الموسوعة
الفقهية الكويتية وَفَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَفَاءُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغَدْرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِلْفِعْل
وَفَى، يُقَال: وَفَى يَفِي وَفَاءً وَوَفْيًا أَيْ تَمَّ، وَوَفَّى
فُلاَنٌ نَذْرَهُ: أَدَّاهُ، وَوَفَّى بِعَهْدِهِ: عَمِل بِهِ.
وَأَوْفَى الْكَيْل: أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَوْفَى
فُلاَنًا حَقَّهُ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَافِيًا تَامًّا، وَحَكَى أَبُو
زَيْدٍ: وَفَّى نَذْرَهُ وَأَوْفَاهُ: أَيْ أَبْلَغَهُ، وَفِي التَّنْزِيل
الْعَزِيزِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (1) . قَال الْفَرَّاءُ: أَيْ
بَلَّغَ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: الْزَمِ الْوَفَاءَ: مَعْنَى
الْوَفَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُقُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الرَّفِيعُ.
وَالْوَفَاءُ اصْطِلاَحًا: مُلاَزِمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ،
وَمُحَافَظَةُ الْعُهُودِ، وَحِفْظُ مَرَاسِمِ الْمَحَبَّةِ
وَالْمُخَالَطَةُ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً، حُضُورًا وَغَيْبَةً.
__________
(1) سورة النجم / 37.
(44/93)
وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) بِحِفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ
وَالْقِيَامُ بِمُوجَبِهِ (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْوَفَاءِ بِمَعْنَى: تَسْلِيمِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَارَةً، وَبِمَعْنَى الْقَضَاءِ تَارَةً أُخْرَى،
وَبِمَعْنَى الأَْدَاءِ أَيْضًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِيفَاءُ:
2 - الاِسْتِيفَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ لِلْفِعْل اسْتَوْفَى، يُقَال:
اسْتَوْفَى فَلاَنٌ حَقَّهُ أَيْ: أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا. وَيُقَال:
اسْتَوْفَى مِنْهُ مَالَهُ: لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ شَيْئًا (4)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالاِسْتِيفَاءِ: أَنَّ الْوَفَاءَ يَكُونُ
مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَالاِسْتِيفَاءُ يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ
الْحَقِّ أَوْ وَكِيلِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاء ف24 - 25) .
ب - الإِْسْقَاطُ
3 - الإِْسْقَاطُ لُغَةً: الإِْيقَاعُ وَالإِْلْقَاءُ، يُقَال:
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) تفسير روح المعاني 6 / 48.
(3) المغني 4 / 33، والبدائع 5 / 213.
(4) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(5) قليوبي 4 / 335، والمغني 10 / 288.
(44/93)
أَسْقَطَتِ الْحَامِل: أَلْقَتِ
الْجَنِينَ. وَقَوْل الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ
وَالأَْمْرُ بِهِ (1) .
وَالإِْسْقَاطُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ
الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ وَلاَ إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ
الْمُطَالَبَةُ بِهِ (2) .
كَمَا يُسْتَعْمَل الإِْسْقَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِسْقَاطِ
الْجَنِينِ أَيِّ السِّقْطِ، يَعْنِي تَضَعُهُ قَبْل التَّمَامِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالإِْسْقَاطِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا شُغِلَتْ بِهِ مِنْ
حُقُوقٍ.
ج - الإِْبْرَاءُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الإِْبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ
وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَال ابْنُ
الأَْعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ،
فَالإِْبْرَاءُ عَلَى هَذَا جَعْل الْمَدِينِ بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ
الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ
آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ
وَلاَ تُجَاهَهُ - كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ
- فَتَرْكُهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَل هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) الذخيرة 1 / 152 ط. وزارة الأوقاف الكويتية.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير.
(5) فتح القدير 3 / 356 ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 4 / 276 ط بولاق.
(44/94)
(ر: إِبْرَاء ف1) وَقَال الْبَرَكَتِيُّ:
الإِْبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ هُوَ: جَعْل الْمَدْيُونِ بَرِيئًا مِنَ
الدَّيْنِ.
