ كَانَتْ عَمْدًا مِنْ نَاطِقٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ أَخْرَسَ عَلَى أَخْرَسَ عَمْدًا، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا أُمِنَتِ السِّرَايَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمُمَاثَلَةِ وَالتَّكَافُؤِ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ أَصْلاً فِي اللِّسَانِ (2) .
__________
(1) حديث عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في العين. . . . " أخرجه النسائي (8 / 55 - ط المكتبة التجارية) . وإسناده حسن.
(2) البدائع 7 / 323 والدسوقي 4 / 252، 277 والزرقاني 8 / 40 والجمل 5 / 67، ونهاية المحتاج 7 / 311 ومغني المحتاج 4 / 33 والمغني 8 / 41 و733.

(19/98)


خَرْصٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَرْصُ لُغَةً: الْقَوْل بِالظَّنِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ (1) : وَمِنْهُ قَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُتِل الْخَرَّاصُونَ} (2) ، وَيُطْلَقُ عَلَى حَزْرِ مَا عَلَى النَّخْل وَالْكَرْمِ مِنَ الثِّمَارِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْخَرْصِ فِي النَّخْل وَالْكَرْمِ خَاصَّةً. (3)
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنْ ذَلِكَ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - التَّخْمِينُ، وَالْحَدْسُ، وَالتَّحَرِّي مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَهِيَ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِالظَّنِّ وَالتَّقْدِيرِ، فَهِيَ كَالْخَرْصِ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ.
__________
(1) المعجم الوسيط ومصباح المنير: مادة " خرص " ومغني المحتاج 1 / 387.
(2) سورة الذاريات / 10.
(3) حديث: " أمر بالخرص في النخل والكرم خاصة " ذكره صاحب المعجم الوسيط (1 / 226) ولم يهتد إلى من أخرجه بهذا اللفظ ويدل عليه ما رواه أبو داود (2 / 257 ط عزت عبيد دعاس) من حديث عتاب بن أسيد، بلفظ " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل ". وسيأتي تخريجه (ف / 3) .

(19/99)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

أَوَّلاً: الْخَرْصُ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ خَرْصُ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْل وَالْكَرْمِ خَاصَّةً بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، لِتَحْدِيدِ قَدْرِهَا وَقَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا.
فَيَبْعَثُ سَاعِيهُ لِيَخْرُصَ الثِّمَارَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْل وَالْكَرْمِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، لِيُعْلَمَ بِالْخَرْصِ وَالتَّقْدِيرِ نِصَابُ الزَّكَاةِ، وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ إِخْرَاجُهُ. (1)
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ: أَنْ يَحْتَاجَ أَصْحَابُ الثِّمَارِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَيُنْتَظَرَ جَفَافُ مَا يَجِفُّ مِنَ الثِّمَارِ وَتُخْرَجُ زَكَاتُهُ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَمَا لاَ يَجِفُّ يُنْتَظَرُ جَذُّهُ ثُمَّ يُكَال الْبَلَحُ، وَيُوزَنُ الْعِنَبُ، ثُمَّ يُقَدَّرُ جَفَافُهُمَا إِذَا شَكَّ فِي بُلُوغِهِمَا النِّصَابَ (2) .
وَاسْتَدَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ: بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْل، وَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْل تَمْرًا. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 386 - 387، المغني 2 / 706، حاشية الدسوقي 2 / 453.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 453.
(3) حديث: " أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل ". أخرجه أبو داود (2 / 257 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 27 - ط الحلبي) ، من حديث عتاب بن أسيد، وفي إسناده انقطاع بين عتاب بن أسيد والراوي عنه وهو سعيد بن المسيب، كذا في مختصر أبي داود للمنذري (2 / 211 - نشر دار المعرفة) .

(19/99)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْخَرْصِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ (1) .
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: أَثْبَتَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ الْخَرْصَ وَالْعَمَل بِهِ، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَال: الْخَرْصُ بِدْعَةٌ، وَأَنْكَرَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ - يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ - الْخَرْصَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلأَْكَرَةِ لِئَلاَّ يَخُونُوا، فَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ فَلاَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ وَفِيهِ غَرَرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ جَوَازُهُ قَبْل تَحْرِيمِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ (2) .

وَقْتُ الْخَرْصِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخَرْصِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ حِينَ يَطِيبُ الثَّمَرُ وَيَبْدُو صَلاَحُهُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْل حِينَ يَطِيبُ قَبْل أَنْ يُؤْكَل مِنْهُ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 386.
(2) معالم السنن 2 / 44 وانظر المغني 2 / 706، والأموال لأبي عبيد ط - دار الفكر.
(3) حديث: " كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر ". أخرجه أبو داود (2 / 260 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن حجر في التلخيص (2 / 171 - ط شركة الطباعة الفنية) بجهالة فيه، ولكن ذكر له شواهد يتقوى بها.

(19/100)


وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَرْصِ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَإِطْلاَقُ تَصَرُّفِ أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.

مَا شُرِعَ فِيهِ الْخَرْصُ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَرْصَ لاَ يَكُونُ فِي غَيْرِ النَّخْل وَالْكَرْمِ، لِوُرُودِ الأَْثَرِ فِيهِمَا، فَلاَ يُخْرَصُ الْحَبُّ فِي سُنْبُلِهِ، وَلاَ الزَّيْتُونُ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا أَثَرٌ، وَلَيْسَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ حَتَّى يُقَاسَا عَلَيْهِ، وَالْحَبُّ مَسْتُورٌ فِي سُنْبُلِهِ، وَحَبُّ الزَّيْتُونِ مُتَفَرِّقٌ فِي شَجَرِهِ لاَ يَجْمَعُهُ عُنْقُودٌ فَيَصْعُبَ خَرْصُهُ، وَلاَ حَاجَةَ بِأَهْلِهِ إِلَى أَكْلِهِ غَالِبًا، بِخِلاَفِ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ، فَإِنَّهُمَا يُؤْكَلاَنِ رُطَبًا، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ لِيُخَلَّى بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَكْل الثَّمَرَةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مِنْهَا عَلَى مَا خُرِصَ.
وَلأَِنَّ ثَمَرَةَ الْكَرْمِ، وَالنَّخْل ظَاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَخَرْصُهَا أَسْهَل، مِنْ خَرْصِ غَيْرِهَا (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ: بِجَوَازِ خَرْصِ غَيْرِ التَّمْرِ، وَالْعِنَبِ إِذَا احْتَاجَ أَهْلُهُ، أَوْ كَانُوا غَيْرَ أُمَنَاءَ. (2)
وَقَال الزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ وَنَحْوُهُ، لأَِنَّهُ ثَمَرٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَيُخْرَصُ كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 710، ومغني المحتاج 1 / 387.
(2) مواهب الجليل 1 / 387.

