الموسوعة الفقهية الكويتية

كَفَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَفَالَةُ لُغَةً: مِنْ كَفَل الْمَال وَبِالْمَال: ضَمِنَهُ وَكَفَل بِالرَّجُل يَكْفُل وَيَكْفِل كَفْلاً وَكُفُولاً، وَكَفَالَةً، وَكَفُل وَكَفِل وَتَكَفَّل بِهِ كُلِّهِ: ضَمِنَهُ، وَأَكْفَلَهُ إِيَّاهُ وَكَفَّلَهُ: ضَمَّنَهُ، وَكَفَلْتُ عَنْهُ الْمَال لِغَرِيمِهِ وَتَكَفَّل بِدَيْنِهِ تَكَفُّلاً.
وَفِي التَّهْذِيبِ: وَأَمَّا الْكَافِل فَهُوَ الَّذِي كَفَل إِنْسَانًا يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: {الرَّبِيبُ كَافِلٌ (1) » ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ الْيَتِيمِ، كَأَنَّهُ كُفِّل نَفَقَةَ الْيَتِيمِ، وَالْمُكَافِل: الْمُعَاقِدُ الْمُحَالِفُ، وَالْكَفِيل مِنْ هَذَا أُخِذَ (2) .
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَثَرٍ.
فَعَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: ضَمُّ ذِمَّة
__________
(1) حديث: " الربيب كافل " أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 181) بلفظ: (الراب كافل) ، ولم نهتد لمن أخرجه من المصادر الحديثية.
(2) تاج العروس، لسان العرب، المصباح المنير.

(34/287)


الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الْمُطَالَبَةِ بِنَفْسٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ.
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الدَّيْنِ.
قَال فِي الْهِدَايَةِ: وَالأَْوَّل هُوَ الأَْصَحُّ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ هِيَ: أَنْ يَلْتَزِمَ الرَّشِيدُ بِإِحْضَارِ بَدَنِ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يُطْلِقُونَ الْكَفَالَةَ عَلَى كَفَالَةِ الْمَال وَالْوَجْهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقْسِمُونَ الضَّمَانَ إِلَى ضَمَانِ الْمَال وَضَمَانِ الْوَجْهِ، وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الأَْعْيَانِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالضَّمَانُ يَكُونُ الْتِزَامَ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامٌ بِحُضُورِ بَدَنِهِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
وَيُسَمَّى الْمُلْتَزِمُ بِالْحَقِّ ضَامِنًا وَضَمِينًا وَحَمِيلاً وَزَعِيمًا وَكَافِلاً وَكَفِيلاً وَصَبِيرًا وَقَبِيلاً وَغَرِيمًا، غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الضَّمِينَ يُسْتَعْمَل فِي الأَْمْوَال، وَالْحَمِيل فِي الدِّيَاتِ، وَالزَّعِيمَ فِي الأَْمْوَال الْعِظَامِ، وَالْكَفِيل فِي النُّفُوسِ، وَالْقَبِيل وَالصَّبِيرَ فِي الْجَمْعِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 2، وفتح القدير 6 / 283، 284، والمبسوط 19 / 160، 161، وقارن ابن عابدين في حاشية رد المحتار 5 / 281 - 283.
(2) ابن عابدين 4 / 249، وبدائع الصنائع 6 / 2، والاختيار 2 / 166، والقوانين الفقهية 330، وروضة الطالبين 4 / 240 والشرح الصغير 4 / 429، ومغني المحتاج 2 / 198، وقليوبي وعميرة 2 / 333 والمغني مع الشرح الكبير 5 / 71، والمغني 4 / 590.

(34/288)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْرَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الإِْبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.
فَالإِْبْرَاءُ عَكْسُ الْكَفَالَةِ لأَِنَّهُ يُفِيدُ خُلُوَّ الذِّمَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ انْشِغَالَهَا (ر: إِبْرَاءٌ ف 1) .

ب - الْحَمَالَةُ:
3 - الْحَمَالَةُ بِالْفَتْحِ: مَا يَتَحَمَّلُهُ الإِْنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ (1) .
وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْحَمَالَةِ وَالْكَفَالَةِ: أَنَّ الْعُرْفَ خَصَّ الْحَمَالَةَ بِالدِّيَةِ وَالْغُرْمِ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَطْلَقَ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَالنَّفْسِ (2) .

ج - الْحَوَالَةُ:
4 - الْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّل وَالاِنْتِقَال (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والموسوعة الفقهية 18 / 121.
(2) قليوبي وعميرة 2 / 323، والشرقاوي على التحرير 2 / 118.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والموسوعة الفقهية 18 / 169.

(34/288)


أُخْرَى (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلٌ لِلدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى، أَمَّا الْكَفَالَةُ أَوِ الضَّمَانُ فَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الاِلْتِزَامِ بِالْحَقِّ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ؛ لأَِنَّ بِالْحَوَالَةِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيل، وَفِي الْكَفَالَةِ لاَ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَكْفُول.

د - الْقَبَالَةُ:
5 - الْقَبَالَةُ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ قَبِل بِهِ إِذَا كَفَل، وَقَبِل إِذَا صَارَ كَفِيلاً، وَتَقَبَّل لَهُ: تَكَفَّل، وَالْقَبِيل: الْكَفِيل (2) .
وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَسْتَعْمِل لَفْظَ الْقَبَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَوَزْنِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ أَوِ الْعَيْنِ، وَعَمَّمَ الْقَبَالَةَ فِي الْمَال وَالدِّيَةِ وَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ (3) .
وَالْقَبَالَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْكَفَالَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الْكَفَالَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
__________
(1) الزيلعي على الكنز 4 / 171، والدسوقي والدردير 3 / 325، ومغني المحتاج 2 / 193، والمغني والشرح الكبير 5 / 54.
(2) تاج العروس، ولسان العرب، والكليات.
(3) الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، 3 / 142 دمشق 1974.

(34/289)


فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . أَيْ كَفِيلٌ: ضَامِنٌ (1) وقَوْله تَعَالَى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} ، أَيْ: كَفِيلٌ. (2)
وَمِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ (3) ، قَال الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الزَّعِيمُ الْكَفِيل، وَالزَّعَامَةُ الْكَفَالَةُ (4) ، وَمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، قَال أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْوَفَاءِ؟ قَال: بِالْوَفَاءِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ (5) .
وَقَدْ نَقَل كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ - وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ - لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَدِينِ (6) ، قَال فِي الاِخْتِيَارِ: بُعِثَ النَّبِيُّ
__________
(1) انظر تفسير الرازي 18 / 179.
(2) مختصر المزني بهامش الأم 2 / 227، والمبسوط 19 / 161، والمغني والشرح الكبير 5 / 70.
(3) حديث: " العارية مؤداة. . . " أخرجه الترمذي (3 / 556) من حديث أبي أمامة، وقال: حديث حسن.
(4) معالم السنن 3 / 177، ومختصر المزني 2 / 227.
(5) حديث أبي قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 372) وقال: حديث حسن صحيح.
(6) المبسوط 19 / 161، وبداية المجتهد 2 / 291، والتحفة وحواشيها 5 / 241، وكشاف القناع 3 / 350، وتذكرة الفقهاء 2 / 85.

(34/289)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَكَفَّلُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ لَدُنِ الْمَصْدَرِ الأَْوَّل إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (1) .
وَلِهَذِهِ الأَْدِلَّةِ رَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الضَّمَانَ الشَّامِل لِلْكَفَالَةِ مَنْدُوبٌ لِقَادِرٍ وَاثِقٍ بِنَفْسِهِ أَمِنَ غَائِلَتَهُ (2) .

أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ وَشُرُوطُهَا:
أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ: الصِّيغَةُ، وَالْكَفِيل، وَالْمَكْفُول لَهُ، وَالْمَكْفُول عَنْهُ، وَالْمَكْفُول بِهِ

الرُّكْنُ الأَْوَّل - صِيغَةُ الْكَفَالَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيل وَحْدَهُ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُول الْمَكْفُول لَهُ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ مِنَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الدَّيْنِ لاَ مُعَاوَضَةَ فِيهِ، بَل هُوَ تَبَرُّعٌ يَنْشَأُ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، فَيَكْفِي فِيهِ إِيجَابُ الْكَفِيل (3) .
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُشْتَرَطُ الرِّضَا ثُمَّ الْقَبُول، وَالثَّالِثُ يُشْتَرَطُ الرِّضَا دُونَ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2 / 166.
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 118، قليوبي وعميرة 2 / 323، وتحفة المحتاج وحواشيها 5 / 241.
(3) ابن عابدين 5 / 283، والدسوقي والدردير 3 / 334، وقليوبي وعميرة 2 / 325، والمغني والشرح الكبير 5 / 102، 103، وكشاف القناع 3 / 365.

(34/290)


الْقَبُول لَفْظًا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ (1) ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتَرَكَّبُ مِنْ إِيجَابٍ يَصْدُرُ مِنَ الْكَفِيل، وَقَبُولٍ يَصْدُرُ عَنِ الْمَكْفُول لَهُ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُول لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيل أَوْ حَقًّا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَتِمُّ بِعِبَارَةِ الْكَفِيل وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَال، بَل لاَ بُدَّ مِنْ قَبُول الْمَكْفُول لَهُ.
وَإِيجَابُ الْكَفِيل يَتَحَقَّقُ بِكُل لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَهُّدُ وَالاْلْتِزَامُ وَالضَّمَانِ، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُل تَعْبِيرٍ عَنِ الإِْرَادَةِ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى (3) .

8 - قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ وَقَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ أَوْ مُؤَقَّتَةٌ أَوْ مُقْتَرِنَةٌ بِشَرْطٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الْكَفَالَةُ الْمُنَجَّزَةُ:
9 - وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ صِيغَتُهَا خَالِيَةً مِنَ
__________
(1) البدائع 6 / 2، والفتح القدير 6 / 314، وابن عابدين 5 / 283.
(2) تحفة المحتاج وحواشيها 5 / 245، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، وقليوبي وعميرة / 325.
(3) لمزيد من التفصيل انظر مصطلح (تعبير) ، الموسوعة الفقهية 12 / 214 - 218.

(34/290)


التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أَوِ الإِْضَافَةِ لأَِجَلٍ، فَمَعْنَى التَّنْجِيزِ: أَنْ تَتَرَتَّبَ آثَارُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَال بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الصِّيغَةِ مُسْتَوْفِيَةٍ شُرُوطَهَا، فَإِذَا قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: أَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَى فُلاَنٍ وَقَبِل الدَّائِنُ الْكَفَالَةَ - عَلَى رَأْيِ مَنْ يُوجِبُ لِتَمَامِ الصِّيغَةِ قَبُول الدَّائِنِ - فَإِنَّ الْكَفِيل يَصِيرُ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَال إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ أَوِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيل بِصِفَتِهِ مِنَ الْحُلُول وَالتَّأْجِيل مَتَى كَانَتْ صِيغَةُ الْكَفَالَةِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِشَرْطٍ يُغَيِّرُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا أُطْلِقَتِ انْعَقَدَتْ حَالَّةً؛ لأَِنَّ كُل عَقْدٍ يَدْخُلُهُ الْحُلُول فَإِنَّهُ يُحْمَل عَلَيْهِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ (2) .

ب - الْكَفَالَةُ الْمُعَلَّقَةُ:
10 - وَهِيَ الَّتِي يُعَلَّقُ وُجُودُهَا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا إِذَا قَال شَخْصٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِالثَّمَنِ إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْكَفَالَةُ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ مُنَجَّزَةً، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَال الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: إِذَا أَفْلَسَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 322، وفتح القدير 6 / 300.
(2) المغني والشرح الكبير 5 / 98.

(34/291)


فُلاَنٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِهَذَا الدَّيْنِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ فُلاَنًا هَذَا كَانَ قَدْ أَفْلَسَ فِعْلاً وَقْتَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ.
11 - وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ خِلاَفٌ يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى شَرْطٍ مُلاَئِمٍ، وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ، كَقَوْل الْكَفِيل لِلْمُشْتَرِي: إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فَأَنَا ضَامِنُ الثَّمَنِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لإِِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ، كَقَوْل الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: إِذَا قَدِمَ فُلاَنٌ - أَيِ الْمَكْفُول عَنْهُ - فَأَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَيْهِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ، كَقَوْل الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: إِذَا غَابَ فُلاَنٌ - الْمَدِينُ - عَنِ الْبَلَدِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ (1) .
وَذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، كَمَا لَوْ قَال الْكَفِيل: إِنْ لَمْ يُؤَدِّ فُلاَنٌ مَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ، لأَِنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَال بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ فَصَحَّ (2) .
فَأَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ
__________
(1) البدائع 6 / 4، وفتح القدير 6 / 291 - 294، وابن عابدين 5 / 305، 306.
(2) ابن عابدين 5 / 295، 296، فتح القدير 6 / 290، 291.

(34/291)


مُلاَئِمٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ إِنْ نَزَل الْمَطَرُ أَوْ إِنْ دَخَلَتُ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ، فَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ (1) ؛ لأَِنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا مَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ، وَيَلْغُو التَّعْلِيقُ (2) .
وَيَبْدُو مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ فُرُوعٍ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُلاَئِمَةِ، وَلاَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ عَقْدٌ كَالْبَيْعِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: جَوَازُ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْقَبُول لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا، فَجَازَ تَعْلِيقُهُمَا كَالطَّلاَقِ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَمْتَنِعُ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ دُونَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَاجَةِ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ (5) : تَذْهَبُ أُولاَهُمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 271، وفتح القدير 6 / 291.
(2) ابن عابدين 5 / 307.
(3) الدسوقي والدردير 3 / 338.
(4) نهاية المحتاج 4 / 441، والشرقاوي على التحرير 2 / 119، وقليوبي وعميرة 2 / 330، ومغني المحتاج 2 / 207.
(5) كشاف القناع 3 / 364، 365، والمغني والشرح الكبير 5 / 100 - 102، والإنصاف 5 / 213.

(34/292)


إِلَى بُطْلاَنِ الْكَفَالَةِ مَعَ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ فِي التَّعْلِيقِ خَطَرًا فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ تُثْبِتُ حَقًّا لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ ثُبُوتِهِ عَلَى شَرْطٍ.
وَتَذْهَبُ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى إِلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحٍ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ (1) ، وَقَدْ مَال إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ؛ لأَِنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إِلَى سَبَبِ الْوُجُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ كَضَمَانِ الدَّرَكِ (2) .

ج - الْكَفَالَةُ الْمُضَافَةُ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَال إِلَى أَجَلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: أَنَا ضَامِنٌ لَكَ هَذَا الْمَال أَوْ هَذَا الدَّيْنَ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الْقَادِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ كَفِيلاً إِلاَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلاَ يُعَدُّ كَفِيلاً وَلاَ يُطَالَبُ بِالْمَال، وَإِذَا تُوُفِّيَ قَبْل الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لاَ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ (3) بَيْنَ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ وَتَأْجِيل الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ، فَالْكَفَالَةُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 365.
(2) المغني والشرح الكبير 5 / 101.
(3) ابن عابدين 5 / 306 وما بعدها، وبدائع الصنائع 6 / 3، وفتح القدير 6 / 291، وما بعدها، والفتاوى الهندية 3 / 278، والمبسوط 19 / 172 وما بعدها.

(34/292)


الْمُضَافَةُ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِدَيْنٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ عِنْدَ إِنْشَائِهَا، وَلَكِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِهِ بِسَبَبِ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ لِفُلاَنٍ مِنَ الْمَال، أَوْ بِسَبَبِ تَعْلِيقِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ قَال: إِنْ أَقْرَضْتُ فُلاَنًا مَبْلَغَ كَذَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَفَالَةِ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول مَوْجُودًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، فَقَدْ يَكُونُ حَالًّا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلاً، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول حَالًّا، وَأُضِيفَتْ كَفَالَتُهُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الآْتِي، فَلاَ يَكُونُ لِلْكَفَالَةِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الآْتِي، وَيَتَأَجَّل الدَّيْنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفِيل وَحْدَهُ بِسَبَبِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ فَلاَ يَتَغَيَّرُ وَصْفُ الدَّيْنِ بَل يَظَل حَالًّا؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ تَأْجِيل الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيل بِسَبَبِ كَفَالَتِهِ الْمُضَافَةِ تَأْجِيلُهُ عَلَى الْمَدِينِ الأَْصِيل، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَال، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول مُؤَجَّلاً عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، وَكَانَتِ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً بِأَنْ قَال الْكَفِيل: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ،

(34/293)


فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الْكَفِيل تُرْجَأُ إِلَى وَقْتِ حُلُول الدَّيْنِ عَلَى الأَْصِيل؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ الْمُطْلَقَةَ بِدَيْنٍ تَلْزَمُ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْحُلُول أَوِ التَّأْجِيل، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَال، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل.
وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ يُجِيزُ إِضَافَةَ الْكَفَالَةِ بِالْمَال إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل، وَيُرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ. أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ لاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا إِلَى الأَْجَل الَّذِي ذُكِرَ، وَذَلِكَ كَإِضَافَتِهَا إِلَى الْحَصَادِ أَوْ إِلَى الْمِهْرَجَانِ أَوْ إِلَى النَّيْرُوزِ، أَمَّا إِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً - كَنُزُول الْمَطَرِ - فَلاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الآْجَال الْمُتَعَارَفَةِ أَوِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَإِذَا بَطَل الأَْجَل لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ فِيهِ وَعَدَمِ تَعَارُفِهِ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَكَانَتْ مُنَجَّزَةً (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعْلُومٍ، وَحِينَئِذٍ لاَ يُطَالَبُ الْكَفِيل إِلاَّ إِذَا حَل الأَْجَل، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَخُرُوجِ الْعَطَاءِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلاً بِقَدْرِ مَا يَرَى، وَعِنْدَئِذٍ لاَ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.

