الموسوعة
الفقهية الكويتية سُنَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ،
حَمِيدَةً كَانَتْ أَمْ ذَمِيمَةً. وَالْجَمْعُ سُنَنٌ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ
أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً
فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (2) .
ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الطَّرِيقَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ،
فَسُنَّةُ اللَّهِ أَحْكَامُهُ وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَسَنَّ اللَّهُ
سُنَّةً؛ أَيْ بَيَّنَ طَرِيقًا قَوِيمًا.
وَيُقَال: فُلاَنٌ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ، مَعْنَاهُ: مِنْ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (سنن) والتعريفات
للجرجاني م (سنة) .
(2) حديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة
فله. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 705 - ط الحلبي) من حديث جرير.
(25/263)
أَهْل الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ
الْمَحْمُودَةِ (1) . وَفِي الْحَدِيثِ: تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ
تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي (2) .
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَهَا مَعَانٍ، مِنْهَا أَنَّهَا اسْمٌ
لِلطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ
وُجُوبٍ (3) .
وَتُطْلَقُ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: عَلَى الْفِعْل إِذَا
وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ
يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ (4) .
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهَا مَا طُلِبَ فِعْلُهُ طَلَبًا
مُؤَكَّدًا غَيْرَ جَازِمٍ (5) .
فَالسُّنَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَيُقَابِلُهَا
الْوَاجِبُ، وَالْفَرْضُ، وَالْحَرَامُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَالْمُبَاحُ،
وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، بِأَنَّهَا مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ
بِفِعْلِهِ وَلاَ يُعَاقَبُ
__________
(1) لسان العرب مادة: (سن) .
(2) حديث: " إني تركت فيكم شيئين. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 898 -
ط الحلبي) والحاكم (1 / 93 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 302، وحاشية الفنري على التلويح 2 / 242 وابن
عابدين 1 / 70 والتعريفات للجرجاني.
(4) ابن عابدين 1 / 70، 454، جواهر الإكليل 1 / 73، مسلم الثبوت 2 / 92،
جمع الجوامع 1 / 89، 90.
(5) جواهر الإكليل 1 / 11
(25/264)
بِتَرْكِهِ (1) . وَتُطْلَقُ السُّنَّةُ
أَيْضًا عَلَى دَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَعَرَّفَهَا
الأُْصُولِيُّونَ بِهَذَا الْمَعْنَى: بِأَنَّهَا مَا صَدَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ،
أَوْ تَقْرِيرٍ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّنَّةِ:
أَوَّلاً: السُّنَّةُ بِالاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ:
2 - تُطْلَقُ السُّنَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: عَلَى
الْمَنْدُوبِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالتَّطَوُّعِ، فَهِيَ أَلْفَاظٌ
مُتَرَادِفَةٌ، فَكُلٌّ مِنْهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل الْمَطْلُوبِ
طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ.
قَال الْبُنَانِيُّ: وَمِثْلُهَا الْحَسَنُ أَوِ النَّفَل وَالْمُرَغَّبُ
فِيهِ. وَنَفَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ تَرَادُفَهَا حَيْثُ
قَالُوا: إِنْ وَاظَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْفِعْل فَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَأَنْ
فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، أَوْ لَمْ
يَفْعَلْهُ وَهُوَ مَا يُنْشِئُهُ الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ
الأَْوْرَادِ فَهُوَ التَّطَوُّعُ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
وَمَنْ مَعَهُ لِلْمَنْدُوبِ لِعُمُومِهِ لِلأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ (3) .
وَيُقَسِّمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ السُّنَنَ إِلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 67، مطالب أولي النهى 1 / 92، وابن عابدين 1 / 70.
(2) التوضيح والتلويح 2 / 242، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2 / 97،
وجمع الجوامع 2 / 94.
(3) جمع الجوامع وشرحه 1 / 89، 90.
(25/264)
سُنَنٍ مُؤَكَّدَةٍ وَغَيْرِ مُؤَكَّدَةٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ: إِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ
الْمُؤَكَّدَةِ مَكْرُوهٌ، أَمَّا تَرْكُ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَيْسَ
بِمَكْرُوهٍ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَشْرُوعَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ، وَسُنَّةٌ، وَنَفْلٌ. فَمَا كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى
مِنْ تَرْكِهِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ إِنْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ
فَفَرْضٌ، أَوْ بِظَنِّيٍّ فَوَاجِبٌ، وَبِلاَ مَنْعِ التَّرْكِ إِنْ كَانَ
مِمَّا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ فَسُنَّةٌ، وَإِلاَّ فَمَنْدُوبٌ
وَنَفْلٌ (1) .
وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ
الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ
قَوْلِهِمْ بِالتَّرَادُفِ بَيْنَهُمَا (2) إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ تُذْكَرُ
فِي مَوْضِعِهَا. فَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمَعْنَى
الْفِقْهِيِّ نَوْعَانِ:
أ - سُنَّةُ الْهُدَى:
وَهِيَ مَا تَكُونُ إقَامَتُهَا تَكْمِيلاً لِلدِّينِ، وَتَتَعَلَّقُ
بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ أَوْ إِسَاءَةٌ، كَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ،
وَالأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيل
الْعِبَادَةِ، وَتُسَمَّى أَيْضًا السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ.
ب - سُنَنُ الزَّوَائِدِ:
وَهِيَ الَّتِي لاَ يَتَعَلَّقُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 70.
(2) جمع الجوامع 1 / 88.
(25/265)
بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ وَلاَ إِسَاءَةٌ،
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا عَلَى
سَبِيل الْعَادَةِ، فَإِقَامَتُهَا حَسَنَةٌ، كَسَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ، وَقُعُودِهِ
وَأَكْلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَهُ فِي
جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ. وَالرَّغِيبَةُ: مَا
رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهِ وَحَدَّهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ.
وَالنَّفَل مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ؛ أَيْ تَرَكَهُ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ (2) .
ثَانِيًا: السُّنَّةُ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ:
3 - أَدِلَّةُ الشَّرْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَاَلَّتِي تُسْتَنْبَطُ
مِنْهَا الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ،
وَالسُّنَّةُ، وَالإِْجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ. وَالسُّنَّةُ: هِيَ مَا
وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ،
أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَقْرِيرٍ.
فَالسَّنَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تُرَادِفُ الْحَدِيثَ. وَقِيل: إِنَّ
الْحَدِيثَ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ الأَْقْوَال، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ السُّنَّةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَدِيثِ الْخَبَرُ أَيْضًا. وَقِيل: الْخَبَرُ أَعَمُّ
لِيَشْمَل مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 161، 162، وابن عابدين 1 / 70.
(2) جواهر الإكليل 1 / 73.
(25/265)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ
غَيْرِهِ، فَكُل حَدِيثٍ خَبَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ (1) .
وَالسُّنَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: السُّنَّةُ
الْقَوْلِيَّةُ، وَهِيَ أَقْوَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَالسُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ، وَهِيَ أَفْعَالُهُ، وَالسُّنَّةُ
التَّقْرِيرِيَّةُ، وَهِيَ كَفُّهُ وَسُكُوتُهُ عَنْ إِنْكَارِ مَا
فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُ أَوْ مَا
أُخْبِرَ بِهِ (2) .
وَتَنْقَسِمُ السُّنَّةُ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ: إِلَى الْمُتَوَاتِرِ،
وَالْمَشْهُورِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ (3) . وَالسُّنَّةُ بِالْمَعْنَى
الأُْصُولِيِّ: هِيَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ تُوجِبُ عِلْمَ
الْيَقِينِ إِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ
الْعَمَل وَلاَ يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ
أَهْل الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ كَمَا حَرَّرَهُ الأُْصُولِيُّونَ
(4) .
وَأَمَّا الْمَشْهُورُ: فَيُلْحِقُهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي
إِيجَابِهِ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَبَعْضُهُمْ بِالآْحَادِ فَيُوجِبُ
الْعَمَل دُونَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ (5) .
وَلِبَيَانِ مَعْنَى التَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَشُرُوطِهِمَا
__________
(1) التلويح 2 / 242، وكشف الأسرار 2 / 354، وشرح نخبة الفكر ص 23، 24.
(2) جمع الجوامع 2 / 94، ومسلم الثبوت 2 / 97.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 359 وما بعدها
(4) كشف الأسرار 2 / 360، 362، 370.
(5) كشف الأسرار 2 / 386، 369.
(25/266)
وَآرَاءِ الأُْصُولِيِّينَ
وَأَدِلَّتِهِمْ، وَمَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الآْحَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْمَسَائِل يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
(25/266)
سِنّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّنُّ لُغَةً: وَاحِدَةُ الأَْسْنَانِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ
الْعَظْمِ تَنْبُتُ فِي الْفَكِّ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، يُقَال: هَذِهِ
سِنٌّ، وَجَمْعُهَا: أَسْنَانٌ.
وَلِلإِْنْسَانِ اثْنَتَانِ وَثَلاَثُونَ سِنًّا أَرْبَعُ ثَنَايَا،
وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ،
وَسِتَّةَ عَشَرَ ضِرْسًا.
وَبَعْضُهُمْ يَقُول: أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ،
وَأَرْبَعُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ
وَاثْنَتَا عَشْرَةَ رَحًى.
وَبَعْضُهُمْ يُقَسِّمُ الأَْسْنَانَ إِلَى قَوَاطِعَ وَضَوَاحِكَ
وَطَوَاحِنَ.
وَالسِّنُّ مِنَ الشَّيْءِ: كُل جُزْءٍ مُسَنَّنٌ مُحَدَّدٌ عَلَى
هَيْئَتِهَا مِثْل سِنِّ الْمُشْطِ، أَوِ الْمِنْجَل، أَوِ الْمِنْشَارِ،
أَوِ الْمِفْتَاحِ، أَوِ الْقَلَمِ، وَأَسَنَّ فُلاَنٌ: إِذَا نَبَتَ
سِنُّهُ أَوْ كَبِرَتْ سِنُّهُ؛ أَيْ
(25/267)
عُمْرُهُ، وَسَنَّنَ الرَّجُل؛ أَيْ
قَدَّرَ لَهُ عُمْرًا بِالتَّخْمِينِ، وَيُقَال: فُلاَنٌ سِنُّ فُلاَنٍ:
إِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي السِّنِّ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّنِّ:
أ - الْقِصَاصُ فِي قَلْعِ السِّنِّ:
2 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِذَا
كَانَ مُتَعَمَّدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ
بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (2) الآْيَةَ،
وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ عَمَّتَهُ
الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَضَى
نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَال
أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا
رَسُول اللَّهِ؟ لاَ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ
ثَنِيَّتُهَا. قَال: وَكَانُوا قَبْل ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا الْعَفْوَ
وَالأَْرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا وَهُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لأََبَرَّهُ (3) .
وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَ فِي السِّنِّ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ،
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: سن.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) حديث أنس: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ". أخرجه
البخاري (الفتح 306، 8 / 717 ط. السلفية) ومسلم (3 / 1302 ط. الحلبي) .
(25/267)
لِكَوْنِهَا مَحْدُودَةً فِي نَفْسِهَا،
فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ.
فَتُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالسِّنِّ الصَّحِيحَةِ،
وَالْمَكْسُورَةُ أَوِ السَّوْدَاءُ أَوِ الصَّفْرَاءُ أَوِ الْحَمْرَاءُ
أَوِ الْخَضْرَاءُ بِالصَّحِيحَةِ، إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلاَ
قِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَيَنْتَقِل إِلَى الأَْرْشِ كَمَا
يَأْتِي.
وَتُؤْخَذُ الْعُلْيَا بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى بِالسُّفْلَى
وَالثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ وَالنَّابُ بِالنَّابِ وَالضَّاحِكُ
بِالضَّاحِكِ، وَالضِّرْسُ بِالضِّرْسِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي
الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الأَْعْلَى بِالأَْسْفَل،
وَلاَ الأَْسْفَل بِالأَْعْلَى؛ لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ
وَالْمَكَانِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَى قَلْعَ سِنِّ الْجَانِي الَّذِي قَلَعَ
سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لإِِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ بِلاَ حَيْفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْلَعُ سِنُّ
الْجَانِي، وَإِنَّمَا تُبْرَدُ إِلَى اللَّحْمِ، وَيُكْسَرُ مَا ظَهَرَ
مِنَ السِّنِّ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الْجُزْءِ الدَّاخِل فِي
اللِّثَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ إِذْ رُبَّمَا
(25/268)
تَفْسُدُ اللِّثَةُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ
يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَل الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَل
الْقَالِعُ.
وَنُقِل عَنِ الْمَقْدِسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُهُ: يَنْبَغِي
اخْتِيَارُ الْبَرْدِ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَلْعِ كَمَا لَوْ
كَانَتْ أَسْنَانُهُ غَيْرَ مُفَلَّجَةٍ، بِحَيْثُ يَخَافُ مِنْ قَلْعِ
وَاحِدٍ أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ أَنْ تَفْسُدَ اللِّثَةُ. وَقَال
بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ الْمُفْتَى
بِهِ.
وَمِثْل الْقَلْعِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا
اضْطَرَبَتِ السِّنُّ اضْطِرَابًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى وَإِنْ ثَبَتَتْ
أَوْ نَبَتَتْ مِنْ مَكَانِهَا أُخْرَى أَوْ رَدَّ الْمَقْلُوعَةَ
فَنَبَتَتْ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ يَوْمُ الْجِنَايَةِ وَلأَِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَاصِ إيلاَمُ الْجَانِي لِرَدْعِهِ وَرَدْعِ
أَمْثَالِهِ (1) .
ب - الْقِصَاصُ بِكَسْرِ السِّنِّ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ
فِيهِ وَتُسْتَوْفَى بِالتَّبْرِيدِ فَيُؤْخَذُ
__________
(1) البدائع 7 / 314، حاشية ابن عابدين 5 / 354، مواهب الجليل 6 / 249،
جواهر الإكليل 2 / 261، 268، 270، حاشية الخرشي 8 / 42، 20، 37، روضة
الطالبين 9 / 198، 2760، مغني المحتاج 4 / 35، 63، الأم للشافعي 6 / 55،
المغني لابن قدامة 7 / 720، 8 / 21، كشاف القناع 5 / 550، الجامع لأحكام
القرآن 6 / 197، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 133.
(25/268)
النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثُ
بِالثُّلُثِ، وَكُل جُزْءٍ بِمِثْلِهِ. وَلاَ يُؤْخَذُ ذَلِكَ
بِالْمِسَاحَةِ كَيْ لاَ يُفْضِيَ إِلَى أَخْذِ جَمِيعِ سِنِّ الْجَانِي
بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ
لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَلاَ يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُول أَهْل
الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ تُؤْمَنُ انْقِلاَعُهَا أَوِ السَّوَادُ فِيهَا؛
لأَِنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَدَلِيلُهُمْ
حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ فَإِنَّهَا كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ (1) ؛
وَلأَِنَّ مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ جَرَى فِي بَعْضِهِ إِذَا
أَمْكَنَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ السِّنِّ؛
لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّ الْكَسْرَ لاَ يَدْخُل
تَحْتَ الضَّبْطِ، فَإِنْ أَمْكَنَ دُخُولُهُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَجَبَ
الْقِصَاصُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِذَا كَسَرَ
رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِهَا سَأَلْتُ أَهْل الْعِلْمِ فَإِنْ
قَالُوا: نَقْدِرُ عَلَى كَسْرِهَا مِنْ نِصْفِهَا بِلاَ إِتْلاَفٍ
لِبَقِيَّتِهَا وَلاَ صَدْعٍ، أَقْرَرْتُهُ، وَإِنْ قَالُوا: لاَ نَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ، لَمْ نُقِرُّهُ لِتَفَتُّتِهَا (2) .
__________
(1) حديث الربيع سبق تخريجه ف2.
(2) البدائع 7 / 314، حاشية ابن عابدين 5 / 354، مواهب الجليل 6 / 249،
جواهر الإكليل 2 / 261، 268، 270، حاشية الخرشي 8 / 42، 20، 37، روضة
الطالبين 9 / 198، 2760، مغني المحتاج 4 / 35، 63، الأم للشافعي 6 / 55،
المغني لابن قدامة 7 / 720، 8 / 21، كشاف القناع 5 / 550، الجامع لأحكام
القرآن 6 / 197، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 113.
(25/269)
ج - قَلْعُ سِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ إِلاَّ مِنْ سِنِّ
مَنْ أَثْغَرَ؛ أَيْ: سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ ثُمَّ نَبَتَتْ.
أَمَّا إِذَا قَلَعَ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى
الْجَانِي فِي الْحَال بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ
إِتْلاَفُهَا حَيْثُ إِنَّهَا قَدْ تَعُودُ غَالِبًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ.
فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا ثُمَّ نَبَتَتْ سَلِيمَةً فِي مَحَلِّهَا
فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَانِي؛ أَيْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ
كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً ثُمَّ نَبَتَتْ. إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى وُجُوبَ حُكُومَةٍ لِلأَْلَمِ وَأُجْرَةِ
الطَّبِيبِ وَإِنْ عَادَتْ بَدَل السِّنِّ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَ
مِنْهَا بِالْحِسَابِ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي رُبُعِهَا
رُبُعُ دِيَتِهَا، وَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ دِيَتِهَا وَهَكَذَا. فَإِنْ
نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ، أَوْ صَفْرَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ، أَوْ
مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ مُعْوَجَّةً، أَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مَعَهَا
بَعْدَ النَّبَاتِ، أَوْ نَبَتَتْ أَطْوَل مِمَّا كَانَتْ، أَوْ نَبَتَتْ
مَعَهَا سِنٌّ شَاغِبَةٌ، وَهِيَ الزَّائِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِنَبْتَةِ
غَيْرِهَا مِنَ الأَْسْنَانِ
(25/269)
وَجَبَتْ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ
لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل بِفِعْلِهِ، وَكَذَا إِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيل
لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ
جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا وَلَمْ تَنْبُتْ بِأَنْ سَقَطَتِ الْبَوَاقِي
وَنَبَتْنَ دُونَ الْمَقْلُوعَةِ سُئِل أَهْل الْخِبْرَةِ وَالطِّبِّ،
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يُئِسَ مِنْ عَوْدِهَا لِفَسَادِ مَنْبَتِهَا،
فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ، أَوْ دِيَةِ
السِّنِّ، وَإِنْ قَالُوا: يُتَوَقَّعُ نَبَاتُهَا إِلَى وَقْتِ كَذَا،
انْتُظِرَ، فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ تَنْبُتْ وَجَبَ الْقِصَاصُ
أَيْضًا، وَلاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ لِلصَّغِيرِ فِي صِغَرِهِ بَل
يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ لِيَسْتَوْفِيَ هُوَ بِنَفْسِهِ لأَِنَّ الْقِصَاصَ
لِلتَّشَفِّي.
فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْل حُصُول الْيَأْسِ
وَقَبْل تَبَيُّنِ الْحَال فَلاَ قِصَاصَ لِوَارِثِهِ وَكَذَا لاَ دِيَةَ
لأَِنَّ الأَْصْل الْبَرَاءَةُ وَنَبَاتُ السِّنِّ لَوْ عَاشَ. فَعَلَى
هَذَا: تَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ
أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ
وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ لِوَرَثَةِ الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ
وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ
الدِّيَةِ لأَِنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ
(25/270)
فِيهِ، وَلاَ يَتَأَتَّى النَّبَاتُ بَعْدَ
الْمَوْتِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْيَأْسِ فَيَقْتَصُّ وَارِثُهُ فِي
الْحَال أَوْ يَأْخُذُ الأَْرْشَ (1) .
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي قَلْعِ السِّنِّ:
5 - إِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى
وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَال، دُونَ انْتِظَارِ نَبَاتِهَا مِنْ جَدِيدٍ
لأَِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ عَوْدِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ يُنْظَرُ وَيُسْأَل أَهْل الْخِبْرَةِ فَإِنْ قَالُوا: لاَ
تَعُودُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَال. وَإِنْ
قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهَا إِلَى وَقْتٍ يَذْكُرُونَهُ، لَمْ يُقْتَصَّ
حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ. فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ فَيَجِبُ
الْقِصَاصُ، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ لأَِنَّ مَا
عَادَ قَامَ مَقَامَ الأَْوَّل فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ
النَّابِتَ لاَ يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْفَائِتِ بَل هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ
اللَّهِ فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ
بِهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَال إِنْسَانٍ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْل الْمُتْلَفِ، وَكَالْتِحَامِ
__________
(1) المصادر السابقة.
(25/270)
الْجَائِفَةِ أَوِ انْدِمَال الْمُوضِحَةِ
أَوْ نَبْتِ اللِّسَانِ.
فَإِنْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا إِلَى مَكَانِهَا
فَاشْتَدَّتْ وَالْتَحَمَتْ، فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ؛
لأَِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَأَلَّمَ بِمِثْل مَا فَعَل وَعَلَيْهِ
دِيَةُ السِّنِّ فِي الْخَطَأِ؛ لأَِنَّ الْمُعَادَةَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا
كَمَا كَانَتْ لاِنْقِطَاعِ الْعُرُوقِ، بَل تَبْطُل بِأَدْنَى شَيْءٍ،
فَكَانَتْ إِعَادَتُهَا وَعَدَمُ إِعَادَتِهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ حَكَى
عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ قَوْلَهُ: إِنْ عَادَتِ السِّنُّ إِلَى
حَالَتِهَا الأُْولَى فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَال فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
(1) .
الْحُكْمُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ
اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ أَوْ أَخْذِ
الأَْرْشِ فَلَيْسَ لِلْجَانِي قَلْعُهَا ثَانِيَةً وَلاَ اسْتِرْدَادُ
الأَْرْشِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى
أَنَّ لِلْجَانِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الأَْرْشَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَدْفَعْ وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ قَلْعُ
__________
(1)
) المصادر السابقة.
(25/271)
السِّنِّ مَرَّةً أُخْرَى إِذَا كَانَ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدِ اسْتُوْفِيَ الْقِصَاصُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ بِفِعْلِهِ الْعُدْوَانَ.
وَمَجْرَى الْخِلاَفِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْتِرْدَادِ الأَْرْشِ أَوْ
عَدَمِهِ فِي السِّنِّ النَّابِتَةِ لِمَنْ قَدْ أَثْغَرَ، إِلاَّ أَنَّ
رَأْيَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْل رَأْيِ
الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ اسْتِرْدَادِ الأَْرْشِ
لِلْجَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ عَلَيْهِ قَبْل
دَفْعِهِ، وَيَرَوْنَ كَذَلِكَ وُجُوبَ الأَْرْشِ عَلَى الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ الَّذِي اقْتُصَّ مِنَ الْجَانِي ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ
لِتَبَنِّي الْخَطَأِ فِي الْقِصَاصِ لأَِنَّ الْمُوجِبَ لَهُ فَسَادُ
الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى
فَانْعَدَمَتِ الْجِنَايَةُ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ فِي الْحَال إِذَا كَانَ مِمَّنْ أَثْغَرَ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي أَوْ يَأْخُذَ الأَْرْشَ.
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
7 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْقِصَاصِ فِي
السِّنِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ تَأْجِيلِهِ لِمُدَّةِ حَوْلٍ
كَامِلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَقْلُوعَةً أَوْ مُتَحَرِّكَةً أَوْ
مَكْسُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ سِنَّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، وَذَلِكَ
لاِحْتِمَال نَبَاتِهَا فِي حَالَةِ
(25/271)
الْقَلْعِ وَسُقُوطِ أَوْ ثُبُوتِ
الْمُتَحَرِّكَةِ وَلِتَغَيُّرِ الْمَكْسُورَةِ أَوْ عَدَمِ تَغَيُّرِهَا،
وَأَصْل هَذَا الرَّأْيِ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقِيل: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، فَلاَ يَنْتَظِرُ
الْبَالِغُ لأَِنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْكَبِيرِ نَادِرٌ، وَيَنْتَظِرُ
الصَّبِيُّ لأَِنَّ سِنَّهُ تَنْبُتُ غَالِبًا، وَأَصْل هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقِيل: يُفَرَّقُ بَيْنَ
الْمَقْلُوعَةِ، وَالْمُتَحَرِّكَةِ، وَالْمَكْسُورَةِ، فَلاَ يُنْتَظَرُ
نَبَاتُ الْمَقْلُوعَةِ بَل لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ
يَأْخُذَ الأَْرْشَ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ السِّنَّ إِذَا سَقَطَتْ فَلاَ
تَنْبُتُ غَالِبًا مِنْ جَدِيدٍ. وَيُنْتَظَرُ إِذَا تَحَرَّكَتْ مِنَ
الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ أَوْ تَثْبُتُ، وَكَذَا
الْمَكْسُورَةُ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّرُ بِاسْوِدَادٍ أَوِ احْمِرَارٍ
أَوِ اصْفِرَارٍ أَوِ اخْضِرَارٍ، أَوْ لاَ تَتَغَيَّرُ فَيَخْتَلِفُ
الْحُكْمُ، وَأَصْل هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ (1) .
عَوْدُ سِنِّ الْجَانِي بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
8 - إِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي بَعْدَ أَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ دُونَ سِنِّ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ
__________
(1) المصادر السابقة.
(25/272)
يَقْلَعَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛
لأَِنَّ الْجَانِيَ أَفْسَدَ مَنْبَتَهُ فَيُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْقَلْعُ
حَتَّى يَفْسُدَ مَنْبَتُهُ.
وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَهُ لأَِنَّهُ قَابَل
قَلْعًا بِقَلْعٍ فَلاَ تُثَنَّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ؛ وَلِئَلاَّ
يَأْخُذَ سِنِينَ بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُول:
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (1) لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْرْشُ
لِخُرُوجِ الْقَلْعِ الأَْوَّل عَلَى كَوْنِهِ قِصَاصًا، وَكَأَنَّهُ
تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ.
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ عَوْدَةَ السِّنِّ لِلْجَانِي هِبَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِمَا سَبَقَ.
الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ غَيْرِ الْمَثْغُورِ سِنَّ مَثْغُورٍ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ
سِنَّ مَثْغُورٍ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ إِنْ كَانَ
بَالِغًا، أَوْ يَأْخُذَ الأَْرْشَ.
وَإِذَا اقْتَصَّ فَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ بَالِغٍ فَلاَ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(25/272)
قِصَاصَ، وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً
قَلَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَهُ سِنًّا مِثْلَهَا. إِنْ كَانَتْ
لِلْمُسَاوَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَعَلَى
الْجَانِي حُكُومَةٌ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ فِقْدَانِ
الْمُمَاثَلَةِ (1) .
وَإِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ غَيْرِ مَثْغُورٍ آخَرَ فَلاَ
قِصَاصَ فِي الْحَال، فَإِنْ نَبَتَتْ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنْ
لَمْ تَنْبُتْ وَقَدْ دَخَل وَقْتُهُ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ
يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ (2) .
الدِّيَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ كُل شَيْءٍ مِنَ
الأَْسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ
وَالْمُؤَخَّرُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
__________
(1) البدائع 7 / 314، حاشية ابن عابدين 5 / 354، مواهب الجليل 6 / 249،
جواهر الإكليل 2 / 261، 268، 270، حاشية الخرشي 8 / 42، 20، 37، روضة
الطالبين 9 / 198، 201، 276، مغني المحتاج 4 / 35، 63، المغني لابن قدامة 7
/ 720، 278، كشاف القناع 5 / 550، الجامع لأحكام القرآن 6 / 197، أحكام
القرآن لابن العربي 2 / 133، الأم للإمام الشافعي 6 / 55.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " في السن خمس من الإبل ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 - ط.
المكتبة التجارية) أورده ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 ط شركة الطباعة
الفنية) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(25/273)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فِي
الأَْسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
(دِيَة) .
حُكْمُ السِّنِّ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ
يَتَّخِذَ سِنًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ،
وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يَشُدَّ سِنَّهُ الْمُتَحَرِّكَةَ
بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ كُلَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ أَبُو
حَنِيفَةَ مِنَ الذَّهَبِ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْفِضَّةِ لِمَا
رَوَاهُ الأَْثْرَمُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَ
أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ
مِنْ بَابِ أَوْلَى وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَخْلِيل أَسْنَانِهَا
بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " في الأسنان خمس خمس ". أخرجه أبو داود (4 / 691 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(2) المجموع 1 / 292، 6 / 38، 46، روضة الطالبين 2 / 262، مغني المحتاج 1 /
391، كشاف القناع 2 / 238، المغني لابن قدامة 3 / 15.
(25/273)
حُكْمُ تَفْلِيجِ الأَْسْنَانِ:
12 - قَال الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ التَّفَلُّجُ: وَهُوَ بَرْدُ مَا بَيْنَ
الثَّنَايَا وَالرَّبَاعِيَاتِ مِنَ الأَْسْنَانِ، لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا
عَنْ بَعْضٍ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ.
وَيُسَمَّى الْوَشْرَ، وَهُوَ تَحْدِيدُ الأَْسْنَانِ وَتَفْرِيجُ مَا
بَيْنَهَا إِيهَامًا لِلْفَلَجِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ مِمَّا قَدْ
تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لِتُوهِمَ النَّاظِرَ أَنَّهَا
شَابَّةٌ صَغِيرَةٌ.
وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاشِرَةِ وَالْمُسْتَوْشِرَةِ؛ لأَِنَّهُ
تَبْدِيلٌ لِلْهَيْئَةِ وَتَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ. قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَال لأََتَّخِذَنَّ مِنْ
عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأَُضِلَّنَّهُمْ وَلأُِمَنِّيَنَّهُمْ
وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَْنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (1) الآْيَةَ.
وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ، وَلِهَذَا لَعَنَ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَفْعَلْنَهُ
وَوَصَفَهُنَّ بِالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لَعَنَ اللَّهُ
الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ
وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَالَتْ
لَهُ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَال: وَمَا لِي لاَ
__________
(1) سورة النساء / 117، 118، 119.
(25/274)
أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
وَمَحَل هَذَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ، أَمَّا لَوِ
احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِعِلاَجٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلاَ بَأْسَ
بِهِ (2) . أَمَّا تَنْظِيفُ الأَْسْنَانِ فَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (سِوَاك،
وَسُنَن الْفِطْرَةِ، وَسُنَن الْوُضُوءِ) .
سِنّ الْيَأْسِ
انْظُرْ: يَأْس
__________
(1) حديث ابن مسعود: " لعن الله الواشمات. . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 /
630 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1678 - ط. الحلبي) .
(2) القوانين الفقهية ص 449، تفسير القرطبي 5 / 392، أحكام القرآن لابن
العربي 1 / 630، دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 4 / 494، المغني لابن
قدامة 1 / 93.
(25/274)
السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّنَّةُ لُغَةً: الْمَنْهَجُ وَالطَّرِيقَةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ
مَحْمُودَةً أَمْ مَذْمُومَةً. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ
أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً
كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (1) .
ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال السُّنَّةِ فِي الطَّرِيقَةِ الْمَحْمُودَةِ
الْمُسْتَقِيمَةِ.
وَتَعْرِيفُ السُّنَّةِ اصْطِلاَحًا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ (سُنَّة) .
أَمَّا الرَّوَاتِبُ فَهُوَ جَمْعُ رَاتِبَةٍ مِنْ رَتَبَ الشَّيْءُ
رُتُوبًا؛ أَيِ اسْتَقَرَّ وَدَامَ، فَهُوَ رَاتِبٌ،
__________
(1) حديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها. . . ". أخرجه مسلم (1 /
705 - ط الحلبي) من حديث جرير بن عبد الله.
(25/275)
وَسُمِّيَتْ السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ
بِذَلِكَ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ هِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ
لِغَيْرِهَا، أَوِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهَا أَوْ عَلَى مَا
لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالْعِيدَيْنِ وَالضُّحَى وَالتَّرَاوِيحِ (2) .
وَيُطْلِقُهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَةِ قَبْل
الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ يُشْرَعُ أَدَاؤُهَا وَحْدَهَا
بِدُونِ تِلْكَ الْفَرَائِضِ. وَلَمْ يَقْصُرِ الشَّافِعِيَّةُ السُّنَنَ
الرَّوَاتِبَ عَلَى الصَّلاَةِ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لِلصَّوْمِ
سُنَنًا رَوَاتِبَ كَصِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - سُنَنُ الزَّوَائِدِ:
2 - هِيَ الَّتِي تَكُونُ إقَامَتُهَا حَسَنَةً وَلاَ يَتَعَلَّقُ
بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ وَلاَ إِسَاءَةٌ، كَأَذَانِ الْمُنْفَرِدِ
وَالسِّوَاكِ (4) .
ب - النَّوَافِل:
3 - النَّوَافِل جَمْعُ نَافِلَةٍ، وَالنَّافِلَةُ لُغَةً: مَا زَادَ عَلَى
النَّصِيبِ الْمُقَدَّرِ، أَوِ الْحَقِّ أَوِ الْفَرْضِ،
__________
(1) المصباح المنير مادة (رتب) .
(2) القليوبي 1 / 210، والروضة 1 / 327.
(3) شرح الروض 1 / 207.
(4) التعريفات ص 122.
(25/275)
أَوْ مَا يُعْطِيهِ الإِْمَامُ
لِلْمُجَاهِدِ زِيَادَةً عَنْ سَهْمِهِ (1) .