(19/100)


حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الثِّمَارِ قَبْل الْخَرْصِ، وَبَعْدَهُ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ بِالأَْكْل أَوِ الْبَيْعِ، أَوِ الْهِبَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الثِّمَارِ قَبْل الْخَرْصِ، أَوِ التَّضْمِينِ وَالْقَبُول لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهَا، وَلَكِنْ إِنْ تَصَرَّفَ فِي الْكُل، أَوِ الْبَعْضِ شَائِعًا صَحَّ فِيمَا عَدَا نَصِيبَ الْمُسْتَحِقِّينَ.
أَمَّا بَعْدَ الْخَرْصِ وَالتَّضْمِينِ، وَقَبُول الْمَالِكِ التَّضْمِينَ فَلاَ تَحْرِيمَ، لاِنْتِقَال الْحَقِّ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثِّمَارِ قَبْل الْخَرْصِ وَبَعْدَهُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ بَاعَ، أَوْ وَهَبَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، فَالزَّكَاةُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُبْتَاعِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ قَبْل الْبَيْعِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ نَحْوُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ. (2)

شُرُوطُ الْخَارِصِ:
7 - يَكْفِي فِي الْخَرْصِ خَارِصٌ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخَرْصِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ. (3)
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 374، روضة الطالبين 2 / 353
(2) المغني لابن قدامة 2 / 704، حاشية الدوسوقي 1 / 435
(3) المغني لابن قدامة 2 / 707، مغني المحتاج 1 / 387، حاشية الدسوقي 1 / 454

(19/101)


خَارِصًا أَوَّل مَا تَطِيبُ الثِّمَارُ (1) وَلأَِنَّهُ كَالْحَاكِمِ، وَيَعْمَل بِاجْتِهَادِهِ (2) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: بِاشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْخَارِصِ، لأَِنَّ الْخَرْصَ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ، وَكِلاَهُمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ (3) .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِصُ أَمِينًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ، عَدْلاً، عَارِفًا بِالْخَرْصِ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْخَرْصَ وِلاَيَةٌ، وَلَيْسَ الرَّقِيقُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا (4) .

صِفَةُ الْخَرْصِ:
8 - تَخْتَلِفُ صِفَةُ الْخَرْصِ بِاخْتِلاَفِ الثَّمَرِ، فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الْخَارِصَ يُشَاهِدُ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الأَْشْجَارِ وَيَنْظُرُ، كَمْ فِي الْجَمِيعِ رُطَبًا أَوْ عِنَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ مَا يَجِيءُ مِنْهَا تَمْرًا وَزَبِيبًا، وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا خَرَصَ كُل نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لأَِنَّ الأَْنْوَاعَ تَخْتَلِفُ؛ وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ كُل نَوْعٍ حَتَّى يُخْرِجَ عُشْرَهُ (5) .
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحه. . . ". سبق تخريجه ف / 4
(2) مغني المحتاج 1 / 387
(3) المصادر السابقة.
(4) مغني المحتاج 1 / 387
(5) المغني لابن قدامة 2 / 707، مغني المحتاج 1 / 387، حاشية الدسوقي 1 / 453

(19/101)


هَل يَتْرُكُ الْخَارِصُ شَيْئًا لِلْمَالِكِ عِنْدَ الْخَرْصِ؟
9 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْخَرْصِ الثُّلُثَ، أَوِ الرُّبْعَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ، تَوْسِعَةً عَلَى أَرْبَابِ الأَْمْوَال، لأَِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الأَْكْل، هُمْ، وَضُيُوفُهُمْ، وَيُطْعِمُونَ جِيرَانَهُمْ، وَنَحْوَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ يُتْرَكُ لِلْمَالِكِ ثَمَرُ نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلاَتٍ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُخَفَّفُ عَنْ أَهْل الشَّجَرِ فِي الْخَرْصِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: إِذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ (2) وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّخْفِيفِ لِلْوَاطِئَةِ (3) وَالسَّاقِطَةِ (4) وَاللاَّقِطَةِ (5) وَمَا يَنَال
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 707، مغني المحتاج 1 / 387
(2) حديث: " إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 259 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سهل بن أبي حثمة، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) عن ابن القطان أنه جهَّل الراوي عن سهل.
(3) الواطئة: المارة والسابلة سموا بذلك لوطئهم الطريق. النهاية لابن الأثير 5 / 200، وقيل: الواطئة: سقاطة التمر تقع فتوطأ بالأقدام) .
(4) الساقطة: كل ما يسقط من صاحبه ضياعا (المصباح) .
(5) اللاقطة، واللقاطة: ماكان ساقطا لا قيمة له من الشيء التافه، وما التقطت من مال ضائع (المصباح، ومتن اللغة) .

(19/102)


الْعِيَال. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ تَرْكِ شَيْءٍ فِي الْخَرْصِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ، أَوْ نِصْفِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْمَعُ الْخَارِصُ الْحَائِطَ (الْبُسْتَانَ) فِي الْحَزْرِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَرْبَاعًا أَوْ أَثْلاَثًا، وَكَذَا لاَ يُجْمَعُ مَا زَادَ عَلَى شَجَرَةٍ كَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلاَثِ وَلَوْ عَلِمَ مَا بِهَا جُمْلَةً، هَذَا إِذَا اخْتَلَفَتْ فِي الْجَفَافِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. فَإِنِ اتَّحَدَتْ فِي الْجَفَافِ، جَازَ جَمْعُهَا فِي الْخَرْصِ. (2)
وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الزَّكَاةِ، فَيُتْرَكُ لِلْمَالِكِ مِنْهَا ذَلِكَ لِيُفَرِّقَهُ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِهِ، وَجِيرَانِهِ، لاَ مِنَ الْمَخْرُوصِ (3) .

حَقُّ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ الْخَرْصِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ يَنْتَقِل مِنْ عَيْنِ الثِّمَارِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَالِكِ بَعْدَ الْخَرْصِ، فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ التَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ
__________
(1) حديث: " كان يأمر بالتخفيف للواطئة. . . . ". أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 586 - نشر دار الفكر) من حديث مكحول مرسلا ثم أخرجه من قول عمر (ص 587) من طريق الأوزعي قال: بلغنا أن عمر قال:. . .
(2) مغني المحتاج 1 / 287، والدسوقي 1 / 453، والمواق 2 / 289
(3) روضة الطالبين 2 / 250، مغني المحتاج 1 / 387

(19/102)


الثِّمَارِ، وَيَكُونُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُخْرِجُهُ فِي وَقْتِهِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا (1) ، وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لاِنْتِقَال حَقِّ الْفُقَرَاءِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَالِكِ تَضْمِينَ السَّاعِي عَلَيْهِ، وَقَبُول الْمَالِكِ، كَأَنْ يَقُول لَهُ بَعْدَ الْخَرْصِ: ضَمَّنْتُكَ نَصِيبَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الرُّطَبِ أَوِ الْعِنَبِ بِكَذَا تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا. وَيَقْبَل الْمَالِكُ التَّضْمِينَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِل مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ رِضَاهُمَا، كَالْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَإِنْ لَمْ يُضَمِّنْهُ أَوْ ضَمَّنَهُ وَلَمْ يَقْبَل الْمَالِكُ، بَقِيَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ كَمَا كَانَ، مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الثِّمَارِ، وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ: بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، بِنَفْسِ الْخَرْصِ (2) .
لأَِنَّ التَّضْمِينَ لَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ سُرِقَ قَبْل الْجَفَافِ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنَ الْمَالِكِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ قَطْعًا (3) ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي تَضْمِينُ الْخَارِصِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى قَبُول الْمَالِكِ (4) .