(34/293)


يَتَرَتَّبُ عَلَى الْكَفَالَةِ أَثَرُهَا إِلاَّ بِحُلُول الأَْجَل الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَفَل إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ فِيهِ وَهَكَذَا الضَّمَانُ، وَإِنْ جَعَلَهُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْجُزَازِ وَالْعَطَاءِ خَرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَالأَْجَل فِي الْبَيْعِ، وَالأَْوْلَى صِحَّتُهَا هُنَا، لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جَعَل لَهُ عِوَضًا لاَ يَمْنَعُ مِنْ حُصُول الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَصَحَّ، كَالنَّذْرِ، وَهَكَذَا كُل مَجْهُولٍ لاَ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْكَفَالَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ وَشَرَطَ تَأْخِيرَ الْمَكْفُول بِهِ شَهْرًا كَضَمِنْتُ إِحْضَارَهُ، وَأَحْضَرَهُ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَ، لأَِنَّهُ الْتِزَامٌ بِعَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَ كَعَمَل الإِْجَارَةِ يَجُوزُ حَالًّا وَمُؤَجَّلاً.
وَخَرَجَ بِشَهْرٍ مَثَلاً التَّأْجِيل بِمَجْهُولٍ، كَالْحَصَادِ فَلاَ يَصِحُّ التَّأْجِيل إِلَيْهِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَال مُؤَجَّلاً أَجَلاً مَعْلُومًا؛ إِذْ الضَّمَانُ تَبَرُّعٌ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ وَيَثْبُتُ الأَْجَل فِي حَقِّ الضَّامِنِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَلاَ يُطَالَبُ إِلاَّ كَمَا الْتَزَمَ.
__________
(1) الحطاب 5 / 101، والدسوقي والدردير 3 / 331، 332، والمدونة 13 / 131 وما بعدها.
(2) المغني مع الشرح الكبير 5 / 100.

(34/294)


وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَصِحُّ الضَّمَانُ لِلْمُخَالَفَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُحَرَّرِ تَصْحِيحُهُ، قَال فِي الدَّقَائِقِ: وَالأَْصَحُّ مَا فِي بَقِيَّةِ النُّسَخِ وَالْمِنْهَاجِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّل مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ أَطْوَل مِنَ الأَْوَّل فَكَضَمَانِ الْحَال مُؤَجَّلاً (1) .

د - الْكَفَالَةُ الْمُؤَقَّتَةُ:
13 - تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكْفُل الْكَفِيل الدَّيْنَ مُدَّةً مَعْلُومَةً مُحَدَّدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ يَبْرَأُ بَعْدَهَا مِنَ الْتِزَامِهِ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ، وَذَلِكَ مِثْل قَوْل الْكَفِيل: أَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلاَنٍ أَوْ بِدِيَتِهِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الشَّهْرِ، فَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ بَرِئْتُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيل لاَ تُشْغَل بِالدَّيْنِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ فَقَطْ بِأَدَائِهِ، أَجَازَ الْكَفَالَةَ الْمُؤَقَّتَةَ، وَقَيَّدَ الْمُطَالَبَةَ بِالْمُدَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيل تَصِيرُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ إِلَى جَانِبِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، فَلَمْ يُجِزْ تَوْقِيتَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا شُغِلَتْ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 442، ومغني المحتاج 2 / 207.

(34/294)


فَإِنَّهَا لاَ تَبْرَأُ مِنْهُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، وَقَبُول الْكَفَالَةِ لِلتَّوْقِيتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سُقُوطُ الدَّيْنِ عَنِ الْكَفِيل دُونَ أَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَتَطْبِيقًا عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَغْلَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل لَوْ قَال: كَفَلْتُ فُلاَنًا مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَى شَهْرٍ، تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلَوْ قَال: كَفَلْتُ فُلاَنًا شَهْرًا أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. . . مِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَال: إِنَّ الْكَفِيل فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُطَالَبُ فِي الْمُدَّةِ وَيَبْرَأُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. . . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَفِيلاً أَبَدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُوسِرًا وَلَوْ فِي أَوَّل الأَْجَل فَقَطْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا وَالْعَادَةُ أَنَّهُ لاَ يُوسِرُ فِي الأَْجَل الَّذِي ضَمِنَ الضَّامِنُ إِلَيْهِ، بَل بِمُضِيِّ ذَلِكَ الأَْجَل عَلَيْهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنْ لَمْ يُعْسِرْ فِي جَمِيعِهِ، بَل أَيْسَرَ فِي أَثْنَائِهِ كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْغَلاَّتِ وَالْوَظَائِفِ، كَأَنْ يَضْمَنَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَادَتُهُ الْيَسَارُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الزَّمَنَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ ابْتِدَاءِ يَسَارِهِ يُعَدُّ فِيهِ صَاحِبُ الْحَقِّ مُسَلِّفًا، لِقُدْرَةِ رَبِّ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ عِنْدَ الْيَسَارِ، هَذَا قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَرَقَّبَ كَالْمُحَقَّقِ، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ لأَِنَّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 278، وابن عابدين 5 / 289.

(34/295)


الأَْصْل اسْتِصْحَابُ عُسْرِهِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ، كَأَنَا كَفِيلٌ بِزَيْدٍ إِلَى شَهْرٍ وَأَكُونُ بَعْدَهُ بَرِيئًا، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَسْلِيمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، بِخِلاَفِ الْمَال فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الأَْدَاءُ؛ فَلِهَذَا امْتَنَعَ تَأْقِيتُ الضَّمَانِ قَطْعًا (2) .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَيَبْرَأُ الْكَفِيل بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا وَفَاءٌ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الشَّأْنَ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ (3) .

تَقْيِيدُ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ:
14 - إِنْ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِشَرْطٍ، فَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ، وَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ، وَقَدْ تَلْغُو الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ وَأَثَرِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْكَفَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَفَل رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَكْفُول عَنْهُ هَذَا الْعَبْدَ رَهْنًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَى
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 3 / 331.
(2) مغني المحتاج 2 / 207، ونهاية المحتاج 4 / 441.
(3) الفروع 2 / 618، والإنصاف 5 / 213، وكشاف القناع 3 / 365.

(34/295)


الطَّالِبِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَكْفُول عَنْهُ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلاَ يَتَخَيَّرُ الْكَفِيل بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْكَفَالَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ شَرْطَهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَرَى بَيْنَ الْكَفِيل وَبَيْنَ الْمَكْفُول عَنْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الطَّالِبِ بِأَنْ قَال لِلطَّالِبِ: أَكْفُل لَكَ بِهَذَا الْمَال عَلَى أَنْ يُعْطِيَنِي الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الْمَال عَبْدَهُ هَذَا رَهْنًا، فَكَفَل عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَأَبَى الْمَطْلُوبُ أَنْ يُعْطِيَهُ الرَّهْنَ فَإِنَّ الْكَفِيل يَتَخَيَّرُ.
وَلَوْ ضَمِنَهَا عَلَى أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ، فَبَاعَ الدَّارَ بِعَبْدٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَال، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ فِي الضَّمَانِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ يَغْرَمُ الْمَال إِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ، كَقَوْلِهِ: كَفَلْتُ بَدَنَهُ بِشَرْطِ الْغُرْمِ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَغْرَمُ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لاَ يَغْرَمُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِهِ أَيْ إِنَّهُ يَغْرَمُ الْمَال.
وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل لِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
الثَّانِي: يَصِحُّ الضَّمَانُ وَالشَّرْطُ، لِمَا رَوَاهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 273.

(34/296)


جَابِرٌ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْمَيِّتِ، قَال: فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: هُمَا عَلَيْكَ وَفِي مَالِكَ وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيءٌ فَقَال: نَعَمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ (1) ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ فَقَطْ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَال: كَفَلْتُ بِبَدَنِ فُلاَنٍ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلاَنٌ الْكَفِيل أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَتَفْسُدُ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لأَِنَّهُ شَرْطُ تَحْوِيل الْوَثِيقَةِ الَّتِي عَلَى الْكَفِيل إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَالَةُ إِلاَّ أَنْ يُبْرِئَ الْمَكْفُول لَهُ الْكَفِيل الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا كَفَل بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ تَثْبُتُ كَفَالَتُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ.
وَإِنْ قَال: كَفَلْتُ لَكَ بِهَذَا الْغَرِيمِ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلاَنٍ، أَوْ ضَمِنْتُ لَكَ هَذَا الدَّيْنَ بِشَرْطِ أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ الآْخَرِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلاَنٍ، خَرَجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَالأَْوْلَى: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ فَسْخَ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ فَسْخِ بَيْعٍ آخَرَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ أَنْ
__________
(1) حديث: " هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء. . . " أخرجه الحاكم (2 / 58) وصححه.
(2) حاشية القليوبي وعميرة 2 / 329، 330، 331، ومغني المحتاج 2 / 205 - 208.

(34/296)


يَتَكَفَّل الْمَكْفُول لَهُ، أَوِ الْمَكْفُول بِهِ بِآخَرَ، أَوْ يَضْمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَيْنَهُ أَوْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذُكِرَ (1) .

الرُّكْنُ الثَّانِي - الْكَفِيل:
15 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَفِيل أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَعْتُوهِ أَوِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا أَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ (3) .
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَال: إِلاَّ إِذَا اسْتَدَانَ لَهُ وَلِيُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُل الْمَال عَنْهُ فَتَصِحُّ، وَيَكُونُ إِذْنًا فِي الأَْدَاءِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يُطَالَبُ بِهَذَا الْمَال بِمُوجِبِ الْكَفَالَةِ، وَلَوْلاَهَا لَطُولِبَ الْوَلِيُّ، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ مَرِيضٍ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ (4) .
أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلاَ كَفَالَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ كَفَالَةَ السَّفِيهِ تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ وَيُتْبَعُ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 5 / 102.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 353، الاختيار 2 / 167، 5 / 78، والدسوقي 2 / 265، والروضة 8 / 22 - 23، وكشاف القناع 5 / 234، والمغني مع الشرح الكبير.
(3) قليوبي وعميرة 2 / 323، 327، وتحفة المحتاج وحواشيها ص 241، 258.
(4) ابن عابدين 4 / 251 - 252.
(5) نهاية المحتاج 4 / 434.

(34/297)


بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ (1) ، وَكَذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مَعَ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَلْزَمُ الْكَفِيل الْمُكْرَهَ (2) .
أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (3) -، وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْفُل؛ لأَِنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لاَ بِذِمَّتِهِ، فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ الآْنَ، وَلاَ يُطَالَبُ إِلاَّ إِذَا انْفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ وَأَيْسَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَجَاوَزُ - مَعَ سَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ - ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ جَاوَزَتْهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ وَهُوَ
__________
(1) المغني 5 / 78.
(2) ابن عابدين 4 / 4، 5 / 93، وانظر مصطلح: إكراه في الموسوعة الفقهية 6 / 98، والشرح الصغير 3 / 429، 432، وتحفة المحتاج وحواشيها 5 / 241، 258، وكشاف القناع 3 / 366 - طبع دار الفكر، والخرشي 3 / 175 - 176، والدسوقي 2 / 239، وقليوبي وعميرة 2 / 156.
(3) نهاية المحتاج 4 / 306.
(4) شرح المنتهى 2 / 278، وقليوبي وعميرة 2 / 323، ومغني المحتاج 2 / 199، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 79.
(5) ابن عابدين 4 / 279، والزرقاني 5 / 262 وما بعدها، المغني 5 / 71 - 72، وكشاف القناع 3 / 363.

(34/297)


مُعْسِرٌ وَاسْتَمَرَّ إِعْسَارُهُ إِلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ، أَوْ ضَمِنَ ضَمَانًا لاَ يَسْتَوْجِبُ رُجُوعَهُ عَلَى الْمَدِينِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَإِذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَال الْمَرِيضِ - وَقَضَى بِهِ - بَطَل الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهُ الدَّائِنُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الضَّمَانِ (1) .

كَفَالَةُ الْمَرْأَةِ:
16 - لاَ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَرْأَةِ - إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ - يَنْفُذُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا، أَمَّا إِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَصِحُّ وَلَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الزَّوْجِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ الأَْيِّمُ غَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ - إِذَا كَانَتْ لاَ يُوَلَّى عَلَيْهَا - فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُل فِي الْكَفَالَةِ (2) .

الرُّكْنُ الثَّالِثُ - الْمَكْفُول لَهُ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلاً، وَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ بِالْكَفَالَةِ وَقَبُولِهِ لَهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

1 - كَوْنُ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 422 - 423، وقليوبي وعميرة 2 / 323.
(2) الخرشي 6 / 26، والدسوقي 3 / 330، القوانين الفقهية ص353، والمدونة 5 / 283.

(34/298)


عِنْدَهُمْ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً لَهُ، كَمَا لَوْ قَال: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَحْصُل مِنْ هَذَا الدَّلاَّل مِنْ ضَرَرٍ عَلَى النَّاسِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ تَشْدِيدًا وَتَسْهِيلاً وَلِيَعْلَمَ الضَّامِنُ هَل هُوَ أَهْلٌ لإِِسْدَاءِ الْجَمِيل إِلَيْهِ أَوْ لاَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَشْتَرِطَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ - بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ - فَلَوْ كَفَل الْكَفِيل لِشَخْصٍ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ، لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَهُمَا إِذَا لَمْ يَقْبَل عَنْهُ حَاضِرٌ بِالْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهِ لإِِتْمَامِ صِيغَةِ الْعَقْدِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: الرَّاجِحَةُ مِنْهُمَا تُجِيزُ الْكَفَالَةَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَجْلِسِ وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْمَكْفُول لَهُ مَجْهُولاً، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الْكَفَالَةِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 6، والمبسوط 20 / 9، فتح القدير 6 / 314، وما بعدها. والقليوبي وعميرة 2 / 324 - 325، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، وكشاف القناع 3 / 354، والمغني 5 / 71 - 72.

(34/298)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَدَا الْقَاضِي مِنْهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُول لَهُ لاَ تَضُرُّ، وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا قَال الضَّامِنُ: أَنَا ضَامِنُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِلنَّاسِ - وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ عَيْنَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ - صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدْ كَفَل أَبُو قَتَادَةَ دَيْنَ الْمَيِّتِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْفُول لَهُ (1) .

2 - اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل فِي الْمَكْفُول لَهُ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل فِي الْمَكْفُول لَهُ (2) ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ بِإِيجَابِ الْكَفِيل دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَبُول الْمَكْفُول لَهُ، فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلْقَبُول، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ بَالِغًا عَاقِلاً؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ تَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ مِنَ الْكَفِيل وَقَبُولٍ مِنَ الْمَكْفُول لَهُ.
وَيَجُوزُ قَبُول الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّفِيهِ، لأَِنَّ ضَمَانَ حَقِّهِمَا نَفْعٌ مَحْضٌ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِمَا (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 334، وانظر المراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 5 / 283، والدسوقي والدردير 3 / 334، والقليوبي وعميرة 2 / 325، والمغني والشرح الكبير 5 / 102 - 103، وكشاف القناع 3 / 365.
(3) ابن عابدين 5 / 283، وبدائع الصنائع 6 / 2، وفتح القدير 6 / 314.

(34/299)


3 - قَبُول الْمَكْفُول لَهُ:
19 - تَقَدَّمَ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَرَيَانِ أَنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَأَنَّ قَبُول الْمَكْفُول لَهُ رُكْنٌ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُول لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيل أَوْ حَقًّا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيل، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبُول الْمَكْفُول لَهُ، إِذْ لاَ يَمْلِكُ إِنْسَانٌ حَقًّا رَغْمَ أَنْفِهِ، فَكَانَتْ كَالْبَيْعِ تُفِيدُ مِلْكًا، فَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ.
وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَتِمُّ وَتَتَحَقَّقُ بِإِيجَابِ الْكَفِيل وَحْدَهُ، فَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُول الْمَكْفُول لَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ صَادِرٍ مِنَ الْكَفِيل بِأَنْ يُوَفِّيَ مَا وَجَبَ لِلْمَكْفُول لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَكْفُول لَهُ عَلَى حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ، وَذَلِكَ الْتِزَامٌ لاَ مُعَاوَضَةَ فِيهِ، وَلاَ يَضُرُّ بِحَقِّ أَحَدِهِمَا أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ، بَل هُوَ تَبَرُّعٌ مِنَ الْكَفِيل فَيَتِمُّ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَل الْمَيِّتَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الدَّائِنَ أَوْ أَنْ يَطْلُبَ قَبُولَهُ فَأَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَالَتَهُ وَصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ بِنَاءً عَلَيْهَا (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283، وبدائع الصنائع 6 / 2، فتح القدير 6 / 314، والدسوقي والدردير 3 / 334، تحفة المحتاج 5 / 245، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، القليوبي وعميرة 2 / 325، كشاف القناع 3 / 365، المغني والشرح الكبير 5 / 70 - 71، 102 - 103، نيل الأوطار 5 / 252 - 253، ومغني المحتاج 2 / 200.

(34/299)


الرُّكْنُ الرَّابِعُ - الْمَكْفُول عَنْهُ:
اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول عَنْهُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمَكْفُول بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

1 - كَوْنُ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ الْكَفِيل لِلْمَكْفُول عَنْهُ، لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْكَفَالَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَل الضَّامِنَ هَل يَعْرِفُ الْمَكْفُول عَنْهُ أَوْ لاَ (1) ، وَلأَِنَّ الضَّمَانَ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَنْ يَتَبَرَّعُ عَنْهُ بِهِ كَالنَّذْرِ؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ حَقٍّ فَلاَ حَاجَةَ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَفِيل بِالْمَكْفُول عَنْهُ؛ لِيَعْلَمَ الضَّامِنُ مَا إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أَهْلاً لاِصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ إِلَيْهِ أَوْ لاَ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ هَل الْمَكْفُول عَنْهُ مُوسِرٌ وَمِمَّنْ يُبَادِرُ إِلَى
__________
(1) حديث: " أنه قبل كفالة الضامن. . . " تقدم تخريجه ف 6.

(34/300)


قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ لاَ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل هُوَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، أَمَّا فِي حَال التَّنْجِيزِ فَلاَ تَمْنَعُ جَهَالَةُ الْمَكْفُول عَنْهُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: مَا بَايَعْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَوْ مَا أَقْرَضْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ لَوْ قَال لِشَخْصٍ: كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ عَلَى فُلاَنٍ أَوْ فُلاَنٍ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَيَكُونُ لِلْكَفِيل حَقُّ تَعْيِينِ الْمَكْفُول عَنْهُ مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ الْمُلْتَزِمُ بِالدَّيْنِ (1) .