وَأَصْل الْبَرَاءِ التَّلَخُّصُ وَالتَّقَصِّي مِمَّا يُكْرَهُ
مُجَاوَرَتُهُ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالإِْبْرَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا شُغِلَتْ بِهِ مِنْ
حُقُوقٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْوَفَاءُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَعْتَرِيهَا الأَْحْكَامُ
التَّكْلِيفِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ
وَالْحُرْمَةِ. . . وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَحَل التَّصَرُّفِ. وَبَيَانُ
ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ:
أ - الْعُقُودُ:
6 - مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا مُقْتَضَيَاتُ
الْعُقُودِ الَّتِي يَعْقِدُهَا الإِْنْسَانُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ
اللاَّزِمَةِ.
فَهَذِهِ الْعُقُودُ إِذَا تَمَّتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشَرَائِطِهَا وَجَبَ
الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهَا، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي،
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(44/94)
وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَالأُْجْرَةِ
لِلأَْجِيرِ. . وَهَكَذَا (1) .
وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) .
ب - الشُّرُوطُ:
7 - الشُّرُوطُ: كُل مَا يَشْرِطُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ
كَانَ مَشْرُوعًا وَلاَ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ
يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ بَاطِلاً (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ،
إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا (4) . وَقَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ (5) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لاَ يَصِحُّ، فِي
كُل عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ (بَيْع ف27) وَ (إِجَارَة ف27)
وَ (رَهْن ف11، وَ23) ،
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 32، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 296.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) أحكام القرآن للقرطبي 6 / 32، 33، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 9،
والمغني 8 / 482، 483.
(4) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث
عمرو بن عوف المزني، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) حديث: " من اشترط شرطا ليس في كتاب الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 4 / 370) ، ومسلم (2 / 1143) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.
(44/95)
وَ (مُزَارَعَة ف9 - 19) وَ (نِكَاح ف132 -
133) .
ج - النَّذْرُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّذْرِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمَا كَانَ طَاعَةً مِنْهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْر ف5) .
ثَانِيًا: مَا يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ:
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا مَا يَلِي:
أ - الْمَعْرُوفُ:
9 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي نَدَبَ
إِلَيْهِ الشَّارِعُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ
بِهَا؛ لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لاَ يُجْبَرُ الإِْنْسَانُ
عَلَيْهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ (وَصِيَّة وَهِبَة ف5، 6) .
ب - الْوَعْدُ:
10 - الْوَعْدُ لُغَةً يَدُل عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، يُقَال:
وَعَدْتُهُ أَعِدُهُ وَعْدًا، وَيُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي
الشَّرِّ مَجَازًا (1) .
وَالْوَعْدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ
الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
وَالْوَعْدُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس.
(2) فتح العلي المالك 1 / 254 - 257.
(44/95)
إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُجَرَّدًا عَنْ
حَاجَةٍ أَوْ سَبَبٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَسْتَدْعِي الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ
كَانَ الْوَفَاءُ وَاجِبًا، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ
الْفُصُولَيْنِ: لَوْ ذَكَرَا الْبَيْعَ بِلاَ شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَا
الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْعِدَّةِ جَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ
بِالْوَعْدِ، إِذِ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لاَزِمَةً، فَيُجْعَل
لاَزِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَعْدَ مُلْزِمٌ وَيُقْضَى
بِهِ إِذَا دَخَل الْمَوْعِدُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَعْد) .
ثَالِثًا: مَا يُبَاحُ الْوَفَاءُ بِهِ:
11 - نَذْرُ الْمُبَاحِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُبَاحُ الْوَفَاءُ
بِهَا كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْمُبَاحِ وَصِحَّةِ
الاِلْتِزَامِ بِالْمُبَاحَاتِ، وَحُكْمِ الْوَفَاءِ بِهِ إِنْ قِيل
بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَذْر ف18، 19) .
رَابِعًا: مَا يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ:
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا مَا يَلِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 120، 121.
(2) الفروق للقرافي 4 / 25.