تَلَفُ الْمَخْرُوصِ قَبْل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْخَرْصِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 7، مغني المحتاج 1 / 387
(2) مغني المحتاج 1 / 387، روضة الطالبين 2 / 251
(3) مغني المحتاج 1 / 387
(4) روضة الطالبين 2 / 251

(19/103)


إِذَا هَلَكَ الْمَخْرُوصُ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنَ الْمَالِكِ، قَبْل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِخْرَاجِهَا، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الإِْخْرَاجِ، وَأَخَّرَهُ بِدُونِ عُذْرٍ أَوْ قَصَّرَ فِي الْحِفْظِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ بِالْخَرْصِ (1) .

ادِّعَاءُ تَلَفِ الْمَخْرُوصِ:
12 - إِنِ ادَّعَى الْمَالِكُ تَلَفَ الْمَخْرُوصِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، بِغَيْرِ يَمِينٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْخَرْصِ أَمْ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالصَّلاَةِ، وَالْحَدِّ، هَذَا رَأْيُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى هَلاَكَ الْمَخْرُوصِ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ، كَسَرِقَةٍ، أَوْ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ عُرِفَ حُدُوثُهُ كَحَرِيقٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ السَّبَبِ الظَّاهِرِ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ فِيهِ لاِحْتِمَال سَلاَمَةِ مَالِهِ. أَمَّا إِذَا ادَّعَى غَلَطَ الْخَارِصِ أَوْ حَيْفَهُ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلاً قَبْل قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلاً لَمْ يُقْبَل مِنْهُ. (2)

ثَانِيًا: فَرْزُ أَنْصِبَةِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ بِالْخَرْصِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) المغني 2 / 707، روضة الطالبين 2 / 252
(2) مغني المحتاج 1 / 388، المغني 2 / 708، حاشية الدسوقي 1 / 454

(19/103)


إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ أَشْجَارِ النَّخِيل، وَالْكَرْمِ بِالْخَرْصِ، إِذَا طَابَتِ الثِّمَارُ وَحَل بَيْعُهَا، وَاخْتَلَفَتْ حَاجَةُ أَهْلِهَا بِأَنِ احْتَاجَ بَعْضُهُمْ لِلأَْكْل، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ لِلْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَسُهُولَةِ حَزْرِهِمَا بِخِلاَفِ غَيْرِهِمَا مِنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَلاَ يَجُوزُ الْفَرْزُ بِالْخَرْصِ، كَمَا تَقَدَّمَ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي الْخَرْصِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ الْمُتَقَدِّمِ (ف 4) .

ثَالِثًا: الْبَيْعُ بِالْمُجَازَفَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا، وَهُوَ الْبَيْعُ بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ، بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ، وَالتَّخْمِينِ، اكْتِفَاءً بِالْمُشَاهَدَةِ عَنِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ (2) . وَشُرُوطُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُزَافٌ، وَعَرَايَا، وَمُزَابَنَةٌ) .
__________
(1) الزرقاني 6 / 202 - 203، مغني المحتاج 4 / 424، المغني 9 / 115، روضة الطالبين 11 / 215
(2) المغني 4 / 137، مغني المحتاج 2 / 18، حاشية الجمل 3 / 34 - 35، فتح القدير 5 / 470، حاشية ابن عابدين 4 / 27

(19/104)


خُرُوجٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُرُوجُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا وَمَخْرَجًا، نَقِيضُ الدُّخُول (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْخُرُوجَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْبَغْيِ، أَيِ الْخُرُوجِ عَلَى الأَْئِمَّةِ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخُرُوجِ:
لِلْخُرُوجِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْخَارِجِ، وَبِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخُرُوجُ، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِذَا كَانَ مَنِيًّا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ، أَوْ دَمَ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْغُسْل، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَنِيِّ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا كَالْبَوْل، أَوِ الْغَائِطِ، وَالرِّيحِ، يُنْقِضُ الْوُضُوءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُعْتَادِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
__________
(1) لسان العرب، والمحيط، ومتن اللغة مادة: " خرج ".
(2) الاختيار 4 / 54.

(19/104)


الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالدُّودِ وَالْحَصَى لاَ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ.
وَفِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وُضُوءٌ) .

خُرُوجُ الْقَدَمِ أَوْ بَعْضِهَا مِنَ الْخُفِّ:
3 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ نَزْعِ الْخُفِّ - وَهُوَ بُطْلاَنُ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَسْحِ عَلَى خِلاَفٍ فِيهِ - بِخُرُوجِ الْقَدَمِ إِلَى سَاقِ الْخُفِّ، وَكَذَا بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْ خُرُوجِ الْقَلِيل مُتَعَذِّرٌ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَحْصُل بِدُونِ الْقَصْدِ، بِخِلاَفِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْهُ لَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ قَدَمِ الْخُفِّ إِلَى السَّاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخُفُّ طَوِيلاً خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ، فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ إِلَى مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ الْخُفُّ مُعْتَادًا لَظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ بَطَل مَسْحُهُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِلْبَعْضِ حُكْمُ الْكُل فَيَبْطُل
__________
(1) الاختيار 1 / 9، 22 ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 31 - 34 ط دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 1 / 71، 72 ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب 1 / 69، 75، 77

(19/105)


الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الْقَدَمِ، أَوْ بَعْضِهَا إِلَى سَاقِ خُفِّهِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْحُ الْخُفِّ) .

الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَْذَانِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَْذَانِ بِلاَ عُذْرٍ، أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ إِلَى الْمَسْجِدِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّأْذِينُ لِلْفَجْرِ قَبْل الْوَقْتِ، فَلاَ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ، قَال أَبُو الشَّعْثَاءِ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ كَالْمَرْفُوعِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَر: مُصْطَلَحَ (مَسْجِدٌ) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 106، 107 ط الأميرية، وحاشية الدسوقي 1 / 145، وحاشية الجمل 1 / 148، ونهاية المحتاج 1 / 209 ط مصطفي الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 133، ونيل المآرب 1 / 67
(2) فتح القدير1 / 338، 339 ط الأميرية، وابن عابدين 1 / 479، 480، ومواهب الجليل 1 / 467، والمجموع 2 / 179، 3 / 128، والمغني 1 / 408، 409، ونيل المآرب 1 / 119 وحديث أبي هريرة: " أما هذا فقد عصى أبا القاسم. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 453 - 454 - ط الحلبي) .