2 - رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ أَوْ إِذْنُهُ، بَل تَصِحُّ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ (2) ، فَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَالَةَ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنَ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ رِضَاءٌ وَلاَ إِذْنٌ؛ وَلأَِنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 307 - 308، وبدائع الصنائع 6 / 6، والدسوقي 3 / 334، ومنح الجليل 3 / 252، ومغني المحتاج 2 / 200 وما بعدها، ونهاية المحتاج 4 / 224، وكشاف القناع 3 / 354، والمغني 5 / 71 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 310، فتح القدير 6 / 303 - 304، وبلغة السالك 2 / 156 - 157، والدسوقي 3 / 334، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، والقليوبي وعميرة 2 / 325، وكشاف القناع 3 / 354، والمغني 5 / 71.

(34/300)


الاِلْتِزَامُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لأَِنَّ ضَرَرَهُ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ، وَلاَ رُجُوعَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَعِنْدَ أَمْرِهِ يَكُونُ قَدْ رَضِيَ بِهِ، وَلأَِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ، فَالْتِزَامُهُ أَوْلَى، وَكَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً (1) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمَكْفُول عَنْهُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَائِبًا؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْكَفَالَةِ تَظْهَرُ غَالِبًا فِي مِثْل هَذِهِ الأَْحْوَال (2) .

3 - قُدْرَةُ الْمَكْفُول عَنْهُ عَلَى تَنْفِيذِ مَحَل الاِلْتِزَامِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ (مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول عَنْهُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِهِ، فَيَصِحُّ الضَّمَانُ عَنْ كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا، تَرَكَ كَفِيلاً بِهَذَا الدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، فَفِي الْحَدِيثِ: أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَالَةَ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلاَ كَفِيلاً (3) ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا صِحَّةُ إِبْرَاءِ الْمُتَوَفَّى عَنْ دَيْنٍ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالاً، وَصِحَّةُ التَّبَرُّعِ بِالأَْدَاءِ عَنْهُ.
__________
(1) فتح القدير 6 / 304، ومغني المحتاج 2 / 200.
(2) بدائع الصنائع 6 / 6، وبداية المجتهد 2 / 294، ومغني المحتاج 2 / 204، وكشاف القناع 3 / 354.
(3) الحديث سبق تخريجه ف 14.

(34/301)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُول عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمَكْفُول بِهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ ضَمَانُ مَيِّتٍ مَدِينٍ تُوُفِّيَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ وَلاَ عَنْ كَفِيلٍ بِالدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَيِّتَ فِي هَذِهِ الْحَال عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، غَيْرُ أَهْلٍ لِلْمُطَالَبَةِ، وَالضَّمَانُ: ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الدَّيْنِ أَوْ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ دَيْنَ هُنَا وَلاَ مُطَالَبَةَ لأَِنَّهُ بِالْوَفَاةِ عَنْ غَيْرِ مَالٍ وَلاَ كَفِيلٍ تَصِيرُ ذِمَّتُهُ خَرِبَةً وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لأََنْ تُشْغَل بِدَيْنٍ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ يُحْمَل عَلَى الإِْقْرَارِ بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ لاَ عَلَى إِنْشَائِهَا، أَوْ أَنَّهُ وَعْدٌ بِالتَّبَرُّعِ وَهُوَ جَائِزٌ عَنِ الْمَيِّتِ (1) .

الرُّكْنُ الْخَامِسُ: مَحَل الْكَفَالَةِ:
قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ بِالْمَال، وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الضَّمَانَ، وَقَدْ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا الْبَعْضُ: كَفَالَةَ الْبَدَنِ، وَكَفَالَةَ الْوَجْهِ.

أَوَّلاً - كَفَالَةُ الْمَال:
قَدْ يَكُونُ الْمَكْفُول بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَالْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ فِي كُل حَالَةٍ:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 6، والفتاوى الهندية 3 / 253، وفتح القدير 6 / 317 - 318، والدسوقي والدردير 3 / 331، والمغني 5 / 73 - 74.

(34/301)


أ - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
23 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ كَفَالَةِ الدَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا، وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

1 - أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا:
يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا، وَهُوَ مَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَجُوزُ كَفَالَةُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاضِيَةً أَوْ حَاضِرَةً أَوْ مُسْتَقْبَلَةً.
وَقَال الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ -: تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ وَحِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ (1) .
فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ صَحِيحًا، فَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَالْعَيْنِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ قَبِيل التَّبَرُّعِ، وَالتَّبَرُّعُ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالنَّذْرِ، وَقَدْ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّعَامُل بِهَا تُبَرِّرُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ مَجْهُولٍ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِهِ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283 - 284، والسوقي 3 / 333، والقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 74 - 75.

(34/302)


كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ قِبَل فُلاَنٍ، وَلاَ يَعْلَمُ مِقْدَارَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ الْمَجْهُول، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَالْتِزَامُ الْمَجْهُول غَرَرٌ يَنْهَى عَنْهُ الشَّارِعُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا حَتَّى يَكُونَ الْكَفِيل عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ. (1)
2 - أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ:
يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ بِهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْكَفَالَةِ - لأَِنَّ مَآلَهُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: أَقْرِضْ فُلاَنًا وَأَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ إِيَّاهُ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَصِحُّ - عَلَى هَذَا
__________
(1) فتح القدير 6 / 298، وبداية المجتهد 2 / 294، والقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 72.
(2) ابن عابدين 5 / 303، والدسوقي 3 / 333، والقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 72 - 73.

(34/302)


الْقَوْل - بِمَا سَيَكُونُ مِنْ دَيْنٍ مَوْعُودٍ بِهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ قَبْل ثُبُوتِهِ، يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ قَبْل ثُبُوتِهِ لاَ تُشْغَل بِهِ ذِمَّةٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ - رَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَلْزَمْ - لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ شَخْصٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَا بَذَلَهُ لِلآْخَرِ إِنْ خَرَجَ مُقَابِلُهُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا وَرُدَّ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ كَانَ بَعْدَهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَل فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُل الثَّمَنُ فِي ضَمَانِهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ، وَضَمَانُ الدَّرْكِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، أَوْ إِنْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْبَيْعِ بِبَيْعٍ آخَرَ، وَلاَ يَخْتَصُّ ضَمَانُ الدَّرْكِ بِالثَّمَنِ بَل يَجْرِي فِي الْمَبِيعِ فَيَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ إِنْ خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا أَوْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ سَابِقَةٍ (2) .
__________
(1) تحفة المحتاج وحواشيها 5 / 217، والشرقاوي على التحرير 2 / 102، والقليوبي وعميرة 2 / 325 - 326.
(2) فتح القدير 6 / 298، وبداية المجتهد 2 / 294، والشرقاوي على التحرير 2 / 121 - 122، والمغني 5 / 76 - 78، ومغني المحتاج 2 / 201.

(34/303)


أَمَّا الْجُعْل فِي الْجَعَالَةِ فَأَجَازَ الْكَفَالَةَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل أَوْ كَانَتْ بَعْدَهُ لأَِنَّهُ آيِلٌ إِلَى اللُّزُومِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْجُعْل قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ آيِلٍ لِلُّزُومِ بِنَفْسِهِ، بَل بِالْعَمَل، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل (1) .

ب - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
24 - الْمَقْصُودُ بِضَمَانِ الْعَيْنِ أَوْ كَفَالَتِهَا: أَنْ يَلْتَزِمَ الْكَفِيل بِرَدِّ عَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَبِرَدِّ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إِذَا تَلِفَتْ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ كَفَالَةِ الأَْعْيَانِ تَفْصِيلٌ يَرْجِعُ إِلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الأَْصِيل أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
قَدْ يَكُونُ الْمَكْفُول بِهِ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا أَوْ مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمَكْفُول بِهِ أَمَانَةً فِي يَدِ حَائِزِهِ، فَهَذِهِ حَالاَتٌ ثَلاَثٌ تَفْصِيلُهَا كَمَا يَلِي:

1 - الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا:
25 - هِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى حَائِزِهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ يَرُدَّ مِثْلَهَا أَوْ
__________
(1) فتح القدير 6 / 298، والدسوقي 3 / 333، وقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 74.

(34/303)


قِيمَتَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَذَلِكَ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ كَفَالَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْعْيَانِ: فَيَلْتَزِمُ الْكَفِيل بِرَدِّ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَبِرَدِّ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَبِرَدِّ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالأَْعْيَانِ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ لَزِمَهُ عَيْنُهُ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا ضَمِنَ الْمُعَيَّنَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ أَوْ بِرَدِّ مِثْلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا ضَمِنَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ، وَلَكِنْ إِذَا كَفَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُلْزَمٌ بِضَمَانِهِ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ صَحَّ الضَّمَانُ (1) .

2 - الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا:
26 - وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى حَائِزِهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِذَا هَلَكَتْ لاَ يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامٌ آخَرُ، مِثَال ذَلِكَ: الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَوَجَبَ عَلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، والدسوقي 3 / 334، والقليوبي وعميرة 2 / 329، والمغني 5 / 75 - 76.

(34/304)


الْبَائِعِ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ دَفَعَهُ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنَ الدَّيْنِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الأَْعْيَانِ يَجُوزُ ضَمَانُ تَسْلِيمِهِ فَقَطْ مَا دَامَ قَائِمًا، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ، لأَِنَّهُ إِذَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ بِهِ، فَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي (1) ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الأَْعْيَانِ، عَلَى مَعْنَى تَسْلِيمِهَا بِذَاتِهَا (2) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا عَرْضُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَجْرِيَانِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (3) .

3 - الأَْمَانَةُ:
27 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الأَْعْيَانَ الَّتِي تُعَدُّ أَمَانَةً فِي يَدِ حَائِزِهَا قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ تَسْلِيمُهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى مَالِكِهِ، كَالْعَارِيَّةِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَإِذَا هَلَكَ لاَ يَلْزَمُ الْكَفِيل
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، والمغني 5 / 75 - 76.
(2) الحطاب 5 / 98، والخرشي 5 / 28، والدسوقي 3 / 334.
(3) القليوبي وعميرة 2 / 329، ونهاية المحتاج 4 / 441.

(34/304)


شَيْءٌ لِكَوْنِهِ أَمَانَةً، وَالأَْمَانَةُ إِذَا هَلَكَتْ تَهْلِكُ مَجَّانًا.
وَالْقِسْمُ الآْخَرُ لاَ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ تَسْلِيمُهُ، بَل عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْعَى إِلَى ذَلِكَ، كَالْوَدَائِعِ وَأَمْوَال الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ، كَمَا لاَ تَجُوزُ بِقِيمَتِهِ؛ إِذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا مَضْمُونًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، وَلاَ كَفَالَةَ إِلاَّ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ضَمَانِ الْوَدَائِعِ وَالْعَارِيَّاتِ وَمَال الْقِرَاضِ، عَلَى أَنَّهَا. إِذَا تَلِفَتْ أَتَى بِعَيْنِهَا، وَلَكِنْ إِذَا ضَمِنَهَا عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ أَوْ رَدِّ الْمِثْل، صَحَّ الضَّمَانُ وَلَزِمَ؛ لأَِنَّهَا كَفَالَةٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَال فِي يَدِ الشَّرِيكِ وَالْوَكِيل وَالْوَصِيِّ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا التَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْمَانَاتِ،
__________
(1) فتح القدير 6 / 312 - 313، الفتاوى الهندية 3 / 254.
(2) الحطاب 5 / 98، والخرشي 6 / 28، والدسوقي 3 / 334.
(3) القليوبي وعميرة 2 / 329، ونهاية المحتاج 4 / 441.

(34/305)


كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْعَيْنِ الَّتِي يَدْفَعُهَا إِلَى الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا إِنْ ضَمِنَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ عَلَى ضَامِنِهِ، أَمَّا إِنْ ضَمِنَهَا إِنْ تَعَدَّى فِيهَا فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ يَدُل عَلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمِ الضَّامِنَ شَيْءٌ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَعَدٍّ لَزِمَ الْحَائِزَ ضَمَانُهَا، وَلَزِمَ ضَامِنَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَ ضَامِنَهُ، كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ (1)

ثَانِيًا - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
28 - هِيَ الْتِزَامُ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول إِلَى الْمَكْفُول لَهُ أَوْ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (2) ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَتَّحِدُ الْمَكْفُول بِهِ وَالْمَكْفُول عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَفِي مَضْمُونُهَا وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 76.
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 119.

(34/305)


أ - حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} ، وَلِمَا رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيُّ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُل كُفَلاَءَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ، وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ (5) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْكَفَالَةِ بِالأَْبْدَانِ، فَإِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيَّ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ فَعَلَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ مَعَ كَثْرَةِ الصَّحَابَةِ حِينَئِذٍ (6) ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ قَوْل جَرِيرٍ وَالأَْشْعَثِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 286، وبدائع الصنائع 6 / 4، وفتح القدير 6 / 285.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 344، والمواق 5 / 105، وبداية المجتهد 2 / 291.
(3) كشاف القناع 3 / 362، والمغني 5 / 95.
(4) المغني 5 / 95 - 96.
(5) أثر حمزة بن عمرو الأسلمي أن عمر - رضي الله عنه - بعثه مصدقًا. . . . " أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3 / 147) وعلقه البخاري في صحيحه (الفتح 4 / 469) .
(6) فتح الباري 4 / 470 وما بعدها.

(34/306)


لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَّلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال ابْنُ الْمُنِيرِ: أَخَذَ الْبُخَارِيُّ الْكَفَالَةَ بِالأَْبْدَانِ فِي الدُّيُونِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالأَْبْدَانِ فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ قَال بِهَا الْجُمْهُورُ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةُ كَفَالَةِ الْبَدَنِ فِي الْجُمْلَةِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَاسْتُؤْنِسَ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} .
وَفِي قَوْلٍ لاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْحُرَّ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالأَْوَّل (2) .

ب - مَضْمُونُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
30 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ كَفَالَةِ النَّفْسِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهَا بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ قِصَاصٌ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لأَِنَّهَا مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ بِإِحْضَارِ مَنْ يَجِبُ إِحْضَارُهُ إِلَى مَجْلِسٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَهُ، وَلاَ تَتَضَمَّنُ الْتِزَامًا بِدَيْنِ الْمَكْفُول إِلاَّ بِالشَّرْطِ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ إِلَى مَجْلِسِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) مغني المحتاج 2 / 203، وحاشية القليوبي 2 / 327.

(34/306)


الْقَضَاءِ الْفُلاَنِيِّ فِي وَقْتِ كَذَا فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ، كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلاَ يَلِيقُ بِهَا الاِسْتِيثَاقُ، سَوَاءٌ طَابَتْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ بِالْكَفَالَةِ أَوْ لَمْ تَطِبْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَمَّا الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِيهِ حَقٌّ لِلْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، إِنْ طَابَتْ بِهَا نَفْسُ الْمَطْلُوبِ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ، فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيل، فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ.
وَإِنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيل بِلاَ جَبْرٍ - فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ - فَلاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِعْطَاءِ كَفِيلٍ بِنَفْسِهِ يَحْضُرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لإِِثْبَاتِ ادِّعَاءِ خَصْمِهِ عَلَيْهِ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْبَدَنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِوُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيَلِيقُ الاِسْتِيثَاقُ (1) .
وَيُمَيِّزُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْ كَفَالَةِ الْوَجْهِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 297 - 298، وبدائع الصنائع 6 / 8، وفتح القدير 6 / 285 - 286.

(34/307)


ضَمَانُ الْوَجْهِ:
31 - وَهُوَ الْتِزَامُ الإِْتْيَانِ بِذَاتِ الْمَضْمُونِ وَإِحْضَارِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ مَدِينًا؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى الضَّمَانِ إِحْضَارُهُ إِلَى الطَّالِبِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْوَجْهِ فِيمَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ (1) ، وَلِلزَّوْجِ رَدُّ ضَمَانِ الْوَجْهِ إِذَا صَدَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ضَمَانُهَا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَضْمُونِ يَبْلُغُ ثُلُثَ مَالِهَا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِهَا لِطَلَبِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَعَرَّةٌ عَلَيْهِ (2) .

الضَّمَانُ بِالطَّلَبِ:
32 - وَهُوَ الْتِزَامُ طَلَبِ الْغَرِيمِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ إِنْ تَغَيَّبَ وَالدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ دُونَ الاِلْتِزَامِ بِإِحْضَارِهِ، وَقِيل: يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِهِ، وَلِذَا صَحَّ ضَمَانُ الطَّلَبِ فِيمَنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِسَبَبِ حَقٍّ مَالِيٍّ، أَوْ بِسَبَبِ قِصَاصٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ حُدُودٍ وَتَعْزِيرَاتٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِآدَمِيٍّ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ، أَوْ لاَ أَضْمَنُ إِلاَّ الطَّلَبَ، أَوْ لاَ أَضْمَنُ إِلاَّ وَجْهَهُ، أَوْ أَضْمَنُ وَجْهَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ غُرْمِ الْمَال إِنْ لَمْ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 344 والمواق 5 / 105 وما بعدها.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 344.

(34/307)


أَجِدْهُ (1) .
وَحَاصِل كَفَالَةِ الْبَدَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ: الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُول بِبَدَنِهِ، فَكُل مَنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ عِنْدَ الاِسْتِعْدَاءِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارُهُ، تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِهِ، فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ لآِدَمِيٍّ كَمَدِينٍ وَأَجِيرٍ وَكَفِيلٍ، وَبِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ آدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ - عَلَى الأَْظْهَرِ - وَقِيل: لاَ تَصِحُّ قَطْعًا، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالْخَمْرِ - عَلَى الْمَذْهَبِ - وَقِيل: قَوْلاَنِ.
فَإِنْ كَفَل بَدَنَ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ لَمْ يُشْتَرَطَ الْعِلْمُ بِقَدْرِهِ؛ لِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْكَفِيل، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ بِإِذْنِ وَلِيِّهِمَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارَهُمَا لإِِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى صُورَتِهِمَا فِي الإِْتْلاَفِ وَغَيْرِهِ، وَبِبَدَنِ مَحْبُوسٍ وَغَائِبٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيل الْغَرَضِ فِي الْحَال، وَبِبَدَنِ مَيِّتٍ قَبْل دَفْنِهِ لِيَشْهَدَ عَلَى صُورَتِهِ بِإِذْنِ الْوَارِثِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُل دَيْنٍ، لَوِ ادُّعِيَ بِهِ عَلَى شَخْصٍ عِنْدَ حَاكِمٍ لَزِمَهُ الْحُضُورُ لَهُ تَصِحُّ
__________
(1) الدسوقي والدردير 3 / 346، والمواق 5 / 105 وما بعدها.