وَالنَّافِلَةُ أَعَمُّ مِنَ السُّنَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَنْقَسِمُ: إِلَى
مُعَيَّنَةٍ وَمِنْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَمُطْلَقَةٍ كَصَلاَةِ
اللَّيْل (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لأَِدَاءِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ اسْتِحْبَابَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إِلَى
أَنَّهُ لاَ تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ حِمَايَةً لِلْفَرَائِضِ، لَكِنْ لاَ
يُمْنَعُ مَنْ تَطَوَّعَ بِمَا شَاءَ إِذَا أَمِنَ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَارِكَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ
يَسْتَوْجِبُ إِسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً. وَفَسَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ
اسْتِيجَابَ الإِْسَاءَةِ بِالتَّضْلِيل وَاللَّوْمِ. وَقَال صَاحِبُ
كَشْفِ الأَْسْرَارِ: الإِْسَاءَةُ دُونَ الْكَرَاهَةِ. وَقَال ابْنُ
نُجَيْمٍ: الإِْسَاءَةُ أَفْحَشُ مِنَ الْكَرَاهَةِ. وَفِي التَّلْوِيحِ:
تَرْكُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَامِ. وَقَال
الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَرْكِ الرَّوَاتِبِ بِلاَ عُذْرٍ (3) . هَذَا
فِي الْحَضَرِ. وَفِي السَّفَرِ يَرَى جُمْهُورُ
__________
(1) لسان العرب مادة (نفل) .
(2) المغني 1 / 466.
(3) فتح الباري 3 / 51 - ط السلفية وكشف الأسرار 1 / 630 وابن عابدين 1 /
318، 319، ومطالب أولي النهى 1 / 548.
(25/276)
الْفُقَهَاءِ اسْتِحْبَابَ صَلاَةِ
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ أَيْضًا لَكِنَّهَا فِي الْحَضَرِ آكَدُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُصَلِّي النَّوَافِل عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ
تَوَجَّهَتْ بِهِ (1) . وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا
مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ
فَنَامُوا عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَسَارُوا
حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ
فَصَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُل يَوْمٍ (2) .
وَجَوَّزَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ تَرْكَ السُّنَنِ،
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَأْتِي بِهَا فِي حَال الْخَوْفِ،
وَيَأْتِي بِهَا فِي حَال الْقَرَارِ وَالأَْمْنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُخَيَّرُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ فِعْل الرَّوَاتِبِ
وَتَرْكِهَا إِلاَّ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ فَيُحَافَظُ
عَلَيْهِمَا سَفَرًا وَحَضَرًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُصَلِّي الرَّوَاتِبَ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي
__________
(1) ورد في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته
حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله أخرجه البخاري (االفتح2 / 578
- ط السلفية) ومسلم (1 / 487 - ط الحلبي) . واللفظ للبخاري.
(2) حديث أبي قتادة: أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر.
أخرجه مسلم (1 / 472 - 473 - ط الحلبي) .
(25/276)
الصَّحِيحَيْنِ، قَال حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ:
صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَل وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ
وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ
صَلَّى، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَال: مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ؟ قُلْتُ:
يُسَبِّحُونَ. قَال: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لأََتْمَمْتُ صَلاَتِي، يَا
ابْنَ أَخِي إِنِّي صَحِبْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ
اللَّهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى
قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ،
حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) .
هَذَا وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِسُقُوطِ عَدَالَةِ الْمُوَاظِبِ عَلَى
تَرْكِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي غَيْرِ السَّفَرِ (2) . يُنْظَرُ
تَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَة) .
عَدَدُ رَكَعَاتِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
5 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَدَدُ رَكَعَاتِ
__________
(1) سورة الأحزاب / 21 والحديث أخرجه مسلم (1 / 479 - 480) ، وأخرجه
البخاري (الفتح 2 / 577) مختصرا.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 139، المجموع 4 / 29، 400، 401، مطالب أولي النهى
1 / 548.
(25/277)
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عَشْرُ رَكَعَاتٍ،
وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: رَكْعَتَانِ قَبْل
الظُّهْرِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ،
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ. لِقَوْل
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْل الظُّهْرِ
أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَدْخُل
فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُل
بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْكْمَل فِي الرَّوَاتِبِ غَيْرِ الْوِتْرِ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ
قَبْل الظُّهْرِ، وَثِنْتَانِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ،
وَثِنْتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعِشَاءِ وَثِنْتَانِ
بَعْدَهَا.
وَعَدَّدَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوِتْرَ مِنَ
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَفْضَل الرَّوَاتِبِ الْوِتْرُ،
وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَأَفْضَلُهُمَا الْوِتْرُ عَلَى الْجَدِيدِ
الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته قبل
الظهر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 504 - ط الحلبي) .
(2) انظر المجموع 3 / 461، 462، المغني والشرح الكبير 1 / 762، 763، المبدع
2 / 14، كشاف القناع 1 / 422.
(25/277)
هُمَا سَوَاءٌ وَتَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ (1) .
قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ
النَّوَافِل أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (2) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدَعُوا رَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْل (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَدَدُ رَكَعَاتِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ اثْنَتَا
عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل
الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَانِ
بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، بِدَلِيل قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي السُّنَّةِ بَنَى
اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْل الظُّهْرِ،
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
__________
(1) فتح الباري 3 / 45، الروضة 1 / 334، كشاف القناع 1 / 414 ط عالم الكتب.
(2) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من
النوافل أشد منه تعاهدا على. . . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 45 - ط
السلفية) .
(3) حديث: " لا تدعوا ركعتي الفجر. . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 46 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) وأحمد (2 / 405 - ط الميمنية) واللفظ له، وأورده
الذهبي في الميزان (2 / 547 - ط الحلبي) وذكر أن فيه راويا مجهولا.
(25/278)
الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ زِيَادَةً عَلَى السُّنَنِ
الرَّوَاتِبِ: أَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعِشَاءِ
وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا، مِنْهَا رَكْعَتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، وَسِتٌّ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَحْدِيدَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِ السُّنَنِ
الرَّوَاتِبِ، فَيَكْفِي فِي تَحْصِيل النَّدْبِ رَكْعَتَانِ فِي كُل
وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلاَّ الْمَغْرِبَ
فَسِتُّ رَكَعَاتٍ، فَيُصَلِّي قَبْل الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا، وَقَبْل
الْعَصْرِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ. وَسُنَّةُ
الْفَجْرِ رَغِيبَةٌ - أَيْ مُرَغَّبٌ فِيهَا - وَوَقْتُهَا بَعْدَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ (3) .
سُنَّةُ الْجُمُعَةِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: تُسَنُّ الصَّلاَةُ قَبْل
الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: سُنَّةُ
__________
(1) حديث: " من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في السُّنة. . . ". أخرجه الترمذي
(2 / 273 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، ثم تكلم الترمذي على
إسناده بما يعله، ولكن أتبعه بذكر شاهد له من حديث أم حبيبة يتقوى به.
(2) فتح القدير 1 / 441، تحفة الفقهاء 2 / 195، ابن عابدين 1 / 452 - 453.
(3) انظر الشرح الصغير 1 / 550 - 557.
(25/278)
الْجُمُعَةِ الْقَبْلِيَّةُ أَرْبَعٌ،
وَالسُّنَّةُ الْبَعْدِيَّةُ أَرْبَعٌ كَذَلِكَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
أَقَل السُّنَّةِ رَكْعَتَانِ قَبْلَهَا وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا،
وَالأَْكْمَل أَرْبَعٌ قَبْلَهَا وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا (1) . لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ
الْجُمُعَةِ فَلْيُصَل أَرْبَعًا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصَلِّي قَبْلَهَا دُونَ
التَّقَيُّدِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَال
بِصَلاَةِ السُّنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَمَلَهَا عَلَى تَحِيَّةِ
الْمَسْجِدِ، وَمَنْ كَرِهَ صَلاَةَ السُّنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
كَرِهَهَا لأَِنَّهَا تُوَافِقُ وَقْتَ الاِسْتِوَاءِ غَالِبًا، لَكِنْ
لَوْ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا (3)
.
الْوِتْرُ هَل هُوَ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَوْ وَاجِبٌ؟
7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ،
وَالصَّاحِبَانِ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْوِتْرُ
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدِّ الْوِتْرِ مِنَ
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. قَال الْخَطِيبُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 452، مغني المحتاج 1 / 220.
(2) حديث: " من كان منكم مصليا بعد الجمعة. . . . ". أخرجه مسلم (2 / 600 -
ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 312، 313، 386، انظر المحرر 1 / 496، وانظر نيل
الأوطار 3 / 312 - 315.
(25/279)
الشِّرْبِينِيُّ: الْوِتْرُ قِسْمٌ مِنَ
الرَّوَاتِبِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقِيل: هُوَ
قَسِيمٌ لَهَا، وَالْوِتْرُ أَفْضَل السُّنَنِ. وَقَال جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ: أَقَلُّهُ رَكْعَةٌ وَأَكْثَرُهُ
إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَأَقَل الْكَمَال فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ
بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا، وَأَكْثَرُهُ إِحْدَى
عَشْرَةَ رَكْعَةً يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرَّاجِحِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ
وَاجِبٌ. وَقَال زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ: هُوَ فَرْضٌ. وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَة الْوِتْرِ) .
قِيَامُ رَمَضَانَ:
8 - أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ قِيَامَ
رَمَضَانَ، فَقَدْ سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قِيَامَ رَمَضَانَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ عِشْرُونَ رَكْعَةً تُؤَدَّى بَعْدَ سُنَّةِ
الْعِشَاءِ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الرَّوَاتِبِ لأَِنَّهَا
__________
(1) البناية شرح الهداية 2 / 527، تحفة الفقهاء 2 / 202 - 204، المجموع 3 /
465 - 469، القليوبي 1 / 212، مغني المحتاج 1 / 220.
(25/279)
تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، يُسَلَّمُ
عَلَى رَأْسِ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُتَرَوَّحُ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ
بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يُذْكَرُ فِيهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تُصَلَّى
الْوِتْرُ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سِتٌّ
وَثَلاَثُونَ رَكْعَةً يُسَلَّمُ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُسَنُّ لَهَا
الْجَمَاعَةُ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَال فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ (2) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ)
.
وَقْتُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
9 - السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مُقْتَرِنَةٌ بِالْفَرَائِضِ، فَمِنْهَا مَا
يُصَلَّى قَبْل الْفَرِيضَةِ، مِثْل سُنَّةِ الْفَجْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ
الْقَبْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْفَرِيضَةِ مِثْل سُنَّةِ
الظُّهْرِ الْبَعْدِيَّةِ، وَسُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ،
وَالْوِتْرِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَفْسِيرًا لَطِيفًا فِي تَقْدِيمِ
النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا فَقَال: " أَمَّا
فِي التَّقْدِيمِ فَلأَِنَّ النُّفُوسَ لاِشْتِغَالِهَا بِأَسْبَابِ
الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ عَنْ حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ الَّتِي هِيَ
رُوحُ الْعِبَادَةِ،
__________
(1) فتح القدير 1 / 466، 467، البناية 2 / 582، 586، المجموع 3 / 484،
المغني والشرح الكبير 1 / 797، 800.
(2) الشرح الكبير 1 / 315.
(25/280)
فَإِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِل عَلَى
الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ
تَقْرُبُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَأَمَّا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْهَا، فَقَدْ
وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِل جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا وَقَعَ
الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَل الَّذِي
يَقَعُ فِيهِ. وَلَكِنْ لاَ يَنْوِي فِيهِ نِيَّةَ الْجَبْرِ "
وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ قَبْل الْفَرِيضَةِ فَوَقْتُهَا
يَبْدَأُ مِنْ دُخُول وَقْتِ الْفَرِيضَةِ وَيَنْتَهِي بِإِقَامَةِ
الصَّلاَةِ إِذَا كَانَتْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ؛ لأَِنَّهُ إِذَا
أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ، حَيْثُ إِنَّ
الْفَرَائِضَ تُقَدَّمُ عَلَى النَّوَافِل دَائِمًا عِنْدَ التَّعَارُضِ،
إِلاَّ إِذَا أَيْقَنَ الْمَرْءُ أَنَّ بِإِمْكَانِهِ أَدَاءَ
النَّافِلَةِ، وَإِدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الإِْمَامِ فَلاَ بَأْسَ
عِنْدَئِذٍ مِنْ أَدَائِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُؤَدِّي
الصَّلاَةَ مُنْفَرِدًا فَوَقْتُ السُّنَّةِ يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَشْرَعَ
فِي الْفَرِيضَةِ.
وَالأَْوْلَى لِلْمَرْءِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ الدُّخُول مَعَ
الإِْمَامِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَتُدْرَكُ النَّافِلَةُ بَعْدَ
الاِنْتِهَاءِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي كُلٍّ مِنْ سُنَّةِ
الْفَجْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةِ.
أَمَّا السُّنَنُ الْبَعْدِيَّةُ: مِثْل سُنَّةِ الظُّهْرِ
(25/280)
الْبَعْدِيَّةِ وَالْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ، فَوَقْتُ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ بَعْدِ الاِنْتِهَاءِ مِنَ
الْفَرِيضَةِ إِلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ وَدُخُول وَقْتِ
الأُْخْرَى، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يُؤَدِّ السُّنَنَ
الْبَعْدِيَّةَ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ فَائِتَةً.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ الْبَعْدِيَّةِ، وَأَمَّا
صَلاَةُ الْوِتْرِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الاِنْتِهَاءِ مِنْ
سُنَّةِ الْعِشَاءِ الْبَعْدِيَّةِ، وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى قُبَيْل أَذَانِ
الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الأَْفْضَل تَأْخِيرَهَا إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل
الأَْخِيرِ.
وَأَمَّا صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ
الاِنْتِهَاءِ مِنْ سُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَيَسْتَمِرُّ إِلَى قُبَيْل
الْفَجْرِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ صَلاَةَ الْوِتْرِ بَعْدَهَا،
وَيُفَضَّل أَنْ لاَ يُؤَخِّرَهَا إِذَا كَانَ فِي التَّأْخِيرِ فَوَاتُ
الْجَمَاعَةِ؛ إِذْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كَمَا
مَرَّ آنِفًا، وَبَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنْهَا تُصَلَّى الْوِتْرُ فِي
جَمَاعَةٍ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ. وَتُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ لِلْوِتْرِ فِي
غَيْرِهِ.
مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُكْرَهُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
(1) الْقِرَاءَةُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
(25/281)
10 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ:
(الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ) : إِلَى أَنَّهُ
تُسَنُّ الْقِرَاءَةُ فِي النَّفْل وَالْوِتْرِ.
وَالْقِرَاءَةُ الْمُرَادَةُ هُنَا هِيَ ضَمُّ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ،
وَمِنَ السُّنَّةِ تَخْفِيفُ الْقِرَاءَةِ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ
فِيهَا سُورَةَ الْكَافِرُونَ وَالإِْخْلاَصِ، وَأَطَال الْقِرَاءَةَ فِي
صَلاَةِ الْفَجْرِ.
وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
مُخَفَّفَةً حَتَّى أَنِّي لأََقُول: هَل قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ
الْقُرْآنِ؟ .
وَيُسْتَحَبُّ الإِْسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَتِ النَّافِلَةُ
نَهَارًا اعْتِبَارًا بِصَلاَةِ النَّهَارِ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ
الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ فِي الصَّلاَةِ اللَّيْلِيَّةِ إِذَا كَانَ
مُنْفَرِدًا، وَالْجَهْرُ أَفْضَل بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُشَوِّشَ عَلَى
غَيْرِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّافِلَةُ أَوِ الْوِتْرُ تُؤَدَّى
(25/281)
جَمَاعَةً فَيَجْهَرُ بِهَا الإِْمَامُ
لِيُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ، وَيَتَوَسَّطُ الْمُنْفَرِدُ بِالْجَهْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ
رَكَعَاتِ النَّفْل وَالْوِتْرِ؛ لأَِنَّ كُل شَفْعٍ مِنْهُ يُعْتَبَرُ
صَلاَةً عَلَى حِدَةٍ، وَالْقِيَامُ إِلَى الثَّالِثَةِ كَتَحْرِيمَةٍ
مُبْتَدَأَةٍ. وَأَمَّا الْوِتْرُ فَلِلاِحْتِيَاطِ.
(2) فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل
أَدَاءُ النَّوَافِل فِي الْبَيْتِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَدَاءَ الرَّوَاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل.
وَذَلِكَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ
رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْل الظُّهْرِ
أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُل
فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ
يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ
وَيَدْخُل بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَسَاجِدِ الأَْمْصَارِ الْمُخْتَلِفَةِ،
وَالْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال:
(25/282)
وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ،
وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَالْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، وَإِنْ كَانَ
الأَْجْرُ يَتَضَاعَفُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ. قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ
أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ فِي الْمَكْتُوبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَدَاءُ عَامَّةِ
السُّنَنِ وَالنَّوَافِل فِي الْبَيْتِ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى أَنْ
يَتَشَاغَل عَنْهَا إِذَا رَجَعَ.
وَيَجُوزُ أَدَاءُ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَاتِبَةً
أَمْ غَيْرَ رَاتِبَةٍ، وَالأَْفْضَل أَدَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ إِذَا
كَانَتْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ
وَالْوِتْرِ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الْمَرْءُ فَضْل
الْجَمَاعَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَدَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْبَيْتِ.
(3) صَلاَةُ الرَّوَاتِبِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فُرَادَى:
(25/282)
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ
الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ النَّوَافِل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ: تُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ فِي النَّوَافِل،
لأَِنَّ شَأْنَ النَّفْل الاِنْفِرَادُ بِهِ، كَمَا تُكْرَهُ صَلاَةُ
النَّفْل فِي جَمْعٍ قَلِيلٍ بِمَكَانٍ مُشْتَهِرٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ
لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً وَالْمَكَانُ مُشْتَهِرًا فَلاَ
تُكْرَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُسْتَحَبُّ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ
وَالْوِتْرِ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ فِعْل سَائِرِ الرَّوَاتِبِ
جَمَاعَةً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَمُنْفَرِدًا؛
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ
كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَلَّى بِابْنِ
عَبَّاسٍ مَرَّةً، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً، وَأَمَّ
أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً، فَعَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ
السُّيُول لَتَحُول بَيْنِي وَبَيْنَ
(25/283)
مَسْجِدِ قَوْمِي، فَأُحِبُّ أَنْ
تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ مِنْ بَيْتِي أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا،
فَقَال: سَنَفْعَل، فَلَمَّا دَخَل قَال: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَأَشَرْتُ إِلَى
نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ.
وَكَرِهَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ تَرْكَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ خَاصَّةً
بِلاَ عُذْرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ عُذْرٌ فَلاَ بَأْسَ بِتَرْكِهَا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الرَّوَاتِبِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ كَسُنَّةِ الْفَجْرِ
وَالْمَغْرِبِ وَالْوِتْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَهِيَ فِي حَقِّ
الْمُنْفَرِدِ آكَدُ لاِفْتِقَارِهِ إِلَى تَكْمِيل الثَّوَابِ الَّذِي
فَاتَهُ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ.
صَلاَةُ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
أَدَاءُ النَّوَافِل فِي السَّفَرِ؛ لأَِنَّهَا مُكَمِّلاَتٌ لِلْفَرَائِضِ
وَلِمُدَاوَمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا فِي
جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَسْفَارِهِ، وَصَلاَتُهُ لَهَا أَحْيَانًا
رَاكِبًا، وَمِنْ ذَلِكَ صَلاَتُهُ الضُّحَى يَوْمَ
(25/283)
الْفَتْحِ، وَصَلاَتُهُ سُنَّةَ الْفَجْرِ
لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ.
وَلِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى فِعْل
الرَّوَاتِبِ عُمُومًا، وَالأَْمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَتْرُوكٌ لِلْمُكَلَّفِ
وَهِمَّتِهِ وَوَرَعِهِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ تَرْكُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ إِلاَّ فِي
السَّفَرِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا إِلاَّ الْفَجْرَ
وَالْوِتْرَ فَيُفْعَلاَنِ فِي السَّفَرِ كَالْحَضَرِ لِتَأَكُّدِهِمَا.
حُكْمُ قَضَائِهَا إِذَا فَاتَتْ:
14 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ عُمُومًا إِذَا فَاتَتْ
فَإِنَّهَا لاَ تُقْضَى، إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ
الْفَرِيضَةِ فَإِنَّهَا تُقْضَى مَعَهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ،
أَمَّا إِذَا فَاتَتْهُ وَحْدَهَا فَلاَ يَقْضِيهَا قَبْل طُلُوعِ
الشَّمْسِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ مُطْلَقِ النَّفْل، وَهُوَ مَكْرُوهٌ بَعْدَ
الصُّبْحِ إِلَى أَنْ
(25/284)
تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَثْبُتْ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَّاهُمَا فِي غَيْرِ
وَقْتِهِمَا عَلَى الاِنْفِرَادِ، وَإِنَّمَا قَضَاهُمَا تَبَعًا
لِلْفَرْضِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ لاَ يَقْضِيهِمَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا، وَعِنْدَ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَقْضِيهِمَا إِلَى وَقْتِ الزَّوَال
لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَضَاهُمَا بَعْدَ
ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ، وَلَيْلَةُ
التَّعْرِيسِ كَانَتْ حِينَ قَفَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَاجِعًا مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
وَأَمَّا سُنَّةُ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةُ إِذَا فَاتَتْ فَإِنَّهَا
تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرْضِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيمِهَا عَلَى
السُّنَّةِ الْبَعْدِيَّةِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا، فَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُؤَدِّيهِمَا بَعْدَ السُّنَّةِ
الْبَعْدِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَدِّيهِمَا قَبْل السُّنَّةِ
الْبَعْدِيَّةِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ
فَرَائِضِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَال
بَعْضُهُمْ: لاَ تُقْضَى تَبَعًا كَمَا لاَ تُقْضَى قَصْدًا، وَهُوَ
الأَْصَحُّ. وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ: تُقْضَى تَبَعًا لِلْفَرْضِ
بِنَاءً عَلَى جَعْل الْوَارِدِ فِي قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَارِدًا
فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّنَنِ
(25/284)
الْفَائِتَةِ مَعَ فَرَائِضِهَا إِلْغَاءً
لِخُصُوصِ الْمَحَل.
وَقَدِ اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ قَضَاءِ
سُنَّةِ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا: بِأَنَّ السُّنَّةَ عُمُومًا
لاَ تُقْضَى لاِخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ بِالْوَاجِبِ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ
تَسْلِيمُ مِثْل مَا وَجَبَ بِالأَْمْرِ. وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي
قَضَائِهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الأَْصْل،
وَإِنَّمَا تُقْضَى تَبَعًا لَهُ. وَهُوَ لاَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ أَوْ
وَحْدَهُ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال.
وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَل بَيْتِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّيْتَ صَلاَةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا؟ فَقَال: قَدِمَ
عَلَيَّ مَالٌ فَشَغَلَنِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ كُنْتُ أَرْكَعُهُمَا
بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الآْنَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ،
أَفَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ فَقَال: لاَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُقْضَى مِنَ النَّوَافِل إِلاَّ سُنَّةُ
الْفَجْرِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ صَلاَةِ
(25/285)
الصُّبْحِ أَمْ لاَ، وَنُقِل عَنْ
بَعْضِهِمُ الْقَوْل بِحُرْمَةِ قَضَاءِ النَّوَافِل مَا عَدَا سُنَّةَ
الْفَجْرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الْمَذْهَبِ: يُسْتَحَبُّ
قَضَاءُ النَّوَافِل الْمُؤَقَّتَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّ
السُّنَنَ الْمُؤَقَّتَةَ لاَ تُقْضَى إِذَا فَاتَتْ، لأَِنَّهَا نَوَافِل،
فَهِيَ تُشْبِهُ النَّوَافِل غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ، وَهَذِهِ لاَ تُقْضَى
إِذَا فَاتَتْ. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ لَمْ يَتْبَعِ
النَّفَل الْمُؤَقَّتُ غَيْرَهُ كَالضُّحَى قُضِيَ لِشَبَهِهِ بِالْفَرْضِ
فِي الاِسْتِقْلاَل، وَإِنْ تَبِعَ غَيْرَهُ كَالرَّوَاتِبِ فَلاَ تُقْضَى.
وَاسْتَدَلُّوا لِلأَْظْهَرِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ
يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا وَلِقَضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُنَّةَ الْفَجْرِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ
فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ. وَبِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ السَّابِقِ.
(25/285)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُقْضَى السُّنَنُ
الرَّوَاتِبُ الْفَائِتَةُ مَعَ الْفَرَائِضِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً،
فَإِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً فَالأَْوْلَى تَرْكُهَا، إِلاَّ سُنَّةَ
الْفَجْرِ فَإِنَّهَا تُقْضَى وَلَوْ كَثُرَتْ. وَاحْتَجُّوا
لأَِوْلَوِيَّةِ تَرْكِ مَا كَثُرَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، لَمْ يُنْقَل عَنْهُ أَنَّهُ
صَلَّى بَيْنَ الْفَرَائِضِ الْمَقْضِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الاِشْتِغَال
بِالْفَرْضِ أَوْلَى.
قَال الْحَنَابِلَةُ: لِلزَّوْجَةِ وَالأَْجِيرِ - وَلَوْ خَاصًّا - فِعْل
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرْضِ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ وَلاَ
يَجُوزُ مَنْعُهُمَا مِنَ السُّنَنِ لأَِنَّ زَمَنَهَا مُسْتَثْنًى شَرْعًا
كَالْفَرَائِضِ.
سِنَّوْر
انْظُرْ: هِرَّة
(25/286)
سَهْو
انْظُرْ: سُجُود السَّهْوِ
سَوْدَاء
انْظُرْ: لِبَاس
سِوَارٌ
انْظُرْ: حُلِيّ
سُوبْيَا
انْظُرْ: أَشْرِبَة
(25/286)
سُورَة
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّورَةُ لُغَةً: السُّورَةُ بِالضَّمِّ: الْمَنْزِلَةُ، وَخَصَّهَا
ابْنُ السَّعِيدِ بِالرِّفْعَةِ، وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِالشَّرَفِ.
وَقِيل: الدَّرَجَةُ، وَقِيل: مَا طَال مِنَ الْبِنَاءِ وَحَسُنَ، وَقِيل:
هِيَ الْعَلاَمَةُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهَا: طَائِفَةٌ
مُتَمَيِّزَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ ذَاتُ مَطْلَعٍ وَخَاتِمَةٍ.
وَقِيل: السُّورَةُ تَمَامُ جُمْلَةٍ مِنَ الْمَسْمُوعِ تُحِيطُ بِمَعْنًى
تَامٍّ بِمَنْزِلَةِ إِحَاطَةِ السُّورِ بِالْمَدِينَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْآنُ:
2 - الْقُرْآنُ: هُوَ الْمُنَزَّل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(25/287)
الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ،
الْمَنْقُول عَنْهُ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا بِلاَ شُبْهَةٍ.
الآْيَاتُ:
3 - الآْيَاتُ: جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ لُغَةً: الْعَلاَمَةُ وَالْعِبْرَةُ.
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ جُزْءٌ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ
أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ تَوْقِيفًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
السُّورَةِ أَنَّ السُّورَةَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا اسْمٌ خَاصٌّ
بِهَا، وَلاَ تَقِل عَنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ، وَأَمَّا الآْيَةُ فَقَدْ يَكُونُ
لَهَا اسْمٌ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ، وَهُوَ
الأَْكْثَرُ.
(ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ آيَة) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَنْكِيسُ السُّوَرِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ:
4 - مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يُسْتَحَبُّ
قِرَاءَةُ سُوَرِهِ مُرَتَّبَةً كَمَا هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ،
وَكَرِهُوا لِلْقَارِئِ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَ الصَّلاَةِ أَنْ
يُنَكِّسَ السُّوَرَ كَأَنْ يَقْرَأَ {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثُمَّ يَقْرَأَ
{وَالضُّحَى} ،
(25/287)
فَقَدْ سُئِل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
مَنْكُوسًا. قَال: ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ هَذَا التَّنْكِيسَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ،
كَتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ. أَوْ عَلَى وَجْهِ
الذِّكْرِ، وَلَكِنْ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ ذَلِكَ خِلاَفُ
الأَْوْلَى.
(ر: قُرْآن وَمُصْحَف) .
حُكْمُ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ فِي كُل
رَكْعَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ صَلاَةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. إِلاَّ أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: هِيَ رُكْنٌ مُطْلَقًا، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهَا فَرْضٌ لِغَيْرِ الْمَأْمُومِ فِي صَلاَةٍ
جَهْرِيَّةٍ وَفِي الْمَذْهَبِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي
الصَّلاَةِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَلَكِنِ الْفَرْضُ فِي
(25/288)
الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ قِرَاءَةُ مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ
بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، وَتَقْيِيدُهُ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مُطْلَقِ النَّصِّ، وَهَذَا لاَ
يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ نُسِخَ فَيَكُونُ أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ فَرْضًا لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ.
تَرْكُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ عَمْدًا فِي الصَّلاَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ السُّورَةِ
الَّتِي بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَكِنِ الْخِلاَفُ وَقَعَ فِيمَنْ
تَرَكَهَا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا. ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
(سَهْو. صَلاَة) .
قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ مِنْ
الصَّلاَةِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ قِرَاءَةُ
(25/288)
سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ، لأَِنَّ عَامَّةَ صَلاَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ يَقْرَأُ فِيهَا شَيْئًا،
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّالِثَةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ
قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ، وَإِنْ قَرَأَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ عَلَى
وَجْهِ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ.
(ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ صَلاَة) .
تَكْرَارُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الأُْولَيَيْنِ:
8 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُكَرِّرَ
السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى،
فَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتْ} فِي
الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَلاَ أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا.
وَحَدِيثُ الرَّجُل الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَكَانَ يَقْرَأُ
قَبْل كُل سُورَةٍ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(25/289)
فَقَال: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَال لَهُ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُبُّكَ إِيَّاهَا
أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ تَكْرَارِ السُّورَةِ، وَقَال
بَعْضُهُمْ: هُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى. فَقَدْ قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - " لِكُل سُورَةٍ حَظُّهَا مِنَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ
جَمْعُ السُّورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ
السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ
بِمَا ثَبَتَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ
سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآل عِمْرَانَ وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ:
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ -
فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّل، سُورَتَيْنِ مِنْ آل
حَامِيمَ فِي كُل رَكْعَةٍ.
(25/289)
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ
النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ السُّوَرِ فِي
الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فَقَالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يَكُونَ فِي
النَّوَافِل لِمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ حَيْثُ إِنَّهَا
كَانَتْ فِي النَّافِلَةِ، كَقِيَامِ اللَّيْل وَغَيْرِهِ، وَاسْتَحَبُّوا
فِي الْفَرِيضَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ
يُصَلِّي أَكْثَر صَلاَتِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى فَهِيَ كَمَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ
الْكَرَاهِيَةُ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةٍ فِي صَلاَتِهِ. وَلِقَوْل عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَمَا قَال لَهُ
رَجُلٌ: إِنِّي قَرَأْتُ الْمُفَصَّل فِي رَكْعَةٍ، قَال: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَوْ شَاءَ لأََنْزَلَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ فَصَّلَهُ
لِتُعْطَى كُل سُورَةٍ حَظَّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
(25/290)
قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي صَلاَةِ
الْجِنَازَةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي
صَلاَةِ الْجِنَازَةِ قِرَاءَةٌ، وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي قِرَاءَتِهَا
إِنَّمَا كَانَ يُقْرَأُ فِي سَبِيل الثَّنَاءِ لاَ عَلَى وَجْهِ
الْقِرَاءَةِ. وَلِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا
قَوْلاً، وَلاَ قِرَاءَةً وَلأَِنَّ مَا لاَ رُكُوعَ فِيهِ لاَ قِرَاءَةَ
فِيهِ، كَسُجُودِ التِّلاَوَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ
سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ
فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَال: إِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، أَوْ
مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ فَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقْرَأَ عَلَى
الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَأَيْضًا هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ
قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ
يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ.
(25/290)
وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ يَجِبُ فِيهَا
الْقِيَامُ فَوَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ قِرَاءَتِهَا؛ لأَِنَّ
صَلاَةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَ فِيهَا التَّخْفِيفُ وَلِهَذَا لاَ يُقْرَأُ
فِيهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ شَيْءٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِز) .
(25/291)
سَوْم
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّوْمُ: عَرْضُ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَيْعِ، يُقَال: سُمْتُ
بِالسِّلْعَةِ أَسُومُ بِهَا سَوْمًا، وَسَاوَمْتُ وَاسْتَمْتُ بِهَا
وَعَلَيْهَا: غَالَيْتُ، وَيُقَال: سُمْتُ فُلاَنًا سِلْعَتِي سَوْمًا:
إِذَا قُلْتَ: أَتَأْخُذُهَا بِكَذَا مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْمُسَاوَمَةُ: الْمُجَاذَبَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى
السِّلْعَةِ وَفَضْل ثَمَنِهَا.