(19/105)


خُرُوجُ الإِْمَامِ لِلْخُطْبَةِ:
5 - إِذَا خَرَجَ الإِْمَامُ وَقَامَ لِلْخُطْبَةِ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ؛ لأَِنَّهُ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ، وَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا الْكَلاَمُ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ وَقَبْل أَنْ يَبْدَأَ بِالْخُطْبَةِ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ لِلإِْخْلاَل بِغَرَضِ الاِسْتِمَاعِ، وَلاَ اسْتِمَاعَ هُنَا، وَكَرِهَهُ الْحَكَمُ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَكْرَهَانِ الْكَلاَمَ، وَالصَّلاَةَ بَعْدَ خُرُوجِ الإِْمَامِ، وَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الإِْمَامِ.
وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلاَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَطَوُّعَ بَعْدَ خُرُوجِ الإِْمَامِ لِلْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ. (1) وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ تَشْغَلُهُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكُرِهَ، كَصَلاَةِ الدَّاخِل.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ
__________
(1) حديث: " اجلس فقد آذيت وآنيت ". . أخرجه النسائي (3 / 103 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن بسر، وابن ماجة (1 / 354 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقواه ابن حجر في الفتح (2 / 392 - ط السلفية) .

(19/106)


بِجُلُوسِ الإِْمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرُ الدَّاخِل، فَمَنْ دَخَل أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ يُخَفِّفُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ فِي آخِرِهَا، فَلاَ يُصَلِّي لِئَلاَّ يَفُوتَهُ أَوَّل الْجُمُعَةِ مَعَ الإِْمَامِ (1) .

خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِْنْسَانِ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِْنْسَانِ. (2) وَقَالَتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَلاَّ يَخْرُجَ إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ. (3)
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَجِبُ الْخُرُوجُ لِلْجُمُعَةِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 420، 421 ط الأميرية، والاختيار 1 / 84، والقوانين الفقهية / 80، وجواهر الإكليل 1 / 95 ط مكة المكرمة، وروضة الطالبين 2 / 30، وكشاف القناع 2 / 47، ونيل المآرب 1 / 200، والمغني 2 / 319 وما بعدها 2 / 324.
(2) حديث عائشة: " كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الانسان ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط الحلبي) ومسلم (1 / 244 - ط الحلبي) .
(3) حديث عائشة: " السنة علي المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا لما لا بد منه ". أخرجه أبو داود (2 / 836 - 837 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.

(19/106)


وَلَكِنَّهُ يَبْطُل بِهِ الاِعْتِكَافُ؛ لإِِمْكَانِ الاِعْتِكَافِ فِي الْجَامِعِ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ)

الْخُرُوجُ لِلاِسْتِسْقَاءِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ الشَّبَابُ وَالشُّيُوخُ وَالضُّعَفَاءُ، وَالْعَجَزَةُ، وَغَيْرُ ذَاتِ الْهَيْئَةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجُوا مُشَاةً بِتَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ فِي ثِيَابٍ خُلْقَانٍ، وَأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ كُل يَوْمٍ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الْكُفَّارِ وَأَهْل الذِّمَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِسْقَاءٌ) .

خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْمَنْزِل:
8 - الأَْصْل أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٌ بِلُزُومِ الْبَيْتِ مَنْهِيَّاتٌ عَنِ الْخُرُوجِ (3) .
ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 309 ط دار إحياء التراث العربي، وجواهر الإكليل 1 / 156، 159، والقوانين الفقهية / 123، وروضة الطالبين 2 / 404، 409، وكشاف القناع 2 / 356 وما بعدها، والمغني 3 / 191
(2) الاختيار 1 / 72، وفتح القدير 1 / 437 ط الأميرية، والخرشي 2 / 109، والقوانين الفقهية 84، 85، والمجموع 5 / 65، 66، 70، 71، وروضة الطالبين 2 / 90، 91، ونيل المآرب 1 / 211
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 443 ط البهية.

(19/107)


الصَّحِيحِ: أَنَّ مِنْهَا: مِلْكُ الاِحْتِبَاسِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا (الزَّوْجَةِ) مَمْنُوعَةً مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} ، (1) وَالأَْمْرُ بِالإِْسْكَانِ نَهْيٌ عَنِ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ، وَالإِْخْرَاجِ، إِذِ الأَْمْرُ بِالْفِعْل نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ} (3) وَلأَِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لاَخْتَل السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيبُ الزَّوْجَ وَيَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ (4) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ الأَْمْرُ بِلُزُومِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ دَخَل فِيهِ غَيْرُهُنَّ بِالْمَعْنَى. هَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يَخُصُّ جَمِيعَ النِّسَاءِ، فَكَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِلُزُومِ النِّسَاءِ بُيُوتَهُنَّ وَالاِنْكِفَافِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (5) .
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الأَْحْوَصِ
__________
(1) سورة الطلاق / 6
(2) سورة الأحزاب / 33
(3) سورة الطلاق / 1
(4) بدائع الصنائع 2 / 331
(5) تفسير القرطبي 14 / 179

(19/107)


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا. (1)
كَمَا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا رَسُول اللَّهِ: ذَهَبَ الرِّجَال بِالْفَضْل وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَل الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَعَدَتْ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا، فَإِنَّهَا تُدْرِكُ عَمَل الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَزِيَارَةِ الآْبَاءِ، وَالأُْمَّهَاتِ، وَذَوِي الْمَحَارِمِ، وَشُهُودِ مَوْتِ مَنْ ذُكِرَ، وَحُضُورِ عُرْسِهِ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ لاَ غَنَاءَ لِلْمَرْأَةِ عَنْهَا وَلاَ تَجِدُ مَنْ يَقُومُ بِهَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ (3) . إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَيِّدُونَ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ بِقُيُودٍ أَهَمُّهَا:
__________
(1) حديث: " المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ". أخرجه الترمذي (3 / 467 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) حديث أنس: " جئن النساء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 182 - الرسالة) وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 304 - ط القدسي) وقال: " فيه روح بن المسيب، وثقه ابن معين والبزار، وضعفه ابن حبان وابن عدي ". وانظر تفسير ابن كثير 3 / 482 ط الحلبي.
(3) الفواكه الدواني 2 / 409، وحاشية العدوي علي شرح الرسالة 2 / 421، وعمدة القاري 20 / 218 ط المنيرية.