(34/308)


الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِإِحْضَارِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ إِلَى رَبِّهِ، سَوَاءٌ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَلِذَا صَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لاَزِمٌ، مَعْلُومًا كَانَ الدَّيْنُ - لِلْكَفِيل - أَوْ مَجْهُولاً، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول مَحْبُوسًا عِنْدَ الْحَاكِمِ، إِذِ الْمَحْبُوسُ عِنْدَهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ، - كَحَدِّ الزِّنَا، أَوْ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لآِدَمِيٍّ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: لاَ كَفَالَةَ فِي حَدٍّ (2) ؛ وَلأَِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الإِْسْقَاطِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ، فَلاَ يَدْخُلُهُ الاِسْتِيثَاقُ وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ الْجَانِي، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ، وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَبِبَدَنِ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ - عِنْدَهُمْ - مَعَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَضْمَنَ الْمَال إِذَا لَمْ يَحْضُرِ الْمَكْفُول، وَتَصِحُّ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 253، والشرقاوي على التحرير 2 / 119، والقليوبي وعميرة 2 / 327 - 328، ونهاية المحتاج 4 / 431 وما بعدها، وتحفة المحتاج وحواشيها 5 / 258 - 261.
(2) حديث: " لا كفالة في حد " أخرجه البيهقي (6 / 77) ، وضعف إسناده.

(34/308)


الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً، كَمَا صَحَّ الضَّمَانُ كَذَلِكَ (1) .

آثَارُ الْكَفَالَةِ:
أَوَّلاً: عَلاَقَةُ الْمَكْفُول لَهُ بِالْكَفِيل:
يَخْتَلِفُ الأَْمْرُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالْمَال أَوْ بِالنَّفْسِ.

أ - كَفَالَةُ الْمَال:
قَدْ يَكُونُ الْمَال الْمَكْفُول بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا.

1 - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
يَتَعَلَّقُ بِكَفَالَةِ الدَّيْنِ أَحْكَامٌ هِيَ:

حَقُّ الْمُطَالَبَةِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الدَّائِنَ الْمَكْفُول لَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِهِ دُونَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِتَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الأَْصِيل الْمَكْفُول عَنْهُ، كَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الأَْصِيل بِهِ عِنْدَ حُلُول أَجَلِهِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذِمَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِالدَّيْنِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 362 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 3 / 316، والمغني 5 / 96 - 99.
(2) بدائع الصنائع 6 / 10، ونهاية المحتاج 4 / 431، والمغني 5 / 83.

(34/309)


أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ - جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَل فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ، تُقَرِّرُ نَفْسَ الْحُكْمِ.
وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ أُخْرَى لاَ تُجِيزُ لِلدَّائِنِ الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالأَْصِيل حَاضِرٌ مُوسِرٌ لَيْسَ ذَا لَدَدٍ فِي الْخُصُومَةِ وَلاَ مُمَاطِلاً فِي الْوَفَاءِ، أَوْ كَانَ الأَْصِيل غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ بُعْدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا وَجَبَ ابْتِدَاءً عَلَى الأَْصِيل، وَالْكَفَالَةُ وَثِيقَةٌ فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الأَْصِيل، كَالرَّهْنِ (1) .

تَعَدُّدُ الْكُفَلاَءِ:
34 - لِلدَّائِنِ الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يُطَالِبَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَلاَءِ بِكُل الدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ كَفَالَتُهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَيَكُونُ الْكَفِيل الأَْوَّل بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيل الثَّانِي كَالأَْصِيل بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيل الْمُنْفَرِدِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِكُل الدَّيْنِ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي ضَمَانِهِ أَنْ يَضْمَنَهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالدَّيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ رُءُوسِهِمْ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الخرشي 5 / 33، والدسوقي والدردير 3 / 337 وما بعدها، ومنح الجليل 3 / 259.

(34/309)


وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لأَِنَّ الضَّامِنَ لِلدَّيْنِ مَجْمُوعُهُمْ، فَصَارُوا فِي ضَمَانِهِ شُرَكَاءَ، وَالْمَكْفُول بِهِ يَقْبَل الاِنْقِسَامَ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ لِلدَّائِنِ قِبَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا لَهُ قِبَل الْكَفِيل الْمُنْفَرِدِ، إِذْ يُعَدُّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلاً بِكُل الدَّيْنِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الدَّائِنَ لَوِ اشْتَرَطَ حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، كَانَ لَهُ أَخْذُ جَمِيعِ حُقُوقِهِ مِنْ أَحَدِهِمْ إِنْ غَابَ غَيْرُهُ أَوِ افْتَقَرَ فَصَارَ مُعْدَمًا، أَمَّا إِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا مَلاَءً فَإِنَّهُ يَتْبَعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ فَقَطْ حَسَبَ انْقِسَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِمْ (1) .

زَمَانُ وَمَكَانُ وَمَوْضُوعُ الْمُطَالَبَةِ:
35 - يَتَحَدَّدُ الْتِزَامُ الْكَفِيل بِمَا كَانَ يَلْتَزِمُ بِهِ الأَْصِيل مِنْ دَيْنٍ، فَيُؤَدِّيهِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْكَفَالَةِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَمَعَ مُرَاعَاةِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ مِنْ تَنْجِيزٍ أَوْ تَعْلِيقٍ أَوْ إِضَافَةٍ إِلَى أَجَلٍ أَوْ تَأْقِيتٍ أَوِ اقْتِرَانٍ بِشَرْطٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل حَل
__________
(1) فتح القدير 6 / 238 - 239، والدسوقي 3 / 342، ونهاية المحتاج 4 / 444، والمغني 9 / 95.

(34/310)


الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا زُفَرَ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ ذِمَّتَهُ خَرِبَتْ، وَثَبَتَ لِلدَّائِنِ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يَحِل بِالْمَوْتِ إِذَا مَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الضَّامِنُ قَبْل حُلُول أَجَل الدَّيْنِ، انْتَهَى ضَمَانُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَخُيِّرَ الطَّالِبُ بَيْنَ بَقَائِهِ إِلَى حِينِ حُلُول الأَْجَلِ، وَمِنْ ثَمَّ يُطَالَبُ الأَْصِيل، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَجَّل اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَيَأْخُذَهُ مِنْ تَرِكَةِ الضَّامِنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الأَْصِيل حَاضِرًا مَلِيئًا لِعَدَمِ حُلُول أَجَلِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الضَّامِنُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل أَوْ بَعْدَهُ فَلاَ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ حَاضِرًا مَلِيئًا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا كَانَ غَائِبًا مُعْدَمًا، أَوْ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ (1) .

حُقُوقُ الْكَفِيل قَبْل الدَّائِنِ:
36 - إِذَا كَانَ الضَّمَانُ بِإِذْنِ الأَْصِيل كَانَ لِلْكَفِيل الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الدَّائِنِ - إِذَا مَا تُوُفِّيَ الأَْصِيل قَبْل الْوَفَاءِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ مَدِينِهِ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ، أَوْ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 319، والدسوقي والدردير 3 / 337، والقليوبي وعميرة 2 / 331، والمغني 5 / 81.

(34/310)


أَوْ يُبْرِئَهُ، لِيَتَجَنَّبَ بِذَلِكَ احْتِمَال تَلَفِهَا وَعَدَمَ الرُّجُوعِ فِيهَا إِذَا مَا وَفَّى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلضَّامِنِ عِنْدَمَا يُفَلِسُ الأَْصِيل، فَيَطْلُبُ الدَّائِنُ بَيْعَ مَال الأَْصِيل لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ أَوْ مَا يَخُصُّهُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَذَلِكَ قَبْل الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ - إِذَا مَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ - أَنْ يَدْفَعَ طَلَبَهُ بِأَنَّ الْمَدِينَ حَاضِرٌ مُوسِرٌ فَيَجِبُ مُطَالَبَتُهُ أَوَّلاً، أَوْ بِأَنَّ لِلْمَدِينِ مَالاً حَاضِرًا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ حَاضِرًا، وَلِلضَّامِنِ - عِنْدَهُمْ - حَقُّ الاِعْتِرَاضِ عَلَى تَأْجِيل الدَّائِنِ الدَّيْنَ لِلْمَدِينِ عِنْدَ يَسَارِهِ، فَيُخَيَّرُ الدَّائِنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عُدُولُهُ عَنِ التَّأْجِيل، وَإِمَّا إِمْضَاؤُهُ التَّأْجِيل وَإِبْرَاؤُهُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
كَذَلِكَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُلْزِمَ الدَّائِنَ بِمُطَالَبَةِ الْمَدِينِ بِالدَّيْنِ إِذَا مَا حَل أَجَلُهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُفْلِسَ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ (1) .

2 - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل إِذَا كَفَل عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا - فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 338 - 340، ومنح الجليل 3 / 160، ونهاية المحتاج 4 / 444 - 445، وبدائع الصنائع 6 / 11، وانظر المغني 5 / 86 - 89.

(34/311)


بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ أُلْزِمَ بِرَدِّ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً.
وَإِذَا كَفَل عَيْنًا مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ تَسْلِيمُهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَإِذَا كَفَل أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ
بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَفَل بِأَمَانَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل إِذَا ضَمِنَ الْعَيْنَ عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِرَدِّ الْمِثْل أَوْ دَفْعِ الْقِيمَةِ، يَكُونُ مُلْزَمًا بِهَذَا الضَّمَانِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَ تَسْلِيمَهَا بِذَاتِهَا، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ كَفَالَةِ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنْ هَلَكَتْ فَعِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا يُوجِبُ ضَمَانَهَا عَلَى الْكَفِيل، وَالآْخَرُ لاَ يَضْمَنُهُ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، وفتح القدير 6 / 312 - 313، والمغني 5 / 75 - 76.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 334، والحطاب 5 / 98، والخرشي 5 / 28.
(3) القليوبي وعميرة 2 / 329، ونهاية المحتاج 4 / 441.

(34/311)


ب - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَكْفُول فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ الطَّالِبُ فِيهِ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، إِذْ يَحْصُل بِذَلِكَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ سَلَّمَ الْكَفِيل الْمَطْلُوبَ فِي صَحْرَاءَ، فَلاَ يَكُونُ قَدْ أَوْفَى بِالْتِزَامِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ، حَتَّى لَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْكَفَالَةِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ فِي مَكَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ خِلاَفَ مَجْلِسِهِ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنَ التَّقْيِيدِ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ، فَسَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، خَرَجَ مِنَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ أَمَامَ قَاضٍ مُخْتَصٍّ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِقَاضٍ دُونَ آخَرَ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل لاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الطَّالِبَ وَضَعَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ يَقْصِدُ الإِْلْزَامَ بِهِ، فَقَدْ تَكُونُ حُجَّتُهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالنَّفْسِ فَأَحْضَرَ

(34/312)


الْمَطْلُوبَ أَحَدُهُمْ، بَرِئَ الْجَمِيعُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْمَكْفُول فِيهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ - هُوَ إِحْضَارُهُ - فَيَتِمُّ بِأَحَدِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِعَدَدِهِمْ، لَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ مَنْ يُحْضِرُ الْمَطْلُوبَ؛ لأَِنَّ الْمَكْفُول حِينَئِذٍ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِعَدَدِهِمْ، فَفِعْل أَحَدِهِمْ لاَ يُعَدُّ فِعْلاً لِغَيْرِهِ.
وَيَلْتَزِمُ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَلاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مُهْلَةً إِذَا كَانَ مَحَل الْمَطْلُوبِ مَعْلُومًا، فَإِذَا لَمْ يُحْضِرْهُ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ لاَزِمٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ دَيْنُ الْمَطْلُوبِ؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى كَفَالَةِ الْبَدَنِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مُجَرَّدُ الاِلْتِزَامِ بِالإِْحْضَارِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ كَأَنْ يَقُول: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ. . فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، وَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِهِ، وَإِذَا رَفَضَ الْمَطْلُوبُ مُطَاوَعَةَ الْكَفِيل بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ لِيُعِينَهُ بِأَعْوَانِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ، فَلاَ يَمْلِكُ الْكَفِيل إِلاَّ إِرْشَادَ الْمَكْفُول لَهُ إِلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا ارْتَدَّ الْمَكْفُول وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَخْرُجِ الْكَفِيل مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ لَحَاقَهُ بِدَارِ

(34/312)


الْحَرْبِ إِنَّمَا اعْتُبِرَ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فِي حَقِّ أَمْوَالِهِ وَقِسْمَتِهَا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إِلَى خَصْمِهِ، فَيَبْقَى الْكَفِيل عَلَى كَفَالَتِهِ، وَيُمْهِلُهُ الْقَاضِي مُدَّةً مُنَاسَبَةً.
وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُول بِهِ بَرِئَ الْكَفِيل بِالنَّفْسِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إِحْضَارِهِ؛ وَلأَِنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنِ الأَْصِيل فَيَسْقُطُ الإِْحْضَارُ عَنِ الْكَفِيل، وَكَذَا إِذَا مَاتَ الْكَفِيل لأَِنَّهُ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ، وَمَالُهُ لاَ يَصْلُحُ لإِِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلاَفِ الْكَفِيل بِالْمَال، وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُول لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل بِضَمَانِ الْوَجْهِ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ حُلُول الدَّيْنِ فِي مَكَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ الطَّالِبُ عَلَى خَلاَصِ دَيْنِهِ مِنْهُ أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَهُ فِي مَكَانٍ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ قَاضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا يَبْرَأُ إِذَا سَلَّمَ الْمَطْلُوبُ نَفْسَهُ لِلدَّائِنِ بَعْدَ حُلُول دَيْنِهِ إِنْ أَمَرَهُ الضَّامِنُ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ التَّسْلِيمُ قَبْل حُلُول الدَّيْنِ، أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْكَفِيل، لَمْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 297 وما بعدها، وبدائع الصنائع 6 / 4 وما بعدها، وفتح القدير 6 / 285 وما بعدها.

(34/313)


مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْضِرَ الضَّامِنُ الْمَضْمُونَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِنْ بَعْدِ تَلَوُّمٍ (إِمْهَالٍ) خَفِيفٍ - كَالْيَوْمِ - إِنْ قَرُبَتْ غَيْبَةُ الْغَرِيمِ، وَبِلاَ تَلَوُّمٍ إِنْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْتَزِمُ إِلاَّ بِإِحْضَارِهِ.
وَإِذَا أَثْبَتَ الْكَفِيل أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَلْتَزِمُ بِالضَّمَانِ إِذَا أَثْبَتَ أَنَّ الْمَكْفُول قَدْ مَاتَ قَبْل الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ؛ لأَِنَّ النَّفْسَ الْمَضْمُونَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ فَالْغُرْمُ مَاضٍ.
أَمَّا ضَمَانُ الطَّلَبِ: فَلاَ يَلْتَزِمُ فِيهِ الْكَفِيل إِلاَّ بِطَلَبِ الْغَرِيمِ بِمَا يَقْوَى عَلَيْهِ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ صُدِّقَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، فَإِذَا نَكَل عَنِ الْيَمِينِ غَرِمَ.
وَكَذَلِكَ يَغْرَمُ إِذَا فَرَّطَ فِي الإِْتْيَانِ بِهِ، أَوْ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَوْضِعِهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ (1) .
__________
(1) الدسوقي والدردير 3 / 345 وما بعدها، والمواق 5 / 105 - 116.

(34/313)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل بِالْبَدَنِ يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِ الْغَرِيمِ وَتَسْلِيمِهِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ إِنْ كَانَ صَالِحًا، وَإِلاَّ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْكَفَالَةِ إِنْ صَلَحَ، وَقَيْدُ بَلَدِ التَّسْلِيمِ مُعْتَبَرٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمَكْفُول لَهُ أَنْ يَرْفُضَ التَّسْلِيمَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ عُيِّنَ مَكَانٌ مُحَدَّدٌ فِي الْبَلَدِ فَفِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ أَحْضَرَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِقَبُولِهِ فِيهِ، أَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي رَدِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ وَجَبَ قَبُولُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ أَحْضَرَ الْكَفِيل الْمَطْلُوبَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَتَسَلَّمَ عَنْهُ وَيَبْرَأَ.
وَيَبْرَأُ الْكَفِيل إِذَا سَلَّمَ الْغَرِيمَ فِي مَكَانِ التَّسْلِيمِ بِلاَ حَائِلٍ يَمْنَعُ الطَّالِبَ مِنْهُ، كَمُتَغَلِّبٍ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَبْرَأُ.
وَكَذَلِكَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُول نَفْسَهُ، مُظْهِرًا أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ بَرَاءَةً لِلْكَفِيل، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ حُضُورِهِ دُونَ إِظْهَارِ ذَلِكَ.
وَإِذَا غَابَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يُلْزَمِ الْكَفِيل بِإِحْضَارِهِ إِنْ جُهِل مَكَانُهُ لِقِيَامِ عُذْرِهِ، فَإِنْ عُلِمَ مَكَانُهُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَيُمْهَل مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالإِْيَابِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حُبِسَ مَا لَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ لأَِنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَقِيل: إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَسَافَةَ

(34/314)


قَصْرٍ لَمْ يُلْزَمْ إِحْضَارَهُ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَكْفُول أَوْ هَرَبَ أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهُ لَمْ يُطَالَبَ الْكَفِيل بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ يَغْرَمُ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ تَغْرِيمَ الْكَفِيل الْمَال عِنْدَ عَدَمِ إِحْضَارِ الْمَكْفُول بَطَلَتْ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إِذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً عَنِ الْمَكَانِ تَعَيَّنَ إِحْضَارُ الْمَكْفُول فِي مَحَل الْكَفَالَةِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ إِحْضَارُهُ فِيهِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُول نَفْسَهُ فِي زَمَانِ التَّسْلِيمِ وَمَكَانِهِ بَرِئَ الْكَفِيل بِذَلِكَ كَمَا يَبْرَأُ الْكَفِيل بِمَوْتِ الْمَكْفُول.
وَإِذَا غَابَ الْمَكْفُول، وَعَلِمَ الْكَفِيل بِمَكَانِهِ، أُمْهِل بِقَدْرِ مَا يَمْضِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ وَيُحْضِرُهُ، فَإِنْ مَضَى إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْضِرْهُ لِتَوَارِيهِ أَوْ هَرَبِهِ أَوِ امْتِنَاعِهِ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمَال، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ لَزِمَهُ مَا عَلَى الْمَكْفُول مِنَ الدَّيْنِ لِتَقْصِيرِهِ فِي تَقَصِّي حَالِهِ، فَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُتْلِفًا.
__________
(1) تحفة المحتاج 5 / 258 وما بعدها، وروضة الطالبين 4 / 253، وما بعدها، والشرقاوي على التحرير 2 / 119، والقليوبي وعميرة 2 / 327 - 328، ونهاية المحتاج 4 / 431 وما بعدها، والمهذب 1 / 351.

