الموسوعة
الفقهية الكويتية قَرِينَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرِينَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَنَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ،
أَيْ شَدَّهُ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِهِ، كَجَمْعِ الْبَعِيرَيْنِ فِي
حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَالْقَرْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ
كَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوِ اللُّقْمَتَيْنِ عِنْدَ الأَْكْل،
وَتَأْتِي الْمُقَارَنَةُ بِمَعْنَى الْمُرَافَقَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ،
وَمِنْهُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَرِينَةٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ
قَرِينٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَدُل عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ
صَرِيحًا (2) .
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرِينَةِ:
2 - الْقَرِينَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا وَرَدَ فِي قَوْله
تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}
(3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (4) : إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.
(3) سورة يوسف / 18.
(4) تفسير القرطبي 9 / 173 - 174.
(33/156)
أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلاَمَةَ
صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلاَمَةِ عَلاَمَةً تُعَارِضُهَا،
وَهِيَ سَلاَمَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّمْزِيقِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ
افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لاَبِسُ الْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ
الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
اسْتَدَل عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَل الْعُلَمَاءُ
بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى إِعْمَال الأَْمَارَاتِ فِي مَسَائِل كَثِيرَةٍ
مِنَ الْفِقْهِ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا
إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ
مِنَ الصَّادِقِينَ} (2) ، عَلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ
بِالْعَلاَمَةِ، إِذْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ كَذِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ
فِيمَا نَسَبَتْهُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (3) .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَْيِّمُ أَحَقُّ
بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا
سُكُوتُهَا (4) ، فَجَعَل صُمَاتَهَا قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى الرِّضَا،
وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ
أَقْوَى الأَْدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
كَمَا سَارَ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ فِي
الْقَضَايَا الَّتِي عَرَضَتْ، وَمِنْ
__________
(1) التبصرة 2 / 95، والقرطبي 9 / 173.
(2) سورة يوسف / 26، 27.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 440.
(4) حديث: " الأيم أحق بنفسها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1037) من حديث ابن
عباس.
(33/157)
ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
وَلاَ يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ - بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَتْ
فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، أَوْ قَاءَهَا، وَذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى
الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَمِنْهُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجْمِ
الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهَا حَمْلٌ وَلاَ زَوْجَ لَهَا، وَقَدْ قَال
بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ
الظَّاهِرَةِ (1) .
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (2) .
الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ وَغَيْرُ الْقَاطِعَةِ:
3 - إِنَّ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَقْوَى حَتَّى يُفِيدَ الْقَطْعَ،
وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ (3) ، وَيُمَثِّلُونَ لِحَالَةِ الْقَطْعِ
بِمُشَاهَدَةِ شَخْصٍ خَارِجٍ مِنْ دَارٍ خَالِيَةٍ خَائِفًا مَدْهُوشًا
فِي يَدِهِ سِكِّينٌ مُلَوَّثَةٌ بِالدَّمِ، فَلَمَّا وَقَعَ الدُّخُول
لِلدَّارِ رُئِيَ فِيهَا شَخْصٌ مَذْبُوحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
يَتَشَخَّطُ فِي دِمَائِهِ، فَلاَ يُشْتَبَهُ هُنَا فِي كَوْنِ ذَلِكَ
الشَّخْصِ هُوَ الْقَاتِل، لِوُجُودِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ (4)
.
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلاَلَةِ وَلَكِنَّهَا
ظَنِّيَّةٌ أَغْلَبِيَّةٌ، وَمِنْهَا الْقَرَائِنُ الْعُرْفِيَّةُ أَوِ
الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ
__________
(1) التبصرة لابن فرحون 2 / 97.
(2) سورة الأنبياء / 79.
(3) الطرق الحكمية ص 194.
(4) المادة (1741) مجلة الأحكام العدلية.
(33/157)
وَقَائِعِ الدَّعْوَى وَتَصَرُّفَاتِ
الْخُصُومِ، فَهِيَ دَلِيلٌ أَوَّلِيٌّ مُرَجِّحٌ لِزَعْمِ أَحَدِ
الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ مَتَى اقْتَنَعَ بِهَا الْقَاضِي وَلَمْ
يَثْبُتْ خِلاَفُهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تَرُدُّ حَقًّا وَلاَ تُكَذِّبُ
دَلِيلاً وَلاَ تُبْطِل أَمَارَةً صَحِيحَةً، هَذَا وَقَدْ دَرَجَتْ
مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ
الْقَاطِعَةِ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فِي الْمَادَّةِ (1740)
وَعَرَّفَتْهَا بِأَنَّهَا الأَْمَارَةُ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ
وَذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ (1741) .
الأَْخْذُ بِالْقَرَائِنِ:
4 - قَال ابْنُ فَرْحُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَبْصِرَتِهِ نَاقِلاً عَنِ
الإِْمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ قَوْلَهُ: عَلَى
النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الأَْمَارَاتِ وَالْعَلاَمَاتِ إِذَا
تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا مَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ،
وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ
جَاءَ الْعَمَل بِهَا فِي مَسَائِل اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ
الأَْرْبَعَةُ، وَبَعْضُهَا قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً (1) .
عَلَى أَنَّ ضَبْطَ كُل الصُّوَرِ الَّتِي تَعْمَل فِيهَا الْقَرِينَةُ
أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، إِذْ أَنَّ الْوَقَائِعَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ،
وَالْقَضَايَا مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَسْتَخْلِصُهَا الْقَاضِي بِفَهْمِهِ
وَذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جَانِبًا مِنَ الصُّوَرِ
لِلاِسْتِنَارَةِ بِهَا، وَلِلتَّدْلِيل عَلَى
__________
(1) التبصرة ص 97 - 98.
(33/158)
اعْتِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْقَرَائِنِ
الَّتِي تَوَلَّدَتْ عَنْهَا، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهَا:
الأُْولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ
الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِذَا أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ،
وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلاَنِ أَنَّ هَذِهِ فُلاَنَةُ بِنْتُ
فُلاَنٍ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقِ النِّسَاءُ
أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى
الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِيَةُ: اعْتِمَادُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى الصِّبْيَانِ
وَالإِْمَاءِ الْمُرْسَلَةِ مَعَهُمُ الْهَدَايَا إِلَيْهِمْ،
فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَل بِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُول
لِلْمَنْزِل.
الرَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الإِْنْسَانِ إِذَا لَمْ
يُعْرَفْ صَاحِبُهُ، وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ الإِْنْسَانُ نَفْسُهُ
لِحَقَارَتِهِ، كَالتَّمْرَةِ وَالْفَلْسِ، وَكَجِوَازِ أَخْذِ مَا بَقِيَ
فِي الْحَوَائِطِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَال أَهْلِهِ
مِنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسْيِيبِهِ، كَجَوَازِ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ
الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لاَ يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ
بِلَقْطِهِ، وَكَأَخَذِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنَ
الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ.
الْخَامِسَةُ: الشُّرْبُ مِنَ الْمَصَانِعِ الْمَوْضُوعَةِ
(33/158)
عَلَى الطُّرُقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ
الشَّارِبُ إِذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى
دَلاَلَةِ الْحَال.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ
الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَنْزٌ، وَيَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ
كَانَتْ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُ الْكُفْرِ كَالصَّلِيبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ
رِكَازٌ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيل عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ قَبْضُ
ثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ لَفْظًا،
اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَال.
الثَّامِنَةُ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُول وَاعْتِبَارُهُ فِي الأَْحْكَامِ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ رُجُوعًا إِلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ
الظَّاهِرَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْل بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
التَّاسِعَةُ: جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا
وَوِكَائِهَا.
الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى، وَالاِعْتِمَادُ فِيهِ
عَلَى الأَْمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْهِ
الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: مَعْرِفَةُ رِضَا الْبِكْرِ بِالزَّوْجِ
بِصُمَاتِهَا.
الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَخَلاَ
بِهَا، قَال أَصْحَابُنَا: إِذَا طَلَّقَهَا وَقَال إِنَّهُ لَمْ
يَمَسَّهَا وَادَّعَتْ هِيَ الْوَطْءَ صُدِّقَتْ، وَكَانَ لَهَا الصَّدَاقُ
كَامِلاً (1) .
__________
(1) هذه المجموعة من الأمثلة والصور التي أعملت فيها القرينة انتخبت من
كتاب التبصرة تحت عنوان: فصل في بيان عمل فقهاء الطوائف الأربعة بالحكم
والقرائن والأمارات، وأيضًا من كتاب الطرق الحكمية لابن القيم، ومن كتاب
معين الحكام الحنفي المذهب.
(33/159)
وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَبْدُو اتِّفَاقُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْعَمَل بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال
بِصِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِدُونِ قُيُودٍ وَلاَ حُدُودٍ، وَمَصَادِرُ
مَذْهَبَيْهِمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَمِلُوا بِالْقَرَائِنِ
فِي حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، وَيَعْتَدُّونَ بِالْقَرِينَةِ الْحِسِّيَّةِ
وَالْحَالِيَّةِ، وَبِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ
الْعَلاَّمَةُ ابْنُ نُجَيْمٍ عِنْدَ إِحْصَائِهِ لِلْحُجَجِ الَّتِي
يَعْتَمِدُهَا الْقَاضِي، فَقَال: إِنَّ الْحُجَّةَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ،
أَوْ إِقْرَارٌ، أَوْ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ، أَوْ يَمِينٌ، أَوْ قَسَامَةٌ،
أَوْ عِلْمُ الْقَاضِي بَعْدَ تَوَلِّيهِ، أَوْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ،
وَقَال: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ مِنَ الدَّعْوَى.
وَذُكِرَ أَنَّهُ لاَ يُقْضَى بِالْقَرِينَةِ إِلاَّ فِي مَسَائِل
ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ فِي بَابِ التَّحَالُفِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمُزَنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الْحُكْمُ بِالظُّنُونِ، بَعْدَ ذِكْرِ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَتَنَازُعِ عَطَّارٍ وَدَبَّاغٍ، وَأَنَّهُ لَوْ
صَحَّ اسْتِعْمَال الظُّنُونِ لَقُضِيَ بِالْعِطْرِ لِلْعَطَّارِ،
وَالدِّبَاغِ لِلدَّبَّاغِ (2) .
__________
(1) التبصرة لابن فرحون 2 / 95 وما بعدها، والطرق الحكمية ص 194.
(2) مختصر المزني على هامش كتاب الأم 5 / 266، وكتاب تبويب الأشباه
والنظائر ص 310 للشيخ محمد أبي الفتح المفتي الحنفي.
(33/159)
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الإِْمَامُ
الْجَصَّاصُ صُوَرًا كَثِيرَةً عَمِلُوا فِي بَعْضِهَا بِالْقَرَائِنِ،
كَالاِخْتِلاَفِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا
لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجَةِ، وَمَا لِلرِّجَال فَهُوَ لِلزَّوْجِ،
فَحَكَمُوا بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ (1) .
وَمِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ يُعْمِلُونَ الْقَرَائِنَ -
إِنِ اعْتَبَرُوهَا عَامِلَةً - فِي خُصُوصِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلاَ
يُعْمِلُونَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، فَاعْتَبَرُوا مَثَلاً
سُكُوتَ الْبِكْرِ أَوْ صَمْتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَقَبْضَ
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ مَعَ سُكُوتِهِ إِذْنًا
بِالْقَبْضِ، وَوَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ
الْمِلْكِيَّةِ، وَقَبُول التَّهْنِئَةِ فِي وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ
أَيَّامَ التَّهْنِئَةِ الْمُعْتَادَةِ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ
مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا عَلاَمَةَ الْكَنْزِ، وَقَالُوا إِنْ كَانَتْ
دَالَّةً عَلَى الإِْسْلاَمِ كَانَتْ لُقَطَةً، وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً
عَلَى الْكُفْرِ فَفِيهَا الْخُمُسُ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الاِبْنُ تَعْلِيقًا عَلَى رِسَالَةِ
وَالِدِهِ الْمُسَمَّاةِ نَشْرَ الْعُرْفِ فِي بِنَاءِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ
عَلَى الْعُرْفِ فَقَال: لِلْمُفْتِي الآْنَ أَنْ يُفْتِيَ عَلَى عُرْفِ
أَهْل زَمَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ زَمَانَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 171 - 172.
(2) مجموع رسائل ابن عابدين 2 / 126، والمحلى وحاشية القليوبي عليه 3 /
350، 4 / 164.
(33/160)
قَرْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرْيَةُ فِي اللُّغَةِ: كُل مَكَانٍ اتَّصَلَتْ بِهِ الأَْبْنِيَةُ
وَاتُّخِذَ قَرَارًا.
وَتُطْلَقُ الْقَرْيَةُ عَلَى الْمُدُنِ وَغَيْرِهَا، وَالْقَرْيَتَانِ
الْمَذْكُورَتَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّل هَذَا
الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (1) هُمَا مَكَّةُ
الْمُكَرَّمَةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ وَالطَّائِفُ، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى
الْمَسَاكِنِ وَالأَْبْنِيَةِ وَالضِّيَاعِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
بِأَنَّهَا الْعِمَارَةُ الْمُجْتَمِعَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَاكِمٌ
شَرْعِيٌّ وَلاَ شُرْطِيٌّ وَلاَ أَسْوَاقٌ لِلْمُعَامَلَةِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا الْبَلْدَةُ
الْعَظِيمَةُ إِلاَّ أَنَّهَا دُونَ الْمِصْرِ (4) .
__________
(1) سورة الزخرف / 31.
(2) المصباح المنير، لسان العرب، المعجم الوسيط، المفردات في غريب القرآن.
(3) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 125، ومغني المحتاج 2 / 419.
(4) بدائع الصنائع 1 / 259.
(33/160)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمِصْرُ:
2 - الْمِصْرُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِكُل بَلَدٍ مَحْصُورٍ أَيْ مَحْدُودٍ
تُقَامُ فِيهَا الدُّورُ وَالأَْسْوَاقُ وَالْمَدَارِسُ وَغَيْرُهَا مِنَ
الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَيُقْسَمُ فِيهَا الْفَيْءُ وَالصَّدَقَاتُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْمِصْرَ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سَكٌّ
وَأَسْوَاقٌ، وَلَهَا رَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إِنْصَافِ
الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ بِحَشَمِهِ وَعِلْمِهِ أَوْ عِلْمِ غَيْرِهِ،
وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ فِي الْحَوَادِثِ إِلَيْهِ.
قَال الْكَرْخِيُّ: إِنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ مَا أُقِيمَتْ فِيهِ
الْحُدُودُ وَنُفِّذَتْ فِيهِ الأَْحْكَامُ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْمِصْرُ الْعِمَارَةُ الْمُجْتَمِعَةُ الَّذِي
فِيهِ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ وَشُرْطِيٌّ وَأَسْوَاقٌ لِلْمُعَامَلاَتِ.
وَالْمِصْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْقَرْيَةِ (1) .
ب - الْبَلَدُ:
3 - الْبَلَدُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُخْتَطِّ الْمَحْدُودِ
الْمُتَأَنَّسِ بِاجْتِمَاعِ قُطَّانِهِ وَإِقَامَتِهِمْ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن، المعجم الوسيط مادة (مصر) ،
بدائع الصنائع 1 / 259، الفواكه الدواني 1 / 305، حاشية القليوبي وعميرة 3
/ 125، مغني المحتاج 2 / 419.
(33/161)
فِيهِ، وَيَسْتَوْطِنُ فِيهِ جَمَاعَاتٌ
وَيُسَمَّى الْمَكَانُ الْوَاسِعُ مِنَ الأَْرْضِ بَلَدًا.
وَالْبَلَدُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَرْيَةِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرْيَةِ:
أ - فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَهْل
الْقُرَى فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ
عَلَى أَهْل الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَلاَ
يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ وَلاَ فِطْرَ وَلاَ
أَضْحَى إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ (2) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ إِلاَّ فِي مِصْرٍ
جَامِعٍ (3) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
أَقَامَهَا فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحُوا الْبِلاَدَ وَمَا نَصَبُوا الْمَنَابِرَ إِلاَّ
فِي الأَْمْصَارِ، وَلأَِنَّ الظُّهْرَ فَرِيضَةٌ فَلاَ يُتْرَكُ إِلاَّ
بِنَصٍّ قَاطِعٍ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ إِلاَّ فِي
الأَْمْصَارِ وَلِهَذَا لاَ تُؤَدَّى الْجُمُعَةُ فِي الْبَرَارِيِّ؛
وَلأَِنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ فَتَخْتَصُّ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، المفردات في غريب القرآن
مادة: (بلد) ، وحاشية القليوبي 3 / 125.
(2) حديث: " لا جمعة ولا تشريق. . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (2 /
195) وقال: " غريب مرفوعًا، وإنما وجدناه موقوفًا على علي ".
(3) قول علي: " لا جمعة ولا تشريق. . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3 /
168.
(33/161)
بِمَكَانِ إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ
الْمِصْرُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَهْل
الْقَرْيَةِ بِشَرْطِ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا عَدَدٌ تَتَقَرَّى بِهِمُ
الْقَرْيَةُ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ، يُمْكِنُهُمُ الإِْقَامَةُ آمَنِينَ
مُسْتَغْنِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ
قَرْيَتِهِمْ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا ذَلِكَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ بَل قَالُوا:
إِنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَاتِ
وَالأَْوْطَانِ فِي كَثْرَةِ الأَْمْنِ وَالْخَوْفِ، فَفِي الْجِهَاتِ
الآْمِنَةِ تَتَقَرَّى الْقَرْيَةُ بِالنَّفَرِ الْيَسِيرِ بِخِلاَفِ
غَيْرِهَا مِمَّا يُتَوَقَّعُ فِيهِ الْخَوْفُ، إِلاَّ أَنَّهُمُ
اتَّفَقُوا فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَى الثَّلاَثَةِ
وَالأَْرْبَعَةِ وَعَلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِمَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ،
قَال الْمَوَّاقُ بَعْدَمَا اسْتَعْرَضَ أَقْوَال عُلَمَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَدِ الَّذِينَ تَتَقَرَّى بِهِمُ الْقَرْيَةُ:
وَقَدْ حَصَل مِنْ هَذَا صِحَّةُ مَا صَدَرَتْ مِنِّي بِهَا فُتْيَا
وَهِيَ: أَنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ أَنْ تَكُونَ الْقَرْيَةُ
بِهَا ثَلاَثُونَ رَجُلاً فَإِنْ حَضَرُوا فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلاَّ
صَلَّوْا ظُهْرًا فَإِنْ صَلَّوْا جُمُعَةً أَجْزَأَتْهُمْ، إِنْ كَانُوا
اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً فَأَكْثَرَ، فَأَجَزْتُ الصَّلاَةَ مُرَاعَاةً
لِقَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ - فِي هَذَا الْمَجَال (2) -.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَهْل الْقَرْيَةِ إِنْ كَانَ
فِيهِمْ جَمْعٌ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 259.
(2) مواهب الجليل 2 / 161 وما بعدها، التاج والإكليل لمختصر خليل بالهامش 2
/ 161.
(33/162)
الْجُمُعَةُ لأَِنَّ الْقَرْيَةَ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَدِينَةِ، وَكَذَا إِنْ بَلَغَهُمْ صَوْتٌ مِنْ
مُؤَذِّنٍ يُؤَذِّنُ فِي الْبَلْدَةِ الْمُجَاوِرَةِ بِصُورَةٍ عَادِيَّةٍ
فِي الأَْوْقَاتِ الْهَادِئَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ (1) .
وَلَوْ سَمِعَ أَهْل الْقَرْيَةِ النِّدَاءَ مِنْ بَلَدَيْنِ مُجَاوِرَيْنِ
فَعَلَيْهِمْ حُضُورُ الأَْكْثَرِ جَمَاعَةً فَإِنِ اسْتَوَيَا
فَمُرَاعَاةُ الأَْقْرَبِ أَوْلَى كَنَظِيرِهِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَقِيل:
الأَْوْلَى مُرَاعَاةُ الأَْبْعَدِ لِكَثْرَةِ الأَْجْرِ بِسَبَبِ
الْمَشْيِ الزَّائِدِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْقَرْيَةِ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ وَلَمْ
يَبْلُغْهُمْ نِدَاءُ الأَْذَانِ مِنْ بَلَدٍ مُجَاوِرٍ فَلاَ جُمُعَةَ
عَلَيْهِمْ، قَالُوا: حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ أَوْ قُرًى
مُتَقَارِبَةٌ يَبْلُغُ بَعْضَهَا نِدَاءُ بَعْضٍ، وَكُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا
يَنْقُصُ أَهْلُهَا عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَجِبِ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمْ
وَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي إِحْدَى قُرَاهُمْ؛
لأَِنَّهُمْ غَيْرُ مُتَوَطِّنِينَ فِي مَحَل الْجُمُعَةِ (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَهْل الْقَرْيَةِ لاَ
يَخْلُونَ مِنْ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
__________
(1) حديث: " الجمعة على من سمع النداء ". أخرجه أبو داود (1 / 640) من حديث
عبد الله بن عمرو، وأشار إلى إعلاله بالوقف، وقال ابن حجر في الفتح (2 /
385) يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم: أتسمع النداء؟ قال:
نعم. قال: فأجب.
(2) مغني المحتاج 1 / 278، المجموع للنووي 4 / 486 وما بعدها.
(33/162)
الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ أَوْ
لاَ؟ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ إِلَى الْمِصْرِ، وَحَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ
بِأَنْفُسِهِمْ فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ وَاجْتَمَعَتْ فِيهِمْ
شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَهُمْ
مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إِلَى الْمِصْرِ وَبَيْنَ إِقَامَتِهَا فِي
قَرْيَتِهِمْ، وَالأَْفْضَل إِقَامَتُهَا فِي قَرْيَتِهِمْ لأَِنَّهُ إِذَا
سَعَى بَعْضُهُمْ أَخَل عَلَى الْبَاقِينَ الْجُمُعَةَ، وَإِذَا
أَقَامُوهَا فِي قَرْيَتِهِمْ حَضَرَهَا جَمِيعُهُمْ؛ وَلأَِنَّ
إِقَامَتَهَا بِمَوْضِعِهِمْ تَكْثِيرٌ لِجَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ
فَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إِلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا
ظُهْرًا، وَالأَْفْضَل السَّعْيُ إِلَيْهَا لِيَنَالُوا فَضْل السَّاعِي
إِلَى الْجُمُعَةِ وَيَخْرُجُوا مِنَ الْخِلاَفِ.
وَالْحَال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَرْيَتِهِمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ
فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ فَيُنْظَرُ فِيهِمْ فَإِنْ كَانُوا أَقَل مِنْ
أَرْبَعِينَ - مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ - فَعَلَيْهِمُ السَّعْيُ إِلَى
الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} (1) الآْيَةَ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ
وَكَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِنْهُمْ
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(33/163)
قَرْيَةً أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُمُ
السَّعْيُ إِلَيْهَا وَصَلَّوْا فِي مَكَانِهِمْ إِذْ لَيْسَتْ إِحْدَى
الْقَرْيَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى، وَإِنْ أَحَبُّوا السَّعْيَ
إِلَيْهَا جَازَ وَلَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلُّوا فِي مَكَانِهِمْ،
فَإِنْ سَعَى بَعْضُهُمْ فَنَقَصَ عَدَدُ الْبَاقِينَ لَزِمَهُمُ السَّعْيُ
لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ.
وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِصْرًا فَهُمْ مُخَيَّرُونَ
أَيْضًا بَيْنَ السَّعْيِ إِلَى الْمِصْرِ وَبَيْنَ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ
فِي قَرْيَتِهِمْ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ السَّعْيَ إِلَى الْمِصْرِ يَلْزَمُهُمْ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ فَيُصَلُّوا جُمُعَةً فِي قَرْيَتِهِمْ، وَالأَْوَّل
أَصَحُّ لأَِنَّ أَهْل الْقُرَى يُقِيمُونَ الْجُمَعَ فِي بِلاَدِ
الإِْسْلاَمِ وَإِنْ كَانُوا قَرِيبِينَ مِنَ الْمِصْرِ مِنْ غَيْرِ
نَكِيرٍ.
وَإِذَا كَانَ أَهْل الْمِصْرِ دُونَ الأَْرْبَعِينَ فَجَاءَهُمْ أَهْل
الْقَرْيَةِ فَأَقَامُوا الْجُمُعَةَ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ
أَهْل الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْمِصْرِ وَأَهْل الْمِصْرِ
لاَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ لِقِلَّتِهِمْ.
وَإِنْ كَانَ أَهْل الْقَرْيَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ
بِأَنْفُسِهِمْ لَزِمَ أَهْل الْمِصْرِ السَّعْيُ إِلَيْهِمْ، إِذَا كَانَ
بَيْنَهُمْ أَقَل مِنْ فَرْسَخٍ كَمَا يَلْزَمُ أَهْل الْقَرْيَةِ
السَّعْيُ إِلَى الْمِصْرِ إِذَا أُقِيمَتْ بِهِ، وَكَانَ أَهْل
الْقَرْيَةِ أَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ فِي كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمِصْرِ وَالْقَرْيَةِ
(33/163)
دُونَ الأَْرْبَعِينَ لَمْ تَجُزْ
إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
ب - فِي السَّفَرِ:
5 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ مَنْ سَافَرَ مِنْ قَرْيَةٍ لَهَا
سُورٌ فَأَوَّل سَفَرِهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ بِرُخَصِ
السَّفَرِ - مِنْ قَصْرٍ لِلصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَجَمْعٍ بَيْنَ
الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - هُوَ مُجَاوَزَةُ سُورِهَا الْمُخْتَصِّ
بِهَا وَإِنْ تَعَدَّدَ السُّورُ أَوْ كَانَ فِي دَاخِلِهِ مَزَارِعُ
وَبَسَاتِينُ وَخَرَابٌ؛ لأَِنَّ مَا فِي دَاخِل السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ
نَفْسِ الْقَرْيَةِ مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ، وَمِثْل
السُّورِ الْخَنْدَقُ، أَوِ الْحَاجِزُ التُّرَابِيُّ الَّذِي يَحُوطُهُ
أَهْل الْقُرَى بِقُرَاهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَرْيَةِ سُورٌ أَوْ
نَحْوُهُ أَوْ لَهَا سُورٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِهَا، كَأَنْ جَمَعَ مَعَهَا
قَرْيَةً أُخْرَى أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ مَعَ التَّقَارُبِ، فَأَوَّل
سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ
قَرْيَتِهِ وَيَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ؛ لأَِنَّ الضَّرْبَ فِي
الأَْرْضِ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}
(2) الآْيَةَ، يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ أَنَّ لِلَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلاَةَ
إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 361 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 101.
(33/164)
يَخْرُجُ مِنْهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ
وَالْمَزَارِعِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْقَرْيَةِ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ
الْقَرْيَةِ، وَلأَِنَّهَا لاَ تُتَّخَذُ لِلإِْقَامَةِ عَادَةً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ
الْمَسْكُونَةِ الْمُتَّصِلَةِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا كَالْبَسَاتِينِ
الَّتِي يَرْتَفِقُ أَهْلُهَا بِالْمَرَافِقِ الْمُتَّصِلَةِ مِنْ أَخْذِ
نَارٍ وَطَبْخٍ وَخَبْزٍ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَى شِرَائِهِ، وَأَمَّا
الْمَزَارِعُ وَالْبَسَاتِينُ الْمُنْفَصِلَةُ حَقِيقَةً حُكْمًا فَلاَ
يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا.
وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَّصِلَتَانِ - قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمِثْلُهُمَا
الْمُتَقَارِبَتَانِ بِحَيْثُ يَرْتَفِقُ أَهْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِأَهْل الأُْخْرَى - يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُمَا لأَِنَّهُمَا فِي حُكْمِ
الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَتَانِ - قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ
الاِنْفِصَال يَسِيرًا - فَلاَ يُشْتَرَطُ تَجَاوُزُهُمَا بَل يَكْفِي
لِتَحَقُّقِ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ قَرْيَتِهِ فَقَطْ، قَال
الْمَالِكِيَّةُ: وَمِثْل الْمُنْفَصِلَتَيْنِ الْمُتَعَادِيَتَانِ
بِحَيْثُ لاَ يَرْتَفِقُ أَهْل إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى بِسَبَبِ
الْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَلاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُمَا.
وَيَنْتَهِي سَفَرُ الْمُسَافِرِ إِذَا رَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ
بِبُلُوغِهِ مَا اشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ابْتِدَاءً (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 525، الفواكه الدواني 1 / 298، المجموع للنووي 4
/ 346 وما بعدها، مغني المحتاج 1 / 264، المغني لابن قدامة 2 / 259.
(33/164)
قَزَعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَزَعِ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ - فِي
اللُّغَةِ: قِطَعٌ مِنَ السَّحَابِ رَقِيقَةٌ وَاحِدُهَا قَزَعَةٌ،
وَصِغَارُ الإِْبِل، وَأَنْ يُحْلَقَ الرَّأْسُ وَيُتْرَكَ شَعْرٌ
مُتَفَرِّقٌ فِي مَوَاضِعَ فَذَلِكَ الشَّعْرُ قَزَعٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْقَزَعُ: هُوَ أَنْ
يُحْلَقَ بَعْضُ الرَّأْسِ وَيُتْرَكَ الْبَعْضُ قِطَعًا مِقْدَارَ
ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ كَذَا فِي الْغَرَائِبِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْقَزَعُ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا،
مِنْهُمْ مَنْ قَال: هُوَ حَلْقُ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْهُ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقَزَعِ (3) ؛ لأَِنَّ
__________
(1) القاموس المحيط، والمغرب للمطرزي، والنهاية لابن الأثير، والصحاح.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 347 ط. دار القلم، وانظر فتح الباري 10 /
365، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 34 ط. دار القلم، وحاشية ابن عابدين 5
/ 261.
(3) ابن عابدين 5 / 261، القوانين الفقهية ص 449 نشر الدار العربية للكتاب،
وأسنى المطالب 1 / 551، والمغني 1 / 90، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 350
- 351.
(33/165)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقَزَعِ وَقَال: احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ
اتْرُكُوهُ كُلَّهُ (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيل: لِكَوْنِهِ يُشَوِّهُ
الْخِلْقَةَ، وَقِيل: لأَِنَّهُ زِيُّ الشَّيْطَانِ، وَقِيل لأَِنَّهُ
زِيُّ الْيَهُودِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي رِوَايَةٍ لأَِبِي دَاوُدَ (2) ،
وَقِيل زِيُّ أَهْل الشَّرِّ وَالدَّعَارَةِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ إِذَا كَانَ فِي
مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلاَّ لِلْمُدَاوَاةِ أَوْ نَحْوِهَا، وَهِيَ
كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ،
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلاَمِ، وَقِيل فِي رِوَايَةٍ
لَهُمْ: لاَ بَأْسَ بِهِ فِي الْقُصَّةِ، وَالْقَفَا لِلْغُلاَمِ
وَالْجَارِيَةِ قَال: وَمَذْهَبُنَا كَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا (4) .
وَالْقُصَّةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: شَعْرُ
الصُّدْغَيْنِ (5) .
__________
(1) حديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع وقال: " احلقوه كله أو
اتركوه كله ". أخرجه أبو داود (4 / 411) وأصله في البخاري (فتح الباري 10 /
363 - 364) ومسلم (3 / 1675) .
(2) فتح الباري 10 / 365. وحديث: " أن القزع من زي اليهود ". أخرجه أبو
داود (4 / 412) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده رواية مجهولة كما في
الميزان للذهبي (4 / 610) .
(3) عمدة القاري 22 / 58.
(4) فتح الباري 10 / 365.
(5) عمدة القاري 22 / 58.
(33/165)
قَسَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَسَامَةِ فِي اللُّغَةِ: الأَْيْمَانُ تُقْسَمُ
عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا الْهُدْنَةُ: تَكُونُ بَيْنَ الْعَدُوِّ
وَالْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْحُسْنُ (1) .
وَالْقَسَامَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ أَنْ يَقُول
خَمْسُونَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاللَّهِ
مَا قَتَلْنَاهُ وَلاَ عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلاً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ - إِنَّ
الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْءًا مِنْهَا عَلَى
إِثْبَاتِ الدَّمِ (3) .
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اسْمٌ لِلأَْيْمَانِ الَّتِي تُقْسَمُ
عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، وترتيب القاموس المحيط.
(2) بدائع الصنائع 7 / 286، وتكملة فتح القدير 8 / 384.
(3) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6 / 273، والقوانين الفقهية ص 228.
(4) مغني المحتاج 4 / 109.
(33/166)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ
الأَْيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتِيل (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْيَمِينُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ، وَالْقَسَمُ،
وَالْبَرَكَةُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ
مَخْصُوصٍ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ: أَنَّ الْيَمِينَ
أَعَمُّ.
ب - اللَّوْثُ:
3 - اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ
الْمُدَّعِي (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ
شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ.
حُكْمُ الْقَسَامَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ
بِهَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنِ الدَّعْوَى
بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَوُجِدَ اللَّوْثُ.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 2، والفروع لابن مفلح 6 / 46.
(2) القاموس المحيط.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 357، 358.
(4) روضة الطالبين 10 / 10.
(33/166)
وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا: " مَا رُوِيَ
عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ
كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ
خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ
فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي
عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ
قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى
قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَل هُوَ
وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ
بِخَيْبَرَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنّ - َ فَتَكَلَّمَ
حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ
يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا
قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ
وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ
يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى
أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي
مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (1) .
__________
(1) حديث: سهل بن أبي حثمة. أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229) ومسلم (3
/ 1291 - 1292) واللفظ لمسلم.
(33/167)
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ الأَْنْصَارِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ
عَلَى الْيَهُودِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ
بْنُ عُلَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ،
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى عَدَمِ
الأَْخْذِ بِالْقَسَامَةِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَل بِهَا؛ لأَِنَّهَا
مُخَالِفَةٌ لأُِصُول الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا.
وَمِنْ هَذِهِ الأُْصُول: أَنْ لاَ يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى مَا
عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ
يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَاتِل، بَل قَدْ
يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَاتِل فِي بَلَدٍ آخَرَ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا
عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ يُعْطَى
النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ،
وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) حديث: " رجل من الأنصار. . . " أخرجه مسلم (3 / 1295) .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 / 235.
(3) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم. . .
" أخرجه مسلم (3 / 1336) من حديث ابن عباس.
(33/167)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ:
5 - شُرِعَتِ الْقَسَامَةُ لِصِيَانَةِ الدِّمَاءِ وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا،
حَتَّى لاَ يُهْدَرَ دَمٌ فِي الإِْسْلاَمِ أَوْ يُطَل، وَكَيْ لاَ
يَفْلِتَ مُجْرِمٌ مِنَ الْعِقَابِ، قَال عَلِيٌّ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِيمَنْ مَاتَ مِنْ زِحَامٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي
الطَّوَافِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يُطَل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ،
إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ
الْمَال (1) .
فَالشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ
الدِّمَاءِ وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْل
يَكْثُرُ بَيْنَمَا تَقِل الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَاتِل
يَتَحَرَّى بِالْقَتْل مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ، جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ
حِفْظًا لِلدِّمَاءِ (2) .
شُرُوطُ الْقَسَامَةِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ لَوْثٌ:
6 - سَبَقَ تَعْرِيفُ اللَّوْثِ فِي الأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ، وَهُوَ
شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَوْث) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا:
7 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْل مُكَلَّفًا حَتَّى
تَصِحَّ الدَّعْوَى بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 9.
(2) بداية المجتهد 2 / 428.
(3) مغني المحتاج 4 / 111، وروضة الطالبين 10 / 10، والمغني والشرح الكبير
10 / 7، 8، وشرح الخرشي 8 / 51، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 /
370.
(33/168)
لاَ قَسَامَةَ عَلَى الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
أَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ
وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا،
فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ، بَل يَدَّعِي لَهُمَا
الْوَلِيُّ أَوْ يُوقَفُ إِلَى كَمَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ
مَجْنُونًا وَقْتَ الْقَتْل كَامِلاً مُكَلَّفًا عِنْدَ الدَّعْوَى
سُمِعَتْ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَال بِالتَّسَامُعِ، وَلَهُ أَنْ
يَحْلِفَ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ
بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَيَّنًا:
9 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى
أَهْل مَدِينَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ
جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ (3) ، فَإِنِ
ادَّعَى الْقَتْل عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ
مَسْمُوعَةٌ، إِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ
أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لاَ يُتَصَوَّرُ
اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى
__________
(1) منتهى الإرادات 3 / 333، ومطالب أولي النهى 6 / 148، والوجيز في الفقه
للغزالي 2 / 159، وروضة الطالبين 10 / 4.
(2) الوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159، ومغني المحتاج 4 / 110.
(3) المغني والشرح الكبير 10 / 4، 5، وشرح الخرشي 8 / 55.
(33/168)
الْقَتْل لاَ يُبَالِي بِقَوْلِهِ،
فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ. وَلَوْ قَال: قَتَل أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ،
أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ
يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهَل يُجِيبُهُ؟
وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ، وَلَوْ قَال فِي دَعْوَاهُ عَلَى حَاضِرِينَ
قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ قَتَلَهُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَطَلَبَ
تَحْلِيفَهُمْ لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي عَلَى الأَْصَحِّ، لإِِبْهَامِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى (1) ، وَذَلِكَ
مِثْل لَوِ ادَّعَى وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ
أَوِ الرِّجَال، لَمْ يُسْمَعْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ يُشْرَطُ
لِلْقَسَامَةِ، بَل إِنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدِ
اخْتَلَفُوا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لاَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ،
كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ
ابْتِدَاءً عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ، فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لاَ
يُنَافِي مَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ، فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ
عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول: أَنَّ
الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْل
الْمَحَلَّةِ، وَيُكَلَّفُ الْوَلِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلاَّ حَلَفَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدًا (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7 / 368، والوجيز في الفقه للغزالي 2 /
158.
(2) ابن عابدين 5 / 403، وتكملة فتح القدير 8 / 388.
(33/169)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ تَتَنَاقَضَ
دَعْوَى الْمُدَّعِي:
10 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى
الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ قَال الْقَتِيل قَبْل مَوْتِهِ: قَتَلَنِي فُلاَنٌ
عَمْدًا، وَقَالُوا: بَل قَتَلَهُ خَطَأً أَوِ الْعَكْسَ، فَإِنَّهُ لاَ
قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَل حَقُّهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا
إِلَى قَوْل الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلاَ يُجَابُونَ لِذَلِكَ؛
لأَِنَّهُمْ كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ (1) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ
انْفِرَادَهُ بِالْقَتْل، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ،
أَوْ أَنَّهُ الْقَاتِل مُنْفَرِدًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ
لِمُنَاقَضَتِهَا الدَّعْوَى الأُْولَى وَتَكْذِيبِهَا، وَلَوِ ادَّعَى
عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ أَوْ
عَكْسُهُ بَطَل الْوَصْفُ، وَلَمْ يَبْطُل أَصْل دَعْوَى الْقَتْل فِي
الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا، أَوْ
عَكْسُهُ فَيَعْتَمِدُ تَفْسِيرَهُ (2) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل ذُكُورًا
مُكَلَّفِينَ:
11 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْل
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 51، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 58، والمغني والشرح
الكبير 10 / 4، وكشاف القناع 6 / 73.
(2) مغني المحتاج 4 / 110 - 111، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159.
(33/169)
عَمْدًا، فَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَحْلِفُ
الأَْيْمَانَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا مُكَلَّفًا، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ
يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْل
خَطَأً، فَإِنَّ الَّذِي يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ هُوَ مَنْ يَرِثُ
الْمَقْتُول ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ كَانَ لِلْقَتِيل وَرَثَةٌ وُزِّعَتِ
الأَْيْمَانُ بِحَسَبِ الإِْرْثِ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، وَلاَ فَرْقَ
فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ، وَلاَ يَقْدَحُ غَيْبَةُ
بَعْضِهِمْ أَوْ نُكُولُهُ، فَلِلذَّكَرِ الْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ
يَحْلِفَ بِقِسْطِهِ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ
لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْخَارِجِ، أَوْ كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِ
نَصِيبِهِ وَيَأْخُذَ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي
هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقْسِمُ
خَمْسُونَ رَجُلاً مِنْكُمْ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ (3) ؛
وَلأَِنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْل الْعَمْدِ، فَلاَ تُسْمَعُ مِنَ
النِّسَاءِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي
تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْل، وَلاَ مَدْخَل لِلنِّسَاءِ
فِي إِثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَال ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ
مَجْرَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 293 - 295.
(2) مغني المحتاج 4 / 115 - 116.
(3) حديث: " يقسم خمسون رجلاً منكم وتستحقون. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 12 / 231) من حديث أنس بمعناه.
(33/170)
رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ
بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ
وَيَمِينٍ، وَلاَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ
مَقْصُودُهَا الْمَال (1) .
الشَّرْطُ السَّابِعُ: وَصْفُ الْقَتْل فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْقَسَامَةِ مُفَصَّلَةً (2) .
الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيل أَثَرُ قَتْلٍ:
13 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتِيل أَثَرُ
قَتْلٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا
لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْل فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ
أَنْفِهِ فَلاَ يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَال
الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ
أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لاَ شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ
يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا
بِسَبَبِ الْقَيْءِ أَوِ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِمَا، فَلاَ يُعْرَفُ
كَوْنُهُ قَتِيلاً.
__________
(1) المغني لابن قدامة 10 / 24، كشاف القناع 6 / 72 - 79.
(2) شرح الخرشي 8 / 51، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 6 / 270، ونهاية
المحتاج 7 / 369 - 370، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 456، وحاشية البجيرمي
4 / 137، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 103، والمغني مع الشرح الكبير 10
/ 35.
(33/170)
وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ
عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لأَِنَّ
الدَّمَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ خُرُوجُهُ
بِسَبَبِ الْقَتْل، وَعَلَى هَذَا لاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ
اللَّوْثَ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ تُوجَدَ الْجُثَّةُ فِي مَحَلَّةٍ
وَبِهَا أَثَرُ الْقَتْل، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ أَثَرِ
الْقَتْل سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اللَّوْثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلاَ جُرْحٍ؛
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَل
الأَْنْصَارَ هَل بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لاَ؟ وَلأَِنَّ الْقَتْل
يَحْصُل بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ
يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ
وَأَصْلِهَا، وَإِنْ قَال فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّ الْمَذْهَبَ
الْمَنْصُوصَ وَقَوْل الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ الْقَسَامَةِ (1) .
الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيل فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ
لأَِحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ
أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيل مِلْكًا لأَِحَدٍ
أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لأَِحَدٍ وَلاَ فِي يَدِ
أَحَدٍ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4739، وبداية المجتهد 2 / 431، ومغني المحتاج 4 /
111، والفواكه الدواني 2 / 249، والمغني والشرح الكبير 10 / 20، وكشاف
القناع 6 / 70.
(33/171)
فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ
التَّصَرُّفُ فِي الْمَكَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لاَ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمْ وَلاَ لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ
الدِّيَةُ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ
الْحِفْظِ اللاَّزِمِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْقَتِيل فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ لَيْسَ
بِمِلْكٍ لأَِحَدٍ فَإِنَّهُ لاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ إِذَا كَانَ
بِحَيْثُ لاَ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنَ الأَْمْصَارِ وَلاَ مِنْ قَرْيَةٍ،
فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ
الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَقْتُول فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ
دَارِهِمْ إِذَا كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا لاَ يُعْتَبَرُ
لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُل
قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا،
فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَل فِيهِ الْقَسَامَةَ لاِبْنَيْ عَمِّهِ
حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لأَِنَّ خَيْبَرَ
مَا كَانَ يُخَالِطُ الْيَهُودَ فِيهَا غَيْرُهُمْ (2) .
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَعَ
الْعَدَاوَةِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 289.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 292، والفواكه الدواني 2 / 250، وروضة الطالبين 10 /
10.
(33/171)
الْقَتِيل غَيْرُ الْعَدُوِّ. لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَل الأَْنْصَارَ
هَل كَانَ فِي خَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لاَ؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ
وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا (1) .
الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
15 - ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ
وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (2) فَجَعَل جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى
الْمُنْكِرِ، فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ (3) .
الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الإِْسْلاَمُ:
16 - وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَقْتُول (4) فَلاَ
تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ
الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيل الْكَافِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ
قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ
مَالِهِ، وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ
إِلاَّ شَاهِدٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ
دِيَتَهُ، وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً.
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 10 / 8.
(2) حديث: " واليمين على من أنكر ". أخرجه البيهقي (10 / 252) ، من حديث
ابن عباس وذكره ابن حجر في التلخيص (4 / 39) وأعله بالإرسال وتضعيف أحد
رواته.
(3) بدائع الصنائع 7 / 288.
(4) القوانين الفقهية ص 378، وشرح الخرشي 8 / 59، وحاشية الدسوقي 4 / 298،
والفواكه الدواني 2 / 254.
(33/172)
وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا
الْقَسَامَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ لَهُمْ
مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا نُصَّ
عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ؛ وَلأَِنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ لِذِمَّتِهِ (1) ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ
خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
كَيْفِيَّةُ الْقَسَامَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ عَلَى
مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو
الزِّنَادِ فَقَالُوا: إِنَّ الأَْيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ
إِلَى الْمُدَّعِينَ، فَيُكَلَّفُونَ حَلِفَهَا لِيَثْبُتَ مُدَّعَاهُمْ
وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا وُجِّهَتِ الأَْيْمَانُ
إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل خَمْسِينَ
يَمِينًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ الْحَالِفُ أَلْفَاظَ
الْيَمِينِ حَتَّى تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَكَّدَةً فَيَقُول: وَاللَّهِ
الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَْعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. . .
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4742، والقليوبي وعميرة 4 / 63، والأم للشافعي 6 /
98، والمغني والشرح الكبير 10 / 31 - 32.
(2) حديث: " من آذى ذميًا فأنا خصمه. . . " أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (8
/ 380) من حديث عبد الله ابن مسعود واستنكره.
(33/172)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ
بَاتَّةً قَاطِعَةً فِي ارْتِكَابِ الْمُتَّهَمِ الْجَرِيمَةَ بِنَفْسِهِ
أَوْ بِالاِشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا إِذَا كَانَ
الْجَانِي قَدْ تَعَمَّدَ الْقَتْل أَمْ لاَ فَيَقُول: وَاللَّهِ إِنَّ
فُلاَنًا ابْنَ فُلاَنٍ قَتَل فُلاَنًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا
شَرِكَهُ غَيْرُهُ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ (1) أَنْ تَكُونَ الأَْيْمَانُ
مُتَوَالِيَةً، فَلاَ تُفَرَّقُ عَلَى أَيَّامٍ أَوْ أَوْقَاتٍ؛ لأَِنَّ
لِلْمُوَالاَةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ
وَالْحَنَابِلَةِ مُوَالاَتُهَا؛ لأَِنَّ الأَْيْمَانَ مِنْ جِنْسِ
الْحُجَجِ، وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ
مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ مُدَّعَاهُمْ، وَحُكِمَ لَهُمْ
إِمَّا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلاَفِ فِي مُوجِبِ
الْقَسَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، فَيَقُول: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ
وَلاَ شَارَكْتُ فِي قَتْلِهِ وَلاَ تَسَبَّبْتُ فِي مَوْتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُتَّهَمُونَ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْقَتِيل
فِي بَيْتِ الْمَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ (2) ، وَإِنْ نَكَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ
الْيَمِينِ رُدَّتِ الأَْيْمَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 293.
(2) بداية المجتهد 2 / 430، وحاشية الدسوقي 4 / 289، ومغني المحتاج 4 /
116، والمغني والشرح الكبير 10 / 30.
(33/173)
عَلَى الْمُدَّعِينَ (1) ، فَإِنْ حَلَفُوا
عُوقِبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا لاَ شَيْءَ
لَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) مَنْ نَكَل مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ
حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ، وَقِيل: يُجْلَدُ
مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَلاَ يُحْبَسُ عَلَيْهَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ كَسَائِرِ الأَْيْمَانِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِمَا رَوَى سَهْل بْنُ
أَبِي حَثْمَةَ " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ:
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ
مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى
يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا
قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَل هُوَ
وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ - وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُول فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ - وَهُوَ
الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ - فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ
حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا
أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا
قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 116.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 229، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 /
296، والمغني والشرح الكبير 10 / 22.
(33/173)
أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ
صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ، قَالُوا
لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى
أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ قَال سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا
نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (1) .
فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمِينَ
أَوَّلاً إِلَى الْمُدَّعِينَ حِينَمَا سَأَلَهُمْ قَائِلاً: أَتَحْلِفُونَ
وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ
مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمُ ابْتِدَاءً مَا وَجَّهَهَا الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ
وَالنَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا بِتَوْجِيهِ تِلْكَ الأَْيْمَانِ إِلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْل
الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " عَنْ سَعِيدِ
بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ
الأَْنْصَارِ يُقَال لَهُ سَهْل بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ
نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا،
فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ
قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلاَ عَلِمْنَا قَاتِلاً،
فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ
__________
(1) حديث سهل بن أبي حثمة. تقدم تخريجه ف / 4.
(33/174)
فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً، فَقَال:
الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَال لَهُمْ تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ
قَتَلَهُ؟ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَال: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا لاَ
نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَل دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِل
الصَّدَقَةِ (1) .
دَل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَّل مَا يُطْلَبُ فِي دَعْوَى
الْقَسَامَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ
جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي
وُجِّهَتِ الأَْيْمَانُ الْخَمْسُونَ الْخَاصَّةُ بِدَعْوَى الْقَسَامَةِ
إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ،
فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ، وَلَكِنَّ
الأَْنْصَارَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ لَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمُ
الْيَهُودُ لِكُفْرِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَعْطَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ لأَِهْلِهِ مِنْ
عِنْدِهِ كَيْ لاَ يُهْدَرَ دَمُ مُسْلِمٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَكَل مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ
مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَكَذَا
إِنْ نَكَل جَمِيعُ الْمُحَلَّفِينَ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ
مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ وَسِيلَةً لِتَحْصِيل غَيْرِهَا،
بِمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُحَلَّفُونَ لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ
عَنْهُمْ، بِخِلاَفِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الأَْمْوَال، فَإِذَا حَلَفَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَال بَرِئَ وَسَقَطَ الْمَال الَّذِي
__________
(1) حديث سهل بن أبي حثمة. أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229 ط. السلفية)
.
(33/174)
أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، لِهَذَا فَإِنَّ
مَنْ نَكَل حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.
وَالْحَبْسُ عِنْدَ النُّكُول إِنَّمَا يَكُونُ فِي دَعْوَى الْقَتْل
الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى
عَاقِلَتِهِمْ وَلاَ يُحْبَسُونَ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْخَطَأِ
الْمَال فَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ النُّكُول.
وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الأَْزْمَعِ
أَنَّهُ قَال لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَبْذُل
أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَال نَعَمْ (1) .
مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْقَسَامَةُ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ
الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الرِّجَال الأَْحْرَارِ الْبَالِغِينَ
الْعُقَلاَءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُول الْوَارِثِينَ لَهُ، كَمَا لاَ
خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إِلَى الصِّبْيَانِ
وَالْمَجَانِينِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إِلَى النِّسَاءِ أَوْ
غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْعَصَبَةِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْل عَمْدًا، وَبَيْنَ
كَوْنِهِ خَطَأً، وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْل الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ
وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ (2) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا
طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ
__________
(1) المبسوط للسرخسي. . / 111، وحاشية ابن عابدين 5 / 403.
(2) شرح الخرشي 8 / 56 - 57.
(33/175)
عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلاَ يَحْلِفُ فِي
الْعَمْدِ أَقَل مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لأَِنَّ النِّسَاءَ لاَ يَحْلِفْنَ فِي
الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنِ انْفَرَدْنَ عَنْ
رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُول كَمَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ
الأَْيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأً
بِخِلاَفِ الْعَمْدِ، لاِنْفِرَادِ الرِّجَال بِهِ، وَتُوَزَّعُ
الأَْيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي
الْخَطَأِ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الأَْيْمَانَ
كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى
الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ
الْمَال.
وَإِذَا كُسِرَتِ الْيَمِينُ يُكْمَل عَلَى ذِي الأَْكْثَرِ مِنَ
الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ، كَابْنٍ وَبِنْتٍ
عَلَى الاِبْنِ ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى
الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى
الْبِنْتِ لأَِنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ
الاِبْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ أَقَل نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ
عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتِ الْكُسُورُ جَبَرَ كُل وَاحِدٍ كَسْرَهُ،
كَثَلاَثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ
وَثُلُثَانِ فَتَكْمُل عَلَى كُلٍّ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ
عَشَرَ يَمِينًا.
جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلاَةُ الدَّمِ
فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فِي قَوْل
مَالِكٍ، قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَل يُقْسِمُ
(33/175)
النِّسَاءُ فِي قَتْل الْعَمْدِ فِي قَوْل
مَالِكٍ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَهَل يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْل
الْخَطَأِ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: نَعَمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْلِفُ كُل وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، رَجُلاً
كَانَ أَوِ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْل، عَمْدًا كَانَ
أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ
فِي الدَّعْوَى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.
قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيل وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ
أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الآْخَرُ مِنْ أَنْ
يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ
(2) ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ
مِنَ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُول بِلاَ وَارِثٍ سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ
وَالدِّيَةُ، إِلاَّ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْل عَلَى
مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي
الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَال
الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَل فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى
وَجْهَيْنِ، وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَالْوَجْهُ
الآْخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ (3) .
__________
(1) المدونة الكبرى 6 / 418، والشرح الصغير 4 / 418.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 282، والأم للشافعي 6 / 101.
(3) مغني المحتاج 4 / 118، وحاشية البجيرمي 4 / 137.
(33/176)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي
الأَْوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَال وَسَقَطَ حُكْمُ
النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ
كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لاَ تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى
يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَكَذَا لاَ تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛
لأَِنَّ الْحَقَّ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ،
وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الأَْوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالأَْيْمَانُ لاَ
تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل إِذَا كَانَ
عَمْدًا لاَ يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلاَ
الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ
هُوَ الْقِصَاصُ، وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ
أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول بِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل غَيْرَ عَمْدٍ، فَأَجَازَ قَسَامَةَ
الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَحُضُورِ
الْغَائِبِ؛ لأَِنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ،
فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ - وَهُمْ
وَرَثَتُهُ - وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ، وَيُبْدَأُ
بِالذُّكُورِ، وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ
لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُول إِلاَّ النِّسَاءُ، وَكَذَا إِذَا نَكَل
الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ
الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ
يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 25.
(33/176)
عَلَيْهِمْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى
بَيْتِ الْمَال، قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِل فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ
قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
دُونَ الْمُدَّعِي، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ
رَجُلاً مِنَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل
وَيُحَلِّفُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوِ الْفَسَقَةَ،
كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ، وَيَكُونُ
الاِخْتِيَارُ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل،
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، أَيْ
عَوَاقِل كُل مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ خَصَّ الْوَلِيُّ
قَاتِلاً مُعَيَّنًا مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ (2) .
الْقَوْل الأَْوَّل: يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ أَهْل
الْمَحَلَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ
تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ تُدِينُ الْقَاتِل الْمُخَصَّصَ، قَال
السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى أَهْل الْقَتِيل عَلَى بَعْضِ أَهْل
الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيل بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالُوا:
قَتَلَهُ فُلاَنٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُبْطِل هَذَا حَقَّهُ،
وَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ
مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِل وَاحِدٌ
مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لاَ نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً (3) .
__________
(1) منتهى الإرادات 3 / 335.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 227 - 228.
(3) المبسوط 26 / 114، وحاشية ابن عابدين 6 / 634.
(33/177)
الْقَوْل الثَّانِي: رَوَاهُ ابْنُ
الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ
أَهْل الْمَحَلَّةِ، لأَِنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِعَيْنِهِ، يَكُونُ إِبْرَاءً لأَِهْل الْمَحَلَّةِ عَنِ الْقَسَامَةِ فِي
الْقَتِيل الَّذِي لاَ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ
أَنَّهُ يُعْرَفُ الْقَاتِل مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، صَارَ مُبْرِئًا لَهُمْ
عَنِ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ
شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل، فَقَدْ
أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْل بِالْحُجَّةِ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ،
وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لاَ
تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا؛ لأَِنَّ أَهْل الْمَحَلَّةِ خُصُومٌ فِي هَذِهِ
الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتِ الْقَسَامَةُ (1) .
وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ عَنِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا
الْقَتِيل إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْل عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ
غَيْرِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل، وَلاَ تُسْمَعُ
الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ، لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَ
الإِْبْرَاءِ وَالاِتِّهَامِ، وَإِذَا اتَّهَمَتِ الْمَحَلَّةُ قَاتِلاً
مُعَيَّنًا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا كُلِّفَتْ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ،
فَإِنْ أَحْضَرَتِ الْبَيِّنَةَ وَوَافَقَ الْوَلِيُّ حَكَمَ عَلَيْهِ
بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، قَال
الْكَاسَانِيُّ: وَلَوِ ادَّعَى أَهْل تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ
مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا
الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) المبسوط 26 / 114 - 115، وبدائع الصنائع 10 / 4757، والاختيار 5 / 56.
(33/177)
الرَّجُل يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ،
وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إِنْ وَافَقَهُمُ الأَْوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى
عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِي الدَّعْوَى
عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لأَِنَّ الأَْوْلِيَاءَ قَدْ
أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْل مِنْهُ، وَلاَ يَجِبُ
عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْل
عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ
الرَّجُل، تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ (1) .
وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ
وَبَيْنَهُمْ ذِمِّيٌّ، فَلاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لأَِنَّ
تَدْبِيرَ الْمِلْكِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل الْمُسْلِمِينَ،
وَلاَ يُزَاحِمُهُمُ الذِّمِّيُّ، لأَِنَّهُ تَابِعٌ، فَكَانَ حُكْمُهُ
حُكْمَ النِّسَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي قَرْيَةٍ لأَِهْل
الذِّمَّةِ، فَقَدْ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ،
لأَِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهِمْ.
أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهَا
تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ
يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي
اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالذِّمِّيُّونَ، فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ
وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ
تَتَحَمَّل عَوَاقِلُهُمُ الدِّيَةَ، وَالذِّمِّيَّ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي
مَالِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ.
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4758.
(33/178)
وَقَدْ اسْتَدَل السَّرَخْسِيُّ عَلَى
هَذَا الْحُكْمِ بِقِصَّةِ الرَّجُل الْمَقْتُول مِنْ قِبَل الْيَهُودِ فِي
خَيْبَرَ، إِذْ إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ، قَال السَّرَخْسِيُّ: إِذَا وُجِدَ
الْقَتِيل فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى، فِيهِمُ الْمُسْلِمُ
وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ
مِنْهُمْ وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ
(خَيْبَرَ) وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ
الدِّيَةَ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى
عَوَاقِلِهِمْ، وَمَا أَصَابَ أَهْل الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ
مَعَاقِل فَعَلَيْهِمْ وَإِلاَّ فَفِي أَمْوَالِهِمْ (1) ، وَتَجِبُ
الْقَسَامَةُ عَلَى الأَْحْرَارِ الْبَالِغِينَ؛ لأَِنَّهُمْ أَهْل
النُّصْرَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلاَ قَسَامَةَ
عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْل النُّصْرَةِ، وَقَوْل
الْمَجْنُونِ لَيْسَ صَحِيحًا، فَلاَ قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ
الْمَرْأَةُ لاَ تَشْتَرِكُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ إِذَا كَانَ
الْقَتِيل فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، وَعَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ
عَلَى عَاقِلَتِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي مِلْكِهَا، وَهَذَا عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ تَدْبِيرِ
مِلْكِهَا، لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ
الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَقَدْ وُجِدَا فِي حَقِّهَا،
أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا، وَأَمَّا الأَْهْلِيَّةُ فَلأَِنَّ
الْقَسَامَةَ يَمِينٌ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 26 / 111.
(33/178)
وَأَنَّهَا مِنْ أَهْل الْيَمِينِ، أَلاَ
تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَعْنَى
النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لاَ فِي كُل فَرْدٍ
كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ (1) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ: فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي
الْقَسَامَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ
الَّذِي يَرَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَطْ دُونَ
الْغَائِبِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَسْئُولاً عَنْ تَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ
أَثْنَاءَ غِيَابِهِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقَسَامَةِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْقَسَامَةِ،
وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِل الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ
الْقَتْل خَطَأً، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَجِبُ بِهَا
إِذَا كَانَ الْقَتْل الْمُدَّعَى بِهِ عَمْدًا
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ
الدِّيَةِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ
صَحَابَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَبِي
بَكْرٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4756.
(2) المبسوط للسرخسي 26 / 111.
(3) المدونة الكبرى 6 / 416، وشرح الخرشي 8 / 98، ونهاية المحتاج 7 / 376.
(33/179)
وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ
بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ
عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ
كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا:
لاَ (2) .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَسَامَةُ الدَّمِ، فَأَقَرَّهَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ
عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الأَْنْصَارِ مِنْ بَنِي
حَارِثَةَ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ (3) ، فَإِضَافَةُ
قَسَامَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الدَّمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
يُحْكَمُ بِهَا بِالْقِصَاصِ.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ،
فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 376، والأم للشافعي 6 / 97، والمبسوط 26 / 111 وما
بعدها.
(2) حديث عبد الله بن سهل. تقدم ف 4.
(3) حديث: " أن القسامة كانت في الجاهلية ". أخرجه البيهقي (8 / 122) بهذا
اللفظ وهو في صحيح مسلم (3 / 1295) دون قوله " قسامة الدم ".
(33/179)
عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ:
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ
مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى
يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا
قَتَلْنَاهُ فَأَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ
ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ
وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنَّ -
فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ يَدُوا
صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا
إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ:
أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال:
فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ
نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ فَقَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ
رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا
__________
(1) حديث: " أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر ". تقدم تخريجه ف 4.
(33/180)
لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ،
فَدَخَلُوا، فَقَال: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُول
الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ
(1) ، قَال لِي: مَا تَقُول يَا أَبَا قِلاَبَةَ، وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ،
فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ رُءُوسُ الأَْجْنَادِ
وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا
عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ
أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ
مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصٍ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ
تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَل
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ
فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: رَجُلٍ قَتَل بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِل،
أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٍ حَارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ. . . إِلَخْ. الْحَدِيثَ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ أَنَّهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي وَجَدْتُ أَخِي
قَتِيلاً فِي بَنِي فُلاَنٍ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلاَ
عَلِمُوا لَهُ قَاتِلاً، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي
إِلاَّ هَذَا؟ فَقَال: بَل لَكَ مِائَةٌ
__________
(1) المراد بالخلفاء معاوية، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان ذكر
ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري 2 / 240.
(2) المبسوط للسرخسي 26 / 109 وحديث " أبي قلابة " أخرجه البخاري (فتح
الباري 12 / 230) .
(33/180)
مِنَ الإِْبِل (1) ، فَدَل عَلَى وُجُوبِ
الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَهْل الْمَحَلَّةِ -
مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَاصَ فِي
الْحَدِيثِ، بَل قَصَرَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى دَفْعِ مِائَةٍ مِنَ الإِْبِل.
وَلأَِنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيل
بِهَا بِالْقَتَلَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ
مَحَلَّتِهِمْ وَصِيَانَتُهَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْقَتْل، فَكَانَ
وُقُوعُ الْقَتْل بِمَحَلَّتِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ عَنْ هَذِهِ
الصِّيَانَةِ وَحِفْظِهَا (2) .
مُبْطِلاَتُ الْقَسَامَةِ:
20 - تَبْطُل الْقَسَامَةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بِالإِْبْرَاءِ
صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً.
أَمَّا الإِْبْرَاءُ الصَّرِيحُ: فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ
الإِْبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُ، أَوْ
أَسْقَطْتُ، أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. لأَِنَّ رُكْنَ الإِْبْرَاءِ
صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْل الإِْبْرَاءِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ
لِلْبَرَاءَةِ، فَيَصِحُّ.
وَأَمَّا الإِْبْرَاءُ الضِّمْنِيُّ " دَلاَلَةً " فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ
وَلِيُّ الْقَتِيل عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ
__________
(1) حديث زياد بن أبي مريم: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . "
ذكره الكاساني في بدائع الصنائع 10 / 4736 - 4737، ولم نهتد إليه في
المراجع الموجودة بين أيدينا، وأخرج البزار (كشف الأستار 2 / 209) حديثًا
بهذا المعنى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه. وضعفه الهيثمي في مجمع
الزوائد (6 / 290) .
(2) بدائع الصنائع 10 / 4736 - 3737.
(33/181)
قَتَل الْقَتِيل، فَيَبْرَأُ أَهْل
الْمَحَلَّةِ مِنَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لأَِنَّ ظُهُورَ الْقَتِيل
فِي الْمَحَلَّةِ لَمْ يَدُل عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
قَاتِلٌ، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُونُ
نَفْيًا لِلْقَتْل عَنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ
عَنِ الْقَسَامَةِ (1) .
كَمَا تَبْطُل الْقَسَامَةُ بِإِقْرَارِ رَجُلٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ
الْقَاتِل، فَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَال: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، بَل أَنَا قَتَلْتُهُ، فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُل
دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إِنْ
كَانَ قَبَضَهَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ
الْوَلِيُّ أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجِبِ الْقَتْل لَزِمَهُ رَدُّ مَا
أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الأَْوَّل، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ
مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ قَوْلاَنِ.
وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ
الْقَاتِل غَيْرُ هَذَا، كَأَنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً
أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْل فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُول
لاَ يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ
تَبْطُل دَعْوَى الْقَسَامَةِ، وَإِنْ قَالَتِ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ
أَنَّ فُلاَنًا لَمْ يَقْتُلْهُ لَمْ تُقْبَل الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّهَا
نَفْيٌ مُجَرَّدٌ، وَإِنْ قَالاَ: مَا قَتَلَهُ فُلاَنٌ، بَل فُلاَنٌ،
سُمِعَتْ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4756، والمبسوط 26 / 115، وبداية المجتهد 2 / 431
الطبعة السادسة.
(2) المغني والشرح الكبير 10 / 30، وكشاف القناع 6 / 72.
(33/181)
وَإِذَا بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ لأَِحَدِ
الأُْمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يَرُدَّ
مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيمَا أَخَذَهُ،
فَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ.
قَسَم
انْظُرْ: أَيْمَان
(33/182)
قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَسْمُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ - لُغَةً: الْفَرْزُ
وَالتَّفْرِيقُ، يُقَال: قَسَمْتُ الشَّيْءَ قَسْمًا: فَرَزْتُهُ
أَجْزَاءً، وَالْقِسْمُ - بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ - الاِسْمُ
ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِصَّةِ وَالنَّصِيبِ، وَالْقَسَمُ - بِفَتْحِ
الْقَافِ وَالسِّينِ - الْيَمِينُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: قِسْمَةُ الزَّوْجِ:
بَيْتُوتَتُهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ، أَوْ كَمَا قَال
الْبُهُوتِيُّ: هُوَ تَوْزِيعُ الزَّمَانِ عَلَى زَوْجَاتِهِ إِنْ كُنَّ
ثِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْعَدْل فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الأُْمُورِ
وَالاِسْتِقَامَةُ، وَهُوَ خِلاَفُ الْجَوْرِ، يُقَال: عَدَل فِي أَمْرِهِ
عَدْلاً وَعَدَالَةً وَمَعْدِلَةً: اسْتَقَامَ،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 2 / 280، وكشاف
القناع 5 / 198.
(33/182)
وَعَدَل فِي حُكْمِهِ: حَكَمَ بِالْعَدْل
(1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي
حُقُوقِهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ (2) .
وَالْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْعَدْل
وَلَوَازِمِهِ.
ب - الْعِشْرَةُ بِالْمَعْرُوفِ:
3 - الْعِشْرَةُ اسْمٌ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ
الْمُخَالَطَةُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الأُْلْفَةِ
وَالاِنْضِمَامِ (4) .
وَالْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
ج - الْبَيْتُوتَةُ:
4 - الْبَيْتُوتَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ " بَاتَ " وَهِيَ فِي
الأَْعَمِّ الأَْغْلَبِ بِمَعْنَى فِعْل الْفِعْل بِاللَّيْل، يُقَال:
بَاتَ يَفْعَل كَذَا أَيْ فَعَلَهُ بِاللَّيْل، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ
سَهَرِ اللَّيْل، وَعَلَيْهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (5) .
وَقَدْ تَأْتِي نَادِرًا بِمَعْنَى نَامَ لَيْلاً.
وَقَدْ تَأْتِي بَاتَ بِمَعْنَى صَارَ، يُقَال: بَاتَ بِمَوْضِعِ كَذَا
أَيْ صَارَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي لَيْلٍ أَوْ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) بدائع الصنائع 2 / 332.
(3) الصحاح للجوهري.
(4) مطالب أولي النهى 5 / 254.
(5) سورة الفرقان / 64.
(33/183)
نَهَارٍ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْل
الْفُقَهَاءِ: بَاتَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ لَيْلَةً أَيْ صَارَ عِنْدَهَا
سَوَاءٌ حَصَل مَعَهُ نَوْمٌ أَمْ لاَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْبَيْتُوتَةُ هِيَ عِمَادُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي
الْغَالِبِ الأَْعَمِّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقَسْمِ
بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَأَوْجَبَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُل - إِنْ
كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ - أَنْ يَعْدِل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ
زَوْجَاتِهِ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِيهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ
الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِهَا
فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(3) ، وَلَيْسَ مَعَ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ
الزَّوْجَاتِ مُعَاشَرَةٌ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل
امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَشِقُّهُ سَاقِطٌ (4) ، وَلِلاِتِّبَاعِ وَالاِقْتِدَاءِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المغني 7 / 32.
(3) سورة النساء / 19.
(4) حديث: " إذا كان عند الرجل امرأتان. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 438)
والحاكم (2 / 186) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(33/183)
بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قَسْمِهِ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ وَعَدْلِهِ بَيْنَهُنَّ فَقَدْ
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعَدْل فِي
ذَلِكَ، قَال الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ فَيَعْدِل (1) . . . وَأَنَّهُ
كَانَ يُطَافُ بِهِ مَحْمُولاً فِي مَرَضِهِ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى
حَلَلْنَهُ (2) .
وَقَالُوا: أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ فَبَاتَ عِنْدَ
وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ. . تَسْوِيَةً
بَيْنَهُنَّ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ لُزُومَ الْمَبِيتِ
عِنْدَ بَقِيَّةِ الزَّوْجَاتِ إِنْ بَاتَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ يَكُونُ
عَلَى الْفَوْرِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لَزِمَ وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ
بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْخُرُوجُ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ،
وَيَعْصِي بِتَأْخِيرِهِ.
وَعَقَّبَ عَلَيْهِ الشَّبْرَامِلْسِيُّ - الشَّافِعِيُّ - بِأَنَّهُ لَوْ
تَرَكَهُ كَانَ كَبِيرَةً أَخْذًا مِنَ الْخَبَرِ السَّابِقِ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا
كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ هُوَ الْعَدْل
__________
(1) حديث عدله صلى الله عليه وسلم في القسمة. أخرجه أبو داود (2 / 601) ،
والحاكم (2 / 186) من حديث عائشة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث أنه " كان يطوف به محمولاً في مرضه. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 9 / 317) ، ومسلم (4 / 1893) من حديث عائشة.
(3) فتح القدير 3 / 300، والاختيار 3 / 116، وشرح الزرقاني 4 / 55، ونهاية
المحتاج 6 / 372، وحاشية القليوبي 3 / 299 - 300، وكشاف القناع 5 / 198 -
200، والمغني 7 / 28.
(33/184)
بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ إِنْ قَسَمَ،
وَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُنَّ جَمِيعًا إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ
لاَ يُعَطِّلَهُنَّ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ جَوَازِ الإِْعْرَاضِ عَنِ
الزَّوْجَاتِ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ نَوْبَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَوْ
حَدَثَ مَا يَمْنَعُ هَذَا الإِْعْرَاضَ، كَأَنْ ظَلَمَهَا ثُمَّ بَانَتْ
مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَلَى الرَّاجِحِ
بِطَرِيقِهِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ عَوْدُهَا إِلَى عِصْمَتِهِ (1) .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَدْل فِي الْقَسْمِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْعَدْل
بَيْنَ زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ فِي حُقُوقِهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ
وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ
بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ} عَقِيبَ قَوْله تَعَالَى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ
وَرُبَاعَ} (2) ، نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ
عِنْدَ خَوْفِ تَرْكِ الْعَدْل فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى
تَرْكِ الْوَاجِبِ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْعَدْل بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ
وَالنَّفَقَةِ وَاجِبٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي آخِرِ الآْيَةِ بِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (3) ، أَيْ تَجُورُوا،
وَالْجَوْرُ حَرَامٌ فَكَانَ الْعَدْل وَاجِبًا ضَرُورَةً؛ وَلأَِنَّ
الْعَدْل
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 373، ومغني المحتاج 3 / 251، والمهذب 2 / 67.
(2) سورة النساء / 3.
(3) سورة النساء / 3.
(33/184)
مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ} (1) عَلَى الْعُمُومِ
وَالإِْطْلاَقِ إِلاَّ مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ؛ وَلأَِنَّ
النِّسَاءَ رَعِيَّةُ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ يَحْفَظُهُنَّ وَيُنْفِقُ
عَلَيْهِنَّ، وَكُل رَاعٍ مَأْمُورٌ بِالْعَدْل فِي رَعِيَّتِهِ.
وَالْعَدْل الْوَاجِبُ فِي الْقَسْمِ يَكُونُ فِيمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ
وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ وَالتَّأْنِيسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
أَمَّا مَا لاَ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَالْوَطْءِ
وَدَوَاعِيهِ، وَكَالْمَيْل الْقَلْبِيِّ وَالْمَحَبَّةِ. . فَإِنَّهُ لاَ
يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّشَاطِ لِلْجِمَاعِ أَوْ دَوَاعِيهِ
وَالشَّهْوَةِ، وَهُوَ مَا لاَ يَمْلِكُ تَوْجِيهَهُ وَلاَ يَقْدِرُ
عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيْل الْقَلْبِيِّ
وَالْحُبِّ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى
تَوْجِيهِهِ، وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ
تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (2) يَعْنِي فِي الْحُبِّ
وَالْجِمَاعِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ وَيَعْدِل
ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي
فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ (3) يَعْنِي الْمَحَبَّةَ وَمَيْل
__________
(1) سورة النحل / 90.
(2) سورة النساء / 129.
(3) حديث: " اللهم هذا قسمي فيما أملك. . ". أخرجه أبو داود (2 / 601)
والنسائي (7 / 64) من حديث عائشة وأعله النسائي بالإرسال.
(33/185)
الْقَلْبِ؛ لأَِنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ
اللَّهِ تَعَالَى يُصَرِّفُهَا كَيْفَ شَاءَ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي جَمِيعِ
الاِسْتِمْتَاعَاتِ مِنَ الْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوِهِمَا لأَِنَّهُ
أَكْمَل فِي الْعَدْل بَيْنَهُنَّ، وَلِيُحْصِنَهُنَّ عَنِ الاِشْتِهَاءِ
لِلزِّنَا وَالْمَيْل إِلَى الْفَاحِشَةِ، وَاقْتِدَاءً فِي الْعَدْل
بَيْنَهُنَّ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ نِسَائِهِ حَتَّى فِي
الْقُبَل (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يُتْرَكُ فِي الْوَطْءِ
لِطَبِيعَتِهِ فِي كُل حَالٍ إِلاَّ لِقَصْدِ إِضْرَارٍ لإِِحْدَى
الزَّوْجَاتِ بِعَدَمِ الْوَطْءِ - سَوَاءٌ تَضَرَّرَتْ بِالْفِعْل أَمْ
لاَ - كَكَفِّهِ عَنْ وَطْئِهَا مَعَ مَيْل طَبْعِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ
عِنْدَهَا لِتَتَوَفَّرَ لَذَّتُهُ لِزَوْجَتِهِ الأُْخْرَى، فَيَجِبُ
عَلَيْهِ تَرْكُ الْكَفِّ؛ لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ لاَ يَحِل (4) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الزَّوْجَ
إِنْ تَرَكَ الْوَطْءَ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ وَالاِنْتِشَارِ عُذْرٌ،
وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ لَكِنَّ دَاعِيَتَهُ إِلَى
الضَّرَّةِ أَقْوَى فَهُوَ مِمَّا يَدْخُل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 332، والمبسوط 5 / 217، وأسنى المطالب 3 / 329،
وحاشية الجمل 4 / 280، وشرح الزرقاني 4 / 55، والمغني 7 / 27.