(44/96)
أ - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ:
12 - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، وَيَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) ، فَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَقْتُل فُلاَنًا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ
بِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَذَرَ
أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ
يَعْصِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نَذْر ف16) .
ب - الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ:
13 - مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَقَدْ عَصَى
بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَل الْوَاجِبُ الْحِنْثُ
وَالْكَفَّارَةُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف118) .
ج - الشُّرُوطُ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ:
14 - يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِالشُّرُوطِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ؛ لِقَوْل
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى
شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا (4) .
__________
(1) المغني 9 / 3، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 296.
(2) حديث: " من نذر أن يطيع الله. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 /
581) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) الاختيار 4 / 47، والمنثور 3 / 107.
(4) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " سبق تخريجه ف7.
(44/96)
(ر: شَرْط ف21) مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ
الْوَفَاءُ:
15 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ،
التَّكْلِيفُ (الْبُلُوغُ وَالْعَقْل) ، لأَِنَّ الْوَفَاءَ إِنَّمَا
يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُبَاحُ نَتِيجَةَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي
يُبَاشِرُهَا الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى
نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَنْعَقِدُ بِإِرَادَتَيْنِ كَالْبَيْعِ
وَالإِْجَارَةِ، أَوْ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ،
فَلاَ يُؤَاخَذُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ، لأَِنَّ
عُقُودَهُمَا لاَ تَنْعَقِدُ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (أَهْلِيَّة ف19 - 23، صَفَر
ف32 وَمَا بَعْدَهَا، جُنُون ف15 وَمَا بَعْدَهَا، عَقْد ف28، 29) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَفَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْوَفَاءِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَفَاءُ:
يَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ وَيَتِمُّ بِمَا يَأْتِي:
أ - التَّسْلِيمُ: 16 - يَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ فِي الْعُقُودِ بِتَسْلِيمِ
الْمَعْقُودِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص240، 242، ط عيسى الحلبي، والأشباه لابن
نجيم ص309، والمنثور 2 / 295 - 301، وروضة الطالبين 3 / 293.
(44/97)
عَلَيْهِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يَكُونُ
الْوَفَاءُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ
لِلْبَائِعِ (1) .
وَهَكَذَا فِي كُل الْعُقُودِ يَكُونُ الْوَفَاءُ بِهَا بِتَسْلِيمِ
مُقْتَضَاهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُل عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَفِي
مُصْطَلَحِ (تَسْلِيم ف4 وَمَا بَعْدَهَا، قَبْض ف5 - 11) .
ب - الرَّدُّ:
17 - مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْوَفَاءُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ
(2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (رَدّ ف3 - 7، 12، اسْتِرْدَاد
ف4 - 6، إِجَارَة ف58، قَرْض ف18، إِعَارَة ف21، 22) .
ج - الْقِيَامُ بِالْعَمَل:
18 - قِيَامُ الشَّخْصِ بِأَدَاءِ الْعَمَل الْمَطْلُوبِ مِنْهُ يُعْتَبَرُ
وَفَاءً بِمَا تَعَهَّدَ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: قِيَامُ الأَْجِيرِ
بِالْعَمَل الْمُوكَل إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ
أَكَانَ أَجِيرًا خَاصًّا أَوْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا - يُعْتَبَرُ وَفَاءً
بِهَذَا الْعَمَل.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف106، 130) .
__________
(1) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 4 / 42، 43، والدسوقي 3 / 147.
(2) ينظر القواعد لابن رجب ص53، القاعدة الثانية والأربعون.
(44/97)
د - الْحَوَالَةُ:
19 - الْحَوَالَةُ هِيَ نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى أُخْرَى،
فَإِذَا أَحَال الْمَدِينُ الدَّائِنَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لِيَسْتَوْفِيَ
مِنْهُ دَيْنَهُ، وَاسْتَوْفَتِ الْحَوَالَةُ جَمِيعَ شَرَائِطِهَا، كَانَ
ذَلِكَ وَفَاءً مِنَ الْمَدِينِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَوَالَة ف106) .