(34/314)


وَإِذَا ضَمِنَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَعْرِفَةَ إِنْسَانٍ، كَأَنْ جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى آخَرَ يَسْتَدِينُ مِنْهُ - مَثَلاً - فَقَال لَهُ: لاَ أَعْرِفُكَ فَلاَ أُعْطِيكَ، فَجَاءَ شَخْصٌ وَضَمِنَ لَهُ مَعْرِفَتَهُ، فَدَايَنَهُ، ثُمَّ غَابَ الْمُسْتَدِينُ أَوْ تَوَارَى، أَخَذَ الضَّامِنَ بِالدَّيْنِ، مَا لَمْ يُعَرِّفِ الدَّائِنَ بِالْمَدِينِ (1) .

ثَانِيًا: عَلاَقَةُ الْكَفِيل بِالْمَكْفُول عَنْهُ:
39 - إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّ الْكَفِيل يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ لِلدَّائِنِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

أ - مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، ثَبَتَ لِلْكَفِيل الْحَقُّ فِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَيَثْبُتَ لَهُ الْحَقُّ كَذَلِكَ فِي مُلاَزَمَتِهِ إِذَا لاَزَمَهُ الدَّائِنُ، وَالْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ إِذَا مَا طَالَبَ الدَّائِنَ بِحَبْسِ الْكَفِيل، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَحُقَّ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْل مَا يُعَامَل بِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 362 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 3 / 316 وما بعدها، والمغني والشرح الكبير 5 / 96 وما بعدها.

(34/315)


فَلَيْسَ لِلْكَفِيل الْحَقُّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْكَفَالَةِ وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ إِلْزَامِ غَيْرِهِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الْمَضْمُونِ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى الدَّائِنِ لِيَخْلَصَ مِنَ الضَّمَانِ، وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، سَوَاءٌ طَالَبَهُ الدَّائِنُ أَوْ لاَ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدِينَ بِتَسْلِيمِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ إِلَيْهِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الدَّائِنِ؛ لأَِنَّ الْمَدِينَ لاَ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ، لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الضَّمَانِ بِإِذْنِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَخْلِيصُهُ مِنْهُ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ طَالَبَهُ الدَّائِنُ، جَازَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ إِذَا غَرِمَ جَازَ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طُولِبَ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ الدَّائِنُ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ قَبْل أَنْ يَغْرَمَ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 11، والزيلعي والشلبي 4 / 156.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 340، ومنح الجليل 3 / 261 وما بعدها.

(34/315)


لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْل أَنْ يُطَالَبَ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَتِهِ بِتَخْلِيصِهِ، لأَِنَّهُ شَغَل ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ بِإِذْنِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا أَعَارَهُ عَيْنًا لِيَرْهَنَهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْتَعِيرَ بِتَخْلِيصِهَا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، فَطُولِبَ الضَّامِنُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِتَخْلِيصِهِ؛ لأَِنَّهُ لَزِمَهُ الأَْدَاءُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبَ الضَّامِنَ لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالدَّيْنِ قَبْل غَرَامَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْل طَلَبِهِ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ؛ لأَِنَّهُ شَغَل ذِمَّتَهُ بِإِذْنِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَرَهَنَهَا، كَانَ لِصَاحِبِهَا مُطَالَبَتُهُ بِفِكَاكِهَا وَتَفْرِيغِهَا مِنَ الرَّهْنِ (2) .

ب - رُجُوعُ الضَّامِنِ عَلَى الْمَدِينِ:
41 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الضَّامِنَ لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْمَدِينِ أَنْ يُسَلِّمَهُ مَا بِهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ قَبْل قِيَامِهِ بِأَدَائِهِ لِلدَّائِنِ (3) .
__________
(1) المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 331، والمهذب 1 / 342 - 343.
(2) كشاف القناع 3 / 359 - 360، والمغني والشرح الكبير 5 / 90 - 91.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 314، والدسوقي والدردير 3 / 336، والقليوبي وعميرة 2 / 331، والمغني والشرح الكبير 5 / 86.

(34/316)


وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى مَا عَلَى الْمَضْمُونِ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ عَنِ الْمَدِينِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الضَّامِنُ حَقَّ الدَّائِنِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَفِي حُكْمِ رُجُوعِهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ كَمَا يَلِي:

1 - شُرُوطُ الرُّجُوعِ:
42 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِرُجُوعِ الْكَفِيل عَلَى الْمَكْفُول عَنْهُ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَدِينُ صَبِيًّا مُمَيِّزًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِعَتَهٍ أَوْ سَفَهٍ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلْكَفِيل حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ بِالأَْمْرِ فِي حَقِّ الْمَكْفُول عَنْهُ اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَضَمَّنَ كَلاَمُ الْمَدِينِ مَا يَدُل عَلَى أَمْرِ الضَّامِنِ بِأَنْ يَقُومَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ، كَأَنْ يَقُول: اضْمَنْ عَنِّي، فَإِذَا قَال لَهُ: اضْمَنِ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّتِي لِفُلاَنٍ، دُونَ أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْكَفِيل حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ هَذَا الأَْمْرَ لاَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ إِقْرَاضٍ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ الأَْدَاءَ تَمَّ بِنَاءً عَلَى الأَْمْرِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي

(34/316)


الأَْدَاءِ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَدَاءِ الْكَفِيل إِبْرَاءُ ذِمَّةِ الْمَكْفُول؛ لأَِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى نِيَابَةِ الْكَفِيل عَنِ الْمَدِينِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَدَّى الْكَفِيل الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَدِينَ قَدْ قَامَ بِأَدَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا أَدَّى، وَإِنَّمَا يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى دَيْنَ الْمَضْمُونِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ أَمْ كَانَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْ صَغِيرٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى فِي مَال الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قَامَ بِوَفَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الأَْصِيل، فَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ فِي هَذِهِ السَّبِيل (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ إِنْ وُجِدَ إِذْنُهُ فِي الضَّمَانِ وَالأَْدَاءِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا، فَإِنْ أَذِنَ الأَْصِيل فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الأَْدَاءِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 314، وبدائع الصنائع 6 / 13، والشلبي على الزيلعي 4 / 153، وفتح القدير 6 / 304 - 305، والمبسوط 19 / 178.
(2) الخرشي 5 / 31، والدسوقي والدردير 3 / 337 وما بعدها، وبلغة السالك 2 / 158، وبداية المجتهد 2 / 294، والقوانين الفقهية ص 325.

(34/317)


رَجَعَ الْكَفِيل عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ حَصَل بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ أَذِنَ الأَْصِيل فِي الأَْدَاءِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الضَّمَانِ لاَ يَرْجِعُ الْكَفِيل عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَثْبُتُ لِلْكَفِيل حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الأَْصِيل؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ الْمَضْمُونَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَوْفَاهُ كَذَلِكَ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ قَال لَهُ: اضْمَنْ عَنِّي وَأَدِّ عَنِّي، أَوْ أَطْلَقَ الإِْذْنَ بِالضَّمَانِ وَالأَْدَاءِ فَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى بِدُونِ إِذْنِهِ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الضَّمَانِ يَتَضَمَّنُ الإِْذْنَ فِي الأَْدَاءِ عُرْفًا.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى الدَّيْنَ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 266، والشرقاوي على التحرير 2 / 122، والتحفة وحواشيها 5 / 273 - 275، والقليوبي وعميرة على المحلى 2 / 331، ومغني المحتاج 2 / 209، ونهاية المحتاج 4 / 446 وما بعدها

(34/317)


بِإِذْنِهِ، فَلَهُ كَذَلِكَ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ إِذْنَ الْمَدِينِ بِالأَْدَاءِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ الْكَفِيل عَنْهُ فِيهِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَدَّى بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لأَِنَّهُ أَدَاءٌ مُبْرِئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَقِيَامُ الإِْنْسَانِ بِقَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ يَسْتَلْزِمُ حَقَّ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى: لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لأَِنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ الْمَدِينِ، بَعْدَ ضَمَانِ دَيْنِهِ (1) تَدُل عَلَى أَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ لِلضَّامِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمُجَرَّدِ ضَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ مَا بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ (2) .

2 - كَيْفِيَّةُ الرُّجُوعِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول عَنْهُ بِمَا أَدَّى، إِذَا كَانَ مَا وَفَّاهُ مِثْل الدَّيْنِ وَمِنْ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الْكَفِيل - وَقَدْ أَمَرَ بِالضَّمَانِ وَقَامَ بِالْوَفَاءِ بِنَاءً عَلَيْهِ - يَتَمَلَّكُ الدَّيْنَ بِذَلِكَ الْوَفَاءِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِهِ حَل مَحَل الدَّائِنِ فِيهِ، وَإِذَا أَدَّى
__________
(1) حديث: " صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الميت المدين. . . " تقدم فقرة (6) .
(2) كشاف القناع 3 / 359، والمغني والشرح الكبير 5 / 86 وما بعدها.

(34/318)


أَقَل مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، تَجَنُّبًا لِلرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْقَدْرِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، أَوْ تَصَالَحَ مَعَ الدَّائِنِ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا ضَمِنَ - وَهُوَ الدَّيْنُ - لأَِنَّهُ تَمَلَّكَ الدَّيْنَ بِالأَْدَاءِ، فَيَرْجِعُ بِمَا تَمَّتِ الْكَفَالَةُ عَلَيْهِ، وَشُبْهَةُ الرِّبَا غَيْرُ وَارِدَةٍ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الضَّامِنَ - الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْل مَا أَدَّى إِذَا كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا، لأَِنَّ الضَّامِنَ كَالْمُسَلِّفِ، وَفِي السَّلَفِ يَرْجِعُ بِالْمِثْل حَتَّى فِي الْمُقَوَّمَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول بِالأَْقَل مِنَ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا أَدَّى، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّامِنُ قَدِ اشْتَرَى مَا أَدَّى بِهِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي شِرَائِهِ مُحَابَاةٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَإِذَا تَصَالَحَ الْحَمِيل وَالدَّائِنُ فَلاَ يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَدِينِ إِلاَّ بِالأَْقَل مِنَ الأَْمْرَيْنِ، الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا صَالَحَ بِهِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ - إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 314 - 315، وفتح القدير 6 / 304 - 306.
(2) الخرشي 5 / 31، والدسوقي والدردير 3 / 335 - 336.

(34/318)


غَرِمَ، لاَ بِمَا لَمْ يَغْرَمْ، فَيَرْجِعُ بِالدَّيْنِ إِنْ أَدَّاهُ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَدَّى إِنْ كَانَ أَقَل، وَيَرْجِعُ بِالأَْقَل مِمَّا أَدَّى وَمِنَ الدَّيْنِ إِنْ صَالَحَ عَنِ الدَّيْنِ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ رُجُوعُهُ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ حَصَل الْبَرَاءَةُ مِنْهُ بِمَا فَعَل، وَالْمُسَامَحَةُ جَرَتْ مَعَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَقَل الأَْمْرَيْنِ مِمَّا قَضَى أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الأَْقَل الدَّيْنَ فَالزَّائِدُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ أَقَل، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَإِنْ دَفَعَ عَنِ الدَّيْنِ عَرَضًا رَجَعَ بِأَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى الْمُؤَجَّل قَبْل أَجَلِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْل أَجَلِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ لِلْغَرِيمِ، فَإِنْ أَحَالَهُ كَانَتِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيضِهِ، وَيَرْجِعُ بِالأَْقَل مِمَّا أَحَال بِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْغَرِيمُ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ، أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِسْتِيفَاءُ لِفَلَسٍ أَوْ مَطْلٍ، لأَِنَّ نَفْسَ الْحَوَالَةِ كَالإِْقْبَاضِ (2) .

انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ:
44 - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ يَعْنِي بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْكَفِيل
__________
(1) تحفة المحتاج 5 / 275، والقليوبي وعميرة 1 / 331، ونهاية المحتاج 4 / 446 وما بعدها.
(2) المغني مع الشرح الكبير 5 / 89، وكشاف القناع 3 / 359.

(34/319)


مِمَّا الْتَزَمَ بِهِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ تَابِعَةً لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيل تَابِعٌ لاِلْتِزَامِ الأَْصِيل، وَإِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ التَّبَعُ، كَمَا تَكُونُ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ، فَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ وَيَبْقَى الْتِزَامُ الأَْصِيل، إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنَ انْتِهَاءِ الاِلْتِزَامِ التَّابِعِ انْتِهَاءُ الاِلْتِزَامِ الأَْصْلِيِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لاِنْتِهَاءِ الْكَفَالَةِ حَالَتَانِ: انْتِهَاؤُهَا تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الأَْصِيل، وَانْتِهَاؤُهَا بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ.

أ - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الأَْصِيل:
45 - تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِانْقِضَاءِ الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ، كَالأَْدَاءِ وَالإِْبْرَاءِ وَالْمُقَاصَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَيْنٌ ف 70 - 78) .
أَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الْعَيْنِ فَتَنْتَهِي بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَكْفُولَةِ.
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الْبَدَنِ فَتَنْتَهِي بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول بِبَدَنِهِ أَوْ مَوْتِهِ (1) .

ب - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ:
تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ بِمَا يَأْتِي:

1 - مُصَالَحَةُ الْكَفِيل الدَّائِنَ:
46 - إِذَا صَالَحَ الْكَفِيل الدَّائِنَ عَلَى بَعْضِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 294، وكشاف القناع 3 / 359.

(34/319)


الدَّيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ، انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ كُلِّهِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الأَْصِيل إِزَاءَ دَائِنِهِ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيل عَلَى الْمَدِينِ وَفْقًا لِلشُّرُوطِ وَلِلأَْحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا (ر: ف 39) .

2 - الإِْبْرَاءُ:
47 - إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْكَفِيل مِنَ الْتِزَامِهِ، فَإِنَّ هَذَا الإِْبْرَاءَ يُعَدُّ مِنْهُ تَنَازُلاً عَنِ الْكَفَالَةِ، وَتَنْتَهِي بِذَلِكَ. (ر: إِبْرَاءٌ ف 14) .

3 - إِلْغَاءُ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
48 - إِذَا بَطَل عَقْدُ الْكَفَالَةِ، أَوْ فُسِخَ، أَوِ اسْتَعْمَل الْمَكْفُول لَهُ حَقَّ الْخِيَارِ، أَوْ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْكَفَالَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْتَهِي بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيل، دُونَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الأَْصِيل نَحْوَ دَائِنِهِ (ر: ف 7) .

4 - مَوْتُ الْكَفِيل بِالْبَدَنِ:
49 - إِذَا مَاتَ الْكَفِيل فِي ضَمَانِ الْوَجْهِ أَوْ فِي ضَمَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْتَهِي؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ، وَلاَ التَّفْتِيشِ عَنْهُ أَوِ الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 4 وما بعدها، والتاج والإكليل 5 / 105 - 106، وتحفة المحتاج 5 / 258، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 96.

(34/320)


5 - تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَكْفُولَةِ:
50 - إِذَا سَلَّمَ الْكَفِيل الْعَيْنَ الْمَضْمُونَةَ بِنَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، أَوْ رَدَّ مِثْلَهَا أَوْ دَفَعَ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنَ الْتِزَامِهِ، وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِذَلِكَ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، وفتح القدير 6 / 289، والدسوقي 3 / 334، والمحلى على المنهاج 2 / 329، والمغني والشرح الكبير 5 / 75

(34/320)


كِفَايَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِفَايَةُ لُغَةً: مِنْ كَفَى يَكْفِي كِفَايَةً.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: مَا يَحْصُل بِهِ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُقَال: اكْتَفَيْتُ بِالشَّيْءِ: أَيِ اسْتَغْنَيْتُ بِهِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ بِالآْيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ (2) .
وَمِنْهَا: الْقِيَامُ بِالأَْمْرِ. فَيُقَال: اسْتَكْفَيْتُهُ أَمْرًا فَكَفَانِيهِ: أَيْ قَامَ بِهِ مَقَامِي، وَيُقَال: كَفَاهُ الأَْمْرَ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ فَهُوَ كَافٍ وَكَفِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (3) .
وَمِنْهَا: سَدُّ الْخُلَّةِ أَيِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغُ الأَْمْرِ
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (كفى) ، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص437، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4 / 193، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 4 / 368.
(2) حديث: " من قرأ بالآيتين من آخر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 55) ، ومسلم (1 / 555) من حديث أبي مسعود، واللفظ للبخاري.
(3) سورة الزمر / 36.

(35/5)


فِي الْمُرَادِ، فَيُقَال: كَفَاهُ مَئُونَتَهُ يَكْفِيه كِفَايَةً، وَمِنْهُ الْكَفِيَّةُ: وَهِيَ مَا يَكْفِي الإِْنْسَانَ مِنَ الْعَيْشِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ لِلْكِفَايَةِ عِدَّةُ اسْتِعْمَالاَتٍ مِنْهَا:
الْكِفَايَةُ بِمَعْنَى: الأَْفْعَال الْمُهِمَّةِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ وُجُودَهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصِ فَاعِلِهَا، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِ الأُْمَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تِلْكَ الأَْفْعَال فُرُوضُ الْكِفَايَاتِ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ.
وَبِمَعْنَى: أَهْلِيَّةُ الشَّخْصِ لِلْقِيَامِ بِالأَْفْعَال الْمُهِمَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الأُْمَّةِ، كَالْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ وَالْوَظَائِفِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَقْصُودِ الْوِلاَيَةِ وَوَسَائِل تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ.
وَبِمَعْنَى: سَدُّ الْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ لِلشَّخْصِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَال مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:
أ - الْكَفَافُ
2 - الْكَفَافُ لُغَةً مِنْ كَفَّ بِمَعْنَى: تَرَكَ،
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني 3 / 106، والأحكام السلطانية للماوردي ص22، والغياثي ص90، 91.