(19/108)


1 - أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ، أَمَّا الَّتِي يُخْشَى الاِفْتِتَانُ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُ أَصْلاً. (1)
2 - أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ مَأْمُونَةً مِنْ تَوَقُّعِ الْمَفْسَدَةِ وَإِلاَّ حَرُمَ خُرُوجُهَا (2) .
3 - أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا فِي زَمَنِ أَمْنِ الرِّجَال (3) وَلاَ يُفْضِي إِلَى اخْتِلاَطِهَا بِهِمْ؛ لأَِنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنَ اخْتِلاَطِهِنَّ بِالرِّجَال أَصْل كُل بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُول الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلاَطُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَى، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ اخْتِلاَطِ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ فِي الأَْسْوَاقِ، وَالْفُرُجِ، وَمَجَامِعِ الرِّجَال، وَإِقْرَارُ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ إِعَانَةٌ لَهُنَّ عَلَى الإِْثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ مَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّسَاءَ مِنَ الْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الرِّجَال وَالاِخْتِلاَطِ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ (4) .
4 - أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا عَلَى تَبَذُّلٍ وَتَسَتُّرٍ تَامٍّ (5) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 409، وجواهر الإكليل 1 / 81
(2) جواهر الإكليل 1 / 81
(3) الفواكه الدواني 1 / 409، جواهر الإكليل 1 / 81
(4) الطرق الحكيمة لابن قيم الجوزيه ص 280 - 281 ط مطبعة السنة المحمدية.
(5) تفسير القرطبي 14 / 180، وانظر الزواجر 2 / 40، وابن عابدين 2 / 665

(19/108)


قَال الْعَيْنِيُّ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أُمُورِهَا الْجَائِزَةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ بَذَّةَ الْهَيْئَةِ، خَشِنَةَ الْمَلْبَسِ، تَفِلَةَ الرِّيحِ، مَسْتُورَةَ الأَْعْضَاءِ غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَةٍ وَلاَ رَافِعَةً صَوْتَهَا (1) .
قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَجَمِّلاَتٍ، وَمَنْعُهُنَّ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي يَكُنَّ بِهَا كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، كَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ وَالرِّقَاقِ، وَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الأَْمْرِ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ - إِذَا تَجَمَّلَتْ وَخَرَجَتْ - ثِيَابَهَا بِحِبْرٍ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَصَابَ. وَهَذَا مِنْ أَدْنَى عُقُوبَتِهِنَّ الْمَالِيَّةِ (2) . فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَطَيَّبَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ. (3)
5 - أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (4) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَإِذَا اضْطُرَّتِ امْرَأَةٌ لِلْخُرُوجِ لِزِيَارَةِ وَالِدٍ خَرَجَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ (5) .
__________
(1) عمدة القاري 19 / 125، وانظر ما قاله الحطاب نقلا عن ابن القطان في هذا الصدد (مواهب الجليل 3 / 405)
(2) الطرق الحكيمة ص 280 - 281
(3) حديث: " أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية ". أخرجه الترمذي (5 / 106 - ط الحلبي) من حديث أبي موسي، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) المغني 7 / 20
(5) الزواجر 2 / 40

(19/109)


وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ عِنْدَ التَّعْلِيقِ عَلَى حَدِيثِ: إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْل إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ (1) أَنَّهُ قَال: اسْتُدِل بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ لِتَوَجُّهِ الأَْمْرِ إِلَى الأَْزْوَاجِ بِالإِْذْنِ (2) .
وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ، سَوَاءٌ أَرَادَتْ زِيَارَةَ وَالِدَيْهَا أَوْ عِيَادَتَهُمَا أَوْ حُضُورَ جِنَازَةِ أَحَدِهِمَا. قَال أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ: طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَافَرَ وَمَنَعَ زَوْجَتَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فَمَرِضَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيَادَةِ أَبِيهَا فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِي اللَّهَ وَلاَ تُخَالِفِي زَوْجَكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَا بِطَاعَةِ زَوْجِهَا (3) وَلأَِنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ، وَالْعِيَادَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَلاَ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا، وَزِيَارَتِهِمَا لأَِنَّ فِي مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ قَطِيعَةً
__________
(1) حديث: " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلي المسجد فأذنوا لهن ". أخرجه البخاري (2 / 347 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) فتح الباري 2 / 347 - 348
(3) حديث: " اتقي الله ولا تخالفي زوجك ". أورده ابن قدامة في المغني (7 / 20 - ط الرياض) وعزاه إلي ابن بطة في أحكام النساء.

(19/109)


لَهُمَا، وَحَمْلاً لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَيَنْبَغِي التَّنْوِيهُ إِلَى أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تَخْرُجُ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُل جُمُعَةٍ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَبِدُونِهِ، وَلِلْمَحَارِمِ فِي كُل سَنَةٍ مَرَّةً بِإِذْنِهِ وَبِدُونِهِ (2) . وَفِي مَجْمَعِ النَّوَازِل، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَابِلَةً، أَوْ غَسَّالَةً، أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ، تَخْرُجُ بِالإِْذْنِ وَبِغَيْرِ الإِْذْنِ، وَالْحَجُّ عَلَى هَذَا (3) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَل مَا فِي النَّوَازِل: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِإِذْنِ الزَّوْجِ (4) .
هَذَا وَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِمَا لاَ غَنَاءَ لَهَا عَنْهُ، كَإِتْيَانٍ بِنَحْوِ مَأْكَلٍ (5) وَالذَّهَابِ إِلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْحَقِّ، وَاكْتِسَابِ النَّفَقَةِ إِذَا أَعْسَر بِهَا الزَّوْجُ، وَالاِسْتِفْتَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا فَقِيهًا (6) . وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا كَانَ الْمَنْزِل الَّذِي تَسْكُنُهُ مُشْرِفًا عَلَى انْهِدَامٍ (7) .
__________
(1) المغني 207، والمهذب 2 / 67، وانظر الفواكه الدواني 2 / 409، وابن عابدين 2 / 664
(2) ابن عابدين 2 / 664، والفتاوى الهندية 1 / 557
(3) الفتاوى الهندية 1 / 557
(4) ابن عابدين 2 / 665
(5) مطالب أولي النهى 5 / 271
(6) الإقناع للشربيني الخطيب 2 / 95، ابن عابدين 2 / 665
(7) روضة الطالبين 9 / 60، ونهاية المحتاج 7 / 195

(19/110)


وَأَخَذَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ كَلاَمِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ اعْتِمَادَ الْعُرْفِ الدَّال عَلَى رِضَا أَمْثَال الزَّوْجِ بِمِثْل الْخُرُوجِ الَّذِي تُرِيدُهُ، نَعَمْ لَوْ عُلِمَ مُخَالَفَتُهُ لأَِمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ فَلاَ تَخْرُجُ (1) .

خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرَادَتْ حُضُورَ الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ، إِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً تُشْتَهَى كُرِهَ لَهَا، وَكُرِهَ لِزَوْجِهَا وَوَلِيِّهَا تَمْكِينُهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لاَ تُشْتَهَى فَلَهَا الْخُرُوجُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ دُونَ كَرَاهَةٍ (2) .
وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّابَّةِ، أَمَّا الْعَجُوزُ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ عِنْدَهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَقَطْ، وَلاَ تَخْرُجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ (3) .
وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا مُطْلَقًا لِفَسَادِ الزَّمَنِ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالنِّسَاءُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 195
(2) المجموع 4 / 198، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 1 / 183، وابن عابدين 1 / 380
(3) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 1 / 183، وابن عابدين 1 / 380، هذا بحسب زمنهم في أنه لا يخرج في هذا الوقت إلا المصلون، فيراعي تغير العرف.
(4) الدر المختار 1 / 380

(19/110)


أَقْسَامٍ: عَجُوزٌ انْقَطَعَتْ حَاجَةُ الرِّجَال عَنْهَا، فَهَذِهِ تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ، وَلِلْفَرْضِ، وَلِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَتَخْرُجُ لِلصَّحْرَاءِ فِي الْعِيدِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَلِجِنَازَةِ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَلِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، وَمُتَجَالَّةٌ (مُسِنَّةٌ) لَمْ تَنْقَطِعْ حَاجَةُ الرِّجَال مِنْهَا بِالْجُمْلَةِ، فَهَذِهِ تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ لِلْفَرَائِضِ، وَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَلاَ تُكْثِرُ التَّرَدُّدَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهَا أَيْ يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، وَشَابَّةٌ غَيْرُ فَارِهَةٍ فِي الشَّبَابِ وَالنَّجَابَةِ، تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ الْفَرْضِ جَمَاعَةً، وَفِي جَنَائِزِ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَلاَ تَخْرُجُ لِعِيدٍ وَلاَ اسْتِسْقَاءٍ وَلاَ لِمَجَالِسِ ذِكْرٍ أَوْ عِلْمٍ. وَشَابَّةٌ فَارِهَةٌ فِي الشَّبَابِ وَالنَّجَابَةِ، فَهَذِهِ الاِخْتِيَارُ لَهَا أَنْ لاَ تَخْرُجَ أَصْلاً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال (2) لأَِنَّهُنَّ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. (3) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 446 - 447
(2) المغني 2 / 202 - 203، 375
(3) حديث عائشة: " كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 54 - ط السلفية) ومسلم (1 / 446 - ط الحلبي) .

(19/111)


وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ يَعْنِي غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ. (1)
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ - عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ - مُقَيَّدٌ بِالْقُيُودِ السَّابِقَةِ (2) . وَلاَ يُقْضَى عَلَى زَوْجِ الشَّابَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا بِالْخُرُوجِ لِنَحْوِ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَلَوْ شَرَطَ لَهَا فِي صُلْبِ عَقْدِهَا (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ إِذَا كَانَتْ عَجُوزًا لاَ تُشْتَهَى، وَأَمِنَ الْمَفْسَدَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا. قَال الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ (4) .

خُرُوجُ الْمَرْأَةِ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ:
10 - قَال النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْقَاضِي: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلاَّ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ. (5)
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ
__________
(1) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". أخرجه أبو داود (1 / 381 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن.
(2) المغني 2 / 376، والفواكه الدواني 2 / 409، والمجموع 4 / 199
(3) الفواكه الدواني 2 / 409
(4) المجموع 4 / 199
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 104

(19/111)


وَالْعُمْرَةِ وَسَفَرِ الزِّيَارَاتِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الأَْسْفَارِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَاتُ: (حَجٌّ، سَفَرٌ، عُمْرَةٌ، هِجْرَةٌ) .

الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ:
11 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَال عِنْدَ الْخُرُوجِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ " أَوْ يَقُول: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ "، وَذَلِكَ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .

الْخُرُوجُ مِنَ الْبَيْتِ:
12 - يُسْتَحَبُّ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ يَقُول مَا كَانَ يَقُولُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ (2) وَذَلِكَ فِيمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَال: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَضِل أَوْ أُضَل، أَوْ أَزِل أَوْ أُزَل، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَل أَوْ يُجْهَل عَلَيَّ. (3)
__________
(1) القوانين الفقهية / 55، والمغني 1 / 455
(2) الأذكار للنووي / 24
(3) حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته ". أخرجه أبو داود (5 / 327 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 490 - ط الحلبي) وفي إسناده انقطاع كما في الفتوحات الربانية لابن علان (1 / 331 ط المنيرية) .

(19/112)


وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَال - يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ - بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ يُقَال لَهُ: كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَهُدِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ. (1)

الْخُرُوجُ مِنَ الْخَلاَءِ:
13 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيَقُول: غُفْرَانَكَ، أَوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي (2) . لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .

خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْبَيْتِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
__________
(1) حديث: " من قال: " - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله ". أخرجه الترمذي (5 / 490 - ط الحلبي) وابن حبان (الموارد 1 / 590 - ط السلفية) وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(2) ابن عابدين 1 / 230، 231، وجواهر الإكليل 1 / 17، والقليوبي 1 / 40، 41، والمجموع 2 / 179، ونيل المآرب 1 / 52.
(3) حديث: " كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذي وعافاني ". أخرجه ابن ماجه (1 / 110 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 92 - ط دار الحنان) : " هذا حديث ضعيف، لا يصح بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

(19/112)


الْمُعْتَدَّةِ مُلاَزَمَةُ السَّكَنِ، فَلاَ تَخْرُجُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ أَثِمَتْ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، وَكَذَا لِوَارِثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَتُعْذَرُ فِي الْخُرُوجِ فِي مَوَاضِعَ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .

مَنْ لاَ يَجُوزُ خُرُوجُهُ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْجِهَادِ:
15 - لاَ يَسْتَصْحِبُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَعَهُ مُخَذِّلاً، وَلاَ مُرْجِفًا، وَلاَ جَاسُوسًا، وَلاَ مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيل اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (1)
وَإِنْ خَرَجَ هَؤُلاَءِ فَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ وَلاَ يُرْضَخُ، وَإِنْ أَظْهَرُوا عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جِهَادٌ، وَغَنِيمَةٌ) .

الْخُرُوجُ عَلَى الإِْمَامِ:
16 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا كَانَ عَدْلاً تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَمُحَرَّمٌ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (3) وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ
__________
(1) سورة التوبة / 46، 47
(2) القليوبي 4 / 217، والمغني 8 / 351
(3) سورة النساء / 59

(19/113)


فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَيِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبُغَاةٌ) . (1)

خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ:
17 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَحْبُوسَ لأَِجْل قَضَاءِ الدَّيْنِ يُمْنَعُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَإِلَى الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَالزِّيَارَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَأَمْثَال ذَلِكَ. لأَِنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَصُّل إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِذَا مُنِعَ عَنْ ذَلِكَ سَارَعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ (2) .
(ر: حَبْسٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 368، وحاشية الدسوقي 4 / 299، ومواهب الجليل 6 / 277، والجمل 5 / 114، وروضة الطالبين 10 / 50، والأحكام السلطانية للماوردي ص 17، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص 14
(2) البدائع 7 / 174، جواهر الإكليل 2 / 93، 94، القليوبي 2 / 292، والمغني 8 / 315