قَال الْفَيُّومِيُّ: سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ سَوْمًا: عَرَضَهَا
لِلْبَيْعِ، وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي وَاسْتَامَهَا: طَلَبَ بَيْعَهَا.
وَسَامَتِ الرَّاعِيَةُ وَالْمَاشِيَةُ وَالْغَنَمُ تَسُومُ سَوْمًا:
رَعَتْ بِنَفْسِهَا حَيْثُ شَاءَتْ، فَهِيَ سَائِمَةٌ، وَالسَّوَامُ
وَالسَّائِمَةُ: الأَْنْعَامُ الرَّاعِيَةُ. وَأَسَامَهَا هُوَ وَسَامَهَا:
رَعَاهَا.
(25/291)
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ
السَّوْمِ بِمَعْنَى الرَّعْيِ فِي الْكَلأَِ الْمُبَاحِ فِي بَابِ
الزَّكَاةِ، وَبِمَعْنَى عَرْضِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ مَا
وَيَطْلُبُهُ مَنْ يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا بِثَمَنٍ دُونَهُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّجْشُ:
2 - النَّجْشُ - بِسُكُونِ الْجِيمِ - مَصْدَرٌ، وَبِالْفَتْحِ اسْمُ
مَصْدَرٍ.
هُوَ: أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلاَ يُرِيدَ الشِّرَاءَ أَوْ
يَمْدَحَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِيُرَوِّجَهُ، وَيَجْرِي فِي النِّكَاحِ
وَغَيْرِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّوْمِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ يَرْغَبُ
فِي الشَّيْءِ وَالْمُسَاوِمَ يَرْغَبُ فِيهِ.
ب - الْمُزَايَدَةُ:
3 - بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ وَيُسَمَّى بَيْعَ الدَّلاَلَةِ: أَنْ يُنَادِيَ
عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،
حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ مَنْ يَزِيدُ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا. وَهَذَا
بَيْعٌ جَائِزٌ.
(25/292)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّوْمِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: السَّوْمُ فِي الزَّكَاةِ:
4 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ كَوْنُهَا سَائِمَةً فِي
كَلإٍَ مُبَاحٍ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي كِتَابِ
الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا
كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ. . . الْحَدِيثَ.
فَذِكْرُ السَّوْمِ فِي الْحَدِيثِ قَيْدٌ يَدُل عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ
فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ. وَاخْتُصَّتِ السَّائِمَةُ بِالزَّكَاةِ
لِتَوَفُّرِ مُؤْنَتِهَا بِالرَّعْيِ فِي كَلأٍَ مُبَاحٍ.
وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ أَنْ تَكُونَ الإِْسَامَةُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْل؛
لأَِنَّ مَال الزَّكَاةِ هُوَ الْمَال النَّامِي وَالْمَال النَّامِي فِي
الْحَيَوَانِ بِالإِْسَامَةِ إِذْ بِهَا يَحْصُل النَّسْل فَيَزْدَادُ
الْمَال. فَإِنْ كَانَتِ السَّائِمَةُ لِلْحَمْل وَالرُّكُوبِ فَلاَ
زَكَاةَ فِيهَا، لأَِنَّهَا تَصِيرُ كَثِيَابِ الْبَدَنِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الإِْسَامَةُ أَكْثَرَ الْعَامِ لأَِنَّ
الأَْكْثَرَ لَهُ حُكْمُ الْكُل، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
(25/292)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ
تَفْصِيلٌ: فَعِنْدَهُمْ إِنْ عُلِفَتْ مُعْظَمَ الْحَوْل فَلاَ زَكَاةَ
فِيهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ عُلِفَتْ دُونَ الْمُعْظَمِ فَالأَْصَحُّ: إِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا
تَعِيشُ بِدُونِهِ بِلاَ ضَرَرٍ بَيِّنٍ، وَجَبَتْ زَكَاتُهَا لَحْظَةَ
الْمُؤْنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَعِيشُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِدُونِهِ
أَوْ تَعِيشُ وَلَكِنْ بِضَرَرٍ بَيِّنٍ فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا
لِظُهُورِ الْمُؤْنَةِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِيهِ الإِْسَامَةَ مِنَ الْمَالِكِ، فَلَوْ
سَامَتِ الْمَاشِيَةُ بِنَفْسِهَا أَوْ أَسَامَهَا غَاصِبٌ أَوْ مُشْتَرٍ
شِرَاءً فَاسِدًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ إِسَامَةِ
الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ قَصْدُهُ لأَِنَّ السَّوْمَ يُؤَثِّرُ
فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَصْدُهُ.
وَهَذَا مُقْتَضَى كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا اسْتَظْهَرَ ابْنُ
عَابِدِينَ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ، فَلَوْ سَامَتْ
بِنَفْسِهَا أَوْ أَسَامَهَا غَاصِبٌ فَفِيهَا الزَّكَاةُ كَمَنْ غَصَبَ
حَبًّا وَزَرَعَهُ فِي أَرْضِ رَبِّهِ، فَفِيهِ الْعُشْرُ عَلَى مَالِكِهِ
(1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ (زَكَاة) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 15 - 16 والبدائع 2 / 30 ومغني المحتاج 1 / 379 - 380،
والقليوبي 2 / 14، وكشاف القناع 2 / 183 - 184 وشرح منتهى الإرادات 1 /
374.
(25/293)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَعِنْدَهُمْ
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَاشِيَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَائِمَةً أَمْ
مَعْلُوفَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ عَامِلَةً أَمْ مُهْمَلَةً، لِعُمُومِ
مَنْطُوقِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل فَمَا
دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُل خَمْسٍ شَاةٌ (1) .
وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّائِمَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لاَ
لِلاِحْتِرَازِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الأَْنْعَامِ فِي أَرْضِ
الْحِجَازِ السَّوْمُ، وَالتَّقْيِيدُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ
لاَ يَكُونُ حُجَّةً بِالإِْجْمَاعِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ (زَكَاة) .
ثَانِيًا: السَّوْمُ فِي الْبَيْعِ:
5 - إِذَا كَانَ السَّوْمُ قَبْل الاِتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي عَلَى
الثَّمَنِ فَلاَ حُرْمَةَ فِيهِ وَلاَ كَرَاهَةَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ
الْمُزَايَدَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. أَمَّا بَعْدَ الاِتِّفَاقِ عَلَى
مَبْلَغِ الثَّمَنِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَرَّمٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: بُيُوعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَمُزَايَدَةٌ.
__________
(1) حديث: " في أربع وعشرين. . . . ". تقدم تخريجه ف4.
(2) الفواكه الدواني 1 / 396.
(25/293)
وَلَكِنِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لاِسْتِكْمَال أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ، وَهُوَ
بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا وَقَعَ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ
(خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ) لأَِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 132 والفواكه الدواني 2 / 156 والقليوبي 2 / 183 وكشاف
القناع 3 / 183.
(25/294)
سِيَاسَة
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلسِّيَاسَةِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:
الأَْوَّل: فِعْل السَّائِسِ، وَهُوَ مَنْ يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ
وَيُرَوِّضُهَا.
يُقَال: سَاسَ الدَّابَّةَ يَسُوسُهَا سِيَاسَةً.
الثَّانِي: الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا يُصْلِحُهُ. يُقَال: سَاسَ
الأَْمْرَ سِيَاسَةً: إِذَا دَبَّرَهُ.
وَسَاسَ الْوَالِي الرَّعِيَّةَ: أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَتَوَلَّى
قِيَادَتَهُمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السِّيَاسَةَ فِي اللُّغَةِ تَدُل عَلَى
التَّدْبِيرِ وَالإِْصْلاَحِ وَالتَّرْبِيَةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تَأْتِي لَمَعَانٍ،
__________
(1) الصحاح، والقاموس المحيط، والتاج، واللسان، والمصباح، والمغرب، وأساس
البلاغة، والنهاية، والمعجم الوسيط.
(25/294)
2 - مِنْهَا: الأَْوَّل: مَعْنًى عَامٌّ
يَتَّصِل بِالدَّوْلَةِ وَالسُّلْطَةِ. فَيُقَال: هِيَ اسْتِصْلاَحُ
الْخَلْقِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُنَجِّي فِي الْعَاجِل
وَالآْجِل، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ (1) .
وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ: " السِّيَاسَةُ: إِصْلاَحُ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ،
وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ " (2) وَقَدْ أَطْلَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
السِّيَاسَةِ اسْمَ: " الأَْحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ " (3) أَوِ "
السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ " (4) ، أَوِ " السِّيَاسَةُ الْمَدَنِيَّةُ "
(5) .
__________
(1) الكليات - أبو البقاء 3 / 31 - تحقيق عدنان درويش، ومحمد المصري ط -
وزارة الثقافة - دمشق 1974م، وجامع الرموز شرح مختصر الوقاية، القهستاني 2
/ 290 ط محرم البوسنوي 1300 هـ، وحاشية ابن عابدين 4 / 15 ط2 الحلبي - 1386
هـ - 1966م، وكشاف اصطلاحات الفنون - التهانوي 1 / 644 - 665ط. كلكته
1862م.
(2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق - ابن نجيم 5 / 76 ط. العلمية - القاهرة
1311 هـ وطلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية 167ط. المثنى - بغداد 1113 هـ
والتجريد لنفع العبيد حاشية البجيرمي 2 / 178 ط. المكتبة الإسلامية - ديار
بكر - تركيا. والسياسة الشرعية - أو نظام الدولة الإسلامية 14ط. السلفية -
القاهرة 1350 هـ، والكليات 3 / 31، ودستور العلماء 2 / 194.
(3) كما فعل الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية ط. العلمية - بيروت، وأبو
يعلى في الأحكام السلطانية ط1 - الحلبي - 1356 هـ 1938 م.
(4) أطلقها ابن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية
" ط - المكتبة العربية - بيروت - 1386.
(5) وقد ورد في تعريف أبي البقاء، وصاحب دستور العلماء.
(25/295)
وَلَمَّا كَانَتِ السِّيَاسَةُ بِهَذَا
الْمَعْنَى أَسَاسَ الْحُكْمِ، لِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَفْعَال رُؤَسَاءِ
الدُّوَل، وَمَا يَتَّصِل بِالسُّلْطَةِ " سِيَاسَةٌ " وَقِيل بِأَنَّ
الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى - رِئَاسَةَ الدَّوْلَةِ - " مَوْضُوعَةٌ
لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا
(1) " وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ عِلْمَ السِّيَاسَةِ: " هُوَ الْعِلْمُ
الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ أَنْوَاعُ الرِّيَاسَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ
الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَحْوَالُهَا: مِنْ أَحْوَال
السَّلاَطِينِ وَالْمُلُوكِ وَالأُْمَرَاءِ وَأَهْل الاِحْتِسَابِ
وَالْقَضَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَزُعَمَاءِ الأَْمْوَال وَوُكَلاَءِ بَيْتِ
الْمَال، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ.
وَمَوْضُوعُهُ الْمَرَاتِبُ الْمَدَنِيَّةُ وَأَحْكَامُهَا، وَالسِّيَاسَةُ
بِهَذَا الْمَعْنَى فَرْعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ (2) .
وَلَعَل أَقْدَمَ نَصٍّ وَرَدَتْ فِيهِ كَلِمَةُ " السِّيَاسَةِ "
بِالْمَعْنَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُكْمِ هُوَ قَوْل عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ فِي وَصْفِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -: " إِنِّي وَجَدْتُهُ وَلِيَّ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ،
وَالطَّالِبَ
__________
(1) نصيحة الملوك - الماوردي 51 - تحقيق خضر محمد خضر ط - مكتبة الفلاح،
ودستور العلماء 2 / 194.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 386، ومفتاح السعادة - طاش كبرى زاده 1 / 665
ط - 1 الكتب العلمية - بيروت 1405 هـ - 1985م. ودستور العلماء 2 / 48.
(25/295)
بِدَمِهِ، الْحَسَنَ السِّيَاسَةِ،
الْحَسَنَ التَّدْبِيرِ (1) .
3 - الْمَعْنَى الثَّانِي: يَتَّصِل بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ أَنَّ
السِّيَاسَةَ: " فِعْل شَيْءٍ مِنَ الْحَاكِمِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا،
وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ الْفِعْل دَلِيلٌ جُزْئِيٌّ " (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْزِيرُ:
هُوَ تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لاَ حَدَّ فِيهِ وَلاَ كَفَّارَةَ غَالِبًا،
سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ. وَمَنْ نَظَرَ
إِلَى الْعُقُوبَةِ قَال: هُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ.
أَوْ قَال: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ
لِلْعَبْدِ.
وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: التَّعْزِيرُ لاَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرٍ
مَعْلُومٍ. بَل هُوَ بِحَسَبِ الْجَرِيمَةِ فِي جِنْسِهَا وَصِفَتِهَا
وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا. وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُمْكِنُ أَنْ
يَزِيدَ عَنِ الْحَدِّ.
__________
(1) تاريخ الرسل والملوك - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 5 / 68 - تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم (2 - دار المعارف - مصر - 1387 هـ - 1967م) .
(2) البحر الرائق 5 / 11، وحاشية ابن عابدين 4 / 15.
(25/296)
وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْحَدَّ فِي لِسَانِ
الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ (1) .
فَالتَّعْزِيرُ أَخَصُّ مِنَ السِّيَاسَةِ.
الْمَصْلَحَةُ:
4 - الْمَصْلَحَةُ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ. وَمَقْصُودُ
الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ:
وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ،
وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ. فَكُل مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الأُْصُول
الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ. وَكُل مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الأُْصُول
فَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ.
أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ
بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ (&# x662
;) فَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاسَةِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية - الماوردي ص 226، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
263، حاشية البجيرمي 4 / 236، وإعلام الموقعين 2 / 99، والفروع 6 / 104،
116، درر الحكام في شرح غرر الأحكام - منلا خسرو 2 / 74 - 75 (ط - أحمد
كامل - استنبول - 1330 هـ) وتعريفات الجرجاني 55 (ط - الحلبي - 1357 هـ -
1938م) جامع الرموز (2 / 397، إعلام الموقعين 2 / 29.
(2) المستصفى من علم الأصول - الغزالي 1 / 286 - 287 (ط1 - الأميرية -
بولاق 1322 هـ) . وروضة الناظر وجنة المناظر - ابن قدامة المقدسي ص 148 -
149 (ط1 - الكتاب العربي - بيروت - 1401 هـ - 1981م) . وإرشاد الفحول إلى
تحقيق الحق من علم الأصول - الشوكاني (ط1 - الحلبي 1356 هـ - 1937م) ،
الموافقات في أصول الشريعة (2 / 25 - 48 ط - المكتبة التجارية - مصر) .
(25/296)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
لِلسُّلْطَانِ سُلُوكَ السِّيَاسَةِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ النَّاسِ
وَتَقْوِيمِ الْعِوَجِ، وَفْقَ مَعَايِيرَ وَضَوَابِطَ يَأْتِي بَيَانُهَا،
وَلاَ تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: السِّيَاسَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ،
وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ
- بَعْدَ قَوَاعِدِ الإِْيمَانِ - عَلَى حَسْمِ مَوَادِّ الْفَسَادِ
لِبَقَاءِ الْعَالَمِ (1) . وَقَال الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ:
إِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الأَْحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ
لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَل تَشْهَدُ لَهُ الأَْدِلَّةُ، وَتَشْهَدُ
لَهُ الْقَوَاعِدُ، وَمِنْ أَهَمِّهَا كَثْرَةُ الْفَسَادِ وَانْتِشَارُهُ،
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي قَال بِهَا مَالِكٌ وَجَمْعٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ (2) .
وَقَال أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 15.
(2) نقل ذلك عنه ابنه فرحون المالكي في تبصرة الحكام في أصول الأقضية
ومناهج الأحكام (2 / 150 - 152 (ط - الحلبي - 1378 هـ - 1958م) .
(25/297)
لِلسُّلْطَانِ سُلُوكُ السِّيَاسَةِ،
وَهُوَ الْحَزْمُ عِنْدَنَا، وَلاَ يَخْلُو مِنَ الْقَوْل فِيهِ إِمَامٌ.
وَلاَ تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ؛ إِذِ
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ قَتَلُوا
وَمَثَّلُوا وَحَرَقُوا الْمَصَاحِفَ. وَنَفَى عُمَرُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ
خَوْفَ فِتْنَةِ النِّسَاءِ. وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ
الْمُرْسَلَةِ (1) .