ثَانِيًا: وَفَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ:
20 - يَصِحُّ وَفَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ وَضَمَانُهُ (الْكَفَالَةُ بِهِ) ،
سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَفَاءُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ،
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا
إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ رِفْقًا بِالْمَدِينِ، فَقَدْ جَاءَ فِي
الْمُدَوَّنَةِ - عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ - مَنْ أَدَّى عَنْ
رَجُلٍ دَيْنًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ إِنْ فَعَلَهُ رِفْقًا
بِالْمَطْلُوبِ، فَإِنْ أَرَادَ الضَّرَرَ بِطَلَبِهِ وَإِعْنَاتَهُ
لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَالْوَفَاءُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ
عَلَى الْمَدِينِ بِهَذَا الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِهِ.
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَة ف41، 42، 43، دَيْن ف31،
32) .
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 334.
(44/98)
ثَالِثًا: وَفَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ:
21 - يَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَوَفَاؤُهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ
إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مَا يُوَفَّى مِنْهُ دَيْنُهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُفْلِسًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -
يَرَوْنَ صِحَّةَ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ
مُفْلِسًا، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ
ضَمِنَ دَيْنَ مَيِّتٍ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَال: هَل
عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ
بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَال: هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ،
قَال: فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَال أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ
دَيْنُهُ يَا رَسُول اللَّهِ. فَصَلَّى عَلَيْهِ (1) .
وَقَالُوا: لأَِنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ إِنْسَانٌ بِوَفَائِهِ جَازَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ
إِذَا كَانَ مُفْلِسًا، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ
فَقَدْ سَقَطَ دَيْنُهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلاَ تَصِحُّ
الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ، لَكِنْ لَوْ تَبَرَّعَ شَخْصٌ بِوَفَائِهِ
صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (2) .
__________
(1) حديث سلمة بن الأكوع: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة. . . "
أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 474) .
(2) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 4 / 270، وفتح القدير 6 / 317،
والدسوقي 3 / 331، ومغني المحتاج 2 / 200، والمغني 4 / 593.
(44/98)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(كَفَالَة ف21، 22، رُجُوع ف20، 21، دَيْن ف78) .
عَدَمُ الْوَفَاءِ وَأَسْبَابُهُ:
لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الإِْنْسَانِ أَسْبَابٌ
مُخْتَلِفَةٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْمُمَاطَلَةُ:
22 - مَنْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ حَالٌّ، وَكَانَ مُوسِرًا
قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ،
وَقَدْ طَلَبَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ
فَوْرًا بَعْدَ الطَّلَبِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ
مُمَاطِلاً، وَهُوَ ظَالِمٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (1) . وَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ
لِظُلْمِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ
الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ اتِّخَاذِ الْوَسَائِل
الَّتِي تَحْمِل الْمَدِينَ الْمُوسِرَ عَلَى الْوَفَاءِ،
__________
(1) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 466)
ومسلم (3 / 1197) .
(2) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. . . " أخرجه أحمد (4 / 222) من
حديث الشريد بن سويد، وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (5 / 64) .
(3) فتح القدير شرح الهداية 6 / 376، والمنظم للحكام بهامش تبصرة الحكام 2
/ 232، ومغني المحتاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 418، 419.
(44/99)
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِبَيْعِ مَالِهِ
أَوْ حَبْسِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِل،
وَمُخْتَلِفُونَ عَلَى بَعْضِهَا (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَطْل ف9 - 16، حَبْس ف79 - 82،
إِعْسَار ف15) .
ب - الإِْعْسَارُ:
23 - إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا وَثَبَتَ إِعْسَارُهُ
بِالْبَيِّنَةِ بِأَنْ شَهِدَ عَدْلاَنِ أَنَّهُمَا لاَ يَعْرِفَانِ لَهُ
مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، وَحَلَفَ الْمَدِينُ عَلَى ذَلِكَ،
فَإِنَّهُ يُخْلَى سَبِيلُهُ وَلاَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي، لأَِنَّ حَبْسَهُ
لاَ تَحْصُل بِهِ فَائِدَةٌ، وَلأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الإِْنْظَارَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} (2) .
وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى الْمَدِينُ الإِْعْسَارَ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ
لَمْ يُحْبَسْ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلاَزَمَتُهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَار ف15) .
ج - الإِْفْلاَسُ:
24 - الإِْفْلاَسُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الرَّجُل
أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْوَفَاءِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة البقرة / 280.
(44/99)
وَإِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَال
الْمَدِينِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى
الْحَاكِمِ تَفْلِيسُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَهُمْ بَيْعُ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلاَس ف6 وَمَا
بَعْدَهَا) .
الأَْوْلَوِيَّةُ فِي الْوَفَاءِ:
تَأْتِي الأَْوْلَوِيَّةُ فِي الْوَفَاءِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الَّتِي
تَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَكُونُ حَقًّا لِلْعَبْدِ، أَوِ
الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الإِْنْسَانُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ.
أ - حُقُوقُ اللَّهِ:
25 - مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الزَّكَاةُ، وَمَصَارِفُ الزَّكَاةِ
هِيَ الأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيل فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ هَذِهِ
الْمَصَارِفِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف184)
__________
(1) سورة التوبة / 60.
(44/100)
ب - الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالتَّرِكَةِ:
26 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ
لَيْسَتْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَهَا مُقَدَّمٌ عَلَى
بَعْضٍ، فَيُقَدَّمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ
وَتَكْفِينُهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ دُيُونِ
اللَّهِ تَعَالَى أَمْ كَانَ مِنْ دُيُونِ الْعِبَادِ، ثُمَّ تَنْفِيذُ
وَصَايَاهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَرِكَة ف21 - 32) .
ج - الصَّدَقَةُ وَالْوَصَايَا:
27 - مِمَّا يَلْتَزِمُهُ الإِْنْسَانُ الصَّدَقَةُ وَالْوَصَايَا، أَمَّا
الصَّدَقَةُ: فَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى
وَجْهِ الْقُرْبَةِ (1) .
وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ الإِْنْسَانُ بِمَا يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ
وَمَؤُونَتِهِ وَمَؤُونَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَالأَْوْلَى أَنْ
يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ
عَلَى الدَّوَامِ (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ
بِمَنْ تَعُول (3)
وَيَقُول السَّرَخْسِيُّ: الصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(2) المغني 3 / 83، 84.
(3) حديث: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. . " أخرجه البخاري (فتح الباري
3 / 294) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(44/100)
الأَْجَانِبِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ
الْقَرَابَاتِ وَذَلِكَ أَفْضَل، لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (1) .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: أَفْضَل الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ (2) [512]
.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْوْلَى فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِمُ
الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَفِي الأَْشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَل
مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيَتَأَلَّفَ قَلْبَهُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَقَة ف17، 18) .
وَأَمَّا الْوَصَايَا: فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ الأَْقْرَبُ
غَيْرُ الْوَارِثِ، لأَِنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ
فُقَرَاءُ غَيْرُ وَارِثِينَ فَإِلَى ذِي رَضَاعٍ، قَال الشَّافِعِيَّةُ:
ثُمَّ صِهْرٍ، ثُمَّ ذِي وَلاَءٍ، ثُمَّ ذِي جِوَارٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَحَارِمَ مِنَ الرَّضَاعِ،
فَإِلَى جِيرَانِهِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى لأَِقْرِبَائِهِ أَوْ لأَِرْحَامِهِ
أَوْ لأَِنْسَابِهِ فَهُمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ كُل ذِي رَحِمٍ
مَحْرَمٍ مِنْهُ غَيْرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ.
__________
(1) المبسوط 12 / 49.
(2) حديث: " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح. . " أخرجه الحاكم (1 / 406)
من حديث أم كلثوم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(3) مغني المحتاج 3 / 121.
(4) أسنى المطالب 3 / 29، وكشاف القناع 4 / 360.