(2) رد المحتار 2 / 398، والمهذب 2 / 68، والمغني 7 / 35.
(3) حديث: " كان يسوي بين نسائه حتى في القبل " أورده ابن قدامة في المغني
(7 / 35) ولم نهتد إليه في المراجع التي بين أيدينا.
(4) جواهر الإكليل 1 / 326.
(33/185)
تَحْتَ قُدْرَتِهِ (1) .
7 - وَإِذَا قَامَ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ
لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ
يُفَضِّل إِحْدَاهُنَّ عَنِ الأُْخْرَى فِي ذَلِكَ، أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي الْعَطَاءِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ
مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ فِي أَصْل الْوَاجِبِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ أَقَامَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ
زَوْجَاتِهِ مَا يَجِبُ لَهَا، فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى
مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِمَا شَاءَ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ
فِي الرَّجُل لَهُ امْرَأَتَانِ قَال: لَهُ أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُمَا
عَلَى الأُْخْرَى فِي النَّفَقَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْكِسْوَةِ إِذَا
كَانَتِ الأُْخْرَى كِفَايَةً، وَيَشْتَرِيَ لِهَذِهِ أَرْفَعَ مِنْ ثَوْبِ
هَذِهِ وَتَكُونُ تِلْكَ فِي كِفَايَةٍ، وَهَذَا لأَِنَّ التَّسْوِيَةَ فِي
هَذَا كُلِّهِ تَشُقُّ، فَلَوْ وَجَبَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِهِ
إِلاَّ بِحَرَجٍ، فَسَقَطَ وُجُوبُهُ، كَالتَّسْوِيَةِ فِي الْوَطْءِ.
لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الأَْوْلَى أَنْ يُسَوِّيَ الرَّجُل بَيْنَ
زَوْجَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَّل بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ
مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ.
وَقَال ابْنُ نَافِعٍ: يَجِبُ أَنْ يَعْدِل الزَّوْجُ بَيْنَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 398.
(33/186)
زَوْجَاتِهِ فِيمَا يُعْطِي مِنْ مَالِهِ
بَعْدَ إِقَامَتِهِ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا يَجِبُ لَهَا (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
فِي النَّفَقَةِ عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُقَدَّرُ
بِحَسَبِ حَال الزَّوْجِ، أَمَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ النَّفَقَةَ
تُقَدَّرُ بِحَسَبِ حَالِهِمَا فَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ وَهُوَ
الْمُفْتَى بِهِ، فَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي
النَّفَقَةِ لأَِنَّ إِحْدَاهُمَا قَدْ تَكُونُ غَنِيَّةً وَأُخْرَى
فَقِيرَةً (2) .
الزَّوْجُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْقَسْمُ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ لِلزَّوْجَاتِ مُسْتَحَقٌّ
عَلَى كُل زَوْجٍ - فِي الْجُمْلَةِ - بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ،
وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، وَفَحْلٍ وَخَصِيٍّ وَمَجْبُوبٍ، وَبَالِغٍ
وَمُرَاهِقٍ وَمُمَيِّزٍ يُمْكِنُهُ فِي الْوَطْءِ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ
يُؤْمَنُ مِنْ ضَرَرِهِ. . . لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلصُّحْبَةِ
وَالْمُؤَانَسَةِ وَإِزَالَةِ الْوَحْشَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ مِنْ
هَؤُلاَءِ جَمِيعًا (3) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا قَسْمَ بَعْضِ الأَْزْوَاجِ بِالتَّفْصِيل،
وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - قَسْمُ الصَّبِيِّ لِزَوْجَاتِهِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ الصَّبِيَّ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 10، شرح الزرقاني 4 / 55، نهاية المحتاج 6 / 373،
المغني 7 / 32.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 398.
(3) المبسوط 5 / 221، جواهر الإكليل 1 / 326، مغني المحتاج 3 / 252، كشاف
القناع 5 / 200.
(33/186)
الْمُرَاهِقَ أَوِ الْمُمَيِّزَ الَّذِي
يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْقَسْمُ؛ لأَِنَّهُ لِحَقِّ
الزَّوْجَاتِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَتَوَجَّهُ عَلَى الصَّبِيِّ عِنْدَ
تَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَعَلَى وَلِيِّهِ إِطَافَتُهُ عَلَى زَوْجَاتِهِ،
وَالإِْثْمُ عَلَى الْوَلِيِّ إِنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ عَلَيْهِنَّ أَوْ
جَارَ الصَّبِيُّ أَوْ قَصَّرَ وَعَلِمَ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الزَّوْجُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ
الطَّوَافُ بِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِنَّ بِوَطْئِهِ،
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ نَامَ عِنْدَ بَعْضِ زَوْجَاتِهِ
وَطَلَبَتِ الْبَاقِيَاتُ بَيَاتَهُ عِنْدَهُنَّ لَزِمَ وَلِيَّهُ
إِجَابَتُهُنَّ لِذَلِكَ (1) .
ب - قَسْمُ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ الْمَرِيضَ يَقْسِمُ
بَيْنَ زَوْجَاتِهِ كَالصَّحِيحِ، لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلصُّحْبَةِ
وَالْمُؤَانَسَةِ وَذَلِكَ يَحْصُل مِنَ الْمَرِيضِ كَمَا يَحْصُل مِنَ
الصَّحِيحِ (2) ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ
يَسْأَل فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْنَ أَنَا غَدًا، أَيْنَ
أَنَا غَدًا؟ (3)
__________
(1) رد المحتار 2 / 399، الشرح الكبير 2 / 340، نهاية المحتاج 6 / 374،
كشاف القناع 5 / 198.
(2) رد المحتار 2 / 399، حاشية الزرقاني 4 / 56، المهذب 2 / 67، كشاف
القناع 5 / 200.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه. .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 317) ، ومسلم (4 / 1893) من حديث عائشة.
(33/187)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَقَّ عَلَى
الْمَرِيضِ الطَّوَافُ بِنَفْسِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ: فَنَقَل ابْنُ
عَابِدِينَ عَنْ صَاحِبِ الْبَحْرِ قَوْلَهُ: لَمْ أَرَ كَيْفِيَّةَ
قَسْمِهِ فِي مَرَضِهِ حَيْثُ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَوُّل إِلَى
بَيْتِ الأُْخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا صَحَّ
ذَهَبَ عِنْدَ الأُْخْرَى بِقَدْرِ مَا أَقَامَ عِنْدَ الأُْولَى مَرِيضًا،
وَنُقِل عَنْ صَاحِبِ النَّهْرِ قَوْلُهُ: لاَ يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ
الاِخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إِلَيْهِ حَال صِحَّتِهِ فَفِي
مَرَضِهِ أَوْلَى، فَإِذَا مَكَثَ عِنْدَ الأُْولَى مُدَّةً أَقَامَ عِنْدَ
الثَّانِيَةِ بِقَدْرِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا أَرَادَ
أَنْ يَجْعَل مُدَّةَ إِقَامَتِهِ دَوْرًا حَتَّى لاَ يُنَافِيَ أَنَّهُ
لَوْ أَقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهُمَا شَهْرًا هُدِرَ مَا مَضَى (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الزَّوْجُ الطَّوَافَ
بِنَفْسِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ أَقَامَ عِنْدَ مَنْ
شَاءَ الإِْقَامَةَ عِنْدَهَا، أَيْ لِرِفْقِهَا بِهِ فِي تَمْرِيضِهِ، لاَ
لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا فَتَمْتَنِعُ الإِْقَامَةُ عِنْدَهَا، ثُمَّ إِذَا
صَحَّ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: مَنْ بَاتَ عِنْدَ بَعْضِ نِسْوَتِهِ
بِقُرْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَزِمَهُ - وَلَوْ عِنِّينًا وَمَجْبُوبًا
وَمَرِيضًا - الْمَبِيتُ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل امْرَأَتَانِ
فَلَمْ
__________
(1) رد المحتار 2 / 399.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 340.
(33/187)
يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ (1) وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَيُطَافُ بِهِ عَلَيْهِنَّ فِي
مَرَضِهِ حَتَّى رَضِينَ بِتَمْرِيضِهِ بِبَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا (2) ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ وَالْمَرَضَ لاَ
يُسْقِطُ الْقَسْمَ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ شَقَّ عَلَى الزَّوْجِ الْمَرِيضِ الْقَسْمُ
اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ، لِمَا رَوَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَاجْتَمَعْنَ فَقَال:
إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بَيْنَكُنَّ فَإِنْ رَأَيْتُنَّ أَنْ
تَأْذَنَّ لِي فَأَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَعَلْتُنَّ فَأَذِنَّ لَهُ،
فَإِنْ لَمْ يَأْذَنَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ أَقَامَ
عِنْدَ مَنْ تُعَيِّنُهَا الْقُرْعَةُ أَوِ اعْتَزَلَهُنَّ جَمِيعًا إِنْ
أَحَبَّ ذَلِكَ تَعْدِيلاً بَيْنَهُنَّ (4) .
ج - قَسْمُ الزَّوْجِ الْمَجْنُونِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ الَّذِي أَطْبَقَ
جُنُونُهُ لاَ قَسْمَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، لَكِنَّ
الْقَسْمَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ لِزَوْجَاتِهِ يُطَالَبُ بِهِ
__________
(1) حديث: " إذا كان عند الرجل امرأتان. . ". تقدم تخريجه ف (5) .
(2) حديث: " أنه كان يقسم بين نسائه ويطاف. . ". تقدم تخريجه ف (5) .
(3) مغني المحتاج 3 / 251.
(4) كشاف القناع 5 / 200. وحديث: " إني لا أستطيع أن أدور بينكن. . . . ".
أخرجه أبو داود (2 / 603) .
(33/188)
- فِي الْجُمْلَةِ - وَلِيُّهُ، عَلَى
التَّفْصِيل التَّالِي: قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ
الْمَجْنُونِ إِطَافَتُهُ عَلَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ، كَمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ
الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهَا لَهُ أَوِ التَّمْكِينَ
حَتَّى تُسْتَوْفَى مِنْهُ كَالْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ خِطَابِ
الْوَضْعِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الطَّوَافُ
بِالْمَجْنُونِ عَلَى زَوْجَاتِهِ، أُمِنَ مِنْهُ الضَّرَرُ أَمْ لاَ،
إِلاَّ إِنْ طُولِبَ بِقَضَاءِ قَسْمٍ وَقَعَ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ
الطَّوَافُ بِهِ عَلَيْهِنَّ قَضَاءً لِحَقِّهِنَّ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ،
وَذَلِكَ إِذَا أُمِنَ ضَرَرُهُ، فَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ فَلاَ يَلْزَمُهُ
ذَلِكَ؛ لأَِنَّ لَهُنَّ التَّأْخِيرَ إِلَى إِفَاقَتِهِ لِتَتِمَّ
الْمُؤَانَسَةُ، وَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ الطَّوَافُ بِهِ إِنْ كَانَ
الْجِمَاعُ يَنْفَعُهُ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ، أَوْ مَال إِلَيْهِ،
فَإِنْ ضَرَّهُ الْجِمَاعُ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ مَنْعُهُ مِنْهُ، فَإِنْ
تَقَطَّعَ الْجُنُونُ وَانْضَبَطَ كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ، فَأَيَّامُ
الْجُنُونِ كَالْغَيْبَةِ فَتُطْرَحُ وَيَقْسِمُ أَيَّامَ إِفَاقَتِهِ،
وَإِنْ لَمْ يَنْضَبِطْ جُنُونُهُ وَأَبَاتَهُ الْوَلِيُّ فِي الْجُنُونِ
مَعَ وَاحِدَةٍ وَأَفَاقَ فِي نَوْبَةِ الأُْخْرَى قَضَى مَا جَرَى فِي
الْجُنُونِ لِنَقْصِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنُونُ الْمَأْمُونُ الَّذِي لَهُ
زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ يَطُوفُ بِهِ وَلِيُّهُ وُجُوبًا عَلَيْهِنَّ،
لِحُصُول الأُْنْسِ بِهِ، فَإِنْ خِيفَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 56.
(2) أسنى المطالب 3 / 230 - 231، نهاية المحتاج 6 / 374.
(33/188)
مَأْمُونٍ فَلاَ قَسْمَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ
لاَ يَحْصُل مِنْهُ أَنَسٌ لَهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَعْدِل الْوَلِيُّ فِي
الْقَسْمِ ثُمَّ أَفَاقَ الزَّوْجُ مِنْ جُنُونِهِ قَضَى لِلْمَظْلُومَةِ
مَا فَاتَهَا اسْتِدْرَاكًا لِظِلاَمَتِهِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فِي
ذِمَّتِهِ فَلَزِمَهُ إِيفَاؤُهُ حَال الإِْفَاقَةِ كَالْمَال (1) .
الزَّوْجَةُ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ:
12 - يُسْتَحَقُّ الْقَسْمُ لِلزَّوْجَاتِ الْمُطِيقَاتِ لِلْوَطْءِ،
مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ أَوْ مُخْتَلِفَاتٍ، حَرَائِرَ أَوْ
إِمَاءٍ أَوْ مُخْتَلِفَاتٍ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْوَطْءُ شَرْعًا
كَمُحْرِمَةٍ وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَمُظَاهَرٍ مِنْهَا وَمُولًى مِنْهَا،
أَوِ امْتَنَعَ عَادَةً كَرَتْقَاءَ، أَوِ امْتَنَعَ طَبْعًا كَمَجْنُونَةٍ
مَأْمُونَةٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَرِيضَةٍ وَصَحِيحَةٍ، وَصَغِيرَةٍ
يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَكَبِيرَةٍ، وَقَسْمُ الزَّوْجِ لِذَوَاتِ
الأَْعْذَارِ مِنَ الزَّوْجَاتِ كَمَا يُقْسَمُ لِغَيْرِهِنَّ؛ لأَِنَّ
الْغَرَضَ مِنَ الْقَسْمِ الصُّحْبَةُ وَالْمُؤَانَسَةُ وَالسَّكَنُ
وَالإِْيوَاءُ وَالتَّحَرُّزُ عَنِ التَّخْصِيصِ الْمُوحِشِ،
وَحَاجَتُهُنَّ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَالْقَسْمُ مِنْ حُقُوقِ
النِّكَاحِ وَلاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِيهَا (2) ؛ لأَِنَّ
النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ بِالْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمَيْل فِي الْقَسْمِ جَاءَتْ مُطْلَقَةً، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 200.
(2) تبيين الحقائق 2 / 179، جواهر الإكليل 1 / 326، أسنى المطالب 3 / 230،
حاشية الجمل 4 / 280، كشاف القناع 5 / 201.
(33/189)
الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ
الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ؛ وَلأَِنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ
الزَّوْجِيَّةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ
كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (رِقّ ف 85) .
لَكِنَّ الْقَسْمَ فِي بَعْضِ الزَّوْجَاتِ فِيهِ مَزِيدُ تَفْصِيلٍ وَمِنْ
ذَلِكَ:
أ - الْقَسْمُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى
الزَّوْجِ أَنْ يَقْسِمَ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ مَعَ سَائِرِ
زَوْجَاتِهِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً مِنْ كُل وَجْهٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَقْسِمُ لِمُطَلَّقَتِهِ
الرَّجْعِيَّةِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ وَذَلِكَ إِنْ قَصَدَ
رَجْعَتَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
ب - الْقَسْمُ لِلزَّوْجَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ
وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لاَ يَقْسِمُ لَهَا الزَّوْجُ؛ لأَِنَّ الْقَسْمَ
لِلسَّكَنِ وَالأُْنْسِ وَالإِْيوَاءِ، وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا لاَ يَحِل
لِزَوْجِهَا الْخَلْوَةُ بِهَا، بَل يَحْرُمُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَسْمِ لَهَا، فَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ
صُورَةً مِنْ هَذَا الْخِلاَفِ فِي قَوْلِهِ: قَال
__________
(1) رد المحتار 2 / 400، شرح الزرقاني 4 / 55، الأم 5 / 190، المغني 7 /
36.
(2) حاشية الجمل 4 / 280، كشاف القناع 5 / 201، الدر المختار 2 / 400.
(33/189)
فِي النَّهْرِ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ -
أَيِ الْقَسْمُ - لِلْمَوْطُوءَةِ بِشَبَهٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ
إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ الإِْينَاسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ، وَاعْتَرَضَهُ
الْحَمَوِيُّ بِأَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَى
زَوْجِهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَسْمَ عِبَارَةٌ
عَنِ التَّسْوِيَةِ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى،
وَزَادَ بَعْضُ الْفُضَلاَءِ أَنَّهُ يُخَافُ مِنَ الْقَسْمِ لَهَا
الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ؛ لأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لِلْغَيْرِ وَيَحْرُمُ
عَلَيْهِ مَسُّهَا وَتَقْبِيلُهَا، فَلاَ يَجِبُ لَهَا (1) .
الْقَسْمُ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ
لِمَنْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ أَوْ زَوْجَاتٌ غَيْرُهَا، هَل يَقْسِمُ لَهَا
قَسْمًا خَاصًّا، أَمْ تَدْخُل فِي دَوْرِ الْقَسْمِ كَغَيْرِهَا مِنَ
الزَّوْجَاتِ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ - حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً - تَخْتَصُّ
بِسَبْعِ لَيَالٍ بِلاَ قَضَاءٍ لِلْبَاقِيَاتِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا،
وَبِثَلاَثِ لَيَالٍ بِلاَ قَضَاءٍ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَذَلِكَ
لِحَدِيثِ: لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلاَثٌ (2) ، وَاخْتَصَّتِ
الزَّوْجَةُ الْجَدِيدَةُ بِذَلِكَ لِلأُْنْسِ وَلِزَوَال الْحِشْمَةِ،
وَلِهَذَا سَوَّى
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 230، نهاية المحتاج 6 / 273، رد المحتار 2 / 400.
(2) حديث: " للبكر سبع وللثيب ثلاث ". أخرجه مسلم (2 / 1083) من حديث أبي
بكر بن عبد الرحمن.
(33/190)
الشَّرْعُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأَْمَةِ،
وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ
بِالطَّبْعِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلاَ بِاخْتِلاَفِ
الدِّينِ، وَزِيدَ لِلْبِكْرِ الْجَدِيدَةِ؛ لأَِنَّ حَيَاءَهَا أَكْثَرُ؛
وَلأَِنَّهَا لَمْ تُجَرِّبِ الرِّجَال فَتَحْتَاجُ إِلَى إِمْهَالٍ
وَجَبْرٍ وَتَأَنٍّ، أَمَّا الثَّيِّبُ فَإِنَّهَا اسْتَحْدَثَتِ
الصُّحْبَةَ فَأُكْرِمَتْ بِزِيَادَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ الثَّلاَثُ.
وَاخْتِصَاصُ الزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ - بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا - بِهَذَا
الْقَسْمِ هُوَ حَقٌّ لَهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنَ السُّنَّةِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخَيِّرَ زَوْجَتَهُ الْجَدِيدَةَ إِنْ
كَانَتْ ثَيِّبًا بَيْنَ ثَلاَثٍ بِلاَ قَضَاءٍ لِلزَّوْجَاتِ
الْبَاقِيَاتِ وَبَيْنَ سَبْعٍ مَعَ قَضَاءٍ لَهُنَّ اقْتِدَاءً بِفِعْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجَتِهِ أُمِّ
سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا حَيْثُ قَال لَهَا: إِنْ شِئْتِ
سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ ثُمَّ دُرْتُ وَفِي لَفْظٍ:
إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ، وَأُسَبِّعَ لِنِسَائِي، وَإِنْ
سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائِي (1) أَيْ بِلاَ قَضَاءٍ
بِالنِّسْبَةِ لِلثَّلاَثِ وَإِلاَّ لَقَال: " وَثَلَّثْتُ لِنِسَائِي "
كَمَا قَال: " وَسَبَّعْتُ لِنِسَائِي " (2) .
__________
(1) حديث: " إن شئت سبعت عندك. . ". أخرجه مسلم (2 / 1083) من حديث أبي بكر
بن عبد الرحمن.
(2) مواهب الجليل 4 / 12، والشرح الكبير 2 / 340، مغني المحتاج 3 / 256،
كشاف القناع 5 / 207.
(33/190)
وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ -
بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثِيبَتَيْنِ أَوْ بِكْرًا وَثَيِّبًا -
فَزُفَّتَا إِلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. . فَقَال الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا فِي إِيفَاءِ حَقِّهِمَا وَتَسْتَضِرُّ الَّتِي يُؤَخِّرُ
حَقَّهَا وَتَسْتَوْحِشُ. وَيُقَدِّمُ أَسْبَقَهُمَا دُخُولاً فَيُوفِيهَا
حَقَّ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا سَابِقٌ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى
الثَّانِيَةِ فَيُوفِيهَا حَقَّ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا وَاجِبٌ
عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَل بِهِ فِي مُدَّةِ الأُْولَى لأَِنَّ حَقَّ
الأُْولَى عَارَضَهُ وَرُجِّحَ عَلَيْهِ، فَإِذَا زَال الْمُعَارِضُ وَجَبَ
الْعَمَل بِالْمُقْتَضَى.
ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْقَسْمَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ لِيَأْتِيَ بِالْوَاجِبِ
عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الدَّوْرِ، فَإِنْ أُدْخِلَتَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ
وَاحِدٍ قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ؛ لأَِنَّهُمَا اسْتَوَتَا فِي
سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ وَالْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ عِنْدَ التَّسَاوِي (1)
.
وَإِنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ فِي مُدَّةِ حَقِّ عَقْدِ امْرَأَةٍ
زُفَّتْ إِلَيْهِ قَبْلَهَا تَمَّمَ لِلأُْولَى حَقَّ عَقْدِهَا
لِسَبْقِهَا، ثُمَّ قَضَى حَقَّ عَقْدِ الثَّانِيَةِ لِزَوَال الْمُعَارِضِ
(2) . وَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ جَدِيدَةٌ وَلَهُ زَوْجَتَانِ قَدْ
وَفَّاهُمَا حَقَّهُمَا، وَفَّى الْجَدِيدَةَ حَقَّهَا وَاسْتَأْنَفَ
بَعْدَ ذَلِكَ الْقَسْمَ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالْقُرْعَةِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 257، المغني 7 / 45، كشاف القناع 5 / 207.
(2) كشاف القناع 5 / 208.
(3) مغني المحتاج 3 / 257.
(33/191)
16 - وَإِنْ أَرَادَ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ
امْرَأَتَانِ مَعًا السَّفَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ
فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لإِِحْدَى الْجَدِيدَتَيْنِ سَافَرَ بِهَا، وَدَخَل
حَقُّ الْعَقْدِ فِي قَسْمِ السَّفَرِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ قَسْمٍ يَخْتَصُّ
بِهَا، فَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ بَدَأَ بِالأُْخْرَى فَوَفَّاهَا
حَقَّ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لَهَا وَلَمْ يُؤَدِّهِ
فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ بِالأُْخْرَى مَعَهُ،
فَإِنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةٍ يَنْقَضِي فِيهَا حَقُّ
الأُْولَى تَمَّمَهُ فِي الْحَضَرِ وَقَضَى لِلْحَاضِرَةِ حَقَّهَا، فَإِنْ
خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِغَيْرِ الْجَدِيدَتَيْنِ وَسَافَرَ بِهَا قَضَى
لِلْجَدِيدَتَيْنِ حَقَّهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، يُقَدِّمُ
السَّابِقَةَ دُخُولاً إِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِحْدَاهُمَا قَبْل
الأُْخْرَى، أَوْ بِقُرْعَةٍ إِنْ دَخَلَتَا مَعًا، وَإِنْ سَافَرَ
بِجَدِيدَةٍ وَقَدِيمَةٍ بِقُرْعَةٍ أَوْ رِضًا تَمَّمَ لِلْجَدِيدَةِ
حَقَّ الْعَقْدِ ثُمَّ قَسَمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الأُْخْرَى عَلَى
السَّوَاءِ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ حَقَّ
الزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ - بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا - فِي هَذَا الْقِسْمِ
بِمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا الرَّجُل عَلَى غَيْرِهَا، وَمُقَابِل
الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ لَهَا هَذَا
الْقَسْمُ مُطْلَقًا. تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِهَا أَمْ لاَ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تُقَدَّمُ بِهِ إِحْدَى
الزَّوْجَتَيْنِ الْجَدِيدَتَيْنِ إِنْ زُفَّتَا إِلَى الزَّوْجِ فِي
لَيْلَةٍ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 208.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 340.
(33/191)
وَاحِدَةٍ: فَقَال اللَّخْمِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبْدِ الْحَكَمِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَبِلَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَفِي
أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ: إِنَّ الْحَقَّ لِلزَّوْجِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ
دُونَ قُرْعَةٍ، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: الأَْظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ سَبَقَتْ
إِحْدَاهُمَا بِالدُّعَاءِ لِلْبِنَاءِ قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ فَسَابِقَةُ
الْعَقْدِ، وَإِنْ عُقِدَتَا مَعًا فَالْقُرْعَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَقَّ لِلزَّوْجَةِ
الْجَدِيدَةِ فِي زِيَادَةِ قَسْمٍ تَخْتَصُّ بِهِ، وَقَالُوا: الْبِكْرُ
وَالثَّيِّبُ وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ فِي الْقَسْمِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَغَايَتُهُ
الْقَسْمُ، وَلإِِطْلاَقِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْجَوْرِ فِي
الْقَسْمِ؛ وَلأَِنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلاَ تَفَاوُتَ
بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ الْوَحْشَةَ فِي الزَّوْجَةِ
الْقَدِيمَةِ مُتَحَقِّقٌ حَيْثُ أَدْخَل عَلَيْهَا مَنْ يَغِيظُهَا وَهِيَ
فِي الْجَدِيدَةِ مُتَوَهَّمَةٌ؛ وَلأَِنَّ لِلْقَدِيمَةِ زِيَادَةَ
حُرْمَةٍ بِالْخِدْمَةِ، وَإِزَالَةُ الْوَحْشَةِ وَالنُّفْرَةِ عِنْدَ
الْجَدِيدَةِ تُمْكِنُ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا السَّبْعَ ثُمَّ يُسَبِّعَ
لِلْبَاقِيَاتِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ فِي تَخْصِيصِهَا بِالزِّيَادَةِ (3) .
بَدْءُ الْقَسْمِ وَمَا يَكُونُ بِهِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَبْدَأُ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 12.
(2) سورة النساء / 19.
(3) فتح القدير 3 / 300 - 301.
(33/192)
فِيهِ الزَّوْجُ الْقَسْمَ بَيْنَ
زَوْجَاتِهِ، وَفِيمَا يَكُونُ بِهِ الاِبْتِدَاءُ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: الرَّأْيُ فِي الْبُدَاءَةِ فِي الْقَسْمِ إِلَى
الزَّوْجِ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: وَنُدِبَ الاِبْتِدَاءُ فِي الْقَسْمِ
بِاللَّيْل؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الإِْيوَاءِ لِلزَّوْجَاتِ، وَيُقِيمُ
الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا عِنْدَ أَيَّتِهِنَّ أَحَبَّ وَلاَ
يُحْسَبُ، وَيَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بِاللَّيْل لأَِنَّهُ الْمَقْصُودُ،
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِل عِنْدَ الَّتِي خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا
لِيُكْمِل لَهَا يَوْمَهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ عَلَى الزَّوْجِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
لِلاِبْتِدَاءِ إِنْ تَنَازَعْنَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا أَرَادَ
الشُّرُوعَ فِي الْقَسْمِ الْبُدَاءَةُ بِإِحْدَاهُنَّ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ
أَوْ بِرِضَاهُنَّ؛ لأَِنَّ الْبُدَاءَةَ بِإِحْدَاهُنَّ تَفْضِيلٌ لَهَا
عَلَى غَيْرِهَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ وَاجِبَةٌ، وَلأَِنَّهُنَّ
مُتَسَاوِيَاتٌ فِي الْحَقِّ وَلاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ
فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْقُرْعَةِ إِنْ لَمْ يَرْضَيْنَ، فَيَبْدَأُ
بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، فَإِذَا مَضَتْ نَوْبَتُهَا أَقْرَعَ بَيْنَ
الْبَاقِيَاتِ، ثُمَّ بَيْنَ الأُْخْرَيَيْنِ، فَإِذَا تَمَّتِ النَّوْبَةُ
رَاعَى التَّرْتِيبَ وَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الْقُرْعَةِ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا بَدَأَ
__________
(1) الدر المختار 2 / 402، حاشية الدسوقي 2 / 340، شرح الزرقاني 4 / 57.
(33/192)
بِلاَ قُرْعَةٍ فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَ
الْبَاقِيَاتِ، فَإِذَا تَمَّتِ النَّوْبَةُ أَقْرَعَ لِلاِبْتِدَاءِ.
وَقَالُوا: لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَتِّبَ الْقَسْمَ عَلَى لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ
قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِكُلٍّ وَلاَ
يَتَفَاوَتُ، لَكِنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْل أَوْلَى؛ لأَِنَّ النَّهَارَ
تَابِعٌ لِلَّيْل وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ عَيَّنَهُ (1) .
الأَْصْل فِي الْقَسْمِ:
18 - الأَْصْل فِي الْقَسْمِ وَعِمَادُهُ اللَّيْل، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُمْ قَالُوا: التَّسْوِيَةُ الْوَاجِبَةُ فِي
الْقَسْمِ تَكُونُ فِي الْبَيْتُوتَةِ؛ وَلأَِنَّ اللَّيْل لِلسَّكَنِ
وَالإِْيوَاءِ، يَأْوِي فِيهِ الرَّجُل إِلَى مَنْزِلِهِ، وَيَسْكُنُ إِلَى
أَهْلِهِ، وَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ عَادَةً، وَالنَّهَارُ
وَقْتُ الْعَمَل لِكَسْبِ الرِّزْقِ وَالاِنْتِشَارِ فِي الأَْرْضِ طَلَبًا
لِلْمَعَاشِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْل لِبَاسًا
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (2) ، وَقَال سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي
جَعَل لَكُمُ اللَّيْل لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (3) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالُوا: الأَْصْل فِي الْقَسْمِ لِمَنْ عَمَلُهُ
اللَّيْل وَكَانَ النَّهَارُ سَكَنَهُ كَالْحَارِسِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 255، نهاية المحتاج 6 / 375، كشاف القناع 5 / 199،
المغني 7 / 33.
(2) سورة النبأ / 10 - 11.
(3) سورة يونس / 67.
(33/193)
وَنَحْوِهِ يَكُونُ النَّهَارُ لأَِنَّهُ
وَقْتُ سُكُونِهِ، وَأَمَّا اللَّيْل فَإِنَّهُ وَقْتُ عَمَلِهِ،
وَالأَْصْل فِي الْقَسْمِ لِمُسَافِرٍ وَقْتُ نُزُولِهِ؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ
خَلْوَتِهِ لَيْلاً كَانَ أَوْ نَهَارًا، قَل أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ
تَفَاوَتَ حَصَل لِوَاحِدَةٍ نِصْفُ يَوْمٍ وَلأُِخْرَى رُبْعُ يَوْمٍ،
فَلَوْ كَانَتْ خَلْوَتُهُ وَقْتَ السَّيْرِ دُونَ وَقْتِ النُّزُول -
كَأَنْ كَانَ بِمِحَفَّةٍ وَحَالَةُ النُّزُول يَكُونُ مَعَ الْجَمَاعَةِ
فِي نَحْوِ خَيْمَةٍ - كَانَ هُوَ وَقْتَ الْقَسْمِ، وَالأَْصْل فِي
الْقَسْمِ لِمَجْنُونٍ وَقْتُ إِفَاقَتِهِ، أَوْ كَمَا قَال الشَّافِعِيُّ:
إِنَّمَا الْقَسْمُ عَلَى الْمَبِيتِ كَيْفَ كَانَ الْمَبِيتُ.
وَالنَّهَارُ يَدْخُل فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْل، لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي (1)
، وَإِنَّمَا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَارًا (2) ، وَيَتْبَعُ الْيَوْمَ اللَّيْلَةُ الْمَاضِيَةُ أَيِ
الَّتِي سَبَقَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَإِنْ أَحَبَّ الزَّوْجُ أَنْ يَجْعَل
النَّهَارَ فِي الْقَسْمِ لِزَوْجَاتِهِ مُضَافًا إِلَى اللَّيْل الَّذِي
بَعْدَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَفَاوَتُ، وَالْغَرَضُ
الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِذَلِكَ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 144) .
(2) حديث: " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نهارًا ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 235) من حديث أنس بلفظ: " وتوفي من آخر ذلك اليوم "،
وأخرجه مسلم (1 / 315) من حديث أنس بلفظ: " فتوفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم من يومه ذلك ".
(3) فتح القدير 3 / 302، الدر المختار ورد المحتار 2 / 402، حاشية الدسوقي
2 / 339، الأم 5 / 190، المهذب 2 / 67 مغني المحتاج 3 / 253، حاشية الجمل 4
/ 283، المغني 7 / 32 - 33، كشاف القناع 5 / 199.
(33/193)
مُدَّةُ الْقَسْمِ:
19 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ أَقَل نُوَبِ الْقَسْمِ لِمَنْ عَمَلُهُ
نَهَارًا لَيْلَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ بِبَعْضِهَا لِمَا فِي التَّبْعِيضِ مِنْ
تَشْوِيشِ الْعَيْشِ وَتَنْغِيصِهِ، إِلاَّ أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَاتُ
بِذَلِكَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْقَسْمِ، أَيْ أَكْثَرِ مِقْدَارِ
النَّوْبَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْقَسْمِ، عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ
إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ يَكُونُ لَيْلَةً وَلَيْلَةً
وَلاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِرِضَاهُنَّ، فَإِنْ رَضِينَ
بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ جَازَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ لاَ
يَعْدُوهُنَّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَسَمَ لَيْلَةً وَلَيْلَةً (2) وَلأَِنَّ
التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ وَاجِبَةٌ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتِ الْبُدَاءَةُ
بِوَاحِدَةٍ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، فَإِذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ
تَعَيَّنَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ حَقًّا لِلأُْخْرَى فَلَمْ يَجُزْ
جَعْلُهَا لِلأُْولَى بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ إِنْ قَسَمَ
لَيْلَتَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرٌ
لِحَقِّ مَنْ لَهَا
__________
(1) الدر المختار 2 / 401، ومواهب الجليل 4 / 14، وحاشية الجمل 4 / 283،
ونهاية المحتاج 6 / 377، وكشاف القناع 5 / 198.
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ليلة وليلة. . أخرجه البخاري
(فتح الباري 5 / 218) من حديث عائشة بلفظ: " وكان يقسم لكل امرأة منهن
يومها وليلتها ".
(33/194)
اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، وَتَأْخِيرُ
حُقُوقِ بَعْضِهِنَّ لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا
كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَجَعَل لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلاَثًا
حَصَل تَأْخِيرُ الرَّابِعَةِ تِسْعَ لَيَالٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فَلَمْ
يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَل لِكُل
وَاحِدَةٍ تِسْعًا؛ وَلأَِنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ فَلاَ يَجُوزُ مَعَ
إِمْكَانِ التَّعْجِيل بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَحِقِّ كَتَأْخِيرِ
الدَّيْنِ الْحَال (1) .
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الْجَوَاهِرِ أَنَّ الزَّوْجَ لاَ يَزِيدُ فِي
الْقَسْمِ عَلَى لَيْلَةٍ إِلاَّ أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَاتُ وَيَرْضَى
بِالزِّيَادَةِ، أَوْ يَكُنْ فِي بِلاَدٍ مُتَبَاعِدَةٍ فَيَقْسِمُ
الْجُمُعَةَ أَوِ الشَّهْرَ عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ بِحَيْثُ لاَ
يَنَالُهُ ضَرَرٌ لِقِلَّةِ الْمُدَّةِ، وَنُقِل عَنِ اللَّخْمِيِّ أَنَّ
الرَّجُل إِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَتَانِ بِبَلَدَيْنِ جَازَ قَسْمُهُ
جُمُعَةً وَشَهْرًا وَشَهْرَيْنِ عَلَى قَدْرِ بُعْدِ الْمَوْضِعَيْنِ
مِمَّا لاَ يَضُرُّ بِهِ، وَلاَ يُقِيمُ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ إِلاَّ
لِتَجْرٍ أَوْ ضَيْعَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ الدَّوْرِ إِلَى الزَّوْجِ إِنْ شَاءَ حَدَّدَهُ
بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ؛
لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ وَقَدْ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 14، وجواهر الإكليل 1 / 327، والمغني 7 / 37، وكشاف
القناع 5 / 198.
(2) مواهب الجليل 4 / 140.
(33/194)
وُجِدَتْ (1) . لَكِنَّ الْكَمَال بْنَ
الْهُمَامِ عَقَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَدُورَ
سَنَةً سَنَةً مَا يُظَنُّ إِطْلاَقُ ذَلِكَ لَهُ، بَل يَنْبَغِي أَنْ لاَ
يُطْلَقَ لَهُ مِقْدَارُ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ،
وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ لِلتَّأْنِيسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ وَجَبَ أَنْ
تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ الْقَرِيبَةُ وَأَظُنُّ أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ
مُضَارَّةً إِلاَّ أَنْ تَرْضَيَا بِهِ (2) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ وَالتُّمُرْتَاشِيُّ نَقْلاً عَنِ الْخُلاَصَةِ:
يُقِيمُ عِنْدَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَإِنْ شَاءَ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلاَ يُقِيمُ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ
أَكْثَرَ إِلاَّ بِإِذْنِ الأُْخْرَى (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ وَالْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَ
زَوْجَاتِهِ لَيْلَةً لَيْلَةً. . اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِعَهْدِهِنَّ
بِهِ، وَأَدْنَى إِلَى التَّسْوِيَةِ فِي إِيفَاءِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ
قَسَمَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا جَازَ؛ لأَِنَّهُ فِي حَدِّ الْقَلِيل،
وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ حَرُمَ وَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ
رِضَاهُنَّ، لأَِنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِحُقُوقِهِنَّ.
وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تُكْرَهُ
الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ (4) .
__________
(1) الاختيار 3 / 116 - 117، والهداية مع الفتح 2 / 518. ط. بولاق، ونهاية
المحتاج 6 / 378.
(2) فتح القدير 2 / 518. ط. بولاق.
(3) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 401. ط. بولاق.
(4) المهذب 2 / 67، ونهاية المحتاج 6 / 377 - 378، والمغني 7 / 37.
(33/195)
الْخُرُوجُ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ
وَالدُّخُول عَلَى غَيْرِهَا:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ
عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَسْمَهَا دُونَ نَقْصٍ
أَوْ تَأْخِيرٍ، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الْعَدْل الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي
الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الزَّوْجِ
فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ - لَيْلاً أَوْ نَهَارًا - وَدُخُولِهِ
عَلَى غَيْرِهَا كَذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ الَّذِي
عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْل مِنْ عِنْدِ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي زَمَانِهَا،
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ أَوْ أَوَّل اللَّيْل أَوْ آخِرِهِ
مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالاِنْتِشَارِ فِيهِ وَالْخُرُوجِ إِلَى
الصَّلاَةِ جَازَ، وَإِنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّيْل وَلَمْ
يَلْبَثْ أَنْ عَادَ لَمْ يَقْضِ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا هَذَا
الْوَقْتَ لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي قَضَائِهِ
لِقِصَرِهِ، وَإِنْ طَال زَمَنُ خُرُوجِهِ قَضَاهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ
لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لأَِنَّهُ مَعَ طُول الزَّمَنِ لاَ
يُسْمَحُ بِهِ عَادَةً، فَيَكُونُ حَقُّهَا قَدْ فَاتَ بِغَيْبَتِهِ
عَنْهَا، وَحَقُّ الآْدَمِيِّ لاَ يَسْقُطُ وَلَوْ بِعُذْرٍ إِلاَّ
بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ. . . فَوَجَبَ الْقَضَاءُ.
وَلَيْسَ لِهَذَا الزَّوْجِ دُخُولٌ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ عَلَى غَيْرِهَا
لَيْلاً، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ كَمَرَضِهَا الْمَخُوفِ وَشِدَّةِ
(33/195)
الطَّلْقِ وَخَوْفِ النَّهْبِ وَالْحَرْقِ،
وَحِينَئِذٍ إِنْ طَال مُكْثُهُ عُرْفًا قَضَى لِصَاحِبَةِ النَّوْبَةِ
مِنْ نَوْبَةِ الْمَدْخُول عَلَيْهَا مِثْل مُكْثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطُل
مُكْثُهُ فَلاَ يَقْضِي، وَإِذَا تَعَدَّى بِالدُّخُول قَضَى إِنْ طَال
مُكْثُهُ وَإِلاَّ فَلاَ قَضَاءَ، وَأَثِمَ.
وَإِنْ دَخَل الزَّوْجُ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى غَيْرِهَا
نَهَارًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِحَاجَةٍ؛ لأَِنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا
لاَ يُتَسَامَحُ فِي اللَّيْل، فَيَدْخُل لِوَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِ
كَتَسْلِيمِ نَفَقَةٍ وَتَعَرُّفِ خَبَرٍ وَعِيَادَةٍ. . لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَل يَوْمٌ إِلاَّ وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا
جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُل امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى
يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا (1) فَإِذَا
دَخَل لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَطُل مُكْثُهُ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ
وَلَمْ يُجَامِعْ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَطُول مُكْثُهُ، أَيْ يَجُوزُ
لَهُ تَطْوِيل الْمُكْثِ لَكِنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَذَهَبَ
بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ عَدَمِ تَطْوِيل الْمُكْثِ لأَِنَّ الزَّائِدَ
عَلَى الْحَاجَةِ كَابْتِدَاءِ دُخُولٍ لِغَيْرِهَا وَهُوَ حَرَامٌ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَقْضِي إِذَا دَخَل لِحَاجَةٍ وَإِنْ طَال
الزَّمَنُ؛ لأَِنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ.
وَفِي مُقَابِل الصَّحِيحِ يَجِبُ قَضَاءُ الْمُدَّةِ
__________
(1) حديث: " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يوم إلا وهو يطوف. . . "
أخرجه أبو داود (2 / 206) والحاكم (2 / 186) من حديث عائشة، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(33/196)
- إِنْ طَالَتْ - دُونَ الْجِمَاعِ،
وَوَفَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْل الأَْوَّل عَلَى مَا
إِذَا طَالَتْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ
فَوْقَ الْحَاجَةِ.
وَالصَّحِيحُ - عِنْدَهُمْ - أَيْضًا أَنَّ لَهُ مَا سِوَى الْوَطْءِ مِنِ
اسْتِمْتَاعٍ. . لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ وَلأَِنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ،
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ، أَمَّا الْوَطْءُ فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ لِغَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لَيْلاً أَمْ
نَهَارًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَطَال الْمَقَامَ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبَةِ
النَّوْبَةِ قَضَاهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ
فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ يَحْصُل
لَهَا بِهِ السَّكَنُ، وَإِنْ دَخَل عَلَيْهَا فَجَامَعَهَا فِي الزَّمَنِ
الْيَسِيرِ - لَيْلاً أَوْ نَهَارًا - فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لاَ
يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ يُسْتَحَقُّ فِي الْقَسْمِ،
وَالزَّمَنُ الْيَسِيرُ لاَ يُقْضَى. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ
يَقْضِيَهُ وَهُوَ أَنْ يَدْخُل عَلَى الْمَظْلُومَةِ فِي لَيْلَةِ
الْمُجَامَعَةِ فَيُجَامِعَهَا فَيَعْدِل بَيْنَهُمَا. . وَلأَِنَّ
الْيَسِيرَ مَعَ الْجِمَاعِ يَحْصُل بِهِ السَّكَنُ فَأَشْبَهَ الْكَثِيرَ
(1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَلْزَمُ الزَّوْجَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ
زَوْجَاتِهِ فِي اللَّيْل، حَتَّى لَوْ جَاءَ لِلأُْولَى بَعْدَ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 376 - 377، ومغني المحتاج 3 / 254 - 255، والمغني 7
/ 33 - 34.
(33/196)
الْغُرُوبِ وَلِلثَّانِيَةِ بَعْدَ
الْعِشَاءِ فَقَدْ تَرَكَ الْقَسْمَ، وَلاَ يُجَامِعُهَا فِي غَيْرِ
نَوْبَتِهَا، وَلاَ يَدْخُل عَلَيْهَا إِلاَّ لِعِيَادَتِهَا، وَلَوِ
اشْتَدَّ مَرَضُهَا - فَفِي الْجَوْهَرَةِ - لاَ بَأْسَ أَنْ يُقِيمَ
عِنْدَهَا حَتَّى تُشْفَى أَوْ تَمُوتَ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهَا مَنْ يُؤْنِسُهَا (1) .
وَالنَّوْبَةُ لاَ تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الأُْخْرَى لِيَنْظُرَ فِي
حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّهُنَّ
كُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُل لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا " (2) ،
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَاءِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ
إِذْ قَدْ تَتَضِيقُ لِذَلِكَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَدْخُل الزَّوْجُ فِي يَوْمِ إِحْدَى
زَوْجَاتِهِ عَلَى ضَرَّتِهَا، أَيْ يُمْنَعُ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ غَيْرِ
الاِسْتِمْتَاعِ كَمُنَاوَلَةِ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ وَلَوْ
أَمْكَنَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِيهَا عَلَى الأَْشْبَهِ بِالْمَذْهَبِ.
وَلِمَالِكٍ لاَ بُدَّ مِنْ عُسْرِ الاِسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَعَمَّمَ
ابْنُ نَاجِي دُخُولَهُ لِحَاجَةٍ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْل مُخَالِفًا
لِشَيْخِهِ فِي تَخْصِيصِ الْجَوَازِ بِالنَّهَارِ، وَلِلزَّوْجِ وَضْعُ
ثِيَابِهِ عِنْدَ وَاحِدَةٍ دُونَ الأُْخْرَى لِغَيْرِ مَيْلٍ وَلاَ
إِضْرَارٍ، وَلاَ يُقِيمُ عِنْدَ مَنْ دَخَل عِنْدَهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ لاَ
بُدَّ مِنْهُ، وَجَازَ فِي
__________
(1) الدر المختار 2 / 401.
(2) حديث: " أنهن كن يجتمعن كل ليلة. . " أخرجه مسلم (2 / 1084) من حديث
أنس.
(3) فتح القدير 3 / 302.
(33/197)
يَوْمِهَا وَطْءُ ضَرَّتِهَا بِإِذْنِهَا،
وَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ السَّلاَمُ بِالْبَابِ مِنْ خَارِجِهِ فِي
غَيْرِ يَوْمِهَا، وَتَفَقُّدُ شَأْنِهَا مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ إِلَيْهَا
وَلاَ جُلُوسٍ عِنْدَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ بَأْسَ بِأَكْل مَا
بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِالْبَابِ لاَ فِي بَيْتِ الأُْخْرَى لِمَا فِيهِ مِنْ
أَذِيَّتِهَا (1) .
ذَهَابُ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَاتِهِ وَدَعْوَتُهُنَّ إِلَيْهِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى
فِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُنَّ
مَسْكَنٌ يَأْتِيهَا الزَّوْجُ فِيهِ اقْتِدَاءً بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فِي
بُيُوتِهِنَّ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ أَصْوَنُ وَأَسْتَرُ حَتَّى لاَ تَخْرُجَ
النِّسَاءُ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ - إِنِ انْفَرَدَ
بِمَسْكَنٍ - أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ فِي
لَيْلَتِهَا لِيُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ.
لَكِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلاً يَحْسُنُ
عَرْضُهُ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي بَيْتِهِ دَعَا كُل
وَاحِدَةٍ فِي نَوْبَتِهَا؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَأَرَادَ
ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَل مِنْهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ لِلزَّوْجِ بِرِضَاءِ زَوْجَاتِهِ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 57 - 58 - 59.
(2) حديث قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه في بيوتهن. . أخرجه أبو
داود (2 / 602) والحاكم (2 / 186) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(3) الدر المختار 2 / 401.
(33/197)
طَلَبُهُ مِنْهُنَّ الإِْتْيَانَ
لِلْبَيَاتِ مَعَهُ بِمَحَلِّهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ
هَذَا إِذِ السُّنَّةُ دَوَرَانُهُ هُوَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ
لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فَإِنْ رَضِيَ
بَعْضُهُنَّ لَمْ يَلْزَمْ بَاقِيَهُنَّ، بَل نَصَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدُورَ عَلَيْهِنَّ فِي
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَأْتِينَهُ إِلاَّ أَنْ يَرْضَيْنَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَنْفَرِدِ الزَّوْجُ بِمَسْكَنٍ
وَأَرَادَ الْقَسْمَ دَارَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ تَوْفِيَةً
لِحَقِّهِنَّ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ فَالأَْفْضَل الْمُضِيُّ
إِلَيْهِنَّ صَوْنًا لَهُنَّ، وَلَهُ دُعَاؤُهُنَّ بِمَسْكَنِهِ،
وَعَلَيْهِنَّ الإِْجَابَةُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَمَنِ امْتَنَعَتْ
وَقَدْ لاَقَ مَسْكَنُهُ بِهَا فِيمَا يَظْهَرُ فَهِيَ نَاشِزَةٌ إِلاَّ
ذَاتُ خَفَرٍ - قَال الشَّبْرَامِلْسِيُّ: أَيْ شَرَفٍ - لَمْ تَعْتَدِ
الْبُرُوزَ فَيَذْهَبُ لَهَا كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ
الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلاَّ نَحْوُ مَعْذُورَةٍ بِمَرَضٍ
فَيَذْهَبُ أَوْ يُرْسِل لَهَا مَرْكَبًا إِنْ أَطَاقَتْ مَعَ مَا يَقِيهَا
مِنْ نَحْوِ مَطَرٍ.
وَالأَْصَحُّ تَحْرِيمُ ذَهَابِهِ إِلَى بَعْضِهِنَّ وَدُعَاءُ غَيْرِهِنَّ
إِلَى مَسْكَنِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيحَاشِ، وَلِمَا فِي تَفْضِيل
بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ تَرْكِ الْعَدْل، إِلاَّ لِغَرَضٍ كَقُرْبِ
مَسْكَنِ مَنْ مَضَى إِلَيْهَا، أَوْ
__________
(1) حديث دورانه صلى الله عليه وسلم على نسائه في بيوتهن. تقدم تخريجه.
(2) جواهر الإكليل 1 / 327، شرح الزرقاني 4 / 59، التاج والإكليل بهامش
مواهب الجليل 4 / 14.
(33/198)
خَوْفٍ عَلَيْهَا لِنَحْوِ شَبَابٍ دُونَ
غَيْرِهَا فَلاَ يَحْرُمُ. وَالضَّابِطُ أَنْ لاَ يَظْهَرَ مِنْهُ
التَّفْضِيل وَالتَّخْصِيصُ، وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ بِمَسْكَنِ وَاحِدَةٍ
وَيَدْعُوَ الْبَاقِيَاتِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ، وَلَوْ لَمْ
تَكُنْ هِيَ فِيهِ حَال دُعَائِهِنَّ، فَإِنْ أَجَبْنَ فَلَهَا الْمَنْعُ،
وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكَ الزَّوْجِ لأَِنَّ حَقَّ السُّكْنَى فِيهِ
لَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اتَّخَذَ الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ مَسْكَنًا
غَيْرَ مَسَاكِنِ زَوْجَاتِهِ يَدْعُو إِلَيْهِ كُل وَاحِدَةٍ فِي
لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا وَيُخْلِيهِ مِنْ ضَرَّتِهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ،
لأَِنَّ لَهُ نَقْل زَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا،
وَلَهُ دُعَاءُ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَالذَّهَابُ إِلَى
مَسْكَنِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُل
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مَنْ دَعَاهَا عَنْ
إِجَابَتِهِ وَكَانَ مَا دَعَاهَا إِلَيْهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا سَقَطَ
حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِنُشُوزِهَا، وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ
وَدَعَا الْبَاقِيَاتِ إِلَى بَيْتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِنَّ
الإِْجَابَةُ لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ غَيْرَةٍ وَالاِجْتِمَاعُ يُزِيدُهَا
(2) .
الْقُرْعَةُ لِلسَّفَرِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّجُل يُرِيدُ السَّفَرَ بِإِحْدَى
زَوْجَاتِهِ هَل لَهُ ذَلِكَ، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 374 - 375، مغني المحتاج 3 / 253.
(2) كشاف القناع 5 / 203.
(33/198)
رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ أَوِ
الْقُرْعَةِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ
إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ
قُرْعَةٍ أَوْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، لَكِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ
تَفْصِيلاً: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ حَقَّ لِلزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ
حَالَةَ السَّفَرِ، فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ.
وَالأَْوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرَ بِمَنْ خَرَجَتْ
قُرْعَتُهَا، تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ يَثِقُ
بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ وَبِالأُْخْرَى فِي الْحَضَرِ
وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِل لِحِفْظِ الأَْمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ
الْفِتْنَةِ، وَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إِحْدَاهُنَّ كَثْرَةُ سِمَنِهَا
مَثَلاً، فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ
لِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إِلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ
بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَى
زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ اخْتَارَ مَنْ تَصْلُحُ لإِِطَاقَتِهَا
السَّفَرَ أَوْ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لاَ لِمَيْلِهِ
إِلَيْهَا، إِلاَّ فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا
أَوْ بَيْنَهُنَّ لأَِنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرُبَاتِ،
وَشَرْطُ الإِْقْرَاعِ صَلاَحُ جَمِيعِهِنَّ لِلسَّفَرِ، وَمَنِ اخْتَارَ
سَفَرَهَا أَوْ تَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ
يَشُقَّ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ سَفَرُهَا مَعَرَّةً عَلَيْهَا، وَمَنْ
أَبَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين (رد المحتار) 2 / 401.
(33/199)
سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا (1) .
وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لاَ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِ زَوْجَاتِهِ - وَاحِدَةً أَوْ
أَكْثَرَ - إِلاَّ بِرِضَاءِ سَائِرِهِنَّ أَوْ بِالْقُرْعَةِ، وَذَلِكَ
فِي الأَْسْفَارِ الطَّوِيلَةِ الْمُبِيحَةِ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ، وَكَذَا
فِي الأَْسْفَارِ الْقَصِيرَةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا: لاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيل
وَالْقَصِيرِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ:
أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ
بِالْقُرْعَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ
الإِْقَامَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْقُرْعَةِ،
فَإِنْ فَعَل قَضَى لِلْبَوَاقِي.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ
لِتَعْيِينِ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا رَوَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ
نِسَائِهِ، وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ (2) ،
كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ
لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 328، شرح الزرقاني 4 / 60.
(2) حديث عائشة: " كان إذا أراد سفرًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5
/ 218) .
(33/199)
فَصَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ
وَحَفْصَةَ (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ
مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلٌ لِمَنْ سَافَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ مِنْ
غَيْرِ قُرْعَةٍ.
وَقَالُوا: إِذَا سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ سَوَّى بَيْنَهُنَّ
فِي الْقَسْمِ فِي السَّفَرِ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ (2)
.
وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَتِ
الْقُرْعَةُ لإِِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ السَّفَرُ
بِهَا، وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّ الْقُرْعَةَ لاَ
تُوجِبُ وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ، وَإِنْ
أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهَا تَعَيَّنَتْ
بِالْقُرْعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنِ
امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ سَقَطَ حَقُّهَا إِذَا رَضِيَ
الزَّوْجُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهَا فَلَهُ
إِكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا
إِجَابَتُهُ، فَإِنْ رَضِيَ بِامْتِنَاعِهَا اسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ
بَيْنَ الْبَوَاقِي لِتَعْيِينِ مَنْ تُسَافِرُ مَعَهُ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ إِنْ
وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ جَازَ إِنْ
رَضِيَ الزَّوْجُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ كَمَا
لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي
__________
(1) حديث عائشة: " كان إذا خرج أقرع بين نسائه. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 9 / 310) ومسلم (4 / 1894) .
(2) مغني المحتاج 3 / 257، المغني 7 / 40 - 41.
(3) حاشية القليوبي 3 / 304، مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 42.
(33/200)
الْحَضَرِ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَا
الزَّوْجِ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ
بِرِضَاهُ، وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِسَائِرِ الزَّوْجَاتِ
جَازَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رَضِيَتِ الزَّوْجَاتُ
كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ؛ لأَِنَّ
الْحَقَّ لَهُنَّ إِلاَّ أَنْ لاَ يَرْضَى الزَّوْجُ بِهَا فَيُصَارُ إِلَى
الْقُرْعَةِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَاتِ إِنْ
رَضِينَ بِوَاحِدَةٍ فَلَهُنَّ الرُّجُوعُ قَبْل سَفَرِهَا، قَال
الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا بَعْدَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ
الْقَصْرِ، أَيْ يَصِل إِلَيْهَا (2) .
وَقَالُوا: لَوْ أَقْرَعَ الزَّوْجُ بَيْنَ نِسَائِهِ عَلَى سَفَرٍ
فَخَرَجَ سَهْمُ وَاحِدَةٍ فَخَرَجَ بِهَا، ثُمَّ أَرَادَ سَفَرًا آخَرَ
قَبْل رُجُوعِهِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالسَّفَرِ
الْوَاحِدِ، مَا لَمْ يَرْجِعْ، فَإِذَا رَجَعَ فَأَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ
(3) .
وَقَالُوا: لَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوْ أَكْثَرَ
بِقُرْعَةٍ أَوْ بِرِضَاهُنَّ لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ،
سَوَاءٌ طَال سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ؛ لأَِنَّ الَّتِي سَافَرَ بِهَا
يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَل لَهَا مِنَ
السَّكَنِ، وَلاَ يَحْصُل لَهَا مِنَ السَّكَنِ مِثْل مَا يَحْصُل لِمَنْ
فِي الْحَضَرِ، أَيْ أَنَّ الْمُقِيمَةَ فِي الْحَضَرِ الَّتِي لَمْ
تُسَافِرْ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ
__________
(1) المغني 7 / 42.
(2) مغني المحتاج 3 / 258، 7 / 42.
(3) الأم 5 / 193، المغني 7 / 42.
(33/200)
فَاتَهَا حَظُّهَا مِنْ زَوْجِهَا
أَثْنَاءَ سَفَرِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، فَقَدْ تَرَفَّهَتْ
بِالدَّعَةِ وَالإِْقَامَةِ فَتَقَابَل الأَْمْرَانِ فَاسْتَوَيَا، وَلَوْ
سَافَرَ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ
رِضَاهُنَّ أَوِ الْقُرْعَةِ أَثِمَ، وَقَضَى لِلأُْخْرَيَاتِ مُدَّةَ
السَّفَرِ (1) .
وَقَالُوا: إِنْ خَرَجَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَقَامَ قَضَى
مُدَّةَ الإِْقَامَةِ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ، وَذَلِكَ إِذَا
سَاكَنَ الْمَصْحُوبَةَ، أَمَّا إِذَا اعْتَزَلَهَا مُدَّةَ الإِْقَامَةِ
فَلاَ يَقْضِي (2) .
وَقَالُوا: مَنْ سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ
بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِقُرْعَةٍ، بَل يَنْقُلَهُنَّ أَوْ
يُطَلِّقَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ الاِنْتِقَال بِنِسَائِهِ فَأَمْكَنَهُ
اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
إِفْرَادُ إِحْدَاهُنَّ بِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا السَّفَرَ لاَ يَخْتَصُّ
بِوَاحِدَةٍ بَل يَحْتَاجُ إِلَى نَقْل جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ خَصَّ
إِحْدَاهُنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَبَعَثَ
بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ جَازَ،
وَلاَ يَقْضِي لأَِحَدٍ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قُرْعَةٍ لأَِنَّهُ سَوَّى
بَيْنَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ إِفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ
لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي
انْتَقَل إِلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، وأسنى المطالب 3 / 237، والمغني 7 / 41.
(2) مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 41.
(33/201)
فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ قَضَى
لِلْبَاقِيَاتِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ
هَذِهِ الأَْحْكَامُ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بَعْضَهُنَّ بِقُرْعَةٍ وَلاَ
بِغَيْرِهَا، فَإِنْ فَعَل عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلزَّوْجَاتِ
الْبَاقِيَاتِ (2) .
قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَدْل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ
الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ جَارَ الزَّوْجُ وَفَوَّتَ
عَلَى إِحْدَاهُنَّ قَسْمَهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ مَا فَاتَ
مِنَ الْقَسْمِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَقْضِي
الزَّوْجُ الْمَبِيتَ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا لإِِحْدَى زَوْجَاتِهِ
وَلَمْ يُوفِهِ لَهَا؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْمَبِيتِ دَفْعُ الضَّرَرِ
وَتَحْصِينُ الْمَرْأَةِ وَإِذْهَابُ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا يَفُوتُ
بِفَوَاتِ زَمَنِهِ، فَلاَ يُجْعَل لِمَنْ فَاتَتْ لَيْلَتُهَا لَيْلَةً
عِوَضًا عَنْهَا لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَظْلِمُ صَاحِبَةَ تِلْكَ
اللَّيْلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا عِوَضًا؛ وَلأَِنَّ الْمَبِيتَ لاَ يَزِيدُ
عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقْضِيَ
مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ
مِنْ جَانِبِهَا كَنُشُوزِهَا أَوْ إِغْلاَقِهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 42 - 43.
(2) مغني المحتاج 3 / 258.
(3) رد المحتار 2 / 400 - 401، جواهر الإكليل 1 / 327.
(33/201)
بَابَهَا دُونَهُ وَمَنْعِهَا إِيَّاهُ
مِنَ الدُّخُول عَلَيْهَا فِي نَوْبَتِهَا (1) .
وَأَسْبَابُ فَوَاتِ الْقَسْمِ مُتَعَدِّدَةٌ: فَقَدْ يُسَافِرُ الزَّوْجُ
بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فَيَفُوتُ الْقَسْمُ لِسَائِرِهِنَّ. . وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَضَاءِ لَهُنَّ تَفْصِيلاً.
وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُل أَثْنَاءَ دَوْرَةِ الْقَسْمِ لِزَوْجَاتِهِ
وَقَبْل أَنْ يُوفِيَ نَوْبَاتِ الْقَسْمِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُنَّ،
فَيَقْطَعَ الدَّوْرَةَ لِيَخْتَصَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ بِقَسْمِ
النِّكَاحِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ نَوْبَةِ مَنْ لَمْ
يَأْتِ دَوْرُهَا فَيَجِبُ الْقَضَاءُ لَهَا. . وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ
ذَلِكَ.
وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِسَفَرِهَا، وَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَالُوا: إِنْ
سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِحَاجَتِهَا أَوْ حَاجَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ
ذَلِكَ فَلاَ قَسْمَ لَهَا؛ لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلأُْنْسِ وَقَدِ امْتَنَعَ
بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَسَقَطَ، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهِ
أَوْ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهَا مَا فَاتَهَا بِحَسَبِ مَا أَقَامَ
عِنْدَ ضَرَّتِهَا لأَِنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ وَلِغَرَضِهِ، فَهِيَ
كَمَنْ عِنْدَهُ وَفِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ الْمَانِعُ نَفْسَهُ
بِإِرْسَالِهَا، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهَا أَوْ حَاجَتِهَا
لاَ يَقْضِي لَهَا (عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّهَا
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 376 - 377، المغني 7 / 33.
(33/202)
فَوَّتَتْ حَقَّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ
بِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي قَبْضَتِهِ، وَإِذْنُهُ لَهَا بِالسَّفَرِ رَافِعٌ
لِلإِْثْمِ خَاصَّةً.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَةِ ثَالِثٍ - غَيْرِهَا
وَغَيْرِ الزَّوْجِ - قَال الزَّرْكَشِيُّ: فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَحَاجَةِ
نَفْسِهَا، وَهُوَ - كَمَا قَال غَيْرُهُ - ظَاهِرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ
خُرُوجُهَا بِسُؤَال الزَّوْجِ لَهَا فِيهِ، وَإِلاَّ فَيُلْحَقُ
بِخُرُوجِهَا لِحَاجَتِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا
بِإِذْنِهِ لِحَاجَتِهِمَا مَعًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا كَمَا قَال
الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ وَمِثْلُهَا
الْقَسْمُ، خِلاَفًا لِمَا بَحَثَهُ ابْنُ الْعِمَادِ مِنَ السُّقُوطِ (1)
وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَخَلُّفِ الزَّوْجِ عَنِ
الْمَبِيتِ عِنْدَهَا فِي نَوْبَتِهَا أَوْ بِخُرُوجِهِ أَثْنَاءَ
نَوْبَتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِلنَّوْبَةِ بِكَامِلِهَا وَجَبَ
قَضَاؤُهَا كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِبَعْضِ النَّوْبَةِ
كَأَنْ خَرَجَ لَيْلاً - فِيمَنْ عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْل - وَطَال
زَمَنُ خُرُوجِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ بَيْتِ الضَّرَّةِ. فَإِنَّهُ يَجِبُ
الْقَضَاءُ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ (2) .
تَنَازُل الزَّوْجَةِ عَنْ قَسْمِهَا:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لإِِحْدَى زَوْجَاتِ
الرَّجُل أَنْ تَتَنَازَل عَنْ قَسْمِهَا، أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 257، نهاية المحتاج 6 / 379 - 380، كشاف القناع 5 /
205.
(2) نهاية المحتاج 6 / 376، المغني 7 / 33.
(33/202)
تَهَبَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ
لِزَوْجِهَا أَوْ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا أَوْ لَهُنَّ جَمِيعًا، وَذَلِكَ
بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لاَ
يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ إِسْقَاطَ حَقِّهِ فِي
الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ جَازَ؛ لأَِنَّ
الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا لاَ يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِنْ أَبَتِ
الْمَوْهُوبَةُ قَبُول الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ
الزَّوْجِ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي كُل وَقْتٍ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا
مَنَعَتْهُ الْمُزَاحَمَةُ بِحَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَإِنْ زَالَتِ
الْمُزَاحَمَةُ بِهِبَتِهَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا
وَإِنْ كَرِهَتْ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً (1) ، وَقَدْ ثَبَتَ
أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَهَبَتْ
يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَكَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ
بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ (2) .
وَيُعَلِّقُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ بِقَوْلِهِمْ: هَذِهِ
الْهِبَةُ لَيْسَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الْهِبَاتِ، وَلِهَذَا لاَ يُشْتَرَطُ
قَبُول الْمَوْهُوبِ لَهَا أَوْ رِضَاهَا، بَل يَكْفِي رِضَا الزَّوْجِ؛
لأَِنَّ الْحَقَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاهِبَةِ وَبَيْنِهِ، إِذْ لَيْسَ
لَنَا هِبَةٌ يُقْبَل فِيهَا غَيْرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَعَ تَأَهُّلِهِ
لِلْقَبُول إِلاَّ هَذِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا
__________
(1) رد المحتار 2 / 401، فتح القدير 3 / 303، الشرح الكبير 2 / 341، مغني
المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 38.
(2) حديث: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة. . أخرجه البخاري (فتح
الباري 9 / 312) ، ومسلم (2 / 1085) من حديث عائشة.
(3) نهاية المحتاج 6 / 381، مغني المحتاج 3 / 258.
(33/203)
لِجَمِيعِ ضَرَائِرِهَا، وَوَافَقَ
الزَّوْجُ، صَارَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ،
وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَلَهُ جَعْلُهَا لِمَنْ شَاءَ: إِنْ
أَرَادَ جَعْلَهَا لِلْجَمِيعِ، أَوْ خَصَّ بِهَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ،
أَوْ جَعَل لِبَعْضِهِنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ (1) .
وَقِيل - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَل
اللَّيْلَةَ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ بَقِيَّةِ
الزَّوْجَاتِ، بَل يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ وَلاَ يُخَصِّصُ؛ لأَِنَّ
التَّخْصِيصَ يُورِثُ الْوَحْشَةَ وَالْحِقْدَ، فَتُجْعَل الْوَاهِبَةُ
كَالْمَعْدُومَةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ أَنَّ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَوْ
وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِلزَّوْجِ وَلِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ، أَوْ لَهُ
وَلِلْجَمِيعِ، فَإِنَّ حَقَّهَا يُقْسَمُ عَلَى الرُّءُوسِ، كَمَا لَوْ
وَهَبَ شَخْصٌ عَيْنًا لِجَمَاعَةٍ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ إِحْدَى
الزَّوْجَاتِ لَيْلَتَهَا لِوَاحِدَةٍ جَازَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ
اللَّيْلَةُ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ وَالَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ
كَانَتْ لاَ تَلِيهَا لَمْ يَجُزِ الْمُوَالاَةُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ
بِرِضَاءِ الْبَاقِيَاتِ، وَيَجْعَلُهَا لَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ
لِلْوَاهِبَةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْهُوبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فِي
لَيْلَتِهَا فَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً
لِلْوَاهِبَةِ؛ وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ حَقِّ غَيْرِهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، والمغني 7 / 39.
(2) مغني المحتاج 3 / 259.
(3) مغني المحتاج 3 / 259، نهاية المحتاج 6 / 381.
(33/203)
وَتَغْيِيرًا لِلَيْلَتِهَا بِغَيْرِ
رِضَاهَا فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا وَهَبَتْهَا
لِلزَّوْجِ فَآثَرَ بِهَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ
لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّفْرِيقِ (1) .
وَلِلزَّوْجَةِ الْوَاهِبَةِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَتْ فَإِذَا رَجَعَتِ
انْصَرَفَ الرُّجُوعُ مِنْ حِينِهِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّهَا
هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا
الرُّجُوعُ فِيمَا مَضَى لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوْ
رَجَعَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْل كَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِل
إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَتَمَّ اللَّيْلَةَ لَمْ يَقْضِ
لَهَا شَيْئًا لأَِنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهَا (2) .
وَنَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّةَ
وَالْحَنَابِلَةَ فِي الْمَسَائِل السَّابِقَةِ (3) .
الْعِوَضُ لِلتَّنَازُل عَنِ الْقَسْمِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الزَّوْجَةِ الْمُتَنَازِلَةِ عَنْ
قَسْمِهَا عِوَضًا عَلَى ذَلِكَ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ،
لاَ مِنَ الزَّوْجِ وَلاَ مِنَ الضَّرَائِرِ، فَإِنْ أَخَذَتْ لَزِمَهَا
رَدُّهُ وَاسْتَحَقَّتِ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 39.
(2) مغني المحتاج 3 / 259، المغني 7 / 39.
(3) فتح القدير 3 / 303.
(33/204)
الْعِوَضَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا،
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ قَسْمِهَا لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِعَيْنٍ وَلاَ مَنْفَعَةٍ؛ وَلأَِنَّ مَقَامَ الزَّوْجِ عِنْدَهَا لَيْسَ
بِمَنْفَعَةٍ مَلَكَتْهَا.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْعِوَضُ غَيْرَ الْمَال مِثْل
إِرْضَاءِ زَوْجِهَا وَغَيْرِهِ عَنْهَا جَازَ (1) فَإِنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَرْضَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
وَأَخَذَتْ يَوْمَهَا، وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ (2) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ
عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ وَوَقَعَ فِي كَلاَمِ
الْقَاضِي مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى ذَلِكَ
جَائِزٌ، فَقَالُوا: جَازَ لِلزَّوْجِ إِيثَارُ إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ
عَلَى الأُْخْرَى بِرِضَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ تَأْخُذُهُ
مِنْهُ أَوْ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لاَ، بَل
رَضِيَتْ مَجَّانًا، وَجَازَ لِلزَّوْجِ أَوِ الضَّرَّةِ شِرَاءُ يَوْمِهَا
مِنْهَا بِعِوَضٍ، وَتَخْتَصُّ الضَّرَّةُ بِمَا اشْتَرَتْ، وَيَخُصُّ
الزَّوْجُ مَنْ شَاءَ بِمَا اشْتَرَى، وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ بِقَوْلِهِ:
وَتَسْمِيَةُ هَذَا شِرَاءً مُسَامَحَةٌ، بَل هَذَا إِسْقَاطُ حَقٍّ
لأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 3 / 303، مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 39 - 40.
(2) حديث إرضاء عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفية أخرجه ابن ماجه
(1 / 634 - 635) من حديث عائشة وقال البوصيري في الزوائد (1 / 343) إسناده
ضعيف.
(3) كشاف القناع 5 / 205، 206، الإنصاف 8 / 371، 372.
(33/204)
الْمَبِيعَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ
مُتَمَوَّلاً (1) .
مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَسْمُ:
26 - يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجَةِ فِي الْقَسْمِ بِإِسْقَاطِهَا وَيَسْقُطُ
بِالنُّشُوزِ كَمَا تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ. . وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، وَمِنَ النُّشُوزِ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ
تَمْنَعَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا. . قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ
بِنَحْوِ قُبْلَةٍ وَإِنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْجِمَاعِ حَيْثُ لاَ عُذْرَ
فِي امْتِنَاعِهَا مِنْهُ، فَإِنْ عُذِرَتْ كَأَنْ كَانَ بِهِ صُنَانٌ
مُسْتَحْكِمٌ - مَثَلاً - وَتَأَذَّتْ بِهِ تَأَذِّيًا لاَ يُحْتَمَل
عَادَةً لَمْ تُعَدَّ نَاشِزَةً، وَتُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَدُل
قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا. . وَسُقُوطُ حَقِّ النَّاشِزَةِ فِي
الْقَسْمِ لأَِنَّهَا بِخُرُوجِهَا عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا
وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ.
وَلاَ تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ لاَ تُطِيقُ الْوَطْءَ،
وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ غَيْرُ الْمَأْمُونَةِ، وَالْمَحْبُوسَةُ؛ لأَِنَّ
فِي إِلْزَامِ زَوْجِهَا بِالْقَسْمِ لَهَا إِضْرَارًا بِهِ حَيْثُ يَدْخُل
الْحَبْسَ مَعَهَا لِيُوفِيَهَا قَسْمَهَا، وَالزَّوْجَةُ الْمُسَافِرَةُ
لِحَاجَتِهَا وَحْدَهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 341.
(2) رد المحتار 2 / 400، جواهر الإكليل 1 / 327، نهاية المحتاج 6 / 373 -
374، المغني 7 / 28 - 40، كشاف القناع 5 / 204.
(33/205)
قِسْمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِسْمَةُ لُغَةً: النَّصِيبُ، جَعْل الشَّيْءِ أَوِ الأَْشْيَاءِ
أَجْزَاءً أَوْ أَبْعَاضًا مُتَمَايِزَةً.
قَال الْفَيُّومِيُّ: قَسَمْتُهُ قَسْمًا، مِنْ بَابِ ضَرَبَ: فَرَزْتُهُ
أَجْزَاءً فَانْقَسَمَ، وَالْمَوْضِعُ مَقْسِمٌ مِثْل مَسْجِدٍ،
وَالْفَاعِل قَاسِمٌ، وَقَسَّامٌ مُبَالَغَةٌ، وَالاِسْمُ الْقِسْمُ
(بِالْكَسْرِ) ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِصَّةِ وَالنَّصِيبِ، فَيُقَال:
هَذَا قَسْمِي، وَالْجَمْعُ أَقْسَامٌ، مِثْل حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ،
وَاقْتَسَمُوا الْمَال بَيْنَهُمْ، وَالاِسْمُ الْقِسْمَةُ، وَأُطْلِقَتْ
عَلَى النَّصِيبِ أَيْضًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مُعَيَّنٍ: أَيْ فِي
نَصِيبٍ مُعَيَّنٍ (2) ، وَإِنَّمَا كَانَتْ جَمْعًا لِلنَّصِيبِ بَعْدَ
تَفَرُّقٍ، لأَِنَّهُ كَانَ قَبْل الْقِسْمَةِ مُوَزَّعًا عَلَى جَمِيعِ
أَجْزَاءِ الْمُشْتَرَكِ، مَا مِنْ جُزْءٍ - مَهْمَا قَل - إِلاَّ وَلِكُل
وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ بِنِسْبَةِ مَا لَهُ فِي الْمَجْمُوعِ
الْكُلِّيِّ،
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) البحر الرائق 8 / 167، وتكملة فتح القدير 8 / 347.