(19/113)


خَزٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَزُّ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ (حَرِيرٍ) أَوْ إِبْرَيْسَمٍ وَحْدَهُ (1)
وَهُوَ فِي الأَْصْل مِنَ الْخُزَزِ وَهُوَ وَلَدُ الأَْرْنَبِ أَوِ الأَْرْنَبُ الذَّكَرُ، لِنُعُومَةِ وَبَرِهِ.
وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا سُدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ عَكْسُهُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَزُّ:
2 - الْقَزُّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ مَا يُعْمَل مِنْهُ الإِْبْرَيْسَمُ (الْحَرِيرُ) وَلِهَذَا قَالُوا: الْقَزُّ وَالإِْبْرَيْسَمُ مِثْل الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ (3) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَزِّ، هُوَ أَنَّ الْقَزَّ أَصْل الْحَرِيرِ، وَالْخَزُّ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَالصُّوفِ، وَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِمَا.
__________
(1) المصباح المنير ومتن اللغة.
(2) ابن عابدين 5 / 227، والفتاوى الهندية 5 / 331، وحاشية الدسوقي 1 / 220، والزرقاني 1 / 182، وفتح الباري 10 / 271
(3) المصباح، وحاشية القليوبي 1 / 303، والفتاوى الهندية 5 / 331

(19/114)


ب - الدِّيبَاجُ:
3 - الدِّيبَاجُ هُوَ مَا سُدَاهُ إِبْرَيْسَمٌ وَلُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَمٌ، فَيَحْرُمُ لُبْسُهُ لِلرِّجَال مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ اتِّفَاقًا. وَلاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ بِسَائِرِ الْوُجُوهِ غَيْرِ اللُّبْسِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِيهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ (1) وَيُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيرٌ، أَلْبِسَةٌ) .

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْخَزِّ:
4 - الْخَزُّ إِذَا كَانَ سُدَاهُ وَلُحْمَتُهُ كِلاَهُمَا مِنَ الْحَرِيرِ فَلاَ يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلرِّجَال فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ اتِّفَاقًا، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ (2) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا (3) (ر: حَرِيرٌ) .
أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْسُوجًا مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَ سُدَاهُ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ وَلُحْمَتُهُ مِنَ الصُّوفِ أَوِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 225، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 220، والقليوبي 1 / 303
(2) حديث: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 554 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1637 - ط الحلبي) من حديث حذيفة بن اليمان.
(3) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها ". أخرجه النسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي موسي الأشعري، وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر (1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(19/114)


الْقُطْنِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهِ لِلرِّجَال. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَتْ نَفِيسَةً وَغَالِيَةً (1) . وَقَال أَحْمَدُ: أَمَّا الْخَزُّ فَقَدْ لَبِسَهُ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا جِبَابَ الْخَزِّ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ مُعْتَمِرٍ قَال سَمِعْتُ أَبِي قَال: (رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ) (4) كَمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ (5) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لُبْسُهُ مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ عَلَى تَرْكِهِ وَلاَ يَأْثَمُ فِي فِعْلِهِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الْمُتَكَافِئَةِ أَدِلَّةُ حِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا الَّتِي قَال فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (6)
__________
(1) المراجع السابقة وروضة الطالبين 2 / 68، والمغني 1 / 590 - 592
(2) مسائل الإمام أحمد 2 / 146
(3) المغني لابن قدامة 1 / 591
(4) فتح الباري 10 / 271
(5) المغني 1 / 591
(6) حاشية الدسوقي 1 / 220، والزرقاني 1 / 182 وحديث: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ". أخرجه مسلم (3 / 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير.

(19/115)


5 - وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي النَّسِيجِ، فَقَالُوا: الْمُرَكَّبُ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، إِنْ زَادَ وَزْنُ الْحَرِيرِ يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَيَحِل إِذَا كَانَ الأَْكْثَرُ غَيْرَ الْحَرِيرِ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: إِنَّمَا نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ. (1) وَالْمُصْمَتُ الْخَالِصُ (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ هُوَ الأَْشْبَهُ: التَّحْرِيمُ إِنِ اسْتَوَيَا.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ لُبْسِهِ إِذَا كَانَتْ لُحْمَتُهُ غَيْرَ الْحَرِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَغْلُوبًا، أَمْ غَالِبًا، أَمْ مُسَاوِيًا؛ لأَِنَّ الثَّوْبَ إِنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ (3) . (ر: حَرِيرٌ) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْخَزِّ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ
__________
(1) حديث: " نهى عن الثوب المصمت من قز ". أخرجه أحمد (1 / 218 - ط الميمنية) والحاكم (4 / 192 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ لأحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) ابن عابدين 5 / 227، ومغني المحتاج 1 / 307، والمغني لابن قدامة 1 / 590، 591
(3) المراجع السابقة.

(19/115)


وَالإِْبَاحَةِ وَبَابِ اللُّبْسِ، وَبَعْضُهُمْ فِي بَحْثِ (الْعِدَّةِ) وَإِحْدَادِ الْمَرْأَةِ، وَفِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهَا.
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَرِيرٌ) .

خُسُوفٌ

انْظُرْ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ

(19/116)


خُشُوعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُشُوعُ لُغَةً مِنْ يَخْشَعُ: يَخْشَعُ السُّكُونُ وَالتَّذَلُّل.
وَخَشَعَ فِي صَلاَتِهِ وَدُعَائِهِ، أَقْبَل بِقَلْبِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ خَشَعَتِ الأَْرْضُ إِذَا سَكَنَتْ وَاطْمَأَنَّتْ.
وَخَشَعَ بَصَرُهُ انْكَسَرَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} . (1)
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْخُشُوعُ الضَّرَاعَةُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الْخُشُوعُ فِيمَا يُوجَدُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالضَّرَاعَةُ أَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَل فِيمَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قِيل فِيمَا رُوِيَ: إِذَا ضَرَعَ الْقَلْبُ خَشَعَتِ الْجَوَارِحُ. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الْخُشُوعُ هَيْئَةٌ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْجَوَارِحِ سُكُونٌ وَتَوَاضُعٌ.
وَالتَّخَشُّعُ تَكَلُّفُ الْخُشُوعِ، وَالتَّخَشُّعُ لِلَّهِ، الإِْخْبَاتُ وَالتَّذَلُّل لَهُ، وَقَال قَتَادَةُ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخَوْفُ وَغَضُّ الْبَصَرِ فِي الصَّلاَةِ.
__________
(1) سورة المعارج / 44

(19/116)


وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُضُوعُ:
2 - الْخُضُوعُ لُغَةً: التَّوَاضُعُ، وَخَضَعَ يَخْضَعُ خُضُوعًا، وَاخْتَضَعَ ذَل وَاسْتَكَانَ، وَأَخْضَعَهُ الْفَقْرُ أَذَلَّهُ.
وَالْخُضُوعُ: الاِنْقِيَادُ وَالْمُطَاوَعَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يَخْضَعَ الرَّجُل لِغَيْرِ امْرَأَتِهِ. (2)
أَيْ يَلِينُ لَهَا فِي الْقَوْل بِمَا يُطْمِعُهَا مِنْهُ. وَخَضَعَ الإِْنْسَانُ خَضْعًا، أَمَال رَأْسَهُ إِلَى الأَْرْضِ، أَوْ دَنَا مِنْهَا، وَفِي التَّنْزِيل: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} . (3)
وَالْخُضُوعُ قَرِيبٌ مِنَ الْخُشُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْخُضُوعَ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعَ فِي الْبَدَنِ وَالصَّوْتِ وَالْبَصَرِ.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الْخُشُوعُ فِي الصَّوْتِ وَالْخُضُوعُ فِي الأَْعْنَاقِ.
وَذَكَرَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ الْخُضُوعَ قَدْ يَكُونُ بِتَكَلُّفٍ، أَمَّا الْخُشُوعُ فَلاَ يَكُونُ تَكَلُّفًا، وَإِنَّمَا بِخَوْفِ الْمَخْشُوعِ لَهُ (4) .
__________
(1) لسان العرب والقاموس والمصباح المنير مادة: " خشع " وتفسير القرطبي 1 / 374
(2) حديث: " نهى أن يخضع الرجل لغير امرأته ". أورده ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2 / 43 - ط الحلبي) .
(3) سورة الشعراء / 4
(4) لسان العرب والمصباح المنير والفروق للعسكري ص 243

(19/117)


ب - الإِْخْبَاتُ:
3 - الإِْخْبَاتُ لُغَةً الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} . (1) قَال الرَّاغِبُ: وَاسْتُعْمِل الإِْخْبَاتُ اسْتِعْمَال اللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ وَقَال أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: الإِْخْبَاتُ مُلاَزَمَةُ الطَّاعَةِ وَالسُّكُونِ، فَهُوَ الْخُضُوعُ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ هَل هُوَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ، أَوْ مِنْ فَضَائِلِهَا وَمُكَمِّلاَتِهَا؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ بِدَلِيل صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ يُفَكِّرُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ إِذْ لَمْ يَقُولُوا بِبُطْلاَنِهَا إِذَا كَانَ ضَابِطًا أَفْعَالَهَا.
وَعَلَيْهِ فَيُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ فِي كُل صَلاَتِهِ بِقَلْبِهِ وَبِجَوَارِحِهِ وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ لاَ يُحْضِرَ فِيهِ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الصَّلاَةِ.
ب - وَأَنْ يَخْشَعَ بِجَوَارِحِهِ بِأَنْ لاَ يَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ كَلِحْيَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جَسَدِهِ، كَتَسْوِيَةِ رِدَائِهِ أَوْ عِمَامَتِهِ، بِحَيْثُ يَتَّصِفُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِالْخُشُوعِ، وَيَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمُلُوكِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى يُنَاجِيهِ. وَأَنَّ صَلاَتَهُ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة الحج / 34
(2) المصباح والقاموس ومفردات الراغب مادة: " خبت " والفروق للعسكري ص 245

(19/117)


ج - أَنْ يَتَدَبَّرَ الْقِرَاءَةَ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يُكْمِل مَقْصُودَ الْخُشُوعِ.
د - أَنْ يُفْرِغَ قَلْبَهُ عَنِ الشَّوَاغِل الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ هَذَا أَعْوَنُ عَلَى الْخُشُوعِ، وَلاَ يَسْتَرْسِل مَعَ حَدِيثِ النَّفْسِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاعْلَمْ أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فَرَاغُهُ مِنْ غَيْرِ مَا هُوَ مُلاَبِسٌ لَهُ.
وَالأَْصْل فِي طَلَبِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) .
فَسَّرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخُشُوعَ فِي الآْيَةِ: بِلِينِ الْقَلْبِ وَكَفِّ الْجَوَارِحِ.
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. (2)
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالاَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. (3)
__________
(1) سورة المؤمنون / 1، 2
(2) حديث: " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه. . . . " أخرجه مسلم (1 / 209 - 210 - ط الحلبي) من حديث عقبه بن عامر.
(3) حديث: " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في الجامع الصغير للسيوطي (بشرحه الفيض 5 / 319 - ط المكتبة التجارية) ، ونقل المناوي عن العراقي أن في أسناده راويا متفقا على ضعفه.

(19/118)


وَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَلاَ يَمْسَحُ الْحَصَى. (1)
5 - إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي الْخُشُوعَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَكُونُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَأْمُرَ الْعَابِثَ بِلِحْيَتِهِ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُل عَلَى انْتِفَاءِ خُشُوعِهِ فِي صَلاَتِهِ؛ وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِعَمَل الْقَلْبِ وَلَوْ طَال، إِلاَّ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا وَلاَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلاَتِهِ إِلاَّ مَا عَقَل. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْخُشُوعَ لاَزِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ وَلَكِنْ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 279، الفواكه الدواني 1 / 208، تفسير القرطبي 12 / 103 مغني المحتاج 1 / 181، تحفة المحتاج 2 / 101، المغني لابن قدامة 2 / 10، كشاف القناع 1 / 392، الفروع 1 / 486 وحديث " إذا قام أحدكم إلي الصلاة فإن الرحمة تواجهه. . . . ". أخرجه أبو داود (1 / 581 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي اسناده راو مجهول.
(2) حديث: " ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل ". أورده الغزالي في الإحياء (1 / 166 - ط الحلبي) ، وقال العراقي كما في حاشيته المطبوعة مع الإحياء: " لم أجده مرفوعا "، ولابن المبارك في الزهد موقوفا علي عمار: " لا يكتب للرجل من صلاته ما سهي ".

(19/118)


وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ فَرْضٌ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ.
وَقَال بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْخُشُوعَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ لَكِنَّهُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا فَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقَوْل حُصُول الْخُشُوعِ فِي جُزْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَإِنِ انْتَفَى فِي الْبَاقِي، وَبَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل حَدَّدَ الْجُزْءَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْخُشُوعُ مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَال: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (1) .
6 - وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْخُشُوعُ مَذْمُومًا، وَهُوَ الْمُتَكَلَّفُ أَمَامَ النَّاسِ بِمُطَأْطَأَةِ الرَّأْسِ وَالتَّبَاكِي كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال، لِيُرَوْا بِعَيْنِ الْبِرِّ وَالإِْجْلاَل، وَذَلِكَ خُدَعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلٌ مِنْ نَفْسِ الإِْنْسَانِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 279، الفواكه الدواني 1 / 208، تفسير القرطبي 12 / 103، مغني المحتاج 1 / 181، تحفة المحتاج 2 / 102، المغني لابن قدامة 2 / 10، كشاف القناع 1 / 392، الفروع 1 / 486
(2) تفسير القرطبي 1 / 375

(19/119)