وَقَدْ حَذَّرَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ إِفْرَاطِ مَنْ مَنَعَ الأَْخْذَ
بِالسِّيَاسَةِ، مُكْتَفِيًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَتَفْرِيطِ
مَنْ ظَنَّ أَنَّ الأَْخْذَ بِهَا يُبِيحُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ فَرْضَ مَا
يَرَاهُ مِنْ عُقُوبَةٍ عَلَى هَوَاهُ. . ثُمَّ قَال: وَكِلاَ
الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ
اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَل بِهِ كِتَابَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ أَرْسَل رُسُلَهُ، وَأَنْزَل كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْل الَّذِي قَامَتْ بِهِ الأَْرْضُ
وَالسَّمَوَاتُ. فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْل وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ
بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، فَأَيُّ طَرِيقٍ
اسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْل وَالْقِسْطُ، فَهِيَ مِنَ الدِّينِ (2) .
__________
(1) الطرق الحكمية 13، والفروع - أبو عبد الله بن مفلح - 6 / 115، 116 -
(ط4 - عالم الكتب - بيروت - 1405 هـ - 1985م) .
(2) إعلام الموقعين 4 / 372 - 373، والطرق الحكمية 13 - 14.
(25/297)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا
إِلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ
لاَ تَتَعَدَّاهَا. حَتَّى قَالُوا: لاَ سِيَاسَةَ إِلاَّ مَا وَافَقَ
الشَّرْعَ. وَبِذَلِكَ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الأَْخْذِ
بِالسِّيَاسَةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ
الاِقْتِصَارِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصٌ بِخُصُوصِهِ (1) .
أَقْسَامُ السِّيَاسَةِ:
6 - تُقْسَمُ السِّيَاسَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ: سِيَاسَةٍ ظَالِمَةٍ
تُحَرِّمُهَا الشَّرِيعَةُ. وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ تُظْهِرُ الْحَقَّ
وَتَدْفَعُ الْمَظَالِمَ وَتَرْدَعُ أَهْل الْفَسَادِ، وَتُوَصِّل إِلَى
الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ
اعْتِمَادَهَا وَالسَّيْرَ عَلَيْهَا (2) وَالسِّيَاسَةُ الْعَادِلَةُ مِنَ
الشَّرِيعَةِ، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا،
وَمَا يُسَمِّيهِ أَكْثَرُ السَّلاَطِينِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ - لاَ بِالْعِلْمِ - سِيَاسَةً، فَلَيْسَ
بِشَيْءٍ (3) .
__________
(1) الطرق الحكمية - ابن القيم الجوزية 13 (ط - السنة المحمدية - القاهرة
1372 هـ - 1952م) ، وإعلام الموقعين عن رب العالمين - ابن قيم الجوزية 4 /
378 (ط1 - السعادة - مصر - 1374هـ - 1955م) .
(2) تبصرة الحكام 1 / 132، والطرق الحكمية 5، ومعين الحكام 207، وحاشية ابن
عابدين 4 / 15.
(3) الطرق الحكمية 5، والفروع 6 / 431، والبحر الرائق 5 / 76، وكشاف
اصطلاحات الفنون 1 / 665.
(25/298)
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي
دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَكَانَ الْحُكْمُ وَالسِّيَاسَةُ شَيْئًا
وَاحِدًا. ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَتِ الدَّوْلَةُ ظَهَرَ الْفَصْل بَيْنَ
الشَّرْعِ وَالسِّيَاسَةِ؛ لأَِنَّ أَهْل السُّلْطَةِ صَارُوا يَحْكُمُونَ
بِالأَْهْوَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: تَقْسِيمُ بَعْضِهِمْ طُرُقَ الْحُكْمِ إِلَى
شَرِيعَةٍ وَسِيَاسَةٍ، كَتَقْسِيمِ غَيْرِهِمُ الدِّينَ إِلَى شَرِيعَةٍ
وَحَقِيقَةٍ، وَكَتَقْسِيمِ آخَرِينَ الدِّينَ إِلَى عَقْلٍ وَنَقْلٍ. .
وَكُل ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ؛ بَل السِّيَاسَةُ، وَالْحَقِيقَةُ،
وَالطَّرِيقَةُ، وَالْعَقْل، كُل ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ. فَالصَّحِيحُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ لاَ
قَسِيمٌ لَهَا، وَالْبَاطِل ضِدُّهَا وَمُنَافِيهَا، وَهَذَا الأَْصْل مِنْ
أَهَمِّ الأُْصُول وَأَنْفَعِهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ،
وَهُوَ عُمُومُ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ فِي
مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْوِجْ
أُمَّتَهُ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمْ إِلَى مَنْ
يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ بِهِ (2) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11 / 551، 25 / 392 (ط - مكتبة
المعارف - الرباط) .
(2) إعلام الموقعين 3 / 375.
(25/298)
حُسْنُ سِيَاسَةِ الإِْمَامِ
لِلرَّعِيَّةِ:
7 - إِنَّ لِلسِّيَاسَةِ أَثَرًا كَبِيرًا فِي الأُْمَّةِ، فَحُسْنُ
السِّيَاسَةِ يَنْشُرُ الأَْمْنَ، وَالأَْمَانَ فِي أَنْحَاءِ الْبِلاَدِ.
وَعِنْدَئِذٍ يَنْطَلِقُ النَّاسُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
مُطْمَئِنِّينَ، فَتَنْمُو الثَّرْوَةُ، وَيَعُمُّ الرَّخَاءُ، وَيَقْوَى
أَمْرُ الدِّينِ.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِلإِْمَامِ
سِيَاسَةٌ حَازِمَةٌ، تَهْتَمُّ بِكُل أُمُورِ الأُْمَّةِ، صَغِيرِهَا
وَكَبِيرِهَا، وَتُرَغِّبُ النَّاسَ بِفِعْل الْخَيْرَاتِ، وَتُثِيبُ عَلَى
الْفِعْل الْجَمِيل، كَمَا تُحَذِّرُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ
وَتُعَاقِبُ عَلَيْهِ وَتَقْطَعُ دَابِرَ دُعَاتِهِ وَمُقْتَرِفِيهِ،
وَبِغَيْرِ هَذِهِ السِّيَاسَةِ تَضْعُفُ الدَّوْلَةُ وَتَنْهَارُ
وَتَخْرَبُ الْبِلاَدُ.
وَالسِّيَاسَةُ الْحَازِمَةُ الْمُحَقِّقَةُ لِخَيْرِ الأُْمَّةِ هِيَ
الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الإِْمَامُ بَيْنَ اللِّينِ وَالْعُنْفِ،
وَيُقَدِّمُ اللِّينَ عَلَى الشِّدَّةِ، وَالدَّعْوَةَ الْحَسَنَةَ عَلَى
الْعُقُوبَةِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِإِصْلاَحِ دِينِ النَّاسِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ
صَلاَحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَأَعْظَمُ عَوْنٍ عَلَى ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أُمُورٍ:
الأَْوَّل: الإِْخْلاَصُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ.
(25/299)
وَالثَّانِي: الإِْحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ
بِالنَّفْعِ وَالْمَال.
وَالثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ (1)
.
قَوَاعِدُ السِّيَاسَةِ:
أُسُسُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ: هِيَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ
الأَْسَاسِيَّةُ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا دَوْلَةُ الإِْسْلاَمِ،
وَيُسْتَلْهَمُ مِنْهَا النَّهْجُ السِّيَاسِيُّ لِلْحُكْمِ.
الأَْسَاسُ الأَْوَّل: سِيَادَةُ الشَّرِيعَةِ:
8 - يُؤَكِّدُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ السِّيَادَةَ فِي أَكْثَرَ
مِنْ مَوْضِعٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَل ضَلاَلاً مُبِينًا} (2) وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحَاسِبِينَ} (3) قَال
__________
(1) المنهج المسلوك في سياسة الملوك لعبد الرحمن بن عبد الله بن نصر
الشيزري ص 90 (ط - 1326 هـ) دستور العلماء 2 / 194، والتبر المسبوك في
نصائح الملوك - الغزالي 53، 70، 71، 83 (ط1 - الخيرية - مصر - 1306 هـ) ،
ونصيحة الملوك 223، والسياسة الشرعية - ابن تيمية 112، 113.
(2) سورة الأحزاب / 36.
(3) سورة الأنعام / 62.
(25/299)
ابْنُ جَرِيرٍ: أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ
وَالْقَضَاءُ دُونَ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ (1) ، وَذَلِكَ حَقٌّ
فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ؛ لأَِنَّ مَبْنَى الْحِسَابِ فِي الآْخِرَةِ
إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى عَمَل النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَلاَ يُحَاسَبُ
النَّاسُ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ عَلَى أَسَاسِ
هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ أَحْكَامُهَا مُنَظِّمَةً لِلْحَيَاةِ
الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالاِقْتِصَادِيَّةِ وَأُمُورِ
الْمُعَامَلاَتِ الأُْخْرَى.
9 - وَمَا دَامَتِ الْحَاكِمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِشَرِيعَةِ
اللَّهِ تَعَالَى فِي كُل شُؤُونِ الْحَيَاةِ وَإِلَى آخِرِ الزَّمَانِ،
فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الآْيَاتِ جَاءَتْ آمِرَةً بِتَطْبِيقِ
أَحْكَامِهَا وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَتْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَتْ عَنْهُ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ
مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} (2) . قَال ابْنُ جَرِيرٍ: فَاتَّبِعْ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ
الَّتِي جَعَلْنَاهَا لَكَ، وَلاَ تَتَّبِعْ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ
الْجَاهِلُونَ بِاَللَّهِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ مِنَ
الْبَاطِل، فَتَعْمَل بِهِ فَتَهْلِكُ إِنْ عَمِلْتَ بِهِ، وَهُوَ قَوْل
ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ.
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاتَّبِعْ شَرِيعَتَكَ الثَّابِتَةَ
بِالدَّلاَئِل وَالْحُجَجِ، وَلاَ تَتَّبِعْ مَا لاَ حُجَّةَ عَلَيْهِ
__________
(1) جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري) 7 / 140 ط - 4 - دار
المعرفة - بيروت - 1400 هـ - 1980م) .
(2) سورة الجاثية / 18.
(25/300)
مِنْ أَهْوَاءِ الْجُهَّال وَدِينِهِمُ
الْمَبْنِيِّ عَلَى هَوًى وَبِدْعَةٍ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَال تَعَالَى: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ،
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ
النَّاسِ دُونَهُ؛ أَيِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ الإِْسْلاَمِ وَالْقُرْآنِ،
وَأَحِلُّوا حَلاَلَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ
وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ
الآْرَاءِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ (4) .
10 - وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الأَْمْرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَل اللَّهُ
تَعَالَى لاَ يَخُصُّ الْقُرْآنَ فَحَسْبُ، بَل يَعُمُّ السُّنَّةَ
أَيْضًا، مَا جَاءَ فِي عَدَدٍ مِنَ الآْيَاتِ مِنَ الأَْمْرِ
بِاتِّبَاعِهَا وَتَطْبِيقِهَا. مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
__________
(1) تفسير الطبري 25 / 88، والكشاف 3 / 511 (ط - دار المعرفة - بيروت) .
(2) سورة الأعراف / 3.
(3) سورة الحشر / 7.
(4) الجامع لأحكام القرآن 7 / 161 (ط - دار الكتب العربية - القاهرة - 1387
هـ - 1967م) ، والكشاف 2 / 64.
(25/300)
وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَلاَ تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} (1) .
حَقُّ الإِْمَامِ فِي وَضْعِ الأَْنْظِمَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ
الشَّرِيعَةِ:
11 - تَقْرِيرُ مَبْدَأِ سِيَادَةِ الشَّرِيعَةِ لاَ يَعْنِي حِرْمَانَ
الإِْمَامِ وَمِنْ دُونِهِ أَهْل الْحُكْمِ وَالسُّلْطَةِ مِنْ حَقِّ
اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ وَالأَْنْظِمَةِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا
لِسَيْرِ أُمُورِ الدَّوْلَةِ.
ذَلِكَ لأَِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ مَحْدُودَةٌ وَمُتَنَاهِيَةٌ،
وَأَمَّا الْحَوَادِثُ وَتَطَوُّرُ الْحَيَاةِ وَالْمَسَائِل الَّتِي
تُوَاجِهُ الأُْمَّةَ وَالدَّوْلَةَ مَعًا، فَغَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَلاَ
مُتَنَاهِيَةٌ. وَلاَ بُدَّ لِلإِْمَامِ وَأَهْل الْحُكْمِ مِنْ
مُوَاجِهَةِ كُل ذَلِكَ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَنْظِمَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا
الْحَقُّ لَيْسَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا لاَ يُخَالِفُ
النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلاَ يَخْرُجُ عَلَى مَبَادِئِ الإِْسْلاَمِ
وَقَوَاعِدِهِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الأُْمَّةِ
الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ، وَاَلَّتِي لأَِجْلِهَا قَامَتِ الدَّوْلَةُ،
وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ
وَالاِخْتِصَاصِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الأَْسَاسُ الثَّانِي: الشُّورَى:
12 - الْحُكْمُ أَمَانَةٌ، وَالإِْمَامُ وَمَنْ يَتَوَلَّى
__________
(1) سورة محمد / 33.
(25/301)
السُّلْطَةَ مَسْئُولُونَ عَنْ تِلْكَ
الأَْمَانَةِ. لِذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَبِدُّونَ بِرَأْيٍ وَلاَ يَغْفُلُونَ عَنِ الاِسْتِفَادَةِ مِنْ
عُقُول الرِّجَال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}
(1) .
وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ عَلَى الإِْمَامِ
مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ النَّاصِحِينَ لِلدَّوْلَةِ
وَلِلأُْمَّةِ، وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِ كَيْ يَدُومَ
حُكْمُهُ وَيَقُومَ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ (2) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (شُورَى) .
الأَْسَاسُ الثَّالِثُ: الْعَدْل:
13 - الْعَدْل هُوَ الصِّفَةُ الْجَامِعَةُ لِلرِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ
الَّتِي جَاءَ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِتَحْقِيقِهَا، وَإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا.
فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (3) . وقَوْله
تَعَالَى
: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ} (4) الآْيَةَ.
__________
(1) سورة الشورى / 38.
(2) سراج الملوك 41، وتحرير الأحكام 72، (فقرة 27) .
(3) سورة الحديد / 25.
(4) سورة النحل / 90.
(25/301)
فَالْعَدْل أَمْرٌ فَرَضَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ السَّعْيَ لإِِقَامَتِهِ فِي الأَْرْضِ،
وَلِيَكُونَ مِنْ أَبْرَزِ خَصَائِصِهِمْ بَيْنَ الأُْمَمِ؛ لأَِنَّ
دِينَهُمْ دِينُ الْعَدْل. حَتَّى قَال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
بِأَنَّهُ " لاَ رُخْصَةَ فِيهِ فِي قَرِيبٍ وَلاَ بَعِيدٍ وَلاَ فِي
شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ، وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِوُجُوبِهِ عَلَى كُل
أَحَدٍ وَفِي كُل شَيْءٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَدْل) .
مَصْدَرُ السُّلُطَاتِ:
14 - نَصْبُ الإِْمَامِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَيَتَعَيَّنُ الإِْمَامُ
بِالْبَيْعَةِ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَالإِْمَامُ مُكَلَّفٌ
بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمُلْزَمٌ بِالْحَلاَل وَالْحَرَامِ،
وَمَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ كَأَيِّ مُسْلِمٍ فِي الأُْمَّةِ، وَهُوَ فَوْقَ
ذَلِكَ مَسْئُولٌ عَنْ تَطْبِيقِ تِلْكَ الأَْحْكَامِ فِي كُل شَأْنٍ مِنْ
شُئُونِ الدَّوْلَةِ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْصِبِهِ أَقْوَى رَجُلٍ فِي
الأُْمَّةِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (طَاعَة، الإِْمَامَة الْكُبْرَى، بَيْعَة.) .
__________
(1) تاريخ الطبري 3 / 585، الفتاوى المصرية 412، اختصار أبي عبد الله محمد
بن علي الحنبلي البعلي، وتعليق محمد حامد الفقي (ط - نشر الكتب الإسلامية -
كوجرا نواله - باكستان - 1397 هـ - 1977م) .
(25/302)
أَنْوَاعُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ:
أَوَّلاً: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْحُكْمِ:
الإِْمَامَةُ:
15 - مِنَ الثَّابِتِ أَنَّ الإِْسْلاَمَ دِينٌ وَدَوْلَةٌ؛ لأَِنَّ
الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ كِتَابُ عَقِيدَةٍ كَمَا هُوَ كِتَابُ
أَحْكَامٍ وَقَوَاعِدُ تُنَظِّمُ صِلَةَ الإِْنْسَانِ بِالإِْنْسَانِ
وَالإِْنْسَانِ بِالْمُجْتَمَعِ، وَالْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ
الْمُسْلِمِ فِي حَالَةِ السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.