(33/205)
ثُمَّ صَارَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ
مُنْحَصِرًا فِي جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لاَ تَتَخَلَّلُهُ حُقُوقُ أَحَدٍ مِنْ
بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَلَوْ كَانَتِ الْجُزْئِيَّةُ بِاعْتِبَارِ
الزَّمَانِ، كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - الْبَيْعُ لُغَةً: مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ دَفْعُ عِوَضٍ
وَأَخْذُ مَا عُوِّضَ عَنْهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ: أَنَّ الْقِسْمَةَ أَعَمُّ،
فَقَدْ تَكُونُ بَيْعًا وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ
ب - الإِْفْرَازُ:
3 - الإِْفْرَازُ لُغَةً: التَّنْحِيَةُ أَيْ عَزْل شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ
وَتَمْيِيزُهُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَكُونُ بِالإِْفْرَازِ، وَقَدْ
يُقْصَدُ بِهَا بَيَانُ الْحِصَصِ دُونَ إِفْرَازٍ، كَمَا فِي
الْمُهَايَأَةِ فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الإِْفْرَازِ.
ج - الشَّرِكَةُ:
4 - الشَّرِكَةُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ شَرِكَ، وَهِيَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) شرح الروض 2 / 2.
(3) المصباح المنير وتاج العروس.
(33/206)
خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ وَاخْتِلاَطُهُمَا،
وَالْعَقْدُ الَّذِي يَتِمُّ بِسَبَبِهِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَقِيقَةً
أَوْ حُكْمًا (1) .
وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَخْتَصَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا
بِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالشَّرِكَةِ التَّضَادُّ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقِسْمَةِ:
5 - الْقِسْمَةُ مَشْرُوعَةٌ، وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَفِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيِ: مِنْ مِثْل: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (3)
، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ مِمَّا قَل مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا} (4) ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ} (5) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً
مَعْرُوفًا} (6)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 3 / 343، ومغني المحتاج 2 / 211.
(3) سورة الأنفال / 41.
(4) سورة النساء / 6.
(5) سورة المعارج / 24.
(6) سورة النساء / 7.
(33/206)
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ وَتَقْرِيرُهُ:
فَمِنْ قَوْلِهِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا
قُسِّمَتِ الأَْرْضُ وَحُدَّتْ، فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا (1) ، وَفِي
مَعْنَاهُ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ،
فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ (2) .
وَمِنْ فِعْلِهِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (3) ، وَفِي حَدِيثِ سَهْل
بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ
وَحَاجَاتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ
عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا (4) .
وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ: فَلاَ شَكَّ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ
وَغَيْرِهَا كَانَتْ تَقَعُ عَلَى عَهْدِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ، فَيُسَدِّدُ وَلاَ يُنْكِرُ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ كَانَ النَّاسُ - وَمَا زَالُوا -
__________
(1) حديث: " إذا قسمت الأرض وحدت. . . " أخرجه أبو داود (3 / 785) من حديث
أبي هريرة، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (5 / 331) : رجال إسناده ثقات.
(2) حديث جابر: " قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم.
. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 436) .
(3) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم " كان يقسم الغنائم. . . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 8 / 53) من حديث أنس.
(4) حديث سهل بن أبي حثمة: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين.
. . " أخرجه أبو داود (3 / 410) ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 397) قول
صاحب التنقيح: إسناده جيد.
(33/207)
مُنْذُ عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا يَتَعَامَلُونَ
بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَفِي غَيْرِ الْمَوَارِيثِ، دُونَ
نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا
مُتَوَارَثَةً (1) .
وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْقِسْمَةَ تُوَفِّرُ عَلَى كُل شَرِيكٍ
مَصْلَحَتَهُ كَامِلَةً، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِنَّهَا لِتَكْمِيل
نَفْعِ الشَّرِيكِ (2)
تَكْيِيفُ الْقِسْمَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِسْمَةِ هَل هِيَ بَيْعٌ أَمْ مَحْضُ
تَمْيِيزِ حُقُوقٍ؟ يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَذَاهِبَ
أَرْبَعَةً:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل:
أَنَّهَا بَيْعٌ بِإِطْلاَقٍ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ،
لَكِنَّهُ خِلاَفُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (3) ، وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنْ قُدَامَى أَصْحَابِهِمْ،
وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ (4) ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (5) .
وَقَالُوا: إِنَّ كُل جُزْءٍ مِنَ الْمَال مُشْتَرَكٌ بَيْنَ
__________
(1) البدائع 7 / 17. ورد المحتار 5 / 166، وتكملة فتح القدير 8 / 248،
ومغني المحتاج 4 / 418، والمغني لابن قدامة 11 / 448.
(2) بدائع الصنائع 7 / 17، ومغني المحتاج 4 / 418، وقواعد ابن رجب ص 144.
(3) التحفة وحواشيها 2 / 68، والفواكه الدواني 2 / 327.
(4) مغني المحتاج 4 / 424، ونهاية المحتاج 8 / 275.
(5) منتهى الإرادات 2 / 618، والإنصاف 11 / 347.
(33/207)
الشَّرِيكَيْنِ، فَإِذَا أَخَذَ
أَحَدُهُمَا نِصْفَ الْجَمِيعِ فَقَدْ بَاعَ مَا تَرَكَ مِنْ حَقِّهِ بِمَا
أَخَذَ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ (1) ، أَوْ كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
لأَِنَّهُ يُبَدِّل نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ بِنَصِيبِ
صَاحِبِهِ مِنَ السَّهْمِ الآْخَرِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّهَا مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ بِإِطْلاَقٍ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ مَعَهُمُ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ،
وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ تَقَعِ الْقِسْمَةُ جُزَافًا
(3) .
وَقَالُوا: إِنَّ لَوَازِمَ الْقِسْمَةِ تُخَالِفُ لَوَازِمَ الْبَيْعِ،
وَاخْتِلاَفُ اللَّوَازِمِ يَدُل عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَلْزُومَاتِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ (4) :
تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِيمَا تَمَاثَل - أَيْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، مَعَ
تَسَاوِي الرَّغَبَاتِ وَالْقِيمَةِ: كَالدُّورِ وَالْفَدَادِينِ
الْمُتَقَارِبَةِ فِي
__________
(1) المهذب للشيرازي 2 / 306.
(2) المغني 11 / 491.
(3) مغني المحتاج 4 / 423، 424، وقواعد ابن رجب 412، ومطالب أولي النهى 6 /
550، والتحفة وحواشيها 2 / 68.
(4) بلغة السالك 2 / 240، والتحفة وحواشيها 2 / 68 - 69.
(2) بلغة السالك 2 / 241.
(3) ومن المتقارب (المتجانس) البُخْت من الإبل مع العراب منها، والجاموس من
البقر، والغنم مع المعز، لا البغال مع الحمير. (الخرشي 4 / 402، والتحفة
وحواشيها 2 / 69) ، وفي المصباح المنير: العراب من الإبل خلاف البخاتي.
(4) التجريد المفيد 4 / 370، ومغني المحتاج 4 / 421، 422.
(33/208)
كَأَرْضٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي أَحَدِ
جَانِبَيْهَا مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ - كَمَعْدِنٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ
بِئْرِ مَاءٍ - وَرُبَّمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَحْدَهُ تَعْدِل قِيمَةَ
الأَْرْضِ كُلَّهَا أَوْ تَزِيدُ (1) .
فَمِنْ وُجْهَةِ نَظَرِ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافِقِيهِمْ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرَّادَّ إِنَّمَا بَذَل مُقَابِل مَا حَصَل لَهُ
مِنْ حَقِّ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ (2)
، أَمَّا فِي غَيْرِ قِسْمَةِ الرَّدِّ فَيَتَمَسَّكُ بِتَغَايُرِ
اللَّوَازِمِ، كَمَا تَمَسَّكَ أَرْبَابُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي (3) .
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ
الثَّالِثِ - لاَ يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ قِسْمَةَ الرَّدِّ بَيْعٌ،
وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ كَذَلِكَ أَيْضًا: كُل قِسْمَةٍ أُخْرَى
يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى تَعْدِيل الأَْنْصِبَاءِ بِوَاسِطَةِ التَّقْوِيمِ،
لِيَصِيرَ مَا يَأْخُذُهُ بِهَا كُل شَرِيكٍ حَقًّا خَالِصًا لَهُ، إِذِ
التَّقْوِيمُ تَخْمِينٌ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ: كَمَا فِي دَارٍ بَعْضُهَا
لَبِنٌ، وَبَعْضُهَا حَجَرٌ، وَأَرْضٌ بَعْضُهَا جَيِّدٌ وَبَعْضُهَا
رَدِيءٌ، وَبُسْتَانٍ بَعْضُهُ نَخْلٌ وَبَعْضُهُ كَرْمٌ (وَتُسَمَّى
قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ) - وَرُبَّمَا قِيل: لَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ التَّعْدِيل
بَيْعًا لَمَا قَبِلَتِ الإِْجْبَارَ كَقِسْمَةِ الرَّدِّ.
__________
(1) المغني 11 / 491، ومطالب أولي النهى 6 / 549، 550، 558، والمهذب 2 /
306.
(2) المهذب 2 / 306، والمغني 11 / 492.
(3) المهذب 2 / 306، والمغني 11 / 491.
(33/209)
وَقَدْ قِيل فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ
بِعَدَمِ قَبُولِهَا الإِْجْبَارَ فِعْلاً (1) ، وَلَكِنَّهُ خِلاَفُ مَا
اعْتَمَدُوهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا - فِي مُعْتَمَدِهِمْ - لِكَوْنِهَا
بَيْعًا إِلْحَاقًا لِتَسَاوِي الأَْجْزَاءِ قِيمَةً بِتَسَاوِيهَا
حَقِيقَةً، وَلِدُعَاءِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الرَّغَبَاتِ تَتَعَلَّقُ
بِتَخْلِيصِ الْحَقِّ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَكَمَا
يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَال الْمَدْيُونِ جَبْرًا، وَلَمْ تُحَكَّمْ هَذِهِ
الْحَاجَةُ فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ؛ لأَِنَّ الإِْجْبَارَ فِيهَا يَكُونُ
إِجْبَارًا عَلَى دَفْعِ مَالٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ (2) .
وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُتَسَاوِيَ فِي
الْمَقْصُودِ الأَْهَمِّ يُعْتَبَرُ كَالْمُتَسَاوِي مِنْ كُل وَجْهٍ،
لإِِمْكَانِ التَّجَاوُزِ عَنِ الْفَرْقِ حِينَئِذٍ، سِيَّمَا وَهُوَ
يَعْدِل بِالْقِيمَةِ: فَالَّذِي يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ
ذَاكَ يَكُونُ آخِذًا لِعَيْنِ حَقِّهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَمْيِيزِ
الْحُقُوقِ (3) .
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:
الْقِسْمَةُ لاَ تَخْلُو مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي
قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ يُغَلَّبُ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ
(الإِْفْرَازُ) وَفِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ يُغَلَّبُ مَعْنَى الْبَيْعِ،
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ - مَهْمَا قَل - مِنَ الْمَال
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) نهاية المحتاج 8 / 275.
(3) التحفة وحواشيها 2 / 69، وبلغة السالك 2 / 241.
(4) البدائع 7 / 17.
(33/209)
الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ وَنِصْفُهُ لِهَذَا
وَنِصْفُهُ لِذَاكَ، فَإِذَا اسْتَقَل أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ
فَشَطْرُ مَا اسْتَقَل بِهِ كَانَ لَهُ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا
اجْتَمَعَ وَتَمَيَّزَ بَعْدَ شُيُوعٍ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَمْيِيزِ
الْحُقُوقِ، وَشَطْرُهُ الآْخَرُ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَخَذَهُ مِنْهُ
عِوَضًا عَمَّا تَرَكَهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا
غُلِّبَ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ؛ لأَِنَّ
الْمَأْخُوذَ فِيهَا عَلَى سَبِيل الْمُعَاوَضَةِ هُوَ عَيْنُ الْمَتْرُوكِ
حُكْمًا، إِذْ هُوَ مِثْلُهُ يَقِينًا فَضَعُفَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ،
وَلاَ كَذَلِكَ قِسْمَةُ الْقِيَمِيِّ، فَلَمْ يَضْعُفْ فِيهَا مَعْنَى
الْمُبَادَلَةِ، إِذِ الْمَأْخُوذُ لَيْسَ عَيْنَ الْمَتْرُوكِ وَلَوْ
حُكْمًا، وَمِنْ ثَمَّ يَكُونُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ
الْقِيَمِيِّ أَقْوَى مِنْهُ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ (1) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَكْيِيفِ الْقِسْمَةِ:
7 - تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الآْثَارُ فِي أَنَّهُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ
بَيْعًا، فَإِنَّهَا تُعْطَى أَحْكَامَهُ - مَعَ مُلاَحَظَةِ مَا مَرَّ
مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فِي أَشْبَاهٍ لَهَا - وَإِنْ كَانَتْ مَحْضَ
تَمْيِيزِ حُقُوقٍ فَإِنَّهَا لاَ تُعْطَى أَحْكَامَ الْعُقُودِ أَصْلاً
(2) . فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - (الْخِيَارَاتُ) : تَدْخُل الْخِيَارَاتُ الْقِسْمَةَ بِنَاءً
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 349، منلا مسكين 2 / 203، وحاشية ابن عابدين " رد
المحتار " 5 / 167.
(2) مغني المحتاج 4 / 424، والقواعد لابن رجب ص 412.
(33/210)
عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ، وَلاَ تَدْخُلُهَا
بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَمْيِيزُ حُقُوقٍ، هَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (1) ،
وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ مَنْ نَفَى فِيهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ وَخِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى
أَيَّةِ حَالٍ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا
بِالْبَيْعِ، بَل لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَيِّ الأَْمْرَيْنِ أَرْشَدُ،
وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ (3) .
وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ قَائِمٌ فِي كُل قِسْمَةٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يُرَدِّدُوا هَذَا التَّرْدِيدَ، بَل أَطْلَقُوا
دُخُول الْخِيَارَاتِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَلَكِنْ عَلَى تَفَاوُتٍ
يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ.
فَقِسْمَةُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ - وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لاَ
إِجْبَارَ فِيهَا - تَدْخُلُهَا الْخِيَارَاتُ الثَّلاَثَةُ: خِيَارُ
الشَّرْطِ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ.
وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ - وَهِيَ تَقْبَل
الإِْجْبَارَ - لاَ يَدْخُلُهَا سِوَى خِيَارِ الْعَيْبِ.
وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَرِ أَوِ
الْغَنَمِ أَوِ الثِّيَابِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ - وَهِيَ تَقْبَل
الإِْجْبَارَ أَيْضًا - يَدْخُلُهَا خِيَارُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 424، وقواعد ابن رجب ص 413.
(2) المدونة 14 / 198، وبلغة السالك 2 / 238.
(3) قواعد ابن رجب ص 413.
(33/210)
الْعَيْبِ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا
يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى
بِهِ (1) .
ب - الشُّفْعَةُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزَ حُقُوقٍ لَمْ
تَثْبُتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا:
فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِثُبُوتِهَا، وَصَوَّرُوهَا بِمَا إِذَا
تَقَاسَمَ شَرِيكَانِ مِنْ ثَلاَثَةِ شُرَكَاءَ، وَتَرَكَا نَصِيبَ
الثَّالِثِ مَعَ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ هَذَا الثَّالِثِ، فَإِنَّ
الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِهَذَا الثَّالِثِ (2) ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ
الْحَنَفِيَّةُ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ فِي
الْمُبَادَلَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ مُبَادَلَةً مَحْضَةً
(3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا
عَلَى الأَْصْل، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا لِمَانِعٍ خَاصٍّ بِالْقِسْمَةِ،
إِذْ تَثْبُتُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّفْعَةُ عَلَى الآْخَرِ، إِذْ
لَوْ ثَبَتَتْ لِهَذَا عَلَى ذَاكَ لَثَبَتَتْ لِذَاكَ عَلَى هَذَا
فَيَتَنَافَيَانِ، وَوَصَفَهُ الْمِرْدَاوِيُّ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ (4) .
ج - التَّقَايُل: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا قَبِلَتِ التَّقَايُل،
وَإِنْ كَانَتْ مُجَرَّدَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ لَمْ تَقْبَلْهُ، نَصَّ
عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ كَلاَمِ
الْمَالِكِيَّةِ (5) ، وَجَرَى ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى
أَنَّ قِسْمَةَ الْمِثْلِيَّاتِ لاَ تَقْبَل
__________
(1) رد المحتار 5 / 167.
(2) الرشيدي على نهاية المحتاج 8 / 275.
(3) بدائع الصنائع 7 / 28.
(4) الإنصاف 11 / 351.
(5) الخرشي 4 / 424، وبلغة السالك 2 / 238.
(33/211)
التَّقَايُل، لِغَلَبَةِ مَعْنَى
الإِْفْرَازِ، وَقِسْمَةُ الْقِيَمِيَّاتِ تَقْبَلُهُ، فَإِنْ خَلَطَ
الْمُقْتَسِمُونَ مَا اقْتَسَمُوهُ مِنَ الْمِثْلِيِّ كَانَتْ شَرِكَةً
جَدِيدَةً، مَعَ أَنَّ الْعَلاَئِيَّ وَصَاحِبَ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ
عَلَى تَعْمِيمِ الْقَبُول (1) .
أَقْسَامُ الْقِسْمَةِ:
8 - تَنْقَسِمُ الْقِسْمَةُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّقْوِيمِ
وَعَدَمِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمَةُ إِفْرَازٍ -
وَقِسْمَةُ تَعْدِيلٍ -
وَقِسْمَةُ رَدٍّ.
أَوَّلاً: قِسْمَةُ الإِْفْرَازِ:
9 - وَهِيَ تُوجَدُ عِنْدَمَا لاَ تَكُونُ ثَمَّ حَاجَةٌ إِلَى تَقْوِيمِ
الْمَقْسُومِ - أَعْنِي مَا يُرَادُ قَسْمُهُ - لِعَدَمِ تَفَاوُتِ
الأَْغْرَاضِ، أَوْ لأَِنَّهُ تَفَاوُتٌ مِنَ التَّفَاهَةِ بِحَيْثُ لاَ
يُعْتَدُّ بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ إِفْرَازٍ (2) ؛
لأَِنَّهَا لاَ تَتَطَلَّبُ أَكْثَرَ مِنْ إِفْرَازِ كُل نَصِيبٍ عَلَى
حِدَةٍ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ: كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ ذَرْعًا
أَوْ عَدًّا، وَتُسَمَّى أَيْضًا قِسْمَةَ الْمُتَشَابِهَاتِ: لأَِنَّهَا
لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِيمَا تَشَابَهَتْ أَنْصِبَاؤُهُ حَتَّى لاَ تَفَاوُتَ
يُذْكَرُ، أَوِ الْقِسْمَةُ بِالأَْجْزَاءِ: لأَِنَّ نِسْبَةَ الْجُزْءِ
الَّذِي يَأْخُذُهُ كُل شَرِيكٍ هِيَ بِعَيْنِهِ نِسْبَةُ حَقِّهِ إِلَى
الْمَال
__________
(1) رد المحتار 5 / 176.
(2) الباجوري على ابن قاسم 2 / 352.
(33/211)
الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ
فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ النَّوْعِ - كَدَنَانِيرِ بَلَدٍ
بِعَيْنِهِ، وَكَالْقَمْحِ الْهِنْدِيِّ، وَالأَْرُزِّ الْيَابَانِيِّ،
وَكَالأَْدْهَانِ الْمُتَمَاثِلَةِ مِنْ شَيْرَجٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عُطُورٍ
أَوْ مَا إِلَيْهَا (1) - وَفِيمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ
الْمُتَّحِدَةِ النَّوْعِ كَذَلِكَ: كَالْمَنْسُوجَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَوِ
الْحَرِيرِيَّةِ أَوِ الْقُطْنِيَّةِ، وَكَالْكُتُبِ، وَالأَْقْلاَمِ،
وَالسَّاعَاتِ، وَالأَْحْذِيَةِ، وَكَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي فِي
كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْهَا مِثْل مَا فِي الآْخَرِ مِنَ الأَْبْنِيَةِ
تَصْمِيمًا، وَأَدَوَاتِ بِنَاءٍ، وَإِحْكَامِ صَنْعَةٍ، وَعَدَدِ حُجَرٍ
مَعَ إِمْكَانِ قِسْمَةِ السَّاحَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَبِالْجُمْلَةِ عِنْدَمَا تَتَسَاوَى الأَْنْصِبَاءُ صُورَةً وَقِيمَةً
(2) .
ثَانِيًا: قِسْمَةُ التَّعْدِيل:
10 - وَتَكُونُ عِنْدَمَا لاَ تَتَعَادَل الأَْنْصِبَاءُ بِذَاتِهَا،
وَإِنَّمَا تَتَعَادَل بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ
رُبَّمَا كَانَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً.
وَلَكِنَّ قِيمَةَ ثُلُثِهِ - لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ مَزَايَا -
تُسَاوِي قِيمَةَ ثُلُثَيْهِ؛ فَيُجْعَل فِي الْقِسْمَةِ الثُّلُثُ
الْمَذْكُورُ سَهْمًا بِحَقِّ النِّصْفِ، وَالثُّلُثَانِ سَهْمًا آخَرَ
بِحَقِّ النِّصْفِ الآْخَرِ، كَمَا أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ تُجْعَل سَهْمًا
بِحَقِّ النِّصْفِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 421.
(2) نهاية المحتاج 8 / 272، ومغني المحتاج 4 / 421، 423، والتجريد المفيد 4
/ 370.
(33/212)
وَالْكِتَابُ وَالْقَلَمُ سَهْمًا آخَرَ
بِحَقِّ النِّصْفِ الآْخَرِ، إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تُسَاوِي
قِيمَتَيْهِمَا.
ثَالِثًا: قِسْمَةُ الرَّدِّ:
11 - وَتَكُونُ إِذَا لَمْ تَعْدِل الأَْنْصِبَاءُ، بَل تُرِكَتْ
مُتَفَاوِتَةَ الْقِيمَةِ اخْتِيَارًا أَوِ اضْطِرَارًا، وَبِحَيْثُ
يَكُونُ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ النَّصِيبَ الزَّائِدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى
شَرِيكِهِ قِيمَةَ حَقِّهِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ.
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فِيهَا إِلَى رَدِّ مَالٍ
أَجْنَبِيٍّ عَنْ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ - وَهِيَ
قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ أَيْضًا - وَلَكِنْ يُشَارُ إِلَيْهَا بِفَصْلِهَا
الْمُمَيَّزِ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ قِسْمَةُ التَّعْدِيل فَإِنَّمَا
تَنْصَرِفُ إِلَى مَا لاَ رَدَّ فِيهَا، وَهَاكَ مِثَالَيْنِ لِقِسْمَةِ
الرَّدِّ: أَحَدُهُمَا يُمَثِّلُهَا فِي حَالَةِ الاِخْتِيَارِ، وَالآْخَرُ
فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ:
الْمِثَال الأَْوَّل: أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً.
وَفِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا بِئْرٌ لِرَيِّهَا لاَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا،
فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُقْسَمَ الأَْرْضُ نِصْفَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ،
وَيَكُونَ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي فِيهِ الْبِئْرُ
نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلَّذِي يَأْخُذُ النِّصْفَ الآْخَرَ، وَهَذِهِ
قِسْمَةُ رَدٍّ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تُقَوَّمَ الأَْرْضُ وَالْبِئْرُ مَعًا بِأَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ مَثَلاً، لِلْبِئْرِ مِنْهَا ثُلُثُهَا: فَيَأْخُذُ
أَحَدُهُمَا الْبِئْرَ وَرُبْعَ الأَْرْضِ، وَيَأْخُذُ الآْخَرُ
الثَّلاَثَةَ الأَْرْبَاعِ الْبَاقِيَةِ، وَهَذِهِ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ
(33/212)
لاَ رَدَّ فِيهَا (1) .
فَإِذَا قُسِمَتْ عَلَى النَّحْوِ الأَْوَّل فَهِيَ قِسْمَةُ رَدٍّ
يُؤْثِرَانِهَا اخْتِيَارًا دُونَ أَنْ تُلْجِئَ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ.
وَمِثْل الْبِئْرِ غَيْرُهَا كَشَجَرَةٍ أَوْ بِنَاءٍ لاَ يُقْسَمُ أَوْ
مَنْجَمٍ (مَعْدِنٍ) (2) كَذَلِكَ.
الْمِثَال الثَّانِي: لَوْ فَرَضْنَا فِي الْمِثَال السَّابِقِ أَنَّ
قِيمَةَ الْبِئْرِ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الأَْرْضِ كُلِّهَا،
فَحِينَئِذٍ لاَ يَكُونُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرُدَّ آخُذُهَا عَلَى الآْخَرِ
قِيمَةَ مَا بَقِيَ لَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ بَعْدَ التَّعْدِيل
بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الأَْرْضِ أَلْفًا، وَقِيمَةُ
الْبِئْرِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَإِنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَكُونُ
مَا قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا الأَْرْضَ
كُلَّهَا وَتَرَكَ الْبِئْرَ، رَدَّ عَلَيْهِ الآْخَرُ مِائَةً، وَإِذَا
أَخَذَ بَعْضَ الأَْرْضِ فَقَطْ رَدَّ عَلَيْهِ الآْخَرُ أَيْضًا قِيمَةَ
مَا تَرَكَ لَهُ مِنْهَا (3) .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَيُلَخِّصُونَهُ بِأَنَّ
الْمَقْسُومَ إِنْ تَسَاوَتِ الأَْنْصِبَاءُ مِنْهُ صُورَةً وَقِيمَةً
فَالإِْفْرَازُ، وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى رَدِّ شَيْءٍ آخَرَ
فَالتَّعْدِيل، وَإِلاَّ فَالرَّدُّ (4) ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) المهذب 2 / 308، ونهاية المحتاج 8 / 273، 274، والباجوري على ابن قاسم
2 / 253.
(2) المعدن: (بكسر الدال) : منبت الجواهر، من ذهب وحديد وفضة ونحو ذلك: قيل
له ذلك، لأن أهله يقيمون فيه صيفًا وشتاء لا يبرحونه، أو لإنبات الله عز
وجل ذلك فيه. (محيط المحيط) .
(3) مغني المحتاج 4 / 422، 423، ونهاية المحتاج 8 / 273، 274، والتجريد
المفيد 4 / 371، 372.
(4) نهاية المحتاج 8 / 272.
(33/213)
بِمِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبْرِزُوهُ
إِبْرَازَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ مُفْلِحٍ فِي
الْفُرُوعِ: وَتُعْدَل السِّهَامُ بِالأَْجْزَاءِ إِنْ تَسَاوَتْ،
وَبِالْقِيمَةِ إِنِ اخْتَلَفَتْ، وَبِالرَّدِّ إِنِ اقْتَضَتْهُ (1) .
وَلاَ بُدَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ التَّقْوِيمِ، وَيَقُومُ
مَقَامَهُ التَّحَرِّي، أَيِ الْخَرْصُ فِي قِسْمَةِ الزَّرْعِ قَبْل
بُدُوِّ صَلاَحِهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَكَذَا فِيمَا يَقْبَل التَّفَاضُل
مِنْ غَيْرِ الْمَزْرُوعَاتِ (2) ، وَذَلِكَ فِي كُل شَيْءٍ تُرَادُ
قِسْمَتُهُ بِالْقُرْعَةِ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، بِاسْتِثْنَاءِ
شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ عَلَى خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِثْنَائِهِمَا:
أ - الْمِثْلِيَّاتُ - وَهِيَ الْمَكِيلاَتُ وَالْمَوْزُونَاتُ
وَالْمَعْدُودَاتُ " الْمُتَّفِقَةُ الصِّفَةِ " (3) ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ
كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا، وَالاِسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى
الْقَوْل بِقَبُولِهَا الْقُرْعَةَ، فَإِنَّ ابْنَ عَرَفَةَ فِي
فَتَاوِيهِ، تَبَعًا لِلْبَاجِيِّ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْقِيَمِيَّاتِ (4) ، وَعِبَارَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ:
قَال مَالِكٌ: تُقْسَمُ الأَْشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ
يُضْرَبُ بِالسِّهَامِ (5) .
ب - الْعَقَارُ الْمُتَّفِقُ الْمَبَانِي: بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْ
جَانِبَيْهِ مِثْل مَا فِي الآْخَرِ عَيْنًا وَمَنْفَعَةً، فَإِنَّهُ
يَجُوزُ عِنْدَ بَهْرَامَ أَنْ يُقْسَمَ بِالْمِسَاحَةِ، وَجَرَى
__________
(1) بلغة السالك 2 / 243.
(3) الفواكه الدواني 2 / 327.
(4) الخرشي 4 / 402.
(5)
14 / 226.
(33/213)
الْخَرَشِيُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِمَادِهِ
(1) ، وَاعْتَمَدُوهُ فِي حَوَاشِي التُّحْفَةِ (2) .
فَأَنْتَ تَرَى قِسْمَةَ الإِْفْرَازِ وَاضِحَةً لاَئِحَةً عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيَّاتِ
الْمُتَّفِقَةِ الصِّفَةِ (3) ، وَفِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَّفِقِ
الْمَبَانِي: الأَْوَّل عَلَى مُعْتَمَدِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى قَوْل
بَهْرَامَ وَمُعْتَمِدِيهِ، وَقِسْمَةُ التَّعْدِيل فِيمَا عَدَاهُمَا.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِقِسْمَةِ الْقُرْعَةِ، أَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي
فَقَدْ تَكُونُ بِتَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ وَقَدْ تَكُونُ بِدُونِهِمَا (4) .
أَمَّا قِسْمَةُ الرَّدِّ، فَالْمَالِكِيَّةُ يُثْبِتُونَهَا عَلَى
التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لاِنْطِوَاءِ الْقُرْعَةِ فِيهَا عَلَى
الْغَرَرِ الْكَثِيرِ، إِذْ قَدْ يُرِيدُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَخْذَ
الأَْحَظِّ وَتَحَمُّل الْفَرْقِ أَوْ عَكْسَهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْعَةَ
تُخْرِجُ لَهُ مَا لاَ يَشْتَهِي، وَقَدْ أَثْبَتَهَا خَلِيلٌ فِي قِسْمَةِ
الْقُرْعَةِ أَيْضًا لَكِنْ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيل، إِلاَّ أَنَّهُمْ
لَمْ يَعْتَمِدُوهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول النَّفْرَاوِيُّ: وَلاَ يُؤَدِّي
أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ثَمَنًا لِشَرِيكِهِ لِزِيَادَةٍ فِي سَهْمِهِ، مِثَال
ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ فِيهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا
يُسَاوِي دِينَارَيْنِ، وَالآْخَرُ يُسَاوِي دِينَارًا،
__________
(1) الخرشي 4 / 402، والتحفة وحواشيها 2 / 68.
(4) حواشي التحفة 2 / 68.
(33/214)
وَاقْتَرَعَا عَلَى أَنَّ مَنْ صَارَ لَهُ
الَّذِي يُسَاوِي الدِّينَارَيْنِ يَدْفَعُ نِصْفَ دِينَارٍ لِيَحْصُل
التَّعَادُل، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُول
قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ فِي صِنْفَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي قِسْمَةِ
الْقُرْعَةِ، قَال خَلِيلٌ - بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ - " أَوْ
فِيهِ تَرَاجُعٌ، إِلاَّ أَنْ يَقِل " وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْجَوَازِ،
وَلَوْ قَل مَا بِهِ التَّرَاجُعُ، وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: "
وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْفِعْل الَّذِي دَخَلاَ عَلَيْهِ تَرَاجُعٌ لَمْ
يَجُزِ الْقَسْمُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا
فَيَجُوزُ؛ لأَِنَّ قِسْمَةَ الْمُرَاضَاةِ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي
الْجِنْسَيْنِ " وَحِينَئِذٍ فَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنْ
(الْفِصَال) - وَهُوَ قِسْمَةُ الْمَوَاشِي - مِنْ جَعْل نَحْوِ
الْبَقَرَةِ قِسْمًا، وَبِنْتِهَا مَعَ بَعْضِ دَرَاهِمَ قِسْمًا آخَرَ،
وَيَدْخُلاَنِ عَلَى الْقُرْعَةِ، فَاسِدٌ - وَإِنِ اسْتَحْسَنَهُ
اللَّخْمِيُّ بِالشَّيْءِ الْقَلِيل، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلاَّمَةُ
خَلِيلٌ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ - كَمَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ
الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا بِالْمُرَاضَاةِ بِأَنْ يَقُول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الصَّغِيرَةِ وَتَأْخُذُ كَذَا، أَوِ
الْكَبِيرَةِ وَتَدْفَعُ كَذَا - مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ - فَيَجُوزُ (1) ،
وَمِثْلُهُ فِي التُّحْفَةِ وَحَوَاشِيهَا (2) ،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 327.
(2)
2 / 70.
(33/214)
وَمَثَّلُوا بِدَارَيْنِ إِحْدَاهُمَا
بِمِائَةٍ وَالأُْخْرَى بِسِتِّينَ أَوْ تِسْعِينَ: لاَ يَجُوزُ
بِالْقُرْعَةِ أَنْ يَسْتَقِل كُلٌّ بِدَارٍ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ
أَخَذَ أَفْضَل الدَّارَيْنِ عِشْرِينَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى، أَوْ
خَمْسَةً فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَخَّصَ فِي هَذِهِ الأَْخِيرَةِ
اللَّخْمِيُّ، أَيْ وَفِي كُل حَالاَتِ الْقِلَّةِ، وَقَدَّرُوهَا بِنِصْفِ
الْعُشْرِ أَوْ نَحْوِهِ (1) ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ جَوَازُ قِسْمَةِ
الرَّدِّ بِإِطْلاَقٍ، وَإِنْ كَانَ كَلاَمُهَا فِي الْعَقَارِ.
تَقْسِيمُ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْمُتَقَاسِمِينَ:
12 - الْقِسْمَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ قِسْمَانِ: قِسْمَةُ تَرَاضٍ،
وَقِسْمَةُ إِجْبَارٍ، وَلاَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى الإِْجْمَاعِ. ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ قَدْ يَرْغَبُونَ
جَمِيعًا فِي قِسْمَةِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، أَوْ يَرْغَبُ بَعْضُهُمْ
وَيُوَافِقُ الْبَاقُونَ عَلَى أَصْل الْقِسْمَةِ وَعَلَى كَيْفِيَّةِ
تَنْفِيذِهَا، فَلاَ تَكُونُ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَى
الْقَضَاءِ، وَتُسَمَّى الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ قِسْمَةَ تَرَاضٍ.
وَقَدْ يَرْغَبُ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَيَأْبَى غَيْرُهُ، فَإِذَا
لَجَأَ الرَّاغِبُ إِلَى الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَوَلَّى
قِسْمَةَ الْمَال وَفْقَ الأُْصُول الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا، وَتَكُونُ
الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ.
فَقِسْمَةُ التَّرَاضِي: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِاتِّفَاقِ الشُّرَكَاءِ.
__________
(1) الخرشي 4 / 409.
(33/215)
وَقِسْمَةُ الإِْجْبَارِ: هِيَ الَّتِي
تَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ، لِعَدَمِ اتِّفَاقِ الشُّرَكَاءِ (1) .
ثُمَّ لَيْسَ حَتْمًا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ أَنْ يَتَوَلاَّهَا
الْقَاضِي بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَنْدُبُهُ لِذَلِكَ، بَل لَهُ أَنْ
يَحْبِسَ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يُجِيبَ إِلَيْهَا،
وَيُحَدِّدَ لَهُ الْقَاضِي مُدَّةً مَعْقُولَةً لإِِتْمَامِهَا بِصُورَةٍ
عَادِلَةٍ.
وَفِي كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ إِشَارَةٌ صَرِيحَةٌ إِلَى نَحْوٍ مِنْ
هَذَا، إِذْ يَقُولُونَ: لَيْسَتِ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءٍ عَلَى
الْحَقِيقَةِ، حَتَّى لاَ يُفْتَرَضَ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهَا،
وَإِنَّمَا الَّذِي يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ جَبْرُ الآْبِي عَلَى الْقِسْمَةِ
(2) .
13 - وَقَدْ عَلِمْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ قِسْمَةَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ
تَقْبَل الإِْجْبَارَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلِيًّا كَانَ كَالْحُبُوبِ
أَوِ الأَْدْهَانِ أَوِ الْجَوْزِ أَوِ الْبَيْضِ، (وَيَكْفِي تَقَارُبُ
الْمِثْلِيِّ الْعَدَدِيِّ) أَمْ قِيَمِيًّا كَالإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ
أَوِ الْغَنَمِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ الدُّورُ أَوِ
الْحَوَانِيتُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَالأَْرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ أَوِ
الْبَسَاتِينُ كَذَلِكَ، أَمَّا قِسْمَةُ الأَْنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ -
كَخَلِيطٍ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الآْنِفِ ذِكْرُهَا - قِسْمَةُ الشَّيْءِ
الْوَاحِدِ، حَتَّى يَسْتَقِل الشَّرِيكُ بِنَوْعٍ أَوْ أَكْثَرَ (وَهِيَ
مِنْ قِسْمَةِ الْجَمْعِ) فَهَذِهِ لاَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ، لِمَكَانِ
فُحْشِ تَفَاوُتِهَا وَتَفَاوُتِ الرَّغَبَاتِ فِيهَا: فَيَتَعَذَّرُ
__________
(1) تكملة فتح القدير والعناية 8 / 357.
(2) العناية على الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 351.
(33/215)
تَعْدِيلُهَا، وَيَنْطَوِي الإِْجْبَارُ
عَلَيْهَا عَلَى الْجَوْرِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَرَاضَى الشُّرَكَاءُ
عَلَيْهَا فَلاَ مَانِعَ مِنْهَا حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّ مَا عَسَاهُ يَكُونُ
قَدْ فَاتَ بِهَا مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمْ فَإِنَّمَا فَاتَ بِطِيبِ نَفْسٍ
مِنْهُ، وَالَّذِي يَمْلِكُ الْحَقَّ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، مَا دَامَ
حَقًّا خَالِصًا لَهُ (1) ، نَعَمْ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْوُصُول إِلَى
الْحَقِّ إِلاَّ جَبْرًا عَلَى هَذِهِ الْمُبَادَلَةِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ
عَلَيْهَا كَقَضَاءِ الدَّيْنِ (2) .
لَكِنْ شَرِيطَةُ الإِْجْبَارِ بَعْدَ طَلَبِ الْقِسْمَةِ: انْتِفَاءُ
الضَّرَرِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرَرِ هُنَا: هُوَ فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ
الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ. وَهُنَاكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ
فِي تَحْدِيدِ مَدَاهُ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّهُ الضَّرَرُ الْعَامُّ فَحَسْبُ، أَيِ الَّذِي
لاَ يَخُصُّ شَرِيكًا دُونَ آخَرَ: بِأَنْ بَطَلَتْ بِالنِّسْبَةِ لِكُل
شَرِيكٍ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، كَمَا
لَوْ كَانَ حَجْمُ الْبَيْتِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوِ الطَّاحُونِ صَغِيرًا،
لاَ يَنْقَسِمُ بِعَدَدِ الشُّرَكَاءِ بُيُوتًا وَحَمَّامَاتٍ
وَطَوَاحِينَ، وَكَمَا فِي قِسْمَةِ الْجَوْهَرَةِ، وَالثَّوْبِ
الْوَاحِدِ، وَالْحِذَاءِ، وَالْجِدَارِ (3) وَالْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ،
فَهَذَا الضَّرَرُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الإِْجْبَارِ عَلَى
الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهَا لِتَكْمِيل الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ هُنَا إِلاَّ
تَفْوِيتُهَا،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 350، 351.
(2) مجمع الأنهر 2 / 488.
(3) الشرح الكبير مع المغني 11 / 495، 496، ومغني المحتاج 2 / 189،
والمدونة 14 / 220، والخرشي 4 / 274، والمهذب 2 / 307، 308، والإنصاف 11 /
338.
(33/216)
فَيَكُونُ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ،
وَهَكَذَا كُل مَا تَحْتَاجُ قِسْمَتُهُ إِلَى كَسْرٍ أَوْ قَطْعٍ، وَلِذَا
قَالُوا: لَوْ كَانَ مَعَ مَا لاَ يُقْسَمُ - لِمَا فِي قِسْمَتِهِ مِنَ
الضَّرَرِ الْعَامِّ لِلْمُقْتَسِمَيْنِ، مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ
نَهْرٍ أَوْ قَنَاةٍ - أَرْضٍ، قُسِمَتِ الأَْرْضُ وَتُرِكَتِ الْبِئْرُ
وَالْقَنَاةُ وَمَا إِلَيْهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، أَمَّا عَلَى
التَّرَاضِي فَلاَ مَانِعَ مِنَ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ
الإِْضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالْقَاضِي لاَ يَمْنَعُ بِالْقَضَاءِ مَنْ
يَقْدَمُ عَلَى إِتْلاَفِ مَالِهِ (1) .
أَمَّا الضَّرَرُ الْخَاصُّ بِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ - كَمَا
لَوْ كَانَ نَصِيبُ وَاحِدٍ فَحَسْبُ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوِ
الطَّاحُونِ هُوَ الَّذِي يَتَّسِعُ لِمِثْل ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لاَ
يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ عَلَى الْقِسْمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَضِرُّ
هُوَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ أَمْ غَيْرُهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ
الْمُسْتَضِرُّ هُوَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ، فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ
نَفْسِهِ، وَبِذَا صَارَتِ الْقِسْمَةُ كَالْخَالِيَةِ مِنْ شَوْبِ
الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ الآْخَرُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ اللاَّحِقَ
بِالْمُسْتَضِرِّ مِنَ الْقِسْمَةِ لَيْسَ - إِذَا أَمْعَنَّا النَّظَرَ -
بِضَرَرٍ حَقِيقِيٍّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ حَقٌّ لَهُ،
وَإِنَّمَا كُل مَا هُنَالِكَ أَنَّهُ بِسَبَبِ قِلَّةِ نَصِيبِهِ يُرِيدُ
لِنَفْسِهِ اسْتِمْرَارَ الاِنْتِفَاعِ بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا
يَأْبَى عَلَيْهِ، وَيُطَالِبُ بِاسْتِخْلاَصِ حَقِّهِ، وَتَكْمِيل
مَنَافِعِ مِلْكِهِ، وَلِهَذَا شُرِعَتِ
__________
(1) البدائع 7 / 19، ورد المحتار 5 / 171.
(33/216)
الْقِسْمَةُ، وَوَظِيفَةُ الْقَاضِي
الْقِيَامُ بِوَاجِبِ الإِْنْصَافِ، وَإِعْطَاءُ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ،
فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ
الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ الضَّرَرُ الَّذِي لاَ يَخُصُّ الطَّالِبَ،
فَيَشْمَل الضَّرَرَ الْخَاصَّ بِالْمُمْتَنِعِ وَالضَّرَرَ الْعَامَّ؛
لأَِنَّ ضَرَرَ طَالِبِ الْقِسْمَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِطَلَبِهِ،
إِذْ مَعْنَاهُ رِضَاهُ بِضَرَرِ نَفْسِهِ، أَمَّا ضَرَرُ الآْخَرِ (وَهُوَ
الْمُمْتَنِعُ) فَلَيْسَ ثَمَّ مَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَهُ، وَالطَّالِبُ
لاَ يُسَلَّطُ عَلَى الإِْضْرَارِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ الضَّرَرُ الَّذِي لاَ يَخُصُّ
الْمُمْتَنِعَ فَيَشْمَل الضَّرَرَ الْخَاصَّ بِطَالِبِ الْقِسْمَةِ،
وَالضَّرَرَ الْعَامَّ أَيْ عَكْسَ الثَّانِي؛ لأَِنَّ ضَرَرَ
الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ ضَرَرًا حَقِيقِيًّا - كَمَا أَوْضَحْنَاهُ - فَلاَ
يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي ضَرَرِ الطَّالِبِ: فَإِذَا
انْتَفَى فَلَيْسَ ثَمَّ مَانِعٌ مَا مِنَ الإِْجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ،
وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ، كَانَ مُتَعَنِّتًا بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ،
وَالْمُتَعَنِّتُ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقِسْمَةُ الإِْجْبَارِ لاَ
تَكُونُ بِدُونِ طَلَبٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ
الْخَصَّافُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ، وَقَال فِي الْهِدَايَةِ:
إِنَّهُ الأَْصَحُّ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 357، والبحر الرائق 8 / 172، وبدائع الصنائع 7 /
21.
(33/217)
14 - أَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي: فَلاَ
يُشْتَرَطُ فِيهَا انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، بَل الرِّضَا بِهِ مِمَّنْ يَقَعُ
عَلَيْهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ (1) ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ
الْقِسْمَةُ ضَارَّةً بِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ لَكِنَّهُمْ رَضَوْا بِهَا
فَهَذَا شَأْنُهُمْ وَحْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لاَ يَعْدُوهُمْ،
وَهُمْ أَدْرَى بِحَاجَاتِهِمْ، فَلاَ يَكُونُ ثَمَّ مَانِعٌ مِنْهَا
وَقَدْ رَضُوا بِضَرَرِ أَنْفُسِهِمْ (2) .
15 - وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى الإِْجْمَاعِ فِي
أَنَّ الْقِسْمَةَ تَتَنَوَّعُ إِلَى: قِسْمَةِ تَرَاضٍ وَقِسْمَةِ
إِجْبَارٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَمْ تَتَّفِقْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى
قَبُول الْقِسْمَةِ لِلإِْجْبَارِ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ
(قِسْمَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ) - بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ (ف 9) ؛
لأَِنَّ الطَّالِبَ يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ عَلَى الْكَمَال،
وَأَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، دُونَ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ
(3) .
كَمَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى امْتِنَاعِ الإِْجْبَارِ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ
الرَّدِّ؛ لأَِنَّهُ فِيهَا تَمْلِيكُ مَا لاَ شَرِكَةَ فِيهِ، وَالشَّأْنُ
فِيهِ أَلاَّ يَقْبَل الإِْجْبَارُ (4) ، أَمَّا فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيل
بِمَعْنَاهَا السَّابِقِ (ف 10) فَمِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ
نَفْسِهِ، مَنْ يَمْنَعُ قَبُولَهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 21.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 358.
(3) المهذب 2 / 307.
(4) مغني المحتاج 4 / 423، والمغني لابن قدامة 11 / 493.
(33/217)
لِلإِْجْبَارِ مَنْعًا مُطْلَقًا لاَ
اسْتِثْنَاءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الأَْنْصِبَاءَ غَيْرُ
مُتَسَاوِيَةٍ بِنَفْسِهَا. بَل بِقِيمَتِهَا، وَالأَْغْرَاضُ
وَالْمَنَافِعُ تَتَفَاوَتُ رَغْمَ اسْتِوَاءِ الْقِيمَةِ، فَلَيْسَتْ
حَدِيقَةُ الْبُرْتُقَال كَحَدِيقَةِ الْعِنَبِ، فِي نَفْسِهَا وَلاَ فِي
عَائِدَتِهَا وَجَدْوَاهَا، وَلاَ فِي مُلاَقَاةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ
وَحَاجَاتِهِمْ - وَلَوْ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ وَتِلْكَ يُسَاوِي
أَلْفَ دِينَارٍ مَثَلاً، وَلاَ الْمِسَاحَةُ الصَّغِيرَةُ الْجَيِّدَةُ
التُّرْبَةِ أَوِ الْمُطِلَّةُ عَلَى النَّهْرِ كَالْمِسَاحَةِ
الْفَسِيحَةِ الرَّدِيئَةِ أَوِ الْخَلْفِيَّةِ - وَإِنْ تَسَاوَتْ
قِيمَتَاهَا (1) .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسِيغُهُ؛ لأَِنَّ لِطَالِبِ الْقِسْمَةِ غَرَضًا
صَحِيحًا، وَلَنْ يَفُوتَ الآْخَرَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ
الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ تَنْزِيلاً لِلتَّسَاوِي فِي
الْقِيمَةِ مَنْزِلَةَ التَّسَاوِي فِي الأَْجْزَاءِ (2) ، وَمَا عَسَاهُ
يَفُوتُ عَيْنًا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ مَسَاوِئِ
الشَّرِكَةِ، بَل رُبَّمَا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْقِسْمَةِ سَيِّئَ
النِّيَّةِ، يُرِيدُ الْجَوْرَ وَالاِغْتِصَابَ بِالإِْبْقَاءِ عَلَى
شَرِكَةٍ غَيْرِ مُتَوَازِنَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لاَ يَمْلِكُ فِيهَا
إِلاَّ بِنِسْبَةِ الْعُشْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ
إِيضَاحُهُ (ف 13) وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ
مُعَوَّل أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَخْتَلِفُونَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) مغني المحتاج 4 / 423.
(33/218)
عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبْدَوُا احْتِمَالاً
بِمِثْل الْقَوْل الأَْوَّل لِلشَّافِعِيِّ فِي خُصُوصِ الْمَنْقُولاَتِ
(1) ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ عَادُوا بَعْدَمَا أَطْلَقُوهُ،
فَذَكَرُوا فُرُوعًا يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَقْيِيدُهُ، وَفَعَل
الْحَنَابِلَةُ مِثْل ذَلِكَ أَيْضًا، وَزَادُوا التَّصْرِيحَ بِبَعْضِ
الشَّرَائِطِ.
وَهَاكَ مَا اجْتَمَعَ لَنَا مِنْ قُيُودِهِمْ:
16 - أَوَّلاً: اتِّحَادُ الْجِنْسِ: وَيُرِيدُونَ بِالْجِنْسِ هُنَا
النَّوْعَ، فَالْعَقَارُ الْوَاحِدُ الَّذِي لاَ يُشْبِهُ بَعْضُهُ
بَعْضًا، كَالأَْرْضِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا
جَوْدَةً وَرَدَاءَةً، أَوْ يَخْتَلِفُ نَوْعُ غِرَاسِهَا - كَأَنْ كَانَ
فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا حَدِيقَةُ عِنَبٍ وَفِي الآْخَرِ حَدِيقَةُ
نَخْلٍ، وَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يَكُونُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا
بِنَاءٌ مِنْ حَجَرٍ وَفِي الآْخَرِ بِنَاءٌ مِنَ اللَّبِنِ، أَوْ
لأَِحَدِهِمَا وَاجِهَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَلِلآْخَرِ وَاجِهَةٌ
مَرْغُوبٌ عَنْهَا - هَذَا الْعَقَارُ يَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى
قِسْمَتِهِ، فَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ أَجْبَرَ
الْقَاضِي الْمُمْتَنِعَ (2) ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
كَالْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ كَأَبِي
الْخَطَّابِ، مَنْ يَذْكُرُونَ هُنَا تَفَقُّهًا - وَبِهِ جَزَمَ
بَعْضُهُمْ - أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ الْجَيِّدِ وَحْدَهُ
وَالرَّدِيءِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الإِْجْبَارَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى
قِسْمَةِ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، قِيَاسًا عَلَى الأَْرَاضِي الْمُتَعَدِّدَةِ
الَّتِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 11 / 490.
(2) التجريد المفيد 4 / 371، والمغني لابن قدامة 11 / 490.
(33/218)
يُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى
حِدَةٍ، وَلاَ سَبِيل إِلَى جَمْعِ الْكُل حِينَئِذٍ وَقِسْمَتِهِ قِسْمَةً
وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ (1) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ - بِجَانِبِ أَنَّ الأَْرَاضِيَ تُعْتَبَرُ نَوْعًا
وَاحِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَنَّ تَعَدُّدَهَا
بِمَثَابَةِ اخْتِلاَفِ الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ - أَنَّهُ
مَتَى أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ الإِْفْرَازِ، لاَ يَلْجَأُ الْقَاضِي إِلَى
قِسْمَةِ التَّعْدِيل، وَمَتَى أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ كُل عَيْنٍ عَلَى
حِدَةٍ، وَلَوْ تَعْدِيلاً، لاَ يَلْجَأُ الْقَاضِي إِلَى قِسْمَةِ
الأَْعْيَانِ مُجْتَمِعَةً، وَهَذَا بَيِّنٌ لاَئِحٌ؛ لأَِنَّ الْوُصُول
إِلَى عَيْنِ الْحَقِّ مَا أَمْكَنَ هُوَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ، أَمَّا
بِالتَّرَاضِي فَلِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا شَاءُوا، إِفْرَازًا
أَوْ تَعْدِيلاً أَوْ رَدًّا (2) .
أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ نَوْعُ الْعَقَارِ، كَأَنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي
عِدَّةِ دُورٍ أَوْ حَوَانِيتَ، فَهَذِهِ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ حُكْمًا،
وَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا حَقِيقَةً لاِخْتِلاَفِ الأَْغْرَاضِ
بِاخْتِلاَفِ الأَْبْنِيَةِ وَمَوَاقِعِ الْبِنَاءِ (3) ، وَلاَ يُجْمَعُ
فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ. فَتُقْسَمُ - إِنْ لَمْ
يَتَرَاضَوْا عَلَى الْجَمْعِ - كُل دَارٍ وَكُل حَانُوتٍ عَلَى حِدَةٍ،
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 273، ومغني المحتاج 4 / 423، والتجريد المفيد 4 /
371، والمغني 11 / 499، ومطالب أولي النهى 6 / 556.
(2) المهذب 2 / 308 وفي كلام الحنفية ما يفيده (تكملة فتح القدير 8 / 368)
.
(3) مغني المحتاج 4 / 423.
(33/219)
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَجَاوِرَةً أَمْ
مُتَبَاعِدَةً، لِتَفَاوُتِ مَقَاصِدِهَا (1) ، نَعَمْ. اعْتَمَدَ
الشَّافِعِيَّةُ - خِلاَفًا لِبَعْضٍ مِنْهُمْ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ
الذَّاهِبِينَ إِلَى أَنَّ كُل مَا لاَ تَجْمَعُهُ الشُّفْعَةُ لاَ
تَجْمَعُهُ الْقِسْمَةُ، إِذْ كِلْتَاهُمَا لإِِزَالَةِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ
(2) أَنَّ الْجِنْسَيْنِ إِذَا أَمْكَنَ تَنْزِيلُهُمَا مَنْزِلَةَ
الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، لِكَوْنِهِمَا أَشْبَهَ بِالْحُجَرِ فِي الدَّارِ
الْوَاحِدَةِ، يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَقَدْ
ضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ (3) .
الأَْوَّل: ضَيْعَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَتَأَلَّفُ مِنْ بِضْعَةِ
أَفْدِنَةٍ وَدَارَيْنِ، فَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ،
وَاقْتَضَتْ أَنْ يَسْتَقِل كُلٌّ مِنْهُمَا بِدَارٍ مِنَ الدَّارَيْنِ،
فَإِنَّهُ يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ.
الثَّانِي: الدَّكَاكِينُ الصِّغَارُ الْمُتَلاَصِقَةُ (وَتُسَمَّى
الْعَضَائِدَ) (4) ، فَلاَ تَتَفَاوَتُ فِيهَا الأَْغْرَاضُ وَالَّتِي لاَ
يَقْبَل كُلٌّ مِنْهَا الْقِسْمَةَ عَلَى حِدَةٍ، يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ
بَيْنَهَا فِي قِسْمَةِ أَعْيَانِهَا قِسْمَةُ إِجْبَارٍ، عَلَى أَلاَّ
تَبْقَى لِلشَّرِكَةِ عَلَقَةٌ، كَمَا سَيَجِيءُ.
17 - ثَانِيًا: اتِّحَادُ الصِّنْفِ: فِي قِسْمَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 274، ومطالب أولي النهى 6 / 551.
(2) المغني لابن قدامة 11 / 498 - 500.
(3) مغني المحتاج 4 / 423.
(4) في شرح غريب المهذب: أراد بها دكاكين متلاصقة متوالية البناء، وقال
الجوهري: أعضاد كل شيء ما يسند حوله من البناء وغيره، كأعضاد الحوض، وهي
حجارة تنصب حول شفيره، ولعلها سميت عضائد من هذا البناء، ويقال: عضد من
نحل، إذا كانت منعطفة ومتساوية (المهذب للش
(33/219)
الْمَنْقُولاَتِ، فَلَيْسَ يَكْفِي فِيهَا
اتِّحَادُ الْجِنْسِ حَتَّى يَتَّحِدَ صِنْفُهَا أَيْضًا، لأَِنَّ هَذَا
هُوَ الَّذِي يُقَلِّل مِنْ شَأْنِ تَفَاوُتِ الأَْغْرَاضِ فِيهَا. فَلاَ
إِجْبَارَ عَلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيل عِنْدَمَا يَخْتَلِفُ جِنْسُ
الْمَنْقُولاَتِ: كَأَبْسِطَةٍ وَسَتَائِرَ وَوَسَائِدَ وَحَشَايَا
وَمَقَاعِدَ وَمَنَاضِدَ وَثَلاَّجَاتٍ وَقَمَاطِرَ، أَوْ يَخْتَلِفُ
نَوْعُهَا: كَثِيَابٍ بَعْضُهَا حَرِيرٌ. وَبَعْضُهَا قُطْنٌ، وَبَعْضُهَا
صُوفٌ، وَأَبْسِطَةٍ عَجَمِيَّةٍ وَأُخْرَى عَادِيَّةٍ، وَقَمَاطِرَ
خَشَبِيَّةٍ وَأُخْرَى مِنَ الصَّاجِ، أَوْ يَخْتَلِفُ صِنْفُهَا:
كَحَرِيرٍ هِنْدِيٍّ وَحَرِيرٍ يَابَانِيٍّ، وَخَشَبٍ زَانٍ وَخَشَبٍ
أَبْيَضَ.
وَلاَ بُدَّ أَنْ يُفْرَضَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالصِّنْفِ
اخْتِلاَفُ الصُّورَةِ وَالْمَظْهَرِ، أَوِ اخْتِلاَفُ الْقِيمَةِ وَإِلاَّ
كَانَ الْمَوْضِعُ لِقِسْمَةِ الْمُتَشَابِهِ (قِسْمَةَ الإِْفْرَازِ) ،
كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ (ف 9) ، لاَ لِقِسْمَةِ التَّعْدِيل، وَقَدْ
أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (1) ، فَالأَْبْسِطَةُ
مَثَلاً تَخْتَلِفُ أَحْجَامُهَا وَعَدَدُ فَتَلاَتِهَا - وَهُوَ
اخْتِلاَفٌ فِي الصُّورَةِ - وَيَتْبَعُهُ اخْتِلاَفُ الْقِيمَةِ، فَإِذَا
كَانَتْ هُنَالِكَ ثَلاَثَةُ أَبْسِطَةٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ مُشْتَرَكَةٌ
بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، وَقِيمَةُ أَحَدِهَا مِائَةُ دِينَارٍ،
وَقِيمَةُ الآْخَرَيْنِ مَعًا مِائَةٌ، وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ
عَلَى هَذَا النَّحْوِ، أَيْ قِسْمَةِ تَعْدِيلٍ،
__________
(1) الباجوري على ابن قاسم 2 / 354.
(33/220)
فَإِنَّهُ يُجَابُ وَيُجْبَرُ الآْخَرُ
إِذَا امْتَنَعَ، لِقِلَّةِ تَفَاوُتِ الأَْغْرَاضِ حِينَئِذٍ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُ الأَْبْسِطَةِ أَوْ أَصْنَافُهَا،
فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى قِسْمَتِهَا قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ إِلاَّ
بِالتَّرَاضِي؛ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِ الأَْغْرَاضِ بِكُل نَوْعٍ وَصِنْفٍ،
وَهَكَذَا يُقَال فِي غَيْرِ الأَْبْسِطَةِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ
آحَادُهُ لاَ تَقْبَل الْقِسْمَةَ أَصْلاً كَالْحَيَوَانَاتِ، كَمَا إِذَا
فَرَضْنَا مَكَانَ الأَْبْسِطَةِ ثَلاَثَ بَقَرَاتٍ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ سِوَى اتِّحَادِ النَّوْعِ وَتَسَاوِي
الْقِيمَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الصِّنْفُ، كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ (2) .
18 - ثَالِثًا: أَلاَّ تُبْقِيَ الْقِسْمَةُ شَيْئًا مُشْتَرَكًا: أَيْ
مِنَ الْمَال الْمُرَادِ قَسْمُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْنُونَهُ "
بِانْقِطَاعِ الْعَلَقَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ "، وَهَاكَ بِضْعَةُ
أَمْثِلَةٍ:
أ - سَيَّارَتَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، قِيمَةُ إِحْدَاهُمَا
أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ الأُْخْرَى خَمْسُمِائَةِ
دِينَارٍ فَحَسْبُ، لاَ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَى قِسْمَتِهِمَا إِذَا
مَنَعْنَا الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَةِ السَّيَّارَةِ الأَْعْلَى قِيمَةً،
لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ فِيهَا حِينَئِذٍ، وَلِذَا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ
بَيْنَ اثْنَيْنِ بَقَرَتَانِ، قِيمَةُ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ
الأُْخْرَى، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ عَلَى أَنْ يَبْقَى لِمَنْ
خَرَجَ لَهُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 551.
(33/220)
أَقَلُّهُمَا قِيمَةً رُبْعُ الأُْخْرَى،
فَلاَ إِجْبَارَ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَكَذَا كُل
أَدْنَى وَأَعْلَى (1) ، وَمِثْلُهُ لِلْحَنَابِلَةِ (2) .
ب - الأَْرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ يَكُونُ فِيهَا بِنَاءٌ أَوْ شَجَرٌ،
فَيَطْلُبُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ قِسْمَةَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ
وَحْدَهُ، وَتَبْقَى الأَْرْضُ مُشْتَرَكَةً، أَوْ يَطْلُبُ قِسْمَةَ
الأَْرْضِ وَحْدَهَا، وَيَبْقَى الْبِنَاءُ أَوِ الشَّجَرُ مُشْتَرَكًا،
لاَ يُجَابُ إِلَى طَلَبِهِ، أَيْ أَنَّهُ لاَ إِجْبَارَ عَلَى هَذِهِ
الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُزِيل الشَّرِكَةَ تَمَامًا، فَإِذَا
تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ.
ج - يَقُولُونَ: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى قِسْمَةِ عُلُوٍّ وَسُفْلٍ
مِنْ دَارٍ أَمْكَنَ قِسْمَتُهَا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ تَابِعٌ لِلأَْرْضِ،
كَالشَّجَرِ فِيهَا لاَ عَلَى قِسْمَةِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لأَِنَّ
الْقِسْمَةَ تُرَادُ لِلتَّمْيِيزِ، وَلاَ عَلَى جَعْلِهِ لِوَاحِدٍ
وَالآْخَرُ لآِخَرَ (3) ، وَقَدْ يُعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتِ
الشَّرِكَةُ تَمَامًا بِقِسْمَةِ الطَّابَقَيْنِ جَمِيعًا صَحَّ
الإِْجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَلَمَّا بَقِيَتْ فِي بَعْضِ الدَّارِ
بِقِسْمَةِ أَعْلاَهَا دُونَ أَسْفَلِهَا، أَوِ الْعَكْسُ، لَمْ يُمْكِنِ
الإِْجْبَارُ عَلَى هَذَا، لَكِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي (4)
.
وَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الْمَالِكِيَّةُ مَانِعًا بِأَيَّةِ
حَالٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ السُّفْل لِوَاحِدٍ، وَالْعُلُوُّ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) الفروع 3 / 846.
(3) مغني المحتاج 4 / 423، والمغني لابن قدامة 11 / 497.
(4) نهاية المحتاج 8 / 274.
(33/221)
لآِخَرَ (1) ، وَرُبَّمَا صَوَّرَ
الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
اسْمًا وَمَنْفَعَةً، فَلاَ يَقْبَل الإِْجْبَارَ (2) .
نَعَمْ يُغْتَفَرُ بَقَاءُ الشَّرِكَةِ فِي التَّوَابِعِ وَالْمُلْحَقَاتِ،
صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ
يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَقَاءِ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمُتَقَاسِمِينَ -
لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِقْلاَل كُلٍّ بِطَرِيقٍ - فَإِنَّ هَذَا لاَ
يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ عَلَى الْقِسْمَةِ (3) .
19 - رَابِعًا: أَنْ لاَ تَنْقُصَ قِيمَةُ الْمَقْسُومِ بِقِسْمَتِهِ:
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْمُهَذَّبِ لِلشِّيرَازِيِّ،
وَصَرَّحَ بِهَا الْجِيلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَنَقَلُوهَا
عَنْهُ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَعَدِّدِ الْجِنْسِ قِسْمَةَ
تَعْدِيلٍ تَنْزِيلاً لَهُ مَنْزِلَةَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، كَالْحُجَرِ
فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ نَقْصَ الْقِيمَةِ
ضَرَرٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ، فَلاَ يَدْخُل فِيهِ الْقَضَاءُ، لَكِنْ
سَيَأْتِي لَهُمْ تَفْسِيرُ الضَّرَرِ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
20 - خَامِسًا: تَعَذُّرُ قِسْمَةِ كُل نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ: وَقَدْ فُهِمَ
هَذَا مِمَّا سَبَقَ (ف 16) ، لَكِنَّهُ خَاصٌّ بِالْعَقَارَاتِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَنْقُولاَتِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهَا
قِسْمَةَ جَمْعٍ إِلاَّ
__________
(1) البدائع 7 / 27، والمدونة 14 / 168، 169.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 552.
(3) نهاية المحتاج 8 / 274.
(4) المهذب 2 / 308.
(33/221)
إِذَا اتَّحَدَ صِنْفُهَا، نَعَمْ. هُوَ
عَلَى عُمُومِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
21 - وَالْمَالِكِيَّةُ يَجْعَلُونَ قِسْمَةَ الإِْجْبَارِ فِيمَا تَمَاثَل
أَوْ تَقَارَبَ دُونَ رَدٍّ، وَقِسْمَةَ التَّرَاضِي فِيمَا عَدَاهُ، كَمَا
أَسْلَفْنَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّةَ
وَالْحَنَابِلَةَ فِي أَنَّ قِسْمَةَ الإِْجْبَارِ مَشْرُوطَةٌ بِاتِّحَادِ
النَّوْعِ أَيْضًا، وَبِعَدَمِ الرَّدِّ - إِلاَّ أَنْ يَقِل فِي قَوْلٍ
لَهُمْ - وَلَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:
أ - الْمَوْضِعُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لَيْسَ كُل مَا اتَّحَدَ نَوْعُهُ
يَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهِ، بَل لاَ بُدَّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْقِيمَةِ وَفِي رَغَبَاتِ
الشُّرَكَاءِ، وَلاَ بُدَّ أَيْضًا مِنْ قُرْبِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ
الْعَقَارِ وَالْعَقَارِ، فَقِطْعَةُ الأَْرْضِ الَّتِي تَبْعُدُ عَنِ
الأُْخْرَى أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ تَكُونُ أَجْوَدَ مِنْهَا
تُرْبَةً، أَوْ أَدْنَى إِلَى رَغْبَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دُونَ
الآْخَرِ - لِقُرْبِهَا مِنْ مَسْكَنِهِ مَثَلاً، أَوْ لأَِنَّهَا تُسْقَى
بِدُونِ آلاَتٍ - لاَ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهِمَا مَعًا كَقِطْعَةٍ
وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، بَل تُقْسَمُ كُل قِطْعَةٍ عَلَى
حِدَةٍ.
وَلاَ بُدَّ لِلإِْجْبَارِ عَلَى الضَّمِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنِ
اتِّحَادِ نَوْعِ الأَْشْجَارِ فِي حَدَائِقِ الْفَاكِهَةِ، وَعَدَمِ
إِمْكَانِ قِسْمَةِ كُل حَدِيقَةٍ عَلَى حِدَةٍ، بَل إِنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 272، والمغني لابن قدامة 11 / 490، ومطالب أولي
النهى 6 / 556.
(33/222)
الْحَدِيقَةَ الْوَاحِدَةَ تَكُونُ
أَشْجَارًا جَانِبٌ مِنْهَا النَّخْل، وَجَانِبٌ آخَرُ التُّفَّاحُ أَوِ
الرُّمَّانُ، أَوِ الْخَوْخُ، لاَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهَا
قِسْمَةَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، بَل يُقْسَمُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَشْجَارِهَا
عَلَى حِدَةٍ حَيْثُ أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ (1) فَإِنَّهُ إِذَنْ
لِلضَّرُورَةِ يَصِحُّ الإِْجْبَارُ عَلَى ضَمِّ النَّوْعِ إِلَى غَيْرِهِ،
وَقِسْمَةُ الْجَمِيعِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ التَّعْدِيل بِالْقِيمَةِ،
وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَحْصُل أَحَدُ الشُّرَكَاءِ
عَلَى أَصْنَافٍ مِنَ الأَْشْجَارِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
ب - الْمَوْضِعُ الثَّانِي: أَنْ لَيْسَ كُل مَا اخْتَلَفَ نَوْعُهُ لاَ
يَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهِ، فَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَقْسِمُونَ
أَنْوَاعَ الثِّيَابِ الْمُخْتَلِفَةِ: مِنْ قُطْنٍ وَصُوفٍ وَحَرِيرٍ. . .
إِلَخْ قِسْمَةَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ تَعْدِيلاً وَجَبْرًا. وَيُصَرِّحُ
الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الأَْرْضَ نَوْعٌ وَأَشْجَارَهَا نَوْعٌ آخَرُ،
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَتِ الأَْشْجَارُ تُقْسَمُ الأَْرْضُ
وَأَشْجَارُهَا مَعًا، لاَ الأَْرْضُ وَحْدَهَا وَالأَْشْجَارُ وَحْدَهَا،
وَإِلاَّ فَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ بَعْضُ شَجَرِ
أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي أَرْضٍ آخَرَ، وَهَذَا يُخَالِفُ قِسْمَةَ
الْبَسَاتِينِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الشَّجَرُ، وَالأَْرْضُ
تَبَعٌ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا الأَْرْضُ، وَالأَْشْجَارُ تَبَعٌ (2) .
__________
(1) ومن صور عدم الإمكان أن تختلط الأشجار: كنخلة تليها شجرة رمان، فشجرة
تفاح، فشجرة خوخ وهذا دواليك.
(2) الخرشي 4 / 402، 404، وبلغة السالك 2 / 240.
(33/222)
ج - الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ
يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ بَيْنَ نَصِيبَيْنِ،
قَالُوا: لأَِنَّ قِسْمَةَ الإِْجْبَارِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِطَرِيقِ
الْقُرْعَةِ، وَفِي الْقُرْعَةِ غَرَرٌ يُرْتَكَبُ، ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ
إِلَى الْقِسْمَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ لِجَمْعِ نَصِيبَيْنِ (1) (مَعَ أَنَّ
الْجَمْعَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْلِيلٌ لِلْغَرَرِ) ، وَمَعَ ذَلِكَ
حَتَّمُوا إِجْمَاعَ كُل أَصْحَابِ فَرْضٍ فِي نَصِيبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ
قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، أَيْ بَيْنَ ذَوِي فُرُوضٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ ذَوِي
فَرْضٍ وَاحِدٍ أَوْ عَصَبَةٍ، وَسَوَّغُوا اجْتِمَاعَ الْعَصَبَةِ -
بِرِضَاهُمْ - فِي نَصِيبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ مُقَاسَمَتِهِمْ ذَوِي
الْفُرُوضِ، وَأَلْزَمُوا الْوَرَثَةَ مُطْلَقًا بِهَذَا الاِجْتِمَاعِ -
إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمْ - فِي مُقَاسَمَةِ شَرِيكٍ لِمُوَرِّثِهِمْ
حَتَّى يَسْتَقِلُّوا بِنَصِيبِ مُوَرِّثِهِمْ، ثُمَّ لِلْجَمِيعِ بَعْدَ
ذَلِكَ إِنْ شَاءُوا - وَقَبِل نَصِيبُهُمُ الْقِسْمَةَ - أَنْ
يَقْتَسِمُوهُ بَيْنَهُمْ (2) ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ الشَّرِكَةِ
فِي التَّوَابِعِ - وَسَبَقَ نَحْوُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ (ف 18) - فَإِنَّ
مَرَافِقَ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ إِذَا سُكِتَ عَنْهَا فِي الْقِسْمَةِ
تَبْقَى عَلَى الاِشْتِرَاكِ كَمَا كَانَتْ (3) .
د - الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَعَذُّرُ قِسْمَةِ
كُل صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ فِيمَا عَدَا الْبَسَاتِينَ، فَإِنَّهُ لاَ
يُجْبَرُ عَلَى الْجَمْعِ فِي قِسْمَتِهَا
__________
(1) الرهوني 6 / 310.
(2) الخرشي 4 / 410، 411، وبلغة السالك 2 / 242.
(3) الخرشي 4 / 410.
(33/223)
بَيْنَ صِنْفَيْنِ، كَتُفَّاحٍ وَرُمَّانٍ
إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَتْ قِسْمَةُ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، وَسَوَاءٌ بَعْدَ
ذَلِكَ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُول، فَالدُّورُ وَالأَْرَاضِي تُجْمَعُ فِي
الْقِسْمَةِ جَبْرًا إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ - وَإِنْ
أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ كُل دَارٍ وَكُل حَقْلٍ عَلَى حِدَةٍ (1) - وَكَذَلِكَ
الثِّيَابُ، إِلاَّ أَنَّ نَصَّ الْمُدَوَّنَةِ يُخَالِفُهُ فِي
الثِّيَابِ، وَنَصُّ عِبَارَتِهَا: " هَذِهِ ثِيَابٌ كُلُّهَا تُجْمَعُ فِي
الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَتْ لاَ تَحْتَمِل أَنْ يُقْسَمَ كُل صِنْفٍ مِنْهَا
عَلَى حِدَةٍ " (2) ، " وَفِي الدَّارِ الْمَعْرُوفَةِ بِالسُّكْنَى
لِلْمَيِّتِ أَوِ الْوَرَثَةِ " بِنَاءً عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيِ
الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ خَلِيلٌ مِنْ أَنَّ الدَّاعِيَ
إِلَى جَمْعِهَا مَعَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدُّورِ فِي قِسْمَةٍ
وَاحِدَةٍ لاَ يُجَابُ مَتَى دَعَا آخَرُ إِلَى إِفْرَادِهَا بِالْقِسْمَةِ
وَأَمْكَنَ ذَلِكَ. (3)
22 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَكَذَا أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ
يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرِيطَةِ الإِْجْبَارِ
انْتِفَاءُ الضَّرَرِ بِنَفْسِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ
الْحَنَفِيَّةُ، أَيْ فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَإِنْ بَقِيَ
الْمَال مُنْتَفَعًا بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا، لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ
أَجْنَاسِ الْمَنَافِعِ (4) ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ
بِنَاءً عَلَى تَقْرِيرِ الْخِرَقِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ
جَرَى عَلَى رِوَايَةٍ، وَالْمُعْتَمَدُ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 240، 241.
(2) المدونة 14 / 179.
(3) الخرشي 4 / 403.
(4) مغني المحتاج 4 / 421.
(33/223)
خِلاَفُهَا، وَهُوَ أَنَّ الضَّرَرَ
الْمَانِعَ مِنَ الإِْجْبَارِ هُوَ نَقْصُ الْقِيمَةِ (1) .
وَفِي كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ مَا قَدْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ أَحْيَانًا
يَنْظُرُونَ إِلَى الْقِيمَةِ. بِحَيْثُ لَوْ نَقَصَتْ بِقِسْمَةِ الْمَال
الْمُشْتَرَكِ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُمْ لاَ يُجْبَرُونَ عَلَيْهَا، فَقَدْ
نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَال الْمُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ (2) .
23 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَخْتَلِفُونَ
فِي تَحْدِيدِ مَدَى الضَّرَرِ الْمَشْرُوطِ انْتِفَاؤُهُ لِلإِْجْبَارِ
عَلَى الْقِسْمَةِ، عَلَى آرَاءٍ:
الأَْوَّل: مُطْلَقُ ضَرَرٍ: وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْحَنَابِلَةِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى "
لِنَهْيِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ " (3)
، " عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال " (4) ، سَوَاءٌ كَانَ فِي فَضِّ الشَّرِكَةِ -
كَمَا هُنَا - أَمِ الْبَقِيَّةِ عَلَيْهَا - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
الْحَنَابِلَةُ فِيمَا لَوْ أَوْصَى إِنْسَانٌ بِخَاتَمِهِ لِشَخْصٍ،
وَبِفَصِّهِ لآِخَرَ - إِذْ قَالُوا: إِنَّ أَيَّهُمَا طَلَبَ قَلْعَ
الْفَصِّ يُجَابُ (5) ،
__________
(1) الإنصاف 11 / 335.