(44/101)
وَيُعْتَبَرُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ،
فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالاَنِ فَلِلْعَمِّ النِّصْفُ وَلِلْخَالَيْنِ
النِّصْفُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ
الْمِيرَاثِ، فَيُعْتَبَرُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ. وَقَال أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلاَثًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى لِلأَْقَارِبِ أَوِ الأَْرْحَامِ
أَوِ الأَْهْل أَوْ لِغَيْرِهِ أُوثِرَ الْمُحْتَاجُ الأَْبْعَدُ فِي
الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ أَوْ كَثْرَةِ عِيَالِهِ
بِالزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ لاَ بِالْجَمِيعِ، فَالْمُحْتَاجُ
الأَْقْرَبُ عُلِمَ إِيثَارُهُ بِالأَْوْلَى فِي كُل حَالٍ، إِلاَّ
بِبَيَانٍ مِنَ الْمُوصِي خِلاَفَ ذَلِكَ: كَأَعْطُوا الأَْقْرَبَ
فَالأَْقْرَبَ، أَوْ أَعْطُوا فُلاَنًا ثُمَّ فُلاَنًا، فَيُفَضَّل وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ أَحْوَجَ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ
(وَصِيَّة) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 5 / 78، 79.
(2) جواهر الإكليل 2 / 320.
(44/101)
وَقْتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَقْتُ فِي اللُّغَةِ: مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مَفْرُوضٌ
لأَِمْرٍ مَا، أَوْ نِهَايَةُ الزَّمَانِ الْمَفْرُوضِ لِلْعَمَل، وَكُل
شَيْءٍ قَدَّرْتَ لَهُ حِينًا فَقَدْ وَقَّتَّهُ تَوْقِيتًا، وَكَذَلِكَ
مَا قَدَّرْتَ لَهُ غَايَةً. وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) . وَجَمْعُ الْوَقْتِ: أَوْقَاتٌ.
وَالْوَقْتُ: الْمِيقَاتُ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْوَقْتُ لِلْمَكَانِ. . .
وَمِنْ ذَلِكَ: مَوَاقِيتُ الْحَجِّ لِمَوَاضِعِ الإِْحْرَامِ (2) .
وَالْوَقْتُ اصْطِلاَحًا - كَمَا عَرَّفَهُ الْبَرَكَتِيُّ -: الْمِقْدَارُ
مِنَ الدَّهْرِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الْمَاضِي.
وَقِيل: هُوَ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَنِ الْمَفْرُوضِ لأَِمْرٍ مَا، وَقِيل
لِلْعَمَل (3) .
__________
(1) سورة النساء / 103.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(3) قواعد الفقه للبركتي، وطلبة الطلبة ص122، 218 ط دار النفائس.
(44/102)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّاعَةُ:
2 - السَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْوَقْتُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ،
وَالْعَرَبُ تُطْلِقُهَا وَتُرِيدُ بِهَا الْحِينَ وَالْوَقْتَ وَإِنْ قَل،
وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ
يَسْتَقْدِمُونَ} (1) . وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي فَضْل حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ: مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ
الْجُمُعَةِ غُسْل الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُْولَى
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً. . . " (2) . قَال الْفَيُّومِيُّ: لَيْسَ
الْمُرَادُ السَّاعَةَ الَّتِي يَنْقَسِمُ عَلَيْهَا النَّهَارُ
الْقِسْمَةَ الزَّمَانِيَّةَ، بَل الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَهُوَ
السَّبْقُ وَإِلاَّ لاَقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ مَنْ جَاءَ فِي أَوَّل
السَّاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَنْ جَاءَ فِي آخِرِهَا، لأَِنَّهُمَا
حَضَرَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل مَنْ جَاءَ فِي
أَوَّلِهَا أَفْضَل مِمَّنْ جَاءَ فِي آخِرِهَا.
وَالسَّاعَةُ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ
اللَّيْل وَالنَّهَارِ، لأَِنَّ زَمَنَهُمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
سَاعَةً.
وَيُقَال: عَامَلْتُهُ مُسَاوَعَةً نَحْوَ مُعَاوَمَةٍ وَمُشَاهَرَةٍ.
__________
(1) سورة الأعراف / 34.