(35/5)


يُقَال: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا: تَرَكَهُ، وَيُقَال: كَفَفْتُهُ كَفًّا: مَنَعْتُهُ، وَيُقَال: قُوتُهُ كَفَافٌ: أَيْ مِقْدَارُ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَكُفُّ عَنْ سُؤَال النَّاسِ وَيُغْنِي عَنْهُمْ، وَيُقَال: اسْتَكَفَّ وَتَكَفَّفَ إِذَا أَخَذَ بِبَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ سَأَل كَفًّا مِنَ الطَّعَامِ، أَوْ مَا يَكُفُّ بِهِ الْجُوعَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَعَلَى ذَلِكَ عَرَّفَهُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: (مَا كَانَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلاَ يَفْضُل مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَكُفُّ عَنِ السُّؤَال (2)) .
وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْكَفَافِ فِي الإِْنْسَانِ عَنْ حَدِّ الْكِفَايَةِ، مِنْ أَنَّ حَدَّ الْكَفَافِ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ الْقُصْوَى مِنْ مَطْعَمٍ وَمَسْكَنٍ وَمَلْبَسٍ، أَمَّا حَدُّ الْكِفَايَةِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا لاَ بُدَّ لِلإِْنْسَانِ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، مِنْ نِكَاحٍ وَتَعْلِيمٍ وَعِلاَجٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَمَا يَتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَلاَبِسَ وَحُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ب - الْحَاجَةُ
3 - الْحَاجَةُ لُغَةً: الاِفْتِقَارُ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِضْطِرَارُ إِلَيْهِ، جَمْعُهَا حَاجَاتٌ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، والمصباح المنير للفيومي مادة (كفّ) .
(2) التعريفات للجرجاني ص237.

(35/6)


وَحَوَائِجُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَاجَةُ مَا يَفْتَقِرُ الإِْنْسَانُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَبْقَى بِدُونِهِ (2) .
وَعَرَّفَهَا عُلَمَاءُ الأُْصُول بِأَنَّهَا: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - فِي الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ التَّضَادُّ.

الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الأُْمَّةِ وَمَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ:
4 - نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى حَاجَاتِ الأُْمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَطَلَبَ مِنَ النَّاسِ الْقِيَامَ بِهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَهِيَ تُسَمَّى (الأَْمْرَ الْكِفَائِيَّ) ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل لِذَلِكَ.

أَقْسَامُ الأَْمْرِ الْكِفَائِيِّ
الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الأُْمَّةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ تُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالسُّنَنِ، وَلِذَلِكَ يَنْقَسِمُ الأَْمْرُ الْكِفَائِيُّ إِلَى: فَرْضِ كِفَايَةٍ، وَسُنَّةِ كِفَايَةٍ.

أ - فَرْضُ الْكِفَايَةِ:
5 - فَرْضُ الْكِفَايَةِ هُوَ: أَمْرٌ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ لاَ يَنْتَظِمُ الأَْمْرُ إِلاَّ
__________
(1) لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة مادة (حوج) .
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) الموافقات للشاطبي 2 / 10.

(35/6)


بِحُصُولِهَا، قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهَا مِنْ مَجْمُوعِ الْمُكَلَّفِينَ لاَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ (1) .
وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَلِفُ عَنْ (فَرْضِ الْعَيْنِ) ، وَهُوَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُل فَرْدٍ مِنَ الأَْفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ (2) ، مِثْل الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ لاَ يَسْقُطُ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَأَهَمُّ وُجُوهِ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَهُمَا
أ - أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ مَثَلاً، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَمُنَاجَاتُهُ وَالتَّذَلُّل إِلَيْهِ وَالْمُثُول بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّفَهُّمُ لِخِطَابِهِ وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِهِ، وَهَذِهِ مَصَالِحُ تَتَكَرَّرُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ الصَّلاَةُ فَتَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ.
أَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَلاَ تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَنُزُول الْبَحْرِ لإِِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ لاَ تَتَكَرَّرُ بِنُزُول كُل مُكَلَّفٍ، فَإِذَا أَنْقَذَ الْغَرِيقَ إِنْسَانٌ تَحَقَّقَتِ الْمَصْلَحَةُ بِنُزُولِهِ، وَالنَّازِل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْبَحْرِ لاَ تَحْصُل مِنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 123، الدر المنتقي بحاشية مجمع الأنهر للحلبي 1 / 632، وتهذيب الفروق 1 / 127، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 33، والبحر المحيط للزركشي 1 / 242، والأشباه والنظائر للسيوطي 410، وكشاف القناع للبهوتي 3 / 33.
(2) الإحكام للآمدي 1 / 76، وشرح البدخشي 1 / 45

(35/7)


مَصْلَحَةُ إِنْقَاذِ ذَلِكَ الْغَرِيقِ، فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى الْكِفَايَةِ نَفْيًا لِلْعَبَثِ فِي الأَْفْعَال (1) .
ب - فَرْضُ الْعَيْنِ يُقْصَدُ مِنْهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فِي حِينِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ حُصُول الْفِعْل دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْفَاعِل (2) .
ج - فَرْضُ الْعَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ مَصْلَحَةِ الْفَرْدِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ فِي مَجَال الأَْمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فِي حِينِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ مَصْلَحَةِ الْمُجْتَمَعِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ (3) .
د - فَرْضُ الْعَيْنِ يُطَالَبُ بِهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، وَلاَ يَسْقُطُ الإِْثْمُ عَنِ التَّارِكِينَ لَهُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ، لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى التَّارِكِينَ لَهُ، فِي حِينِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ عَنِ التَّارِكِينَ لَهُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَكَانَ كَافِيًا (4) .

ب - سُنَّةُ الْكِفَايَةِ:
6 - سُنَّةُ الْكِفَايَةِ مِثْل ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ مِنْ جَمَاعَةٍ وَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنْ سُنَّةِ الْعَيْنِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصِيَامِ الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَالطَّوَافِ فِي غَيْرِ النُّسُكِ (5) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 166، والأشباه والنظائر للسبكي 2 / 89.
(2) البحر المحيط للزركشي 1 / 242.
(3) الدر المنتقي على هامش مجمع الأنهر 1 / 632.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 538، 4 / 123، وكشاف القناع 3 / 33.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 538، والبحر المحيط 1 / 243، والفروق للقرافي 1 / 177، ومغني المحتاج 4 / 214، ونهاية المحتاج 8 / 53.

(35/7)


الْمَصَالِحُ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ
مِنْ مَصَالِحِ الأُْمَّةِ مَا يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ وَهُوَ أَقْسَامٌ

أَوَّلاً: الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ
7 - مِنْهَا الاِشْتِغَال بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ كَطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَصْنِيفِ كُتُبِهِ، وَحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَحِفْظِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ وَحَل الْمُشْكِلاَتِ وَالاِجْتِهَادِ فِي الْقَضَايَا الْمُسْتَجَدَّةِ.
وَمِنْهَا إِقَامَةُ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ كَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالأَْذَانِ وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، وَصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ وَالاِعْتِكَافِ وَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلاَةِ وَالطَّوَافِ وَالأُْضْحِيَةِ.
وَمِنْهَا الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَإِفْشَاءُ السِّلاَمِ وَرَدُّهُ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.

ثَانِيًا: الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ
8 - مِنْهَا الاِشْتِغَال بِالْعُلُومِ الْحَيَاتِيَّةِ وَتَعَلُّمُ أُصُول الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ كَالصَّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ.

(35/8)


ثَالِثًا: الْمَصَالِحُ الْمُشْتَرَكَةُ
9 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ تُوجَدُ مَصَالِحُ مُشْتَرَكَةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ طَلَبَ الشَّرْعُ مِنَ الأُْمَّةِ فِعْلَهَا.
مِنْهَا تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا، وَالْتِقَاطُ اللَّقِيطِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَغُسْل الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، وَالْقِيَامُ بِالْوِلاَيَاتِ وَالْوَظَائِفِ، وَبَيَانُهَا كَالتَّالِي:

أ - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا
10 - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ: هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يُشْهَدُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا كَانَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً، فَلَوِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ عَنِ التَّحَمُّل أَثِمُوا جَمِيعًا، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ التَّحَمُّل فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، لأَِنَّ التَّحَمُّل يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ وَيُخْشَى ضَيَاعُ الْحُقُوقِ (1) ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (2) ، فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآْيَةُ الأَْمْرَيْنِ: التَّحَمُّل وَالأَْدَاءَ.
__________
(1) الهداية 3 / 16، ومجمع الأنهر 2 / 115، 186، والشرح الصغير 4 / 284، والقوانين الفقهية 339، وأسهل المدارك 3 / 212، والمهذب 2 / 324، وأدب القضاء لابن أبي الدم 322، والأشباه للسيوطي 414، والإنصاف 12 / 3، والكافي لابن قدامة 3 / 515.
(2) سورة البقرة / 282.

(35/8)


وَأَمَّا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُتَحَمِّل إِذَا طَلَبَهَا الْمُدَّعِي فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُونَ جَمَاعَةً، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَثِمُوا جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّل وَاحِدًا تَعَيَّنَ الأَْدَاءُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَدَلِيل الْفَرْضِيَّةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (شَهَادَةٌ ف 5) .

ب - الْتِقَاطُ اللَّقِيطِ
11 - اللَّقِيطُ: هُوَ الطِّفْل الْمَنْبُوذُ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ فِي الشَّرْعِ الإِْسْلاَمِيِّ تَسْتَحِقُّ الْحِفْظَ وَالرِّعَايَةَ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْتِقَاطَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْوَاجِدُونَ لَهُ جَمَاعَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاجِدُ فَرْدًا وَاحِدًا وَخَافَ عَلَيْهِ الْهَلاَكَ إِنْ تَرَكَهُ صَارَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلاَ يَحِل لَهُ تَرْكُهُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (لَقِيطٌ) .

ج - عِيَادَةُ الْمَرِيضِ:
12 - الْمَرِيضُ: هُوَ الَّذِي أُصِيبَ بِمَرَضٍ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) الدر المنتقى مع مجمع الأنهر 1 / 710، والهداية 2 / 173، والشرح الصغير 4 / 178، والقوانين الفقهية 372، والمهذب 1 / 441، والمنثور 3 / 73، والأشباه للسيوطي 413، والكافي لابن قدامة 2 / 363.

(35/9)


يُضْعِفُ جِسْمَهُ وَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُوَاسِيهِ وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ وَيَقُومُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَتَمْرِيضِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ لِحَدِيثِ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيل: وَمَا هِيَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ الْبُخَارِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْعِيَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَْعْيَانِ، لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقَال بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَصَوَّبَهُ (2) .
__________
(1) حديث: " حق المسلم على المسلم ست. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1705) .
(2) الهداية 3 / 103، والشرح الصغير 4 / 763، ومغني المحتاج 1 / 329، والمغني 2 / 449، والإنصاف 2 / 461، والآداب الشرعية 3 / 554، وصحيح البخاري 7 / 3 باب وجوب عيادة المريض.

(35/9)


وَالتَّفْصِيل فِي (عِيَادَةٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - غُسْل الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَتَشْيِيعُهُ وَدَفْنُهُ:
13 - غُسْل الْمَيِّتِ غَيْرِ الشَّهِيدِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ فَمَاتَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 2) .
وَأَمَّا تَكْفِينُ الْمَيِّتِ غَيْرِ الشَّهِيدِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (تَكْفِينٌ ف 2، 3) .
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 182، والقوانين الفقهية 108، والشرح الصغير 1 / 543، 2 / 273، وأسهل المدارك 1 / 351، والمهذب 1 / 134، والمنثور 3 / 37، والأذكار للنووي 141، ورحمة الأمة 64، والإفصاح 1 / 182، الإنصاف 2 / 470، والفتاوى لابن تيمية 28 / 80.
(2) حديث: " اغسلوه بماء وسدر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 137) ، ومسلم (2 / 866) من حديث ابن عباس.
(3) المراجع السابقة.
(4) حديث: " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين. . . ". # أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 137) ، ومسلم (2 / 866) من حديث ابن عباس، واللفظ للبخاري.

(35/10)


وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جَنَائِزُ ف 20) .
وَأَمَّا تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) ، لِحَدِيثِ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ. . . وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جَنَائِزُ ف 14) .
وَأَمَّا دَفْنُ الْمَيِّتِ فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (5) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (6) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دَفْنٌ ف 2) .
__________
(1) مجمع الأنهر والدر المنتقى 1 / 182، والشرح الصغير 1 / 543، 2 / 273، والمنثور 3 / 37، والمهذب 1 / 139، والأذكار 141، والأشباه للسيوطي 411، ورحمة الأمة 64، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 182، والإنصاف 2 / 472، والفتاوى لابن تيمية 28 / 80.
(2) حديث: " صلوا على من قال: لا إله إلا الله ". أخرجه الدارقطني (2 / 56) من حديث ابن عمر، وذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 35) أن في إسناده راويًا اتهم بالكذب.
(3) الهداية 3 / 103، والفواكه الدواني 1 / 339، والأشباه للسيوطي 411، والآداب الشرعية 3 / 554.
(4) حديث: " حق المسلم على المسلم ست. . . وإذا مات فاتبعه ". سبق تخريجه ف (12) .
(5) مجمع الأنهر 1 / 182، والمقدمات لابن رشد 1 / 176، والأشباه للسيوطي 411، والإنصاف 2 / 470، والفتاوى لابن تيمية 28 / 80.
(6) سورة عبس / 21.

(35/10)


الْكِفَايَةُ فِي الْوِلاَيَاتِ وَالْوَظَائِفِ
14 - الْوِلاَيَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلإِْنْسَانِ لِتَنْظِيمِ مَا يَنْشَأُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ تَعَاوُنٍ، وَمَنْعِ التَّظَالُمِ، وَحِفْظِ الْحُقُوقِ لأَِصْحَابِهَا، وَإِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَحِمَايَتِهِ، وَوَقْفِ الْمُعْتَدِي عَنْ عُدْوَانِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ نَصْبَ الإِْمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ تَنْصِيبُ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا (1) ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (3) .

الْمُكَلَّفُ بِتَحْقِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى
15 - إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الإِْمَامَةَ الْعُظْمَى فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ حُرِّجَ النَّاسُ جَمِيعًا، وَيُطَالَبُ بِهَا فَرِيقَانِ مِنَ النَّاسِ هُمَا:
__________
(1) البدائع 7 / 2، والشرح الصغير 2 / 273، والأحكام السلطانية للماوردي 5، والأشباه للسيوطي 414، والأحكام السلطانية للفراء 19، والآداب الشرعية 3 / 554.
(2) سورة النساء / 59.
(3) حديث: " إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ". أخرجه أبو داود (3 / 81) من حديث أبي هريرة.

(35/11)


أ - أَهْل الاِخْتِيَارِ، أَوْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَنُوبُونَ عَنِ الأُْمَّةِ فِي اخْتِيَارِ الْخَلِيفَةِ.
ب - أَهْل الإِْمَامَةِ: وَهُمُ الَّذِينَ تَوَافَرَتْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الإِْمَامَةِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْوِلاَيَاتِ الأُْخْرَى وَالْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (إِمَارَةٌ ف 4، وَإِمَامَةُ الصَّلاَةِ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَالإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 6 وَمَا بَعْدَهَا، وَقَضَاءٌ، وَفَتْوَى) .

الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الأَْفْرَادِ الْخَاصَّةِ:
16 - تَكُونُ كِفَايَةُ الإِْنْسَانِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ، وَهِيَ مَا يَدْفَعُ عَنِ الإِْنْسَانِ الْهَلاَكَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَال مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ (2) .
وَتَوْفِيرُ حَدِّ الْكِفَايَةِ لِلأَْفْرَادِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَذَلِكَ عَلَى الْفَرْدِ نَفْسِهِ أَوَّلاً ثُمَّ عَلَى أَقَارِبِهِ ثُمَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَتَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا قِوَامُ الْعَيْشِ وَسَدَادُ الْخُلَّةِ مُعْتَبَرٌ فِي كُل إِنْسَانٍ بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 5، 6، والأحكام السلطانية للفراء 19، 20.
(2) ابن عابدين 2 / 262، وتبيين الحقائق 1 / 253، والزرقاني على خليل 2 / 174، والمغني لابن قدامة 3 / 222، ومغني المحتاج 3 / 106.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 377، وفتاوى الشاطبي 186، وحاشية القليوبي 4 / 215، وكشاف القناع 2 / 273.

(35/11)


أ - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ مِنْ قِبَل الْفَرْدِ نَفْسِهِ:
17 - بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الإِْنْسَانَ جُبِل عَلَى الاِهْتِمَامِ بِنَفْسِهِ وَتَوْفِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ بَيَّنَتْ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَحُدُودَهَا عَلَى النَّفْسِ فَقَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا (2) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا (3) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ أَوِ الْقَادِرَ عَلَى الْعَمَل يُكَلَّفُ بِالْقِيَامِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ بِنَفْسِهِ وَلاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ (4) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ (5) .

ب - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ مِنْ قِبَل الأَْقَارِبِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ الْوَاجِبَةَ عَلَى قَرِيبِهِ هِيَ نَفَقَةُ كِفَايَةٍ بِحَسَبِ
__________
(1) سورة الفرقان / 67.
(2) حديث: " ابدأ بنفسك فتصدق عليها ". أخرجه مسلم (2 / 693) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " إن لنفسك عليك حقا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 209) من حديث أبي جحيفة.
(4) ابن عابدين 2 / 59، 64، والمجموع 6 / 135، 191، حاشية الدسوقي 1 / 454، 494، والمغني 2 / 661، 6 / 423.
(5) حديث: " لا تحل الصدقة لغني ولا. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 42) من حديث عبد الله بن عمرو قال: حديث حسن.

(35/12)


حَاجَتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) ، فَيَجِبُ لَهُ بِذَلِكَ الْمَأْكَل وَالْمَشْرَبُ وَالْمَلْبَسُ وَالسُّكْنَى وَالرَّضَاعُ إِنْ كَانَ رَضِيعًا وَالْخَادِمُ إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَةٍ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٌ) .