(2) بلغة السالك 2 / 243.
(3) حديث: " نهيه عن الضرر والضرار " أخرجه ابن ماجه (2 / 784) ،
والدارقطني (3 / 77) من حديث أبي سعيد الخدري وحسنه النووي وقال: له طرق
يقوى بعضها ببعض (جامع العلوم والحكم 2 / 207)
(4) حديث: " نهيه عن إضاعة المال. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 68)
، ومسلم (3 / 1341) من حديث المغيرة بن شعبة.
(5) مطالب أولي النهى 6 / 551.
(33/224)
فَفِي مَسْأَلَةِ الشَّرِيكَيْنِ:
لأَِحَدِهِمَا فِي الدَّارِ عُشْرُهَا وَلَيْسَ يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى
(وَلَوْ بِإِضَافَةٍ خَارِجِيَّةٍ يَسْتَطِيعُهَا) وَلِلآْخَرِ بَاقِيهَا
لاَ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الضَّرَرِ
بِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ فَلاَ
بَأْسَ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَضِرَّ قَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ نَفْسِهِ (1) .
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ الْمَانِعِ
مِنْ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ أَنْ يَبْقَى النَّصِيبُ صَالِحًا لِلسُّكْنَى
- فِي مِثَالِنَا هَذَا - وَلَكِنْ لِسُكْنَى غَيْرِ صَاحِبِهِ،
فَيَضْطَرُّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ مَثَلاً، وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ
بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ نَقَصَتِ الْمَنْفَعَةُ عِنْدَ ابْنِ
الْقَاسِمِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ مَنْ يَشْتَرِطُ عَدَمَ نَقْصِ الثَّمَنِ (ف 19) ، كَمَا
أَنَّ عِنْدَهُمْ مِثْل خِلاَفِ الْمَالِكِيَّةِ فِي نُقْصَانِ
الْمَنْفَعَةِ، كَالسَّيْفِ يُكْسَرُ لِيُقْسَمَ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِنَفْسِ الْغَرَضِ لَكِنْ بِصُورَةٍ أَقَل جَدْوَى،
إِلاَّ أَنَّهُمْ رَجَّحُوا أَنَّهُ ضَرَرٌ مَانِعٌ مِنَ الإِْجْبَارِ (2)
، ثُمَّ يَنْفَرِدُ الشَّافِعِيَّةُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى أَنَّ
الضَّرَرَ إِذَا كَانَ يُمْكِنُ رَفْعُهُ فِي يُسْرٍ عَنِ الْمُسْتَضِرِّ
بِتَكْمِيل النَّصِيبِ مِنْ غَيْرِ مَال الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ لاَ
يُعْتَدُّ بِهِ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ
__________
(1) الخرشي 4 / 412، 413، والمغني لابن قدامة 11 / 494، ومطالب أولي النهى
6 / 550.
(2) مغني المحتاج 4 / 420، 421.
(33/224)
الْعَدَمِ بِتَيَسُّرِ رَفْعِهِ
وَإِزَالَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ بِجِوَارِ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ أَرْضٌ
مَوَاتٌ يَسْتَطِيعُ إِحْيَاءَهَا، أَوْ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِعْلاً، أَوْ
يَسْتَطِيعُ تَمَلُّكَهَا، أَمَّا الَّتِي لاَ يُجَاوِرُهَا إِلاَّ مَا لاَ
سَبِيل إِلَى الْحُصُول عَلَيْهِ - كَوَقْفٍ أَوْ شَارِعٍ أَوْ مِلْكٍ
لِمَنْ لاَ يَنْزِل عَنْهُ - فَلاَ إِجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهَا (1) ،
وَلِلْمَالِكِيَّةِ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا (2) .
الثَّانِي: الضَّرَرُ الْعَامُّ: كَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَيْسَ
يَمْنَعُ مِنَ الإِْجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ ضَرَرُ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ
دُونَ بَعْضٍ - سَوَاءٌ أَكَانَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ هُوَ الْمُسْتَضِرُّ
أَمْ غَيْرُهُ - إِيثَارًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مَضَارِّ الشَّرِكَةِ (3) .
الثَّالِثُ: الضَّرَرُ الْوَاصِل إِلَى الطَّالِبِ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي
اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا اعْتَمَدَهُ الْقُدُورِيُّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي مِثَال الدَّارِ، لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
عُشْرُهَا، وَلاَ يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى مُنْفَرِدًا إِنْ كَانَ الطَّالِبُ
لِلْقِسْمَةِ هُوَ الآْخَرُ الَّذِي لاَ تَبْطُل بِالْقِسْمَةِ مَنْفَعَةُ
نَصِيبِهِ الْمَقْصُودِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ (وَلَوْ بِضَمِّ شَيْءٍ مِنْ
خَارِجٍ يَمْلِكُهُ أَوْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلِكَهُ عَلَى نَحْوِ مَا)
فَحِينَئِذٍ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ هُوَ
الْمُسْتَضِرُّ فَمُتَعَنِّتٌ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 420.
(2) الخرشي 4 / 409، 410.
(3) مغني المحتاج 4 / 421.
(33/225)
وَلاَ يُجَابُ إِلَى سَفَهِهِ (1) ، وَقَدْ
عَرَفْنَا مَا فِيهِ عِنْدَ تَقْرِيرِ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ (ف 13) .
الرَّابِعُ: الضَّرَرُ الْوَاصِل إِلَى الْمُمْتَنِعِ: عَلَى نَحْوِ مَا
تَقَدَّمَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي تَوْجِيهِهِ (ف 13) ، وَمَال إِلَيْهِ ابْنُ
قُدَامَةَ قِيَاسًا عَلَى مَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ، لِرِضَا الطَّالِبِ
بِضَرَرِهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ (2) .
تَقْسِيمُ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ وَحْدَةِ الْمَحَل وَتَعَدُّدِهِ:
24 - وَهِيَ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ قِسْمَانِ: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
قِسْمَةُ جَمْعٍ وَقِسْمَةُ تَفْرِيقٍ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِمَا يَلِي:
أ - قِسْمَةُ الْجَمْعِ: هِيَ قِسْمَةُ الْمُتَعَدِّدِ قِسْمَةَ الشَّيْءِ
الْوَاحِدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيَ الأَْفْرَادِ وَأَجْزَائِهَا لَمْ
يَحْتَجْ إِلاَّ إِلَى إِفْرَازِ كُل نَصِيبٍ عَلَى حِدَةٍ، دُونَ حَاجَةٍ
إِلَى تَقْوِيمٍ، مِثَال ذَلِكَ: كَمِّيَّةٌ مِنَ الأَْحْجَارِ
الْمُتَسَاوِيَةِ الْقَوَالِبِ وَالصَّنْعَةِ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ
بِالتَّسَاوِي، لاَ تَحْتَاجُ قِسْمَتُهَا إِلاَّ إِلَى عَدِّ ثُلُثٍ
مِنْهَا لِهَذَا، ثُمَّ ثُلُثٌ لِذَاكَ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي
لِلثَّالِثِ، نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ ثَوْبًا وَاحِدًا مِنَ
الْقُمَاشِ (بِالْمَعْنَى الْمُتَدَاوَل الآْنَ، أَيْ ذَرْعًا مُعَيَّنًا
مِنْ نَسِيجٍ مُعَيَّنٍ) بَيْنَهُمْ عَلَى التَّسَاوِي، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ
لاَ تَتَطَلَّبُ إِلاَّ أَنْ يُقَاسَ ثُلُثُ الثَّوْبِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 421.
(2) المغني 11 / 495.
(33/225)
لِهَذَا، ثُمَّ ثُلُثٌ لِذَاكَ، ثُمَّ
يَكُونُ لِلثَّالِثِ الْبَاقِي (1) .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ وَبَعْضٍ
تَفَاوُتٌ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ تَعْدِيل الأَْنْصِبَاءِ فِيهِ إِلاَّ
بِالتَّقْوِيمِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي أَنْوَاعِ الْعَقَارِ
وَالْحَيَوَانِ، وَكَمَا هِيَ طَبِيعَةُ الأَْشْيَاءِ فِي الأَْجْنَاسِ
الْمُتَعَدِّدَةِ كَدَارٍ وَمَنْقُولاَتِهَا، وَضَيْعَةٍ
وَمُحْتَوَيَاتِهَا، فَإِنَّهُ أَيْضًا يُعْتَبَرُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ
مُتَفَاوِتِ الأَْجْزَاءِ لاَ تَتَعَدَّل الأَْنْصِبَاءُ فِيهِ إِلاَّ
بِتَقْوِيمِهِ، كَقِطْعَةِ أَرْضٍ زِرَاعِيَّةٍ تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا
فِي دَرَجَةِ الْخِصْبِ فَيُقَوَّمُ عِنْدَ التَّشَاحِّ (2) ، وَيُصِيبُ
كُل شَرِيكٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ مَا يُسَاوِي نَصِيبَهُ
مِنَ الْقِيمَةِ كُلِّهَا، فَالَّذِي نَصِيبُهُ الثُّلُثُ مِنْ مَالٍ
قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يُسَاوِي
أَرْبَعَمِائَةٍ. (ر: ف / 12 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ: وَتُسَمَّى قِسْمَةَ الْفَرْدِ أَيْضًا، وَهِيَ
قِسْمَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ نَفْسِهِ - كَمَا مَثَّلْنَاهُ آنِفًا فِي
التَّنْظِيرِ لِقِسْمَةِ الْجَمْعِ - أَوِ الأَْشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ
كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ فِي سَائِرِ مَذَاهِبِ الْفِقْهِ لاَ يُبْرِزُونَ هَذَا
التَّقْسِيمَ (إِلَى قِسْمَةِ جَمْعٍ وَقِسْمَةِ تَفْرِيقٍ) إِبْرَازَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَجِيءُ فِي ثَنَايَا كَلاَمِهِمْ.
__________
(1) البحر الرائق 8 / 172.
(2) رد المحتار 5 / 173.
(3) رد المحتار 5 / 172.
(33/226)
مُقَوِّمَاتُ الْقِسْمَةِ:
25 - إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ هِيَ تَمْيِيزُ الأَْنْصِبَاءِ
لِمُسْتَحِقِّيهَا فَإِنَّهَا لِكَيْ تَتَحَقَّقَ لاَ بُدَّ لَهَا مِنَ
الْمُقَوِّمَاتِ التَّالِيَةِ:
أ - الْفَاعِل الَّذِي يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ، وَهُوَ الْقَاسِمُ.
ب - الْمُسْتَحِقُّونَ، أَوِ الْمَقْسُومُ لَهُ.
ج - الْمَال الْمُشْتَرَكُ الَّذِي تُمَيَّزُ حِصَصُهُ، وَهُوَ
الْمَقْسُومُ.
وَبَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الْقَاسِمُ:
26 - لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ قِسْمَةٌ بِدُونِ قَاسِمٍ، إِلاَّ
أَنَّ هَذَا الْقَاسِمَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الشُّرَكَاءَ أَنْفُسَهُمْ، إِنْ
كَانُوا كُمَّلاً، أَوْ أَوْلِيَاءَهُمْ إِنْ كَانُوا قَاصِرِينَ، وَقَدْ
يَكُونُ أَجْنَبِيًّا يُوَلُّونَهُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ، دُونَ لُجُوءٍ
إِلَى الْقَضَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَاضِي إِذَا طَلَبَ مِنْهُ
الْقِسْمَةَ وَاحِدٌ مِنَ الشُّرَكَاءِ أَوْ أَكْثَرُ فَيَتَوَلاَّهَا
بِنَفْسِهِ، أَوْ يَنْصِبُ مَنْ يَتَوَلاَّهَا نِيَابَةً عَنْهُ.
شَرَائِطُ الْقَاسِمِ:
27 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْل وَالْمِلْكِ أَوِ
الْوِلاَيَةِ فِي الْقَاسِمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ
وَالْعَدَالَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فَأَوْجَبَهَا الْقُدُورِيُّ
وَالْمِرْغِينَانِيُّ وَاسْتَحَبَّهَا الْكَاسَانِيُّ، وَلاَ خِلاَفَ
عِنْدَهُمْ فِي هَذَا بَيْنَ قَاسِمِ الْحَاكِمِ وَقَاسِمِ
(33/226)
الشُّرَكَاءِ، أَمَّا سَائِرُ فُقَهَاءِ
الْمَذَاهِبِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَاسِمِ الْحَاكِمِ وَقَاسِمِ
الشُّرَكَاءِ، فَقَاسِمُ الْحَاكِمِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ هَذِهِ
الشَّرَائِطِ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: الْعَدَالَةُ:
28 - تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، لِيُؤْمَنَ الْجَوْرُ فِي إِيصَال
الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ لاَزِمَةٌ
لِلْمُقْتَسِمِينَ، لاَ خِيَارَ لَهُمْ فِي قَبُولِهَا وَرَفْضِهَا، وَمِنْ
ثَمَّ فَإِنَّ وِلاَيَةَ الْقِسْمَةِ مِنْ قَبِيل الْوِلاَيَاتِ
الْوَاجِبَةِ الطَّاعَةِ، وَغَيْرُ الْعَدْل لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا،
قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ نَفْسِهِ
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: الْحُرِّيَّةُ:
29 - تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْل
الْوِلاَيَاتِ، وَبِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ يَأْخُذُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، دُونَ الْحَنَابِلَةِ (2) . الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ:
الذُّكُورَةُ:
30 - انْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ؛ لأَِنَّ
الْمَرْأَةَ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، وَهَذِهِ
خِلاَفِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ (3) ، فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
قَاسِمُ الْحَاكِمِ مِنْ أَهْل الشَّهَادَاتِ
__________
(1) الخرشي 4 / 401، مغني المحتاج 4 / 418، المغني لابن قدامة 11 / 506.
(2) الخرشي 4 / 401، مغني المحتاج 4 / 418، المغني لابن قدامة 11 / 506.
(3) مغني المحتاج 4 / 418.
(33/227)
كُلِّهَا: فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ
مُكَلَّفًا، ذَكَرًا، حُرًّا، مُسْلِمًا، عَدْلاً، ضَابِطًا (لاَ
مُغَفَّلاً) سَمِيعًا بَصِيرًا، نَاطِقًا؛ لأَِنَّ كُل الْمُتَّصِفِينَ
بِأَضْدَادِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، وَمِنْ
ثَمَّ أَيْضًا مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل - مِنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ
مَهْمَا عَلاَ - قَاسِمَ حَاكِمٍ لِفَرْعِهِ مَهْمَا نَزَل، كَالْوَلَدِ
وَوَلَدِ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ، أَيْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَنْ
يَكُونَ الْفَرْعُ قَاسِمَ حَاكِمٍ لأَِصْلِهِ (1) .
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ: عِلْمُهُ بِالْقِسْمَةِ:
31 - الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ: أَنْ تَتَوَفَّرَ لَهُ الآْلَةُ اللاَّزِمَةُ
لِلْقِيَامِ بِعَمَل الْقَاسِمِ كَمَعْرِفَةِ الْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ
إِنْ نُصِبَ قَاسِمًا عَامًّا؛ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مُحْتَاجٌ ذَلِكَ أَوْ
قَاسِمًا لِمَا لَمْ تُمْكِنْ قِسْمَتُهُ دُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ،
نَصَّ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ،
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ التَّقْوِيمِ مِمَّا
يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْقِسْمَةِ حَيْثُمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ
(3) ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ مِنْ خِلاَفٍ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنِ اعْتَمَدَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ
كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَسْتَطِيعُ الاِسْتِعَانَةَ بِأَهْل الْخِبْرَةِ فِي
التَّقْوِيمِ إِنِ احْتَاجَهُ، وَعِنْدَ ذَاكَ يَعْتَمِدُ مِنْهُمْ
شَهَادَةَ
__________
(1) التجريد المفيد 4 / 368.
(2) نهاية المحتاج 8 / 269، والمغني لابن قدامة 11 / 506.
(3) المغني 11 / 506.
(33/227)
رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، غَايَةُ مَا
هُنَاكَ أَنَّهُ يُفَضَّل فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالتَّقْوِيمِ
أَيْضًا، أَمَّا قَاسِمٌ لاَ يَعْرِفُ حِسَابًا وَلاَ مِسَاحَةً، فَكَقَاضٍ
لاَ يَعْرِفُ الْفِقْهَ، أَوْ كَاتِبٍ لاَ يَعْرِفُ الْخَطَّ (1) .
الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ: تَعَدُّدُ الْقَاسِمِ حِينَ تَكُونُ ثَمَّ
حَاجَةٌ إِلَى التَّقْوِيمِ:
32 - جَزَمَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَعَدُّدِ الْقَاسِمِ إِذَا كَانَ هُوَ
الْمُقَوِّمَ، وَاعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَكْفِي الْمُقَوِّمُ الْوَاحِدُ بَل لاَ
بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ حَيْثُ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّقْوِيمِ حَدٌّ
أَوْ غُرْمٌ كَتَقْوِيمِ الْمَسْرُوقِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ،
وَالْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ إِذَا وُصِفَ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ
الْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ: أَنَّ الْقَاسِمَ نَائِبٌ عَنِ الْحَاكِمِ
فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْوَاحِدِ، وَالْمُقَوِّمُ كَالشَّاهِدِ عَلَى
الْقِيمَةِ فَتُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبُ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا لَمْ
يَتَرَتَّبْ عَلَى التَّقْوِيمِ حَدٌّ أَوْ غُرْمٌ كَفَى وَاحِدٌ (2) .
وَإِذَا جُعِل الْقَاسِمُ حَاكِمًا فِي التَّقْوِيمِ، كَمَا جُعِل حَاكِمًا
فِي الْقِسْمَةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ - فِيمَا قَرَّرَهُ
الشَّافِعِيَّةُ - أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ،
فَيَكُونُ قَدْ قَسَمَ وَقَوَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 419.
(2) الخرشي 4 / 401، والمغني 11 / 506.
(3) مغني المحتاج 4 / 419.
(33/228)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ
قَاسِمَانِ اثْنَانِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، بِنَاءً عَلَى الْمَرْجُوحِ
أَنَّهُ شَاهِدٌ لاَ حَاكِمٌ.
وَلَيْسَ الْخَرْصُ (تَقْدِيرُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ عَلَى الشَّجَرِ)
إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، مِنْ قَبِيل التَّقْوِيمِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ
إِخْبَارٌ يَحْتَمِل الْكَذِبَ، وَالْخَرْصُ إِنْشَاءُ حُكْمٍ عَنِ
اجْتِهَادٍ كَمَا يَفْعَل الْقَاضِي، فَيَكْفِي مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى
الْخَرْصِ قَاسِمٌ وَاحِدٌ، كَمَا اكْتَفَوْا بِخَارِصٍ وَاحِدٍ فِي
الزَّكَاةِ، وَإِنْ قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الْقِيَاسَ
قَاسِمَانِ اعْتِبَارًا بِالتَّقْوِيمِ؛ لأَِنَّ الْخَارِصَ يَجْتَهِدُ
وَيُعْمَل بِاجْتِهَادِهِ، فَكَانَ كَالْحَاكِمِ وَالْمُقَوِّمِ يُخْبِرُ
بِقِيمَةِ الشَّيْءِ فَهُوَ كَالشَّاهِدِ (1) .
33 - وَقَاسِمُ الشُّرَكَاءِ الَّذِي هُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ
مُجَرَّدُ وَكِيلٍ عَنْهُمْ، قَدْ يُعْفِيهِ وَضْعُهُ هَذَا مِنْ أَكْثَرِ
شَرَائِطِ قَاسِمِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى
أَنَّهُ - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشُّرَكَاءِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ - لاَ
يُشْتَرَطُ فِيهِ سِوَى التَّكْلِيفِ، حَتَّى لَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ
امْرَأَةً، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ ذِمِّيًّا، وَلاَ يَشْتَرِطُ أَحَدٌ
تَعَدُّدَهُ (2) ، فَإِذَا كَانَ فِي الشُّرَكَاءِ مَحْجُورٌ اشْتُرِطَتْ
فِي قَاسِمِهِمْ أَيْضًا شَرَائِطُ قَاسِمِ الْحَاكِمِ، نَظَرًا وَحِيطَةً.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 419، ونهاية المحتاج 8 / 270.
(2) نهاية المحتاج 8 / 269، التجريد المفيد 4 / 369.
(33/228)
وَيَكْتَفِي الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِالضَّمَانِ الَّذِي فِي أَيْدِي الشُّرَكَاءِ
بِالنِّسْبَةِ لِقَاسِمِهِمْ هَذَا، أَيْ أَنَّ لَهُمُ الْحَقَّ فِي رَفْضِ
قِسْمَتِهِ إِذَا لَمْ تَرُقْهُمْ، فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّتِهَا
وَلُزُومِهَا إِلاَّ تَرَاضِيهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَاسِمُ لاَ
يَعْرِفُ الْقِسْمَةَ (1) ، وَظَاهِرٌ أَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ وَوَكِيل
الْغَائِبِ يَنُوبَانِ مَنَابَهُمَا.
وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ هُنَا عَلَى دَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَاسِمٌ شَرِيكًا وَوَكِيلاً لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ
أَوْ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ، كَأَنْ يَقُولُوا كُلُّهُمْ لَهُ: أَنْتَ وَكِيلٌ
عَنَّا فَاقْسِمْ كَمَا تَرَى، وَافْرِزْ لِنَفْسِكَ وَلِكُل وَاحِدٍ
مِنَّا نَصِيبَهُ، أَوْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَيُوَكِّل اثْنَانِ
مِنْهُمُ الاِثْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ
أَحَدُهُمَا وَكِيلاً عَنْ وَاحِدٍ وَالآْخَرُ عَنِ الآْخَرِ، وَالسِّرُّ
فِي هَذَا أَنَّ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَحْتَاطَ لِمُوَكِّلِهِ، وَهَذَا
مَا لاَ يَسْتَطِيعُهُ الْوَكِيل هُنَا، لأَِنَّهُ يَتَنَاقَضُ مَعَ
احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ غَرِيزِيٌّ مَرْكُوزٌ فِي
الْفِطَرِ.
نَعَمْ إِذَا وَقَعَ التَّوْكِيل بِحَيْثُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا
التَّنَاقُضِ، فَلاَ بَأْسَ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا آثَرَ أَحَدُ
الشُّرَكَاءِ أَنْ يَبْقَى هُوَ وَآخَرُ شَرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِمَا بَعْدَ
انْفِصَال الآْخَرَيْنِ، فَيُوَكِّلُهُ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ
نَصِيبَاهُمَا جُزْءًا وَاحِدًا،
__________
(1) الخرشي 4 / 401، المغني لابن قدامة 11 / 506.
(33/)
فَإِنَّ الْوَكِيل حِينَئِذٍ يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ، بِلاَ أَدْنَى تَعَارُضٍ (1) .
.
أُجْرَةُ الْقَاسِمِ:
مَنْ تَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَاسِمِ؟
34 - الْقَاسِمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ
أُجْرَةٍ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَاضِي نَفْسُهُ كَمَا سَيَجِيءُ.
وَأُجْرَتُهُ إِنْ كَانَ قَاسِمَ الشُّرَكَاءِ عَلَى الشُّرَكَاءِ؛ لأَِنَّ
نَفْعَ الْقِسْمَةِ يَخُصُّهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَاسِمَ الْقَاضِي،
فَالأَْفْضَل أَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهُ فِي خِزَانَةِ الدَّوْلَةِ (بَيْتِ
مَال الْمُسْلِمِينَ) لأَِنَّ هَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ، بَل مَطْلُوبٌ
مِنَ الْقَاضِي - عَلَى سَبِيل النَّدْبِ وَالاِسْتِحْبَابِ - أَنْ
يَتَّخِذَ قَاسِمًا عَامًّا، بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ، لَهُ رِزْقٌ جَارٍ
كَسَائِرِ عُمَّال الدَّوْلَةِ، يَكُونُ مُعَدًّا لِلْقِيَامِ
بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ طَلَبِهَا دُونَ تَقَاضِي أَجْرٍ
مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ، مِنْ جِنْسِ عَمَل
الْقَاضِي - إِذْ هِيَ أَيْضًا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ - فَيَكُونُ
مُقَابِلُهَا فِي الْمَال الْعَامِّ كَرِزْقِ الْقَاضِي نَفْسِهِ، فَإِنْ
لَمْ يَجْعَل أُجْرَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَال - لأَِمْرٍ مَا - فَإِنَّ
أُجْرَتَهُ تَكُونُ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ لأَِنَّ النَّفْعَ وَاصِلٌ
إِلَيْهِمْ، لَكِنْ يُقَدِّرُهَا الْقَاضِي بِأُجْرَةِ الْمِثْل لِئَلاَّ
يَتَحَكَّمَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 418.
(33/)
الْقَاسِمُ وَيَشْتَطَّ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ
يَلْزَمُهُمْ بِالْقَاسِمِ الَّذِي يَنْصِبُهُ، بَل يَدَعُ لَهُمُ
الْخِيَارَ، فَإِنْ شَاءُوا قَسَمَ لَهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَأْجَرُوا
غَيْرَهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِجْبَارِهِمْ عَلَى تَوْكِيل قَاسِمٍ
بِعَيْنِهِ، كَمَا أَنَّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لاَ يَدَعُ
الْقَسَّامِينَ، يَعْمَلُونَ فِي شَرِكَةٍ مَعًا؛ لِئَلاَّ يَتَوَاطَئُوا،
وَيَزِيدُوا فِي الأُْجْرَةِ (1) .
وَاتِّخَاذُ الْقَاسِمِ الدَّائِمِ يَظَل مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ
يُقَرَّرْ لَهُ أُجْرَةٌ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَعْرَفُ
بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْغَرَضِ؛ وَلأَِنَّ قَاسِمَ الْقَاضِي أَعَمُّ
نَفْعًا، إِذْ تَنْفُذُ قِسْمَتُهُ عَلَى الْمَحْجُورِ وَالْغَائِبِ،
بِخِلاَفِ قِسْمَةِ غَيْرِهِ (2) .
ثُمَّ الْقِسْمَةُ تُشْبِهُ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهَا تَدْخُل فِي وِلاَيَةِ
الْقَاضِي، وَيُلْزَمُ بِهَا الآْبِي، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ عَلَى
التَّحْقِيقِ، وَلِذَا لاَ تَجِبُ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهَا
بِنَفْسِهِ، فَمِنْ أَجْل كَوْنِهَا لَيْسَتْ قَضَاءً، إِذَا تَوَلاَّهَا
الْقَاضِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَتَهَا مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ،
وَلَكِنْ لِمَكَانِ شَبَهِهَا بِالْقَضَاءِ يَكُونُ الأَْوْلَى لَهُ أَنْ
لاَ يَأْخُذَ (3) .
هَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل
الْفِقْهِ فِي أَنَّ أُجْرَةَ قَاسِمِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الشُّرَكَاءِ،
وَلاَ فِي أَنَّ نَصْبَ الْحَاكِمِ قَاسِمًا
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 350 - 351، رد المحتار 5 / 168.
(2) بدائع الصنائع 7 / 19.
(3) العناية مع تكملة فتح القدير 8 / 351.
(33/230)
لِيَقْسِمَ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ
الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، بَل ظَاهِرُ قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ فِي
الْمُغْنِي وُجُوبُهُ (1) ، وَكُلُّهُمْ يَنْقُلُونَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ قَاسِمٌ عَامٌّ مِنْ عُمَّالِهِ الدَّائِمِينَ،
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى،
وَأَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (2) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْرِ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِعَدَمِ كِفَايَةِ بَيْتِ الْمَال
فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُفْسِدُ الْمَقْصُودَ مِنْ نَصْبِهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَنْ
مَظِنَّةُ أَنْ يُغَالِيَ فِي الأُْجْرَةِ، وَيَقْبَل الرِّشْوَةَ،
وَيَجُورَ فِي الْقِسْمَةِ، فَحِينَئِذٍ لاَ يُعَيِّنُ قَاسِمًا، وَيَدَعُ
النَّاسَ يَسْتَأْجِرُونَ أَوْ يَسْتَعِينُونَ بِمَنْ شَاءُوا، بَل
مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ حِينَئِذٍ هَذَا التَّعْيِينَ، وَقَضَى بِحُرْمَتِهِ
(3) .
وَيُوجَدُ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ مَنْ يَكْرَهُ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى
الْقِسْمَةِ أَيًّا كَانَتْ، وَهَذَا مِمَّا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ،
وَعَلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ
الدَّرْدِيرُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (4) ، وَهُوَ
الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُدَوَّنَةِ. إِذْ تَقُول: كَانَ
خَارِجَةُ وَرَبِيعَةُ يَقْسِمَانِ بِلاَ أَجْرٍ؛ لأَِنَّ مَا كَانَ مِنْ
بَابِ الْعِلْمِ لاَ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَجْرٌ، وَيَقُول ابْنُ عُيَيْنَةَ:
لاَ تَأْخُذْ عَلَى الْخَيْرِ
__________
(1) الخرشي 4 / 402، 405، مغني المحتاج 4 / 419.
(3) نهاية المحتاج 8 / 270.
(4) بلغة السالك 2 / 240.
(33/230)
أَجْرًا (1) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ - وِفَاقًا لِغَيْرِهِمْ - لَمْ
يَعْتَدُّوا بِهَذَا الْخِلاَفِ وَاعْتَمَدُوا الْجَوَازَ بِإِطْلاَقٍ،
سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأُْجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَمْ عَلَى
الشُّرَكَاءِ - إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُقَيِّدُونَهُمْ
بِالرُّشَدَاءِ، وَيَكْرَهُونَ أَخْذَ الأُْجْرَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَكِنْ
لاَ تُبَاحُ الأُْجْرَةُ لِلْقَاسِمِ إِلاَّ نَظِيرُ تَوَلِّي الْقِسْمَةِ
- أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ الأُْجْرَةَ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ بِحُكْمِ
مَنْصِبِهِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا
هُوَ السُّحْتُ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بِفَرْضٍ مِنَ
الْقَاضِي أَوِ الإِْمَامِ (2) .
كَيْفِيَّةُ تَوْزِيعِ الأُْجْرَةِ:
35 - إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ لِسَبَبٍ مَا
كَإِضَاعَةٍ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ، أَوْ عَوَزٍ فِي بَيْتِ الْمَال، أَوْ
رَغْبَةٍ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ عَنْ قَاسِمِ الدَّوْلَةِ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ
عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
الأَْوَّل: أَنَّهَا تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ: وَعَلَيْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ - دُونَ صَاحِبَيْهِ - وَجَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَهَؤُلاَءِ يَحْتَجُّونَ
بِأَنَّ الأُْجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَل، وَعَمَل الْقَاسِمِ
بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ
__________
(1) الفروع 3 / 852.
(2) الخرشي 4 / 402، 405، المغني 11 / 507، الفروع 3 / 852، 853.
(33/231)
الْمُتَقَاسِمِينَ سَوَاءٌ، إِذْ هُوَ
تَمْيِيزُ الأَْنْصِبَاءِ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ لاَ يَقْبَل
التَّفَاوُتَ، فَتَمْيِيزُ الْقَلِيل مِنَ الْكَثِيرِ هُوَ بِعَيْنِهِ
تَمْيِيزُ الْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيل، وَإِذَا لَمْ يَتَفَاوَتِ الْعَمَل
لَمْ تَتَفَاوَتِ الأُْجْرَةُ، أَمَّا الْوَسَائِل الْمُوصِلَةُ إِلَى
هَذَا التَّمْيِيزِ، كَالْمِسَاحَةِ وَمَا تَتَطَلَّبُهُ مِنْ جَهْدٍ،
وَالْكَيْل وَالْوَزْنِ، فَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْقِسْمَةِ،
وَلَيْسَتْ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلِذَا لَوِ اسْتَعَانَ
فِيهِ بِالْمُتَقَاسَمِينَ أَنْفُسِهِمْ لاَسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ عَلَى
الْقِسْمَةِ كَامِلَةً (1) ، وَضَبْطُ الأُْجْرَةِ بِمِقْدَارِ
الأَْنْصِبَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إِذْ لَيْسَ النَّصِيبُ الْكَبِيرُ
دَائِمًا أَصْعَبَ حِسَابًا وَلاَ النَّصِيبُ الْيَسِيرُ دَائِمًا
أَيْسَرَ، فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلاَّ بِأَصْل التَّمْيِيزِ (2) .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُقْسَمُ بِمِقْدَارِ الأَْنْصِبَاءِ: وَعَلَيْهِ
الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَعَلَيْهِ عَمَل الْمَغَارِبَةِ أَخِيرًا (3) ، وَأَكْثَرُ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُعْتَمَدُهُمْ وَعَلَيْهِ
مُعَوَّلُهُمْ، وَهَؤُلاَءِ يَتَعَلَّقُونَ بِأَنَّ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ
مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، كَالنَّفَقَةِ عَلَى
الْمَال الْمُشْتَرَكِ مِنْ نَحْوِ إِطْعَامِ بَهَائِمَ وَحَفْرِ بِئْرٍ
أَوْ قَنَاةٍ، وَحَرْثِ أَرْضٍ أَوْ رَيِّهَا،
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 19، العناية مع تكملة فتح القدير 8 / 352.
(2) الخرشي 4 / 402، مغني المحتاج 4 / 420، الإنصاف 11 / 355.
(3) التحفة وحواشيها 2 / 76.
(33/231)
وَكَيْل حَبٍّ مُشْتَرًى أَوْ وَزْنِهِ (1)
.
36 - أ - حِينَ يُقَال تَكُونُ الأُْجْرَةُ بِمِقْدَارِ الأَْنْصِبَاءِ
يُمْكِنُ التَّسَاؤُل: أَهِيَ الأَْنْصِبَاءُ الأَْصْلِيَّةُ فِي الْمَال
الْمُشْتَرَكِ أَمِ الأَْنْصِبَاءُ الْمَأْخُوذَةُ نَتِيجَةً لِلْقِسْمَةِ؟
مَثَلاً: حِينَ يَكُونُ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ الأَْرْضِ
الْمُشْتَرَكَةِ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِالْقِسْمَةِ ثُلُثَهَا فَحَسْبُ؛
لأَِنَّهُ أَجْوَدُ، هَل يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ
أَمْ ثُلُثُهَا؟
قَال الشَّافِعِيَّةُ: الأُْجْرَةُ تُوَزَّعُ عَلَى الْحِصَصِ
الْمَأْخُوذَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ لأَِنَّهَا مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ
كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ (2) .
ب - إِذَا اتَّفَقَ الْمُتَقَاسِمُونَ عَلَى تَحَمُّل الأُْجْرَةِ
بِنِسْبَةِ مُخَالَفَةٍ لِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، وَشَرَطُوا ذَلِكَ عَلَى
الْقَاسِمِ فَهَل هُوَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ أَمْ لاَغٍ؟ .
قَطَعَ الشَّافِعِيَّةُ بِاعْتِبَارِهِ؛ لأَِنَّهُ أَجِيرُهُمْ فَلاَ
يَسْتَحِقُّ فِي إِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ إِلاَّ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ
عَلَيْهِ، وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّهُمْ لأَِمْرٍ مَا
اعْتَمَدُوا بُطْلاَنَ الشَّرْطِ (3) ، كَمَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ
فِي تَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْمِثْل حِينَ تَكُونُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 19، مغني المحتاج 4 / 420، المغني لابن قدامة 11 /
507.
(2) المهذب 2 / 308، مغني المحتاج 4 / 419، نهاية المحتاج 8 / 270، وروضة
الطالبين 11 / 202.
(3) مغني المحتاج 4 / 419، المهذب 2 / 306، ومطالب أولي النهى 6 / 559.
(33/232)
الإِْجَارَةُ فَاسِدَةً (1) .
- ج - إِذَا أَتَمَّ الْقَاسِمُ الْقِسْمَةَ، دُونَ أَنْ تُذْكَرَ
أُجْرَةٌ، فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ، قِيَاسًا عَلَى الْقَصَّارِ يُدْفَعُ
إِلَيْهِ الثَّوْبُ لِيَقْصِرَهُ، وَلاَ تُسَمَّى أُجْرَةٌ، اللَّهُمَّ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِالْقِسْمَةِ بِتَوْجِيهٍ مِنَ الإِْمَامِ
أَوِ الْقَاضِي فَحِينَئِذٍ تَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل.
هَكَذَا قَرَّرَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُمْ مُنَازَعُونَ فِي
ذَلِكَ تَأْصِيلاً وَتَفْرِيعًا حَتَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِهِمْ،
وَحَسْبُكَ بِخِلاَفِ مِثْل الْمُزَنِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ، ثُمَّ هَذَا
الْبُجَيْرِمِيُّ مِنْ أَوَاخِرِ مُتَأَخِّرِيهِمْ يُقَرِّرُ أَنَّ
الْقَاسِمَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الطَّالِبُ
شَيْئًا، وَيَقُول: إِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِمَّنْ عَمِل عَمَلاً بِغَيْرِ
أُجْرَةٍ (2) .
د - كَيْفِيَّةُ اسْتِئْجَارِ الْمُتَقَاسِمِينَ مَنْ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ،
هِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ كُلُّهُمْ - وَلَوْ بِوَاسِطَةِ وَكِيلٍ
عَنْهُمْ، بِعَقْدٍ وَاحِدٍ - وَمِنْهُ مَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ وَرَضِيَ سَائِرُهُمْ، أَوْ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ كُل وَاحِدٍ
بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لِتَعْيِينِ نَصِيبِهِ لِقَاءَ أَجْرٍ مَعْلُومٍ،
هَكَذَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّ
مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَرْتَضُوا إِطْلاَقَ الشَّافِعِيِّ
تَصْحِيحَ الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ
إِنَّمَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 270، التجريد المقيد 4 / 369.
(2) مغني المحتاج 4 / 420، نهاية المحتاج 8 / 270، والمهذب 1 / 410،
والتجريد المفيد 4 / 369.
(33/232)
رِضَاءِ غَيْرِهِ، وَقَيَّدُوهُ بِرِضَاءِ
الْبَاقِينَ؛ لأَِنَّ كُل عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي
مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَدْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ (1)
، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ بَعْضُهُمْ،
فَالإِْجَارَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالأُْجْرَةُ عَلَيْهِ
وَحْدَهُ (2) .
هـ - أُجْرَةُ الْخَبِيرِ الْمُقَوِّمِ، حِينَ يَحْتَاجُ إِلَى
التَّقْوِيمِ، وَأُجْرَةُ كَاتِبِ الْوَثِيقَةِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ
مِنَ الْخِلاَفِ فِي أُجْرَةِ الْقَاسِمِ: فَمِنْ قَائِلٍ عَلَى عَدَدِ
الرُّءُوسِ وَمِنْ قَائِلٍ عَلَى قَدْرِ الأَْنْصِبَاءِ (3) .
37 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَحَمَّل أُجْرَةَ الْقَاسِمِ
إِذَا طَلَبَهَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
تَكُونُ عَلَى مَنْ طَلَبَهَا وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهَا؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ
الاِسْتِقْلاَل بِالْمِلْكِ حَاصِلَةٌ بِكُل قِسْمَةٍ وَعَمَل الأَْجِيرِ
فِيهَا وَاقِعٌ لِكُل مُتَقَاسِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى الطَّالِبِ لأَِنَّ
الآْبِيَ مُسْتَضِرٌّ بِالْقِسْمَةِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 419، المغني لابن قدامة 11 / 507.
(2) نهاية المحتاج 8 / 270.
(3) الخرشي 4 / 402، مغني المحتاج 4 / 420.
(4) تكملة فتح القدير 8 / 352، الخرشي 4 / 402، بلغة السالك 2 / 240، مغني
المحتاج 4 / 419، المغني لابن قدامة 11 / 507.
(33/233)
ب - الْمَقْسُومُ لَهُ:
38 - قَال الْكَاسَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْسُومِ لَهُ أَرْبَعَةُ
شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الْقِسْمَةِ
وَهِيَ قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ جَبْرًا.
الثَّانِي: الرِّضَا فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الْقِسْمَةِ وَهُوَ رِضَا
الشُّرَكَاءِ فِيمَا يَقْسِمُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ إِذَا كَانُوا مِنْ
أَهْل الرِّضَا، أَوْ رِضَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا
مِنْ أَهْل الرِّضَا.
الثَّالِثُ: حُضُورُ الشُّرَكَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي
نَوْعَيِ الْقِسْمَةِ، الْجَبْرِ وَالرِّضَا.
الرَّابِعُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ (1) .
ج - الْمَقْسُومُ:
39 - سَبَقَ بَيَانُ بَعْضِ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ بِالْمَقْسُومِ وَهِيَ:
- اتِّحَادُ الْجِنْسِ.
- اتِّحَادُ الصِّنْفِ فِي قِسْمَةِ الْمَنْقُولاَتِ.
- زَوَال الْعُلْقَةِ بِالْقِسْمَةِ.
- أَنْ لاَ تُنْقِصُ الْقِسْمَةُ قِيمَةَ الْمَقْسُومِ.
- تَعَذُّرُ إِفْرَادِ كُل صِنْفٍ بِالْقِسْمَةِ.
وَكُلُّهَا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُل: الْقِسْمَةُ
الْقَضَائِيَّةُ الإِْجْبَارِيَّةُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 19، وما بعدها.
(33/233)
40 - وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى بَيَانُهَا
فِيمَا يَأْتِي:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً:
فَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الدَّيْنِ، اتَّحَدَ أَوْ تَعَدَّدَ، تَرَاضِيًا
وَلاَ إِجْبَارًا، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَخَالَفَهُمْ فِي اعْتِبَارِهَا الْحَنَابِلَةُ
فَجَوَّزُوا قِسْمَةَ الدَّيْنِ بِإِطْلاَقٍ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ،
إِلاَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُجَوِّزُونَ قِسْمَةَ الدَّيْنِ الْوَاحِدِ
تَرَاضِيًا لاَ إِجْبَارًا؛ لأَِنَّهُ لاَ تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقُرْعَةُ
(1) .
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ:
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ
انْتِفَاءَ الضَّرَرِ فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَقَدْ عَرَفْنَاهُمْ
فِيمَا سَلَفَ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الضَّرَرِ فِي الْقِسْمَةِ هُوَ مَعْنَى
قَابِلِيَّةِ مَحَلِّهَا لَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ
هُنَا إِلَى أَنَّ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ مَنْ يَقْصُرُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ
عَلَى قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَلاَ يَرَى بَأْسًا مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ
بِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ عَلَى أَيَّةِ قِسْمَةٍ ضَارَّةٍ، وَهَؤُلاَءِ
هُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، عَلَى
كَلاَمٍ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَمِنْهُمْ مَنْ
يُعَمِّمُهَا فِي
__________
(1) المجلة العدلية م 1123، بلغة السالك 2 / 238، الخرشي 4 / 404، نهاية
المحتاج 8 / 275، مغني المحتاج 4 / 426، قواعد ابن رجب 416، مطالب أولي
النهى 3 / 30.
(2) فيما قرره صاحب المغني 11 / 496.
(33/234)
قِسْمَتَيِ الإِْجْبَارِ وَالتَّرَاضِي،
إِذَا بَلَغَ الضَّرَرُ حَدَّ الْفَسَادِ، أَعْنِي بُطْلاَنَ الْمَنْفَعَةِ
بُطْلاَنًا تَامًّا أَوْ مَا هُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي
قِسْمَةِ خَاتَمٍ خَسِيسٍ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْمَالِكِيَّةُ، فَالْخِيَارُ
عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ الْفَسَادِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا:
إِمَّا الإِْبْقَاءُ عَلَى الشَّرِكَةِ أَوِ الْبَيْعِ، وَفِي حَالَةِ
الضَّرَرِ الأَْقَل بَيْنَ هَذَيْنِ وَثَالِثٍ هُوَ قِسْمَةُ التَّرَاضِي
(1) .
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ مَمْلُوكًا لِلشُّرَكَاءِ عِنْدَ
الْقِسْمَةِ:
هَذِهِ شَرِيطَةٌ عَامَّةٌ فِي كُل قِسْمَةٍ لاَ تَخُصُّ نَوْعًا دُونَ
نَوْعٍ، وَقِسْمَةُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ لَيْسَتْ لَهُ بَل لِلْمَحْجُورِ
نَفْسِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ، فَالْفُضُولِيُّ الَّذِي لاَ مِلْكَ لَهُ
وَلاَ وِلاَيَةَ لاَ نَفَاذَ لِقِسْمَتِهِ حَتَّى يُجِيزَهَا الْمَالِكُ
الصَّحِيحُ التَّصَرُّفِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ نِيَابَةً شَرْعِيَّةً
صَحِيحَةً (2) ، فَالْقِسْمَةُ تَقْبَل الإِْجَازَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَسَمَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي غَيْبَةِ
الْبَاقِينَ وَأَخَذَ قِسْطَهُ فَلَمَّا عَلِمُوا قَرَّرُوهُ صَحَّتْ
لَكِنْ مِنْ حِينِ التَّقْرِيرِ (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنَ
الشُّرَكَاءِ ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُهَا (لاَ يُنْكِرُهَا) عَنْ قُرْبٍ بَعْدَ
عِلْمِهِ بِهَا تَلْزَمُهُ، وَيَكُونُ هَذَا
__________
(1) الخرشي 4 / 409، 412، بلغة السالك 2 / 241.
(2) بدائع الصنائع 7 / 276.
(3) نهاية المحتاج 8 / 276.
(33/234)
الرَّيْثُ إِقْرَارًا لَهَا (1) .
قِسْمَةُ الأَْعْيَانِ:
41 - الأَْعْيَانُ جَمْعُ عَيْنٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا قَابَل
الدَّيْنَ وَالْمَنْفَعَةَ، أَمَّا الدَّيْنُ فَقَدْ عَلِمْنَا الْخِلاَفَ
فِي قِسْمَتِهِ (ر: ف 40) ، وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَسَيَأْتِي بَحْثُ
قِسْمَتِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالأَْعْيَانُ تَنْقَسِمُ إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ: فَالْعَقَارُ: هُوَ
الأَْرْضُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زِرَاعِيَّةً أَمْ غَيْرَ زِرَاعِيَّةٍ،
وَالْمَنْقُول: مَا عَدَاهَا كَالثِّيَابِ وَالأَْوَانِي وَالْحَيَوَانِ
وَالْمَزْرُوعَاتِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ
وَالشَّجَرَ يَتْبَعَانِ الأَْرْضَ فِي الْقِسْمَةِ، وَالأَْرْضُ لاَ
تَتْبَعُهُمَا فَمَنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ قِسْمَةِ الأَْرْضِ شَيْءٌ
مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ (2) ، وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَهَذَا خِلاَفُ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنِ اعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ
الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ عَقَارًا، قَال الْخَرَشِيُّ:
الْعَقَارُ هُوَ الأَْرْضُ وَمَا اتَّصَل بِهَا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ
(4) .
ثُمَّ كُلٌّ مِنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا
__________
(1) التحفة وحواشيها 2 / 71.
(2) رد المحتار 5 / 169، المجلة العدلية م 1163، مجمع الأنهر 2 / 420.
(3) نهاية المحتاج 8 / 271، مغني المحتاج 4 / 424، الباجوري على ابن قاسم 2
/ 17، دليل الطالب 108، 140، كشاف القناع 4 / 140.
(4) الخرشي 4 / 280.
(33/235)
لاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَهُوَ
الْمُتَشَابِهُ، أَوْ يَكُونُ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ
بَيَانٍ (ر: ف 9) .
تَنَوُّعُ قِسْمَةِ الْعَقَارِ:
42 - قِسْمَةُ الْعَقَارِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِفْرَازًا أَوْ
تَعْدِيلاً أَوْ رَدًّا، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَمْعًا أَوْ
تَفْرِيقًا، وَجَبْرًا أَوْ تَرَاضِيًا، ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي
مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَحَالٍّ مُتَعَدِّدَةٍ:
فَفِي الْمَحَل الْوَاحِدِ: قِطْعَةُ الأَْرْضِ الْمُتَشَابِهَةِ
الأَْجْزَاءِ بِلاَ أَدْنَى تَفَاوُتٍ كَالَّتِي تَخْلُو مِنَ الْبِنَاءِ
وَالشَّجَرِ وَهِيَ دَرَجَةٌ سَوَاءٌ مِنْ جَوْدَةِ التُّرْبَةِ أَوْ
رَدَاءَتِهَا لاَ تَحْتَاجُ قِسْمَتُهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَرْعِهَا
وَمَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا، حَتَّى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى مَا
اعْتَمَدَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ (1) ، وَإِنْ كَانَ الأَْكْثَرُونَ عَلَى
أَنَّ التَّعْدِيل فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ
بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ تَمْيِيزُهَا أَنْصِبَاءً مُتَسَاوِيَةً، إِذَا
تَسَاوَتْ حُقُوقُ الْمُتَقَاسِمِينَ، أَوْ سِهَامًا مُتَسَاوِيَةً
بِقَدْرِ النَّصِيبِ الأَْقَل، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ
بِالأَْجْزَاءِ أَوْ قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ.
وَهَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ تُقْسَمَ إِفْرَازًا أَيْضًا إِذَا كَانَ فِي كُل
جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ مِثْل مَا فِي
الآْخَرِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ تَسَاوِي الأَْنْصِبَاءِ مِنْ غَيْرِ
تَقْوِيمٍ.
فَإِذَا تَفَاوَتَ الْبِنَاءُ أَوِ الشَّجَرُ، أَوْ تَفَاوَتَتْ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 239.
(33/235)
جَوْدَةُ الأَْرْضِ وَرَدَاءَتُهَا فَلاَ
يُمْكِنُ تَعْدِيل الأَْنْصِبَاءِ وَتَسْوِيَةُ السِّهَامِ إِلاَّ
بِوَاسِطَةِ التَّقْوِيمِ، وَإِذَنْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ
تَعْدِيلٍ، بَل قَدْ يَحُوجُ الأَْمْرُ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِعِوَضٍ
مِنْ خَارِجِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ (مُعَدِّلٍ) ، يَدْفَعُهُ وَاحِدٌ مِنَ
الْمُتَقَاسِمِينَ أَوْ أَكْثَرُ لِيَتَعَادَل نَصِيبُهُ مَعَ سَائِرِ
الأَْنْصِبَاءِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ الْمُتَقَاسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ
مُلْجِئٍ، وَإِذَنْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ رَدٍّ.
وَهِيَ عَلَى كُل حَالٍّ قِسْمَةُ تَفْرِيقٍ لأَِنَّ الْفَرْضَ اتِّحَادُ
الْمَحَل، وَقَدْ سَلَفَ بَيَانُ طَرِيقَةِ مَنْ يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ
عَلَى قِسْمَةِ الرَّدِّ إِلاَّ ضَرُورَةً أَوْ بِلاَ اسْتِثْنَاءٍ،
وَيَقْبَلُهُ فِي قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ وَفِي قِسْمَةِ التَّعْدِيل
بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ، وَطَرِيقَةُ مَنْ يَقْبَل الإِْجْبَارَ بِكُل حَالٍ،
أَوْ يَمْنَعُهُ بِكُل حَالٍ.
إِلاَّ أَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءٌ، فَإِنَّ
الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: لاَ بُدَّ لِكَيْ يَعْدِل الْمَقْسُومُ عَلَى
سِهَامِ الْقِسْمَةِ مِنْ شَيْئَيْنِ:
التَّوَصُّل إِلَى مَعْرِفَةِ الْمِسَاحَةِ.
وَتَقْوِيمُ الْبِنَاءِ (1) .
وَلَكِنَّ مُتَأَخِّرِيهِمْ يُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ
يُقَاسَ وَيُقَوَّمَ كُلٌّ مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ؛ لأَِنَّ تَعْدِيل
سِهَامِ الْمَقْسُومِ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَالِيَّتِهِ،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 362.
(33/236)
وَلَوْ أَخِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الأَْرْضِ، وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْمَالِيَّةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى
مَعْرِفَةِ مِسَاحَةِ وَقِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ (1) .
وَفِي الْمَحَال الْمُتَعَدِّدَةِ كَالدُّورِ وَالأَْرَاضِي
وَالْبَسَاتِينِ: يُمْكِنُ أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ كُلُّهَا فِي قِسْمَةٍ
وَاحِدَةٍ، اتَّحَدَ نَوْعُهَا أَمِ اخْتَلَفَ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي
بَيَانِ اتِّحَادِ النَّوْعِ وَاخْتِلاَفِهِ - وَتُعَدَّل الأَْنْصِبَاءُ
بِالْقِيمَةِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ جَمْعٍ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا
لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي عِنْدَمَا يَخْتَلِفُ
النَّوْعُ أَوِ الْجِنْسُ، كَتَرِكَةٍ بَعْضُهَا دُورٌ وَبَعْضُهَا أَرَاضٍ
زِرَاعِيَّةٌ مُعْتَادَةٌ وَبَعْضُهَا حَدَائِقُ، أَوْ كُلُّهَا حَدَائِقُ،
لَكِنَّ بَعْضَ الْحَدَائِقِ كُرُومٌ وَبَعْضُهَا رُمَّانٌ أَوْ
بُرْتُقَالٌ أَوْ تُفَّاحٌ أَوْ مَا شَاكَل ذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ النَّوْعِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ - وَهِيَ قِسْمَةُ
جَمْعٍ لِتَعَدُّدِ الْمَحَل - تَقْبَل الإِْجْبَارَ، عَلَى خِلاَفَاتٍ فِي
التَّفَاصِيل الَّتِي تَقَدَّمَتْ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ مَنْ يَعْكِسُ الْقَضِيَّةَ فَيُجْبِرُ عَلَى قِسْمَةِ
الأَْجْنَاسِ وَالأَْنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ قِسْمَةَ جَمْعٍ إِذَا
طَلَبَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ، وَلاَ يُجِيزُ التَّفْرِيقَ إِلاَّ
بِاتِّفَاقِهِمْ.
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الْعَقَارِ:
43 - يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ الْقِسْمَةُ بِقُرْعَةٍ، وَأَنْ تَقَعَ
__________
(1) رد المحتار 5 / 172.
(33/236)
بِدُونِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ قِسْمَةَ
تَرَاضٍ أَمْ إِجْبَارٍ؛ لأَِنَّ تَعْيِينَ الْقَاسِمِ الْمُجْبِرِ لِكُل
نَصِيبٍ عَلَى حِدَةٍ كَافٍ كَمَا سَيَجِيءُ إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَال
الْقُرْعَةِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ اتِّقَاءً لِلتُّهْمَةِ، إِلاَّ أَنْ
يُصِرَّ الْمُتَقَاسِمُونَ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
عَلَى وُجُوبِهَا حِينَئِذٍ (1) ، نَعَمْ. لاَ إِجْبَارَ فِي غَيْرِ
الْمِثْلِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ (2) ، وَفِي
كَلاَمِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ كَقَوْل صَاحِبِ
الشَّرْحِ الْكَبِيرِ فِي قِسْمَةِ عَرْضِ الْجِدَارِ: وَيُحْتَمَل أَنْ
لاَ يُجْبَرَ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ، خَوْفًا مِنْ أَنْ
يَحْصُل لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَلِي مِلْكَ الآْخَرِ (3) ، بَل هُوَ
صَرِيحُ مَذْهَبِهِمْ، كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ (4) .
كَمَا أَنَّ تَرَاضِيَ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى تَوْزِيعِ الأَْنْصِبَاءِ
بَيْنَهُمْ بِكَيْفِيَّةٍ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ بِدُونِ أَنْ
يَسْتَعِينُوا بِقُرْعَةٍ، بَل دُونَ تَعْدِيلٍ أَوْ تَقْوِيمٍ أَصْلاً مَا
دَامَ الْمَحَل لَيْسَ رِبَوِيًّا، بَل وَإِنْ كَانَ رِبَوِيًّا بِنَاءً
عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ (5) ، بَل عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ إِذَا دَخَلاَ عَلَى
التَّفَاضُل الْبَيِّنِ كَفَدَّانِ فَاكِهَةٍ فِي نَظِيرِ فَدَّانَيْنِ،
لِخُرُوجِهَا حِينَئِذٍ مِنْ
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 499.
(2) التحفة وحواشيها 2 / 69.
(3) المغني مع الشرح الكبير 11 / 496.
(4) الفروع 3 / 854.
(5) بدائع الصنائع 7 / 19، رد المحتار 5 / 172، 173، التحفة وحواشيها 2 /
70، 71، نهاية المحتاج 8 / 273.
(33/237)
بَابِ الْبَيْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى
الْمَهَارَةِ التِّجَارِيَّةِ وَمُحَاوِلَةِ الْغَلَبِ مِنْ كِلاَ
الْجَانِبَيْنِ إِلَى بَابِ الْمَنِيحَةِ وَالتَّطَوُّل (1) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ لِجَوَازِ الْقُرْعَةِ شَرَائِطَ
مُعَيَّنَةً:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ فِيمَا تَمَاثَل أَوْ تَجَانَسَ، لِيَقِل
الْغُرُورُ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ تَكُونَ فِي مِثْلِيٍّ مُتَّحِدِ الصِّفَةِ أَيْ
مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ (2) .
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُجْمَعَ فِيهَا بَيْنَ نَصِيبَيْنِ، إِذْ لاَ
ضَرُورَةَ (3) .
وَيُوَافِقُهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الشَّرِيطَةِ الثَّانِيَةِ.
الْقِسْمَةُ بِالْقُرْعَةِ:
44 - الْقُرْعَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْقِسْمَةِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ أَحَدٍ
مِنْ أَهْل الْفِقْهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي غَيْرِ
الْقِسْمَةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْمُنَازِعِينَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا
إِلاَّ فِي الْقِسْمَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَهُمْ يَقُولُونَ فِي
ذَلِكَ: إِنَّهَا قِمَارٌ لِتَعْلِيقِ الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى خُرُوجِهَا،
لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّ الْقَاسِمَ
الْمُجْبِرَ لَوْ عَيَّنَ لِكُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ دُونَ قُرْعَةٍ لَكَفَى،
إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ، لَكِنْ رُبَّمَا يُتَّهَمُ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 242، حواشي الخرشي 4 / 409.
(2) بلغة السالك 2 / 239، وحواشي الخرشي 4 / 401.
(3) الخرشي 4 / 401، بلغة السالك 2 / 239.
(33/237)
بِالْمُحَابَاةِ، فَيَلْجَأُ إِلَى
الْقُرْعَةِ لِئَلاَّ تَبْقَى رِيبَةٌ، وَلِذَا جَرَى الْعَمَل بِهَا
مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِ
النَّاسِ هَذَا، فَهِيَ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قُرْعَة) .
قِسْمَةُ الْمَنْقُول الْمُتَشَابِهِ:
وَأَصْلُهُ الْمِثْلِيُّ الْمُتَّحِدُ الصِّفَةِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِهِ مَا
فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْقِيَمِيِّ الَّذِي لاَ تَخْتَلِفُ الأَْنْصِبَاءُ
فِيهِ صُورَةً وَقِيمَةً كَبَعْضِ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْمِثْلِيِّ الْمُتَّحِدِ
الصِّفَةِ - عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي مَعْنَى الْمِثْلِيِّ - عَلَى
أَنَّ قِسْمَتَهُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَقْوِيمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ
مُجَرَّدُ إِفْرَازٍ بِطَرِيقِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ إِلَخْ، فَلاَ
تَعْدِيل وَلاَ رَدَّ، إِلاَّ أَنَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَا
يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُل كَالَّذِي لاَ يُدَّخَرُ مِثْل الْفَاكِهَةِ -
طَرِيقَةٌ أُخْرَى بِجَوَازِ قِسْمَتِهِ بِطَرِيقِ التَّحَرِّي
وَالْخَرْصِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيل
الْمَوْزُونِ لاَ غَيْرُ، بَل جَوَّزَ ابْنُ الْقَاسِمِ قِسْمَةَ
التَّحَرِّي فِيمَا يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ بِشَرْطَيْنِ: - أَنْ يَكُونَ
قَلِيلاً. - مَوْزُونًا كَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ (2) .
ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ تَرَاضِيًا، وَقَدْ تَكُونُ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 363.
(2) الخرشي وحواشيه 4 / 402.
(33/238)
إِجْبَارًا، إِذْ لاَ يُمْنَعُ
الإِْجْبَارُ هُنَا حَيْثُ لاَ ضَرَرَ إِلاَّ مُطْلِقُو مَنْعِهِ كَأَبِي
ثَوْرٍ فِي بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْهُ، وَقَدْ تَكُونُ جَمْعًا، كَمَا فِي
قِسْمَةِ كَمِّيَّةٍ مِنَ الْحُبُوبِ كَالْقَمْحِ أَوِ الشَّعِيرِ، وَقَدْ
تَكُونُ تَفْرِيقًا كَالسَّبِيكَةِ مِنْ ذَهَبٍ تُقْسَمُ وَزْنًا.
أَمَّا مَا أُلْحِقَ بِالْمِثْلِيِّ فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِسْمَتَهُ
كَقِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَجَمَاهِيرُ قُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فَعَلَى
التَّقْوِيمِ فِي كُل مُتَقَوَّمٍ (1) ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْمَتُهُ
قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ، وَالْمَفْرُوضُ أَنْ لاَ حَاجَةَ فِيهِ إِلَى رَدٍّ.
ثُمَّ قَدْ تَكُونُ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ حَيْثُ لاَ ضَرَرَ وَقَدْ تَكُونُ
تَرَاضِيًا، وَعِنْدَ التَّرَاضِي يَجُوزُ التَّفَاضُل عَلَى مَا تَقَدَّمَ
مِنْ بَيَانٍ (ر: ف 43) ، وَقَدْ تَكُونُ جَمْعًا، كَمَا فِي قِسْمَةِ
عَدَدٍ مِنَ الأَْغْنَامِ أَوِ الأَْبْقَارِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَقَدْ
تَكُونُ تَفْرِيقًا، كَمَا فِي قِسْمَةِ بِنَاءٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ مَعَ تَشَابُهِ أَجْزَائِهِ إِذَا جَرَيْنَا عَلَى أَنَّهُ
مَنْقُولٌ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَنْقُول الْمُتَشَابِهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ
بِدُونِهَا التَّفْصِيل السَّابِقُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْعَقَارِ.
__________
(1) التحفة وحواشيها 2 / 68.
(33/238)
قِسْمَةُ الْمَنْقُول غَيْرِ
الْمُتَشَابِهِ:
46 - تَتَنَوَّعُ قِسْمَةُ الْمَنْقُول غَيْرِ الْمُتَشَابِهِ
(كَالثِّيَابِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالأَْوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ،
وَالْحَيَوَانِ كَذَلِكَ) إِلَى أَنْوَاعٍ.
فَهُوَ لاَ يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ إِلاَّ تَعْدِيلاً بِطَرِيقِ
التَّقْوِيمِ، إِلاَّ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَكْتَفِي فِي تَحَقُّقِ
الْمِثْلِيَّةِ بِالتَّمَاثُل فِي مُعْظَمِ الصِّفَاتِ (ر: ف 43) ،
فَإِنَّهُ يُطَبِّقُ عِنْدَ هَذَا التَّمَاثُل مَا تَقَدَّمَ مِنَ
الْمَنْقُول الْمُتَشَابِهِ خَاصًّا بِالْمِثْلِيِّ (ر: ف 33) وَالأَْصْل
فِيهِ أَنْ تَكُونَ قِسْمَتُهُ قِسْمَةَ تَرَاضٍ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ
يَقْبَل الإِْجْبَارَ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ
إِلَى آخَرَ كَحَالَةِ اتِّحَادِ النَّوْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَتُقَارِبُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاتِّحَادُ الصِّنْفِ وَصِنْفُ
الصِّنْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فِي تَفْصِيلاَتٍ عَدِيدَةٍ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ بَعْضِهَا.
وَتَكُونُ قِسْمَتُهُ قِسْمَةَ تَفْرِيقٍ إِذَا قُسِمَ كُل وَاحِدٍ عَلَى
حِدَةٍ، وَقِسْمَةَ جَمْعٍ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ
قِسْمَةِ الرَّدِّ إِذَا تَرَاضَى عَلَيْهَا الْمُتَقَاسِمُونَ: كَأَنْ
يَأْخُذَ هَذَا الثِّيَابَ، وَذَاكَ الأَْوَانِيَ، وَيَدْفَعَ أَوْ
يَأْخُذَ الْفَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ مَا
يَدْفَعُ فَرْقًا (الْمُعَدِّل) مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، أَوْ بِدُونِ
تَقَيُّدٍ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي سَلَفَ،
لَكِنَّ قِسْمَةَ الإِْفْرَازِ لاَ تُتَصَوَّرُ هُنَا إِلاَّ عِنْدَ
الْمُتَوَسِّعِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمِثْلِيَّةِ.
(33/239)
مَسَائِل ذَاتُ اعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ:
47 - الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: قِسْمَةُ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لاَ تَقْبَل
الْقِسْمَةَ: كَالثَّوْبِ وَالإِْنَاءِ وَالْعَقَارِ الْوَاحِدِ الَّذِي
هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، أَعْنِي أَنَّ فِي قِسْمَتِهِ إِضْرَارًا
بِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ أَوْ بِبَعْضٍ مِنْهُمْ (1) ، أَوْ فَسَادًا
وَإِضَاعَةَ مَالٍ دُونَ نَفْعٍ مَا.
وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - مِنْ حَيْثُ الإِْجْبَارُ عَلَى
الْقِسْمَةِ أَوِ التَّرَاضِي عَلَيْهَا - يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي
بَيَانِ مَعْنَى الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ (2) ،
لَكِنْ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا فَضْل عِنَايَةٍ، وَلَهُمْ فِيهَا مَزِيدُ
بَيَانٍ، وَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِهِ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَفْرِيعًا عَلَى
ضَرَرِ الْقِسْمَةِ حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ لِلشَّرِيكَيْنِ - وَيَنُوبُ
الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ مِنْهُمَا، فَيُمْضِي لَهُ مَا يَرَاهُ -
الْخِيَارَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ:
1 - الإِْبْقَاءُ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَالاِنْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ
مُشْتَرَكَةً.
2 - بَيْعُ الْعَيْنِ وَاقْتِسَامُ ثَمَنِهَا، وَمِنْهُ أَوْ بِمَثَابَتِهِ
الْمُزَايَدَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ رُسُوِّ سِعْرِهَا فِي السُّوقِ (أَوْ
بَعْدَ تَقْوِيمِ خَبِيرٍ إِنْ لَمْ يَرْضَوُا السُّوقَ) - وَتُسَمَّى
الْمُقَاوَاةَ (3) - فَمَنْ رَغِبَ
__________
(1) على ما سلف من خلاف في الاعتداد بالضرر الخاص أو عدم الاعتداد،
والمالكية يعتدون به بإطلاق (ر: ف / 13) .
(2) الخرشي 4 / 274.
(33/239)
فِيهَا بِأَكْثَرَ أَخَذَهَا، وَإِذَا
اسْتَوَيَا فَالْمُمْتَنِعُ مِنَ الْبَيْعِ أَوْلَى بِأَخْذِهَا، ثُمَّ
عَلَى آخِذِهَا أَنْ يَدْفَعَ لِصَاحِبِهِ مُقَابِل حَقِّهِ فِي ثَمَنِ
الْجُمْلَةِ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ مَحْضَ فَسَادٍ كَقِسْمَةِ بِئْرٍ، أَمَّا
إِذَا كَانَتْ ضَارَّةً، مَعَ إِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَقْسُومِ
بَعْدَهَا انْتِفَاعًا مَا مُخَالِفًا لِجِنْسِ مَنْفَعَتِهَا قَبْل
الْقِسْمَةِ كَدَارٍ يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ مَرْبِطَيْنِ
لِدَابَّتَيْنِ، فَإِنَّ لِلشُّرَكَاءِ وَجْهًا ثَالِثًا مِنْ وُجُوهِ
الْخِيَارِ: هُوَ أَنْ يَقْتَسِمُوا الْعَيْنَ بِطَرِيقِ التَّرَاضِي.
إِلاَّ أَنَّ الإِْجْبَارَ عَلَى الْبَيْعِ مَشْرُوطٌ عِنْدَهُمْ بِعِدَّةِ
شَرَائِطَ.
أ - أَنْ يَطْلُبَ الْبَيْعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى
بَيْعِ الْعَيْنِ دُونَ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمَا
ب - أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَمِ قَابِلِيَّةِ
الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهُ مَعَ قَبُول الْقِسْمَةِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى
الْبَيْعِ مُؤْثِرُهَا عَلَيْهِ (1) .
ج - أَنْ يَنْقُصَ ثَمَنُ حِصَّةِ طَالِبِ الْبَيْعِ، لَوْ بِيعَتْ
مُنْفَرِدَةً، وَإِلاَّ فَلْيَبِعْ إِنْ شَاءَ حِصَّتَهُ وَحْدَهَا، إِذْ
لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
د - أَنْ لاَ يَلْتَزِمَ الشَّرِيكُ الآْخَرُ بِفَرْقِ الثَّمَنِ
الْمُتَرَتِّبِ عَلَى بَعْضِ الْحِصَّةِ مُنْفَرِدَةً، وَإِلاَّ فَلاَ
مَعْنَى لإِِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيْعِ.
هـ - أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ قَدْ مَلَكَا الْعَيْنَ
__________
(1) حواشي التحفة 2 / 73.
(33/240)
جُمْلَةً فَلَوْ مَلَكَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى حِدَةٍ، لَمَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي
إِجْبَارِ شَرِيكِهِ عَلَى الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ مِلْكٌ عَلَى حِدَةٍ
فَيَبِيعُ عَلَى حِدَةٍ، وَلَكِنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ ابْنُ
عَبْدِ السَّلاَمِ مِنْ كِبَارِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَال الْيَزْنَاسِيُّ:
الْعَمَل الآْنَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا (1) .
و أَنْ لاَ تَكُونَ الْعَيْنُ عَقَارًا لِلاِسْتِغْلاَل كَالْمَطْحَنِ
وَالْمَخْبَزِ وَالْمَصْنَعِ وَالْحَمَّامِ؛ لأَِنَّ عَقَارَ
الاِسْتِغْلاَل، أَوْ (رِيعَ الْغَلَّةِ) كَمَا يَقُولُونَ، لاَ تَنْقُصُ
قِيمَةُ الْحِصَّةِ مِنْهُ إِذَا بِيعَتْ مُفْرَدَةً، بَل رُبَّمَا
زَادَتْ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ (عَلَى أَنَّهَا
لَوْ سَلِمَتْ، فَإِنَّ شَرِيطَةَ نَقْصِ ثَمَنِ الْحِصَّةِ تُغْنِي
عَنْهَا) . (2)
وَحُجَّةُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الإِْجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ الْقِيَاسُ
عَلَى الشُّفْعَةِ بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ فِي كُلٍّ (3) ،
وَالْجَمَاهِيرُ مِنْ حَنَفِيَّةٍ وَشَافِعِيَّةٍ وَكَثِيرٌ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ يَرُدُّونَهُ بِأَنَّ الأَْصْل أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى
إِزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، (4) فَلاَ يُنْتَقَل عَنْهُ إِلاَّ
بِدَلِيلٍ نَاقِلٍ، وَلَيْسَ هُنَا هَذَا الدَّلِيل النَّاقِل، إِذِ
الْقِيَاسُ عَلَى الشُّفْعَةِ قِيَاسٌ
__________
(1) حواشي التحفة 2 / 72.
(2) الخرشي 4 / 413، التحفة وحواشيها 2 / 72، 73.
(3) الخرشي 4 / 413.
(4) سورة النساء / 28.
(33/240)
مَعَ الْفَارِقِ، فَلَوْ لَمْ تُشْرَعِ
الشُّفْعَةُ لَلَزِمَ ضَرَرٌ مُتَجَدِّدٌ عَلَى الدَّوَامِ، وَلاَ كَذَلِكَ
الْبَيْعُ مَعَ الشَّرِيكِ (1) ، وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ عَدَل ابْنُ رُشْدٍ
الْحَفِيدُ إِلَى الاِسْتِدْلاَل بِمُجَرَّدِ الاِسْتِصْلاَحِ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ إِنْزَال ضَرَرٍ بِالشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ،
فَهِيَ إِذَنْ مُوَازَنَةٌ بَيْنَ الضَّرَرَيْنِ، أَلاَ تَرَاهُ يَقُول:
وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ الْمُرْسَل (2) .
وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ يُوَافِقُونَ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى
إِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ، بَل يُطْلِقُونَ
الْقَوْل بِأَنَّ مَنْ دَعَا شَرِيكَهُ إِلَى الْبَيْعِ فِي كُل مَا لاَ
يَنْقَسِمُ إِلاَّ بِضَرَرٍ أَوْ رَدِّ عِوَضٍ أُجْبِرَ عَلَى إِجَابَتِهِ،
فَإِنْ أَبَى بِيعَ عَلَيْهِمَا وَقُسِمَ الثَّمَنُ وَيَزِيدُونَ أَنَّهُ
لَوْ دُعِيَ إِلَى الإِْجَارَةِ أُجْبِرَ أَيْضًا (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْبَيْعِ
لَيْسَ حَتْمًا لإِِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ،
بَل يَكْفِي طَلَبُ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ
الْقِيمَةِ لاَ فِي قِيمَةِ النِّصْفِ، فَلاَ يَصِل إِلَى حَقِّهِ إِلاَّ
بِبَيْعِ الْكُل، وَلِذَا أَمَرَ الشَّرْعُ فِي السِّرَايَةِ أَنْ
يُقَوَّمَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، ثُمَّ يُعْطَى الشُّرَكَاءُ قِيمَةَ
حِصَصِهِمْ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 20، مغني المحتاج 4 / 426.
(2) بداية المجتهد 2 / 268.
(3) الفروع 3 / 846.
(4) قواعد ابن رجب 145.
(33/241)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَيْنُ
الْمَاءِ.
48 - لاَ تُقْسَمُ لاَ جَبْرًا وَلاَ تَرَاضِيًا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ
قَسْمُهَا إِلاَّ بِوَضْعِ حَاجِزٍ فِيهَا أَوْ أَكْثَرَ بَيْنَ
النَّصِيبَيْنِ أَوِ الأَْنْصِبَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الضَّرَرِ وَنَقْصِ
الْمَاءِ مَا يَجْعَل الْقِسْمَةَ فَسَادًا، أَمَّا مَجْرَى الْمَاءِ إِذَا
اتَّسَعَ لِمَجْرَيَيْنِ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ تَرَاضِيًا لاَ
جَبْرًا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ، فَقَدْ يَكُونُ
انْدِفَاعُ الْمَاءِ فِي جَانِبٍ أَقْوَى مِنْهُ فِي الآْخَرِ، كَمَا أَنَّ
الْمَاءَ نَفْسَهُ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ تَرَاضِيًا، كَيْفَمَا شَاءَ
الشُّرَكَاءُ، أَمَّا جَبْرًا فَلاَ يُقْسَمُ إِلاَّ بِالْقِلْدِ - وَهُوَ
الْمِعْيَارُ الَّذِي يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِعْطَاءِ كُل ذِي حَقٍّ
حَقَّهُ (1) - هَكَذَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَأُصُول
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تَأْبَى مِنْ
قِسْمَةِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا تَرَاضِيًا لاَ إِجْبَارًا، كَمَا يُفْهَمُ
مِمَّا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الاِخْتِلاَفُ فِي رَفْعِ الطَّرِيقِ
وَمِقْدَارِهِ:
49 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَاسِمُونَ فِي قِسْمَةِ
دَارٍ أَوْ أَرْضٍ، فَقَال بَعْضُهُمْ: نَقْتَسِمُ وَلاَ نَدَعُ طَرِيقًا،
وَقَال بَعْضٌ: بَل نَدَعُهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي
التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْقِيقِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ عَلَى
الْكَمَال مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ كَانَ بِوُسْعِ كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ
يَتَّخِذَ
__________
(1) هذا هو المفهوم من سياق كلامهم، وفي محيط المحيط: القلد (بكسر فسكون)
الحظ من الماء، فقريب منه استعماله في آلته.
(2) الخرشي 4 / 410، بلغة السالك 2 / 242.