وَهُوَ إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ يَحْوِي كُل أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ
وَفُرُوعِهَا. فَالْحُقُوقُ الْمَدَنِيَّةُ إِلَى جَانِبِ الْحُقُوقِ
الْجَزَائِيَّةِ، وَالاِقْتِصَادِيَّة، وَالْمَالِيَّةِ،
وَالتِّجَارِيَّةِ، وَالدُّوَلِيَّةِ بِفَرْعَيْهَا الْعَامَّةِ
وَالْخَاصَّةِ.
وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُقُوقُ مَوَاعِظَ مَتْرُوكَةً لِرَغْبَةِ
الإِْنْسَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ آمِرَةٌ وَاجِبَةُ التَّنْفِيذِ،
وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِقِيَامِ الدَّوْلَةِ.
وَهَذِهِ الدَّوْلَةُ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ إِمَامٍ (رَئِيسٍ) يَتَوَلَّى
أُمُورَهَا، كَمَا يَسْهَرُ عَلَى مَصْلَحَةِ الأُْمَّةِ، وَقَدْ أَرْشَدَ
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآْيَةِ الْمَجِيدَةِ:
{وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ
خَلِيفَةً. .} (1) .
__________
(1) سورة البقرة / 30.
(25/302)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ
أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ؛
لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيقَةِ
(1) .
وَفِي السُّنَّةِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَال: لاَ يَحِل لِثَلاَثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلاَةٍ إِلاَّ
أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ (2) .
وَقَال: إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (3)
.
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَإِذَا شُرِعَ هَذَا لِثَلاَثَةٍ يَكُونُونَ فِي
فَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ أَوْ يُسَافِرُونَ، فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ
أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالأَْمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ
التَّظَالُمِ وَفَصْل التَّخَاصُمِ، أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ لِقَوْل مَنْ قَال: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 / 264 (ط - دار الكتب العربية - القاهرة - 1387
هـ - 1967 م) .
(2) حديث: " لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم ".
أخرجه أحمد (2 / 177 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، وأورده
الهيثمي في المجمع (8 / 63 - ط القدسي) وقال: " وفيه ابن لهيعة وهو لين،
وبقية رجاله رجال الصحيح ".
(3) حديث: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ". أخرجه أبو داود (3 /
81 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسنه النووي في رياض
الصالحين (ص 376 - ط المكتب الإسلامي) .
(25/303)
نَصْبُ الأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ
وَالْحُكَّامِ (1) . وَلَمَّا كَانَ صَلاَحُ الْبِلاَدِ وَأَمْنُ
الْعِبَادِ وَقَطْعُ مَوَادِّ الْفَسَادِ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنَ
الظَّالِمِينَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ (2)
لِذَلِكَ وَجَبَ نَصْبُ إِمَامٍ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ
أُمُورِ الأُْمَّةِ، وَهُوَ فَرْضٌ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الإِْمَامِ وَشُرُوطُهُ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ
إِمَامَتُهُ فَتُنْظَرُ فِي (الإِْمَامَة الْكُبْرَى) (وَبَيْعَة) .
حُقُوقُ الإِْمَامِ:
16 - ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى إِلَى أَنَّ
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 265 (ط - الحلبي) .
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل - ابن حزم 4 / 87 (ط - 2 - دار المعرفة
- بيروت - 1395 هـ - 1975 م) ، وشرح مقاصد الطالبين في علم أصول الدين -
التفتازاني 2 / 201 (ط - دار الطباعة استنبول - 1277 هـ) ، وسراج الملوك -
الطرطوشي 39 (مطبوع مع التبر المسبوك) ، والسياسة الشرعية - ابن تيمية 138
- 139، وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام - بدر الدين بن جماعة 48 (فقرة
5) تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد (ط 1 - رئاسة المحاكم الشرعية - قطر 1405 هـ
- 1985 م) .
(3)
(3) الفصل 4 / 87، وأصول الدين - البغدادي 271 (ط1 - مطبعة الدولة -
استنبول - 1346 هـ - 1928م) والأحكام السلطانية - الماوردي 5. والأحكام
السلطانية لأبي يعلى 3، ونهاية الأقدام في علم الكلام - الشهرستاني 478 -
(تحقيق ألفريد جيوم ط - مكتبة المثنى - بغداد) والسياسة الشرعية - ابن
تيمية 139، وحاشية البجيرمي 4 / 204، وتحرير الأحكام 48 (فقرة 5) .
(25/303)
لِلإِْمَامِ حَقَّيْنِ: الطَّاعَةَ
وَالنُّصْرَةَ.
وَقَال ابْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهَا عَشَرَةُ حُقُوقٍ: الطَّاعَةُ،
وَالنَّصِيحَةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالاِحْتِرَامُ، وَالإِْيقَاظُ عِنْدَ
الْغَفْلَةِ، وَالإِْرْشَادُ عِنْدَ الْخَطَأِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كُل
عَدُوٍّ، وَإِعْلاَمُهُ بِسِيرَةِ عُمَّالِهِ، وَإِعَانَتُهُ، وَجَمْعُ
الْقُلُوبِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَالنُّصْرَةُ (1) .
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لاَ تَكُونُ لِلإِْمَامِ إِلاَّ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَلَزِمَ فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ، وَأَدَّى لِلأُْمَّةِ
حُقُوقَهَا الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ. وَبِرِعَايَةِ الأُْمَّةِ هَذِهِ
الْحُقُوقَ تَصْفُو الْقُلُوبُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ وَيَتَحَقَّقُ
النَّصْرُ.
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الإِْمَامَ وَاحِدٌ مِنَ
النَّاسِ يَسْتَوِي مَعَهُمْ جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ وَالأَْحْكَامِ. بَل
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى
وَأَحْسَنَهُمْ قِيَامًا بِأَدَاءِ
__________
(1) تاريخ الطبري 4 / 224، الخراج، أبو يوسف 13 (ط5 - السلفية - القاهرة -
1396 هـ) ومنتخب كنز العمال، المتقي الهندي 2 / 144 (ط - الحلبي - مصر -
1313 هـ) ، ونهج البلاغة - الرضي 1 / 178 بشرح ابن أبي الحديد (ط3 - دار
الفكر للجميع - بيروت - 1388 هـ (وينظر نحوه في كتاب الأموال - أبو عبيد
القاسم بن سلام 12 (رقم 11) تحقيق محمد خليل هراس (ط - الكليات الأزهرية -
1389 هـ 1969م) الأحكام السلطانية ص15، 17، وفي نصيحة الملوك ص 53 زاد:
التعظيم له، وترك الخلاف عليه، وتحرير الأحكام 61 - 64 (فقرة 22) .
(25/304)
فَرَائِضِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ؛
لأَِنَّهُ رَأْسُ الدَّوْلَةِ. (1)
وَاجِبَاتُ الإِْمَامِ:
17 - حُقُوقُ الأُْمَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَاتُ الإِْمَامِ يُمْكِنُ أَنْ
تُجْمَعَ فِي عَشَرَةٍ:
(1) حِفْظُ الدِّينِ وَالْحَثُّ عَلَى تَطْبِيقِهِ، وَنَشْرُ الْعِلْمِ
الشَّرْعِيِّ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ وَمُشَاوَرَتُهُمْ.
(2) حِرَاسَةُ الْبِلاَدِ وَالدِّفَاعُ عَنْهَا، وَحِفْظُ الأَْمْنِ
الدَّاخِلِيِّ.
(3) النَّظَرُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَتَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ.
(4) إقَامَةُ الْعَدْل فِي جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ.
(5) تَطْبِيقُ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ.
(6) إقَامَةُ فَرْضِ الْجِهَادِ.
(7) عِمَارَةُ الْبِلاَدِ، وَتَسْهِيل سُبُل الْعَيْشِ، وَنَشْرُ
الرَّخَاءِ.
(8) جِبَايَةُ الأَْمْوَال عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ
عُنْفٍ، وَصَرْفُهَا فِي الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ
__________
(1) نصيحة للملوك ص53، 54، الأحكام السلطانية للماوردي 17، وأدب الدنيا
والدين الماوردي 71 (ط1 - الأدبية - مصر - 1317 هـ) ، وتحرير الأحكام ص 64
(فقرة 23) .
(25/304)
وَعَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، مِنْ غَيْرِ
سَرِفٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ.
(9) أَنْ يُوَلِّيَ أَعْمَال الدَّوْلَةِ الأُْمَنَاءَ النُّصَحَاءَ أَهْل
الْخِبْرَةِ.
(10) أَنْ يَهْتَمَّ بِنَفْسِهِ بِسِيَاسَةِ الأُْمَّةِ وَمَصَالِحِهَا،
وَأَنْ يُرَاقِبَ أُمُورَ الدَّوْلَةِ وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَال
الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا (1) .
تَعْيِينُ الْعُمَّال وَفَصْلُهُمْ:
أ - تَعْيِينُ الْعُمَّال:
18 - لاَ يَسْتَطِيعُ الإِْمَامُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْحُكْمِ
كُلَّهَا بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُعَاوِنَهُ فِي ذَلِكَ عُمَّالٌ
يُعَيِّنُهُمْ، وَكُلَّمَا اتَّسَعَتْ أُمُورُ الْحُكْمِ وَتَشَعَّبَتْ
زَادَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَؤُلاَءِ الْعُمَّال. " وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ
بَيِّنَةٌ فِي ضَرُورَاتِ الْعُقُول لاَ يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ بِهَا "
(2) .
وَهَذَا مَا فَعَلَهُ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ
كَانَ فِي الْمَدِينَةِ. فَقَدْ وَلَّى عَلَى
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 15 - 17، وأدب الدنيا والدين 70 - 71،
ونصيحة الملوك 196 - 225، غياث الأمم 135 - 176، والأحكام السلطانية لأبي
يعلى 11 - 12، وتحرير الأحكام 65 - 68 (فقرة 24) .
(2) نصيحة الملوك 185 - 186، غياث الأمم 116، 214، وتحرير الأحكام 58 (فقرة
16) .
(25/305)
مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ عَتَّابَ بْنَ
أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (1) ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ
بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبَعَثَ
عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَى
الْيَمَنِ (2) . وَكَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا، وَيَبْعَثُ جُبَاةَ
الزَّكَاةِ وَيُرْسِل السُّفَرَاءَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْقَبَائِل (3) .
وَعَلَى هَذَا النَّهْجِ سَارَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ أَقَرَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْعُمَّال مِنْ وَاجِبَاتِ
الإِْمَامِ (4) .
ب - صِفَاتُ الْعُمَّال:
19 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ أَهْل الدِّيَانَةِ
وَالْعِفَّةِ وَالْعَقْل وَالأَْصَالَةِ وَالصِّدْقِ وَالأَْمَانَةِ
وَالْحَزْمِ وَالْكِفَايَةِ، وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ
الْعَمَل (5) .
__________
(1) حديث تولية عتاب بن أسيد أورده ابن إسحاق في السيرة كما في السيرة لابن
هشام (4 / 84 - ط دار الكتاب العربي) وحديث تولية عثمان بن أبي العاص أورده
موسى بن عقبة في المغازي كما في تاريخ الإسلام للذهبي (قسم المغازي - ص670
- ط دار الكتاب العربي) .
(2) حديث: بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمن. أخرجه مسلم (3 / 1586 - ط الحلبي)
.
(3) لدراسة تكوين الدولة النبوية، وجهازها. يراجع كتاب التراتيب الإدارية
لعبد الحي الكتاني، لأنه أوسع كتاب في هذا الموضوع.
(4) تنظر الفقرة 17.
(5) نصيحة الملوك 186، 187، والأحكام السلطانية - الماوردي 209، وغياث
الأمم ص 215 - 216، 219، وسراج الملوك 114، والطرق الحكمية 238.
(25/305)
وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الأَْمْثَل
فَالأَْمْثَل؛ لِحَدِيثِ: مَنْ وَلَّى رَجُلاً عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ
يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ
خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ (1) . وَعَلَيْهِ
أَنْ يَتَجَنَّبَ التَّعْيِينَ وَفْقَ هَوَاهُ.
وَلاَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُمْ إِلاَّ بَعْدَ امْتِحَانٍ وَتَجْرِبَةٍ (2) .
ج - مَا يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ نَحْوَ عُمَّالِهِ:
20 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ عُمَّالِهِ بِعَدَمِ
الظُّلْمِ، قَل أَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ لأَِنَّ الْعَامِل الظَّالِمَ
أَعْدَى عَدُوٍّ لِلدَّوْلَةِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أُمُورِ عُمَّالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْقِيَةَ رَقَّاهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَل
التَّرْقِيَةَ قَفْزًا دُونَ سَبَبٍ.
وَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مُسِيئًا حَاسَبَهُ، وَلَهُ أَنْ
__________
(1) حديث: " من ولى رجلا على عصابة. . ". أخرجه الحاكم (4 / 92 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس بلفظ مقارب، وضعف الذهبي أحد رواته.
(2) الطرق الحكمية ص 238، وسراج الملوك ص 114، ونصيحة الملوك ص 182.
(25/306)
يَعْفُوَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَا
أَتَاهُ يُوجِبُ حَدًّا، أَوْ تَعَدَّى عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ
الرَّعِيَّةِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْزِل كُل مَنْ يُخِل بِوَاجِبِ الْعَمَل إِذَا لَمْ
يُمْكِنْ تَقْوِيمُهُ.
وَلاَ يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِدَوَامِ مُرَاقَبَةِ الْعَامِلِينَ
فِي الدَّوْلَةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى أُمُورِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ،
وَعَلاَقَتِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَالْتِزَامِهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ
بِهِ مِنَ السِّيَاسَةِ. . وَيُعِينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ جِهَازٌ
دَقِيقٌ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ وَالأُْمَّةِ (1)
د - دِيوَانُ الْمُوَظَّفِينَ:
21 - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّوْلَةِ دِيوَانٌ يَخُصُّ الْعَامِلِينَ
فِي أَجْهِزَتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (دِيوَان) .
ثَانِيًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْمَال:
22 - يُقْصَدُ بِالأَْمْوَال فِي هَذَا الْمَجَال: أَمْوَال الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ إِلَى خَزِينَةِ الدَّوْلَةِ. (2)
__________
(1) نصيحة الملوك 176 - 178، 189 - 190، والأحكام السلطانية للماوردي ص
212، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 234، نصيحة الملوك ص 190، وغياث الأمم
ص 116، والتبر المسبوك ص 86.
(2) تحرير الأحكام ص 146 - 149.
(25/306)
وَهِيَ تَتَأَلَّفُ مِنْ أَنْوَاعٍ
يُنْظَرُ بَيَانُهَا وَكَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحِ
(بَيْت الْمَال) .
ثَالِثًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْوِلاَيَاتِ:
وِلاَيَةُ الْجَيْشِ:
23 - لَمَّا كَانَ الْجَيْشُ لِلْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْبِلاَدِ،
لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ الْعِنَايَةُ بِتَرْتِيبِهِ
وَإِعْدَادِهِ، وَتَنْظِيمِ قِيَادَتِهِ، وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ،
وَتَعَرُّفِ أَحْوَال الْعَدُوِّ، وَإِنَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لاَ يَتِمُّ
إِلاَّ بِتَأْمِينِ الأَْمْوَال اللاَّزِمَةِ لِتَسْلِيحِهِ وَإِدَارَتِهِ
وَدَفْعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَفْرَادُهُ بِشَكْلٍ مُنَظَّمٍ وَمُلاَئِمٍ
(1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جِهَاد) .
النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْقُضَاةِ:
24 - إِنَّ الْقَضَاءَ مَنْصِبٌ جَلِيلٌ وَخَطِيرٌ؛ لأَِنَّهُ يُحَقِّقُ
الْعَدْل فِي الأُْمَّةِ، وَعَلَى الْعَدْل تَقُومُ الدَّوْلَةُ
الصَّالِحَةُ، وَقَدْ أَحَاطَتِ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْمَنْصِبَ
بِاحْتِرَامٍ شَدِيدٍ وَنَظَّمَتْ أَحْكَامَهُ
__________
(1) المنهج المسلوك 104 - 107، سراج الملوك 99، الأحكام السلطانية -
للماوردي 35 - 54، الأحكام السلطانية - لأبي يعلى 23 - 35، نصيحة الملوك
265 - 288ـ غياث الأمم 156 - 158، تحرير الأحكام 79 - 86، 94 - 98، 118 -
121، 128 - 137، 144، 165 - 187.
(25/307)
وَقَوَاعِدَهُ وَصِفَاتِ مَنْ يَتَوَلاَّهُ
وَأُصُول التَّقَاضِي (1) .
وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَال الْقُضَاةِ
وَيَتَحَرَّى عَنْ أَخْبَارِهِمْ وَعَنْ سِيرَتِهِمْ فِي النَّاسِ، وَعَنْ
أَحْكَامِهِمْ، وَيَسْأَل الثِّقَاتِ الصَّالِحِينَ عَنْ كُل ذَلِكَ (2) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَضَاء) .