ج - تَوْفِيرُ كِفَايَةِ الزَّوْجَةِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ (3) وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فِي مِقْدَارِهَا لِقَوْلِهِ لِهِنْدَ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُوسِرِ لِزَوْجَتِهِ مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ وَاحِدٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ وَجَبَ اللاَّئِقُ بِالزَّوْجِ،
__________
(1) حديث: " خذي من ماله ما يكفيك وولدك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 405) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع 4 / 38، وفتح القدير 3 / 346، وحاشية الدسوقي 2 / 509، ونهاية المحتاج 7 / 210، وكشاف القناع 5 / 482 - 483، والمغني 7 / 595.
(3) مجمع الأنهر 1 / 490، وقوانين الأحكام ص 245، والمهذب 2 / 160، والمغني لابن قدامة 7 / 564.
(4) الحديث سبق تخريجه فقرة 18.

(35/12)


وَيَجِبُ أُدْمُ غَالِبِ الْبَلَدِ وَكِسْوَةٌ تَكْفِيهَا، وَمَا تَقْعُدُ عَلَيْهِ أَوْ تَنَامُ عَلَيْهِ، وَإِخْدَامُهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا، وَيَجِبُ مَسْكَنٌ يَلِيقُ بِهَا، وَيَجِبُ فِي الْمَسْكَنِ إِمْتَاعٌ لاَ تَمْلِيكٌ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَفَقَةٌ) .

طُرُقُ تَوْفِيرِ الْكِفَايَةِ:
تَتَعَدَّدُ طُرُقُ تَوْفِيرِ الْكِفَايَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ الزَّكَاةِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى أَقَل مِنَ النِّصَابِ، فَإِذَا أُعْطِيَ نِصَابًا جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال زُفَرُ: لاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ نِصَابًا، لأَِنَّ الْغِنَى قَارَنَ الأَْدَاءَ فَكَأَنَّ الأَْدَاءَ حَصَل لِلْغِنَى وَهُوَ لاَ يَجُوزُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَ الْعِيَال بِحَيْثُ لَوْ فُرِّقَ عَلَيْهِمْ لاَ يَخُصُّ كُلًّا مِنْهُمْ نِصَابًا وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، لأَِنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُل سَنَةٍ فَيَحْصُل كِفَايَتُهُ مِنْهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 426، وما بعدها.
(2) تبيين الحقائق 1 / 35، والهداية 2 / 28، ومجمع الأنهر 1 / 235، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 138، وابن عابدين 2 / 68.

(35/13)


سَنَةً بِسَنَةٍ (1) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْبِسُ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى كِفَايَةَ الْعُمْرِ الْغَالِبِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ مِنَ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مَرَّةً أُخْرَى (3) .

ب - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ بَيْتِ الْمَال:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لاَ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ كِفَايَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا كَفُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ يُصْرَفُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَال (4) .

ج - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ تَوْظِيفِ الضَّرَائِبِ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ فَرْضَ ضَرَائِبَ عَلَى الْقَادِرِينَ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَلِسَدِّ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 494، ومواهب الجليل 2 / 348، والمجموع 6 / 140، وكشاف القناع 2 / 272، والمبدع 2 / 426.
(2) حديث: " كان يحبس لأهله قوت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 502) ، ومسلم (3 / 1379) من حديث ابن عمر.
(3) المجموع 6 / 139، والأحكام السلطانية 205، والإنصاف 3 / 238، والأموال لأبي عبيد 750.
(4) بدائع الصنائع 2 / 68، 89، والشهب اللامعة لابن رضوان 372، والأحكام السلطانية للماوردي 140، والأحكام السلطانية للفراء 138.

(35/13)


قَال القرطبي: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَال إِلَيْهَا (1) .
__________
(1) القرطبي 2 / 242، وابن عابدين 2 / 57.

(35/14)


كُفْر

التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَال: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْل الْبَابِ.
وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الإِْيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} (1) ، وَيُقَال: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّل، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَل الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.
وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) سورة إبراهيم / 22.
(2) المنثور في القواعد 3 / 84.

(35/14)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّدَّةُ:
2 - الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (1) .
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلاَفِ الرِّدَّةِ.

ب - الإِْشْرَاكُ:
3 - الإِْشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَال: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَل لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ. وَالاِسْمُ: الشِّرْكُ (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الإِْشْرَاكَ بِمَعْنَى الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى (3) .
وَالإِْشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لأَِنَّهُ يَشْمَل الإِْشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَيَشْمَل الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.

ج - الإِْلْحَادُ:
4 - الإِْلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل وَالْعُدُول عَنِ الشَّيْءِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
__________
(1) لسان العرب، والصحاح والخرشي 8 / 62، والقليوبي 4 / 174.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) حاشية الجمل 3 / 177، 179، 4 / 199، والفواكه الدواني 1 / 91.
(4) المصباح المنير.

(35/15)


الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْل عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.
وَمِنَ الإِْلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ التَّأْوِيل فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لإِِجْرَاءِ الأَْهْوَاءِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِْلْحَادِ:
أَنَّ الإِْلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (3) ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (4) .

جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ وَالدُّنْيَا:
6 - جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (5) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 296.
(2) المستصفى 1 / 99، والزواجر لابن حجر 1 / 24، والفواكه الدواني 1 / 91.
(3) سورة لقمان / 13.
(4) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) ، ومسلم (1 / 91) من حديث أبي بكرة
(5) سورة التغابن / 10.

(35/15)


وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:
فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْل الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لأَِنَّ كُل مَنْ يُقَاتِل يَجُوزُ قَتْلُهُ.
(ر: أَهْل الْحَرْبِ ف 11)
وَلاَ يَجُوزُ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ قَتْل الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لاَ يُقَاتِل لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَل لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لاَ يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُقْتَل الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (1) .
(ر: جِهَادٌ ف 29) .
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْل الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ) .

الإِْكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:
7 - مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ
__________
(1) المغني 8 / 479.

(35/16)


مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
وَوَرَدَ أَنَّ عَمَّارًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَال لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلاَلاً فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: أَحَدٌ أَحَدٌ (3) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (4) ، وَلأَِنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْقْرَارِ (5) .
وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ
__________
(1) سورة النحل / 106.
(2) حديث: " أن عمارًا أخذه المشركون. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 357) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " تعذيب بلال وقوله: أحد أحد. . . ". أخرجه البيهقي في السنن (8 / 209) .
(4) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) ، والحاكم (2 / 198) واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(5) المغني 8 / 145 - 146، والبدائع 7 / 176 - 177، والدردير مع الدسوقي 2 / 369، والشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 247، وأسنى المطالب 4 / 9.

(35/16)


لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا (1) ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:
إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَوْ سَبَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ (2) .
وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لاَ يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَل وَقَال: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلاَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً.
وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لأَِنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَل مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لاَ قَضَاءً وَلاَ دِيَانَةً، لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ
__________
(1) البدائع 7 / 176.
(2) تكملة فتح القدير والهداية 8 / 174 نشر دار إحياء التراث، وأشباه ابن نجيم ص 282.

(35/17)


يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ (1) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْل وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لاَ فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لأَِنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لاَ يَحْتَمِل الإِْبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الإِْكْرَاهِ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْقَتْل فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَل جَازَ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْل كَالضَّرْبِ وَقَتْل الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَال وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلاَ يَجُوزُ مَعَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالإِْكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 83 - 84، وتكملة فتح القدير 8 / 174 - 176.
(2) بدائع الصنائع 7 / 176 - 177، وتكملة فتح القدير 8 / 175.
(3) سورة النحل / 106.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 369.

(35/17)


وَقَال الأَْذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال عَلَى بَعْضِ الأَْشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} ، ثُمَّ قَال: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الإِْكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَال نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ (2) .
وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لإِِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَال عَنْهُ الإِْكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلاَمِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلاَمِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لأَِنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ (3) .
8 - وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ
__________
(1) أسنى المطالب مع هامشه حاشية الرملي 4 / 9.
(2) المغني 8 / 145، 146.
(3) المغني 8 / 146.

(35/18)


عَلَى الإِْيمَانِ مَعَ الإِْكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْل أَفَضْل مِنَ الإِْقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِل كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُل فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَْرْضِ فَيُجْعَل فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الأَْفْضَل الإِْتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ (2) .
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الإِْنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالأَْفْضَل أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ.

أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:
9 - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ
صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلاً، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ
__________
(1) حديث: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 315 - 316) من حديث خباب بن الأرت.
(2) الشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 247، وحاشية الجمل 5 / 9.

(35/18)


تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (1) .

مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
10 - الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.
فَالأَْوَّل: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ (2) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رِدَّةٌ ف 10 - 21) .

مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:
11 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: حُصُول الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
__________
(1) البدائع 7 / 102 - 103، وينظر المغني 8 / 362، والشبراملسي بهامش نهاية المحتاج 2 / 421.
(2) الفروق للقرافي 1 / 123 - 124، وتهذيب الفروق بهامشه 1 / 136 - 137.

(35/19)


التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُول الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلاً (1) .
أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ - كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ - مَذَاهِبُ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الإِْيمَانِ بِالْمُرْسَل كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلاَةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (2) ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3) .
فَالآْيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْل وَالزِّنَا، لاَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 1 / 397 - 398.
(2) سورة المدثر / 42 - 43.
(3) سورة الفرقان / 68 - 69.

(35/19)


الْكُفْرِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ.
وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَال، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْل الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإِْسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الإِْبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ خِلاَفَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالإِْيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ كَذَلِكَ.
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 91، 92، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 128، والبحر المحيط 1 / 398، 399، والحطاب 2 / 413، وحاشية الجمل 2 / 285، وكشاف القناع 1 / 223، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 3 / 231.

(35/20)


أَمَّا فِي حَقِّ الأَْدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلاَفِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لاَ تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلاَ مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لاَ يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ (1) ؟ .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الأَْوَامِرِ، لأَِنَّ الاِنْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الأَْوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الأَْوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْل التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْل بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالأَْوَامِرِ.
وَنَقَل ذَلِكَ الْقَوْل صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقِيل: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالأَْوَامِرِ فَقَطْ.
وَقِيل: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ.
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 91، 92، وفواتح الرحموت 1 / 128، والبحر المحيط 1 / 399، 400، وحاشية ابن عابدين 2 / 4، والحطاب 2 / 413، والفواكه الدواني 1 / 407، والفروق للقرافي 3 / 207، وتهذيب الفروق 3 / 231 - 232.

(35/20)


وَقِيل: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.
وَقِيل: بِالتَّوَقُّفِ (1) .

وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ
12 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الإِْسْلاَمِ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، وَلاَ يُقَاتَلُونَ قَبْل الدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ لأَِنَّ قِتَال الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَال بَل لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَال وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَال لأَِنَّ فِي الْقِتَال مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِل حُصُول الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الاِفْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ " رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِل الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ " (3) .
ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَال لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) البحر المحيط 1 / 401، وفواتح الرحموت 1 / 128، وتهذيب الفروق 3 / 231 - 232.
(2) سورة النحل / 125.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام ". ورد ضمن حديث بريدة أنه كان إذا أمر أميرًا أمره بذلك، أخرجه مسلم (3 / 1357) .

(35/21)


أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (1) ، فَإِنْ أَبَوُا الإِْجَابَةَ إِلَى الإِْسْلاَمِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ (2) وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25 - 30، وَجِهَادٌ ف 24) .

مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ
13 - قَال الْقَرَافِيُّ: أَحْوَال الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الإِْجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلاَ يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلاَ الْغَصْبُ وَلاَ النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لأَِنَّهُ عَقَدَ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". سبق تخريجه ف 6.
(2) حديث: " فإن هم أبوا فسلهم الجزية. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1357) .
(3) بدائع الصنائع 7 / 100، والمغني 8 / 361، 362، والمواق بهامش الحطاب 3 / 350.

(35/21)


الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَلْزَمُهُ - وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا - مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لاَ ظِهَارٌ وَلاَ نَذْرٌ وَلاَ يَمِينٌ مِنَ الأَْيْمَانِ وَلاَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلاَ الزَّكَوَاتِ وَلاَ شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ (1) .
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَال كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ لِرِضَاهُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْل وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِنَّمَا دَخَل عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لأَِنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الإِْسْلاَمِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإِْسْلاَمَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا
__________
(1) حديث: " الإسلام يهدم ما كان قبله. . . ". أخرجه مسلم (1 / 112) من حديث عمرو بن العاص.

(35/22)


كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِحُصُول الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الآْدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الآْدَمِيِّينَ وَالإِْسْلاَمُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَل لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لاَ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيل حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ (1) .

مُعَامَلَةُ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
14 - أَمَرَ الإِْسْلاَمُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3) .

نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 184 - 185، وينظر المنثور في القواعد للزركشي 3 / 100، والبحر المحيط 1 / 409، وأسنى المطالب 4 / 209.

(35/22)


لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالآْدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا (1) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (3) ، نَجَاسَةَ الأَْبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ (4) .

مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَل، لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَال بِالْغُسْل، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لاَ فِي يَدِهِ (5) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِل حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ (6) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 148، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 50، ونهاية المحتاج 1 / 221، وكشاف القناع 1 / 193.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) سورة التوبة / 28.
(4) حديث: " ربط النبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد وهو ثمامة بن أثال " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 555) ، ومسلم (3 / 1386) من حديث أبي هريرة
(5) بدائع الصنائع 1 / 37، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 119.
(6) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 126.

(35/23)


دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2) .
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى} (3) ، إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
أَمَّا الْمَسَاجِدُ الأُْخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الأَْشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَال: قُل لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَال: إِنَّهُ لاَ يَدْخُل الْمَسْجِدَ، فَقَال: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَال: لاَ، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَال: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.
فَإِنْ دَخَل مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَل
__________
(1) المهذب 2 / 259، والمغني 8 / 531، والدسوقي 1 / 139، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 248.
(2) سورة التوبة / 28.
(3) سورة الإسراء / 1.

(35/23)


فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.
وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلإِْمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (2) ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُول، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.
وَإِذَا دَخَل الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَل فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُل مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ (4) .
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ.
__________
(1) المهذب 2 / 259، والمغني 8 / 532.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة في مسجد المدينة. أورده الشيرازي في المهذب (2 / 259) ، ولم نهتد إلى من أخرجه من المصادر الحديثية
(3) حديث: " ربط ثمامة بن أثال في المسجد ". تقدم في ف 15.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 139.

(35/24)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ (1) ، وَلأَِنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلاَءً وَاسْتِعْلاَءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُول (2) .

تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:
18 - قَال الإِْسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ - أَيِ الْمُحْتَضِرُ - كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا (3) ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَال لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَال لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ (4) .
وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ
__________
(1) حديث: " إنزال وفد ثقيف في مسجده صلى الله عليه وسلم ". ذكره ابن إسحاق في سيرته كما في السيرة النبوية لابن هشام (4 / 184) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 148، 5 / 248.
(3) حاشية الجمل 2 / 136.
(4) حديث: " كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 219) .

(35/24)


وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلاَمُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.
قَال الْجَمَل: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلاَ بُعْدَ فِيهِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلاَفُهُ وَإِنْ كُنَّا لاَ نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ (1) .

وِلاَيَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلاَيَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ
19 - لاَ يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (2) ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلاَيَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلاَيَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (3) . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلاَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5) ، وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 136.
(2) سورة النساء / 141.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 312، والمهذب 2 / 37، والمغني 6 / 472.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 312، والمهذب 2 / 37، والمغني 6 / 472، والدسوقي 2 / 221، والخرشي 3 / 181 - 182.
(5) سورة التوبة / 71.

(35/25)


: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) .
ب - الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22) .

أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:
20 - أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَال، وَلاَ يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَال مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلاَ رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُول
__________
(1) سورة الأنفال / 73.
(2) بدائع الصنائع 7 / 3، والدسوقي 4 / 129، والمهذب 2 / 291، وكشاف القناع 6 / 295، والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.

(35/25)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلاَ كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَال فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لَمْ يُقَرَّ (1) .
وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لأَِمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْلاَنَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الآْخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الآْخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلاَمٌ ف 5) .

نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:
21 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لاَ كِتَابَ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 310، والدسوقي 2 / 267، 269، والمهذب 2 / 53، والمغني 6 / 613.
(2) المهذب 2 / 53، والمغني 6 / 620، والبدائع 2 / 314، والدسوقي 2 / 271 - 272. وحديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان. . . ". أخرجه البيهقي (7 / 183) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 169) : رجال إسناده ثقات

(35/26)


لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لاَ يَحْصُل السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ (3) .
50

22 - وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْل الْمَدَائِنِ (5) . وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلاَمِهَا،
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) البدائع 2 / 270، والدسوقي 2 / 267، والمهذب 2 / 45، والمغني 6 / 592.
(3) بدائع الصنائع 2 / 270.
(4) سورة المائدة / 5.
(5) بدائع الصنائع 2 / 270، والدسوقي 2 / 267، والمهذب 2 / 45، والمغني 6 / 589.

(35/26)


لأَِنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيل إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْل دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلأَِنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْل الْحَرْبِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.
وَقَدْ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَال: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَال: هِيَ خَمْرَةٌ (2) طَلِّقْهَا، قَال: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَال: هِيَ خَمْرَةٌ، قَال: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلاَلٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيل لَهُ: أَلاَ طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَال: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لاَ يَنْبَغِي لِي (3) .
وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لأَِنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلاَ مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 270.
(2) وفي بعض النسخ " جمرة ".
(3) المهذب 2 / 45، والمغني 6 / 590، والدسوقي 2 / 267.

(35/27)


فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ (1) .

23 - وَلاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) ، وَلأَِنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَال فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الأَْفْعَال وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الآْيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (3) ، لأَِنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لأَِنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ (4) .

24 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْل الْكِتَابِ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 267.
(2) سورة البقرة / 221.
(3) سورة البقرة / 221.
(4) بدائع الصنائع 2 / 271 - 272.

(35/27)


كِتَابِيًّا وَالآْخَرُ وَثَنِيًّا.
وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ،. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ) .

وَصِيَّةُ الْكَافِرِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
25 - إِسْلاَمُ الْمُوصِي لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ بِالْمَال لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لأَِنَّ الْكُفْرَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ، وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ.
وَكَمَا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .

الإِْجَارَةُ وَالاِسْتِئْجَارُ مِنَ الْكَافِرِ:
26 - قَال الْكَاسَانِيُّ: إِسْلاَمُ الْعَاقِدِ فِي الإِْجَارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلاً، فَتَجُوزُ الإِْجَارَةُ وَالاِسْتِئْجَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لأَِنَّ هَذَا مِنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 98) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 176.

(35/28)


27 - أَمَّا اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَقِصَارَتِهِ جَازَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ " (1) .
أَمَّا إِجَارَتُهُ لِخِدْمَتِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلاَلَهُ لَهُ وَاسْتِخْدَامَهُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 104) .

الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
: 28 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَصَرَّفَ الْكَافِرُ إِلاَّ بِحُضُورِ شَرِيكِهِ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ ارْتِكَابَهُ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ يُؤْمَنُ حِينَئِذٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْجَوَازِ أَيْضًا لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الْكَافِرَ لاَ يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: لاَ تَجُوزُ
__________
(1) حديث: " أن عليًا أجر نفسه من يهودي. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 53) .
(2) المغني 5 / 554.

(35/28)


الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لأَِنَّ الْكَافِرَ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ. وَالتَّفْصِيل فِي (شَرِكَةٌ ف 41) .

الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَفَّارِ فِي الْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ (1) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَل بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بَحْرَةُ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْتُ لأَِتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُل فَقَال لَهُ كَمَا قَال لَهُ أَوَّل مَرَّةٍ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَال أَوَّل مَرَّةٍ: قَال: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَال: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَال لَهُ كَمَا قَال أَوَّل مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَال: نَعَمْ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْطَلِقْ (2) .
__________
(1) المغني 8 / 414 - 415، والمهذب 2 / 231، وحاشية ابن عابدين 3 / 235، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 178.
(2) حديث عائشة: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1449 - 1450) .

(35/29)


وَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (اسْتِعَانَةٌ ف 5، أَهْل الْكِتَابِ ف 11، جِهَادٌ ف 26) .

الْوَقْفُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَهُ:
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ.
كَمَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 361، حاشية الدسوقي 4 / 78، المهذب 1 / 448 وشرح منتهى الإرادات 2 / 493.

(35/29)


كَفّ

التَّعْرِيفُ
: 1 - الْكَفُّ فِي اللُّغَةِ: رَاحَةُ الْيَدِ مَعَ الأَْصَابِعِ، يُؤَنَّثُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُذَكَّرُ، وَجَمْعُهَا كُفُوفٌ وَأَكُفٌّ، مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ.
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لأَِنَّهَا تَكُفُّ الأَْذَى عَنِ الْبَدَنِ.
وَتَكَفَّفَ الرَّجُل النَّاسَ وَاسْتَكَفَّهُمْ: مَدَّ كَفَّهُ إِلَيْهِمْ بِالْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ (1) .
وَقِيل: مَعْنَى اسْتَكَفَّ النَّاسَ: أَخَذَ الشَّيْءَ بِيَدِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) حديث: " إنك إن تذر ورثتك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 123) ، ومسلم (3 / 1251) من حديث سعد بن أبي وقاص، واللفظ لمسلم.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمغرب في ترتيب المعرب مادة (كف) .

(35/30)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْصْبَعُ:
2 - الإِْصْبَعُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى السُّلاَمَى وَالظُّفُرُ وَالأُْنْمُلَةُ وَالأُْطْرَةُ وَالْبُرْجُمَةُ مَعًا. وَيُسْتَعَارُ لِلأَْمْرِ الْحِسِّيِّ فَيُقَال: لَكَ عَلَى فُلاَنٍ إِصْبَعٌ كَقَوْلِكَ: لَكَ عَلَيْهِ يَدٌ، وَالْجَمْعُ أَصَابِعُ.
وَالإِْصْبَعُ مُؤَنَّثَةٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَائِهَا مِثْل الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ، قَال الصَّغَانِيُّ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالْغَالِبُ التَّأْنِيثُ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْكَفِّ وَالإِْصْبَعِ الْجُزْئِيَّةُ حَيْثُ إِنَّ الإِْصْبَعَ أَحَدُ أَطْرَافِ الْكَفِّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَفِّ:
أَوَّلاً: غَسْل الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ غَسْل الْكَفَّيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصْفَ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعَا بِإِنَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَل يَمِينَهُ فِي الإِْنَاءِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة
(2) حديث " عثمان في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 259) ، ومسلم (1 / 204) واللفظ للبخاري.

(35/30)


وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْغَسْل عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ غَسْلَهُمَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الْقَائِمِ مِنَ النُّوُمِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ غَسْل الْكَفَّيْنِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ سَوَاءٌ قَامَ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ نَوْمٍ أَوْ لَمْ يَقُمْ مِنْ نَوْمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا النَّوْمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل أَوْ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ، لأَِنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ لَمْ تَذْكُرْ غَسْل الْكَفَّيْنِ مِنْ بَيْنِ الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَلأَِنَّ الْحَدِيثَ يَدُل عَلَى الاِسْتِحْبَابِ لِتَعْلِيلِهِ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ (1) ، حَيْثُ إِنَّ طُرُوءَ الشَّكِّ عَلَى الْيَقِينِ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ هِيَ وُجُوبُ غَسْل الْكَفَّيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ لِلأَْمْرِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
__________
(1) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 263) ، ومسلم (1 / 233) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.

(35/31)


ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ فِي أَيِّ نَوْمٍ يَجِبُ مِنْهُ الْغَسْل؟
فَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِالْوُجُوبِ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْغَسْل يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل وَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُمَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ بِدَلاَلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ قَال: فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ، وَالْمَبِيتُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِلَيْلٍ، وَلأَِنَّ نَوْمَ اللَّيْل مَظِنَّةُ الاِسْتِغْرَاقِ فَإِصَابَتُهُ فِيهِ بِالنَّجَاسَةِ أَكْثَرُ احْتِمَالاً.
وَسَوَّى الْحَسَنُ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْل وَنَوْمِ النَّهَارِ فِي الْوُجُوبِ (1) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نُوُمِهِ. . . إِلَخْ.

ثَانِيًا: غَسْل الْكَفَّيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ
: 4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْل الْكَفَّيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2) .
وَلِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وَصْفِ وُضُوءِ النَّبِيِّ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَل وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ غَسَل يَدَهُ الْيُمْنَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 75، وجواهر الإكليل 1 / 16، والمجموع للنووي 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 57، والمغني لابن قدامة 1 / 97.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 66، ومغني المحتاج 1 / 52، وجواهر الإكليل 1 / 14، والمغني لابن قدامة 1 / 122.

(35/31)


حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ. . . (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ) .

ثَالِثًا: مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ الْكَفَّيْنِ بِالتُّرَابِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ وَأَنَّ هَذَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) ، وَلِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، مِنْهَا: عَنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُول بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَْرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَال عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ (3) .
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْحِ مَا عَدَا الْكَفَّيْنِ مِنَ السَّاعِدِ وَالْمِرْفَقِ (4) .
__________
(1) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 216) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث عمار: " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت. . . ". أخرجه مسلم (1 / 280) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 153، وجواهر الإكليل 1 / 27، ومغني المحتاج 1 / 99، والمغني لابن قدامة 1 / 244.

(35/32)


وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ ف 7 - 11) .

رَابِعًا: غَسْل الْكَفَّيْنِ قَبْل الأَْكْل وَبَعْدَهُ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْل الْكَفَّيْنِ قَبْل الأَْكْل وَبَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غِذَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ (1) .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَن إِلاَّ نَفْسَهُ (2) .
قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ هُوَ غَسْل الْيَدَيْنِ لاَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ.
وَقَال الصَّاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: غَسْل الْيَدِ قَبْل الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً عِنْدَنَا فَهُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، أَمَّا بَعْدَ الأَْكْل فَيُنْدَبُ الْغَسْل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الْغَسْل قَبْل الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَهُ (&#
x663 ;) .
__________
(1) حديث: " من أحب أن يكثر الله خير بيته. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1085) من حديث أنس بن مالك، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 174) .
(2) حديث: " من بات وفي يده ريح غمر. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 289) من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص47، بلغة السالك 2 / 526 - 527، ومغني المحتاج 3 / 250، والمغني لابن قدامة 7 / 14، والآداب الشرعية 3 / 231.

(35/32)


خَامِسًا: قَطْعُ الْكَفِّ فِي الْقِصَاصِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ الْكَفِّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الْجِنَايَةِ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ وَلإِِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمَجْنِي عَلَيْهِ مِنْ مَفْصِل الْكُوعِ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَجْنِي عَلَيْهِ، وَلَهُ قَطْعُ يَدِ الْجَانِي مِنْ مَفْصِل الْكُوعِ، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ دُونَ الْخَوْفِ مِنْ حَيْفٍ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ لَيْسَ لَهُ الْتِقَاطُ - أَيْ قَطْعُ - أَصَابِعِ الْجَانِي لأَِنَّ هَذَا غَيْرُ مَحَل الْجِنَايَةِ فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَحَل الْجِنَايَةِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَهُ الْمُمَاثَلَةَ فَلَيْسَ لَهُ الْعُدُول عَنْهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: حَتَّى لَوْ طَلَبَ قَطْعَ أُنْمُلَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَل وَقَطَعَ الأَْصَابِعَ عُزِّرَ لِعُدُولِهِ عَنِ الْمُسْتَحَقِّ وَلاَ غُرْمَ لأَِنَّ لَهُ إِتْلاَفَ الْجُمْلَةِ فَلاَ يَلْزَمُهُ بِإِتْلاَفِ الْبَعْضِ غُرْمٌ.
وَالأَْصَحُّ أَنَّ لَهُ قَطْعَ الْكَفِّ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .

سَادِسًا: دِيَةُ الْكَفِّ
8 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نِصْفِ دِيَةٍ فِي قَطْعِ الْيَدِ مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ الصَّحِيحِ إِذَا
__________
(1) البدائع 7 / 297، و298، وجواهر الإكليل 2 / 259، ومغني المحتاج 4 / 25 - 29، والمغني لابن قدامة 7 / 708.

(35/33)


كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ أَوْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ لِحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ (1) الْحَدِيثَ، وَلِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (2) .
وَالْمُرَادُ مِنَ الْيَدِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ هِيَ الْكَفُّ، لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا بِدَلِيل: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) كَانَ الْوَاجِبُ قَطْعُهُمَا مِنَ الْكُوعِ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً ظَاهِرًا وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْعَيْنَيْنِ، وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْيَدِ مِنَ الْبَطْشِ وَالأَْخَذِ وَالدَّفْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تَتِمُّ بِالْكَفِّ، وَمَا زَادَ تَابِعٌ لِلْكَفِّ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 43) .
__________
(1) حديث: " وفي اليدين الدية ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 371) من حديث سعيد بن المسيب، وقال: " غريب ".
(2) حديث: " وفي اليد خمسون من الإبل ". أخرجه النسائي (8 / 59) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18) تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(3) سورة المائدة / 38.
(4) البدائع 7 / 314، والقوانين الفقهية ص 344، ومغني المحتاج 4 / 65، والمغني 8 / 27.

(35/33)


سَابِعًا: قَطْعُ كَفِّ السَّارِقِ
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ السَّرِقَةِ مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ وَهُوَ الْكُوعُ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ مِنَ الْمَفْصِل (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالاَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ "، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَدَ مِنَ الْمَفْصِل.
قَال الْكَاسَانِيُّ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِل الزَّنْدِ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنَ الآْيَةِ الشَّرِيفَةِ، كَأَنَّهُ نَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا مِنْ مَفْصِل الزَّنْدِ، وَعَلَيْهِ عَمَل الأُْمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا (2) .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: تُقْطَعُ مِنْ مَنْبَتِ الأَْصَابِعِ.
وَقِيل: تُقْطَعُ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَأَدِلَّةُ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا ظَاهِرُ آيَةِ السَّرِقَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآْيَةَ، قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْعُضْوِ إِلَى
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من المفصل ". أخرجه البيهقي (8 / 271) من حديث جابر بن عبد الله
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 88.

(35/34)


الْمَنْكِبِ بِدَلِيل أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهِمَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) ، فَمَسَحَ بِالتُّرَابِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلَمْ يَخْطَأْ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ ف 65 و66) .

ثَامِنًا: قَطْعُ كَفِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ
10 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَدَ قَاطِعِ الطَّرِيقِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَطْعِ تُقْطَعُ مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَدٌّ ف 33) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) تفسير القرطبي 6 / 171، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 510، والبدائع 7 / 88، جواهر الإكليل 2 / 289، ومغني المحتاج 4 / 178، والمغني لابن قدامة 8 / 259.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 493، وتفسير القرطبي 6 / 147، والبدائع 7 / 96، ومغني المحتاج 4 / 180، والمغني لابن قدامة 8 / 286.

(35/34)


كَفُّ النَّفْسِ

التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي الْكَفِّ فِي اللُّغَةِ التَّرْكُ وَالْمَنْعُ، يُقَال: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا مِنْ بَابِ قَتَل، إِذَا تَرَكَهُ، وَكَفَفْتُهُ كَفًّا مَنَعْتُهُ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَعَرَّفَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِأَنَّهُ الاِنْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَال فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: إِنَّ الْفِعْل الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي النَّهْيِ هُوَ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، أَيِ انْتِهَاؤُهُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا} (2) نَهْيٌ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيِ الزِّنَا إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُهُ (3) .
فَلاَ يَحْصُل الْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِقْبَال النَّفْسِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (كفف) ، وانظر أيضًا لسان العرب في المادة نفسها.
(2) سورة الإسراء / 32.
(3) التقرير والتحبير 2 / 81، وانظر حاشية الشربيني على هامش شرح جمع الجوامع 1 / 214
(4) جمع الجوامع 1 / 69.

(35/35)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّرْكُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ التَّخْلِيَةُ وَالإِْسْقَاطُ وَعَدَمُ الْفِعْل، يُقَال: تَرَكْتُ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّيْتُهُ، وَتَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا (1) .
فَالتَّرْكُ قَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْوَاجِبِ أَوِ السُّنَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْحَرَامِ أَوِ الْمَكْرُوهِ. كَمَا يُسْتَعْمَل فِي الْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنْ كَفِّ النَّفْسِ الَّذِي لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - عَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ حَتْمًا لِفِعْل غَيْرِ كَفٍّ فَالإِْيجَابُ. أَوْ تَرْجِيحًا فَالنَّدْبُ، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا لِكَفٍّ فَالتَّحْرِيمُ، أَوْ غَيْرَ حَتْمٍ فَالْكَرَاهَةُ (2) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تَكْلِيفَ - أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا - إِلاَّ بِفِعْلٍ كَسْبِيٍّ لِلْمُكَلَّفِ، وَالْفِعْل الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، وَيَسْتَلْزِمُ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ سَبْقَ الدَّاعِيَةِ أَيَّ دَاعِيَةٍ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) التقرير والتحبير 2 / 80.

(35/35)


الْمَنْهِيِّ إِلَى فِعْلِهِ، فَلاَ تَكْلِيفَ قَبْل الدَّاعِيَةِ، فَإِذَا قَال الشَّارِعُ: لاَ تَزْنِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَعْنَاهُ كُفَّ نَفْسَكَ مِنَ الزِّنَا لَزِمَ أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ قَبْل طَلَبِ النَّفْسِ لِلزِّنَا، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْطُرْ طَلَبُهَا لِلزِّنَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَفُّهَا عَنْهُ؟ فَلَوْ طَلَبَ مِنْهُ كَفَّ النَّفْسِ فِي حَال عَدَمِ طَلَبِهَا طَلَبَ مَا هُوَ مُحَالٌ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْوُ: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا} (1) تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ، أَيْ إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُكَ فَكُفَّهَا (2) .
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَسَّرَ أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ الْقَادِرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَل وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَل، لاَ إِنْ شَاءَ فَعَل وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَيَدْخُل فِي الْمَقْدُورِ عَدَمُ الْفِعْل إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْمَشِيئَةِ، وَكَانَ الْفِعْل مِمَّا يَصِحُّ تَرَتُّبُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، فَتُخْرَجُ الْعَدَمِيَّاتُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ لَيْسَ مُجَرَّدُ عَدَمِ الْفِعْل، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَكَفُّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَل فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا عَدَمُ الْفِعْل، فَكَانَ مُتَحَقِّقًا مِنْ قَبْل وَاسْتَمَرَّ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ أَصْلاً، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الشِّرْبِينِيُّ عَلَى حَاشِيَةِ
__________
(1) سورة الإسراء / 32.
(2) التقرير والتحبير 2 / 81.
(3) نفس المرجع، وجمع الجوامع 1 / 69، 213، 214.

(35/36)


الْعَلاَّمَةِ الْبُنَانِيِّ (1) .
وَنَقَل ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ عَنِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَلِيلَيْنِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ (2) ، أَحَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَال الرَّسُول يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (3) إِذِ الاِتِّخَاذُ افْتِعَالٌ، وَالْمَهْجُورُ الْمَتْرُوكُ.
وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّ الأَْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَسَكَتُوا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَال: هُوَ حِفْظُ اللِّسَانِ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ
4 - لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَفَّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ مُمْتَثِل التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ، وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ عَلَى مَا قَال تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (5) وَقَال تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (6) .
__________
(1) حاشية البناني مع جمع الجوامع 1 / 213.
(2) التقرير والتحبير 2 / 82.
(3) سورة الفرقان / 30.
(4) حديث أبي جحيفة السوائي: " أي الأعمال أحب إلى الله. . . ". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4 / 245) وأورده المنذري في الترغيب (3 / 506) وقال: في إسناده من لا يحضرني الآن حاله.
(5) سورة الأنعام / 160.
(6) سورة النجم / 31.

(35/36)


وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، كَمَا حَقَّقَهُ الآْمِدِيُّ فِي مَعْرِضِ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ (1) ، لَكِنْ يَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلثَّوَابِ أَنْ يَكُونَ الْكَفُّ بِقَصْدِ الاِمْتِثَال.
قَال الشِّرْبِينِيُّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ: إِنَّ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلاَثَةَ أُمُورٍ: الأَْوَّل: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الاِمْتِثَال بِالْفِعْل، بَل مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَال النَّفْسِ عَلَى الْفِعْل ثُمَّ كَفُّهَا عَنْهُ.
الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ لِلاِمْتِثَال.
الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.