(33/241)
لِنَفْسِهِ طَرِيقًا عَلَى حِدَةٍ
اسْتَوْفَى مَعْنَى الْقِسْمَةِ، وَلَمْ يُبْقِ شَيْئًا مُشْتَرَكًا
بَيْنَهُمْ، وَإِلاَّ فَالْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي إِبْقَاءَ طَرِيقٍ
مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، إِذْ لاَ يَكْمُل الاِنْتِفَاعُ بِالْمَقْسُومِ
بِدُونِهِ، فَيُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، يَقْسِمُ مَا عَدَا الطَّرِيقَ،
وَيُبْقِي الطَّرِيقَ عَلَى الشَّرِكَةِ الأُْولَى دُونَ تَغْيِيرٍ، إِلاَّ
أَنْ يَقَعَ التَّشَارُطُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ، كَأَنْ
يَتَّفِقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ بَيْنَهُمْ عَلَى التَّفَاوُتِ وَقَدْ
كَانَ عَلَى التَّسَاوِي لأَِنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى التَّفَاوُتِ
بِالتَّرَاضِي جَائِزَةٌ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، أَوْ عَلَى أَنْ
يَجْعَلُوا مِلْكِيَّةَ الطَّرِيقِ لِبَعْضِهِمْ، وَحَقَّ الْمُرُورِ
فَحَسْبُ لِلآْخَرِينَ، وَقَيَّدُوهُ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ
بِأَنْ تَكُونَ مِلْكِيَّةُ الطَّرِيقِ لِمَنْ تَرَكَ مُقَابِلاً لَهُ مِنْ
نَصِيبِهِ، وَأَهْمَلُوهُ فِي الْمَجَلَّةِ (1) ،
فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّرِيقِ فَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي
سَعَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي ضِيقِهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي عُلُوِّهِ،
وَبَعْضُهُمْ فِي انْخِفَاضِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُهُ عَلَى
عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَارْتِفَاعِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا يُحَقِّقُ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ، وَلاَ تَتَطَلَّبُ الْحَاجَةُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،
وَإِنَّمَا يُحَدَّدُ ارْتِفَاعُهُ بِمَا ذَكَرْنَا لِيَتَمَكَّنَ
الشُّرَكَاءُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَوَائِهِ وَرَاءَ هَذَا الْمِقْدَارِ،
كَأَنْ يُشْرِعَ أَحَدُهُمْ جَنَاحًا؛ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ بَاقٍ عَلَى
خَالِصِ حَقِّهِ، إِذِ الْهَوَاءُ فِيمَا فَوْقَ ارْتِفَاعِ الْبَابِ
مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ، كَمَا أَنَّ هَذَا
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 365، 366، رد المحتار 5 / 173. ترى اللجنة أن هذا
متأثر بأعراف زمانهم، أما الآن فقلما يحتاج إلى مرور ثور وتكاد تكون الحاجة
منحصرة في مرور العربات والجرارات الزراعية فينبغي اتخاذ الحجم الغالب
للجرارات الزراعية معيارًا. هذا متعين الآن لرفع الحرج والضرر، في كل موطن
ب
(2) نيل الأوطار 5 / 262، الخرشي 4 / 277، قواعد ابن رجب 202. وحديث: " إذا
اختلفتم في الطريق. . . " أخرجه مسلم (3 / 1232) .
(33/242)
مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنْ
لَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ إِشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ، مَهْمَا كَانَ
ارْتِفَاعُهُ إِلاَّ بِرِضَا سَائِرِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ
كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ رَأْيٌ بِالْجَوَازِ،
بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِحَجْبِ ضَوْءٍ أَوْ تَعْوِيقِ رَاكِبٍ
مَثَلاً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَالأَْشْبَهُ بِمَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْل:
50 - الْعُلُوُّ وَالسُّفْل لِبَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ لِبَيْتَيْنِ، أَوْ
مَنْزِلَيْنِ مُتَلاَصِقَيْنِ، فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَتَصْوِيرُهُ فِي
حَالَةِ التَّعَدُّدِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ (الْعُلُوِّ
وَالسُّفْل) مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالآْخَرُ لِثَالِثٍ (3) .
وَهَل الْعُلُوُّ وَالسُّفْل جِنْسٌ (نَوْعٌ) وَاحِدٌ مُتَّحِدُ الصِّفَةِ
فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، لاَ بِاعْتِبَارِ
الْقِيمَةِ: أَيْ أَنَّهُمَا يُقْسَمَانِ بِالذَّرْعِ وَالْمِسَاحَةِ،
وَالْقَسْمُ فِي السَّاحَةِ مِنَ السَّطْحِ أَوِ الأَْرْضِ لاَ فِي
الْبِنَاءِ، أَمْ هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مُخْتَلِفُ الصِّفَةِ، فَلاَ
يُمْكِنُ تَعْدِيل قِسْمَتِهِمَا قِسْمَةَ جَمْعٍ، إِلاَّ بِاعْتِبَارِ
الْقِيمَةِ؟
بِالأَْوَّل قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَبِالثَّانِي قَال
مُحَمَّدٌ، وَمَحَل النِّزَاعِ إِنَّمَا هُوَ فِي
__________
(1) قواعد ابن رجب 202، حواشي الخرشي 4 / 277.
(2) الخرشي 4 / 278، منهاج الطالبين بتعليق السراج 235، دليل الطالب 118.
(3) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 366.
(33/243)
قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، لاَ فِي قِسْمَةِ
التَّرَاضِي، إِذْ لِلْمُتَقَاسِمِينَ أَنْ يَتَرَاضَوْا عَلَى مَا شَاءُوا
فِي مِثْل هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا
هُوَ السُّكْنَى، وَلاَ تَفَاوُتَ فِي أَصْل السُّكْنَى بَيْنَ عُلُوٍّ
وَسُفْلٍ، فَلاَ نُبَالِي بِتَفَاوُتِهِمَا فِي مَرَافِقَ أُخْرَى مِنْ
مِثْل اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ، وَاتِّقَاءِ الْحَرِّ.
وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَجَاهُل الْمَرَافِقِ
الأُْخْرَى لِتَأْثِيرِهَا الْبَالِغِ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ، وَإِلاَّ
كَانَتْ قِسْمَةً جَائِرَةً، وَالتَّعْدِيل هُوَ أَسَاسُ قِسْمَةِ
الإِْجْبَارِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْل
مَرَافِقَهُ الْخَاصَّةَ، فَفِي الْوُسْعِ أَنْ يُتَّخَذَ فِي السُّفْل،
دُونَ الْعُلُوِّ، بِئْرٌ أَوْ سِرْدَابٌ أَوْ إِصْطَبْلٌ، وَأَنْ يُتَّقَى
فِي الْعُلُوِّ، دُونَ السُّفْل التَّأْثِيرُ الضَّارُّ لِلرُّطُوبَةِ
عَلَى الْجُدْرَانِ وَأُسُسِهَا، وَأَنْ يُسْتَنْشَقَ الْهَوَاءُ فِي
وَفْرَةٍ وَنَقَاءٍ، وَأَغْرَاضُ النَّاسِ إِذْ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ
الْمَرَافِقُ، تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا بَعِيدَ الْمَدَى فِي كُل زَمَانٍ
وَمَكَانٍ.
وَيَقُول الْقُدُورِيُّ: قُوِّمَ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَقُسِمَ
بِالْقِيمَةِ، وَلاَ مُعْتَبَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَقُول صَاحِبُ
الْهِدَايَةِ: وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 366.
(33/243)
وَبَعْدَ اتِّفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ وَالْمِسَاحَةِ، دُونَ
الْقِيمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ
أَتَكُونُ ذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعٍ مِنَ الْعُلُوِّ؟ أَمْ
ذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ؟ بِالثَّانِي قَال
أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالأَْوَّل قَال أَبُو يُوسُفَ.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ
السُّكْنَى، وَلاَ تَفَاوُتَ فِيهَا؛ لأَِنَّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ
يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ دُونَ رِضَاءِ صَاحِبِ السُّفْل أَوْ غَيْرِهِ،
كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْل أَنْ يَبْنِيَ عَلَى سُفْلِهِ دُونَ
رِضَاءٍ مِنْ أَحَدٍ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صَاحِبَ
الْعُلُوِّ لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ إِلاَّ
بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْل، تَحَقَّقَ عِنْدَهُ تَفَاوُتٌ فِي الْمَقْصُودِ
- وَهُوَ السُّكْنَى - عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ
تَفَاوُتٌ فِي أَصْل السُّكْنَى، فَصَاحِبُ السُّفْل يَسْكُنُ - وَهَذِهِ
مَنْفَعَةٌ - وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَ سُفْلِهِ لِيَتَوَسَّعَ فِي
السُّكْنَى كَمَا شَاءَ - وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى - وَلَيْسَ
لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إِلاَّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ، هِيَ أَصْل السُّكْنَى،
دُونَ التَّوَسُّعِ فِيهَا بِالْبِنَاءِ عَلَى عُلُوِّهِ، فَإِذَا كَانَ
ثَمَّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي مُقَابِل مَنْفَعَتَيْنِ كَانَتِ
الْعَدَالَةُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ كَذَلِكَ عَلَى الثُّلُثِ
وَالثُّلُثَيْنِ؛ لأَِنَّ الثُّلُثَ مَعَ مَنْفَعَتَيْنِ يَعْدِل
الثُّلُثَيْنِ مَعَ مَنْفَعَةٍ وَاحِدَةٍ.
(33/244)
فَإِذَا كَانَ سُفْلٌ مِنْ بَيْتٍ،
وَعُلُوٌّ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ، وَكَانَا بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَطَلَبَ
أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُمَا، يُقْسَمُ الْبِنَاءُ بِالْقِيمَةِ دُونَ
نِزَاعٍ مِنْ أَحَدٍ، وَأَمَّا السَّاحَةُ (الْعَرْصَةُ) فَتُقْسَمُ
بِالذَّرْعِ أَيِ الْمِسَاحَةِ، ذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعَيْنِ مِنَ
الْعُلُوِّ، أَيْ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ عِنْدَ الإِْمَامِ،
وَذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعٍ مِنَ الْعُلُوِّ، أَيْ عَلَى
التَّسَاوِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوَّمَانِ
وَيُقْسَمَانِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ التَّسَاوِي وَلاَ
التَّثْلِيثُ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ قُسِمَا ذِرَاعًا
بِذِرَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ضِعْفَ قِيمَةِ الآْخَرِ
قُسِمَا ذِرَاعًا مِنَ الأَْعْلَى بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الآْخَرِ أَيًّا مَا
كَانَ.
فَإِذَا كَانَ بَيْتٌ تَامٌّ (سُفْلٌ وَعُلُوٌّ) ، وَعُلُوٌّ فَقَطْ مِنْ
بَيْتٍ آخَرَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يُقْسَمُ
الْبِنَاءُ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ تَكُونُ قِسْمَةُ السَّاحَةِ أَرْبَاعًا
عِنْدَ الإِْمَامِ، إِذْ يُحْسَبُ كُل ذِرَاعٍ مِنَ الْبَيْتِ التَّامِّ
بِثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ مِنَ الْعُلُوِّ وَحْدِهِ، وَتَكُونُ أَثْلاَثًا
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، إِذْ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنَ الْبَيْتِ التَّامِّ
بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ فَقَطْ، وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عِنْدَ
مُحَمَّدِ كَمَا تَقْتَضِيهِ قِسْمَةُ الْقِيمَةِ، دُونَ قُيُودٍ.
وَإِذَا كَانَ بَيْتٌ تَامٌّ (سُفْلٌ وَعُلُوٌّ) ، وَسُفْلٌ فَقَطْ مِنْ
بَيْتٍ آخَرَ بَعْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يُقْسَمُ الْبِنَاءُ
بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ تَكُونُ قِسْمَةُ السَّاحَةِ عِنْدَ الإِْمَامِ عَلَى
أَسَاسِ ذِرَاعٍ مِنَ
(33/244)
الْبَيْتِ التَّامِّ بِذِرَاعٍ وَنِصْفٍ
مِنَ السُّفْل فَقَطْ، وَتَكُونُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَثْلاَثًا، إِذْ
يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنَ الْبَيْتِ التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ مِنَ السُّفْل
فَقَطْ، وَيَقْسِمُ مُحَمَّدٌ حَسَبَ الْقِيمَةِ، كَيْفَمَا اقْتَضَتْ.
هَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ (1) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ:
إِذَا تَمَّتْ قِسْمَةُ الأَْعْيَانِ عَلَى الصِّحَّةِ تَرَتَّبَتْ
عَلَيْهَا آثَارٌ شَتَّى، مِنْ أَهَمِّهَا:
51 - أَوَّلاً: لُزُومُ الْقِسْمَةِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَلْزَمُ الْقِسْمَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ
لِلْخِيَارِ (ر: ف 54) ، فَإِنَّهَا لاَ تَقْبَل الرُّجُوعَ بِالإِْرَادَةِ
الْمُنْفَرِدَةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَنْقُضَهَا وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ
وَيَرُدَّ الْمَال إِلَى الشَّرِكَةِ، دُونَ اتِّفَاقٍ مِنْ جَمِيعِ
الْمُتَقَاسِمِينَ.
وَتَتِمُّ الْقِسْمَةُ بِتَعْيِينِ الْقَاسِمِ لِكُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْقَاسِمُ هُوَ قَاسِمَ الْقَاضِي أَمْ قَاسِمًا
حَكَّمُوهُ بَيْنَهُمْ لِيَقُومَ بِهَذَا التَّعْيِينِ، وَإِلْزَامِ كُل
وَاحِدٍ بِالنَّصِيبِ الَّذِي يُفْرِزُهُ لَهُ - سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ
بِقُرْعَةٍ أَمْ بِدُونِهَا (2) ، كَمَا تَتِمُّ إِذَا اقْتَسَمُوهُمْ
بِالتَّرَاضِي - دُونَ تَحْكِيمِ مُحَكَّمٍ مُلْزِمٍ - وَاقْتَرَعُوا
اقْتِرَاعًا تَامًّا خَرَجَتْ بِهِ جَمِيعُ الأَْجْزَاءِ (السِّهَامِ)
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 266 - 369، بدائع الصنائع 7 / 27.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 363، الفتاوى الهندية 5 / 217.
(33/245)
لأَِرْبَابِهَا، وَيَكْفِي لِذَلِكَ
إِجْرَاءُ الْقُرْعَةِ عَلَى جَمِيعِ الأَْجْزَاءِ عَدَا الْجُزْءِ
الأَْخِيرِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَيَّنُ تِلْقَائِيًّا لِمَنْ بَقِيَ مِنَ
الشُّرَكَاءِ، وَإِذَنْ فَيَكُونُ لِبَعْضِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
حَقُّ الرُّجُوعِ أَثْنَاءَ الْقُرْعَةِ أَيْ قَبْل أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى
هَذِهِ الْغَايَةِ (1) ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَخْدِمُوا الْقُرْعَةَ
وَاكْتَفَوْا بِالتَّرَاضِي عَلَى أَنْ يَخْتَصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِنَصِيبٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ هَذَا
التَّرَاضِي، بَل يَتَوَقَّفُ تَمَامًا عَلَى قَبْضِ كُل وَاحِدٍ
نَصِيبَهُ، أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي (2) .
وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَا عَلَى
أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ مُؤَخِّرِهَا بِجَمِيعِ
حُقُوقِهِ، وَيَأْخُذَ الآْخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُقَدِّمِهَا بِجَمِيعِ
حُقُوقِهِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ، مَا لَمْ
تَقَعِ الْحُدُودُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا بِمَا قَالاَ
قَبْل وُقُوعِ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا بَعْدَ
وُقُوعِ الْحُدُودِ.
فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ رُجُوعٌ مُعْتَبَرٌ، أَوِ اعْتِرَاضٌ وَعَدَمُ رِضًا
أُعِلْنَ بِهِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَى الرِّضَا، فَإِنَّ الْعُدُول بَعْدَ
ذَلِكَ إِلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا لاَ
يُجْدِي فَتِيلاً؛ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ (3) .
أَمَّا الرُّجُوعُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُتَقَاسِمِينَ فَهُوَ
__________
(1) رد المحتار 5 / 172.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 217.
(3) رد المحتار 5 / 176.
(33/245)
تَقَايُلٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أُصُول
الْحَنَفِيَّةِ وَنُصُوصَ بَعْضِ مُتُونِهِمْ وَشُرَّاحِهِمْ تَقْتَضِي
إِطْلاَقَ قَبُولِهِ.
وَعِبَارَةُ مَتْنِ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ وَشَرْحِهِ: الْقِسْمَةُ
تَقْبَل النَّقْصَ، فَلَوِ اقْتَسَمُوا وَأَخَذُوا حِصَصَهُمْ، ثُمَّ
تَرَاضَوْا عَلَى الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ صَحَّ، وَعَادَتِ الشَّرِكَةُ
فِي عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُطْلِقُونَ الْقَوْل بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ
إِذَا صَحَّتْ، سَوَاءٌ بِقُرْعَةٍ أَمْ بِدُونِهَا، وَلاَ تَصِحُّ
قِسْمَةُ الإِْجْبَارِ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ إِلاَّ
بِقُرْعَةٍ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ لَمْ يُمَكَّنْ
مِنْهُ، وَيُعَلِّلُونَهُ بِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ مَعْلُومٍ إِلَى
مَجْهُولٍ (2) ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَيْضًا مَنْعُ
التَّقَايُل بِاتِّفَاقِ الْمُتَقَاسِمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ
رُشْدٍ الْحَفِيدُ، إِذْ يَقُول: الْقِسْمَةُ مِنَ الْعُقُودِ
اللاَّزِمَةِ، لاَ يَجُوزُ لِلْمُتَقَاسِمِينَ نَقْضُهَا وَلاَ الرُّجُوعُ
فِيهَا، إِلاَّ بِالطَّوَارِئِ عَلَيْهَا (3) ، وَهُوَ نَقِيضُ مَا صَرَّحَ
بِهِ الدَّرْدِيرُ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي (4) ، لَكِنَّ الْمُدَوَّنَةَ
صَرِيحَةٌ فِيمَا قَرَّرَهُ الأَْوَّلُونَ: فَقَدْ سَأَل سَحْنُونٌ ابْنَ
الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ دَارًا بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ
تَرَاضَيْنَا فِي أَنْ جَعَلْتُ لَهُ طَائِفَةً مِنَ الدَّارِ عَلَى أَنْ
جَعَل
__________
(1) رد المحتار 5 / 176.
(2) الخرشي 4 / 412، بلغة السالك 2 / 243.
(3) بداية المجتهد 2 / 270.
(4) بلغة السالك 2 / 238.
(33/246)
لِي طَائِفَةً أُخْرَى، فَرَجَعَ أَحَدُنَا
قَبْل أَنْ تُنْصَبَ الْحُدُودُ بَيْنَنَا؟ . فَأَجَابَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُمَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا عِنْدَ
مَالِكٍ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ مِنَ
الْبُيُوعِ.
وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَقْبَل
الرُّجُوعَ بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَلاَ الْمُجْتَمِعَةِ، لَكِنْ
فِيمَا كَانَ مِنَ الْقِسْمَةِ مَحْضَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ، وَهَذِهِ هِيَ
الْقِسْمَةُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا عَدَا قِسْمَةِ الرَّدِّ فِي قِيل
اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ، أَمَّا مَا هُوَ مِنْهَا بَيْعٌ، فَإِنَّهُ
عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لاَزِمٌ بِمُجَرَّدِ التَّرَاضِي وَالتَّفَرُّقِ.
وَيَقْبَل التَّقَايُل كَالْبَيْعِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا اسْتُخْدِمَتِ
الْقُرْعَةُ تَوَقَّفَ لُزُومُ الْقِسْمَةِ عَلَى خُرُوجِهَا، وَعَلَى
الرِّضَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، هَذَا فِي قِسْمَةِ
التَّرَاضِي، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، فَيَتَوَقَّفُ اللُّزُومُ
عَلَى خُرُوجِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وَقَعَتِ الْقِسْمَةُ بِتَرَاضٍ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ رِضًا بِهَا بَعْدَ
خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، سَوَاءٌ فِي قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ أَوِ الرَّدِّ
أَوِ التَّعْدِيل، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ وَالتَّعْدِيل فَلأَِنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا بَيْعٌ، وَالْبَيْعُ لاَ يَحْصُل بِالْقُرْعَةِ،
فَافْتَقَرَ إِلَى الرِّضَا بَعْدَ خُرُوجِهِمَا كَقَبْلِهِ، وَأَمَّا فِي
غَيْرِهِمَا فَقِيَاسًا عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمَا: رَضِينَا
بِهَذِهِ
__________
(1) المدونة 14 / 169.
(33/246)
الْقِسْمَةِ أَوْ بِهَذَا أَوْ بِمَا
أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ وَقَعَتْ إِجْبَارًا لَمْ يُعْتَبَرْ
فِيهَا تَرَاضٍ، لاَ قَبْل الْقُرْعَةِ وَلاَ بَعْدَهَا، أَوْ وَقَعَتْ
بِدُونِ قُرْعَةٍ أَصْلاً بِأَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ
أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ وَالآْخَرُ الآْخَرَ، أَوْ أَحَدُهُمَا
الْخَسِيسَ وَالآْخَرُ النَّفِيسَ وَيَرُدَّ زَائِدَ الْقِسْمَةِ فَلاَ
حَاجَةَ إِلَى تَرَاضٍ ثَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا - اسْتِقْلاَل كُل وَاحِدٍ بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَالتَّصَرُّفُ
فِيهِ:
52 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِقْلاَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ
بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَأَيِّ
مَالِكٍ فِيمَا يَمْلِكُ، لأَِنَّ هَذَا هُوَ ثَمَرَةُ الْقِسْمَةِ
وَمَقْصُودُهَا (2) .
وَيَذْكُرُ الْحَنَفِيَّةُ هُنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ الْفَاسِدَةَ،
كَالَّتِي شُرِطَ فِيهَا هِبَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ بَيْعٌ مِنَ
الْمَقْسُومِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيْضًا هَذَا
الاِسْتِقْلاَل بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الضَّمَانِ
بِالْقِيمَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَيَرُدُّونَ مَا قَال ابْنُ
نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ مِنْ نَفْيِ هَذَا التَّرَتُّبِ؛ لأَِنَّهُ
بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ وَالْبُطْلاَنَ فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ (3) ، وَالَّذِي قَالَهُ
__________
(1) المهذب 2 / 309، ونهاية المحتاج 8 / 276، الشرقاوي على التحرير 2 /
499، والإنصاف 11 / 353 - 354.
(2) رد المحتار 5 / 166، الخرشي 4 / 399، ومغني المحتاج 4 / 418، والمغني
11 / 488.
(3) رد المحتار 5 / 176، الفتاوى الهندية 5 / 211.
(33/247)
ابْنُ نُجَيْمٍ هُوَ مَذْهَبُ
الْجَمَاهِيرِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَقَدْ ضَرَبَ صَاحِبُ
الْبَدَائِعِ هُنَا عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي
يَمْلِكُهَا كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ فِي نَصِيبِهِ دُونَ أَنْ
يَكُونَ لِمُقَاسِمِهِ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ أَوِ الْمَنْعِ، وَذَلِكَ إِذْ
يَقُول: لَوْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَاحَةٌ لاَ
بِنَاءَ فِيهَا، وَوَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ، فَلِصَاحِبِ
السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ،
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ
عَلَيْهِ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ؛ لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ
نَفْسِهِ، فَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي
سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى، لِمَا
قُلْنَا.
وَكَذَا لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا - أَيِ
الَّذِي يُبَيِّضُ الثِّيَابَ (2) - وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ،
لِمَا قُلْنَا.
وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً - أَيِ الثُّقْبَةَ فِي
الْحَائِطِ (3) - لِمَا ذَكَرْنَا؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ
الْجِدَارَ أَصْلاً، فَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ أَوْلَى.
وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ
كِرْيَاسًا - أَيْ كَنِيفًا فِي أَعْلَى السَّطْحِ (4)
__________
(1) أشباه السيوطي 286.
(2) المصباح المنير.
(3) المصباح المنير.
(4) المصباح المنير.
(33/247)
وَإِنْ كَانَ يَهِي بِذَلِكَ حَائِطُ
جَارِهِ، وَلَوْ طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيل ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى
التَّحْوِيل، وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لاَ يَضْمَنُ؛
لأَِنَّهُ لاَ صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالأَْصْل أَنْ لاَ
يُمْنَعَ الإِْنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، إِلاَّ
أَنَّ الْكَفَّ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ (1) .
ثَالِثًا لِلْمُتَقَاسِمِينَ إِحْدَاثُ أَبْوَابٍ وَنَوَافِذَ فِي
السِّكَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ:
53 - وَهَذَا مِمَّا يَقَعُ كَثِيرًا؛ لأَِنَّ قِسْمَةَ الدَّارِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِدْخَال تَعْدِيلاَتٍ كَثِيرَةٍ، وَتَهْيِئَةُ
مَرَافِقَ لَمْ تَكُنْ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فِي السِّكَّةِ
الْمَذْكُورَةِ الْحَيْلُولَةُ دُونَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ لِلْمُتَقَاسِمِينَ
أَنْ يُزِيلُوا الْجُدْرَانَ فَأَوْلَى أَنْ يَفْتَحُوا فِيهَا مَا شَاءُوا
مِنْ أَبْوَابٍ وَكُوًى.
هَكَذَا قَرَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَطْلَقَهُ
(2) وَالَّذِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْتَحَ
بَابًا فِي السِّكَّةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ هُوَ مَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِهَا، وَهُوَ مَنْ لَهُ فِيهَا بَابٌ، لاَ مَنْ لاَصَقَهَا جِدَارُهُ،
ثُمَّ الَّذِي لَهُ فِيهَا بَابٌ لاَ يَمْلِكُ عِنْدَهُمْ فَتْحَ بَابٍ
آخَرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، وَهُوَ
مُفَادُ مُتُونِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا (3) ، لَكِنْ زَادَ
الشَّافِعِيَّةُ شَرِيطَةً أُخْرَى لِفَتْحِ بَابٍ جَدِيدٍ، هِيَ أَنْ
يُغْلَقَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 28، 29.
(2) بدائع الصنائع 7 / 29.
(3) شرح المجلة للأتاسي 3 / 117.
(33/248)
الأَْوَّل، هَذَا عِنْدَ الْمُشَاحَّةِ،
أَمَّا بِالتَّرَاضِي فَلاَ كَلاَمَ. (1)
كَمَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُصَرِّحُونَ بِمَنْعِ فَتْحِ بَابِ قُبَالَةَ
بَابٍ آخَرَ لِشَرِيكٍ فِي السِّكَّةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ؛ لأَِنَّهُ
يُؤْذِيهِ وَيُسِيءُ إِلَى أَهْلِهِ. (2)
مَا يَطْرَأُ عَلَى الْقِسْمَةِ:
54 - قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا أُمُورٌ قَدْ
يَرَى الشُّرَكَاءُ أَوْ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِهَا إِعَادَةَ النَّظَرِ
بِالْقِسْمَةِ وَمِنْهَا:
أ - الْغَبْنُ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَ
يَسِيرًا مُحْتَمَلاً فَهَذَا قَلَّمَا تَخْلُو مِنْهُ قِسْمَةٌ وَلِذَا
لاَ تُسْمَعُ دَعْوَى مَنْ يَدَّعِيهِ وَلاَ تُقْبَل بَيِّنَتُهُ، أَمَّا
الْغَبْنُ الْفَاحِشُ - الَّذِي لاَ يُتَسَامَحُ فِيهِ عَادَةً، فِي كُل
قَضِيَّةٍ بِحَسَبِهَا - فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُسْمَعُ فِيهِ الدَّعْوَى
وَالْبَيِّنَةُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَبْن ف 7) .
ب - الْعَيْبُ:
لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلاَنِ الْقِسْمَةِ بِظُهُورِ الْعَيْبِ فِي بَعْضِ
الأَْنْصِبَاءِ إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَيْسَ هُوَ أَصْل الْمَذْهَبِ،
وَإِنَّمَا أَبْدَوْهُ احْتِمَالاً بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْدِيل مِنْ
شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، (3) وَأَحَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَحْكَامَ
__________
(1) المنهاج بتعليق السراج 235.
(2) الخرشي 4 / 278، بلغة السالك 2 / 126.
(3) المغني 11 / 510، والإنصاف 11 / 263.
(33/248)
الْعَيْبِ عَلَى أَحْكَامِهِ فِي
الْبَيْعِ، وَبَسَطَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَحْثَ فِي الْعَيْبِ فِي
الْقِسْمَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَيْب ف 39) .
ج - الاِسْتِحْقَاقُ:
إِذَا اسْتُحِقَّ جَمِيعُ الْمَال الْمَقْسُومِ يَتَبَيَّنُ أَنْ لاَ
قِسْمَةَ لأَِنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحَلًّا، وَإِذَا اسْتُحِقَّ نَصِيبُ
أَحَدِ الْمُتَقَاسِمِينَ أَوْ بَعْضُ نَصِيبِهِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحْقَاق ف 36) .
قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ:
55 - وَتُسَمَّى قِسْمَةَ الْمُهَايَأَةِ، بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ
وَتَسْهِيلِهَا، (1) وَهِيَ فِي أَصْل اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ
الْهَيْئَةِ قَال فِي الْمِصْبَاحِ: تَهَايَأَ الْقَوْمُ تَهَايُؤًا مِنَ
الْهَيْئَةِ، جَعَلُوا لِكُل وَاحِدٍ هَيْئَةً مَعْلُومَةً وَالْمُرَادُ
النَّوْبَةُ. وَهِيَ شَرْعًا: قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ: لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ
فِيهَا، إِمَّا أَنْ يَرْضَى بِهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَخْتَارَهَا،
وَإِمَّا أَنَّ الشَّرِيكَ الثَّانِيَ يَنْتَفِعُ بِالْعَيْنِ عَلَى
الْهَيْئَةِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا انْتِفَاعُ شَرِيكِهِ الأَْوَّل.
مَشْرُوعِيَّتُهَا:
56 - الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ قِسْمَةِ
الْمَنَافِعِ لأَِنَّهَا مُبَادَلَةُ مَنْفَعَةٍ بِجِنْسِهَا نَسِيئَةً،
إِذْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ يَنْتَفِعُ
__________
(1) حكى المالكية فيها عدة لغات فراجعها (الخرشي وحواشيه 4 / 400) .
(33/249)
بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنِ
انْتِفَاعِ شَرِيكِهِ بِمِلْكِهِ (1) ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ إِلَى
الْقَوْل بِجَوَازِهَا اسْتِحْسَانًا، لِمَا قَامَ مِنْ دَلاَئِل
مَشْرُوعِيَّتِهَا إِذْ هَذِهِ الْمَشْرُوعِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ - حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ
صَالِحٍ يُخَاطِبُ قَوْمَهُ: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (2) إِذْ هُوَ يَدُل عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ
الزَّمَانِيَّةِ بِنَصِّهِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا
شَرْعٌ لَنَا، مَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ وَمَا لَمْ
يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ - وَعَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ
الْمَكَانِيَّةِ بِدَلاَلَتِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أَشْبَهُ مِنَ
الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ، إِذْ كِلاَ
الشَّرِيكَيْنِ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، دُونَ تَرَاخٍ
عَنْ صَاحِبِهِ. (3)
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ جَاءَ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ
بَيْنَ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ بَعِيرٌ يَتَهَايَئُونَ فِي رُكُوبِهِ (4)
وَهَذِهِ مُهَايَأَةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَالْمَكَانِيَّةُ أَوْلَى مِنْهَا
بِالْجَوَازِ، كَمَا عَلِمْنَاهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ الرَّجُل الَّذِي رَغِبَ فِي خِطْبَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ رَأَى
إِعْرَاضَ النَّبِيِّ، عَرَضَ إِزَارَهُ
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 377.
(2) سورة الشعراء / 155.
(3) البدائع 7 / 32.
(4) حديث: " أنهم كانوا يوم بدر بين ثلاثة نفر بعير. . . " أخرجه أحمد (1 /
218) من حديث عبد الله بن مسعود.
(33/249)
مَهْرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهُ،
فَقَال صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ
لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ
يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ (1) - يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الشَّأْنَ فِي قِسْمَةِ
مَا لاَ يَنْقَسِمُ - وَلاَ يَحْتَمِل الاِجْتِمَاعَ عَلَى مَنْفَعَتِهِ
فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ - أَنْ يُقْسَمَ عَلَى التَّهَايُؤِ. (2)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَلاَ يُعْرَفُ فِي صِحَّةِ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ
عَلَى الْجُمْلَةِ نِزَاعٌ لأَِحَدٍ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ. قَدْ
يَتَعَذَّرُ الاِجْتِمَاعُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،
فَلَوْ لَمْ تُشْرَعْ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ لَضَاعَتْ مَنَافِعُ
كَثِيرَةٌ، وَتَعَطَّلَتْ أَعْيَانٌ إِنَّمَا خَلَقَهَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُ لِيُنْتَفَعَ بِهَا، وَلاَ يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي عَقْلٍ أَوْ
شَرْعٍ حَكِيمٍ. (3)
مَحَل قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ:
57 - تَكُونُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ إِذَا صَادَفَتْ مَحَلَّهَا،
وَتَرَاضَى عَلَيْهَا الشُّرَكَاءُ، أَوْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمْ
وَالْقِسْمَةُ الْعَيْنِيَّةُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، أَوْ مُمْكِنَةٌ وَلَكِنْ
لَمْ يَطْلُبْهَا شَرِيكٌ آخَرُ، وَالْمَنْفَعَةُ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ
تَفَاوُتًا يُعْتَدُّ بِهِ. أَوْ تَعَذَّرَ الاِجْتِمَاعُ عَلَى
__________
(1) حديث: " الرجل الذي رغب في خطبة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله
عليه وسلم " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 78) من حديث سهل بن سعد.
(2) الزيلعي على الكنز 5 / 275.
(3) الزيلعي على الكنز 5 / 275.
(33/250)
الاِنْتِفَاعِ (1) .
وَالْمَنَافِعُ، كَمَا هُوَ فَرْضُ الْكَلاَمِ، أَيْ مَنَافِعُ
الأَْعْيَانِ الَّتِي يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ
أَعْيَانِهَا، فَلاَ يَصِحُّ التَّهَايُؤُ عَلَى الْكِتَابَةِ مِنْ
مِحْبَرَةٍ مَثَلاً (2) ، وَلاَ عَلَى الْغَلاَّتِ الْمُتَمَثِّلَةِ
أَعْيَانًا بِطَبِيعَتِهَا كَالثِّمَارِ وَاللَّبَنِ؛ لأَِنَّ التَّهَايُؤَ
الَّذِي هُوَ شَكْل قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، إِنَّمَا جَازَ ضَرُورَةً أَنَّ
الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ سَيَّالَةٌ لاَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بَعْدَ
وُجُودِهَا لِتَقَضِّيهَا وَعَدَمِ بَقَائِهَا زَمَانَيْنِ، فَقُسِمَتْ
قَبْل وُجُودِهَا بِالتَّهَايُؤِ فِي مَحَلِّهَا، أَمَّا الأَْعْيَانُ
الَّتِي هِيَ غَلاَّتٌ فَتَبْقَى وَتُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بِذَوَاتِهَا،
فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّهَايُؤِ فِي قِسْمَتِهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ
الْغَرَرِ، (3) فَالأَْرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ
اثْنَيْنِ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بِالْمُهَايَأَةِ: كَأَنْ يَأْخُذَ كُل
وَاحِدٍ نِصْفَهَا، أَوْ يَأْخُذَهَا أَحَدُهُمَا كُلَّهَا فَتْرَةً
مُعَيَّنَةَ مِنَ الزَّمَنِ ثُمَّ الآْخَرُ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذِهِ
قِسْمَةُ مَنَافِعِ الأَْرْضِ بِزِرَاعَتِهَا، أَمَّا النَّخْل وَشَجَرُ
الْفَاكِهَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَيَتَقَاسَمَانِ عَلَى نَحْوِ مَا
قُلْنَا فِي الأَْرْضِ، لِيَسْتَقِل كُلٌّ بِمَا يَتَحَصَّل مِنَ
الثَّمَرَةِ فِي حِصَّتِهِ أَوْ فِي نَوْبَتِهِ فَلاَ سَبِيل إِلَى ذَلِكَ
بِاتِّفَاقِ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ؛ لأَِنَّ الثِّمَارَ أَعْيَانٌ
تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ
وَمَا إِلَيْهِمَا،
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 496.
(2) رد المحتار 5 / 176.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 383، الزيلعي على الكنز 5 / 277.
(33/250)
لاَ تَجُوزُ قِسْمَةُ أَلْبَانِهَا
بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى نَحْوِ مَا سَلَفَ لِلْمَعْنَى ذَاتِهِ،
(1) وَمَثَّل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِرَجُلَيْنِ تَوَاضَعَا فِي
بَقَرَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عِنْدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يَحْلُبُ لَبَنَهَا، كَانَ بَاطِلاً، وَلاَ يَحِل
فَضْل اللَّبَنِ لأَِحَدِهِمَا، وَإِنْ جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فِي حِلٍّ؛
لأَِنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ
الْفَضْل اسْتَهْلَكَ الْفَضْل، فَإِذَا جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فِي حِلٍّ،
كَانَ ذَلِكَ إِبْرَاءً مِنَ الضَّمَانِ فَيَجُوزُ، أَمَّا حَال قِيَامِ
الْفَضْل فَيَكُونُ هِبَةً أَوْ إِبْرَاءً مِنَ الْعَيْنِ، وَإِنَّهُ
بَاطِلٌ. (2)
وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الْمَخْرَجَ لِلْمُهَايَأَةِ فِي الثَّمَرِ أَوِ
اللَّبَنِ (3) أَنْ يَشْتَرِيَ هَذَا حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ الأَْصْل
(أَيِ الشَّجَرِ أَوِ الْحَيَوَانِ) ثُمَّ يَبِيعَهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ
بَعْدَ انْقِضَاءِ نَوْبَتِهِ لِيَبْدَأَ ذَاكَ نَوْبَتَهُ، حَتَّى إِذَا
انْقَضَتْ بَاعَ صَاحِبُهُ الأَْصْل بِدَوْرِهِ، وَهَكَذَا دَوَالِيكَ،
أَوْ يَسْتَقْرِضَ حِصَّةَ صَاحِبِهِ مِنَ اللَّبَنِ أَوِ الثَّمَرِ،
بِأَنْ يَزِنَ كُل يَوْمٍ مَا يَخُصُّهُ، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ
نَوْبَتُهُ اسْتَوْفَى صَاحِبُهُ بِالْوَزْنِ مَا كَانَ أَقْرَضَ، إِذْ
قَرْضُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ، أَصْلاً وَتَأْجِيلاً. (4)
هَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ مِنْ
__________
(1) البدائع 7 / 32، وتكملة فتح القدير 8 / 383.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 230.
(3) استثنوا من المنع لبن الآدمية، لأنه جار مجرى المنافع إذ لا قيمة له.
(الزيلعي على الكنز 5 / 277) .
(4) تكملة فتح القدير 8 / 383، ورد المحتار 5 / 177، 178.
(33/251)
غَيْرِهِمْ (1) إِلاَّ أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَذْكُرُونَ أَنَّ الْمَخْرَجَ فِي
التَّهَايُؤِ عَلَى الثَّمَرِ وَاللَّبَنِ هُوَ الإِْبَاحَةُ، أَيْ أَنْ
يُبِيحَ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ لِصَاحِبِهِ مُدَّةَ
نَوْبَتِهِ، وَيُغْتَفَرُ الْجَهْل لِمَكَانِ الشَّرِكَةِ وَتَسَامُحِ
النَّاسِ. (2)
وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا فِي اللَّبَنِ: يَجُوزُ التَّهَايُؤُ عَلَيْهِ
إِذَا كَانَ عَلَى الْفَضْل الْبَيِّنِ؛ لأَِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ
الْمُعَاوَضَاتِ إِلَى بَابِ الْمَعْرُوفِ الْبَحْتِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ
جَعَلاَ لَبَنَ الْبَقَرَةِ لأَِحَدِهِمَا يَوْمًا وَلِلآْخَرِ يَوْمَيْنِ
(3) .
التَّرَاضِي وَالإِْجْبَارُ فِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ:
58 - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ أَيْضًا تَتَنَوَّعُ إِلَى قِسْمَةِ تَرَاضٍ
وَقِسْمَةِ إِجْبَارٍ، وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ
قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ فِي تَنَوُّعِهَا هَذَا مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ
الأَْعْيَانِ:
أ - فَحَيْثُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ وَاتَّفَقَتِ الْمَنَافِعُ يُمْكِنُ أَنْ
تَكُونَ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ لِغَلَبَةِ مَعْنَى الإِْفْرَازِ
حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قِسْمَةِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، أَوْ أَرْضٍ
لِلزِّرَاعَةِ، بِاتِّفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، أَوْ دَارَيْنِ
أَوْ أَرْضَيْنِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ إِذَا رَأَى الْقَاضِي وَجْهَ
الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 274.
(2) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(3) الخرشي 4 / 409.
(33/251)
وَإِذَنْ فَإِذَا طَلَبَ الْمُهَايَأَةَ
أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أُجْبِرَ الآْخَرُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الْمَحَل قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ الْعَيْنِيَّةِ وَطَلَبَهَا هَذَا الآْخَرُ
فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ؛ لأَِنَّ فِيهَا - مَعَ وُصُول كُلٍّ إِلَى حَقِّهِ
فِي نَفْسِ الْوَقْتِ - فَائِدَةً مَقْصُودَةً: هِيَ إِفْرَازُ الْمِلْكِ
وَتَمْيِيزُهُ عَنْ مِلْكِ الْغَيْرِ، بَل لَوْ وَقَعَتِ الْقِسْمَةُ
مُهَايَأَةً بِالْفِعْل، وَكَانَ قَدْ سَكَتَ هَذَا الشَّرِيكُ فَصَحَّتْ،
ثُمَّ بَدَا لَهُ فَعَادَ فَطَلَبَ الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ، فَإِنَّهُ
يُجَابُ وَتَبْطُل قِسْمَةُ الْمُهَايَأَةِ، لِمَا ذُكِرَ. (1)
وَهَذَا يَنْتَظِمُ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ الَّتِي لاَ تَقْبَل
الْقِسْمَةَ، فَيُجْبَرُ عَلَى التَّهَايُؤِ فِيهَا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُ
الشُّرَكَاءِ (2) وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ الَّتِي لاَ
يُمْكِنُ الاِجْتِمَاعُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهَا، كَدَارٍ لاَ تَسَعُ
إِلاَّ سُكْنَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. (3)
ب - وَحَيْثُ كَانَ الأَْمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنِ
اخْتَلَفَ الْجِنْسُ كَدَارٍ وَأَرْضٍ، أَوْ تَفَاوَتَتِ الْمَنْفَعَةُ،
كَدَارٍ تُقْسَمُ مُهَايَأَةً لِيَكُونَ بَعْضُهَا حِصَّةً لِلسُّكْنَى
وَالْبَعْضُ الآْخَرُ حِصَّةٌ لِلاِسْتِغْلاَل، فَلاَ إِجْبَارَ وَلاَ
سَبِيل إِلَى قِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (4) .
59 - ثُمَّ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 378.
(2) الزيلعي على الكنز 5 / 275.
(3) رد المحتار 5 / 177.
(4) العناية مع تكملة فتح القدير 8 / 380.
(33/252)
بِالْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ أَوِ
الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ، إِذْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَزِيَّتُهُ،
فَالأُْولَى أَعْدَل، لِوُصُول كُل وَاحِدٍ إِلَى حَقِّهِ فِي نَفْسِ
الْوَقْتِ، وَالثَّانِيَةُ أَكْمَل، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ
بِالْعَيْنِ كُلِّهَا، وَلِذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي التَّهَايُؤِ عَلَى
الدَّارِ: هَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا فِي مُقَدِّمِهَا،
وَالآْخَرُ فِي مُؤَخِّرِهَا، وَذَاكَ يَطْلُبُ أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا
جَمِيعَ الدَّارِ شَهْرًا، ثُمَّ الآْخَرُ شَهْرًا آخَرَ، فَإِنَّ
الْقَاضِيَ لاَ يُجِيبُ أَحَدَهُمَا، إِذْ لاَ رُجْحَانَ لأَِحَدٍ،
وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُمَا بِأَنْ يَتَّفِقَا، ثُمَّ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى
الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا لِتَعْيِينِ مَنْ
لَهُ الْبُدَاءَةُ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ
الْمَكَانِيَّةِ، وَلَكِنْ تَنَازَعَا مَكَانًا بِعَيْنِهِ أَقْرَعَ
بَيْنَهُمَا لِيَتَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ لِكُل وَاحِدٍ مَكَانُهُ. (1)
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى قَصْرِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُهَايَأَةِ
الْمَكَانِيَّةِ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ لاَ
تَنْطَوِي الْقِسْمَةُ عَلَى ضَرَرٍ، (2) وَلَكِنِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ
الْحَنَابِلَةُ خِلاَفُهُ: وَهُوَ نَفْيُ الإِْجْبَارِ فِي قِسْمَةِ
الْمَنَافِعِ كُلِّهَا، قَبِلَتِ الْعَيْنُ الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ
أَمْ لَمْ تَقْبَلْهَا، اتَّفَقَتِ الْمَنْفَعَةُ أَمِ اخْتَلَفَتْ، وَهُوَ
الَّذِي قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) لأَِنَّ فِي
هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْعُمُومِ، إِذْ كُل
وَاحِدٍ مِنَ
__________
(1) العناية 8 / 380، ورد المحتار 5 / 176.
(2) الإنصاف 11 / 340.
(3) الخرشي 4 / 401، ومغني المحتاج 4 / 426.
(33/252)
الشَّرِيكَيْنِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِ
صَاحِبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ عِنْدَهُ لِقَاءِ انْتِفَاعِ صَاحِبِهِ
بِنَصِيبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ عِنْدَ
الْقِسْمَةِ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ مَا يَحْصُل
لَهُ مِنْهَا وَمَا لاَ يَحْصُل، ثُمَّ لأَِنَّ فِي الْمُهَايَأَةِ
الزَّمَانِيَّةِ خَاصَّةً غَبْنًا لِمَنْ تَتَأَخَّرُ نَوْبَتُهُ.
لَكِنْ يُقَرِّرُ الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَانِعَ
الْحَقِيقِيَّ مِنْ دُخُول الإِْجْبَارِ فِي قِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ هُوَ
بَقَاءُ الْعُلْقَةِ بِالشَّرِكَةِ فِي الْعَيْنِ ذَاتِهَا، وَلِذَا
فَإِنَّ الْمَنَافِعَ الْمَمْلُوكَةَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِلْكُ الذَّاتِ،
كَمَا فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ، تَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى
قِسْمَتِهَا (1) ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ
أَحَدُ وَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ هُوَ إِطْلاَقُ
الْقَوْل بِعَدَمِ الإِْجْبَارِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَمَا
سَيَجِيءُ. (2)
وَفِي تَنْقِيحِ الْحَامِدِيَّةِ كَلاَمٌ مُسْتَدْرَكٌ عَنْ عَدَمِ
الإِْجْبَارِ عَلَى تَهَايُؤِ الْمُسْتَأْجِرِينَ. (3)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الشُّرَكَاءَ قَدْ يَأْبَوْنَ مِنْ
قِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ،
فَحِينَئِذٍ يُؤَجِّرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ أَوْ يُجْبِرُهُمْ عَلَى
إِيجَارِهِ، مُدَّةً قَرِيبَةً كَسَنَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْيجَارُ
لِكَسَادٍ لاَ يُرْجَى انْقِشَاعُ غُمَّتِهِ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِنَّهُ
يَبِيعُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ رُبَّمَا تَعَذَّرَ الْبَيْعُ أَيْضًا،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426.
(2) نهاية المحتاج 8 / 272.
(3) شرح المجلة للأتاسي 4 / 119.
(33/253)
وَهُنَا يَقُول الزَّرْكَشِيُّ:
يُجْبِرُهُمْ عَلَى الْمُهَايَأَةِ إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمْ، وَلاَ
يُعْرِضُ عَنْهُمْ إِلَى الصُّلْحِ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ
ضَرَرٌ عَامٌّ وَكَثِيرٌ (1) وَلاِبْنِ الْبَنَّاءِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
نَحْوُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبَيْعَ (2) ، وَمَعْلُومٌ
مَوْقِفُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَمَيِّزُ وَمَعَهُمْ مُوَافِقُوهُمْ فِي
الإِْجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ، لَكِنْ بِطَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ (ر: ف
47) .
وَقَدْ مَضَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ عَلَى وَتِيرَةٍ
وَاحِدَةٍ. إِذْ مَنَعَ الْمُهَايَأَةَ عَلَى غَلَّةِ الْكِرَاءِ وَحَكَمَ
بِبُطْلاَنِهَا؛ لأَِنَّهَا عَيْنٌ وَتُمْكِنُ قِسْمَتُهَا، فَيَبْقَى
الْمَال الْمُشْتَرَكُ دُونَ مُهَايَأَةٍ، ثُمَّ مَا يَتَحَصَّل مِنْ
غَلَّتِهِ يَقْتَسِمُهُ الشُّرَكَاءُ بَيْنَهُمْ، فَعِنْدَهُ لاَ يَصِحُّ
التَّهَايُؤُ عَلَى اسْتِغْلاَل الدَّابَّةِ أَوِ الدَّابَّتَيْنِ. (3)
وَلَكِنَّهُ اسْتَثْنَى غَلَّةَ الْعَقَارِ، فَأَلْحَقَهَا بِالْمَنَافِعِ،
وَجَوَّزَ التَّهَايُؤَ عَلَى قِسْمَتِهَا، فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ فِي
الدَّارِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الدَّارَيْنِ، وَالأَْرْضِ الْوَاحِدَةِ أَوِ
الأَْرْضَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّهَايُؤُ زَمَانِيًّا أَمْ
مَكَانِيًّا، فَاحْتَاجَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ
مَثَلاً فَوَجَدَهُ فِي كَثْرَةِ الْغَرَرِ فِي الْحَيَوَانِ، لأَِنَّ
تَعَرُّضَهُ لِلتَّغَيُّرَاتِ أَكْثَرُ، فَفِي الْمُهَايَأَةِ عَلَيْهِ
تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ، الَّتِي هِيَ مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426، ونهاية المحتاج 7 / 272.
(2) الإنصاف 11 / 340.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 381 - 383، والهندية 5 / 231، ورد المحتار 5 /
177.
(33/253)
شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، فِي مَظِنَّةِ
الْفَوَاتِ، وَلاَ كَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ: فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ
بَقَاءُ التَّعَادُل الْقَائِمِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْمُهَايَأَةِ
الزَّمَانِيَّةِ - عَلَى الاِسْتِغْلاَل - فَفِي الْمَكَانِيَّةِ إِذَا
زَادَتِ الْغَلَّةُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَنْهَا فِي
نَوْبَةِ الآْخَرِ لاَ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ، بَل تَخُصُّ مَنْ
وَقَعَتْ فِي نَوْبَتِهِ، لِقُوَّةِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالإِْفْرَازِ
فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِسْمَةِ، بِسَبَبِ اتِّحَادِ زَمَانِ
اسْتِيفَاءِ كُلٍّ حَقَّهُ، وَفِي الزَّمَانِيَّةِ يَشْتَرِكَانِ فِي
الزِّيَادَةِ، لِضَعْفِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا، بِسَبَبِ تَعَاقُبِ
اسْتِيفَاءِ كُلٍّ حَقَّهُ فَيُقَدَّرُ مَعْنَى الْقَرْضِ لِيَحْصُل
التَّعَادُل: كَأَنَّ هَذَا أَقْرَضَ نَصِيبَهُ مِنْ غَلَّةِ هَذَا
الشَّهْرِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ نَصِيبِ الآْخَرِ فِي الشَّهْرِ
الثَّانِي، وَيُقَدَّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي
تَأْجِيرِ نَصِيبِهِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُقْرِضُ قَدْرَ قَرْضِهِ كَانَ
الْبَاقِي مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. (1)
وَمَنْعُ الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْغَلَّةِ - بِمَعْنَى الْكِرَاءِ (2) -
هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ، فِيمَا
قَل وَكَثُرَ؛ لأَِنَّهَا تَتَفَاوَتُ وَيَدْخُلُهَا مِنَ الْغَرَرِ مَا
يَدْخُل كُل مَا لاَ انْضِبَاطَ لَهُ، حَتَّى لَقَدْ رَدُّوا قَوْل
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ:
__________
(1) الزيلعي على الكنز 5 / 277.
(2) في المصباح: الكراء (بالمد) : الأجرة.
(33/254)
يَسْهُل ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ.
وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ مُعَبِّرًا عَنِ الْمَذْهَبِ. نَعَمْ إِذَا
انْضَبَطَتِ الْغَلَّةُ، كَمَا فِي حَالاَتِ التَّسْعِيرِ الْجَبْرِيِّ
بِوَاسِطَةِ السُّلُطَاتِ الْحَاكِمَةِ فَذَاكَ. (1)
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ
60 - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ تَتَنَوَّعُ إِلَى نَوْعَيْنِ: وَإِنْ شِئْتَ
فَقُل تَكُونُ بِإِحْدَى صُورَتَيْنِ:
أ - مُهَايَأَةٌ زَمَانِيَّةٌ: وَهِيَ التَّنَاوُبُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ
بِالْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ كَامِلَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً مِنَ الزَّمَنِ
تَتَنَاسَبُ فِي جَانِبِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ مَعَ
نَصِيبِهِ فِي الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ، إِلاَّ أَنْ يَنْزِل عَنْ شَيْءٍ
بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، كَأَنْ يَتَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ
يَزْرَعَا الأَْرْضَ أَوْ يَسْكُنَا الدَّارَ: هَذَا سَنَةً وَهَذَا
سَنَةً، وَلاَ مَفَرَّ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي الْمُهَايَأَةِ
عَلَى الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، وَكُل مَا لاَ تَنْقَسِمُ عَيْنُهُ
فَيَتَهَايَأُ الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ لأَِحَدِهِمَا سُكْنَى
الدَّارِ أُسْبُوعًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل ثُمَّ لِلآْخَرِ كَذَلِكَ. .
وَهَكَذَا.
لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ
عَلَى التَّهَايُؤِ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ، يَرْكَبُهَا هَذَا يَوْمًا
مَثَلاً وَهَذَا يَوْمًا، لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ النَّازِل مَنْزِلَةَ
اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ بَيْنَ رُكُوبٍ وَرُكُوبٍ: فَرُبَّ رَاكِبٍ حَاذِقٍ
وَرُبَّ آخَرَ
__________
(1) الخرشي وحواشيه 4 / 401.
(33/254)
أَخْرَقَ، وَالدَّابَّةُ حَيَوَانٌ
أَعْجَمُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْفُضَ حِينَ يُسَاءُ اسْتِعْمَالُهُ. (1)
ب - مُهَايَأَةٌ مَكَانِيَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ بِالاِنْتِفَاعِ بِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنَ
الْمَال الْمُشْتَرَكِ، مَعَ بَقَاءِ الشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَال
بِحَالِهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مُدَّةٍ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ
مُبَادَلَةً مَحْضَةً، بَل مَعْنَى الإِْفْرَازِ فِيهَا أَغْلَبُ. (2)
فَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ الْقَابِلَةُ لِلْقِسْمَةِ، وَالأَْرْضُ
الْوَاحِدَةُ، يُمْكِنُ بِلاَ خِلاَفٍ أَنْ يَتَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ
فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَوْ يَزْرَعَ أَحَدُهُمَا مُقَدِّمَهَا،
وَالآْخَرُ مُؤَخِّرَهَا، وَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ،
أَمْكَنَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا الْعُلُوَّ
وَالآْخَرُ السُّفْل، إِجْبَارًا؛ لأَِنَّ هَذَا كُلَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ
أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ فِي الإِْجْبَارِ عَلَى قِسْمَتِهِ قِسْمَةَ
أَعْيَانٍ، وَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ.
وَالدَّارَانِ يُمْكِنُ كَذَلِكَ أَنْ يَتَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ عَلَى
أَنْ يَسْكُنَ هَذَا هَذِهِ وَهَذَا هَذِهِ، وَكَذَلِكَ الأَْرْضَانِ
زِرَاعَةً وَالْفَرَسَانِ رُكُوبًا، وَهَذَا أَيْضًا بِلاَ خِلاَفٍ، وَقَدْ
كَانَ يُتَوَهَّمُ فِي الإِْجْبَارِ عَلَيْهِ خِلاَفُ أَبِي حَنِيفَةَ
اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ، وَلَكِنَّهُ - فِي ظَاهِرِ
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 497، وتكملة فتح القدير 8 / 381، والبدائع 7 / 32.
(2) نتائج الأفكار 8 / 379.
(33/255)
الرِّوَايَةِ - نَظَرَ هُنَا إِلَى أَنَّ
التَّفَاوُتَ فِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ وَحْدَهَا لاَ يَتَفَاحَشُ
تَفَاحُشَهُ فِي قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ، فَلَمْ يُفَرَّقْ هُنَا بَيْنَ
دَارٍ وَدَارَيْنِ وَأَرْضٍ وَأَرْضَيْنِ.
عَلَى أَنَّهُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَضَى عَلَى أَصْلِهِ فِي
قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ فَمَنْعُ الإِْجْبَارِ عَلَى قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ
فِي الدَّارَيْنِ وَالأَْرْضَيْنِ قِسْمَةَ جَمْعٍ، بَل رُوِيَ عَنْهُ
امْتِنَاعُ الْمُهَايَأَةِ فِيهِمَا بِإِطْلاَقٍ، جَبْرًا وَتَرَاضِيًا،
أَمَّا جَبْرًا فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا تَرَاضِيًا فَلأَِنَّهَا
بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا نَسِيئَةً. (1)
أَمَّا التَّهَايُؤُ عَلَى دَابَّتَيْنِ لِلرُّكُوبِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ:
كَفَرَسَيْنِ عَرَبِيَّتَيْنِ، يَأْخُذُ هَذَا وَاحِدَةً وَالآْخَرُ
الأُْخْرَى، فَأَبُو حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ النَّاظِرَيْنِ
إِلَى قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ - عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي
حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِذَا لاَ يَمْلِكُ مَنِ اسْتَأْجَرَ
دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِلرُّكُوبِ، وَلَوْ فَعَل
لَضَمِنَ، فَلاَ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَى هَذَا التَّهَايُؤِ، أَمَّا
بِالتَّرَاضِي فَلاَ بَأْسَ. (2)
هَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، وَتَنَوُّعِهَا
إِلَى مُهَايَأَةٍ زَمَانِيَّةٍ وَمُهَايَأَةٍ مَكَانِيَّةٍ،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 380 - 381.
(2) البدائع 7 / 32، وتكملة فتح القدير 8 / 381، ومجمع الأنهر 2 / 497.
(33/255)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ فِيهَا بَيَانُ مُدَّةٍ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
لِصِحَّةِ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ تَعْيِينُ الزَّمَانِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ
الْمَقْسُومُ أَوْ تَعَدَّدَ، وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ
الزَّمَانِ فِي الْمُتَعَدِّدِ، فَإِنْ عُيِّنَ الزَّمَانُ فَهِيَ
لاَزِمَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الزَّمَانُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ
يَنْحَل مَتَى شَاءَ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ:
إِنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ شَرْطُ اللُّزُومِ وَلَيْسَ شَرْطَ الصِّحَّةِ،
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنْ عُيِّنَ الزَّمَنُ فِي الْقِسْمَةِ صَحَّتْ
وَلَزِمَتْ فِي الْمَقْسُومِ الْمُتَّحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ، وَإِنْ لَمْ
يُعَيَّنْ فَسَدَتْ فِي الْمُتَّحِدِ اتِّفَاقًا وَفِي الْمُتَعَدِّدِ
خِلاَفٌ، فَابْنُ الْحَاجِبِ يَقُول بِصِحَّتِهَا، وَابْنُ عَرَفَةَ
بِفَسَادِهَا. (2)
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ:
61 - إِذَا تَمَّتْ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى الصِّحَّةِ، تَرَتَّبَتْ
عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَمِنْ هَذِهِ الآْثَارِ:
أَوَّلاً: عَدَمُ لُزُومِهَا: بِمَعْنَى أَنَّ لِكُل شَرِيكٍ أَنْ يَنْقُضَ
الْمُهَايَأَةَ مَتَى شَاءَ، لَكِنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِشَرَائِطَ ثَلاَثٍ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ عَنْ تَرَاضٍ، فَلاَ
يَمْلِكُ شَرِيكٌ الاِنْفِرَادَ بِنَقْضِ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَإِلاَّ
لَغَا مَعْنَى الإِْجْبَارِ فِيهَا،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 498.
(33/256)
فَإِذَا اتَّفَقَ الشَّرِيكَانِ عَلَى
النَّقْضِ، فَهُوَ حَقُّهُمَا يَرَيَانِ فِيهِ مَا شَاءَا، مَا دَامَ
الْفَرْضُ انْحِصَارَ الشَّرِكَةِ فِيهِمَا.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ أَجْنَبِيٍّ: فَلَوْ
أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ كَانَ قَدْ أَجَّرَ الدَّارَ أَوِ الأَْرْضَ
مَثَلاً فِي نَوْبَتِهِ، وَلَمْ تَنْتَهِ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ بَعْدُ،
فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ هُوَ وَلاَ شَرِيكُهُ نَقْضَ الْمُهَايَأَةِ،
رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. (1)
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لِلرَّاجِعِ عُذْرٌ:
كَأَنْ يُرِيدَ بَيْعَ نَصِيبِهِ، أَوِ الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ، أَمَّا
أَنْ يُرِيدَ الْعَوْدَةَ إِلَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا
كَانَتْ قَبْل الْمُهَايَأَةِ، فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، لَكِنَّ
هَذَا خِلاَفُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَجَرَوْا عَلَيْهِ فِي الْمَجَلَّةِ.
(2) أَمَّا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فَيُعْطِيهِ حَقَّ الرُّجُوعِ وَنَقْضَ
الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ عُذْرٌ أَمْ لاَ. (3)
وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِأَنَّ
قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
إِلَى أَنَّهَا لاَ تَكُونُ غَيْرَ لاَزِمَةٍ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الدُّورِ (يَعْنِي فِي الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ) أَمَّا فِي
أَثْنَائِهِ فَلاَ، (4) وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ،
وَاكْتَفَوْا بِأَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى مِنَ الْمَنَافِعِ شَيْئًا لَمْ
يَسْتَوْفِ شَرِيكُهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 230.
(2) المجلة م 1190.
(3) رد المحتار 5 / 177، والهندية 5 / 229.
(4) الإنصاف 11 / 340.
(33/256)
مِثْلَهُ، تَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْل
حِصَّةِ شَرِيكِهِ، كَمَا لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ، (1) وَهَذَا هُوَ
مُقْتَضَى كَلاَمِ عِيَاضٍ فِي الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ، أَمَّا
الْمُهَايَأَةُ الزَّمَانِيَّةُ فَلاَزِمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ،
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ لاَ تَكُونُ إِلاَّ زَمَانِيَّةً،
فَحُكْمُهَا اللُّزُومُ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْمُدَّةُ كَالإِْجَارَةِ (2) .
ثَانِيًا: أَنَّهَا لاَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ
كِلَيْهِمَا: لأَِنَّهَا لَوِ انْتَهَتْ لاَحْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى
تَجْدِيدِهَا؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ أَكْثَرَ مَا تَكُونُ، فِيمَا لاَ
يَنْقَسِمُ، وَلاَ بُدَّ إِذَنْ أَنَّ الْوَرَثَةَ سَيَطْلُبُونَ
إِعَادَتَهَا، (3) وَلَوْ فَرَضْنَاهَا فِيمَا يَنْقَسِمُ، فَقَدْ
يَطْلُبُونَ إِعَادَتَهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ
لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا: أَنَّهَا تَنْتَهِي بِتَلَفِ الْعَيْنِ: كَمَا لَوْ مَاتَتِ
الدَّابَّةُ، أَوِ الدَّابَّتَانِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، أَوِ انْهَدَمَتِ
الدَّارُ، أَوِ الدَّارَانِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، لِفَوَاتِ مَحَل
الْقِسْمَةِ، وَهَذَا مَا لاَ يَحْتَمِل الْخَلَفُ. (4)
رَابِعًا: أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ إِذَا انْتَهَتْ بِغَيْرِ فَسْخٍ، قَال
الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَهَايَآ فِي دَابَّتَيْنِ اسْتِخْدَامًا، فَمَاتَتْ
إِحْدَاهُمَا، انْتَقَضَتِ الْمُهَايَأَةُ. وَلَوْ نَدَّتْ إِحْدَاهُمَا
الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَاسْتَخْدَمَ الآْخَرُ الشَّهْرَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(2) الخرشي 4 / 400، 401.
(3) البدائع 7 / 32، والعناية 8 / 378.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 230، ومغني المحتاج 4 / 426.
(33/257)
كُلَّهُ، فَلاَ ضَمَانَ وَلاَ أُجْرَةَ،
وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْل، وَلَوْ
عَطِبَ أَحَدُ الْخَادِمَيْنِ فِي خِدْمَةِ مَنْ شُرِطَ لَهُ هَذَا
الْخَادِمُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، (1) وَكَذَا الْمَنْزِل لَوِ
انْهَدَمَ، (2) وَهَذَا الَّذِي أَشَارُوا إِلَى اسْتِدْرَاكِهِ
بِقَوْلِهِمْ: وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ نِصْفَ أُجْرَةِ الْمِثْل هُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (3)
خَامِسًا: اخْتِصَاصُ كُل شَرِيكٍ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وَقَعَ لَهُ
بِالْمُهَايَأَةِ فِي حُدُودِ طَبِيعَةِ الْعَقْدِ، أَيْ قِسْمَةِ
الْمَنَافِعِ، وَيُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُحْدِثَ بِنَاءً أَوْ يَنْقُضُهُ أَوْ يَفْتَحَ
بَابًا. (4)
وَيَدْخُل فِي هَذَا الأَْثَرِ حَقُّ الاِسْتِغْلاَل، وَلَكِنَّهَا
مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ فَنُفْرِدُهَا بِالْبَحْثِ:
حَقُّ الاِسْتِغْلاَل:
لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ حَقُّ اسْتِغْلاَل مَا أَصَابَ
بِالْمُهَايَأَةِ، أَيْ تَأْجِيرُهُ لِلْغَيْرِ، وَأُطْلِقَ فِي
الْهِدَايَةِ ثُبُوتُ هَذَا الْحَقِّ بِالْمُهَايَأَةِ، سَوَاءٌ شُرِطَ فِي
الْعَقْدِ أَمْ لَمْ يُشْرَطْ، رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ تَوَقُّفَهُ عَلَى
شَرْطِهِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ،
فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ انْتِفَاعِهِ بِهَا بِنَفْسِهِ مُبَاشَرَةً
وَانْتِفَاعِهِ بِهَا بِطَرِيقِ التَّأْجِيرِ.
__________
(1) أي على من وقع العطب في يده لأنه أمين.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 230.
(3) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 229.
(33/257)
وَنَقَضُوهُ بِالْعَارِيَّةِ، عَلَى أَصْل
الْحَنَفِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِيهَا تَحْدُثُ أَيْضًا عَلَى
مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ الإِْجَارَةَ -
فَإِنْ كَانَ حَذَرًا مِنْ رُجُوعِ الْمُسْتَعِيرِ، فَلِمَ لاَ يَكُونُ
هُنَا كَذَلِكَ - حَذَرًا مِنْ رُجُوعِ الشَّرِيكِ. (1)
وَلَكِنَّهُ نَقْضٌ غَيْرُ وَارِدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْل الشَّافِعِيَّةِ
وَمُوَافِقِيهِمْ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لاَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ،
وَإِنَّمَا يَمْلِكُ حَقَّ الاِنْتِفَاعِ، وَلِذَا يُعَرِّفُونَهَا
بِأَنَّهَا: إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِمَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ
بَقَاءِ عَيْنِهِ، (2) وَقَدْ فَرَّقَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بَيْنَ
حَالَتَيْنِ:
أ - حَالَةُ الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ: وَهَذِهِ يُسَلَّمُ فِيهَا
بِحَقِّ الاِسْتِغْلاَل بِإِطْلاَقٍ. وَبِنَفْسِ الْعِلَّةِ الآْنِفَةِ،
وَيُعَقِّبُ هُنَا قَائِلاً: وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُهَايَآتِ فِي
هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ؛ لأَِنَّ الْعَارِيَّةَ لاَ
تُؤَجَّرُ. (3)
ب - حَالَةُ الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ: وَهَذِهِ نَقَل فِيهَا
رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لِلْقُدُورِيِّ: وَهِيَ تَمْنَعُ الاِسْتِغْلاَل، بِنَاءً
عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمُهَايَآتِ عَارِيَّةً،
وَالْعَارِيَّةُ لاَ تُؤَجَّرُ، وَالأُْخْرَى لِلأَْصْل، وَهِيَ
مُصَرِّحَةٌ بِجَوَازِ الاِسْتِغْلاَل
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 379.
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 90، والباجوري على ابن قاسم 2 / 9.
(3) البدائع 7 / 32.
(33/258)
وَقِسْمَةِ الزَّائِدِ مِنْهُ، وَقَدْ
حَاوَل صَرْفَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، نَقْلاً عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ.
(1)
لَكِنَّ شُرَّاحَ الْهِدَايَةِ رَفَضُوا الْبِنَاءَ عَلَى أَنَّهَا
عَارِيَّةً، لِمَكَانِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا. (2)
سَادِسًا: أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ لِلنَّقْصِ بِالاِسْتِعْمَال فَفِي
الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوْ عَطِبَ أَحَدُ الْخَادِمَيْنِ فِي
خِدْمَةِ مَنْ شُرِطَ لَهُ هَذَا الْخَادِمُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ الْمَنْزِل لَوْ هُدِمَ مِنْ سُكْنَى مَنْ شُرِطَ لَهُ، فَلاَ
ضَمَانَ، وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَرَقَ الْمَنْزِل مِنْ نَارٍ أَوْقَدَهَا
فِيهِ (أَيْ بِلاَ تَعَدٍّ) فَلاَ ضَمَانَ. (3)
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ يَدَ كُل وَاحِدٍ
مِنَ الْمُتَهَايِئَيْنِ يَدُ أَمَانَةٍ، (4) وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ
الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا كَالإِْجَارَةِ (5) ، وَلَكِنَّ
الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِالضَّمَانِ كَالْعَارِيَّةِ (6) أَيْ إِنَّ
الشَّرِيكَ يَضْمَنُ التَّلَفَ فِي نَوْبَتِهِ بِغَيْرِ الاِسْتِعْمَال
الْمُعْتَادِ - وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ - كَمَا لَوْ كَانَ بِسَرِقَةٍ أَوْ
حَرِيقٍ. (7)
__________
(1) البدائع 7 / 33.
(2) العناية 8 / 380.
(3) الهندية 5 / 230.
(4) نهاية المحتاج 8 / 171.
(5) بلغة السالك 2 / 277.
(6) يشبهونها بالعارية برغم أنهم قائلون - كالشافعية (المهذب 2 / 308) -
بأنها معاوضة (المغني 11 / 512) وفي هذا يقول ابن قدامة: لنا أنه بذل منافع
ليأخذ شيئًا ليعيره شيئًا آخر إذا احتاج إليه) . (المغني 11 / 513) .
(7) مطالب أولي النهى 6 / 553.
(33/258)
قِصَاص
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقِصَاصِ فِي اللُّغَةِ: تَتَبُّعُ الأَْثَرِ، يُقَال:
قَصَصْتُ الأَْثَرَ تَتَبَّعْتُهُ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَوَدُ، يُقَال: أَقَصَّ السُّلْطَانُ فُلاَنًا
إِقْصَاصًا: قَتَلَهُ قَوَدًا، وَأَقَصَّهُ مِنْ فُلاَنٍ: جَرَحَهُ مِثْل
جَرْحِهِ، وَاسْتَقَصَّهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَقُصَّهُ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْقِصَاصِ فِي قَتْل
الْقَاتِل، وَجُرْحِ الْجَارِحِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْقِصَاصُ أَنْ يُفْعَل بِالْفَاعِل الْجَانِي مِثْل
مَا فَعَل (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الثَّأْرُ:
2 - الثَّأْرُ فِي اللُّغَةِ: الدَّمُ، وَالطَّلَبُ بِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه
للبركتي.
(3) القاموس المحيط، والمغرب.
(33/259)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الثَّأْرِ
وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي
الْمُكَافِئِ فَلاَ يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، أَمَّا الثَّأْرُ
فَلاَ يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الاِنْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ
سِوَاهُ.
ب - الْحَدُّ:
3 - الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَ
الشَّيْئَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِلْمَنْعِ مِنَ
الدُّخُول. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ
تَعَالَى.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا عُقُوبَةٌ
عَلَى جِنَايَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّل وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
غَالِبًا، وَالثَّانِي وَجَبَ حَقًّا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ
أَوْلِيَائِهِ.
(ر: حُدُود ف 1 - 2) .
ج - الْجِنَايَةُ:
4 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَتَجَنَّى
عَلَيْهِ: إِذَا ادَّعَى ذَنْبًا لَمْ يَفْعَلْهُ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ اسْمٌ لِفِعْلٍ
مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ:
__________
(1) مختار الصحاح.
(2) القاموس المحيط ولسان العرب.
(3) ابن عابدين 5 / 339، والطحطاوي على الدر 1 / 519.
(33/259)
السَّبَبِيَّةُ، فَقَدْ تَكُونُ
الْجِنَايَةُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ. (1)
د - التَّعْزِيرُ:
5 - التَّعْزِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ
وَالتَّأْدِيبُ، وَمِنْهُ الضَّرْبُ دُونَ الْحَدِّ (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَجَبَتْ حَقًّا
لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ
وَلاَ كَفَّارَةٌ غَالِبًا (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ
مُقَدَّرٌ بِمَا يُسَاوِي الْجِنَايَةَ، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ
بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ
لأَِوْلِيَائِهِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ
يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
هـ - الْعُقُوبَةُ:
6 - الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ عَاقَبَ يُعَاقِبُ عِقَابًا
وَمُعَاقَبَةً، وَهُوَ أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُل بِمَا فَعَل سُوءًا،
وَعَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ: إِذَا أَخَذَهُ بِهِ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهَا: جَزَاءٌ
بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الرَّجْمِ أَوِ الْقَتْل، وَسُمِّيَ بِهَا
لأَِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، وَمِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا
__________
(1) البدائع 7 / 234.
(2) مختار الصحاح.
(3) المبسوط 9 / 36، وكشاف القناع 4 / 72، والأحكام السلطانية للماوردي ص
224، ونهاية المحتاج 7 / 72.
(4) لسان العرب.
(33/260)
تَبِعَهُ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ
مُطْلَقٌ، فَالْقِصَاصُ ضَرْبٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ الْوُجُوبُ عَلَى
وَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَمُبَاحٌ
طَلَبُهُ مِنْ قِبَل مُسْتَحِقِّهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، فَلَهُ
أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُ، وَالْعَفْوُ أَفْضَل، ثُمَّ الصُّلْحُ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ
أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا. (2)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى} ، (3) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
{وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ
يُسْرِفْ فِي الْقَتْل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} . (4) وَقَوْلُهُ جَل
مِنْ قَائِلٍ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ
وَالسِّنَّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 140.
(2) ابن عابدين 5 / 340، 342 - 357، والمغني 7 / 742، والدسوقي 4 / 240،
ومغني المحتاج 4 / 6.
(3) سورة البقرة / 178.
(4) سورة الإسراء / 33.
(33/260)
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ
تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ
النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ، (2) وَمَا
رَوَاهُ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرُّبَيِّعَ
بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا
عَلَيْهِمُ الأَْرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا،
فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ
بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ
لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَال: فَعَفَا الْقَوْمُ. ثُمَّ
قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ
عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ؛ (3)
وَلأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ
بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ. (4)
أَسْبَابُ الْقِصَاصِ:
8 - أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْل وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ
وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الأَْعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا
يَأْتِي:
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث: " من قتل له قتيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 205) ،
ومسلم (2 / 989) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) حديث أنس: " إن من عباد الله من لو أقسم. . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 6 / 21) ، ومسلم (3 / 1302) .
(4) المهذب 2 / 178.
(33/261)
الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى
النَّفْسِ:
9 - الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْل الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ
خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
10 - لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِل، وَالْمَقْتُول،
وَفِعْل الْقَتْل (1) ، لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل إِلاَّ
بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ
الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي:
أ - التَّكْلِيفُ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِل
لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلاً
بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْل، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل إِذَا
كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْل.
فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ
اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْل دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ
وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلاً مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا
جُنَّ قَبْل الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ
مِنْهُ؛ لأَِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا
حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا
__________
(1) الدسوقي 4 / 237، والزرقاني 8 / 2.
(33/261)
جُنَّ قَبْل الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَل
فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْل الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَل فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ
عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ
الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِل قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ (1)
.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ
إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ.