النَّظَرُ فِي وِلاَيَةِ الصَّدَقَاتِ:
25 - الزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ،
وَقَدْ تَكَفَّلَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِبَيَانِ مَحِلِّهَا
وَنِصَابِهَا وَجِبَايَتِهَا وَأُصُول صَرْفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا.
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى رَئِيسِ الدَّوْلَةِ أَنْ يُوَلِّيَ أُمُورَ
الزَّكَاةِ الْمُسْلِمَ الْعَدْل الْعَالِمَ بِأَحْكَامِهَا لِيَكُونَ
قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِهَا. وَقَدْ تَكُونُ
وِلاَيَتُهُ شَامِلَةً جِبَايَةَ الزَّكَاةِ وَقِسْمَتَهَا، وَقَدْ تَكُونُ
لِلْجِبَايَةِ دُونَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً، فَلَهُ إِنْ
شَاءَ أَنْ يَقْسِمَهَا، وَلَهُ أَنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية - الماوردي 65 - 76، والأحكام السلطانية - لأبي يعلى
48 - 57، وتحرير الأحكام 88 - 90 (فقرة 47 - 49) .
(2) الأحكام السلطانية - للماوردي 66 - 67، والأحكام السلطانية - لأبي يعلى
46، والمبسوط - السرخسي 16 / 70 (ط - دار المعرفة - بيروت 1406 هـ - 1986م)
، وتبصرة الحكام 1 / 77.
(25/307)
يَتْرُكَ الْقِسْمَةَ. أَمَّا إِنْ كَانَ
مُكَلَّفًا بِأَخْذِ مَالٍ مُحَدَّدٍ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ، فَلاَ
يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهَا، لأَِنَّهُ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ
كَالْوَكِيل بِالْقَبْضِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة) .
السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ بُغَاةٍ
وَغَيْرِهِمْ:
26 - قَدْ تَخْرُجُ فِئَةٌ مُسَلَّحَةٌ مُنَظَّمَةٌ. فَإِنْ كَانَ
خُرُوجُهَا عَلَى الدِّينِ كَانَتْ مُرْتَدَّةً.
وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الإِْمَامِ كَانَتْ فِئَةً بَاغِيَةً (2) .
وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْفِقْهِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ (انْظُرْ: رِدَّة.
بُغَاة. حِرَابَة) .
رَابِعًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْعُقُوبَةِ:
أ - الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً:
27 - تَنْقَسِمُ الْعُقُوبَةُ إِلَى:
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 113 - 114، 116. والأحكام السلطانية لأبي
يعلى 99 - 102.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 55 - 58، والأحكام السلطانية - لأبي يعلى
ص 35 - 38، وغياث الأمم 160، 169، 170، ونصيحة الملوك 254.
(25/308)
عُقُوبَاتٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، وَهِيَ
الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ.
وَعُقُوبَاتٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ، وَهِيَ التَّعْزِيرُ.
أَمَّا الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً: فَتَكُونُ عِنْدَ اقْتِرَافِ جَرِيمَةٍ
أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَبِهَذَا تُرَادِفُ التَّعْزِيرَ:
فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ النَّبَّاشَ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ
حَدُّ السَّرِقَةِ، فَإِنِ اعْتَادَ النَّبْشَ أَمْكَنَ أَنْ تُقْطَعَ
يَدُهُ عَلَى سَبِيل السِّيَاسَةِ. ر: مُصْطَلَحَ (سَرِقَة) .
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ تُزَادُ الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً. فَإِذَا
أُقِيمَ حَدُّ السَّرِقَةِ - مَثَلاً - فَقُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ جَازَ
حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ (1) .
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ لِلإِْمَامِ
حَبْسَ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِارْتِكَابِ جَرَائِمَ ضِدَّ الأَْشْخَاصِ،
أَوِ الأَْمْوَال وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِفْ جَرِيمَةً جَدِيدَةً،
وَيَسْتَمِرُّ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ؛ لأَِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ
وَفُتَّاكِهِمْ، حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ.
وَكَذَلِكَ يُفْعَل مَعَ مَنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ وَالأَْذَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 94، والبحر الرائق 5 / 11.
(25/308)
وَخِيفَ أَذَاهُ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا
يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلاَدَ (1) . (ر: عُقُوبَة -
تَعْزِير) .
التَّغْرِيبُ سِيَاسَةً:
28 - ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَزَّرَ الْمُخَنَّثِينَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ وَنَفْيِهِمْ (2) .
وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي شَارِبَ الْخَمْرِ إِلَى
خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِ.
وَنَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لَمَّا خَافَ فِتْنَةَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ
بِجَمَالِهِ، بَعْدَ أَنْ قَصَّ شَعْرَهُ فَرَآهُ زَادَ جَمَالاً.
وَلِذَلِكَ جَازَ نَفْيُ أَمْثَال هَؤُلاَءِ إِلَى بَلَدٍ يُؤْمَنُ فَسَادُ
أَهْلِهِ. فَإِنْ خَافَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُبِسَ. وَبِهَذَا أَخَذَ
أَحْمَدُ؛ لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ
__________
(1) المبسوط 24 / 36، 76، درر الحكام 2 / 81، والبحر الرائق 5 / 75، وغنية
ذوي الأحكام في بغية درر الحكام - حسن بن عمر الشرنبلالي 2 / 81 (مطبوع على
هامش درر الحكام) والفتاوى الهندية 2 / 189 - 190 (ط4 - إحياء التراث
العربي - بيروت) وأقضية رسول الله - أبو عبد الله بن فرج المالكي تحقيق
محمد ضياء الرحمن الأعظمي 97 - 98 (ط1 -، دار الكتاب المصري، واللبناني -
القاهرة وبيروت - 1398 هـ - 1978م) وتبصرة الحكام 2 / 163.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المخنثين ". أخرجه
البخاري (الفتح 12 / 159 - ط السلفية) .
(25/309)
الْمُعَاقَبَةِ، وَإِنَّمَا مِنْ قَبِيل
الْخَوْفِ مِنَ الْفَاحِشَةِ قَبْل وُقُوعِهَا. (1) (ر: تَغْرِيب) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيبُ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ
بَعْدَ جَلْدِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (2) .
وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ جُزْءٌ مِنَ الْحَدِّ، وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يُغَرَّبُ حَدًّا، وَأَجَازُوا تَغْرِيبَهُ
سِيَاسَةً، دُونَ تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ، بَل بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ
الإِْمَامُ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَبْسِهِ بَعْدَ الْحَدِّ. فَإِنْ
لَمْ يَنْزَجِرْ جَازَ لِلإِْمَامِ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ. وَقِيل:
حَتَّى يَمُوتَ (3) .
الْقَتْل سِيَاسَةً:
29 - يُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقَتْل عَلَى سَبِيل
__________
(1) الطرق الحكمية 266، وفتاوى ابن تيمية 15 / 313، والمبسوط 9 / 45، وجامع
الرموز 2 / 290، وحاشية ابن عابدين 4 / 14، 66، إعلام الموقعين 4 / 377.
(2) حديث زيد بن خالد الجهني في " تغريب الزاني غير المحصن ". أخرجه
البخاري (الفتح 12 / 156 - ط السلفية) .
(3) المبسوط 9 / 45، البحر الرائق 5 / 11، وبدائع الصنائع 7 / 39، وجامع
الرموز 2 / 290، ودرر الحكام 2 / 64، وحاشية ابن عابدين 4 / 14، 66 - 67،
والفروع 6 / 57.
(25/309)
السِّيَاسَةِ فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ
(1) . وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير) .
مَنْ لَهُ حَقُّ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً:
30 - لِلْعُلَمَاءِ خِلاَفٌ فِي تَحْدِيدِ مَنْ لَهُ حَقُّ فَرْضِ
الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً. . هَل هُوَ الإِْمَامُ وَنُوَّابُهُ، أَمْ هُوَ
الْقَاضِي؟ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُقُوبَة، تَعْزِير) .
سِيَر
انْظُرْ: جِهَاد، غَنَائِم، أَمَان، جِزْيَة
__________
(1) أقضية الرسول 179 - 180، وحاشية ابن عابدين 4 / 27، 63، 215 - 118،
البحر الرائق 5 / 75، المبسوط 9 / 78، 79.
(2) البحر الرائق 7 / 18، 138، 232، وحاشية ابن عابدين 4 / 15، 63، 5 /
299، 439، الأم - الشافعي 6 / 199 وط - دار المعرفة - بيروت) والأحكام
السلطانية للماوردي ص 83 - 84، 219، وحاشية البجيرمي 4 / 401، والمدونة -
برواية سحنون 5 / 144 (ط1 - مطبعة السعادة - مصر) ، وتبصرة الحكام 1 / 17 -
18، 2 / 142 - 146، وحاشية الدسوقي 4 / 151، 142، 174، والطرق الحكمية 105،
والفروع 6 / 480.
(25/310)
سَيْف
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّيْفُ نَوْعٌ مِنَ الأَْسْلِحَةِ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَسْيَافٌ
وَسُيُوفٌ وَأَسْيُفٌ، وَيُقَال: بَيْنَ فَكَّيْ فُلاَنٍ سَيْفٌ صَارِمٌ،
وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ كَوْنِهِ حَدِيدَ اللِّسَانِ. وَاسْتَافَ الْقَوْمُ
وَتَسَايَفُوا: تَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَسَايَفَهُ: ضَارَبَهُ
بِالسَّيْفِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّيْفِ:
أَوَّلاً: تَطْهِيرُ السَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ:
2 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ السَّيْفَ نَجَاسَةٌ
اكْتَفَى بِمَسْحِهِ، لأَِنَّهُ لاَ تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَمَا
عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُول بِالْمَسْحِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ
الْكُفَّارَ بِالسُّيُوفِ وَيَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ بِهَا.
__________
(1) المعجم الوسيط في اللغة ولسان العرب.
(25/310)
وَهَذَا إِذَا كَانَ السَّيْفُ صَقِيلاً.
أَمَّا إِذَا كَانَ بِهِ صَدَأٌ فَلاَ يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ السَّيْفَ وَمَا شَابَهَهُ
فِي الصِّقَالَةِ مِنْ دَمٍ مُبَاحٍ، كَالدَّمِ فِي الْجِهَادِ،
وَالْقِصَاصِ، وَالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَمَسَحَهُ مِنَ
الدَّمِ أَمْ لاَ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ
الْقَاسِمِ، وَذَلِكَ لِفَسَادِهِ بِالْغَسْل.
وَفِي قَوْلٍ نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ
مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ بِشَرْطِ مَسْحِهِ؛ لاِنْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ
بِالْمَسْحِ (2) . وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السَّيْفَ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَكْفِي مَسْحُهُ وَلَوْ كَانَ صَقِيلاً، بَل
يُشْتَرَطُ لِتَطْهِيرِهِ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَانْتِقَال
النَّجَاسَةِ عَنْهُ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَصًّا فِي الْمَوْضُوعِ.
ثَانِيًا: اعْتِمَادُ خَطِيبِ الْجُمُعَةِ عَلَى السَّيْفِ:
3 - يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى
قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا، وَذَلِكَ عِنْدَ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 1 / 174.
(2) الحطاب مع المواق 1 / 156، وحاشية الدسوقي 1 / 77.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 184.
(25/311)
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رَوَى
الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَال: وَفِدْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا
الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ. . . (1) الْحَدِيثَ،
وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ (2) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَخْطُبُ الإِْمَامُ بِسَيْفٍ فِي
بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، كَمَكَّةَ، وَإِلاَّ لاَ كَالْمَدِينَةِ.
كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ. ثُمَّ نَقَل عَنِ الْحَاوِي
الْقُدُسِيِّ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ الإِْمَامُ
وَالسَّيْفُ فِي يَسَارِهِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهِ (3) .
ثَالِثًا: تَقَلُّدُ السَّيْفِ لِلْمُحْرِمِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ
أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ وَالسِّلاَحَ، وَيَشُدَّ الْهِمْيَانَ
وَالْمِنْطَقَةَ عَلَى وَسَطِهِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ التَّغْطِيَةِ
وَاللُّبْسِ (4) .
__________
(1) حديث الحكم بن حزن الكلفي: " وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأقمنا أياما ". أخرجه أبو داود (1 / 658 - 659 تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله
المنذري بأحد رواته، كذا في مختصر السنن (2 / 18 - نشر دار المعرفة) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 97، والروضة 2 / 32، والمغني 2 / 309.
(3) الدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 553.
(4) ابن عابدين 1 / 164، روضة الطالبين 3 / 127.
(25/311)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ بِالسَّيْفِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لِقَوْل
ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " لاَ يَحِل لِمُحْرِمٍ
السِّلاَحُ فِي الْحَرَمِ.
وَإِذَا تَقَلَّدَ بِلاَ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ نَزْعُهُ فَوْرًا، كَمَا
صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (1) . وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ
أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 61
- 2 154) .
رَابِعًا: تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ
السَّيْفِ وَآلاَتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ (2) . وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ:
وَبِالذَّهَبِ، سَوَاءٌ اتَّصَلَتِ الْحِلْيَةُ بِأَصْلِهِ كَالْقَبْضَةِ
أَوْ كَانَتْ فِي الْغِمْدِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ
يَجُوزُ تَحْلِيَةُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بِالذَّهَبِ قَطْعًا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ تَفْضِيضُ نَصْل السَّيْفِ
وَالسِّكِّينِ أَوْ قَبْضَتِهِمَا إِذَا لَمْ يَضَعْ يَدَهُ فِي
قَبْضَتِهِمَا (4) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 186، ومطالب أولي النهى 2 / 330، كشاف القناع 1 /
428.
(2) الحطاب 1 / 25، 26، والروضة 2 / 262، 263.
(3) الروضة 2 / 213.
(4) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 218، 219.
(25/312)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَهَب،
فِضَّة، وَسِلاَح)
خَامِسًا: اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِالسَّيْفِ سَوَاءٌ أَكَانَ
ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ بِالسَّيْفِ أَمْ بِغَيْرِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُل بِغَيْرِ السَّيْفِ لاَ يُمَكَّنُ
مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَوَدَ
إِلاَّ بِالسَّيْفِ (1) وَلِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْمُثْلَةِ (2) ؛
وَلأَِنَّ فِي الْقِصَاصِ بِغَيْرِ السَّيْفِ زِيَادَةَ تَعْذِيبٍ، فَإِنْ
فَعَل الْوَلِيُّ بِهِ كَمَا فَعَل فَقَدْ أَسَاءَ بِالْمُخَالَفَةِ،
وَيُعَزَّرُ، لَكِنْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا
بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ، سَوَاءٌ أَقَتَلَهُ بِالْعَصَا أَمْ بِالْحَجَرِ
أَمْ بِنَحْوِهِمَا؛ لأَِنَّ الْقَتْل حَقُّهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: لأَِهْل الْقَتِيل أَنْ يَفْعَلُوا بِالْجَانِي كَمَا
__________
(1) حديث: " لا قود إلا بالسيف ". أخرجه ابن ماجه (2 / 889 - ط الحلبي) من
حديث النعمان بن بشير، وضعف إسناده ابن حجر في " التلخيص " (4 / 19 - ط
شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " النهي عن المثلة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط السلفية)
من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري.
(3) البدائع 7 / 245، 246، وكشاف القناع 5 / 538، 539، والمغني لابن قدامة
7 / 688.
(25/312)
فَعَل، يُقْتَل بِمِثْل مَا قَتَل (1) .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ
امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ كَذَلِكَ (3) .
وَيُسْتَثْنَى الْقَتْل بِالسِّحْرِ أَوِ اللِّوَاطِ أَوِ الْخَمْرِ أَوْ
نَحْوِهَا مِنَ الْمَمْنُوعَاتِ فَلاَ يُقْتَصُّ فِي هَذَا بِالْمِثْل،
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَتْل بِمَا يَطُول كَمَنْعِهِ الطَّعَامَ أَوِ
الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَتَعَيَّنُ
الاِسْتِيفَاءُ بِالسَّيْفِ (4) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص) وَانْظُرْ
(اسْتِيفَاء) ف 14
__________
(1) الدسوقي 4 / 265، ومغني المحتاج 4 / 44، 45، المغني لابن قدامة 7 /
688.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حديث: " أن يهوديا رض رأس امرأة مسلمة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 71
- ط السلفية) ومسلم (3 / 1300 - ط. الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(4) نفس المراجع، وانظر الزرقاني 8 / 29، والشرح الصغير للدردير 4 / 369
والروضة 9 / 222، والفروع 5 / 663، 664.
(25/313)
سَيْكُرَان
انْظُرْ: أَشْرِبَة |