فَإِذَا كَانَ الْقَاتِل مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ
قَتَلَهُ فِي حَال صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَال صَحْوِهِ، وَإِنْ
قَتَلَهُ فِي حَال جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ
جُنُونًا مُطْبِقًا فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَال الْجُنُونِ
فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ قَتَلَهُ حَال الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا
غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَال الإِْفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ
وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ
مِنْهُ حَال جُنُونِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ
جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 343.
(2) الدسوقي 4 / 237، والزرقاني 8 / 2.
(3) مغني المحتاج 4 / 15، وروضة الطالبين 9 / 149، وحاشية القليوبي 4 /
105.
(33/262)
مِنْهُ فِي حَال جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ
الْقَتْل بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ
حَتَّى يَصْحُوَ؛ لاِحْتِمَال رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ. (1)
وَمِثْل الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالإِْغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، (2)
لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ
وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (3)
أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ،
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا
إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَل وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ
بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ
كَالإِْكْرَاهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلاَقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ،
فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. (4)
ب - عِصْمَةُ الْقَتِيل:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ
عَلَى الْقَاتِل أَنْ يَكُونَ الْقَتِيل
__________
(1) المغني 7 / 665.
(2) ابن عابدين 5 / 376، والزرقاني 8 / 2، والمغني 7 / 664.
(3) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 659) من حديث
ابن عباس، وحسنه النووي كما في جامع العلوم والحكم (2 / 361) .
(4) ابن عابدين 5 / 376، والدسوقي 4 / 237، والزرقاني 8 / 2، ومغني المحتاج
4 / 15، والمغني 7 / 665.
(33/262)
مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ
فِي حَقِّ الْقَاتِل.
فَإِذَا كَانَ الْقَتِيل مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ -
كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ - لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ
مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ
سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِل الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ
الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ
أَجْنَبِيٌّ قُتِل بِهِ قِصَاصًا؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي
حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛
لأَِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ
الْمَقْتُول مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِل عَلَى التَّأْبِيدِ
كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ
لَمْ يُقْتَل بِهِ قَاتِلُهُ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي
حَال أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الأَْصْل، لأَِنَّهُ
حَرْبِيٌّ، فَلاَ قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، (1) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ
مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَل بِهِ
لِلْمُسَاوَاةِ لاَ اسْتِحْسَانًا، وَقِيل: لاَ يُقْتَل عَلَى
الاِسْتِحْسَانِ (2) ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْل
الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْل. (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 343، والمغني 7 / 653.
(2) ابن عابدين 5 / 344، والبدائع 7 / 236.
(3) البدائع 7 / 236.
(33/263)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ
التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَل قَاتِل الْمُسْتَأْمَنِ، (1)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ} . (2)
ج - الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ
الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل فِي
أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلاَ يُقْتَل الأَْعْلَى بِالأَْدْنَى، وَلَكِنْ
يُقْتَل الأَْدْنَى بِالأَْعْلَى وَبِالْمُسَاوِي.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ
يُقْتَل عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلاَ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لاَ
لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَل لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ. (3)
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الأَْوْصَافِ الَّتِي
اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ
بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل فِي الإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ. أَوْ أَنْ
يَكُونَ الْقَتِيل أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِل فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ
الْقَاتِل أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيل فِيهِمَا فَلاَ قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ
كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 241، ومغني المحتاج 4 / 14.
(2) سورة التوبة / 6.
(3) الدر المختار 5 / 343 - 344.
(33/263)
مِنَ الآْخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ
نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ
حُرًّا، وَلاَ حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول زَائِدَ
إِسْلاَمٍ، فَيُقْتَل حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي
تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الإِْسْلاَمِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْتَل الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ
الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ الْحُرَّ لاَ يُقْتَل بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا
عِنْدَهُمْ، كَمَا لاَ يُقْتَل الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ
الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَل بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا،
فَإِذَا قَتَل مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَل بِهِ، وَإِذَا
قَتَل حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَل بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ
الْمُكَافَأَةِ. (2)
وَيُقْتَل الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَل الْمُكَاتَبُ
بِهِ، وَيُقْتَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ -
وَالْعَكْسُ - لأَِنَّ الْكُل عَبِيدٌ.
وَيُقْتَل الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا. (3)
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ
الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْل الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَال الدُّسُوقِيُّ:
لاَ بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالاَتِ الثَّلاَثِ:
حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الإِْصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى
فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ
هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 237 - 238، والزرقاني 8 / 3.
(2) المغني 7 / 663.
(3) المغني 7 / 660، 662.
(33/264)
وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا
زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ
قَبْل السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْل الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ
الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ،
وَهُوَ وَقْتُ الإِْصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي
الْمَوْتِ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى
قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلاَفًا لأَِشْهَبَ
(1) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ
فِي الإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْل غِيلَةً، وَقَالُوا
بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَال
الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ،
وَهِيَ الْقَتْل لأَِخْذِ الْمَال - فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ
الْمُتَقَدِّمَةُ، بَل يُقْتَل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ
بِالْكَافِرِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ
هُوَ وَقْتُ الْقَتْل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَل كَافِرٌ
كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِل. . . فَقَال أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ
مِنْهُ. . . لأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الاِعْتِبَارُ فِيهَا
بِحَال وُجُوبِهَا دُونَ حَال اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَل
أَنْ لاَ يُقْتَل بِهِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ (3) .
وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْل غِيلَةً وَغَيْرَهُ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 249 - 250.
(2) الدسوقي 4 / 238.
(3) المغني 7 / 653.
(33/264)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْل الْغِيلَةِ
وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ
دُونَ السُّلْطَانِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِل
وَالْقَتِيل فِي الإِْسْلاَمِ وَالأَْمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ
وَالأَْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا
مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. (2)
وَلأَِنَّهُ لاَ يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
بِالإِْجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى. . . وَيُقْتَل ذِمِّيٌّ بِهِ
أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَل أَيْضًا بِذِمِّيٍّ
وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ
وَعَكْسُهُ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ
إِنَّ النَّسْخَ شَمِل الْجَمِيعَ.
وَالأَْظْهَرُ: قَتْل مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ
سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإِْسْلاَمِ أَمْ لاَ؛
لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَل الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ
الذِّمِّيِّ لأَِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْتَل بِهِ
لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالأَْظْهَرُ أَيْضًا:
قَتْل مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَل ذِمِّيٌّ
ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لاَ؛ لأَِنَّ الْمَقْتُول مُبَاحُ الدَّمِ، لاَ
ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الأَْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَل بِهِ أَيْضًا،
__________
(1) المغني 7 / 648.
(2) حديث: " لا يقتل مسلم بكافر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 260) من
حديث علي.
(33/265)
وَيُقْتَل الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي
الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَل بِالذِّمِّيِّ، وَلاَ يُقْتَل زَانٍ
مُحْصَنٌ بِهِ لاِخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الإِْسْلاَمِ، وَلِخَبَرِ: لاَ
يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ يُقْتَل حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ
وَإِنْ قَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} ، (1) وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ
وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ.
وَيُقْتَل قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ
بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُول لِكَافِرٍ وَالْقَاتِل لِمُسْلِمٍ
لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَل
عَبْدَهُ لاَ يُقْتَل بِهِ كَمَا لاَ يُقْتَل الْحُرُّ بِعَبْدِهِ. (2)
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَل مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ
ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُول أَمْ لاَ،
لاَ قِصَاصَ، وَقِيل: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل وَجَبَ
الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُول
أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل أَكْثَرَ فَلاَ
قِصَاصَ قَطْعًا؛ لاِنْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لاَ تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلاَ قِصَاصَ
وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ
يُقْتَل بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لاَ يُقْتَل بِالْعَبْدِ، وَلاَ
تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) مغني المحتاج 4 / 16 - 18.
(3) مغني المحتاج 4 / 18.
(33/265)
وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِي وَصْفَيِ
الأَْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي
الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْل، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ
سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي
قَتَل كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا
حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَال
الْجِنَايَةِ، وَلاَ نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ
جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ
الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لاَ
يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الأَْصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ
الْجَرْحِ. (1)
د - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَاتِل حَرْبِيًّا:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى
الْقَاتِل إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَال
الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ
أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِل حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ
الإِْسْلاَمِ، وَلَكِنْ يُقْتَل بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ
فَلَوْ قَتَل حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَل بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَل
لإِِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْل وَالْقِصَاصُ. (2)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 16.
(2) بدائع الصناع 7 / 236، والدردير مع الدسوقي 4 / 238، والزرقاني 8 / 3،
ومغني المحتاج 4 / 15 - 16، وكشاف القناع 5 / 524.
(33/266)
هـ - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُتَعَمِّدًا
الْقَتْل:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ
الْقَتْل الْعَمْدِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْعَمْدُ قَوَدٌ، (1) قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ الْقِصَاصَ
عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ،
وَالْجِنَايَةُ لاَ تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْل الْعَمْدُ
هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل غَالِبًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَتْل عَمْدٍ ف 1) .
و أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُخْتَارًا:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي
إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَل غَيْرَهُ مُكْرَهًا
لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ
فِي الْجُمْلَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ
الْقَاتِل مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الإِْيثَارِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى
مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الأُْخْرَى (3) ،
وَهَل يَجِبُ
__________
(1) حديث: " العمد قود ". أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 365) من حديث ابن عباس.
(2) الدسوقي 4 / 244، ومغني المحتاج 4 / 9، والمغني 7 / 645.
(3) بدائع الصنائع 7 / 235.
(33/266)
الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟
فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19) .
أَمَّا الإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلاَ أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ
مَعَهُ مِنَ الْقَاتِل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19 - 24) .
ز - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُول جُزْءَ الْقَاتِل أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ:
17 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل وَالِدٌ بِوَلَدِهِ
مُطْلَقًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ؛ (1) وَلأَِنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ
فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ
هُنَا كُل الأُْصُول مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا،
فَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الأُْمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الأَْبِ
كُنَّ أَمْ مِنَ الأُْمِّ، كَمَا يَدْخُل الأَْجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ
الأَْبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الأُْمِّ؛ لِشُمُول لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ
جَمِيعًا. (2)
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الأُْمَّ تُقْتَل بِالاِبْنِ خِلاَفًا
لِلأَْبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالأَْبِ فَلاَ
__________
(1) حديث: " لا يقاد الوالد بالولد. . " أخرجه الترمذي (4 / 18) من حديث
عمر بن الخطاب، وصحح إسناده البيهقي في المعرفة (12 / 40) بلفظ: " لا يقاد
الأب من ابنه ".
(2) البدائع 7 / 235، ومغني المحتاج 4 / 18، والمغني 7 / 666، وكشاف القناع
5 / 527.
(33/267)
تُقْتَل بِالاِبْنِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْبَ إِذَا قَتَل ابْنَهُ قُتِل
بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
وَاضِحًا لَمْ يُقْتَل بِهِ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لاَ
يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ
بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ.
(2)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَال الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا
الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ
لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ. (3)
ح - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُول مَمْلُوكًا لِلْقَاتِل:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَل سَيِّدَهُ
قُتِل بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَل عَبْدًا أَوْ أَمَةً
مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَل بِهِمَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقْتَل حُرٌّ بِعَبْدِهِ. (4)
وَمِثْل الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ
يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُتَجَزِّئٍ.
كَمَا لاَ يُقْتَل الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ،
__________
(1) المغني 7 / 667.
(2) الشرح الكبير 4 / 267.
(3) كشاف القناع 5 / 528.
(4) حديث: " لا يقتل حر بعبد " أخرجه الدارقطني (3 / 133) من حديث ابن عباس
وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 16) بتضعيف أحد رواته.
(33/267)
وَمُكَاتَبِهِ؛ لأَِنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ
حَقِيقَةً. (1)
ط - أَنْ يَكُونَ الْقَتْل مُبَاشِرًا:
19 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ
وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ
الأُْخْرَى.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْل مُبَاشَرَةً، فَلَوْ
قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ
فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ
الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْل فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِل
بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ
كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُول، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ
عِنْدَهُمْ. (2)
ي - أَنْ يَكُونَ الْقَتْل قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَل
مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لإِِطْلاَقِ
الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالأَْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ
إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَل بِهِ؛
__________
(1) البدائع 7 / 235، والشرح الكبير للدردير 4 / 267، والقرطبي 2 / 248 -
249، ومغني المحتاج 4 / 17، والمغني 7 / 659.
(2) البدائع 7 / 239 - 240، والدسوقي 4 / 244، 246، ومغني المحتاج 4 / 7،
والمغني 7 / 645 - 646.
(3) الأم 6 / 30، ومغني المحتاج 4 / 13، والمغني 7 / 648.
(33/268)
لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ
مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لاَ عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا
كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَل أَحَدُهُمَا
الآْخَرَ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا. (1)
ك - الْعُدْوَانُ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي
الْقَتْل الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ
يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ
بِإِذْنِ الْقَتِيل لَمْ يُقْتَل بِهِ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، وَعَلَى
ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْل قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ
النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَال كَقَتْل السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ،
أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْل فِي
هَذِهِ الأَْحْوَال كُلِّهَا لاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ
الاِعْتِدَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف
7، وَصِيَال ف 6)
ل - أَنْ لاَ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِل:
22 - لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِل، كَأَنْ وَرِثَ
الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ
لِلْجُزْئِيَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ
إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ
__________
(1) البدائع 7 / 237.
(33/268)
لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ. (1)
م - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا:
23 - وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ
الدَّمِ مَجْهُولاً لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
وُجُوبٌ لِلاِسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُول مُتَعَذِّرٌ
فَتَعَذَّرَ الإِْيجَابُ. (2)
ن - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاتِل شَرِيكٌ فِي الْقَتْل سَقَطَ الْقِصَاصُ
عَنْهُ:
24 - إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْل
لأَِيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ
الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، (3) لأَِنَّ الْقَتْل وَاحِدٌ، وَلاَ
يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ،
فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا
أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ. . . سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ
الْجَمِيعِ.
أَمَّا إِذَا قَتَل اثْنَانِ رَجُلاً، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا
فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ
أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 240، والدر المختار 5 / 345، ومغني المحتاج 4 / 18،
والمغني 7 / 668.
(2) (2) بدائع الصنائع 7 / 240.
(3) ابن عابدين 5 / 350 و 359، وبدائع الصنائع 7 / 235 - 236.
(33/269)
يَعْفُوَ عَنْهُ كَالأَْوَّل، وَقَال أَبُو
يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي.
هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيل
أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ
بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا
قَتَل إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ،
سَقَطَ حَقُّ الأَْوَّل وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى
حَالِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ
الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى
قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلاَ قِصَاصَ
عَلَى الْكَبِيرِ؛ لاِحْتِمَال أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِل،
إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ
الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَل الْكَبِيرُ.
وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَل يُقْتَصُّ
مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ
غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ،
وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ. أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ
ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ
أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ،
وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لاَ
يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَال
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 247.
(33/269)
الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ
الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ
فِي الْعَمْدِ، وَكُل الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ
الْمَرَضُ قَبْل الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ
اتِّفَاقًا، وَقَال: وَأَمَّا الْمَسَائِل الثَّلاَثُ الأُْوَل
فَالْقَوْلاَنِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ
مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ
قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلاَ يُقْتَل
شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لأَِنَّ الزُّهُوقَ
حَصَل بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالآْخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ
الْمُسْقِطُ.
وَيُقْتَل شَرِيكُ الأَْبِ فِي قَتْل وَلَدِهِ، وَعَلَى الأَْبِ نِصْفُ
الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الأَْبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ
بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْل الْخَاطِئِ وَالْفِعْلاَنِ
مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ
كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الأُْبُوَّةِ فِي ذَاتِ
الأَْبِ لاَ فِي ذَاتِ الْفِعْل، وَذَاتُ الأَْبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ
الأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَل جَمَاعَةٌ وَاحِدًا،
وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيل سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ
الأَْبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى
__________
(1) الدردير والدسوقي عليه 4 / 274، والزرقاني 8 / 11.
(2) مغني المحتاج 4 / 20.
(33/270)
الآْخَرِينَ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ
قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي
جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى الأَْبِ
وَلاَ عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَتْل مِنْهُمْ
جَمِيعًا، فَلاَ يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الآْخَرِ،
وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ
الْبَاقِينَ.
وَمِثْل الأَْبِ هُنَا كُل مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ
مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ،
كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْل
الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْل صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ
سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ سُقُوطَ
الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِل. (1)
قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:
25 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ
جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْل وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ
يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَل
سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلاً، وَقَال: لَوْ تَمَالأََ
عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ
__________
(1) المغني 7 / 676 - 678.
(33/270)
جَمِيعًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7) .
وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ
فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَل الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى
سَبِيل الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي
التَّرِكَةِ، (2) يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ،
وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ
مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ
فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لأَِنَّ
فِيهِمْ قُوَّةَ الإِْرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ
الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي،
وَأَنَّهُ لاَ يَحْصُل لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُل لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ
حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى
الْكَمَال لاَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ
__________
(1) أثر عمر - رضي الله عنه -: " لو تمالأ عليه أهل صنعاء. . . . " أخرجه
البيهقي (8 / 41) ، والبخاري تعليقًا (فتح الباري 12 / 227) واللفظ
للبيهقي، وصحح إسناده، ووصله ابن حجر في فتح الباري (2 / 227) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 248 - 249، والدسوقي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 39،
50، 51، وكشاف القناع 5 / 546.
(33/271)
يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ
حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً
بِالنَّسَبِ كَالاِبْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلاَءِ، فَلاَ دَخْل فِيهِ
لِزَوْجٍ وَلاَ أَخٍ لأُِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأُِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الاِبْنُ
ثُمَّ ابْنُ الاِبْنِ، وَيُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى
الأَْبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الإِْخْوَةِ
بِخِلاَفِ الأَْبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ
بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ
عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ. (2)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ
لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ
وَالأُْخْتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلاَ
قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ، وَالأُْخْتِ مَعَ الأَْخِ،
فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلاِبْنِ
وَحْدَهُ، وَلِلأَْخِ وَحْدَهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ
لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 242، وابن عابدين 5 / 364.
(2) الدسوقي 4 / 256.
(33/271)
أَوْ لأَِبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ
وَالْجَدَّةُ لأُِمٍّ وَالأُْخْتُ لأُِمٍّ. . . فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ
مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ،
وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَال أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الأَْبْعَدِ مِنْهُنَّ. (1)
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ
الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ) .
وَلِلأَْبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ لِوِلاَيَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الأَْبِ مِنْ
أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالأَْخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ
لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُول بِوِصَايَتِهِ؛
لأَِنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَال فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لاَ
يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ. (2)
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُول وَارِثٌ وَلاَ عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ
اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلاَيَتِهِ
الْعَامَّةِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ:
__________
(1) الدسوقي 4 / 258.
(2) المغني 7 / 740، والمهذب 2 / 185، وبدائع الصنائع 7 / 243 - 244، وكشاف
القناع 5 / 533.
(33/272)
لاَ وِلاَيَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي
اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُول فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَعْفُوَ. (1)
طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
27 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ
لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل يُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْل
الطَّرِيقَةِ وَالآْلَةِ الَّتِي قَتَل بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، (2)
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقَةُ مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَثْبُتَ الْقَتْل
بِخَمْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْل
بِلِوَاطٍ أَوْ بِسِحْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَا فِي الأَْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَمْرِ بِإِيجَارِهِ
مَائِعًا كَخَلٍّ أَوْ مَاءٍ، وَفِي اللِّوَاطِ بِدَسِّ خَشَبَةٍ قَرِيبَةٍ
مِنْ آلَتِهِ وَيُقْتَل بِهَا. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ
عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعُنُقِ مَهْمَا كَانَتِ الآْلَةُ وَالطَّرِيقَةُ
الَّتِي قَتَل بِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 243، والدسوقي 4 / 256، والمهذب 2 / 185.
(2) سورة النحل / 126.
(3) الدسوقي 4 / 265 - 266، والمهذب 2 / 186، والمغني 7 / 688.
(33/272)
لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، (1)
وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ هُنَا السِّلاَحُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُل
السِّكِّينُ وَالْخَنْجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (2)
28 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ فِيهِ لِخَطَرِهِ؛
وَلأَِنَّ وُجُوبَهُ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ لاِخْتِلاَفِ النَّاسِ
فِي شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِيفَاءِ، لَكِنْ يُسَنُّ حُضُورُهُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ
إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ
الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ السُّلْطَانِ جَازَ، وَيُعَزَّرُ
لاِفْتِئَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ. (3)
اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
29 - يُشْتَرَطُ لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ
الْوَلِيُّ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
أَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ وَاحِدًا
كَانَ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ لَهُ طَلَبَ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُ، فَإِنْ
طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ وَاحِدًا أُجِيبَ إِلَيْهِ
إِذَا طَلَبَهُ مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أُجِيبُوا
إِلَيْهِ إِذَا
__________
(1) حديث: " لا قود إلا بالسيف " أخرجه ابن ماجه (2 / 889) من حديث النعمان
بن بشير، وضعفه ابن حجر كما في فتح الباري (12 / 200) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 245، والدر المختار 5 / 346، والمغني 7 / 688،
والإنصاف 9 / 490.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 352، ومنح الجليل 4 / 345، ومغني المحتاج 4 / 40،
والإنصاف 9 / 487، والمغني 7 / 690.
(33/273)
طَلَبُوهُ جَمِيعًا، فَإِذَا أَسْقَطَهُ
أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْقِصَاصُ - كَمَا تَقَدَّمَ -
فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ قَاصِرًا، أَوْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ
بَعْضُهُمْ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ نَاقِصَ الأَْهْلِيَّةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبَرَ،
وَالْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَعْفُو فَيَسْقُطُ
الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ لِكُل الْوَرَثَةِ
عَلَى سَبِيل الاِشْتِرَاكِ؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ
التَّفْوِيضُ إِلَى خِيرَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يَحْصُل بِاسْتِيفَاءِ
غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ
أَنَّهُ يُحْبَسُ الْقَاتِل حَتَّى الْبُلُوغِ وَالإِْفَاقَةِ، وَلاَ
يُخَلَّى بِكَفِيلٍ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَهْرُبُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ
لِكَامِلِي الأَْهْلِيَّةِ وَحْدَهُمْ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، لأَِنَّ
الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كَامِلاً - عِنْدَهُ - عَلَى سَبِيل
الاِسْتِقْلاَل، فَإِذَا طَلَبُوهُ أُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلاَ عِبْرَةَ
بِالآْخَرِينَ نَاقِصِي الأَْهْلِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَفْوَهُمْ لاَ يَصِحُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَظَرُ صَغِيرٌ لَمْ
يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ مَجْنُونٌ مُطْبِقٌ لاَ
تُعْلَمُ إِفَاقَتُهُ بِخِلاَفِ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ
(33/273)
إِفَاقَتُهُ. (1)
فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ كَامِلِي الأَْهْلِيَّةِ غَائِبًا
انْتُظِرَتْ عَوْدَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ لَهُ الْعَفْوَ فَيَسْقُطُ
بِهِ الْقِصَاصُ؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي كَمَا سَبَقَ. (2)
زَمَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
30 - إِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِشُرُوطِهِ جَازَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاؤُهُ
فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لأَِنَّهُ حَقُّهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ
يُعَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا
جَرَحَهُ جُرْحًا نَافِذًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ؛
لأَِنَّهُ رُبَّمَا شُفِيَ مِنْ جُرْحِهِ فَلاَ قِصَاصَ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ
سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فَيُسْتَوْفَى
فَوْرًا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُعَافًى أَوْ مَرِيضًا،
وَسَوَاءٌ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ بَارِدًا أَوْ حَارًّا؛ لأَِنَّ
الْمُسْتَحَقَّ الْمَوْتُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَاتِل إِذَا كَانَ
امْرَأَةً حَامِلاً يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى تَلِدَ، حِفَاظًا عَلَى
سَلاَمَةِ الْجَنِينِ وَحَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ، بَل إِنَّهَا تُنْظَرُ
إِلَى الْفِطَامِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 243، والزيلعي 6 / 108، والزرقاني 8 / 21 - 23،
ومغني المحتاج 4 / 40، والمغني 7 / 739، والشرح الصغير 4 / 359 - 360.
(2) بدائع الصنائع 7 / 243، والزيلعي 6 / 109، ومغني المحتاج 4 / 40،
والمغني 7 / 739، والشرح الصغير 4 / 359 - 360.
(33/274)
لإِِرْضَاعِهِ، فَإِذَا ادَّعَتِ الْحَمْل
وَشَكَّ فِي دَعْوَاهَا أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ حَامِلٌ
أُجِّلَتْ، ثُمَّ إِنْ ثَبَتَ حَمْلُهَا حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ وَإِنْ
قُلْنَ: غَيْرُ حَامِلٍ اقْتُصَّ مِنْهَا فَوْرًا. (1)
مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
31 - لَيْسَ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ
إِذَا الْتَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، إِذَا
لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ قُتِل فِيهِ، فَإِنْ دَخَل الْكَعْبَةَ أَوِ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ أُخْرِجَ مِنْهُ
وَقُتِل خَارِجَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ
مِنْهُ وَلاَ يُقْتَل فِيهِ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ عَنْهُ الطَّعَامُ
وَالشَّرَابُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ وَيُقْتَصُّ
مِنْهُ.
هَذَا مَا دَامَتِ الْجِنَايَةُ وَقَعَتْ خَارِجَ الْحَرَمِ فِي الأَْصْل،
فَإِذَا كَانَتْ وَقَعَتْ فِي الْحَرَمِ أَصْلاً، جَازَ الاِقْتِصَاصُ
مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
__________
(1) الدر المختار 3 / 148، والدردير مع الدسوقي 4 / 260، والزرقاني 8 / 24،
ومغني المحتاج 4 / 43، والمغني 7 / 731.
(2) الدر المختار 5 / 352، والزرقاني 8 / 24، والدسوقي 4 / 261، والمهذب 2
/ 189، ومغني المحتاج 4 / 43، والمغني 8 / 236 و239.
(33/274)
مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي
النَّفْسِ:
يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ بِأُمُورٍ، هِيَ:
أ - فَوَاتُ مَحَل الْقِصَاصِ:
32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْقَاتِل
قَبْل أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ؛
لأَِنَّ الْقَتْل لاَ يَرِدُ عَلَى مَيِّتٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ الْمَوْتُ قَدْ حَصَل حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِقَتْل آخَرَ لَهُ
بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِذَا قَتَل الْقَاتِل عَمْدًا عُدْوَانًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ
الْقِصَاصِ مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي مَال الْقَاتِل الأَْوَّل عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل الثَّانِي لأَِوْلِيَاءِ
الْمَقْتُول الأَْوَّل. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
كَانَ الْقَتْل خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ لأَِوْلِيَاءِ الْمَقْتُول
الأَْوَّل فِي مَال الْقَاتِل الثَّانِي. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 246، والشرح الصغير 4 / 337، وشرح الزرقاني 8 / 18،
والأم 6 / 10، ومغني المحتاج 4 / 48، والشرح الكبير بهامش المغني 9 / 417،
والإنصاف 10 / 6.
(33/275)
ب - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ.
33 - الْقِصَاصُ حَقٌّ لأَِوْلِيَاءِ الدَّمِ، فَإِذَا عَفَوْا عَنِ
الْقِصَاصِ عَفْوًا مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ
بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِمْ،
وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا (1) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، (2) وَقَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (3)
وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: مَا
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ
شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ. (4)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَفْو ف 18 - 30) .
ج - الصُّلْحُ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْقَاتِل
وَوَلِيِّ الْقِصَاصِ عَلَى إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ بِمُقَابِل بَدَلٍ
يَدْفَعُهُ الْقَاتِل لِلْوَلِيِّ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ؛ لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَعْقِل الْعَمْدَ، وَيُسَمَّى
هَذَا الْبَدَل بَدَل الصُّلْحِ عَنْ
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 9 / 414، والمهذب 2 / 189.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) سورة المائدة / 45.
(4) حديث: " ما رأيت النبي رفع إليه شيء. . . " أخرجه أبو داود (4 / 637)
من حديث أنس، وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (6 / 298) .
(33/275)
دَمِ الْعَمْدِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ
الْوَلِيُّ أَوِ الأَْوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ عَاقِلِينَ بَالِغِينَ جَازَ
أَنْ يَكُونَ بَدَل الصُّلْحِ هُوَ الدِّيَةُ أَوْ أَقَل مِنْهَا أَوْ
أَكْثَرُ مِنْهَا، مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، حَالًّا
أَوْ مُؤَجَّلاً عَلَى سَوَاءٍ، لأَِنَّ الصُّلْحَ مُعَاوَضَةٌ، فَيَكُونُ
عَلَى بَدَلٍ يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ بَالِغًا مَا بَلَغَ مَا
دَامَا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صُلْح ف
31) .
الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
35 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ بِشُرُوطِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ
بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . (1)
وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ
النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارَةٍ لَهَا، فَعَرَضُوا
عَلَيْهِمُ الأَْرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا،
فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ
بِالْقِصَاصِ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(33/276)
لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ
قَال: فَعَفَا الْقَوْمُ، ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللَّهِ لأََبَرَّهُ. (1)
وَلأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ
بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ. (2)
أَسْبَابُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
36 - لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَسْبَابٌ هِيَ: إِبَانَةُ
الأَْطْرَافِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الأَْطْرَافِ، وَإِذْهَابُ مَعَانِي
الأَْطْرَافِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا وَالْمَقْصُودُ بِهَا الْمَنَافِعُ،
وَالشِّجَاجُ وَهِيَ الْجِرَاحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَالْجِرَاحُ
فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا
دُونَ النَّفْسِ ف 13 - 32) وَمُصْطَلَحِ (جِرَاح ف 8 - 10) وَمُصْطَلَحِ
(شِجَاج ف 4 - 11) .
شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
37 - يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُرُوطٌ هِيَ: أَنْ
يَكُونَ الْفِعْل عَمْدًا، وَأَنْ
__________
(1) حديث: " إن من عباد الله. . . " سبق تخريجه ف 7.
(2) بدائع الصنائع 7 / 297، والمهذب 2 / 178، وكشاف القناع 5 / 547.
(33/276)
يَكُونَ الْفِعْل عُدْوَانًا،
وَالتَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ، وَالتَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ،
وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَل، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ،
وَإِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا
دُونَ النَّفْسِ ف 4 - 11) .
أَثَرُ السِّرَايَةِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
38 - سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ
وَكَذَلِكَ أَثَرُهَا، ثُمَّ إِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ كَأَنْ يَجْرَحَ
شَخْصًا عَمْدًا فَصَارَ ذَا فِرَاشٍ (أَيْ مُلاَزِمًا لِفِرَاشِ
الْمَرَضِ) حَتَّى يَحْدُثَ الْمَوْتُ، أَوْ سَرَتْ إِلَى مَا لاَ يُمْكِنُ
مُبَاشَرَتُهُ بِالإِْتْلاَفِ، كَأَنْ يَجْنِيَ عَلَى عُضْوٍ عَمْدًا
فَيَذْهَبُ أَحَدُ الْمَعَانِي كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَنَحْوِهِمَا
وَجَبَ الْقِصَاصُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سِرَايَة ف 4) .
الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَتَيْنِ:
39 - إِذَا قَطَعَ أُصْبُعَ آخَرَ مِنْ مُنْتَصَفِ الْمَفْصِل، ثُمَّ
قَطَعَهَا مِنَ الْمَفْصِل بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
إِلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ إِنْ كَانَتْ قَبْل الْبُرْءِ مِنَ
الأُْولَى اقْتُصَّ مِنْهُ مِنَ الْمَفْصِل؛ لأَِنَّهُ قَطْعٌ وَاحِدٌ فِي
الْحُكْمِ، وَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُرْءِ
مِنَ الأُْولَى لَمْ
(33/277)
يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ
الأُْولَى لاَ قِصَاصَ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَفْصِل
فَتَعَذَّرَتِ الْمُسَاوَاةُ، وَالثَّانِيَةُ قَطْعٌ لِعُضْوٍ نَاقِصٍ
فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا أَيْضًا. (1)
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَإِنْ بَرِئَ بَعْدَ الْقَطْعِ
اقْتُصَّ مِنْهُ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْل؛ لأَِنَّ كُل جِنَايَةٍ مِنْهُمَا
مُسْتَقْبَلَةٌ فَيُقَادُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ بَعْدَ الْقَطْعِ
فَقَوْلاَنِ لِلْحَنَفِيَّةِ، قَوْلٌ لأَِبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ
بِأَنَّهُمَا كَجِنَايَتَيْنِ فَيُقْطَعُ وَيُقْتَل كَمَا إِذَا بَرِئَ،
وَقَوْلٌ لِلصَّاحِبَيْنِ يُقْتَل وَلاَ يُقْطَعُ. (2)
وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي
الْجِنَايَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِنْ
غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْبُرْءِ أَوْ عَدَمِهِ، قَال الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ
جَنَى عَلَى رَجُلٍ جِنَايَةً يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ ثُمَّ قَتَلَهُ
وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا جِنَايَتَانِ يَجِبُ الْقِصَاصُ
فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا عِنْدَ
الاِجْتِمَاعِ، كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْل. (3)
فَإِذَا جَنَى عَلَى اثْنَيْنِ فَقَطَعَ يَمِينَ كُلٍّ مِنْهُمَا اقْتُصَّ
مِنْهُ بِقَطْعِ يَمِينِهِ، ثُمَّ إِنْ حَضَرَا مَعًا فَلَهُمَا أَنْ
يَقْطَعَا يَمِينَهُ، وَيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ،
وَإِنْ حَضَرَ الأَْوَّل فَقَطَعَ لَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الثَّانِي فَلَهُ
الدِّيَةُ وَحْدَهُ - دِيَةُ الْيَدِ - وَهَذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 302.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 360.
(3) المهذب 2 / 184.
(33/277)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
(1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَنْدَرِجُ فِي الْقَتْل
سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَتَانِ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ
وَاحِدٍ مَا لَمْ يَقْصِدْ مُثْلَةً، فَإِنْ قَصَدَ مُثْلَةً لَمْ
تَنْدَرِجِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى
النَّفْسِ إِنْ كَانَتَا عَلَى وَاحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِمُ انْدَرَجَتْ مُطْلَقًا، وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: وَانْدَرَجَ
فِي قَتْل النَّفْسِ طَرَفٌ إِنْ تَعَمَّدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ
الطَّرَفُ لِغَيْرِهِ كَقَطْعِ يَدِ شَخْصٍ وَفَقْءِ عَيْنِ آخَرَ وَقَتْل
آخَرَ عَمْدًا فَيَنْدَرِجَانِ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ قَال: لَمْ يَقْصِدْ
مُثْلَةً، خَاصٌّ بِطَرَفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَ
قَطْعِ طَرَفِهِ، أَمَّا طَرَفُ غَيْرِهِ فَيَنْدَرِجُ. (2)
سُقُوطُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
40 - يَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِمَوْتِ الْجَانِي قَبْل
الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، كَمَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ أَوْ صُلْحِهِ، وَكَذَلِكَ بِعَفْوِ الأَْوْلِيَاءِ إِنْ مَاتَ
أَوْ صَالَحَهُمْ أَوْ صَالَحَ أَحَدَهُمْ عَلَى مَالٍ وَإِنْ قَل،
وَكَذَلِكَ بِفَوَاتِ مَحَل الْقِصَاصِ فِي الْجَانِي. (3)
طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
41 - يَكُونُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالآْلَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 299 - 300، والمغني 7 / 701.
(2) الزرقاني 8 / 29.
(3) بدائع الصنائع 7 / 298.
(33/278)
الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، كَالسِّكِّينِ وَمَا
سِوَاهَا كَيْ لاَ يَتَعَدَّى الْقِصَاصُ الْجِنَايَةَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
شَرْطٌ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَصُّ بِالسَّيْفِ فِي الْجِرَاحِ،
لأَِنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى الْجُرْحُ الْمُرَادُ فَيُهَشِّمُ الْعَظْمَ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْفِي عَالِمًا بِطَرِيقَةِ الْقَطْعِ
وَمِقْدَارِهِ لِئَلاَّ يُجَاوِزَ الْحَدَّ كَالطَّبِيبِ الْجَرَّاحِ
وَنَحْوِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَالِمًا بِذَلِكَ مُكِّنَ مِنَ
الاِقْتِصَاصِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ قَامَ بِهِ نَائِبُ
الإِْمَامِ الْمُفَوَّضُ وَالْعَالِمُ بِذَلِكَ. (1)
مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
42 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ لِوَلِيِّ الدَّمِ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَ
عَالِمًا بِالْجِرَاحَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لاَ يُمَكَّنُ مِنَ
الاِسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَلِيهِ إِلاَّ نَائِبُ الإِْمَامِ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي أَنْ يَجْنِيَ عَلَيْهِ
بِمَا لاَ يُمْكِنُ تَلاَفِيهِ. (2)
__________
(1) المهذب 2 / 187، والمغني 7 / 704.
(2) بدائع الصنائع 7 / 244، والمدونة 6 / 433، والمهذب 2 / 186، والجمل على
شرح المنهج 5 / 49، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 412.
(33/278)
قَصَبَةٌ
انْظُرْ: مَقَادِير.
قَصْدٌ
انْظُرْ: نِيَّة
قَصْرُ الصَّلاَةِ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ
(33/279)
قَصَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَصَّةُ - بِالْفَتْحِ - فِي اللُّغَةِ: الْجِصُّ بِلُغَةِ
الْحِجَازِ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّشْبِيهِ: لاَ تَعْجَلْنَ
حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، (1) قَال أَبُو عُبَيْدٍ:
مَعْنَاهُ أَنْ تَخْرُجَ الْقُطْنَةُ وَالْخِرْقَةُ الَّتِي تَحْتَشِي
بِهَا الْمَرْأَةُ كَأَنَّهَا قَصَّةٌ لاَ يُخَالِطُهَا صُفْرَةٌ، وَقِيل:
الْمُرَادُ النَّقَاءُ مِنْ أَثَرِ الدَّمِ، وَرُؤْيَةُ الْقَصَّةِ مَثَلٌ
لِذَلِكَ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الزَّيْلَعِيُّ: الْقَصَّةُ شَيْءٌ يُشْبِهُ
الْخَيْطَ الأَْبْيَضَ يَخْرُجُ مِنْ قُبُل النِّسَاءِ فِي آخِرِ
أَيَّامِهِنَّ يَكُونُ عَلاَمَةً عَلَى طُهْرِهِنَّ.
وَقِيل: هُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ فِي آخِرِ الْحَيْضِ (3) .
__________
(1) حديث: " لا تعجلن. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 59) ط. الحلبي عن
عائشة.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط.
(3) تبيين الحقائق 1 / 55، وانظر فتح القدير 1 / 113 ط. بولاق، ومواهب
الجليل 1 / 370، 371، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 1 / 432، 433.
(33/279)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجُفُوفُ:
2 - الْجُفُوفُ: هُوَ أَنْ تُدْخِل الْمَرْأَةُ الْخِرْقَةَ فَتُخْرِجَهَا
جَافَّةً لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ وَلاَ مِنَ الصُّفْرَةِ
وَالْكُدْرَةِ (1) .
وَكُلٌّ مِنَ الْقَصَّةِ وَالْجُفُوفِ عَلاَمَةٌ عَلَى الطُّهْرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَصَّةِ
الْبَيْضَاءِ وَالْجُفُوفِ عَلاَمَةٌ لِلطُّهْرِ، فَإِذَا رَأَتِ
الْمَرْأَةُ أَيًّا مِنْهُمَا عَقِبَ الْحَيْضِ طَهُرَتْ بِهِ، سَوَاءٌ
كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ عَادَتُهَا أَنْ تَطْهُرَ بِالْقَصَّةِ أَوْ
بِالْجُفُوفِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ وَضَعَتِ الْكُرْسُفَ فِي
اللَّيْل وَهِيَ حَائِضَةٌ أَوْ نُفَسَاءُ فَنَظَرَتْ فِي الصَّبَاحِ
فَرَأَتْ عَلَيْهِ الْبَيَاضَ الْخَالِصَ حُكِمَ بِطَهَارَتِهَا مِنْ حِينِ
وَضَعَتْ لِلتَّيَقُّنِ بِطَهَارَتِهَا وَقْتَهُ. (2)
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْجُفُوفِ
عَلاَمَةً لِلطُّهْرِ، وَقَدْ عَبَّرَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ هَذَا
الاِخْتِلاَفِ بِقَوْلِهِ: وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَمُقْتَضَى
الْمَرْوِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّ مُجَرَّدَ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 370، الشرح الصغير 1 / 214.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين ص 85.
(33/280)
الاِنْقِطَاعِ دُونَ رُؤْيَةِ الْقَصَّةِ
لاَ يَجِبُ مَعَهُ أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ، وَكَلاَمُ الأَْصْحَابِ فِيمَا
يَأْتِي كُلُّهُ بِلَفْظِ الاِنْقِطَاعِ، حَيْثُ يَقُولُونَ: وَإِذَا
انْقَطَعَ دَمُهَا فَكَذَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الاِنْقِطَاعُ
بِجَفَافٍ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ ثُمَّ تَرَى الْقَصَّةَ، فَإِنْ
كَانَتِ الْغَايَةُ الْقَصَّةَ لَمْ تَجِبْ تِلْكَ الصَّلاَةُ، وَإِنْ
كَانَ الاِنْقِطَاعُ عَلَى سَائِرِ الأَْلْوَانِ وَجَبَتْ، وَأَنَا
مُتَرَدِّدٌ فِيمَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَى
دَلِيلِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ فِي إِعْطَاءِ الأَْحْكَامِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ، وَرَأَيْتُ فِي مَرْوِيِّ: عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ رَيْطَةَ مَوْلاَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا كَانَتْ
تَقُول لِلنِّسَاءِ: إِذَا أَدْخَلَتْ إِحْدَاكُنَّ الْكُرْسُفَ فَخَرَجَتْ
مُتَغَيِّرَةً فَلاَ تُصَلِّي حَتَّى لاَ تَرَى شَيْئًا، وَهَذَا يَقْتَضِي
أَنَّ الْغَايَةَ الاِنْقِطَاعُ.
وَقَدْ يُقَال هَذَا التَّرَدُّدُ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ إِذَا فُسِّرَتِ
الْقَصَّةُ بِأَنَّهَا بَيَاضٌ مُمْتَدٌّ كَالْخَيْطِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ
كَلاَمِهِمْ ضَعْفُ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَقَدْ قَال فِي الْمُغْرِبِ: قَال
أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ: أَنْ تَخْرُجَ الْقُطْنَةُ أَوِ الْخِرْقَةُ
الَّتِي تَحْتَشِي بِهَا الْمَرْأَةُ كَأَنَّهَا قَصَّةٌ لاَ تُخَالِطُهَا
صُفْرَةٌ وَلاَ تُرَبِيَّةٌ، وَيُقَال إِنَّ الْقَصَّةَ شَيْءٌ كَالْخَيْطِ
الأَْبْيَضِ يَخْرُجُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ كُلِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ
يُرَادَ بِهَا انْتِفَاءُ اللَّوْنِ وَأَنْ لاَ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ
أَلْبَتَّةَ، فَضَرَبَ رُؤْيَةَ الْقَصَّةِ مَثَلاً لِذَلِكَ؛ لأَِنَّ
رَائِيَ الْقَصَّةِ غَيْرُ
(33/280)
رَائِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ أَلْوَانِ مَا
تَرَاهُ الْحَائِضُ.
فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَصَّةَ مَجَازٌ عَنِ الاِنْقِطَاعِ، وَأَنَّ
تَفْسِيرَهَا بِأَنَّهَا شَيْءٌ كَالْخَيْطِ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ " يُقَال "
الدَّالَّةِ عَلَى التَّمْرِيضِ، وَيَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا
الاِنْقِطَاعُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ - آخِرُ الْحَدِيثِ: (حَدِيثُ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) وَهُوَ قَوْلُهُ: " تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ
مِنَ الْحَيْضِ "، (1) فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ دَلِيلَهُمْ مُوَافِقٌ
لِعِبَارَاتِهِمْ كَمَا لاَ يَخْفَى. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلاَمَةُ الطُّهْرِ جُفُوفٌ أَوْ قَصَّةٌ -
وَهِيَ أَبْلَغُ - فَتَنْتَظِرُهَا مُعْتَادَتُهَا لآِخِرِ الْوَقْتِ
الْمُخْتَارِ، بِخِلاَفِ مُعْتَادَةِ الْجُفُوفِ، فَلاَ تَنْتَظِرُ مَا
تَأَخَّرَ مِنْهُمَا كَالْمُبْتَدَأَةِ، أَيْ أَنَّ عَلاَمَةَ الطُّهْرِ
أَيِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ أَمْرَانِ: الْجُفُوفُ، أَيْ خُرُوجُ
الْخِرْقَةِ خَالِيَةً مِنْ أَثَرِ الدَّمِ وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَلَّةً
مِنْ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ، وَالْقَصَّةُ وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ
كَالْمَنِيِّ أَوِ الْجِيرِ الْمَبْلُول، وَالْقِصَّةُ أَبْلَغُ: أَيْ
أَدَل عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَيْضِ، فَمَنِ اعْتَادَتْهَا
أَوِ اعْتَادَتْهُمَا مَعًا طَهُرَتْ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا فَلاَ
تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ، وَإِذَا رَأَتْهُ ابْتِدَاءً انْتَظَرَتْهَا
لآِخِرِ الْمُخْتَارِ، بِحَيْثُ تُوقِعُ الصَّلاَةَ فِي آخِرِهِ، وَأَمَّا
مُعْتَادَةُ الْجُفُوفِ فَقَطْ، فَمَتَى رَأَتْهُ أَوْ رَأَتِ الْقِصَّةَ
طَهُرَتْ، وَلاَ تَنْتَظِرُ الآْخَرَ
__________
(1) حديث عائشة: تقدم تخريجه ف 1.
(2) البحر الرائق 1 / 202 - 203، وحاشية ابن عابدين 1 / 192.
(33/281)
مِنْهُمَا، وَكَذَا الْمُبْتَدَأَةُ
الَّتِي لَمْ تَعْتَدْ شَيْئًا، هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَمُقْتَضَى
أَبْلَغِيَّةِ الْقَصَّةِ أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلاً
انْتَظَرَتِ الْقَصَّةَ. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: عَلاَمَةُ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَوُجُودِ الطُّهْرِ:
أَنْ يَنْقَطِعَ خُرُوجُ الدَّمِ وَخُرُوجُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ،
فَإِذَا انْقَطَعَ طَهُرَتْ سَوَاءٌ أَخَرَجَتْ بَعْدَهُ رُطُوبَةٌ
بَيْضَاءُ أَمْ لاَ. (2)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا كَانَتْ لِلْمَرْأَةِ
عَادَةٌ، كَأَنْ كَانَتْ تَحِيضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً مِنْ كُل
شَهْرٍ فَرَأَتِ الطُّهْرَ قَبْل انْقِضَائِهَا، فَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ
مُضِيِّ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ طَاهِرٌ، لِظَاهِرِ مَا
تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنِّسْوَةِ: لاَ
تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ وَهَذِهِ قَدْ رَأَتِ
الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. (3)
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 214.
(2) المجموع 2 / 543.
(3) شرح الزركشي على مختصر الخرقي 1 / 446. وحديث: " لا تعجلن. . . " تقدم
تخريجه ف 1.
(33/281)
قَضَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، قَال أَهْل
الْحِجَازِ: الْقَاضِي مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ:
الْقَاطِعُ لِلأُْمُورِ الْمُحَكَّمِ لَهَا. وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ
وَالْفَصْل، يُقَال: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ إِذَا حَكَمَ
وَفَصَل.
وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِضَاءِ
الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ: يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ
وَالصُّنْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ} (1) أَيْ خَلَقَهُنَّ وَصَنَعَهُنَّ، وَعَلَى الْعَمَل
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (2) مَعْنَاهُ فَاعْمَل
مَا أَنْتَ عَامِلٌ.
وَعَلَى الْحَتْمِ وَالأَْمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3)
أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ وَحَتَّمَ.
وَعَلَى الأَْدَاءِ تَقُول: قَضَيْتُ دَيْنِي أَيْ أَدَّيْتُهُ
__________
(1) سورة فصلت / 12.
(2) سورة طه / 72.
(3) سورة الإسراء / 23.
(33/282)
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا
قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ} (1) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا.
وَعَلَى الإِْبْلاَغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ
الأَْمْرَ} (2) ، أَيْ أَبْلَغْنَاهُ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْعَهْدِ وَالْوَصِيَّةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل فِي الْكِتَابِ} (3) أَيْ عَهِدْنَا
وَأَوْصَيْنَا.
وَعَلَى الإِْتْمَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ
الْمَوْتَ} (4) أَيْ أَتْمَمْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ.
وَعَلَى بُلُوغِ الشَّيْءِ وَنَوَالِهِ تَقُول: قَضَيْتُ وَطَرِي أَيْ
بَلَغْتُهُ وَنِلْتُهُ، وَقَضَيْتُ حَاجَتِي كَذَلِكَ. (5)
وَالْقَضَاءُ الْمُقْتَرِنُ بِالْقَدَرِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ
الْكُلِّيِّ الإِْلَهِيِّ فِي أَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ
عَلَيْهِ مِنَ الأَْحْوَال الْجَارِيَةِ فِي الأَْزَل إِلَى الأَْبَدِ. (6)
وَالْقَضَاءُ فِي الإِْصْلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْل
الْخُصُومَاتِ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَزَادَ ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى
وَجْهٍ خَاصٍّ، حَتَّى لاَ يَدْخُل فِيهِ نَحْوُ الصُّلْحِ بَيْنَ
الْخَصْمَيْنِ. (7)
__________
(1) سورة النساء / 103.
(2) سورة الحجر / 66.
(3) سورة الإسراء / 4.
(4) سورة سبأ / 14.
(5) لسان العرب، والمصباح المنير.
(6) القواعد الفقهية للبركتي ص 331، وانظر في تعريف القضاء والقدر حاشية
الجمل على شرح المنهج 5 / 335.
(7) ابن عابدين 5 / 352، والفتاوى الهندية 3 / 211.
(33/282)
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ:
الإِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ. (1)
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ مَنْ لَهُ إِلْزَامٌ
بِحُكْمِ الشَّرْعِ. (2)
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ
وَالإِْلْزَامُ بِهِ وَفَصْل الْخُصُومَاتِ. (3)
2 - وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (الْقَضَاءِ) فِي غَيْرِ مَا
تَقَدَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى فِعْلِهَا خَارِجَ
وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحَاتِ، (صَوْم ف 86 - 89، وَحَجّ ف 123، وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
كَمَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الدَّيْنِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى
سَدَادِ الدَّيْنِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، (4) انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (دَيْن ف
70، وَأَدَاء ف 29) .
وَاسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى
آدَابِ التَّخَلِّي. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِتَار ف 7، وَقَضَاءُ
الْحَاجَةِ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَتْوَى:
3 - الْفَتْوَى وَالْفُتْوَى وَالْفُتْيَا فِي اللُّغَةِ: مَا أَفْتَى
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 186، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 12.
(2) مغني المحتاج 4 / 372، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 334.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 459، وكشاف القناع 6 / 285.
(4) ابن عابدين 3 / 138.
(33/283)
بِهِ الْفَقِيهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلسَّائِل عَنْهُ.
فَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الإِْلْزَامِ، وَالْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ
إِلْزَامٍ، فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِظْهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي
الْوَاقِعَةِ، وَيَمْتَازُ الْقَضَاءُ عَنِ الْفَتْوَى بِالإِْلْزَامِ. (2)
ب - التَّحْكِيمُ:
4 - التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ
وَالشَّيْءِ أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ
بَيْنَهُمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ: أَنَّ الْقَضَاءَ مِنَ
الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالتَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ
الْخَصْمَيْنِ، فَهُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ أَدْنَى
دَرَجَةً مِنْهُ. (3)
ج - الْحِسْبَةُ:
5 - الْحِسْبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِحْتِسَابِ وَمِنْ
مَعَانِيهَا: الأَْجْرُ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ،
__________
(1) لسان العرب.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 456، وكشاف القناع 6 / 299.
(3) ابن عابدين 5 / 428.
(33/283)
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلاَنٌ حَسَنُ
الْحِسْبَةِ فِي الأَْمْرِ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا
الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْقَضَاءِ: أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي
أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحْتَسِبِ وَالْقَاضِي نَظَرُ أَنْوَاعٍ
مَخْصُوصَةٍ مِنَ الدَّعَاوَى وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمُنْكَرٍ
ظَاهِرٍ مِنْ بَخْسِ أَوْ تَطْفِيفِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، وَغِشِّ
الْبَيْعِ أَوْ تَدْلِيسٍ فِيهِ أَوْ فِي ثَمَنِهِ، وَالْمَطْل فِي أَدَاءِ
الدَّيْنِ مَعَ مُكْنَةِ الْوَفَاءِ.
وَتَقْصُرُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِسَمَاعِ عُمُومِ
الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا
يَدْخُلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ
النَّظَرُ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى
إِثْبَاتِ الْحَقِّ أَوْ يَحْلِفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِهِ.
وَتَزِيدُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَنْظُرُ
فِي وُجُوهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ يَسْتَعْدِيهِ بِخِلاَفِ
الْقَاضِي، كَمَا أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ بِمَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ
السُّلْطَةِ وَالرَّهْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْكَرَاتِ أَنْ
يُظْهِرَ الْغِلْظَةَ وَالْقُوَّةَ، وَلاَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 232، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
268.
(33/284)
يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَوُّزًا وَلاَ
خَرْقًا لِوِلاَيَتِهِ، أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ
لِلْمُنَاصَفَةِ، فَهُوَ بِالْوَقَارِ وَالأَْنَاةِ أَخَصُّ. (1)
د - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
6 - الْمَظَالِمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ، يُقَال: ظَلَمَهُ
يَظْلِمُهُ ظُلْمًا وَظَلْمًا وَمَظْلِمَةً، وَيُقَال: تَظَلَّمَ فُلاَنٌ
إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ فُلاَنٍ فَظَلَّمَهُ تَظْلِيمًا أَيْ أَنْصَفَهُ
مِنْ ظَالِمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ
بِالرَّهْبَةِ وَزَجْرِ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ
بِالْهَيْبَةِ، وَوَالِي الْمَظَالِمِ لَهُ مِنَ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ
وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالاً، وَأَعْلَى رُتْبَةً، إِذِ النَّظَرُ
فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَهِيَ
وِلاَيَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السُّلْطَةِ، وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ
(3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - الْقَضَاءُ مَشْرُوعٌ وَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى 269، والأحكام السلطانية للماوردي ص 232.
(2) لسان العرب.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 233، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 58،
وتبصرة الحكام 1 / 12.
(33/284)
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيل اللَّهِ} (1) ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،
وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ (3) ، وَقَدْ
تَوَلاَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَ
عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا (4) ، وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا (5) ،
كَمَا تَوَلاَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَبَعَثُوا
الْقُضَاةَ إِلَى الأَْمْصَارِ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقُضَاةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ.
8 - وَالأَْصْل فِي الْقَضَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا
قَامَ بِهِ الصَّالِحُ لَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ فِيهِ عَنِ الْبَاقِينَ،
وَإِنِ امْتَنَعَ كُل الصَّالِحِينَ لَهُ أَثِمُوا.
أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
__________
(1) سورة ص / 26.
(2) سورة المائدة / 49.
(3) حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 /
318) ومسلم (3 / 1343) من حديث عمرو بن العاص.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًا إلى اليمن قاضيًا "
أخرجه أبو داود (4 / 11) .
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا قاضيًا. . " أخرجه
الترمذي (3 / 607) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده
عندي بمتصل.
(33/285)
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ} ، (1) وَلأَِنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى
التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَل مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ،
وَلاَ يَقْدِرُ الإِْمَامُ عَلَى فَصْل الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ، فَدَعَتِ
الْحَاجَةُ إِلَى تَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلأَِنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ
أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْقُرَبِ الْعَظِيمَةِ، فَفِيهِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ
وَأَدَاءُ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَرَدُّ الظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ،
وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ
وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ.
9 - وَالْقَضَاءُ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ إِذَا طُلِبَ لَهُ، لَكِنَّهُ
لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ
مِنْ أَهْل الْبَلَدِ سِوَاهُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فَرْضَ
عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْقَبُول يَأْثَمُ كَمَا فِي
سَائِرِ فُرُوضِ الأَْعْيَانِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ قَبُول الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ
يَخَافُ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَتَوَل،
أَوْ مَنْ يَخَافُ ضَيَاعَ الْحَقِّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إِنِ امْتَنَعَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَإِنْ
عُرِضَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالأَْفْضَل لَهُ الْقَبُول
__________
(1) سورة النساء / 135.
(33/285)
فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ اقْتِدَاءً بِالأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْفْضَل
تَرْكُهُ.
وَيُنْدَبُ لَهُ الْقَبُول كَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ
يَصْلُحُ وَلَكِنَّهُ هُوَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقَبُول إِذَا كَانَ عَالِمًا
فَقِيرًا لِيَسُدَّ خُلَّتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، أَوْ كَانَ عَالِمًا
خَامِل الذِّكْرِ لِيَنْتَشِرَ عِلْمُهُ وَيُنْتَفَعَ بِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ
بِالْقَضَاءِ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل
الْعَدَالَةِ، وَالاِجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ،
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَسُئِل بِلاَ طَلَبٍ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ
الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلاَحِيَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ؛
لأَِنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدُّخُول فِي الْقَضَاءِ مُخْتَارًا
رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إِقَامَةِ الْعَدْل، وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ
فَلَعَلَّهُ لاَ يُوَفَّقُ لَهُ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ تَحْصِيل الْجَاهِ
وَالاِسْتِعْلاَءَ عَلَى النَّاسِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ
الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ مَشْهُورًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ
يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ
مِنْهُ لِلْقَضَاءِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ جَاهِلاً
لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ
لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ وَظَائِفِهِ، أَوْ
(33/286)
كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُوجِبُ
فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الاِنْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَوْ
أَخْذَ الرِّشْوَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ لِمَنْ
يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ يَجُورُ فِي
الْحُكْمِ، أَوْ يَرَى فِي نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ سَمَاعِ دَعَاوَى كُل
الْخُصُومِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ
عَلَيْهِ أَوْ أَمِنَ الْخَوْفَ فَلاَ يُكْرَهُ. (2)
10 - وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَنْصِبَ الْقُضَاةَ فِي
الْبُلْدَانِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الأُْمَّةِ
وَالْقَائِمُ بِأَمْرِهَا، وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَصْلَحَتِهَا،
وَالْمَسْئُول عَنْهَا، فَتَقْلِيدُ الْقُضَاةِ مِنْ جِهَتِهِ يَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلاَيَتِهِ؛ وَلأَِنَّ التَّقْلِيدَ لاَ
يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ. (3)
حِكْمَةُ الْقَضَاءِ:
11 - الْحِكْمَةُ مِنَ الْقَضَاءِ: رَفْعُ التَّهَارُجِ وَرَدُّ
__________
(1) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 134، فتح القدير 5 / 459، الفتاوى
الهندية 3 / 310، بدائع الصنائع للكاساني 7 / 3 - 4، أدب القضاء لابن أبي
الدم الحموي ص 82، 83، حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 335 - 336، مغني
المحتاج 4 / 373، حاشية الدسوقي 4 / 130 - 131، تبصرة الحكام 1 / 12،
المغني لابن قدامة 9 / 34 - 37، كشاف القناع 6 / 286 - 288.
(2) ابن عابدين 5 / 367.
(3) كشاف القناع 6 / 286، 288، وأدب القاضي للماوردي 1 / 137، وابن أبي
الدم ص 89، وتبصرة الحكام 1 / 21، وروضة القضاة 1 / 73، والمغني لابن قدامة
9 / 38.
(33/286)
النَّوَائِبِ، وَقَمْعُ الظَّالِمِ
وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ، وَالأَْمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ وَضْعُ الشَّيْءِ
فِي مَحَلِّهِ، لِيَكُفَّ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ. (1)
طَلَبُ الْقَضَاءِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلإِْنْسَانِ
طَلَبُ الْقَضَاءِ وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَل فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِل إِلَى
نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَل اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا
يُسَدِّدُهُ (2) ، لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُقَيِّدُ الْكَرَاهَةَ
هُنَا بِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْ طَالِبِ الْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ
قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَيَرْضَى بِأَنْ يَتَوَلاَّهُ، وَقِيل: بَل
يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ لِلْقَضَاءِ،
وَكَانَ الأَْصْلَحُ يَقْبَل التَّوْلِيَةَ.
فَإِنْ تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِلْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ
لَزِمَهُ طَلَبُهُ إِنْ لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِحَاجَةِ
النَّاسِ إِلَيْهِ، وَمَحَل وُجُوبِ الطَّلَبِ إِذَا ظَنَّ الإِْجَابَةَ
فَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ،
وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ خَامِلاً يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلْمِ
أَوْ مُحْتَاجًا لِلرِّزْقِ،
__________
(1) معين الحكام ص 7، تبصرة الحكام 1 / 13، ومغني المحتاج 4 / 372، ومجموع
الفتاوى لابن تيمية 35 / 355.
(2) حديث: " من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء. . . ". أخرجه الترمذي (3 /
605) وأعله المناوي في فيض القدير (6 / 21) بجهالة راوٍ في إسناده وضعف
آخر.
(33/287)
أَوْ إِذَا كَانَتِ الْحُقُوقُ مُضَاعَةً
لِجَوْرٍ أَوْ عَجْزٍ، أَوْ فَسَدَتِ الأَْحْكَامُ بِتَوْلِيَةِ جَاهِلٍ،
فَيَقْصِدُ بِالطَّلَبِ تَدَارُكَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ طَلَبَ، فَقَال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَْرْضِ} (1) ،
وَإِنَّمَا طَلَبَ ذَلِكَ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لاَ مَنْفَعَةَ
نَفْسِهِ.
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ فِيهِ مُبَاشِرٌ قَدْ
تَوَافَرَتْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءَ وَالطَّالِبُ يَرُومُ عَزْلَهُ
وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَهْلاً لِلْقَضَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيذَاءِ
الْقَائِمِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبَاشِرٌ أَهْلٌ لَمْ يَحْرُمْ
طَلَبُهُ، كَمَا يَحْرُمُ الطَّلَبُ لِجَاهِلٍ وَطَالِبِ دُنْيَا. (2)
بَذْل الْمَال لِتَوَلِّي الْقَضَاءِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بَذْل الْمَال
لِيُنْصَبَ قَاضِيًا، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُل فِي عُمُومِ نَهْيِ الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرِّشْوَةِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْحُرْمَةَ
بِمَا إِذَا كَانَ طَالِبُ الْقَضَاءِ لاَ يَسْتَحِقُّ التَّوْلِيَةَ
لِفَقْدِهِ شُرُوطَ التَّوْلِيَةِ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ لَمْ يَكُنِ
الْقَضَاءُ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة يوسف / 55.
(2) كشاف القناع 6 / 288، والمغني 9 / 36 ط. الثالثة للمنار. وابن عابدين 5
/ 366، ومغني المحتاج 4 / 373، 374، والروضة 11 / 93، وحاشية الدسوقي 4 /
130، 131، وتبصرة الحكام 1 / 16، 17.
(33/287)
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ بَذْل الْمَال
إِذَا كَانَ طَلَبُهُ مَكْرُوهًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى
جَوَازِ بَذْل الْمَال إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَى الْبَاذِل
لِتَعَيُّنِ فَرْضِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ،
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهًا آخَرَ لِلإِْبَاحَةِ، وَهُوَ مَا إِذَا
كَانَ مُسْتَحَبًّا لَهُ الطَّلَبُ لِيُزِيل جَوْرَ غَيْرِهِ أَوْ
تَقْصِيرَهُ. (1)
الإِْجْبَارُ عَلَى الْقَضَاءِ:
14 - إِذَا تَعَيَّنَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، فَهَل
يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُول لَوِ امْتَنَعَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ
لِلإِْمَامِ إِجْبَارَ أَحَدِ الْمُتَأَهِّلِينَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْهُ
عِوَضٌ، وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ
إِلَى عِلْمِهِ وَنَظَرِهِ، فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الطَّعَامِ إِذَا مَنَعَهُ
الْمُضْطَرَّ. (2)
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ
يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُول، فَإِنِ امْتَنَعَ لاَ يُجْبَرُ. (3)
__________
(1) المراجع السابقة، وأدب القاضي للماوردي 1 / 151، 152.
(2) ابن عابدين 5 / 386، وروضة القضاة 1 / 84، ومغني المحتاج 4 / 372، 373،
والجمل على المنهج 5 / 336، وحاشية الدسوقي 4 / 130، 131، وتبصرة الحكام 1
/ 12، والكافي لابن قدامة 3 / 431 من منشورات المكتب الإسلامي بدمشق، ومنار
السبيل 2 / 453 - المكتب الإسلامي.
(3) المراجع السابقة.
(33/288)
وَقَدْ أَرَادَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ تَوْلِيَةَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْقَضَاءَ،
فَقَال لِعُثْمَانِ: أَوَتُعَافِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَال:
فَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي؟ فَقَال: إِنِّي
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ
كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْل فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ
كَفَافًا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْفَاهُ وَقَال: لاَ تَجْبُرَنَّ أَحَدًا.
(1)
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ
يُوجَدْ غَيْرُهُ وَأَبَى الْوِلاَيَةَ أَنَّهُ لاَ يَأْثَمُ، وَحُمِل
كَلاَمُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ
بِالْوَاجِبِ لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَال:
لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ؟ . (2)
التَّرْغِيبُ فِي الْقَضَاءِ:
15 - مَكَانَةُ الْقَضَاءِ مِنَ الدِّينِ عَظِيمَةٌ، وَبِالْقِيَامِ بِهِ
قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَْرْضُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ
الأَْنْبِيَاءُ وَالرُّسُل قَال تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ
تَتَّبِعِ الْهَوَى} (3) ، وَقَال
__________
(1) حديث أن عثمان أراد تولية ابن عمر القضاء. . أخرجه الترمذي (3 / 603)
وقال: " حديث غريب، وليس إسناده عندي بمتصل ". والرواية ذكرها الهيثمي في
مجمع الزوائد (4 / 193) وعزاها لأحمد، والذي في المسند (1 / 66) : " فأعفاه
وقال لا تخبر بها أحدا ".
(2) المغني 9 / 36.
(3) سورة ص / 26.
(33/288)
تَعَالَى مُخَاطِبًا خَاتَمَ رُسُلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَل اللَّهُ} (1) ، فَوِلاَيَةُ الْقَضَاءِ رُتْبَةٌ دِينِيَّةٌ
وَنَصَبَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى
الْقِيَامِ بِهِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ
وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ دَيْنًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَل
الْقُرُبَاتِ إِذَا وُفِّيَتْ حَقَّهَا، وَإِنَّمَا الأَْعْمَال
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (2) ، وَجَعَلَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي
يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً
فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ
الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا (3) ، وَقَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى
مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَل، وَكِلْتَا
يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ
وَمَا وُلُّوا (4) ، فَكَذَلِكَ كَانَ الْعَدْل بَيْنَ النَّاسِ مِنْ
أَفْضَل أَعْمَال الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الأَْجْرِ قَال تَعَالَى:
{وَإِنْ حَكَمْتَ
__________
(1) سورة المائدة / 49.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9)
ومسلم (3 / 1515 - 1516) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " لا حسد إلا في اثنتين. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 165)
، ومسلم (1 / 559) من حديث ابن مسعود.
(4) حديث: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور. . . " أخرجه مسلم (3 /
1458) .
(33/289)
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ
مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا
مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ
ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ
فَلَهُ أَجْرٌ (2) وَإِنَّمَا أُجِرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَبَذْل وُسْعِهِ
لاَ عَلَى خَطَئِهِ. (3)
التَّرْهِيبُ مِنَ الْقَضَاءِ:
16 - كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُحْجِمُ عَنْ تَوَلِّي
الْقَضَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَنْهُ أَشَدَّ الاِمْتِنَاعِ حَتَّى لَوْ أُوذِيَ
فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ عَظِيمِ خَطَرِهِ كَمَا تَدُل
عَلَيْهِ الأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَالَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْوَعِيدُ
وَالتَّخْوِيفُ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ،
كَحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ
تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ، (4) وَحَدِيثُ: مَنْ وَلِيَ
الْقَضَاءَ أَوْ جُعِل قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ (5) ،
__________
(1) سورة المائدة / 42.
(2) حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد. . ". تقدم فقرة 7.
(3) كشاف القناع 6 / 286، وتبصرة الحكام 1 / 13، 14، وأدب القضاء لابن أبي
أدم ص 57، ومعين الحكام 7، 8.
(4) حديث: " إن الله مع القاضي ما لم يجر. . . " أخرجه الترمذي (3 / 609)
من حديث عبد الله بن أبي أوفى وقال: حديث حسن غريب.
(5) حديث: " من ولي القضاء أو جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين ". أخرجه
الترمذي (3 / 605) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(33/289)
وَحَدِيثُ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ:
قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ
الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ
فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى
بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. (1)
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأَْحَادِيثِ
الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ
الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا
الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَقَدْ
قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ
الْقَضَاءِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهُ مُجَاهِدٌ
لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى
بِالْحَقِّ إِذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا، لِتَعْظُمَ لَهُ
الْمَثُوبَةُ امْتِنَانًا، فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ
اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الأَْقَارِبِ وَالأَْبَاعِدِ فِي
خُصُومَاتِهِمْ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ حَتَّى
قَادَهُمْ إِلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْل، وَكَفَّهُمْ عَنْ
دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ، جُعِل ذَبِيحَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَبَلَغَ
بِهِ حَال الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَالتَّحْذِيرُ
الْوَارِدُ مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الظُّلْمِ لاَ عَنِ
الْقَضَاءِ،
__________
(1) حديث: " القضاة ثلاثة. . " أخرجه الترمذي (3 / 604) والحاكم (904) من
حديث بريدة، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(33/290)
فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الأَْحْكَامِ
وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) ، فَالأَْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا،
بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ، وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا
مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ،
وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى
الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ
بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإِْسْلاَمِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ،
وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ
بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ
وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ
فَضْلِهِمْ وَصَلاَحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى
مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلاَمَةِ،
وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ
الاِشْتِغَال بِهِ الإِْقْلاَل مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ. (2)
وَمِمَّنِ امْتَنَعَ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ طُلِبَ لَهُ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ (3) .
__________
(1) سورة الجن / 15.
(2) معين الحكام ص 8، المغني 9 / 35، ومغني المحتاج 4 / 372، وتبصرة الحكام
لابن فرحون 1 / 13، 14.
(3) كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 62.
(33/290)
أَرْكَانُ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامُهَا:
17 - أَرْكَانُ الْقَضَاءِ كَمَا يَلِي: (1)
أَوَّلاً: الْقَاضِي.
ثَانِيًا: الْمَقْضِيُّ بِهِ.
ثَالِثًا: الْمَقْضِيُّ لَهُ.
رَابِعًا: الْمَقْضِيُّ فِيهِ.
خَامِسًا: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ.
سَادِسًا: الْحُكْمُ.
وَتَفْصِيل حُكْمِ كُل رُكْنٍ مِنْهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الْقَاضِي:
لِلْقَاضِي أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ
أَهْلِيَّتِهِ لِلْقَضَاءِ، وَأَحْكَامِ انْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ وَعَزْلِهِ
وَاعْتِزَالِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَّصِل بِآدَابِ مِهْنَتِهِ،
وَمَسْئُولِيَّتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي
سَتُبَيَّنُ تَفْصِيلاً فِيمَا يَلِي:
أ - أَهْلِيَّةُ الْقَاضِي:
18 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ تَوْلِيَةِ الْقَاضِي شُرُوطًا
مُعَيَّنَةً، وَيَتَّفِقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ
الْقَاضِي مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، حُرًّا (2) .
وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 354، تبصرة الحكام 1 / 3، كشاف القناع 6 / 285،
أسنى المطالب 4 / 277.
(2) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 7، وابن عابدين 5 / 354، ومغني المحتاج 4
/ 375، وكشاف القناع 6 / 285.
(33/291)
الْوَجْهِ الآْتِي:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ الْقَضَاءَ هُوَ
مَنْ يَكُونُ أَهْلاً لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَشُرُوطُ الشَّهَادَةِ هِيَ: الإِْسْلاَمُ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغُ
وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبَصَرُ، وَالنُّطْقُ، وَالسَّلاَمَةُ عَنْ حَدِّ
الْقَذْفِ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ
وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالأَْعْمَى وَالأَْخْرَسِ وَالْمَحْدُودِ فِي
الْقَذْفِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلاَيَةِ، بَل هُوَ أَعْظَمُ
الْوِلاَيَاتِ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ أَدْنَى
الْوِلاَيَاتِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ؛ فَلأََنْ لاَ يَكُونَ لَهُمْ
أَهْلِيَّةُ أَعْلاَهَا أَوْلَى.
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي
الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل الشَّهَادَاتِ فِي
الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَقْضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،
لأَِنَّهُ لاَ شَهَادَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ
تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ. (1)
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْقَاضِي بِالْحَلاَل وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ
الأَْحْكَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ،
فَيَرَى فَرِيقٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، بَل
هُوَ شَرْطُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ
بِعِلْمِ غَيْرِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى فَتْوَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ،
لَكِنْ مَعَ هَذَا لاَ يَنْبَغِي أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 3، وابن عابدين 5 / 354.
(33/291)
يُقَلَّدَ الْجَاهِل بِالأَْحْكَامِ،
لأَِنَّ الْجَاهِل قَدْ يَقْضِي بِالْبَاطِل مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُ. (1)
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ
عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَقَدْ ثَبَتَ
ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُول، أَمَّا النَّصُّ: فَمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ
مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي؟ قَال: أَقْضِي بِمَا
فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال:
فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَإِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ
بِالْحَقِّ، قَال تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (3) ، وَإِنَّمَا
يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ لأَِنَّ الْحَوَادِثَ مَمْدُودَةٌ،
وَالنُّصُوصَ مَعْدُودَةٌ، فَلاَ يَجِدُ الْقَاضِي فِي كُل حَادِثَةٍ
نَصًّا يَفْصِل بِهِ الْخُصُومَةَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِنْبَاطِ
الْمَعْنَى مِنَ النُّصُوصِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ
عَالِمًا بِالاِجْتِهَادِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 3.
(2) حديث: " لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن. . . "
سبق تخريجه ف 7.
(3) سورة ص / 26.
(4) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 126.
(33/292)
أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ
لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ لَكِنَّهَا شَرْطُ كَمَالٍ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ
الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ
الشَّرْعِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْل
الْقَضَاءِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ شُرُوطَ تَوْلِيَةِ الْقَاضِي أَرْبَعَةٌ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ عَدْلاً. وَالْعَدَالَةُ تَسْتَلْزِمُ
الإِْسْلاَمَ وَالْبُلُوغَ وَالْعَقْل وَالْحُرِّيَّةَ وَعَدَمَ الْفِسْقِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فَطِنًا، وَالْفِطْنَةُ جَوْدَةُ الذِّهْنِ
وَقُوَّةُ إِدْرَاكِهِ لِمَعَانِي الْكَلاَمِ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي
وُلِّيَ لِلْقَضَاءِ بِهَا وَلَوْ مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ عَلَى
الْمُعْتَمَدِ، خِلاَفًا لِخَلِيلٍ حَيْثُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ
مُجْتَهِدًا إِنْ وُجِدَ وَإِلاَّ فَأَمْثَل مُقَلِّدٍ. (2)
وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي سَمِيعًا بَصِيرًا
مُتَكَلِّمًا، فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الأَْعْمَى وَالأَْبْكَمِ
وَالأَْصَمِّ.
وَاتِّصَافُهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا وَاجِبٌ
لَكِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ إِذْ يَنْفُذُ
حُكْمُهُ إِنْ وَقَعَ صَوَابًا مَعَ فَقْدِ إِحْدَى تِلْكَ الصِّفَاتِ،
وَفِي فَقْدِ صِفَتَيْنِ خِلاَفٌ، أَمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3، وابن عابدين 5 / 355.
(2) الدسوقي 4 / 129، الشرح الصغير 4 / 187.
(33/292)
فِي فَقْدِ الصِّفَاتِ الثَّلاَثِ فَلاَ
يَنْفُذُ حُكْمُهُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي
الْقَاضِي عَشَرَةٌ: الإِْسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ
وَالتَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَةُ وَالْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَالنُّطْقُ
وَالاِجْتِهَادُ وَالْكِفَايَةُ اللاَّئِقَةُ بِالْقَضَاءِ، وَفَسَّرَهَا
بَعْضُهُمْ بِالْقُوَّةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ بِنَفْسِهِ فَلاَ
يُوَلَّى مُغَفَّلٌ وَمُخْتَل نَظَرٍ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ. (2)
وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ
الْفَاسِقَ لاَ تَصِحُّ وِلاَيَتُهُ، وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَلاَ
يُقْبَل قَوْلُهُ لأَِنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فَعَدَمُ قَبُول
حُكْمِهِ أَوْلَى، وَإِذَا وُلِّيَ الْفَاسِقُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ
يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ
تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ لِلضَّرُورَةِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ
النَّاسِ (3) .
أَمَّا الْكِتَابَةُ فَالأَْصَحُّ عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا.
وَالاِجْتِهَادُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ
وَالْقِيَاسِ وَأَقْوَال الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اجْتِهَاد ف 5) .
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 4 / 191، وبداية المجتهد 2 / 450، وتبصرة الحكام
1 / 23 - 24، وحاشية الدسوقي 4 / 130.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 70، ومغني المحتاج 4 / 375.
(3) أدب القاضي للحموي ص 71، ومغني المحتاج 4 / 377.
(33/293)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ
كَوْنَ الْقَاضِي بَالِغًا عَاقِلاً ذَكَرًا حُرًّا مُسْلِمًا عَدْلاً
سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا مُجْتَهِدًا، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ
كَاتِبًا لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا
وَهُوَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ.
وَشُرُوطُ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُعْتَبَرُ حَسَبَ
الإِْمْكَانِ، وَيَجِبُ تَوْلِيَةُ الأَْمْثَل فَالأَْمْثَل، وَعَلَى هَذَا
يَدُل كَلاَمُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، فَيُوَلَّى عِنْدَ عَدَمِ الأَْمْثَل
أَنْفَعُ الْفَاسِقَيْنِ وَأَقَلُّهُمَا شَرًّا، وَأَعْدَل
الْمُقَلِّدَيْنِ وَأَعْرَفُهُمَا بِالتَّقْلِيدِ، وَإِلاَّ لَتَعَطَّلَتِ
الأَْحْكَامُ وَاخْتَل النِّظَامُ (1) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُول:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ وِلاَيَةُ
التَّقْلِيدِ أَنْ يَخْتَارَ لِلْقَضَاءِ أَفْضَل مَنْ يَجِدُ عِلْمًا
وَدِينًا وَمَنْ هُوَ أَقْدَرُ وَأَوْلَى لِعِفَّتِهِ وَقُوَّتِهِ؛ لأَِنَّ
الإِْمَامَ يَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ
الأَْصْلَحِ لَهُمْ لأَِنَّ الأَْفْضَل أَثْبَتُ وَأَمْكَنُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعْيِينِ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ
أَفْضَل مِنْهُ، فَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ تَوْلِيَةَ
الْمُقَلِّدِ مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ بَاطِلٌ، وَالْقَوْل الآْخَرُ
أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَعَلَيْهِ الْعَمَل فِي زَمَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ خِلاَفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
__________
(1) أدب القضاء للحموي ص 80، شرح منتهى الإرادات 3 / 464، المغني 9 / 39،
الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 44، كشاف القناع 6 / 296.
(33/293)
وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، قَال الإِْمَامُ:
فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ، وَالأَْكْثَرُونَ قَالُوا:
يَجُوزُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ عَدَل عَنِ
الأَْفْضَل إِلَى الْمُقَصِّرِ انْعَقَدَتْ وِلاَيَتُهُ لأَِنَّ
الزِّيَادَةَ عَلَى كَمَال الشُّرُوطِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: تَصِحُّ تَوْلِيَةُ مَفْضُولٍ مَعَ
وُجُودِ أَفْضَل مِنْهُ لأَِنَّ الْمَفْضُول مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ
يُوَلَّى مَعَ وُجُودِ الْفَاضِل، مَعَ الاِشْتِهَارِ وَالتَّكْرَارِ،
وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ صِحَّةَ
التَّوْلِيَةِ بِمَا إِذَا قَصَدَ بِهَا مَصْلَحَةً.
وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ لِلْحَنَفِيَّةِ لَكِنَّ مُقْتَضَى
الْمَذْهَبِ يُجِيزُ تَوْلِيَةَ الْمَفْضُول إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْقَاضِي عَامِّيًّا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ. (1)
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْمَرْأَةِ الْقَضَاءَ:
20 - سَبَقَ بَيَانُ اشْتِرَاطِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ
الْقَاضِي ذَكَرًا، وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ
تَوْلِيَةِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (2) ؛ وَلأَِنَّ
الْقَاضِيَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 457، وابن عابدين 5 / 356، وروضة القضاة 1 / 52 - 59،
وشرح أدب القاضي لابن مازة 1 / 129، وكفاية الطالب الرباني 4 / 112، وأدب
القاضي للماوردي 1 / 144، وأدب القضاة لابن أبي الدم ص 84 - 85، وكشاف
القناع 6 / 286 - 288، والإنصاف 11 / 158.
(2) حديث: " لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 /
53) من حديث أبي بكرة.
(33/294)
يَحْضُرُ مَحَافِل الْخُصُومِ وَالرِّجَال،
وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى كَمَال الرَّأْيِ وَمُشَاوَرَةِ الْعُلَمَاءِ،
وَالنِّسَاءُ لَسْنَ أَهْلاً لِذَلِكَ وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى نِسْيَانِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى} (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ النِّسَاءُ
الْقَضَاءَ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ وَحْدَهُنَّ
أَوْ مَعَ الرِّجَال؛ لأَِنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَعْنَى الْوِلاَيَةِ،
وَلاَ يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لأَِنَّ شَهَادَتَهُنَّ لاَ
تُقْبَل فِي ذَلِكَ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ
أَجَازَ تَقَلُّدَ الْمَرْأَةِ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا، وَعَلَّل جَوَازَ
وِلاَيَتِهَا بِجَوَازِ فُتْيَاهَا (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَلَّى سُلْطَانٌ
ذُو شَوْكَةٍ امْرَأَةً الْقَضَاءَ نَفَذَ قَضَاؤُهَا (3) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْفَاسِقِ:
21 - الْعَدَالَةُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَتَقَلَّدُ الْقَضَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ، ظَاهِرَ الأَْمَانَةِ عَفِيفًا عَنِ
الْمَحَارِمِ، مُتَوَقِّيًا لِلْمَآثِمِ، بَعِيدًا مِنَ الرِّيَبِ،
مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ،
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) المغني 9 / 39، وأدب القاضي للماوردي 1 / 625 - 628، والقوانين الفقهية
لابن جزي ص 195، وروضة القضاة للسمناني 1 / 53، وفتح القدير 5 / 485.
(3) مغني المحتاج 4 / 377.
(33/294)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنِ الْعَدَالَةِ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة ف 22، وَعَدْل ف 1، 16) .
فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَوْلِيَةُ فَاسِقٍ، وَلاَ مَنْ فِيهِ
نَقْصٌ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا} (1) فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ قَوْل الْفَاسِقِ،
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مِمَّنْ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ
وَيَجِبُ التَّبَيُّنُ عِنْدَ حُكْمِهِ؛ وَلأَِنَّ الْفَاسِقَ لاَ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَلِئَلاَّ يَكُونَ قَاضِيًا أَوْلَى.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِي الْفَاسِقِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا هَل
يُرَدُّ مَا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ
يُمْضَى إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ؟ .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُل مَنْ وَلاَّهُ
سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً أَوْ فَاسِقًا؛ لِئَلاَّ
تَتَعَطَّل مَصَالِحُ النَّاسِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصْل عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ
يَجُوزُ تَقَلُّدُهُ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْل
الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ أَهْلاً لِلْقَضَاءِ، لَكِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي
تَقْلِيدُهُ وَيَأْثَمُ مُقَلِّدُهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْوَجْهُ
تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُل مَنْ وَلاَّهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ
جَاهِلاً فَاسِقًا وَهُوَ
__________
(1) سورة الحجرات / 6.
(33/295)
ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَحِينَئِذٍ
فَيُحْكَمُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: قَال بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إِذَا قُلِّدَ
الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِل
بِالْفِسْقِ، لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ
رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْعَدَالَةَ
شَرْطُ الأَْوْلَوِيَّةِ، فَالأَْوْلَى أَنْ يَكُونَ عَدْلاً، لَكِنْ لَوْ
تَقَلَّدَ الْفَاسِقُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ (1) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْكَافِرِ:
22 - الإِْسْلاَمُ هُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا
الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ، فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ
الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (2) ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ
لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ، لَكِنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ تَقْلِيدَهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ،
لِجَوَازِ شَهَادَةِ أَهْل الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛
وَلأَِنَّهُ لَمَّا جَازَتْ وِلاَيَتُهُمْ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَتْ فِي
الأَْحْكَامِ.
وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِي تَقْلِيدِهِمْ قَال
الشِّرْبِينِيُّ: أَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَال الْمَاوَرْدِيُّ
__________
(1) المغني 9 / 40، أدب القاضي للماوردي 1 / 634، والروضة 11 / 97، وابن
عابدين 5 / 355، 356، وفتح القدير 5 / 455، وأدب القاضي للصدر الشهيد 1 /
129، وتبصرة الحكام 1 / 24، والشرح الصغير 4 / 187.
(2) سورة النساء / 141.
(33/295)
وَالرُّويَانِيُّ: إِنَّمَا هِيَ زَعَامَةٌ
وَرِيَاسَةٌ، لاَ تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ
بِإِلْزَامِهِ بَل بِالْتِزَامِهِمْ وَلاَ يُلْزَمُونَ بِالتَّحَاكُمِ
عِنْدَهُ (1) .
وِلاَيَةُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ:
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ
وِلاَيَةَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ؛ لأَِنَّ
وِلاَيَةَ الْقَضَاءِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ
مِنْ جِهَتِهِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ صَاحِبُ
الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلاَ يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ
بِهِ، وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى شَخْصٍ تَوْلِيَةَ
الْقُضَاةِ، وَلَيْسَ لِمَنْ فَوَّضَهُ الإِْمَامُ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارُ
نَفْسِهِ وَلاَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، وَقِيل: يَجُوزُ إِذَا كَانَا
صَالِحَيْنِ لِلْوِلاَيَةِ لأَِنَّهُمَا يَدْخُلاَنِ فِي عُمُومِ الإِْذْنِ
مَعَ أَهْلِيَّتِهَا.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلاَ مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ،
أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُول إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْل
الْبَلَدِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَالِيًا
فَيُوَلِّي قَاضِيًا، أَوْ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ الإِْمَامِ أَوِ
الاِتِّصَال بِهِ، يَتِمُّ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 355، 428، أدب القاضي للماوردي 1 / 661 - 663، الشرح
الصغير 4 / 187، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464، ومغني المحتاج 4 / 375.
(33/296)
وَأَهْل الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ
وَالْعَدَالَةِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ،
وَيَكُونُ عَقْدُهُمْ نِيَابَةً عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ
إِلَيْهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا خَلاَ الْبَلَدُ مِنْ قَاضٍ، فَقَلَّدَ
أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَاضِيًا مِنْهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ
بَاطِلاً إِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إِمَامٌ، وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُتَوَسِّطًا مَعَ التَّرَاضِي - لاَ
مُلْزَمًا - وَإِنْ خَلاَ الْعَصْرُ مِنْ إِمَامٍ فَإِنْ كَانَ يُرْجَى
أَنْ يَتَجَدَّدَ إِمَامٌ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ كَانَ تَقْلِيدُ
الْقَاضِي بَاطِلاً، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ تَجْدِيدُ إِمَامٍ قَرِيبٍ
وَأَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى قَاضِي أَقْرَبِ الْبِلاَدِ
إِلَيْهِمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي بَاطِلاً، وَيَكُونَ
تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي جَائِزًا إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّقْلِيدِ
جَمِيعُ أَهْل الاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَأَمْكَنَهُمْ نَصْرُهُ
وَتَقْوِيَةُ يَدِهِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِهِ،
فَإِنْ قَلَّدَهُ بَعْضُهُمْ نُظِرَ فِي بَاقِيهِمْ إِنْ ظَهَرَ الرِّضَا
مِنْهُمْ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَصَارُوا كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ،
وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الإِْنْكَارُ بَطَل التَّقْلِيدُ، فَإِنْ كَانَ
لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ فَرَضِيَ بِتَقْلِيدِهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ دُونَ
الآْخَرِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَبَطَل فِي الْجَانِبِ
الآْخَرِ لأَِنَّ تَمَيُّزَ الْجَانِبَيْنِ كَتَمَيُّزِ الْبَلَدَيْنِ،
فَإِذَا صَحَّتْ وِلاَيَتُهُ نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَلَزِمَتْ طَوْعًا
وَجَبْرًا لاِنْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَلاَ الْبَلَدُ مِنْ
(33/296)
قَاضٍ، فَاجْتَمَعَ أَهْل الْبَلَدِ
وَقَلَّدُوا قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ مَفْقُودًا
صَحَّ وَنَفَذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ
يَصِحَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْتَدِمْ
هَذَا الْقَاضِي النَّظَرَ إِلاَّ بَعْدَ إِذْنِهِ، وَلاَ يُنْقَضْ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ. (1)
وَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الأَْمْرِ تَوْلِيَةَ قَاضٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ
خِبْرَةٌ بِالنَّاسِ وَيَعْرِفُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَلاَّهُ،
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ سَأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالنَّاسِ،
وَاسْتَرْشَدَهُمْ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ، فَإِذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُ
وَلاَّهُ، وَيَكْتُبُ لَهُ عَهْدًا بِمَا وَلاَّهُ يَأْمُرُهُ فِيهِ
بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْقَضَاءِ وَمُشَاوَرَةِ أَهْل
الْعِلْمِ، وَتَصَفُّحِ أَحْوَال الشُّهُودِ وَتَأَمُّل الشَّهَادَاتِ،
وَتَعَاهُدِ الْيَتَامَى، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَال الْوُقُوفِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاتِهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ
بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ (2) ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى
الأَْشْعَرِيِّ فِي تَوْلِيَتِهِ الْقَضَاءَ (3) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 461، وابن عابدين 5 / 369، وروضة القضاة 1 / 61، وتبصرة
الحكام 1 / 21، وأدب القاضي للماوردي 1 / 139 - 141 ط. بغداد 1971 م،
والمغني 9 / 106، وكشاف القناع 6 / 288
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى
اليمن. " أخرجه النسائي (8 / 58 - 59) ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 17 -
18) تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(3) كشاف القناع 6 / 286، 288، وأدب القاضي للماوردي 1 / 137، وأدب القضاء
لابن أبي الدم ص 89، تبصرة الحكام 1 / 21، وروضة القضاة 1 / 73، والمغني
لابن قدامة 9 / 38.
(33/297)
اشْتِرَاطُ عَدَالَةِ الْمُوَلِّي:
24 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ
عَدَالَةُ الْمُوَلِّي (بِكَسْرِ اللاَّمِ) لأَِنَّ وِلاَيَةَ الإِْمَامَةِ
الْكُبْرَى تَصِحُّ مِنْ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ فَتَصِحُّ وِلاَيَتُهُ
كَالْعَدْل؛ وَلأَِنَّهَا لَوِ اعْتُبِرَتْ فِي الْمُوَلَّى أَفْضَى إِلَى
تَعَذُّرِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، لَكِنْ
إِذَا كَانَ الْمُوَلِّي يَمْنَعُهُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ فَيَحْرُمُ
(1) .
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي
لِلْقَاضِي إِذَا وَلاَّهُ أَمِيرٌ غَيْرُ عَدْلٍ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ.
(2)
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ
عَلَى إِقْلِيمٍ عَظِيمٍ فَوَلَّوُا الْقَضَاءَ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ إِنْفَاذُ ذَلِكَ كُلِّهِ
جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ
(3) .
ب - صِفَةُ عَقْدِ الْقَضَاءِ:
25 - إِذَا كَانَ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى حَاضِرَيْنِ فَالْعِبْرَةُ
بِاللَّفْظِ وَفِي حَالَةِ الْغَيْبَةِ تَقُومُ الْكِتَابَةُ مَقَامَ
اللَّفْظِ. (4)
__________
(1) فتح القدير 5 / 461، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 368، وكشاف
القناع 6 / 288.
(2) تبصرة الحكام 1 / 21.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1 / 73 - دار الكتب
العلمية بيروت.
(&# x664 ;) كشاف القناع 6
/ 286 - 288، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 90، وتبصرة الحكام 1 / 21، وروضة
القضاة 1 / 73.
(33/297)
وَالأَْلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا
الْوِلاَيَةُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ: وَلَّيْتُكَ،
وَقَلَّدْتُكَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَهَذَا مَا اتَّفَقَ
عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، زَادَ الْحَنَابِلَةُ: رَدَدْتُ إِلَيْكَ
وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ.
وَالْكِنَايَةُ نَحْوُ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلْتُ عَلَيْكَ،
وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وَوَكَّلْتُ
إِلَيْكَ وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: وَعَهِدْتُ إِلَيْكَ،
وَتَحْتَاجُ الْكِنَايَةُ إِلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَنْفِي عَنْهَا
الاِحْتِمَال مِثْل: احْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِيهِ، وَشِبْهَ
ذَلِكَ (1) .
وَتَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَبُول الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا
كَانَ قَبُولُهُ بِالْقَوْل عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ
قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ بِالْقَوْل مَعَ
التَّرَاخِي، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْقَبُول بِالشُّرُوعِ فِي
النَّظَرِ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، وَجَعَلَهُ كَالنُّطْقِ، وَلَمْ
يُجِزْهُ آخَرُونَ حَتَّى يَنْطِقَ بِالْقَبُول، لأَِنَّ الشُّرُوعَ فِي
النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلاَيَةِ، فَلَمْ يَنْعَقِدِ الْقَبُول
بِالشُّرُوعِ. (2)
ج - سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ:
26 - لِلإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَاضِيَ عُمُومَ النَّظَرِ فِي
__________
(1) معين الحكام ص 14، وتبصرة الحكام 1 / 21، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص
91، وكشاف القناع 6 / 289.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 65، 66، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 92،
الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 48، وتبصرة الحكام 1 / 22.
(33/298)
عُمُومِ الْعَمَل بِأَنْ يُوَلِّيَهُ
سَائِرَ الأَْحْكَامِ بِسَائِرِ الْبِلاَدِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَل،
فَيُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ،
فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَنْ سَكَنَهُ وَمَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ
سُكَّانِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَل
فَيَقُول مَثَلاً: جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ
خَاصَّةً فِي جَمِيعِ وِلاَيَتِي، أَوْ يَجْعَل حُكْمَهُ فِي قَدْرٍ مِنَ
الْمَال نَحْوِ أَنْ يَقُول: احْكُمْ فِي الْمِائَةِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَل كَأَنْ
يُوَلِّيَهُ قَضَاءَ الأَْنْكِحَةِ فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ شَطْرٍ
مِنْهَا. (1)
الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ:
27 - إِنْ كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ
فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ يَشْتَمِل عَلَى عَشَرَةِ
أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: فَصْل الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ،
إِمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ أَوْ إِجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ.
الثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا،
وَإِيصَالُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بَعْدَ ثُبُوتِ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 1 / 179، وشرح منتهى الإرادات 3 / 462، والمغني 9
/ 105.
(33/298)
اسْتِحْقَاقِهَا.
الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ
التَّصَرُّفِ، لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى
الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، حِفْظًا لِلأَْمْوَال عَلَى
مُسْتَحِقِّهَا.
الرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الأَْوْقَافِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا، وَتَنْمِيَةِ
فُرُوعِهَا، وَقَبْضِهِ غَلَّتَهَا، وَصَرْفِهَا فِي سُبُلِهَا، فَإِنْ
كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ رَعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
تَوَلاَّهُ.
الْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شَرْطِ الْمُوصِي فِيمَا
أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ نَفَّذَهَا
بِالإِْقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا
إِلَى اجْتِهَادِ النَّظَرِ.
السَّادِسُ: تَزْوِيجُ الأَْيَامَى بِالأَْكْفَاءِ إِذَا عُدِمَ
الأَْوْلِيَاءُ.
السَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ
مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ
مُطَالِبٍ، إِذَا ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ
مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ وَقَفَتْ عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّيهَا.
الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، مِنَ الْكَفِّ عَنِ
التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالأَْفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ الأَْجْنِحَةِ
وَالأَْبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ
يَحْضُرْ خَصْمٌ.
التَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِبَارُ
النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ.
(33/299)
الْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ
بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ وَلاَ
يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي الْحُكْمِ (1) .
الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ:
28 - إِذَا كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً فَهِيَ مَقْصُورَةُ
النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ، كَمَنْ جُعِل لَهُ الْقَضَاءُ فِي
بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَْحْكَامِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ
بِالإِْقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ قَضَايَا
النِّكَاحِ، أَوْ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَال، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ،
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ، فَصَحَّتْ عُمُومًا
وَخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ يَقْبَل
التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ وَيَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ
وَالْخُصُومَةِ، فَلَوْ أَمَرَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بِعَدَمِ سَمَاعِ
الدَّعْوَى عِنْدَ الإِْنْكَارِ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ
تُسْمَعْ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَلَوْ
جَعَل وِلاَيَةَ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ
اسْتَمَرَّتْ وِلاَيَتُهُ عَلَيْهِمَا بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ
بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا زَالَتْ
وِلاَيَتُهُ (2) ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحَدِّدَ عَمَل الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ
أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الأُْسْبُوعِ، كَأَنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 67 - 69.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 67 - 69، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
49 - 52، وابن عابدين 5 / 419، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 194.
(33/299)
يُقَلَّدَ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ
خَاصَّةً فَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخُصُومِ،
فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُل وِلاَيَتُهُ لِبَقَائِهَا
عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الأَْيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ
النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ. (1)
د - تَقْيِيدُ الْقَاضِي بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ:
29 - إِذَا قَلَّدَ الإِْمَامُ قَاضِيًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَلاَّ يَحْكُمَ
إِلاَّ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، فَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا
فِي عَقْدِ التَّوْلِيَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَحْكُمَ
إِلاَّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَثَلاً، أَوْ يَكُونَ أَمْرًا
كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ نَهْيًا كَقَوْلِهِ:
لاَ تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي حُكْمِ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ
يَحْكُمُ بِمَذْهَبِهِ لاَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، إِذْ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ
لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ الْقَاضِي - أَيْ
لِمَذْهَبِهِ - مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا، فَلَوْ قَضَى
بِخِلاَفِهِ لاَ يَنْفُذُ، لَكِنِ الْكَاسَانِيُّ قَال: إِنَّهُ إِذَا
كَانَ مُجْتَهِدًا يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ
اجْتَهَدَ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَذْهَبِ الْغَيْرِ، لَكِنْ إِذَا
قَيَّدَهُ السُّلْطَانُ بِصَحِيحِ مَذْهَبِهِ تَقَيَّدَ بِلاَ خِلاَفٍ،
لِكَوْنِهِ مَعْزُولاً عَنْ غَيْرِ مَا قَيَّدَهُ بِهِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 70، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 54.
(33/300)
وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَطَ الإِْمَامُ ذَلِكَ الشَّرْطَ فِي
جَمِيعِ الأَْحْكَامِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ
قَارَنَ الشَّرْطُ عَقْدَ الْوِلاَيَةِ أَوْ تَقَدَّمَهُ ثُمَّ وَقَعَ
الْعَقْدُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ
فَلاَ يَخْلُو الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ
أَمْرًا مِثْل أَنْ يَقُول: وَلَّيْتُكَ عَلَى أَنْ تَقْتَصَّ مِنَ
الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ
نَهْيًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ
الْحُكْمِ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ مَثَلاً، وَلاَ يَقْضِي
فِيهِ بِقَوَدٍ وَلاَ بِإِسْقَاطِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ لأَِنَّهُ قَصَرَ
وِلاَيَتَهُ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ نَظَرِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ
الْقَضَاءِ فِي الْقِصَاصِ، فَيَصِحَّ الْعَقْدُ، وَيَخْرُجَ
الْمُسْتَثْنَى عَنْ وِلاَيَتِهِ فَلاَ يَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ، قَال
ابْنُ فَرْحُونَ: وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُول: تَثْبُتُ وِلاَيَتُهُ
عُمُومًا وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ،
كُل هَذَا إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي الْوِلاَيَةِ، فَأَمَّا لَوْ أَخْرَجَهُ
مَخْرَجَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَال: وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ
تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ فَالْوِلاَيَةُ صَحِيحَةٌ وَالشَّرْطُ
بَاطِلٌ، وَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ،
سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَأَضَافَ ابْنُ فَرْحُونَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 407، والمادة 1810 من مجلة الأحكام العدلية.
(33/300)
إِنَّ ذَلِكَ هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ
الْقَاضِي مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي
قُضَاةِ الزَّمَانِ السَّابِقِ، أَمْثَال الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ
الْبَاجِيِّ، وَابْنِ رُشْدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ،
وَعِيَاضٍ، وَقَدْ عُدِمَ هَذَا النَّمَطُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ، وَلِذَلِكَ نُقِل عَنْ وُلاَةِ قُرْطُبَةَ أَنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا وَلَّوْا رَجُلاً الْقَضَاءَ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لاَ
يَخْرُجَ عَنْ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ، وَإِنَّ سَحْنُونًا
كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى مَنْ يُوَلِّيهِ الْقَضَاءَ أَنْ لاَ يَقْضِيَ
إِلاَّ بِقَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ وَلاَ يَتَعَدَّى ذَلِكَ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ عَامًّا،
بِأَنْ قَال لَهُ: لاَ تَحْكُمْ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ إِلاَّ
بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَثَلاً، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَهَل
يَبْطُل عَقْدُ التَّوْلِيَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَدَل عَنْ لَفْظِ
الشَّرْطِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ كَقَوْلِهِ: لاَ تَحْكُمْ
بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ، أَمَّا إِنْ كَانَ
التَّقْلِيدُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا
كَقَوْلِهِ: أَقِدْ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ
بَاطِلاً، وَإِنْ قَرَنَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَل التَّقْلِيدُ، وَإِنْ
كَانَ نَهْيًا، نُظِرَ، إِنْ نَهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ
بِالْكَافِرِ، وَلاَ يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلاَ
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 22، 23، 57، 58.
(33/301)
بِإِسْقَاطِهِ، فَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَالتَّقْلِيدُ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ
وَنَهَاهُ عَنِ الْقِصَاصِ فَفِيهِ وَجْهَانِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لاَ يَتَعَدَّاهُ كَانَ
أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ، وَأَرْضَى لِلْخَصْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ
السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لاَ تُوجِبُهُ، لأَِنَّ
التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ وَالاِجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ
الْقَضَاءُ لِوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (2) ،
وَالْحَقُّ لاَ يَتَعَيَّنُ فِي مَذْهَبٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْحَقُّ فِي
غَيْرِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ قَلَّدَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَطَل
الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْوِلاَيَةُ، وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ وَجْهًا آخَرَ
فِي صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ. (3)
هـ - تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ:
30 - يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي
بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَيَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ
أَوْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُوَلِّيَ أَحَدَهُمْ عُقُودَ الأَْنْكِحَةِ،
وَالآْخَرَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرَ
__________
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 96، 97، وأدب القاضي للماوردي 1 / 187.
والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.
(2) سورة ص / 26.
(3) كشاف القناع 6 / 292، 293، وشرح منتهى الإرادات 3 / 463، والمغني 9 /
106.
(33/301)
النَّظَرَ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا لاَ
خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا
وَلَّى قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَمَلاً وَاحِدًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ،
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ
الْقَاضِيَانِ فِي قَضِيَّةٍ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ،
لأَِنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَلاَ تَنْفَصِل الْحُكُومَةُ، وَقَدْ
نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
لأَِحَدِ الْقَاضِيَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ لاِسْتِمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ
يَسْتَمِعَ تِلْكَ الدَّعْوَى وَحْدَهُ وَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِذَا فَعَل
لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ نَصْبُ قُضَاةٍ
مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ يَحْكُمُ
فِيهَا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حُكْمِ الآْخَرِ، أَوْ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ
يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ
نَوْعٍ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِقْلاَل فِي
الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ
قَاضِيَيْنِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّشْرِيكُ فِي كُل قَضِيَّةٍ، بَل
وَلَوْ كَانَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ كُل
وَاحِدٍ عَلَى حُكْمِ صَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَكُونُ نِصْفَ
حَاكِمٍ، وَصَرَّحَ ابْنُ فَرْحُونَ بِعَدَمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْوِلاَيَةِ
لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا
__________
(1) روضة القضاة 1 / 75، 81، المادة (1802) من المجلة، الفتاوى الهندية 3 /
218.
(33/302)
عَلَى الْحُكْمِ فِي كُل قَضِيَّةٍ إِذَا
كَانَ ذَلِكَ قَدْ شُرِطَ فِي عَقْدِ وِلاَيَتِهِمَا. (1)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الأَْصَحُّ - جَوَازُ وِلاَيَةِ الْقَاضِيَيْنِ
وَإِنْ لَمْ يُخَصِّصِ الإِْمَامُ كُلًّا مِنَ الْقَاضِيَيْنِ بِمَكَانٍ
أَوْ نَوْعٍ أَوْ زَمَانٍ، وَصَحَّحَهُ الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ
أَبِي عَصْرُونٍ إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحُكْمِ
فَلاَ يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخِلاَفِ فِي مَحَل
الاِجْتِهَادِ، فَلاَ تَنْفَصِل الْخُصُومَاتُ وَقَالُوا: لَوْ وَلَّى
الإِْمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لإِِمَامٍ وَاحِدٍ - عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ
تَوْلِيَةِ الْمُقَلِّدِ - فَيَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى
الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفٍ؛ لأَِنَّ إِمَامَهُمَا
وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ لإِِمَامِهِمَا قَوْلاَنِ؛ لأَِنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا سَيَحْكُمُ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. (2)
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ
ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيقَافِ الْحُكْمِ وَالْخُصُومَاتِ، لأَِنَّهُمَا
يَخْتَلِفَانِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَيَرَى أَحَدُهُمَا مَا لاَ يَرَى
الآْخَرُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازُ
التَّوْلِيَةِ إِذَا كَانَ الْقَاضِيَانِ لاَ يَشْتَرِكَانِ فِي
الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَجُوزُ
لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا
خَلِيفَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالإِْمَامُ أَوْلَى لأََنْ
يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 134.
(2) مغني المحتاج 4 / 380.
(33/302)
لأَِنَّ تَوْلِيَتَهُ أَقْوَى؛ وَلأَِنَّ
كُل حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ إِلَيْهِ،
وَلَيْسَ لِلآْخَرِ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلاَ نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا
خَالَفَ اجْتِهَادَهُ. (1)
وَإِذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي الرَّفْعِ لأَِحَدِ الْقُضَاةِ - فِي
حَال تَعَدُّدِهِمْ - فَهَل الْقَوْل لِلْمُدَّعِي أَوْ لِلْمُدَّعَى
عَلَيْهِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ
(دَعْوَى ف 15 - 16) .
و تَعْيِينُ قَاضِي الْقُضَاةِ.
31 - نَشَأَتْ وَظِيفَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَيَّامَ الدَّوْلَةِ
الْعَبَّاسِيَّةِ، إِذْ عُيِّنَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ - صَاحِبُ
الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - قَاضِيًا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوَّل مَنْ
لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ، فَكَانَ يُرَشِّحُ الْقُضَاةَ لِلتَّعْيِينِ
فِي الْبِلاَدِ، وَيَقُومُ بِمُرَاقَبَةِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى لاَ
يَتَجَاوَزُوا حُدُودَ عَمَلِهِمْ، وَلاَ يُخِلُّوا بِبَعْضِهِ، وَقَدْ
كَانَ الإِْمَامُ - مِنْ قَبْل - هُوَ الَّذِي يُرَاعِي أَعْمَال
الْقُضَاةِ، وَيَتَتَبَّعُ أَحْكَامَهُمْ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى
السَّدَادِ، مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ، وَكَانَ هَذَا
الأَْمْرُ يَشُقُّ عَلَى الإِْمَامِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ لَهُ أَنْ
يَنْدُبَ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْعَمَل، لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي
مُرَاعَاةِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ
يَنْبَغِي لِقَاضِي الْقُضَاةِ أَنْ يَتَفَقَّدَ قُضَاتَهُ، وَنُوَّابَهُ،
__________
(1) المغني 9 / 105، 106، وكشاف القناع 6 / 292.
(33/303)
فَيَتَصَفَّحَ أَقْضِيَتَهُمْ، وَيُرَاعِيَ
أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ (1) .
ز - آدَابُ الْقَاضِي:
32 - آدَابُ الْقَاضِي: الْتِزَامُهُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُسَنُّ
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَعْوَانَهُ مِنَ الآْدَابِ
وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَضْبِطُ أُمُورَ الْقَضَاءِ، وَتَحْفَظُ
الْقَاضِيَ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْل، وَتَهْدِيهِ إِلَى بَسْطِ الْعَدْل
وَرَفْعِ الظُّلْمِ، وَتَنْأَى بِهِ عَنْ مَوَاطِنِ التُّهَمِ
وَالشُّبُهَاتِ، فَيُسَنُّ كَوْنُ الْقَاضِي قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ،
لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، لاَ يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ،
وَلاَ يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَكُونُ حَلِيمًا
مُتَأَنِّيًا، ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، لاَ يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلاَ
يُخْدَعُ لِغَرَّةٍ، صَحِيحَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ
أَهْل وِلاَيَتِهِ، عَفِيفًا وَرِعًا نَزِهًا، بَعِيدًا عَنِ الطَّمَعِ،
صَدُوقَ الْجِهَةِ، ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، لاَ يَكُونُ جَبَّارًا وَلاَ
عَسُوفًا، فَيَقْطَعُ ذَا الْحُجَّةِ عَنْ حُجَّتِهِ، قَال عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى
تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ
قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الأَْلْبَابِ، لاَ يَخَافُ فِي اللَّهِ
لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَال: لاَ
يَنْبَغِي لِلرَّجُل أَنْ يَكُونَ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 2 / 396، وتبصرة الحكام 1 / 77، ومعين الحكام ص
36.
(33/303)
قَاضِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ
خِصَالٍ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ وَإِنْ
أَخْطَأَتْهُ اثْنَتَانِ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَتَانِ حَتَّى يَكُونَ
عَالِمًا بِمَا كَانَ قَبْلَهُ مُسْتَشِيرًا لِذِي الرَّأْيِ ذَا نَزَاهَةٍ
عَنِ الطَّمَعِ حَلِيمًا عَنِ الْخَصْمِ مُحْتَمِلاً لِلاَّئِمَةِ (1) .
وَآدَابُ الْقَضَاءِ كَثِيرَةٌ، وَالأَْصْل فِيهَا مَا وَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ
الرَّاشِدِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ لَمَّا وَلاَّهُ
الْقَضَاءَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ إِعْلاَمِ
الْمُوَقِّعِينَ وَنَصُّهُ: (2) إِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ،
وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ لاَ
يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لاَ نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي
وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَقَضَائِكَ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي
حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ، الْبَيِّنَةُ عَلَى
الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ
حَلاَلاً، وَمَنِ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ
أَمَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ أَعْطَيْتَهُ بِحَقِّهِ،
وَإِنْ أَعْجَزَهُ ذَلِكَ، اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَإِنَّ
ذَلِكَ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ
__________
(1) قول عمر بن عبد العزيز: " لا ينبغي للرجل. . . " أخرجه البيهقي (10 /
117) .
(2) تختلف المصادر التي نقلت كتاب عمر بن الخطاب في بعض ألفاظه لكن المعالي
غير متفاوتة، ويسمى هذا الكتاب سياسة القضاء، وقد شرحه ابن القيم في كتابه
إعلام الموقعين شرحًا وافيًا مستفيضًا.
(33/304)
وَأَجْلَى لِلْعَمَاءِ (1) ، وَلاَ
يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ
رَأْيَكَ فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ،
فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ
خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبٌ
عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينٌ (2) فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنَ الْعِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَتَرَ
عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ إِلاَّ بِالْبَيِّنَاتِ وَالأَْيْمَانِ، ثُمَّ
الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْكَ
مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلاَ سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسِ الأُْمُورَ عِنْدَ
ذَلِكَ، وَاعْرِفِ الأَْمْثَال، ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى
اللَّهِ فِيمَا تَرَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ
وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ، وَالتَّأَذِّيَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ عِنْدَ
الْخُصُومَةِ، (أَوِ الْخُصُومِ) (3) ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِي مَوَاطِنِ
الْحَقِّ يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الأَْجْرَ وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ،
فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ
كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
__________
(1) العماء من معانيه السحاب، والضلال، والتباس الأمر، قال الكسائي: هو في
عماية شديدة وعماء أي مظلم وفي الحديث: " من قاتل تحت راية عميه. . . إلخ "
هو فعيلة من العماء الضلالة، وقيل فلان في عمياء إذا لم يدر وجه الحق
(مقاييس اللغة لابن فارس 4 / 134) طبع عيس وفي المصادر الأخرى (أجلى للعمى)
قال ابن مازه: وأما كونه أجلى للعمى فلأن قضاء بعد ذلك يكون عن بصيرة لا عن
ريبة واشتباه.
(2) الظنين: المتهم.
(3) شك الراوي وهو أبو عبيد في عبارة (عند الخصومة) أو عند الخصوم.
(33/304)
النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ
فِي نَفْسِهِ شَانَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لاَ
يَقْبَل مِنَ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، فَمَا ظَنُّكَ
بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِل رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ (1)
.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي
أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (2) .
وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُل مَا شَغَل فِكْرَهُ مِنَ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ
وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ أَوْ لِشُعُورِهِ
بِشِدَّةِ النُّعَاسِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ السُّرُورِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا
أُمُورٌ تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي
يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي
مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ، أَمَّا
إِنِ اسْتَبَانَ لَهُ الْحَقُّ وَاتَّضَحَ الْحُكْمُ ثُمَّ عَرَضَ
الْغَضَبُ لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ قَبْل
الْغَضَبِ فَلاَ يُؤَثِّرُ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 85 وما بعدها ط. دار الجيل بيروت 1973، وبدائع
الصنائع للكاساني 7 / 9، وتبصرة الحكام 1 / 28، والمبسوط للسرخسي 16 / 63
مطبعة السعادة وشرح أدب القاضي للخصاف - وشرح أدب القاضي لابن مازة 1 /
227، وروضة القضاة للسمناني 4 / 1489، واستشهد الماوردي - في كتاب أدب
القاضي - بفقرات عديدة منه ابتداء من 1 / 250، والبيان والتبيين 2 / 48
مطبعة لجنة التأليف والنشر، والكامل للمبرد 1 / 14، وأثر عمر بن الخطاب: "
إن القضاء فريضة محكمة. . " أخرجه البيهقي (10 / 150) .
(2) حديث: " لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان " أخرجه البخاري (فتح الباري
13 / 136) ومسلم (3 / 1343) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة واللفظ لمسلم.
(33/305)
فِيهِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ
تِلْكَ الأُْمُورَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي
أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ الْحُرْمَةَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِذَا عَرَضَتْ لِلْقَاضِي حَالَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحَالاَتِ وَهُوَ فِي
مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَازَ لَهُ وَقْفُ النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ
وَالاِنْصِرَافُ. (1)
ح - هَيْئَتُهُ وَزِيُّهُ:
33 - يَجْتَهِدُ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيل الْهَيْئَةِ ظَاهِرَ
الأُْبَّهَةِ وَقُورَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ، حَسَنَ النُّطْقِ
وَالصَّمْتِ، مُحْتَرِزًا فِي كَلاَمِهِ عَنِ الْفُضُول وَمَا لاَ حَاجَةَ
إِلَيْهِ بِهِ، وَيَكُونَ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا، وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً
وَتَوَسُّمًا، وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا وَيَلْبَسَ مَا يَحْسُنُ مِنَ
الزِّيِّ وَيَلِيقُ بِهِ، وَيَكُونَ ذَا سَمْتٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ
غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلاَ إِعْجَابٍ بِنَفْسِهِ. (2)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجَسَدِ، بِأَخْذِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 9، وشرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 340 وما بعدها،
والشرح الصغير 4 / 205، وتبصرة الحكام 1 / 35، ومغني المحتاج 4 / 391 وما
بعدها. وروضة الطالبين 11 / 139 - 143، وأدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص
114، وشرح منتهى الإرادات 3 / 471، وكشاف القناع 6 / 316.
(2) بدائع الصنائع 7 / 9 - 10، وتبصرة الحكام 1 / 29.
(33/305)
شَعْرِهِ، وَتَقْلِيمِ ظُفْرِهِ،
وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ مِنْ بَدَنِهِ وَيَسْتَعْمِل مِنَ
الطِّيبِ مَا يَخْفَى لَوْنُهُ، وَتَظْهَرَ رَائِحَتُهُ (1) .
ط - مُشَارَكَتُهُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ الْعَامَّةِ:
34 - يُسَنُّ لَهُ إِجَابَةُ دَعْوَةٍ عَامَّةٍ كَوَلِيمَةِ عُرْسٍ
وَخِتَانٍ؛ لأَِنَّ إِجَابَتَهَا سُنَّةٌ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهَا،
وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَيَحْضُرُهَا إِلاَّ إِذَا شَغَلَتْهُ عَنِ الْقَضَاءِ،
وَيَعُودُ الْمَرْضَى لأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهِ. (2)
وَلاَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لأَِنَّهَا جُعِلَتْ لأَِجْلِهِ،
وَالْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي لاَ يَتَّخِذُهَا صَاحِبُهَا لَوْلاَ حُضُورُ
الْقَاضِي، وَقِيل: كُل دَعْوَةٍ اتُّخِذَتْ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ
وَالْخِتَانِ فَهِيَ خَاصَّةٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَى قَوْل
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لاَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ
لِلْقَرِيبِ، وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ يُجِيبُ لأَِنَّ إِجَابَةَ دَعْوَةِ
الْقَرِيبِ صِلَةٌ لِلرَّحِمِ، وَإِنَّمَا لاَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ
الْخَاصَّةَ لِلأَْجْنَبِيِّ إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْهَدِيَّةِ. (3)
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 2 / 243، وروضة الطالبين 11 / 132، وكشاف القناع 6
/ 311.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 114، 115، وبدائع الصنائع 7 / 10، وتبصرة
الحكام 1 / 31، والمغني 9 / 79، 80.
(3) المراجع السابقة.
(33/306)
وَلِلْقَاضِي زِيَارَةُ الأَْهْل
وَالصَّالِحِينَ وَالإِْخْوَانِ وَتَوْدِيعُ الْغَازِي وَالْحَاجِّ لأَِنَّ
ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَقَدْ وَعَدَ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا
عَظِيمًا فَيَدْخُل الْقَاضِي فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ
الْحُكْمِ؛ لأَِنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْفَصْل بَيْنَ الْخُصُومِ
وَمُبَاشَرَةِ الْحُكْمِ أَوْلَى (1) .
ي - الْهَدِيَّةُ لِلْقَاضِي:
35 - يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي قَبُول الْهَدِيَّةِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ،
أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
أَمَّا مَنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ
قَرَابَتِهِ أَوْ صُحْبَتِهِ أَوْ جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاتِهِ
قَبْل الْقَضَاءِ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ
لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبُول، وَالأَْوْلَى إِنْ قَبِل الْهَدِيَّةَ -
مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ - أَنْ يُعَوِّضَ الْمُهْدِيَ عَنْهَا،
وَيَحْسُنُ بِهِ سَدُّ بَابِ قَبُول الْهَدَايَا مِنْ كُل أَحَدٍ؛ لأَِنَّ
الْهَدِيَّةَ تُورِثُ إِدْلاَل الْمُهْدِي وَإِغْضَاءَ الْمُهْدَى
إِلَيْهِ، إِلاَّ الْهَدِيَّةُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ - مِمَّنْ
لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ - فَالأَْوْلَى قَبُولُهَا لِصِلَةِ الرَّحِمِ؛
وَلأَِنَّ فِي رَدِّهَا قَطِيعَةً لِلرَّحِمِ وَهِيَ حَرَامٌ.
36 - وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فَحَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ لِحَدِيثِ: لَعَنَ
اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ (2) ،
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 178، وكشاف القناع 6 / 318.
(2) حديث: " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم ". أخرجه الترمذي (3 / 613)
من حديث أبي هريرة، وقال: حسن صحيح.
(33/306)
وَإِذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ
لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ،
وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ (1) ، وَإِنِ ارْتَشَى وَلَدُ الْقَاضِي أَوْ
كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ: فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ
فَهُوَ كَمَا لَوِ ارْتَشَى بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ مَرْدُودًا،
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَرَدَّ مَا
قَبَضَهُ الْمُرْتَشِي (2) .
ك - مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:
37 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي لَهُ مَجْلِسًا فَسِيحًا
بَارِزًا مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ لاَئِقًا بِالْوَقْتِ
وَالْقَضَاءِ، وَيَكُونُ مَصُونًا أَيْضًا مِنْ كُل مَا يُؤْذِي مِنَ
الرَّوَائِحِ وَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ، كَأَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ دَارًا
وَاسِعَةً وَسَطَ الْبَلَدِ إِنْ أَمْكَنَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْسَعَ
عَلَى الْخُصُومِ وَأَقْرَبَ إِلَى الْعَدْل.
الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ:
38 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْلِسُ
لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ لِلنَّاسِ، وَأَسْهَل
عَلَيْهِمْ لِلدُّخُول عَلَيْهِ وَأَجْدَرُ أَنْ لاَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 9، 10، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 178، وروضة
القضاة 1 / 88، والشرح الصغير 4 / 192، والقوانين الفقهية ص 196، وأدب
القضاء لابن أبي الدم ص 114، وروضة الطالبين 11 / 142، 343، ومغني المحتاج
4 / 392، وشرح منتهى الإرادات 3 / 471، وكشاف القناع 6 / 316.
(2) تبيين الحقائق 4 / 175.
(33/307)
يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ، قَال أَبُو
حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ لأَِنَّهُ أَشْهَرُ الْمَوَاضِعِ وَلاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ،
وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي بَيْتِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ وَلاَ
يَمْنَعَ أَحَدًا مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِ (1) .
وَاحْتَجُّوا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ بِمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي
الْمَسْجِدِ.
وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَاتُ طَرِيقَتَيْنِ:
الأُْولَى لِمَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ: اسْتِحْبَابُ الْجُلُوسِ فِي
رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَكَرَاهَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَصِل إِلَيْهِ
الْكَافِرُ وَالْحَائِضُ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِحْبَابُ جُلُوسِهِ فِي
نَفْسِ الْمَسْجِدِ وَهِيَ ظَاهِرُ قَوْل الْمُدَوَّنَةِ " وَالْقَضَاءُ
فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحَقِّ وَالأَْمْرِ الْقَدِيمِ " لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (2) ، قَال الدُّسُوقِيُّ:
وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ مَا فِي الْوَاضِحَةِ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهِيَةَ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا
لِلْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ مَجْلِسَ الْقَاضِي لاَ يَخْلُو عَنِ اللَّغَطِ
وَارْتِفَاعِ الأَْصْوَاتِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ
الْمَجَانِينِ وَالصِّغَارِ، وَالْمَسْجِدُ يُصَانُ
__________
(1) معين الحكام ص 20، وتبصرة الحكام 1 / 34، وشرح منتهى الإرادات 3 / 469،
وبدائع الصنائع 7 / 13، وكشاف القناع 6 / 312.
(2) سورة ص / 21.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 137، والمدونة 5 / 144.
(33/307)
عَمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ أُولَئِكَ مِنْ
أُمُورٍ فِيهَا مَهَانَةٌ بِهِ، أَمَّا إِذَا صَادَفَ وَقْتُ حُضُورِ
الْقَاضِي إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلاَةٍ أَوْ غَيْرِهَا رَفْعَ الْخُصُومَةَ
إِلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ بِفَصْلِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل مَا جَاءَ
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ خُلَفَائِهِ فِي
الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. (1)
ل - وَقْتُ عَمَلِهِ وَوَقْتُ رَاحَتِهِ:
39 - لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ الَّتِي
تُصْلِحُهُ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْهَا فِي كُل الأَْيَّامِ فِي غَيْرِ
أَوْقَاتِ قَضَائِهِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَطَّلِعَ إِلَى قَرَابَتِهِ
الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، وَيَتَّخِذَ لِجُلُوسِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا
لاَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ
أَيَّامًا لِلْقَضَاءِ يَحْضُرُ فِيهَا النَّاسُ وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا،
فَيُقْصَدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَرْفُ زَمَانِهِ
أَجْمَعَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الطَّرِيقِ
إِلاَّ فِي أَمْرٍ اسْتُغِيثَ بِهِ فِيهِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ
وَيَنْهَى وَيَسْجُنَ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْفَاصِل فَلاَ، وَأَجَازَهُ
أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ فِي
الْعِيدَيْنِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالأَْيَّامِ
الَّتِي تَكُونُ لِلنَّاسِ أَيَّامَ سُرُورٍ أَوْ حُزْنٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا
كَثُرَ الْوَحْل وَالْمَطَرُ، قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَكَذَلِكَ
يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَا لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَخَافُ عَلَيْهِ
الْفَوَاتَ، وَمَا لاَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 390، 391.
(33/308)
يَسَعُهُ إِلاَّ تَعْجِيل النَّظَرِ فِيهِ.
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ
يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ، لأَِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ نَهَارَهُ
كُلَّهُ. (1)
م - كَرَاهِيَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ:
40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي
أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ إِلاَّ بِوَكِيلٍ لاَ يُعْرَفُ بِهِ لِئَلاَّ
يُحَابَى، وَالْمُحَابَاةُ كَالْهَدِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وَلاَ
لِوَالٍ أَنْ يَتَّجِرَ، لِحَدِيثِ أَبِي الأَْسْوَدِ الْمَالِكِيِّ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: مَا عَدَل وَالٍ اتَّجَرَ فِي
رَعِيَّتِهِ (2) ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي مَجْلِسِ
حُكْمِهِ أَمْ فِي دَارِهِ، لَكِنْ إِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوِ اشْتَرَى
فَلاَ يُرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ
الإِْكْرَاهِ، أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيُرَدُّ الْبَيْعُ
وَالاِبْتِيَاعُ.
وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَكِيل الْقَاضِي مَعْرُوفًا لأَِنَّهُ
يُفْعَل مَعَ وَكِيلِهِ مِنَ الْمُسَامَحَةِ مَا يُفْعَل مَعَهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَصْرَ
الْكَرَاهِيَةِ عَلَى حُصُول الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 35، 36، وبدائع الصناع 7 / 13، وروضة القضاة 1 / 161.
(2) حديث: " ما عدل وال اتجر في رعيته ". أورده ابن حجر في المطالب العالية
(2 / 234) وعزاه لأحمد بن منيع، ونقل محققه عن البوصيري تضعيف أحد رواته.
(33/308)
مَجْلِسِ الْحُكْمِ. (1)
ن - وَاجِبُ الْقَاضِي تِجَاهَ الْخُصُومِ:
41 - يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي
الْجُلُوسِ، فَيُجْلِسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلاَ
عَنْ يَسَارِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ فَعَل فَقَدْ قَرَّبَ أَحَدَهُمَا فِي
مَجْلِسِهِ، وَلأَِنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلاً عَنِ الْيَسَارِ، وَأَنْ
يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ وَالنُّطْقِ وَالْخَلْوَةِ فَلاَ
يَنْطَلِقَ بِوَجْهِهِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلاَ يُسَارَّ أَحَدَهُمَا،
وَلاَ يَخْلُوَ بِأَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلِهِ، وَلاَ يُضَيِّفَ
أَحَدَهُمَا، فَيَعْدِل بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي هَذَا كُلِّهِ، لِمَا فِي
تَرْكِ الْعَدْل فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ الآْخَرِ، وَيُتَّهَمُ الْقَاضِي
بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ فِي الْخُصُومَاتِ بِغَيْرِ
عُذْرٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْتَجِبَ إِلاَّ فِي أَوْقَاتِ
الاِسْتِرَاحَةِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لأَِحَدٍ مِنْ وَالِدَيْهِ وَلاَ مِنْ
مَوْلُودِيهِ لأَِجْل التُّهْمَةِ، وَيَحْكُمَ عَلَيْهِمْ لاِرْتِفَاعِهَا،
وَيَحْكُمَ لِعَدُوِّهِ، وَلاَ يَحْكُمَ عَلَيْهِ. (2)
مُعَاوِنُو الْقُضَاةِ:
42 - يَحْتَاجُ الْقَاضِي فِي عَمَلِهِ إِلَى مَنْ يُسَاعِدُهُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 471، وتبصرة الحكام 1 / 31، ومغني المحتاج 4 /
391، وأدب القضاة للحموي ص 113، ومعين الحكام ص 17، والمبسوط للسرخسي 16 /
77.
(2) بدائع الصنائع 7 / 9، والشرح الصغير 4 / 205، ومغني المحتاج 4 / 393،
وشرح منتهى الإرادات 3 / 469، 473، وكشاف القناع 6 / 314.
(33/309)
فِي الأَْعْمَال الْقَضَائِيَّةِ سَوَاءٌ
مَا اتَّصَل مِنْهَا بِمَوْضُوعِ الْحُكْمِ الْوَاجِبِ تَطْبِيقُهُ عَلَى
النَّازِلَةِ - وَهُمُ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَسْتَشِيرُهُمْ - أَوْ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالأَْعْمَال الْمُسَاعِدَةِ مِثْل الْكَاتِبِ الَّذِي
يُسَجِّل الْمَحْضَرَ، وَأَعْوَانِ الْقَاضِي وَالْحَاجِبِ، وَالْمُزَكِّي
وَالْمُتَرْجِمِ.
كَاتِبُ الْقَاضِي:
43 - يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْتَبَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ
وَغَيْرَهُ؛ (1) وَلأَِنَّ الْقَاضِيَ تَكْثُرُ أَشْغَالُهُ وَيَكُونُ
اهْتِمَامُهُ وَنَظَرُهُ مُتَوَجِّهًا لِمُتَابَعَةِ أَقْوَال الْخُصُومِ
وَمَا يُدْلُونَ بِهِ مِنْ حُجَجٍ وَمَا يَسْتَشْهِدُونَ بِهِ مِنَ
الشُّهُودِ فَيَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ يَكْتُبُ وَقَائِعَ الْخُصُومِ،
وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا عَدْلاً عَارِفًا
بِكِتَابَةِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَيُسْتَحَبُّ فِقْهُهُ،
وَوُفُورُ عَقْلِهِ وَجَوْدَةُ خَطِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ كَتَبَ كَلاَمَ الْخَصْمَيْنِ كَمَا سَمِعَهُ،
وَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِئَلاَّ يُوجِبَ
حَقًّا لَمْ يَجِبْ وَلاَ يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَ
غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلاَمِ لاَ يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ،
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ الْكَاتِبُ حَيْثُ يَرَى الْقَاضِي مَا يَكْتُبُ
وَيَصْنَعُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الاِحْتِيَاطِ، وَيَرَى
الْمَالِكِيَّةُ فِي
__________
(1) حديث: " استكتب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. . . " أخرجه
الترمذي (5 / 67 - 68) وقال حسن صحيح.
(33/309)
الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ
اتِّخَاذَ الْكَاتِبِ أَمْرٌ وُجُوبِيٌّ (1) .
أَعْوَانُ الْقَاضِي:
44 - يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ أَعْوَانًا يَكُونُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ؛ لأَِنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَجْلِسُ هَيْبَةٍ، فَلَوْ لَمْ
يَتَّخِذْ أَعْوَانًا رُبَّمَا يُسْتَخَفُّ بِالْقَاضِي فَتَذْهَبُ
مَهَابَتُهُ؛ وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ الْخُصُومِ،
وَالأَْعْوَانُ هُمُ الَّذِينَ يُحْضِرُونَ الْخُصُومَ إِلَى مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ، وَيَزْجُرُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ مِنَ الْخُصُومِ،
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ مِنْ ذَوِي الدِّينِ وَالأَْمَانَةِ
وَالْبُعْدِ عَنِ الطَّمَعِ (2) .
حَاجِبُ الْقَاضِي:
45 - الْحَاجِبُ - هُنَا - مَنْ يَقُومُ بِإِدْخَال الْخُصُومِ عَلَى
الْقَاضِي وَيُرَتِّبُهُمْ فَيُقَدِّمُ مَنْ حَضَرَ أَوَّلاً ثُمَّ الَّذِي
يَلِيهِ وَهَكَذَا، وَيَمْنَعُ الْخُصُومَ مِنَ التَّدَافُعِ عَلَى
مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْقَاضِي حَاجِبًا،
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ،
وَالْمَرْجِعُ فِيهِ عِنْدَهُمُ الشَّرْعُ فَقَدْ اتَّخَذَ الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ حُجَّابًا.
__________
(1) الدسوقي 4 / 138، الشرح الصغير 4 / 202، بدائع الصنائع 7 / 12، مغني
المحتاج 4 / 338، 389، المغني 9 / 72، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 109.
(2) شرح أدب القاضي - للصدر الشهيد 1 / 244، أدب القضاء لابن أبي الدم ص
108.
(33/310)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لاَ يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْجُبُ النَّاسَ عَنِ
الْوُصُول إِلَيْهِ، لِمَا رَوَى أَبُو مَرْيَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ
فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ
اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ (1) ؛ وَلأَِنَّ
حَاجِبَ الْقَاضِي رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ
الْمُتَقَدِّمَ لِغَرَضٍ لَهُ، وَلاَ بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِاتِّخَاذِ
حَاجِبٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَفِي حَال الزَّحْمَةِ
وَكَثْرَةِ النَّاسِ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا،
وَعَلَّقَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ الْحَمَوِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لاَ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا مَعَ فَسَادِ
الْعَوَامِّ، وَلِكُل زَمَنٍ أَحْوَالٌ وَمَرَاسِمُ تَقْتَضِيهِ
وَتُنَاسِبُهُ. . . وَكَلاَمُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لاَ
يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ
بِالْحَاجِبِ الاِحْتِجَابَ عَنِ النَّاسِ وَالاِكْتِفَاءَ بِهِ، أَوْ
حَالَةَ الْخَوْفِ مِنِ ارْتِشَاءِ الْحَاجِبِ (2) ، وَتَفْصِيل شُرُوطِ
الْحَاجِبِ وَآدَابِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَاجِب ف 9) .
__________
(1) حديث: " من ولاه الله عز وجل شيئًا من أمر المسلمين. . " أخرجه أبو
داود (3 / 357) ، والحاكم (4 / 94) من حديث أبي مريم الأزدي، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(2) أدب القضاء للحموي ص 106، أدب القاضي للماوردي 1 / 204 طبع بغداد.
(33/310)
الْمُزَكِّي:
46 - الْمُرَادُ بِالْمُزَكِّي فِي بَابِ الْقَضَاءِ مَنْ يُعْتَمَدُ
عَلَيْهِ فِي تَعْدِيل الشُّهُودِ. ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ
الْقَاضِيَ إِذَا عَرَفَ عَدَالَةَ الشُّهُودِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى
تَزْكِيَتِهِمْ، وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَجْرُوحُونَ رَدَّ
شَهَادَتَهُمْ.
وَهَل يَتَّخِذُ الْقَاضِي مُزَكِّيًا يَتَحَرَّى عَنِ الشُّهُودِ
وَيَتَعَرَّفُ حَال مَنْ يَجْهَل مِنْهُمْ؟ .
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ نَوْعَانِ:
تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ، أَمَّا تَزْكِيَةُ
السِّرِّ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ
الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً
وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ
بِالتَّمَيُّزِ فِطْنَةً، فَيُوَلِّيَهُ الْمَسْأَلَةَ عَنِ الشُّهُودِ
سِرًّا، فَيَسْأَل ذَلِكَ الرَّجُل عَنِ الشَّاهِدِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ
جِيرَانِهِ وَأَهْل مَحَلَّتِهِ وَأَهْل سُوقِهِ، وَلاَ يَنْقُل لِلْقَاضِي
إِلاَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عَدْلاَنِ فَأَكْثَرُ، وَالْعَدَدُ فِي
الْمُزَكِّي لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالاِثْنَانِ أَحْوَطُ، وَقَال مُحَمَّدٌ:
شَرْطٌ حَتَّى لاَ تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ بِقَوْل الْوَاحِدِ، وَمَنْشَأُ
الْخِلاَفِ هَل هُوَ شَهَادَةٌ أَمْ إِخْبَارٌ.
أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَقَدْ قَال صَاحِبُ مُعِينِ
الْحُكَّامِ: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ الاِكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ
لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ مِنْ فِتْنَةٍ بِسَبَبِ مَا
يُلاَقِيهِ
(33/311)
الْمُزَكِّي مِنْ بَلاَءٍ مِنَ الشَّاهِدِ
فِي حَالَةِ تَجْرِيحِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي مُزَكُّونَ
وَأَصْحَابُ مَسَائِل، فَالْمُزَكُّونَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ لِيُبَيِّنُوا
حَال الشُّهُودِ، وَأَصْحَابُ الْمَسَائِل هُمُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ
الْقَاضِي إِلَى الْمُزَكِّينَ لِيَبْحَثُوا وَيَسْأَلُوا، وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِالْمُزَكِّي وَاحِدًا بَل اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ
شُهُودًا لاَ يَقْبَل غَيْرَهُمْ لِوُجُوبِ قَبُول شَهَادَةِ مَنْ تَثْبُتُ
عَدَالَتُهُ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا يُشْهِدُهُمُ النَّاسُ
فَيَسْتَغْنُونَ بِإِشْهَادِهِمْ عَنْ تَعْدِيلِهِمْ وَيَسْتَغْنِي
الْقَاضِي عَنِ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ فِيهِ تَخْفِيفٌ
مِنْ وَجْهٍ، وَيَقُومُ هَؤُلاَءِ بِتَزْكِيَةِ مَنْ عَرَفُوا عَدَالَتَهُ
مِنْ غَيْرِهِمْ إِذَا شَهِدَ. (3)
الْمُتَرْجِمُ:
47 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ
يَتَّخِذَ مُتَرْجِمًا إِذَا كَانَ لاَ يَعْرِفُ لُغَةَ الْخَصْمِ أَوِ
الشَّاهِدِ، وَيَكْفِي الْمُتَرْجِمُ الْوَاحِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ فِي
__________
(1) معين الحكام ص 104، 105، تبصرة الحكام 1 / 258، روضة القضاة 1 / 124،
125، وانظر بدائع الصنائع 7 / 10، 11.
(2) مغني المحتاج 4 / 403، الروضة 11 / 168.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 71، شرح منتهى الإرادات 3 / 472.
(33/311)
رِوَايَةٍ عَنْهُ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي
بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَال زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، قَال: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ
يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ، قَال: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى
تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَال: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ
إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ
لَهُ كِتَابَهُمْ (1) ، وَلأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظِ
الشَّهَادَةِ فَأَجْزَأَ فِيهِ الْوَاحِدُ كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ.
وَالْقَوْل أَنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْل - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
- مَحَلُّهُ إِذَا رَتَّبَهُ الْقَاضِي، أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَتِّبْهُ
بِأَنْ أَتَى بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ طَلَبَهُ الْقَاضِي
لِلتَّبْلِيغِ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ لأَِنَّهُ صَارَ
كَالشَّاهِدِ، وَقَدْ حَكَى الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ مِنْ قِبَل
الْقَاضِي يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ،
وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُتَرْجِمِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَة ف 15) .
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم. . .
" أخرجه الترمذي (5 / 67 - 68) وقال: حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 7 / 12، حاشية الدسوقي 4 / 139، الروضة 11 / 136، مغني
المحتاج 4 / 389، المغني 9 / 100، 101.
(33/312)
اسْتِخْلاَفُ الْقَاضِي:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَذِنَ
لِلْقَاضِي فِي الاِسْتِخْلاَفِ فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا
نَهَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَاضِيَ
إِنَّمَا يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنَ الإِْمَامِ، فَلاَ يَمْلِكُ أَنْ
يُخَالِفَهُ فِي تَعْيِينِ خَلَفٍ لَهُ مَتَى نَهَاهُ، كَالْوَكِيل مَعَ
الْمُوَكِّل، أَمَّا إِنْ أَطْلَقَ الإِْمَامُ فَلَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ
يَنْهَ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلُهَا فِي
مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلاَف ف 32) .
كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ:
49 - لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا
وَجَبَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمٍ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حَقٍّ، وَيَكْتُبَ
بِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَدْنَى وَإِلَى خَلِيفَتِهِ
وَمُسْتَخْلَفِهِ.
وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ بِهِ عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ
الأَْوَّل.
الثَّانِي: أَنْ يَقُومَ فِي تَنْفِيذِهِ وَاسْتِيفَائِهِ مَقَامَ
الأَْوَّل (1) .
وَاسْتُدِل عَلَى جَوَازِ قَبُول كِتَابِ الْقَاضِي بِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى
الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ
الضِّبَابِيِّ مِنْ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 2 / 95، المغني لابن قدامة 9 / 94.
(33/312)
دِيَةِ زَوْجِهَا (1) ؛ وَلأَِنَّ
بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ. (2)
الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْبَل إِلاَّ شَهَادَةَ
عَدْلَيْنِ يَقُولاَنِ: إِنَّهُ قَرَأَهُ عَلَيْنَا أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ
بِحَضْرَتِنَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ بُدَّ أَنْ
يَشْهَدَ الشُّهُودُ بِخَتْمِ الْقَاضِي، وَبِمِثْل ذَلِكَ صَرَّحَ
الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ
وَالْخَاتَمِ تُقْبَل وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ،
وَكَذَا إِذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِي جَوْفِهِ تُقْبَل وَإِنْ
لَمْ يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَوَّارٍ
وَالْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ
وَخَتْمَهُ قَبِلَهُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَالإِْصْطَخْرِيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ وَلَمْ
يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَمَّا
كِتَابُ الْقَاضِي الْمُجَرَّدُ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَلاَ أَثَرَ لَهُ،
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَالْعَمَل عِنْدَنَا الْيَوْمَ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى
مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فِي الْقَدِيمِ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى الضحاك بن سفيان. . . " أخرجه
الطبراني في الكبير (5 / 276) من حديث المغيرة بن شعبة، وقال الهيثمي في
المجمع (4 / 230) : رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) روضة القضاة للسمناني 1 / 329، 330.
(33/313)
مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْقَاضِي،
وَفِي التَّنْبِيهِ لاِبْنِ الْمُنَاصِفِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ -
قَوْلُهُ: وَقَدِ الْتَزَمَ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ بِلاَدِنَا
إِجَازَةَ كُتُبِ الْقُضَاةِ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ، وَكَافَّةُ
الْحُكَّامِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ وَالْتِزَامِهِ
وَالْعَمَل بِهِ فِي عَامَّةِ الْجِهَاتِ لِلاِضْطِرَارِ إِلَيْهِ،
وَلأَِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا هُوَ قِيَامُ الدَّلِيل وَثُبُوتُهُ عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ كِتَابُ الْقَاضِي، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ
الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ مَعْرِفَةُ خَطِّهِ ثُبُوتًا لاَ يَشُكُّ فِيهِ
أَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ وَقَامَ مَقَامَهَا. وَإِنْ لَمْ
يَتَحَقَّقِ الْقَاضِي خَطَّ الْكَاتِبِ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ
عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ. (1)
وَإِذَا كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي سَارَ بِالْكِتَابِ فَلاَ يُقْبَل
حَتَّى يَأْتِيَهُ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي
وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَنَّهُ كِتَابُ
الْقَاضِي الأَْوَّل لَزِمَ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ (2) .
اشْتِرَاطُ الْمَسَافَةِ:
51 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَسَافَةِ
قَصْرٍ بَيْنَ بَلَدِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 7، وتبصرة الحكام 2 / 9، 13، وروضة الطالبين 11 /
180، المغني 9 / 95، أدب القاضي لابن أبي الدم ص 467.
(2) تبصرة الحكام 2 / 15، 21.
(33/313)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الإِْمَامُ مَالِكٌ
بَيْنَ مَا يَكْتُبُهُ الْقَاضِي الْبَعِيدُ عَنْ مَكَانِ الْقَاضِي
الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوِ الْقَرِيبِ مِنْ مَكَانِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُقْبَل وَإِنْ كَانَا بِبَلَدٍ وَاحِدٍ إِلاَّ
إِذَا بَعَثَ إِلَى الْقَاضِي الآْخَرِ لِيَحْكُمَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَ
الأَْوَّل فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ إِذَا فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ
قَصْرٍ.
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ تَضَمَّنَ الْكِتَابُ نَقْل
شَهَادَةٍ فَقَطْ، سُمِعَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَوْلاً وَاحِدًا،
وَإِنْ تَضَمَّنَ ثُبُوتَ الْحَقِّ فَقَطْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: وَالأَْصَحُّ
عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُسْمَعُ إِلاَّ فِي الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ،
وَفِي مَسَافَةِ الْعَدْوَى خِلاَفٌ مَشْهُورٌ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْكِتَابُ
الْحُكْمَ بِالْحَقِّ سُمِعَ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ كَيْفَ كَانَ
مُرَاسَلَةً أَوْ مُشَافَهَةً. (1)
الْحَقُّ الْمَكْتُوبُ بِهِ:
52 - كُتُبُ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ حُقُوقِ
النَّاسِ: الدُّيُونُ وَالْعَقَارَاتُ وَالشَّرِكَاتُ وَالْغَصْبُ
الْوَدِيعَةُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ
قَيَّدَ الْجَوَازَ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ فِي الأَْصَحِّ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ لاَ تُقْبَل
فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 7، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 476، تبصرة الحكام 2
/ 19، شرح منتهى الإرادات 3 / 504.
(33/314)
الْحَاجَةُ إِلَى الإِْشَارَةِ إِلَيْهَا
كَالْمَنْقُول مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ لِعَدَمِ التَّمَيُّزِ،
حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثَانٍ بِجَوَازِ الْحُكْمِ
بِالشَّهَادَةِ فِي تِلْكَ الأَْعْيَانِ لِمَا يَجِبُ مِنْ حِفْظِ
الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُقْبَل كِتَابُ الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَلاَ الْقِصَاصِ، وَعَلَّلُوا
ذَلِكَ بِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى
الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لاَ تُقْبَل فِيهِمَا، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ
أَنَّ الْحَقَّ إِنْ كَانَ لِلآْدَمِيِّ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ
اسْتَوْفَاهُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إِلَى
الْقَاضِي قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: يُسْتَوْفَى كَحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ،
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ لأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقْبَل فِي الْحُقُوقِ
وَالأَْحْكَامِ كُلِّهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُول الْكِتَابِ فِي كُل حَقٍّ لآِدَمِيٍّ
بِمَا فِي ذَلِكَ الْقَوَدُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ
لاَ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلاَ يُقْبَل فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى
(1) .
خُصُوصُ الْكِتَابِ وَعُمُومُهُ:
53 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 7، 8، تبصرة الحكام 2 / 19، شرح منتهى الإرادات 3 /
503، أدب القاضي للماوردي 2 / 104، 105، 107.
(33/314)
وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى
أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ
إِلَى مَنْ يَصِل إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ
تَعْيِينٍ وَيَلْزَمُ مَنْ وَصَلَهُ قَبُولُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْكِتَابُ
إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ إِلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ،
وَسَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ، وَجَبَ عَلَى كُل قَاضٍ غَيْرِهِ تَنْفِيذُهُ
وَالْعَمَل بِهِ إِذَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ الْكِتَابُ وَلاَ
يُقْبَل إِلاَّ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ قَدْ عَيَّنَ وَاحِدًا
مِنَ النَّاسِ (1) .
الْمُشَافَهَةُ:
54 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا شَافَهَ قَاضِيًا آخَرَ
فِي عَمَلِهِ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ لأَِنَّ الْكِتَابَ بِمَنْزِلَةِ
الشَّهَادَةِ، وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مُشَافَهَةُ
الْقَاضِي لِلْقَاضِي بِمَا حَكَمَ بِهِ الأَْوَّل عَلَى وَجْهَيْنِ،
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِيَانِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ فَيُشَافِهَ
أَحَدُهُمَا الآْخَرَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ حُكْمٍ
فَيَحْكُمَ الآْخَرُ بِذَلِكَ أَوْ يُنَفِّذَ الْحُكْمُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي طَرَفِ
__________
(1) ابن أبي الدم ص 474، المغني 9 / 94، تبصرة الحكام 2 / 14، 15، روضة
القضاة للسمناني 1 / 342.
(33/315)
عَمَلِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا أَنْهَى
أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ مُشَافَهَةً مَا يُرِيدُ إِنْهَاءَهُ إِلَيْهِ،
فَيَلْزَمُ الآْخَرَ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ.
أَمَّا ابْنُ جُزَيٍّ فَقَدْ قَال: إِنَّ الْمُشَافَهَةَ غَيْرُ كَافِيَةٍ؛
لأَِنَّ أَحَدَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَل وِلاَيَتِهِ وَمَنْ كَانَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِ وِلاَيَتِهِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَل خِطَابُهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُتَصَوَّرُ الْمُشَافَهَةُ مِنْ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ وَقَاضِي بَلَدِ
الْغَائِبِ فِي غَيْرِ الْبَلَدَيْنِ وَيُخْبِرَهُ بِحُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِل الَّذِي حَكَمَ إِلَى بَلَدِ الْغَائِبِ
وَيُخْبِرَهُ، فَفِي الْحَالَيْنِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَلاَ يَمْضِي
حُكْمُهُ لأَِنَّ إِخْبَارَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلاَيَتِهِ،
كَإِخْبَارِ الْقَاضِي بَعْدَ الْعَزْل.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ فِي بَلَدِ الَّذِي
حَكَمَ فَيُخْبِرَهُ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَحَل وِلاَيَتِهِ، فَهَل
يُمْضِيهِ؟ إِنْ قُلْنَا: يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلاَ
عَلَى الأَْصَحِّ، كَمَا لَوْ قَال ذَلِكَ الْقَاضِي: سَمِعْتُ
الْبَيِّنَةَ عَلَى فُلاَنٍ بِكَذَا، فَإِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ
عَلَيْهِ إِذَا عَادَ إِلَى مَحَل وِلاَيَتِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا فِي مَحَل وِلاَيَتِهِمَا، بِأَنْ وَقَفَ كُل
وَاحِدٍ فِي طَرَفِ مَحَل وِلاَيَتِهِ، وَقَال الْحَاكِمُ: حَكَمْتُ
بِكَذَا فَيَجِبُ عَلَى الآْخَرِ
(33/315)
إِمْضَاؤُهُ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ
الشَّهَادَةِ وَالْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ
وَجَوَّزْنَاهُ، فَقَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: حَكَمْتُ بِكَذَا،
فَإِنَّهُ يُمْضِيهِ، وَكَذَا إِذَا قَالَهُ الْقَاضِي لِنَائِبِهِ فِي
الْبَلَدِ، وَبِالْعَكْسِ، وَلَوْ خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى قَرْيَةٍ لَهُ
فِيهَا نَائِبٌ فَأَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ بِحُكْمِهِ أَمْضَاهُ
الآْخَرُ؛ لأَِنَّ الْقَرْيَةَ مَحَل وِلاَيَتِهِمَا، وَلَوْ دَخَل
النَّائِبُ الْبَلَدَ فَقَال لِلْقَاضِي: حَكَمْتُ بِكَذَا، لَمْ
يَقْبَلْهُ، وَلَوْ قَال لَهُ الْقَاضِي: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَفِي
إِمْضَائِهِ إِيَّاهُ إِذَا عَادَ إِلَى قَرْيَتِهِ الْخِلاَفُ فِي
الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ (1) .
تَغَيُّرُ حَال الْقَاضِي الْكَاتِبِ:
55 - إِذَا تَغَيَّرَتْ حَال الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ
بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَقْدَحْ
فِي كِتَابِهِ وَكَانَ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ الْكِتَابُ قَبُولُهُ
وَالْعَمَل بِهِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْل خُرُوجِ الْكِتَابِ
مِنْ يَدِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِذَا مَاتَ الْقَاضِي أَوْ عُزِل
قَبْل وُصُول كِتَابِهِ إِلَى الْقَاضِي الآْخَرِ، فَلاَ يُعْمَل بِهِ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُول
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 9، 13، القوانين الفقهية ص 197، روضة القضاة 1 / 347،
وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 479، 480، روضة الطالبين 11 / 183 - 184.
(33/316)
الْكِتَابِ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ
يَقْضِيَ بِهِ (1) .
تَغَيُّرُ حَال الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ:
56 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ إِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِأَيِّ
حَالٍ كَانَ مِنْ مَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ أَوْ فِسْقٍ، فَلِمَنْ وَصَل إِلَيْهِ
الْكِتَابُ مِمَّنْ قَامَ مَقَامَهُ قَبُول الْكِتَابِ وَالْعَمَل بِهِ،
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ قَاضِيَ الْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَى
إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَاضِي الْبَصْرَةِ كِتَابًا فَوَصَل وَقَدْ
عُزِل وَوُلِّيَ الْحَسَنُ فَعَمِل بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ
اشْتَرَطُوا الإِْشْهَادَ عَلَى الْكِتَابِ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمَعْرِفَةِ
الْخَطِّ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ
يُعْمَل بِهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ إِلَيْهِ (2) .
اخْتِلاَفُ الرَّأْيِ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ:
57 - إِذَا كَتَبَ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ بِكِتَابٍ فِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ، وَالْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ لاَ يَرَى ذَلِكَ الرَّأْيَ وَلاَ
يَأْخُذُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ حُكْمًا جَازَ
إِنْفَاذُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا
لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا،
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 8، روضة القضاة 1 / 340، وتبصرة الحكام 2 / 17، أدب
القضاء لابن أبي الدم ص 480، المغني 9 / 98.
(2) روضة القضاة 1 / 340، بدائع الصنائع 7 / 8، وأدب القضاء لابن أبي الدم
ص 482، 483، تبصرة الحكام 2 / 17، القوانين الفقهية ص 197.
(33/316)
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا لَمْ
يُنَفِّذْهُ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ إِنَّمَا كَتَبَ مِمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ
لِلْخَصْمِ أَوْ بِمَا أَشْبَهَ وَلَمْ يُفَصِّل ذَلِكَ بِحُكْمِ
فَلْيَعْمَل بِرَأْيِهِ الَّذِي يَخْتَارُهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَلاَ يَعْمَل بِرَأْيِ الْكَاتِبِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا حَكَمَ
بِهِ الْقَاضِي الأَْوَّل مِمَّا لاَ يَرَاهُ هُوَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُمْضِيَهُ لاِعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُنْقِضَهُ؛ لاِحْتِمَالِهِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ الْمَطْلُوبَ بِأَدَائِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ
عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الطَّالِبَ مِنْهُ؛ لِنُفُوذِ
الْحُكْمِ بِهِ. (1)
رِزْقُ الْقَاضِي:
58 - الْقَاضِي مِنْ عُمَّال الْمُسْلِمِينَ وَأَجَل عُمَّالِهِمْ، وَهُوَ
الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ
بَأْسَ أَنْ يُطْلِقَ الإِْمَامُ لِلْقَاضِي مِنَ الرِّزْقِ مَا يَكْفِيهِ
مِنْ بَيْتِ الْمَال حَتَّى لاَ يَلْزَمَهُ مَئُونَةٌ وَكُلْفَةٌ، وَأَنْ
يُوَسِّعَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ، كَيْ لاَ يَطْمَعَ فِي أَمْوَال
النَّاسِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إِلَى مَكَّةَ وَوَلاَّهُ
أَمْرَهَا رَزَقَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُل عَامٍ (2) ،
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 13، 14، روضة القضاة 1 / 343، أدب القاضي للماوردي 2
/ 129، شرح منتهى الإرادات 3 / 501.
(2) حديث: " بعثه صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد إلى مكة. . . " ذكره
السمناني في روضة القضاة (1 / 86) ولم يعزه إلى أي مصدر ولم نهتد إلى من
أخرجه بتمامه، وذكر شطر توليته ابن كثير في السيرة النبوية (3 / 615) .
(33/317)
وَكَذَلِكَ فَرَضَ الصَّحَابَةُ
لِلْقُضَاةِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي الشَّامِ أَنِ انْظُرُوا رِجَالاً
مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّالِحِينَ مِنْ قِبَلِكُمْ
فَاسْتَعْمِلُوهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ، وَأَوْسِعُوا عَلَيْهِمْ فِي
الرِّزْقِ لِيَكُونَ لَهُمْ قُوَّةً وَعَلَيْهِمْ حُجَّةً.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ الْقَاضِي لِلرِّزْقِ هُوَ فِي
حَالَةِ كَوْنِهِ فَقِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَ
فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَحِل لَهُ
الأَْخْذُ لأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ لَهُ فِيهِ، وَقَال آخَرُونَ: يَحِل لَهُ
الأَْخْذُ وَالأَْفْضَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ، أَمَّا الْحِل فَلأَِنَّهُ
عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ عَلَيْهِمْ لاَ مِنْ
طَرِيقِ الأَْجْرِ، وَأَمَّا الأَْفْضَلِيَّةُ فَلأَِنَّهُ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ قَاضٍ
مُحْتَاجٌ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ سُنَّةً وَرَسْمًا فَيَمْتَنِعُ وَلِيُّ
الأَْمْرِ عَنْ إِعْطَائِهِ، فَكَانَ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الأَْخْذِ شُحًّا
بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَكَانَ الأَْفْضَل هُوَ الأَْخْذَ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَعِنْدَهُ كِفَايَةٌ تُغْنِيهِ عَنِ الاِرْتِزَاقِ لَمْ يَجُزْ
لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّاشِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّهُ قَال: يَجُوزُ لِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَهُ
__________
(1) روضة القضاة 1 / 85، بدائع الصنائع 7 / 13، 14 طبع الجمالية سنة
1328هـ، حاشية ابن عابدين 3 / 280.
(33/317)
كِفَايَةٌ أَخْذُ الرِّزْقِ، أَمَّا مَنْ
تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الرِّزْقِ فَلَهُ الأَْخْذُ
بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ
مُحْتَاجٌ إِلَى الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ
بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ
بِحَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ لاَ يَأْخُذَ
شَيْئًا.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل مِنَ
بَيْتِ الْمَال شَيْئًا مِنْ رِزْقِ الْقَاضِي لِثَمَنِ وَرَقِ
الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَأُجْرَةِ الْكَاتِبِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي طَلَبَ الرِّزْقِ مِنْ
بَيْتِ الْمَال لِنَفْسِهِ وَأُمَنَائِهِ وَخُلَفَائِهِ مَعَ الْحَاجَةِ
وَعَدَمِهَا لأَِنَّ عُمَرَ رَزَقَ شُرَيْحًا فِي كُل شَهْرٍ مِائَةَ
دِرْهَمٍ وَفَرَضَ لِزَيْدٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِفَرْضِ الرِّزْقِ
لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ فَرْضُ
الرِّزْقِ لَتَعَطَّلَتْ وَضَاعَتِ الْحُقُوقُ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ
الرِّزْقِ مَعَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ،
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ بِكُل حَالٍ لأَِنَّ
عُمَرَ فَرَضَ الرِّزْقَ لِقُضَاتِهِ وَأَمَرَ بِفَرْضِ الرِّزْقِ لِمَنْ
تَوَلَّى الْقَضَاءَ (2) .
اشْتِرَاطُ الأُْجْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ:
59 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 30، روضة الطالبين 11 / 137، أدب القضاء لابن أبي
الدم الحموي ص 101، 102.
(2) كشاف القناع 6 / 290، المغني لابن قدامة 9 / 37.
(33/318)
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ، قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ
يَنْبَغِي لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ
أَجْرًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ
فِي أَهْل الْقُرْبَةِ فَأَشْبَهَ الصَّلاَةَ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَعْمَلُهُ
الإِْنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلأَِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْقَاضِي رِزْقٌ فَقَال لِلْخَصْمَيْنِ: لاَ أَقْضِي بَيْنَكُمَا حَتَّى
تَجْعَلاَ لِي رِزْقًا عَلَيْهِ، جَازَ، وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَجُوزَ،
وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهُ
يَجُوزُ، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَفَصَّل الْمَاوَرْدِيُّ الْكَلاَمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا
خُلاَصَتُهُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الرِّزْقِ وَعَمَلُهُ
يَقْطَعُهُ عَنِ اكْتِسَابِ الْمَال فَيَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ بِشَرْطِ
أَنْ يُعْلِمَ الْخَصْمَيْنِ قَبْل التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ
مِنْهُمَا مَعًا، لاَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ بَعْدَ إِذْنِ
الإِْمَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ لاَ يَزِيدُ
عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَلاَ يَضُرُّ بِهِمَا وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
الْقَدْرُ مَشْهُورًا يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ الْخُصُومِ مَا لَمْ يَطُل
زَمَنُ خُصُومَةِ الْخَصْمَيْنِ عَمَّا سِوَاهَا. (1)
التَّفْتِيشُ عَلَى أَعْمَال الْقُضَاةِ:
60 - يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَال الْقُضَاةِ،
__________
(1) ابن عابدين 3 / 282 - 283، روضة الطالبين 11 / 137، وانظر روضة القضاة
1 / 132، أدب القاضي للماوردي 2 / 299، المغني 9 / 37، 38.
(33/318)
فَإِنَّهُمْ قِوَامُ أَمْرِهِ، وَرَأْسُ
سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَ
قُضَاتَهُ وَنُوَّابَهُ فَيَتَصَفَّحَ أَقْضِيَتَهُمْ، وَيُرَاعِيَ
أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ، إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي
تَأْخِيرُ الْخُصُومِ إِذَا تَنَازَعُوا إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ،
وَيَأْثَمُ إِذَا أَخَّرَ الْفَصْل فِي النِّزَاعِ بِدُونِ وَجْهِ حَقٍّ،
وَيُعَزَّرُ وَيُعْزَل، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَأْخِيرُ الْحُكْمِ
بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الرِّيبَةِ، وَلِرَجَاءِ
صُلْحِ الأَْقَارِبِ، وَإِذَا اسْتَمْهَل الْمُدَّعِي وَكَذَا الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي حَالَةِ تَقْدِيمِ دَفْعٍ صَحِيحٍ يَطْلُبُ مُهْلَةً
لإِِحْضَارِ بَيِّنَتِهِ. (1)
مَسْئُولِيَّةُ الْقَاضِي:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْئُولِيَّةِ الْقَاضِي، هَل يُؤَاخَذُ
بِمَا يَقَعُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَخْطَاءٍ أَمْ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ
مُسَاءَلَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى يَدِهِ
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالأَْحْكَامِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَخْطَأَ فِي
قَضَائِهِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا مَحْدُودِينَ فِي
قَذْفٍ، فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لأَِنَّهُ
بِالْقَضَاءِ لَمْ يَعْمَل لِنَفْسِهِ بَل لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ
الرَّسُول، فَلاَ تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ.
ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَقْضِيِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ
__________
(1) معين الحكام ص 36، رد المحتار 5 / 423، تبصرة الحكام 1 / 77.
(33/319)
حُقُوقِ الْعِبَادِ، بِأَنْ كَانَ مَالاً
وَهُوَ قَائِمٌ، رَدَّهُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ قَضَاءَهُ
وَقَعَ بَاطِلاً وَرَدُّ عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ فَيَلْزَمُهُ
رَدُّهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا
أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ عَيْنُ مَال الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ
هَالِكًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَلأَِنَّ الْقَاضِيَ
عَمِل لَهُ فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ؛
وَلأَِنَّهُ إِذَا عَمِل لَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَل بِنَفْسِهِ،
وَإِذَا كَانَ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالطَّلاَقِ، بَطَل لأَِنَّهُ
تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بَاطِلاً، وَأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ
يَحْتَمِل الرَّدَّ فَيُرَدُّ بِخِلاَفِ الْحُدُودِ وَالْمَال الْهَالِكِ؛
لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَل خَالِصًا فَضَمَانُهُ
فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ عَمَلٌ فِي الدَّعْوَى لِعَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إِلَيْهِمْ وَهُوَ الزَّجْرُ،
فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَضْمَنُ الْقَاضِي.
وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْجَوْرِ عَنْ عَمْدٍ وَأَقَرَّ بِهِ،
فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِالْجِنَايَةِ
وَالإِْتْلاَفِ، وَيُعَزَّرُ الْقَاضِي وَيُعْزَل عَنِ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي. . . " أخرجه أبو داود (3 / 822)
وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 53) بالانقطاع.
(33/319)
الْقَضَاءِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِكَذِبِ الشُّهُودِ
وَحَكَمَ بِمَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ،
فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ دُونَ الشُّهُودِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ
قِصَاصَ، وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِمَا يَقْدَحُ فِي الشَّاهِدِ
كَالْفِسْقِ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا عُزِل
الْقَاضِي فَادَّعَى أُنَاسٌ أَنَّهُ جَارَ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ لاَ
خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَلاَ يُنْظَرُ فِيمَا قَالُوا عَنْهُ
إِلاَّ أَنْ يَرَى الَّذِي بَعْدَهُ جَوْرًا بَيِّنًا فَيَرُدَّهُ وَلاَ
شَيْءَ عَلَى الْقَاضِي. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثُمَّ بَانَ
كَوْنُهُمَا مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي
نَقْضُ حُكْمِهِ، فَإِنْ كَانَ طَلاَقًا أَوْ عَقْدًا فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ
لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَقْدَ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَاتَتْ فَقَدْ
مَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَتْلاً أَوْ
قَطْعًا أَوْ حَدًّا اسْتُوْفِيَ وَتَعَذَّرَ التَّدَارُكُ، فَضَمَانُهُ
عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاضِي عَلَى الأَْظْهَرِ وَفِي بَيْتِ الْمَال عَلَى
الْقَوْل الآْخَرِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْقَاضِي
لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ الْبَحْثِ عَنْ حَال الشُّهُودِ، وَلاَ ضَمَانَ
عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، وَلاَ عَلَى الشُّهُودِ لأَِنَّهُمْ ثَابِتُونَ
عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَإِذَا غَرِمَتِ الْعَاقِلَةُ أَوْ بَيْتُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 16، وابن عابدين 5 / 418، وروضة القضاة 1 / 154،
157.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 210، تبصرة الحكام 1 / 78.
(33/320)
الْمَال فَهَل يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَلَى
الشُّهُودِ، فِيهِ خِلاَفٌ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ
أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ،
وَقَال الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يَرْجِعُ الْغَارِمُ عَلَى الْمُزَكِّينَ
لأَِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى خِلاَفِ قَوْلِهِمْ، وَلَمْ
يَثْبُتْ أَنَّهُ خِلاَفُ قَوْل الشُّهُودِ وَلاَ رُجُوعَ لَهُمْ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْقَاضِي.
وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عِنْدَ
الْمَحْكُومِ لَهُ انْتُزِعَ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أُخِذَ مِنْهُ
ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ مُعْسِرًا أَوْ غَائِبًا،
فَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي لِيَغْرَمَ لَهُ مِنْ
بَيْتِ الْمَال فِي قَوْلٍ وَمِنْ خَالِصِ مَالِهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ
لأَِنَّهُ لَيْسَ بَدَل نَفْسٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِلَةِ، وَيَرْجِعُ
الْقَاضِي عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ مُوسِرًا، وَفِي
رُجُوعِهِ عَلَى الشُّهُودِ خِلاَفٌ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا سَبَقَ قِيل:
إِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ يَتَخَيَّرُ فِي تَغْرِيمِ الْقَاضِي
وَتَغْرِيمِ الْمَحْكُومِ لَهُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا حَكَمَ
بِقَطْعٍ أَوْ قَتْلٍ بِمُقْتَضَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَهَرَ فِيمَا
بَعْدُ عَدَمُ جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا، وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ
مُخْطِئٌ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَفِي مَحَلِّهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَال لأَِنَّهُ نَائِبٌ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 308، 309.
(33/320)
لِلْمُسْلِمِينَ وَوَكِيلُهُمْ، وَخَطَأُ
الْوَكِيل فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ خَطَأَ الْقَاضِي
يَكْثُرُ لِكَثْرَةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَحُكُومَاتِهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةٌ
مُؤَجَّلَةٌ.
وَإِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَالٍ بِمُوجِبِ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثُمَّ
بَانَ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ وَيُرَدُّ
الْمَال إِنْ كَانَ قَائِمًا وَعِوَضُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، فَإِنْ
تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاضِي ضَمَانُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى
الْمَشْهُودِ لَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لاَ يُنْقَضُ
حُكْمُهُ إِذَا كَانَ الشَّاهِدَانِ فَاسِقَيْنِ وَيَغْرَمُ الشُّهُودُ
الْمَال (1) .
وَقَالُوا: إِنْ بَانَ خَطَأُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ - فِي إِتْلاَفٍ -
بِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ لاَ يَحْتَمِل التَّأْوِيل ضَمِنَ الْقَاضِي
مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ (2) .
انْتِهَاءُ وِلاَيَةِ الْقَاضِي:
62 - تَنْتَهِي وِلاَيَةُ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ
عَزْلِهِ، أَوِ اعْتِزَالِهِ الْقَضَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ
بِمَوْتِهِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْعَزِل بِعَزْل
الإِْمَامِ وَلاَ بِمَوْتِهِ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ
الْقَاضِيَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَضَاءِ بِكُل مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيل
عَنِ الْوَكَالَةِ، لاَ يَخْتَلِفَانِ إِلاَّ فِي شَيْءٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 255 - 257.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 502.
(33/321)
وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا
مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِل الْوَكِيل، وَالْخَلِيفَةُ إِذَا مَاتَ أَوْ
خَلُعَ لاَ تَنْعَزِل قُضَاتُهُ وَوُلاَتُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ
الْوَكِيل يَعْمَل بِوِلاَيَةِ الْمُوَكِّل وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ وَقَدْ
بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلاَيَةِ فَيَنْعَزِل الْوَكِيل، وَالْقَاضِي لاَ
يَعْمَل بِوِلاَيَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ، بَل بِوِلاَيَةِ
الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ
الرَّسُول عَنْهُمْ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، وَوِلاَيَةُ
الْمُسْلِمِينَ - بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ - بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى
الْقَاضِي عَلَى وِلاَيَتِهِ.
وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ
بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الإِْمَامِ فَلاَ يَنْعَزِل
بِمَوْتِهِ؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ
الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا، وَلأَِنَّ الْخُلَفَاءَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا
بِمَوْتِهِمْ؛ وَلأَِنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الإِْمَامِ ضَرَرًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّل مِنَ الْحُكَّامِ،
وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ (1) .
عَزْل الْقَاضِي:
63 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ
يَعْزِل الْقَاضِيَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ كَفِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ
يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ، أَوِ اخْتَل فِيهِ بَعْضُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 16، وروضة القضاة 1 / 32، وحاشية الدسوقي 4 / 133،
134، ومغني المحتاج 4 / 383، والمغني 9 / 103، وكشاف القناع 6 / 253.
(33/321)
شُرُوطِهِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي
حُكْمِ عَزْلِهِ لِلْقَاضِي دُونَ مُوجِبٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا عَزَل الْقَاضِيَ وَقَعَ
الْعَزْل، لَكِنَّ الأَْوْلَى عَدَمُ عَزْلِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَلَوْ
عَزَلَهُ دُونَ عُذْرٍ فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لإِِثْمٍ عَظِيمٍ،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الْعَزْل بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " لأََعْزِلَنَّ أَبَا مَرْيَمَ،
وَأُوَلِّيَنَّ رَجُلاً إِذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرِقَهُ (1) ، فَعَزَلَهُ
عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ،
وَوَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا الأَْسْوَدِ ثُمَّ عَزَلَهُ،
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ عَزْل الإِْمَامِ لِلْقَاضِي لَيْسَ
بِعَزْلٍ لَهُ حَقِيقَةً، بَل بِعَزْل الْعَامَّةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ
تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ
الاِسْتِبْدَال دَلاَلَةً لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ
وِلاَيَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْل أَيْضًا فَهُوَ الْفَرْقُ
بَيْنَ الْعَزْل وَالْمَوْتِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْل نَائِبِهِ
الْمَأْذُونِ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ لأَِنَّهُ نَائِبُ الإِْمَامِ، فَلاَ
يَنْعَزِل بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ قَدْ أَذِنَ لَهُ
بِاسْتِبْدَال مَنْ يَشَاءُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلاً
مِنَ الْخَلِيفَةِ لاَ مِنَ الْقَاضِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ
فَلِلإِْمَامِ عَزْلُهُ، قَال فِي الْوَسِيطِ: وَيَكْفِي فِيهِ
__________
(1) أثر عمر " لأعزلن أبا مريم. . . " أخرجه البيهقي (10 / 108) .
(33/322)
غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ
خَلَلٌ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَجُزْ
عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِل، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحٌ
نُظِرَ إِنْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ جَازَ عَزْلُهُ وَانْعَزَل الْمَفْضُول
بِالْعَزْل، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي
الْعُزْلَةِ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا،
فَلِلإِْمَامِ عَزْلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَمْ
يَجُزْ، فَلَوْ عَزَلَهُ نَفَذَ عَلَى الأَْصَحِّ مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ
السُّلْطَانِ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْل فِي مَحَل النَّظَرِ، وَاحْتَمَل
أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلاَ اعْتِرَاضَ عَلَى الإِْمَامِ فِيهِ،
وَيُحْكَمُ بِنُفُوذِهِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ
بَعْدَ قَاضٍ هَل هِيَ عَزْلٌ لِلأَْوَّل؟ وَجْهَانِ وَلِيَكُونَا
مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ
قَاضِيَانِ (1) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ
يَنْعَزِل بِعَزْل الإِْمَامِ دُونَ مُوجِبٍ لأَِنَّ عَقْدَهُ كَانَ
لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَمْلِكُ عَزْلَهُ مَعَ سَدَادِ
حَالِهِ، وَنَقَل الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْل
بِأَنَّ الإِْمَامَ لَيْسَ لَهُ عَزْل الْقَاضِي مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى
الشَّرَائِطِ لأَِنَّهُ بِالْوِلاَيَةِ يَصِيرُ نَاظِرًا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 16، وحاشية الدسوقي 4 / 133، 134، 137، ومغني
المحتاج 4 / 383، وأدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 93، 94، وأدب القاضي
للماوردي 1 / 180، والمغني لابن قدامة 9 / 100، 103، وكشاف القناع 6 / 293،
294، وروضة الطالبين 11 / 126.
(33/322)
لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيل
الْمَصْلَحَةِ لاَ عَنِ الإِْمَامِ، وَيُفَارِقُ الْمُوَكِّل، فَإِنَّ لَهُ
عَزْل وَكِيلِهِ لأَِنَّهُ يَنْظُرُ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ خَاصَّةً. (1)
وَهَل يَنْعَزِل الْقَاضِي إِذَا كَثُرَتِ الشَّكْوَى عَلَيْهِ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إِلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الأَْوَّل: وُجُوبُ عَزْلِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْقَضَاءِ،
وَهُوَ مَا قَال بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (2) .
الثَّانِي: جَوَازُ عَزْلِهِ، فَإِذَا حَصَل ظَنٌّ غَالِبٌ لِلإِْمَامِ
بِصِحَّةِ الشَّكَاوَى جَازَ لَهُ عَزْلُهُ وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ.
(3)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَزَل إِمَامًا يُصَلِّي بِقَوْمٍ بَصَقَ فِي
الْقِبْلَةِ وَقَال: لاَ يُصَلِّي لَكُمْ (4) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَازَ عَزْل إِمَامِ
الصَّلاَةِ لِخَلَلٍ جَازَ عَزْل الْقَاضِي مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيل، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، إِنِ اشْتَهَرَ
بِالْعَدَالَةِ، قَال مُطَرِّفٌ: لاَ يَجِبُ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 49.
(2) مغني المحتاج 4 / 381.
(3) المرجع السابق.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزل إمامًا. . . " أخرجه أبو
داود (1 / 324) من حديث السائب بن خلاد، وصححه ابن حبان (4 / 516) .
(33/323)
عَلَى الإِْمَامِ عَزْلُهُ وَإِنْ وَجَدَ
عِوَضًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي عَزْلِهِ إِفْسَادًا لِلنَّاسِ عَلَى
قُضَاتِهِمْ، وَقَال أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعْزِلَهُ وَإِنْ
كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إِذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلاً؛
لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِصْلاَحًا لِلنَّاسِ، يَعْنِي لِمَا ظَهَرَ مِنِ
اسْتِيلاَءِ الْقُضَاةِ وَقَهْرِهِمْ فَفِي ذَلِكَ كَفٌّ لَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَلْيَعْزِلْهُ إِذَا وَجَدَ بَدَلاً مِنْهُ
وَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَدَلاً مِنْهُ
كَشَفَ عَنْ حَالِهِ وَصِحَّةِ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ رِجَالٍ
ثِقَاتٍ يَسْتَفْسِرُونَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْل بَلَدِهِ فَإِنْ صَدَّقُوا
ذَلِكَ عَزْلَهُ، وَإِنْ قَال أَهْل بَلَدِهِ: مَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ
خَيْرًا، أَبْقَاهُ وَنَظَرَ فِي أَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ فَمَا وَافَقَ
السُّنَّةَ أَمْضَاهُ، وَمَا خَالَفَ رَدَّهُ وَأَوَّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ
صَدَرَ عَنْهُ خَطَأً لاَ جَوْرًا. (1)
إِنْكَارُ كَوْنِهِ قَاضِيًا:
64 - وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْقَاضِي نَفْسِهِ أَوْ مِنَ
الإِْمَامِ.
فَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْقَاضِي وَلَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَهُ لِغَرَضٍ مِنَ
الأَْغْرَاضِ أَوْ لِحِكْمَةٍ فِي إِخْفَاءِ شَخْصِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَل
الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ يَنْعَزِل عَنِ
الْقَضَاءِ، وَإِنْ وَقَعَ الإِْنْكَارُ مِنَ الإِْمَامِ لَمْ يَنْعَزِل.
(2)
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 62.
(2) مغني المحتاج 4 / 380.
(33/323)
طُرُوءُ مَا يُوجِبُ الْعَزْل:
65 - إِذَا طَرَأَ عَلَى الْقَاضِي مِنَ الأَْحْوَال مَا يَفْقِدُهُ صِفَةً
مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَوْ كَانَ عَلَيْهَا قَبْل تَعْيِينِهِ لَمْ
يَصِحَّ أَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ - كَالْجُنُونِ وَالْخَرَسِ وَالْفِسْقِ
- فَهَل تَبْطُل وِلاَيَتُهُ؟ أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ عَزْل الإِْمَامِ لَهُ؟
.
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ، قَوْلٌ:
يَنْعَزِل بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ مَا يُوجِبُ الْعَزْل، وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: لاَ يَنْعَزِل حَتَّى يَعْزِلَهُ الإِْمَامُ، وَهُوَ
قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ
ابْتِدَاءً كَالْجُنُونِ وَالْفِسْقِ يَمْنَعُهَا دَوَامًا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الأَْعْمَى الَّذِي عَادَ
بَصَرُهُ وَقَالُوا: لاَ يَنْعَزِل لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ بِعَوْدَةِ
بَصَرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَزِل.
وَأَمَّا غَيْرُ الأَْعْمَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى قَوْلَيْنِ،
الأَْصَحُّ مِنْهُمَا لَمْ تَعُدْ وِلاَيَتُهُ بِلاَ تَوْلِيَةٍ
كَالْوَكَالَةِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَطَل لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى
الصِّحَّةِ بِنَفْسِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ.
وَقَطَعَ السَّرَخْسِيُّ بِعَوْدِهَا فِي صُورَةِ الإِْغْمَاءِ (1) .
__________
(1) روضة القضاة 1 / 148، وبدائع الصنائع 7 / 1716، وتبصرة الحكام 1 / 78،
وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 73، ومغني المحتاج 4 / 380، 381، والروضة 11 /
126، وشرح منتهى الإرادات 3 / 465.
(33/324)
نَفَاذُ الْعَزْل:
66 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا عَزَل
الْقَاضِيَ فَأَحْكَامُهُ نَافِذَةٌ، وَقَضَايَاهُ مَاضِيَةٌ حَتَّى
يَعْلَمَ بِالْعَزْل، فَعِلْمُهُ بِذَلِكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ عَزْلِهِ -
عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِ عَزْلِهِ - وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ قَضَايَا
النَّاسِ وَأَحْكَامِهِ بِهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ مِنْ
وُجُوبِ نَفَاذِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يَصِلَهُ عِلْمُ الْعَزْل، وَلِعِظَمِ
الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ (1) .
عَزْل الْقَاضِي نَفْسَهُ:
67 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ
يَنْعَزِل إِذَا عَزَل نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ
وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِعَزْل الْوَكِيل، وَقَيَّدَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يُلْزَمْ
بِقَبُول الْقَضَاءِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عَزَل نَفْسَهُ
اخْتِيَارًا لاَ عَجْزًا وَلاَ لِعُذْرٍ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْبَعْضِ
أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ
__________
(1) روضة القضاة 1 / 32، وحاشية الدسوقي 4 / 133، 134، وتبصرة الحكام 1 /
78، والروضة 11 / 126، ومغني المحتاج 4 / 382، وكشاف القناع 6 / 293، وشرح
منتهى الإرادات 3 / 464.
(2) روضة القضاة 1 / 149 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464، وكشاف
القناع 6 / 294.
(33/324)
يُلْتَفَتَ فِي عَزْلِهِ نَفْسَهُ إِلَى
النَّظَرِ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ لأَِحَدٍ حَقٌّ بِقَضَائِهِ
حَتَّى لاَ يَكُونَ انْعِزَالُهُ ضَرَرًا لِمَنِ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَعْتَزِل الْقَاضِي
الْقَضَاءَ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَلَوْ عَزَل الْقَاضِي نَفْسَهُ إِنْ
تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْعَزِل، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ هَل
يَنْعَزِل؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، قَال النَّوَوِيُّ:
لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ كَالْوَكِيل، وَنَقَل عَنِ الإِْقْنَاعِ
لِلْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّهُ إِذَا عَزَل نَفْسَهُ لاَ يَنْعَزِل إِلاَّ
بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ:
68 - تَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ
الأُْمُورُ التَّالِيَةُ:
أ - انْتِهَاءُ وِلاَيَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ
- عِنْدَ مَنْ يَقُول بِصِحَّةِ عَزْلِهِ - أَنْ يَنْظُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ
أُمُورِ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا عَزَل نَفْسَهُ، أَمَّا أَحْكَامُهُ
الَّتِي صَدَرَتْ أَثْنَاءَ وِلاَيَتِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ إِذَا
كَانَتْ مُوَثَّقَةً فِي سِجِلٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ (3) .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 78.
(2) أدب القاضي للماوردي 1 / 180، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 93، 94،
وروضة الطالبين 11 / 127.
(3) روضة القضاة للسمناني 1 / 32، 153، وشرح أدب القاضي للخصاف 3 / 152،
ومغني المحتاج 4 / 382، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464.
(33/325)
ب - انْعِزَال كُل مَأْذُونٍ لَهُ فِي
شُغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعٍ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ
فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَأَمَّا مَنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْقَضَاءِ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ،
أَحَدُهَا: يَنْعَزِل كَالْوَكِيل، وَالثَّانِي: لاَ، لِلْحَاجَةِ،
وَأَصَحُّهَا: يَنْعَزِل إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا لَهُ فِي
الاِسْتِخْلاَفِ، لأَِنَّ الاِسْتِخْلاَفَ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ
زَالَتْ بِزَوَال وِلاَيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ لَمْ
يَنْعَزِل (1) .
ج - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّامَ عَلَى الأَْيْتَامِ
وَالأَْوْقَافِ لاَ يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ
لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ
خِلاَفًا لِلْغَزَالِيِّ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَالْخُلَفَاءِ (2) .
د - فِي حَالَةِ عَزْلِهِ أَوِ اسْتِقَالَتِهِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ:
إِنَّنِي كُنْتُ قَدْ حَكَمْتُ لِفُلاَنٍ بِكَذَا، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ
بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ
بِذَلِكَ إِلاَّ مَعَ آخَرَ لأَِنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ،
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ قَبُول قَوْلِهِ
لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ
فَيَجِبُ قَبُولُهُ كَحَال وِلاَيَتِهِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 324، وحاشية الدسوقي 4 / 133، وتبصرة الحكام 1 /
43، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464، ومغني المحتاج 4 / 383.
(2) روضة الطالبين 11 / 127.
(3) فتح القدير لابن الهمام 5 / 463، وروضة القضاة 1 / 155، وحاشية الدسوقي
4 / 133، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 77، والروضة للنووي 11 / 127، 128،
وشرح منتهى الإرادات 3 / 480، والمغني لابن قدامة 9 / 101، 102.
(33/325)
هـ - أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي الَّذِي عُزِل
أَوِ اعْتَزَل بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ سِجِلاَّتٍ وَمَحَاضِرَ
وَصُكُوكٍ وَوَدَائِعَ وَأَمْوَالٍ لِلأَْيْتَامِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ
فِي يَدِهِ بِحُكْمِ عَمَلِهِ، فَلَزِمَ تَسْلِيمُهَا لِلْقَاضِي
الْمُعَيَّنِ بَدَلاً عَنْهُ. (1)
ثَانِيًا: الْمَقْضِيُّ بِهِ:
69 - يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَضَى بِالإِْجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى
مَا يُشْبِهُهُ مِنَ الأَْحْكَامِ وَاجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَتَحَرَّى
الصَّوَابَ ثُمَّ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل
الاِجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذَ
بِفَتْوَى الْمُفْتِي (2) ، وَلاَ يَقْضِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلاَ
يَسْتَحْيِيَ مِنَ السُّؤَال لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ:
قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ) .
__________
(1) شرح أدب القاضي لابن مازه 1 / 258 وما بعدها، وفتح القدير 5 / 462،
وروضة القضاة 1 / 111، 112.
(2) معين الحكام ص 28، 29، وتبصرة الحكام 1 / 56، 57، والمغني لابن قدامة 9
/ 50.
(3) تقدم تخريجه ف 16.
(33/326)
وَأَمَّا مَا يَقَعُ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ
الأُْمُورِ كَالْبَيِّنَةِ وَعِلْمِ الْقَاضِي وَالإِْقْرَارِ وَالْيَمِينِ
فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ (إِثْبَات ف 4 وَمَا
بَعْدَهَا) .
ثَالِثًا: الْمَقْضِيُّ لَهُ:
70 - لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ رَضِيَ
خَصْمُهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالإِْقْرَارِ
مِنْهُ بِمَا ادَّعَى خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ لِشَرِيكِهِ فِي
الْمُشْتَرَكِ (1) .
وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِلإِْمَامِ الَّذِي قَلَّدَهُ، أَوْ يَحْكُمَ
عَلَيْهِ، فَقَدْ قَلَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ شُرَيْحًا وَخَاصَمَ عِنْدَهُ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ
جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَائِبًا عَنِ الإِْمَامِ.
وَلاَ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لأَِنَّ
مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَصِحُّ شَاهِدًا لِمَنْ لاَ
تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، فَلاَ يَصِحُّ قَاضِيًا لَهُ لِمَكَانِ
التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُ لَوْ شَهِدَ
عَلَيْهِمْ لَجَازَ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ
لِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلاَ وَلاَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل وَهُوَ مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَخَالَفَ
أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 82، ومعين الحكام ص 39، ومغني المحتاج 4 / 393.
(33/326)
مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: يَنْفُذُ
حُكْمُهُ لأَِنَّهُ حَكَمَ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الأَْجَانِبَ، وَاتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ لِعَدُوِّهِ وَلاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ
فِيمَا عَدَا الْمَاوَرْدِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ جَوَّزَهُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيَ
الْقَضَاءَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَقْضِي لَهُ كَوَلَدِهِ، وَقَال
الْقَفَّال: يَقْضِي لَهُ؛ لأَِنَّ كُل قَاضٍ وَلِيُّ الأَْيْتَامِ،
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الأَْصْحَابِ وَعَلَيْهِ
الْعَمَل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لاِمْرَأَتِهِ وَأُمِّهَا
وَإِنْ كَانَتَا قَدْ مَاتَتَا إِذَا كَانَتِ امْرَأَتُهُ تَرِثُ مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا، وَلاَ لأَِجِيرِهِ الْخَاصِّ وَمَنْ يَتَعَيَّشُ
بِنَفَقَتِهِ.
وَفِي قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِقَارِبِهِ الَّذِينَ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ
لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمَنْعُ
لِمُحَمَّدٍ وَمُطَرِّفٍ، وَالْجَوَازُ لأَِصْبَغَ، فِي حَالَةِ مَا إِذَا
كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَاسْتَثْنَى مِنَ
الْجَوَازِ الزَّوْجَةَ وَوَلَدَهُ الصَّغِيرَ وَيَتِيمَهُ الَّذِي يَلِي
مَالَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لاَ يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَالرَّابِعُ التَّفْرِقَةُ، فَإِنْ
قَال: ثَبَتَ عِنْدِي، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ وَكَانَتِ
الشَّهَادَةُ ظَاهِرَةً جَازَ إِلاَّ لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ
وَيَتِيمِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ كَذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي
أَنْ يَحْكُمَ
(33/327)
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَبَيْنَ
خَصْمِهِ (1) .
رَابِعًا: الْمَقْضِيُّ فِيهِ:
71 - وَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضُ كَحَدِّ الزِّنَى أَوِ الْخَمْرِ، وَحَقُّ
الْعَبْدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا فِيهِ الْحَقَّانِ وَغَلَبَ
فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْقَذْفِ أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ
غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ، فَيَكُونُ
لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي تِلْكَ الْحُقُوقِ، وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ:
لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ إِلاَّ فِي قَبْضِ
الْخَرَاجِ، وَقَال الْقَاضِي ابْنُ سَهْلٍ: يَخْتَصُّ الْقَاضِي بِوُجُوهٍ
لاَ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ وَهِيَ النَّظَرُ فِي
الْوَصَايَا وَالأَْحْبَاسِ وَالتَّرْشِيدِ وَالتَّحْجِيرِ وَالتَّسْفِيهِ
وَالْقَسْمِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنَّظَرُ لِلأَْيْتَامِ، وَالنَّظَرُ فِي
أَمْوَال الْغَائِبِ وَالنَّظَرُ فِي الأَْنْسَابِ وَالْجِرَاحَاتِ وَمَا
أَشْبَهَهَا وَالإِْثْبَاتِ وَالتَّسْجِيل (2) ، وَلاَ يُخِل ذَلِكَ
بِأَنَّ لِلإِْمَامِ حَقَّ تَقْيِيدِ الْقَاضِي زَمَانًا أَوْ مَكَانًا
أَوْ مَوْضُوعًا كَمَا سَبَقَ فِي (سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ ف
26) .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 65 ط. دار الكتب العلمية. وأدب القضاء لابن أبي الدم
ص 195، والروضة 11 / 145، 146، والمغني لابن قدامة 9 / 107، وكشاف القناع 6
/ 320، ومعين الحكام ص 39، ومجلة الأحكام العدلية المادة 1808.
(2) ابن عابدين 5 / 353، ومعين الحكام ص 40، وتبصرة الحكام 1 / 66.
(33/327)
خَامِسًا: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ:
72 - الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ هُوَ كُل مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ
بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَاضِرَ
فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرِيبَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْحُضُورِ
لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ فِي غِيَابِهِ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ فَلَمْ
يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْل سُؤَالِهِ كَحَاضِرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (دَعْوَى ف 59 - 61) .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَال جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ بِشُرُوطٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهَذَا
فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا
يَلِي:
أ - الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ:
73 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ وَلاَ لَهُ إِلاَّ
بِحُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ - أَيْ بِالْبَيِّنَةِ -
سَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا وَقْتَ الشَّهَادَةِ أَمْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ
التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَمْ عَنِ
الْبَلَدِ.
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَيُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛
لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الإِْقْرَارِ؛
وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ بِالإِْقْرَارِ قَضَاءُ إِعَانَةٍ، وَاذَا أَنْفَذَ
الْقَاضِي إِقْرَارَهُ سَلَّمَ إِلَى الْمُدَّعِي
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 335، 336.
(33/328)
حَقَّهُ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا أَوْ
عَقَارًا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّيْنِ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ جِنْسَ حَقِّهِ
إِذَا وُجِدَ فِي يَدِ مَنْ يَكُونُ مُقِرًّا بِأَنَّهُ مَال الْغَائِبِ
الْمُقِرِّ، وَلاَ يَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْعَرْضَ وَالْعَقَارَ؛ لأَِنَّ
الْبَيْعَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنْ
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمَيْنِ حِينَ الْحُكْمِ. . . وَلَكِنْ
لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى الآْخَرِ شَيْئًا فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ غَابَ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْل الْحُكْمِ كَانَ لِلْحَاكِمِ
أَنْ يَحْكُمَ فِي غِيَابِهِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِ (2) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ مَا إِذَا
كَانَ نَائِبُهُ حَاضِرًا فَيَقُومُ مَقَامَ الْغَائِبِ، وَالنَّائِبُ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً كَوَكِيلِهِ وَوَصِيِّهِ وَمُتَوَلِّي
الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ فَيَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنِ
الْبَاقِينَ وَكَذَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ
الْحَصْكَفِيُّ (3) .
وَكَمَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ
حَقِيقَةً يَصِحُّ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ شَرْعًا كَوَصِيٍّ نَصَبَهُ
الْقَاضِي، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ
سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا إِذَا بَرْهَنَ عَلَى ذِي
الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ مِنْ فُلاَنٍ الْغَائِبِ فَحَكَمَ
الْحَاكِمُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 335، 336.
(2) المادة (1830) .
(3) الدر المختار بهامش ابن عابدين 4 / 336.
(33/328)
عَلَى ذِي الْيَدِ الْحَاضِرِ كَانَ ذَلِكَ
حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ أَيْضًا (1) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي مُوَاجَهَةِ وَكِيلِهِ إِذَا حَضَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ
الأَْمْرُ بِالْعَكْسِ (2) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ جِدًّا
بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَذَلِكَ بِيَمِينِ
الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ فَكَالْحَاضِرِ
عِنْدَهُمْ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَقَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَالْيَوْمَيْنِ
وَالثَّلاَثَةِ مَعَ الأَْمْنِ حُكْمُهُ كَالْحَاضِرِ فِي سَمَاعِ
الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةِ، وَالْغَائِبُ الْبَعِيدُ جِدًّا
يُقْضَى عَلَيْهِ فِي كُل شَيْءٍ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ
وَتَزْكِيَتِهَا بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَنَّ حَقَّهُ
هَذَا ثَابِتٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ، وَلاَ
وَكَّل الْغَائِبُ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ، وَلاَ أَحَالَهُ بِهِ عَلَى
أَحَدٍ فِي الْكُل وَلاَ الْبَعْضِ (3) .
وَالْعَشَرَةُ الأَْيَّامُ مَعَ الأَْمْنِ وَالْيَوْمَانِ مَعَ الْخَوْفِ
كَذَلِكَ، أَيْ يُقْضَى عَلَيْهِ فِيهَا مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ فِي
غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ
الْعَقَارِ فَلاَ يُقْضَى بِهِ بَل تُؤَخَّرُ الدَّعْوَى حَتَّى يَقْدَمَ
لِقُوَّةِ الْمُشَاحَّةِ فِي
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 336، 337.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (1831) .
(3) الشرح الصغير 4 / 231.
(33/329)
الْعَقَارِ، وَيَمِينُ الْقَضَاءِ
وَاجِبَةٌ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لاَ يَتِمُّ الْحُكْمُ إِلاَّ بِهَا
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ إِنْ كَانَ
لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَادَّعَى جُحُودَهُ، فَإِنْ قَال: هُوَ - أَيِ
الْغَائِبُ - مُقِرٌّ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ
فَالأَْصَحُّ أَنَّهَا تُسْمَعُ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي
غَيْبَتِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِ فَتُجْعَل غَيْبَتُهُ
كَسُكُوتِهِ، وَالثَّانِي لاَ تُسْمَعُ لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا
يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْجُحُودِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ: أَنَّ
الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ، وَلَوِ ادَّعَى
وَكِيلٌ عَلَى غَائِبٍ فَلاَ تَحْلِيفَ عَلَى الْوَكِيل بَل يَحْكُمُ
بِالْبَيِّنَةِ وَيُعْطِي الْمَال الْمُدَّعَى بِهِ إِنْ كَانَ
لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ مَالٌ (2) .
ثُمَّ قَالُوا: الْغَائِبُ الَّذِي تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ
وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهِيَ الَّتِي لاَ
يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرًا إِلَى مَوْضِعِهِ لَيْلاً، وَقِيل: مَسَافَةُ
قَصْرٍ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ فَكَحَاضِرٍ لاَ
تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ
إِلاَّ لِتَوَارِيهِ أَوْ تَعَزُّزِهِ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ
إِحْضَارِهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَنِ ادَّعَى حَقًّا عَلَى
__________
(1) نفس المرجع 4 / 233.
(2) مغني المحتاج 4 / 406 - 408.
(3) مغني المحتاج 4 / 414، 415.
(33/329)
غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَطَلَبَ مِنَ
الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى
الْحَاكِمِ إِجَابَتُهُ إِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ وَذَلِكَ فِي حُقُوقِ
الآْدَمِيِّينَ لِحَدِيثِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ: يَا رَسُول
اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ
النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَال: خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) ، فَقَضَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ أَبُو
سُفْيَانَ حَاضِرًا (2) .
وَقَالُوا: إِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْل الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى
حُضُورِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الشُّهُودُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَلْزَمُ
الْمُدَّعِيَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ الثَّابِتَةِ أَنَّ حَقَّهُ
بَاقٍ، وَالاِحْتِيَاطُ تَحْلِيفُهُ، وَإِذَا قَضَى عَلَى الْغَائِبِ
بِعَيْنٍ سُلِّمَتْ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ
وَوُجِدَ لَهُ مَالٌ وَفَّى مِنْهُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل
أَنْ لاَ يُدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلاً أَنَّهُ مَتَى
حَضَرَ خَصْمُهُ وَأَبْطَل دَعْوَاهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ (3)
ب - الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
74 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 /
507) ، ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.
(2) كشاف القناع 6 / 353 - 355، والمغني لابن قدامة 9 / 109.
(3) المغني 9 / 110، 111، وكشاف القناع 6 / 354.
(33/330)
الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَوْل بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ
الْحُدُودِ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِأَنَّهُمَا لاَ يَثْبُتَانِ إِلاَّ
بِالإِْقْرَارِ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالإِْقْرَارِ خَارِجَ
مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَائِبِ فِي
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَتَّى إِنَّ الطَّرَفَيْنِ - أَبَا حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدًا - اشْتَرَطَا حُضُورَ الشُّهُودِ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ
الْحُدُودِ وَالْبِدَايَةِ مِنْهُمْ أَيْضًا كَحَدِّ الرَّجْمِ احْتِيَاطًا
فِي دَرْءِ الْحَدِّ، فَإِذَا غَابَ الشُّهُودُ أَوْ غَابَ أَحَدُهُمْ
سَقَطَ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ وَلأَِنَّ الشُّهُودَ إِذَا
بَدَءُوا بِالرَّجْمِ رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ
عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ (1) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمُ الْقَضَاءَ عَلَى
غَائِبٍ فِي قِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ
الْمَال، وَمَنَعُوهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَعْزِيرٍ لَهُ؛
لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ
وَالدَّرْءِ؛ لاِسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ حَقِّ الآْدَمِيِّ (2)
.
الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
يَسْعَى فِي دَفْعِهِ وَلاَ يُوَسَّعُ بَابُهُ، وَالْقَوْل
__________
(1) البدائع 7 / 58، وابن عابدين 3 / 145، 146، وفتح القدير 4 / 123.
(2) مغني المحتاج 4 / 415.
(33/330)
الثَّالِثُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا
كَالأَْمْوَال وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلآِدَمِيٍّ
(1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لاَ يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنْ يُقْضَى فِي السَّرِقَةِ
بِالْمَال فَقَطْ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ (2) .
سَادِسًا: الْحُكْمُ:
75 - الْحُكْمُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْحَاكِمِ الْمُخَاصَمَةَ
وَحَسْمِهِ إِيَّاهَا (3) . وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْل
الْخُصُومَةِ (4) ، وَفِي تَعْرِيفٍ آخَرَ: الإِْعْلاَمُ عَلَى وَجْهِ
الإِْلْزَامِ (5) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءٌ لِلإِْلْزَامِ
الشَّرْعِيِّ وَفَصْل الْخُصُومَاتِ (6) .
اشْتِرَاطُ سَبْقِ الدَّعْوَى لِلْحُكْمِ:
76 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحُكْمِ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ دَعْوَى صَحِيحَةٌ
خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ (7) ، قَال
الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ الْقَوْلِيَّ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى،
وَالْحُكْمَ الْفِعْلِيَّ لاَ يَحْتَاجُ، وَقِيل: إِنَّ الْفِعْلِيَّ لاَ
يَكُونُ حُكْمًا،
__________
(1) نفس المرجع.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 110، 111، وكشاف القناع 6 / 354.
(3) المادة (1786) من المجلة.
(4) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لعلي بن خلف
المنوفي 4 / 109 مطبعة المدني 1989.
(5) الشرح الصغير 4 / 187.
(6) كشاف القناع 6 / 285.
(7) المادة (1829) من المجلة.
(33/331)
بِدَلِيل ثُبُوتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ
لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِتَزْوِيجِ الْقَاضِي عَلَى الأَْصَحِّ.
وَلاَ تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَضَاءِ الضِّمْنِيِّ،
فَإِذَا شَهِدَا عَلَى خَصْمٍ بِحَقٍّ وَذَكَرَا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ
وَجَدِّهِ، وَقَضَى بِذَلِكَ الْحَقِّ كَانَ قَضَاءً بِنَسَبِهِ ضِمْنًا
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَادِثَةِ النَّسَبِ (1) .
سِيرَةُ الْقَاضِي فِي الأَْحْكَامِ:
77 - يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أَنْ لاَ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ حَتَّى لاَ
يَبْقَى لَهُ شَكٌّ فِي فَهْمِهِ لِمَوْضُوعِهَا، فَإِذَا أَشْكَل عَلَيْهِ
أَمْرٌ تَرَكَهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ
بِصُلْحٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ فَلاَ يَعْدِل إِلَى
الصُّلْحِ وَيَقْضِي بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِهِ، فَإِنْ خَشِيَ
مِنْ تَفَاقُمِ الأَْمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ
أَوْ كَانَا مِنْ أَهْل الْفَضْل أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، أَقَامَهُمَا
وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الأَْرْحَامِ حَتَّى
يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْل الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ (2) .
اسْتِشَارَةُ الْفُقَهَاءِ:
78 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ عِنْدَ اخْتِلاَفِ وُجُوهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 424.
(2) تبصرة الحكام 1 / 37 - 39، ومعين الحكام ص 21، وبدائع الصنائع 7 / 13.
(33/331)
النَّظَرِ وَتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ فِي
حُكْمٍ، يُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (1) ، قَال الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ تَصِيرَ سُنَّةً
لِلْحُكَّامِ، وَرُوِيَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً
لأَِصْحَابِهِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
، وَقَدْ شَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي
مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَشَاوَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دِيَةِ
الْجَنِينِ، وَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَدِّ
الْخَمْرِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكُونُ
عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ
وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِذَا نَزَل بِهِ الأَْمْرُ شَاوَرَهُمْ فِيهِ،
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لاَ مُخَالِفَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ
وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ
جَلِيٍّ لَمْ يَحْتَجِ الْقَاضِي إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.
قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا أَشْكَل الْحُكْمُ
فَالْمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةٌ وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبَّةٌ.
وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ وَالنَّاسُ
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) حديث: " ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة. . " أخرجه ابن حبان من قول الزهري
وهو منقطع. (الإحسان11 / 217) .
(33/332)
يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْل، وَلَكِنْ
يُقِيمُ النَّاسَ عَنِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ، وَإِذَا كَانَ
الْقَاضِي يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلاَسِهِمْ عِنْدَهُ وَيُعْجِزُهُ
الْكَلاَمُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلاَ يُجْلِسُهُمْ، بَل يَبْعَثُ
إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ إِذَا أَشْكَل عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ
الْحَوَادِثِ (1) .
وَالأَْمْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهِ هُوَ النَّوَازِل
الْحَادِثَةُ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَتْبُوعٍ، أَوْ
مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَسَائِل الاِجْتِهَادِ،
لِيَتَنَبَّهَ بِمُذَاكَرَتِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ
يَخْفَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَوْضِحَ بِهِمْ طَرِيقَ الاِجْتِهَادِ،
فَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ دُونَ اجْتِهَادِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُشَاوِرْ
وَحَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ نَصًّا أَوْ
إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ.
وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا
عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآْثَارِ وَأَقَاوِيل النَّاسِ
وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ
الشَّافِعِيُّ.
وَعَلَى هَذَا فَكُل مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ جَازَ أَنْ
يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الأَْحْكَامِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 391، وتبصرة الحكام 1 / 37، 38، وبدائع الصنائع 7 /
11، 12، وشرح منتهى الإرادات 3 / 470، والشرح الصغير 4 / 195، والمغني لابن
قدامة 9 / 51، وروضة القضاة للسمناني 1 / 107، والمبسوط 16 / 79.
(33/332)
فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي
وَلاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي (1) .
وَلِمَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُفْتِي يُنْظَرُ
مُصْطَلَحُ (فَتْوَى ف 11 - 20) .
صِيغَةُ الْحُكْمِ:
79 - لاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَلْفَاظًا مَخْصُوصَةً
وَصِيَغًا مُعَيَّنَةً لِلْحُكْمِ بَل كُل مَا دَل عَلَى الإِْلْزَامِ
فَهُوَ حُكْمٌ، كَقَوْلِهِ: مَلَّكْتُ الْمُدَّعِيَ الدَّارَ
الْمَحْدُودَةَ، أَوْ فَسَخْتُ هَذَا الْعَقْدَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ أَوْ
رَدَدْتُهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيٍ
أَوْ إِثْبَاتٍ بَعْدَ حُصُول مَا يَجِبُ فِي شَأْنِ الْحُكْمِ مِنْ
تَقَدُّمِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ (2) .
وَذَهَبَ شَمْسُ الإِْسْلاَمِ مَحْمُودٌ الأُْوزْجَنْدِيُّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول الْقَاضِي: قَضَيْتُ
أَوْ حَكَمْتُ أَوْ أَنْفَذْتُ عَلَيْكَ الْقَضَاءَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَقُول بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
وَأَنَّ قَوْل الْقَاضِي: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ، لَيْسَ بِشَرْطٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ:
حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا، أَوْ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 1 / 261 - 264.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 227، والشرح الصغير 4 / 227، والدسوقي 4 / 156،
157، وكشاف القناع 6 / 322، والمغني 9 / 75.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 227.
(33/333)
أَنْفَذْتُ الْحُكْمَ بِهِ، أَوْ
أَلْزَمْتُ الْخَصْمَ بِهِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَال الْقَاضِي:
ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا كَذَا وَكَذَا، هَل يَكُونُ
حُكْمًا؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ
لاَ يُعَدُّ حُكْمًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ، وَالْحُكْمُ
إِلْزَامٌ.
وَذَهَبَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَامِرِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ
الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَاخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ - مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ - وَفِي الْخَانِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ
الْقَاضِيَ إِذَا قَال: ثَبَتَ عِنْدِي، يَكْفِي، وَكَذَا: ظَهَرَ عِنْدِي،
أَوْ: صَحَّ عِنْدِي، أَوْ قَال: عَلِمْتُ، فَهَذَا كُلُّهُ حُكْمٌ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سُئِل الْقَاضِي عَنْ حُكْمٍ فَأَفْتَى
بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَوْ لاَ يَصِحُّ فَلاَ يَكُونُ إِفْتَاؤُهُ حُكْمًا
يَرْفَعُ الْخِلاَفَ؛ لأَِنَّ الإِْفْتَاءَ إِخْبَارٌ بِالْحُكْمِ لاَ
إِلْزَامٌ، أَمَّا إِذَا حَكَمَ بِفَسْخٍ أَوْ إِمْضَاءٍ فَيَكُونُ حُكْمًا
(3) .
سِجِل الْحُكْمِ:
80 - إِذَا انْتَهَى الْقَاضِي مِنْ نَظَرِ الدَّعْوَى وَأَصْدَرَ
حُكْمَهُ، فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ حُكْمَهُ فِي سِجِلٍّ مِنْ
نُسْخَتَيْنِ يُبَيِّنُ فِيهِ مَا وَقَعَ بَيْنَ ذِي
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 350.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 227، ومعين الحكام ص 50.
(3) الشرح الصغير 4 / 227، والدسوقي 4 / 157.
(33/333)
الْحَقِّ وَخَصْمِهِ، وَمُسْتَنَدَ
الدَّعْوَى مِنَ الأَْدِلَّةِ وَمَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي فِيهَا،
وَتُسَلَّمُ إِحْدَى النُّسَخِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَالأُْخْرَى تُحْفَظُ
بِدِيوَانِ الْحُكْمِ مَخْتُومَةً مَكْتُوبًا عَلَيْهَا اسْمُ كُلٍّ مِنَ
الْخَصْمَيْنِ، وَذَلِكَ دُونَ طَلَبٍ (1) ، فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ أَنْ
يُسَجَّل لَهُ الْحُكْمُ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِجَابَتُهُ (2) ،
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ السِّجِل وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (سِجِلّ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَنْوَاعُ الْحُكْمِ:
81 - يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ إِمَّا بِقَوْلٍ يَصْدُرُ عَنِ الْقَاضِي
بَعْدَ نَظَرِ الدَّعْوَى كَقَوْلِهِ: أَلْزَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا،
وَإِمَّا بِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْهُ كَتَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ الصَّغِيرَةِ،
وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ فِعْل الْقَاضِي حُكْمٌ، إِذْ يَرَى
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَفْعَال الْقَاضِي مِنْ قَبِيل أَعْمَال
التَّوْثِيقِ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ سَبْقُ دَعْوَى.
وَإِذَا أَصْدَرَ الْقَاضِي حُكْمَهُ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَحْكُمَ
بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ مَوْضُوعِ النِّزَاعِ أَوْ يَحْكُمَ
بِالْمُوجِبِ، وَقَدْ يَكُونُ قَضَاؤُهُ بِالاِسْتِحْقَاقِ أَوْ
بِالتَّرْكِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ قَصْدِيًّا أَوْ تَضَمُّنِيًّا،
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْنْوَاعِ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 351، والمادة / 1827 من مجلة الأحكام
العدلية.
(2) المغني 9 / 75.
(33/334)
أ - الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ
وَبِالْمُوجِبِ:
82 - عَرَّفَ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ الشَّافِعِيُّ الْحُكْمَ
بِالصِّحَّةِ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ فِي
أَمْرٍ قَابِلٍ لِقَضَائِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ بِشَرَائِطِهِ
الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا، أَنَّ ذَلِكَ الأَْمْرَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي
مَحَلِّهِ عَلَى وَجْهِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا،
وَمَعْنَى صِحَّتِهِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ عَلَيْهِ.
وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ثَلاَثَةَ أَشْيَاءَ: أَهْلِيَّةَ
التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةَ صِيغَتِهِ، وَكَوْنَ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ،
وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِيهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ.
وَعَرَّفَ الْبُلْقِينِيُّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ بِأَنَّهُ قَضَاءُ
الْمُتَوَلِّي بِأَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالإِْلْزَامِ، بِمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَى ذَلِكَ الأَْمْرِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا عَلَى الْوَجْهِ
الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا.
وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ: أَهْلِيَّةَ
التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةَ صِيغَتِهِ، فَيَحْكُمُ بِمُوجِبِهِمَا (1) .
وَتُوجَدُ فُرُوقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ
مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهَا: أَنَّ الْحُكْمَ
بِالصِّحَّةِ مُنْصَبٌّ إِلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ الصَّادِرِ مِنْ بَيْعٍ
أَوْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِمَا، وَالْحُكْمَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 102 - 104، ومعين الحكام ص 49، 50، ومغني المحتاج 4 /
395.
(33/334)
بِالْمُوجِبِ مُنْصَبٌّ إِلَى ثُبُوتِ
صُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالْحُكْمَ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ بِمُوجِبِ
مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلاَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَنَّهُ مَالِكٌ مَثَلاً
إِلَى حِينِ الْبَيْعِ أَوِ الْوَقْفِ وَلاَ بَقِيَّةِ مَا ذُكِرَ فِيمَا
يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ - مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ - فِي تَعْدَادِ تِلْكَ
الْفُرُوقِ وَإِيرَادِ الأَْمْثِلَةِ عَلَيْهَا، وَلِمَزِيدٍ مِنَ
التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مَصَادِرِهِمْ (1) .
وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (2) ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ
بِالْمُوجِبِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ
كَانَ أَقْوَى لِوُجُودِ الإِْلْزَامِ فِيهِ وَتَضَمُّنِهِ الْحُكْمَ
بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ الْحُكْمَ
بِالصِّحَّةِ، مِثَال ذَلِكَ: إِذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِأَنَّ
هَذَا وَقْفٌ وَذَكَرُوا الْمَصْرِفَ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ، فَحَكَمَ
الْقَاضِي بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا
لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ
بِالْمُوجِبِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ
فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ (3) ، وَيَرَى ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ
الْمُرَادَ بِالْمُوجِبِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ
__________
(1) التبصرة 1 / 106، ومعين الحكام ص 50، 51، وشرح منتهى الإرادات 3 / 475،
476.
(2) التبصرة 1 / 103، ومعين الحكام ص 49.
(3) التبصرة 1 / 108، 109، ومعين الحكام ص 53، 54.
(33/335)
مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ
فَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ مُقْتَضَاهُ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ
الْبَائِعِ، وَدُخُولُهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتِحْقَاقُ
التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فِي كُلٍّ مِنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ
لَكِنَّهَا مُقْتَضَيَاتٌ لاَزِمَةٌ لَهُ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهِ
حُكْمًا بِهَا بِخِلاَفِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ لِلْخَلِيطِ أَوْ
لِلْجَارِ مَثَلاً، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْ لاَ
يَسْتَلْزِمُهُ، فَكَمْ مِنْ بَيْعٍ لاَ تُطْلَبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ،
فَهَذَا يُسَمَّى مُوجِبَ الْبَيْعِ، وَلاَ يُسَمَّى مُقْتَضًى (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ أَنْوَاعٌ سِتَّةٌ:
الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ مَثَلاً، وَالْحُكْمُ
بِمُوجِبِهِ، وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمُ
بِمُوجِبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ
مَا أَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ مَا شَهِدَتْ
بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَدْنَى هَذِهِ الأَْنْوَاعِ الأَْخِيرُ؛ لأَِنَّهُ
لاَ يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بِتَعْدِيل الْبَيِّنَةِ،
وَفَائِدَتُهُ عَدَمُ احْتِيَاجِ حَاكِمٍ آخَرَ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا،
وَأَعْلاَهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجِبِ وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الآْخَرِ، بَل يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ
الأَْشْيَاءِ، فَفِي شَيْءٍ مِنْهَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 397.
(33/335)
أَعْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ.
وَفِي شَيْءٍ يَكُونُ الأَْمْرُ بِالْعَكْسِ، وَفِي الْغَالِبِ أَنَّ
الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ وَعَكْسِهِ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ دَائِمًا فَقَدْ يَتَجَرَّدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ
الآْخَرِ، مِثَال تَجَرُّدِ الصِّحَّةِ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ،
فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، فَيُحْكَمُ فِيهِ
بِالصِّحَّةِ وَلاَ يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجِبِ.
وَمِثَال تَجَرُّدِ الْمُوجِبِ: الْخُلْعُ عَلَى نَحْوِ خَمْرٍ فَإِنَّهُ
فَاسِدٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنَ الْبَيْنُونَةِ وَلُزُومِ
مَهْرِ الْمِثْل فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجِبِ دُونَ الصِّحَّةِ، وَكَذَا
الرِّبَا وَالسَّرِقَةُ وَنَحْوُهُمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجِبِ دُونَ
الصِّحَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ
الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ قَطْعًا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ - بِفَتْحِ
الْجِيمِ - حُكْمٌ بِمُوجَبِ الدَّعْوَى الثَّابِتَةِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ
غَيْرِهَا كَالإِْقْرَارِ، فَالدَّعْوَى الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَا
يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ أَوْ
إِجَارَةٍ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ
لأَِنَّهَا مِنْ مُوجِبِهِ كَسَائِرِ آثَارِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ
بِالْمُوجَبِ حِينَئِذٍ أَقْوَى مُطْلَقًا لِسَعَتِهِ وَتَنَاوُلِهِ
الصِّحَّةَ وَآثَارَهَا، وَالدَّعْوَى غَيْرُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذَلِكَ
- أَيْ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ كَأَنِ ادَّعَى
أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ فَقَطْ - يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 394، 395.
(33/336)
بِالْمُوجِبِ لَيْسَ حُكْمًا بِالصِّحَّةِ
إِذْ مُوجِبُ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ حُصُول صُورَةِ بَيْعٍ بَيْنَهُمَا
دُونَ أَنْ تَشْتَمِل عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْبَيْعِ حَيْثُ لَمْ
يَذْكُرْ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ مِلْكًا لِلْبَائِعِ وَلَمْ تَقُمْ بِهِ
بَيِّنَةٌ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
ب - قَضَاءُ الاِسْتِحْقَاقِ وَالتَّرْكِ:
83 - الْمُدَّعِي إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ أَوْ
مُبْطِلاً، فَإِذَا ظَهَرَ مُحِقًّا يُقْضَى لَهُ بِقَضَاءِ
الاِسْتِحْقَاقِ، وَإِذَا ظَهَرَ مُبْطِلاً يُقْضَى بِقَضَاءِ التَّرْكِ.
فَالأَْوَّل: هُوَ إِلْزَامُ الْقَاضِي الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى
الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِكَلاَمٍ، كَقَوْلِهِ: حَكَمْتُ أَوْ أَلْزَمْتُ
فَأَعْطِ الَّذِي ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ لِهَذَا الْمُدَّعِي أَوْ
سَلِّمْهُ أَوِ ادْفَعِ الدَّيْنَ الَّذِي ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ.
وَيُقَال لِهَذَا الْقَضَاءِ: قَضَاءَ إِلْزَامٍ وَقَضَاءَ اسْتِحْقَاقٍ
وَقَضَاءَ مِلْكٍ، وَهُوَ يَكُونُ فِي حَالَةِ ظُهُورِ حَقِّ الْمُدَّعَى
عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الثَّانِي: هُوَ مَنْعُ الْقَاضِي الْمُدَّعِي عَنِ الْمُنَازَعَةِ
بِكَلاَمٍ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ حَقٌّ، وَأَنْتَ مَمْنُوعٌ عَنِ
الْمُنَازَعَةِ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيُقَال لِهَذَا الْقَضَاءِ:
قَضَاءَ التَّرْكِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ وَقَضَاءِ التَّرْكِ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 475، وكشاف القناع 6 / 323.
(33/336)
الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّ الْمَقْضِيَّ
عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي حَادِثَةٍ لاَ يَكُونُ مَقْضِيًّا
لَهُ أَبَدًا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.
أَمَّا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ التَّرْكِ فِي حَادِثَةٍ فَيَجُوزُ
أَنْ يُقْضَى لَهُ إِذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فِي تِلْكَ
الْحَادِثَةِ، مِثَالُهُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ الْمَال الَّذِي فِي يَدِ
آخَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ مَالِي، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَلَفَ
الْيَمِينَ بِالطَّلَبِ، حُكِمَ عَلَى الْمُدَّعِي بِقَضَاءِ التَّرْكِ،
فَإِذَا أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ يُحْكَمُ
لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ ثَالِثٌ بِأَنَّ الْمَحْكُومَ
بِهِ هُوَ مَالُهُ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ فِي قَضَاءِ التَّرْكِ، وَلاَ
تُسْمَعُ فِي قَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَدَّعِ تَلَقِّي الْمِلْكِ
مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ فَحِينَئِذٍ تُسْمَعُ (1) .
ج - الْقَضَاءُ الْقَوْلِيُّ وَالْقَضَاءُ الْفِعْلِيُّ:
84 - مَا يُصْدِرُهُ الْقَاضِي فِي حُدُودِ وِلاَيَتِهِ وَضِمْنِ
اخْتِصَاصِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلِيًّا بِأَلْفَاظٍ تَدُل عَلَى
الإِْلْزَامِ، كَأَلْزَمْتُ وَقَضَيْتُ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي - عِنْدَ مَنْ
يَقُول بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ - أَوْ تَدُل عَلَى التَّرْكِ،
كَمَنَعْتُ الْمُدَّعِيَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
وَيَكُونُ الْحُكْمُ الْقَوْلِيُّ قَصْدِيًّا، وَيَدْخُل الضِّمْنِيُّ
تَبَعًا كَمَنْ يَدَّعِي
__________
(1) المادة / 1786 من مجلة الأحكام العدلية وشرحها / علي حيدر 4 / 519،
521.
(33/337)
عَلَى كَفِيلٍ بِالْمَال مُقِرٍّ
بِالْكَفَالَةِ مُنْكِرٍ لِلدَّيْنِ، فَبَرْهَنَ عَلَى الْكَفِيل
بِالدَّيْنِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا، كَانَ قَضَاءً عَلَيْهِ قَصْدًا،
وَعَلَى الأَْصِيل الْغَائِبِ ضِمْنًا، وَيُشْتَرَطُ لِلْقَوْلِيِّ سَبْقُ
الدَّعْوَى.
أَوْ يَكُونُ فِعْلاً: وَفِعْل الْقَاضِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَوَّلاً: مَا
لاَ يَكُونُ مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَذِنَتْهُ مُكَلَّفَةٌ
بِتَزْوِيجِهَا فَزَوَّجَهَا، فَفِعْلُهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لأَِنَّهُ
وَكِيلٌ عَنْهَا.
ثَانِيًا: مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحُكْمِ كَتَزْوِيجِ صَغِيرَةٍ لاَ
وَلِيَّ لَهَا، فَعِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَقَال آخَرُونَ:
الأَْوْجَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لاِنْتِفَاءِ شَرْطِهِ أَيْ مِنَ
الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ سَبْقُ الدَّعْوَى فِي
الْحُكْمِ الْفِعْلِيِّ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ (1) .
أَثَرُ الْحُكْمِ فِي تَحْوِيل الشَّيْءِ عَنْ صِفَتِهِ:
85 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَمُحَمَّدٌ
وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ
الْقَاضِي الْمُسْتَوْفِيَ لِشُرُوطِهِ، لاَ يُزِيل الشَّيْءَ عَنْ
صِفَتِهِ، فَلاَ يُحِل الْحَرَامَ لِلْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا كَانَ كَاذِبًا
فِي دَعْوَاهُ وَلاَ يُحَرِّمُ الْحَلاَل؛ لأَِنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 423، 424، وكشاف القناع 6 / 322.
(33/337)
الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ
وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَلَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ
ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ لَمْ يَحْصُل بِحُكْمِهِ الْحِل بَاطِنًا،
سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً أَمْ غَيْرَهُ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ
بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ
قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا
أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ (1) ، فَإِذَا كَانَ الْمَحْكُومُ
بِهِ نِكَاحًا لَمْ يَحِل لِلْمَحْكُومِ لَهُ الاِسْتِمْتَاعُ
بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَيْهَا الاِمْتِنَاعُ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ أُكْرِهَتْ
فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهَا، وَالإِْثْمُ عَلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا
وَبَاطِنًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ
كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ
مَبْنِيًّا عَلَى شَهَادَةِ زُورٍ فَهُوَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلنَّفَاذِ فِي
الْعُقُودِ وَفِي الْفُسُوخِ كَالإِْقَالَةِ وَالطَّلاَقِ إِذَا لَمْ
يَكُنِ الْقَاضِي عَالِمًا بِكَوْنِ الشُّهُودِ شُهُودَ زُورٍ، لِقَوْل
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ: " شَاهِدَاكِ
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 157) ومسلم
(3 / 1337) من حديث أم سلمة واللفظ للبخاري.
(2) القوانين الفقهية ص 196، وحاشية الدسوقي 4 / 156، والشرح الصغير 4 /
223، ومغني المحتاج 4 / 397، والروضة 11 / 152، 153، والمغني 9 / 58، 59،
وشرح منتهى الإرادات 3 / 500، وشرح المجلة لعلي حيدر 4 / 520.
(33/338)
زَوَّجَاكِ (1)
أَمَّا فِي الأُْمُورِ غَيْرِ الْقَابِلَةِ لِلإِْنْشَاءِ بِسَبَبٍ
كَالأَْمْلاَكِ الْمُرْسَلَةِ أَيِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ ذِكْرِ سَبَبِ
الْمِلْكِ وَالإِْرْثِ وَالنَّسَبِ فَلاَ تَنْفُذُ بَاطِنًا، وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ لاَ يَنْفُذُ بَاطِنًا فِي
دَعَاوَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ بِأَقَل مِنَ الْقِيمَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ إِذَا كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ شَهَادَةَ زُورٍ،
وَكَذَلِكَ لاَ يَنْفُذُ عِنْدَهُ بَاطِنًا إِذَا كَانَ الْمَحَل غَيْرَ
قَابِلٍ لِلنَّفَاذِ كَمَا إِذَا ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فِي
عِصْمَةِ آخَرَ أَوْ عِدَّتِهِ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ بِشُهُودِ زُورٍ (2) .
أَثَرُ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ:
86 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَفِيَّةِ - إِلاَّ فِي مَسَائِل اسْتَثْنَوْهَا - إِلَى أَنَّ
قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
وَأَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَرْفَعُ
الْخِلاَفَ فَيَصِيرُ الْمَقْضِيُّ بِهِ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى
بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَذَلِكَ مِثْل قَضَاءِ الْقَاضِي بِشُفْعَةِ
الْجِوَارِ إِذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمَقْضِيِّ لَهُ لاَ يُجِيزُهَا،
فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَحِل لِلأَْخِيرِ الأَْخْذُ بِهَذِهِ
الشُّفْعَةِ، وَذَهَبَ
__________
(1) أثر علي: " شاهداك زوجاك ". أورده ابن قدامة في المغني (9 / 59) ولم
نهتد إليه في المراجع التي بين أيدينا.
(2) فتح القدير 5 / 492، وشرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر 4 / 605،
606، وابن عابدين 5 / 405.
(33/338)
أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرَايِينِيُّ
وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ
الْمَحْكُومُ لَهُ عَالِمًا بِالدَّلِيل لَمْ يَنْفُذِ الْقَضَاءُ فِي
حَقِّهِ بَاطِنًا وَلاَ يَحِل لَهُ أَخْذُهُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَإِنْ
كَانَ عَامِّيًّا نَفَذَ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَكَانَ لَهُ الأَْخْذُ
بِهَا (1) .
نَقْضُ الْحُكْمِ:
87 - إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةٍ بِاجْتِهَادِهِ
__________
(1) ابن أبي الدم ص 169، 170، وروضة القضاة 1 / 323، وشرح منتهى الإرادات 3
/ 501، والشرح الصغير 4 / 220.
(33/339)
لِخُلُوِّهَا عَنْ نَصٍّ أَوْ لَمْ يَكُنْ
مُجْمَعًا عَلَى حُكْمِهَا، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ
يُقَارِبُ ظَنَّهُ الأَْوَّل وَيُنَاقِضُهُ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ
الْوَاقِعُ عَلَى خِلاَفِ نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ
الْمُتَوَاتِرَةِ أَوِ الإِْجْمَاعِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، عَلَى
خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَتَفْصِيل مَا يَنْقُضُ فِيهِ
الْقَاضِي حُكْمَ نَفْسِهِ أَوْ حُكْمَ غَيْرِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ
(نَقْض) (1) .
__________
(1) ابن أبي الدم ص 164، وتبصرة الحكام 1 / 70، ومعين الحكام ص 32، والمغني
9 / 56.
(33/339)
|