(2) حديث: " من اغتسل يوم الجمعة. . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 101)
والبخاري (الفتح 2 / 366) ومسلم (2 / 582) واللفظ لمالك.
(44/102)
وَالسَّاعَةُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ
الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}
(1) ، كَمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَوْتِ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَمُدُّ طَرْفِي وَلاَ أَغُضُّهَا
إِلاَّ وَأَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَامَتْ (2) يَعْنِي مَوْتَهُ.
وَتُسْتَعْمَل السَّاعَةُ بِمَعْنَى الْهُدُوءِ فِي مِثْل قَوْلِهِمْ:
جَاءَنَا بَعْدَ سَوْعٍ مِنَ اللَّيْل وَسَوَاعٍ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَقْتِ وَالسَّاعَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَنِ.
ب - الدَّهْرُ:
3 - الدَّهْرُ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى الأَْبَدِ، وَقِيل: هُوَ الزَّمَانُ
قَل أَوْ كَثُرَ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الدَّهْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ
يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ، وَعَلَى الْفَصْل مِنْ فُصُول السَّنَةِ
وَأَقَل مِنْ ذَلِكَ، وَيَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا كُلِّهَا (4) .
__________
(1) سورة القمر / 1.
(2) حديث: " ما أمد طرفي ولا أغضها إلا وأظن أن الساعة قد قامت. . " أورده
الأصفهاني في المفردات (ص435 - ط دار القلم) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم
نهتد لمن أخرجه.
(3) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني، والمعجم الوسيط،
ومغني المحتاج 1 / 109.
(4) المصباح المنير.
(44/103)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالدَّهْرِ أَنَّ الْوَقْفَ جُزْءٌ مِنَ
الدَّهْرِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَقْتِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: أَفْضَل الأَْوْقَاتِ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الأَْوْقَاتِ أَفْضَل مِنْ
بَعْضٍ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا لِعِبَادِهِ
مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ إِكْرَامِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ، لاَ بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ فِي تِلْكَ الأَْوْقَاتِ
وَالأَْزْمَانِ، لأَِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الأَْصْل، وَيَرْجِعُ
تَفْضِيل الأَْوْقَاتِ إِلَى مَا يُنِيل اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهَا مِنْ
فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ (2) .
قَال ابْنُ رَجَبٍ: جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِبَعْضِ الشُّهُورِ فَضْلاً
عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قَال تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (3) وَقَال
اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (4) وَقَال تَعَالَى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ} (5) .
__________
(1) أنيس الفقهاء ص73، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 137، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد
السلام 1 / 38 - 39، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 3 / 306، وروضة
الطالبين 8 / 125.
(3) سورة التوبة / 36.
(4) سورة البقرة / 197.
(5) سورة البقرة / 185.
(44/103)
كَمَا جَعَل بَعْضَ الأَْيَّامِ
وَاللَّيَالِي أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ، وَجَعَل لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَأَقْسَمَ بِالْعَشْرِ، وَهُوَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ
عَلَى الصَّحِيحِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْضَل الأَْوْقَاتِ
تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِالأَْيَّامِ وَالأَْشْهُرِ
الْفَاضِلَةِ، وَ (مُصْطَلَحُ زَمَان ف7، وَفَضَائِل ف10) .
ثَانِيًا: وَقْتُ الْحَيْضِ:
أ - السِّنُّ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ
وَفِي أَكْبَرِ سِنٍّ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ حَيْض ف10، وَإِيَاس ف6) .
ب - أَقَل وَقْتِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرُهُ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل وَقْتِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف11) .
ج - أَقَل وَقْتِ الطُّهْرِ وَأَكْثَرُهُ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الطُّهْرِ،
__________
(1) لطائف المعارف في ما لمواسم العام من الوظائف ص40.
(44/104)
وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهِ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف24، وَطُهْر ف4) .
ثَالِثًا: وَقْتُ الأَْذَانِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الأَْذَانِ هُوَ وَقْتُ
الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي يُؤَذَّنُ لَهَا، وَأَنَّهُ لَوْ
أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْل دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ غَيْرَ صَلاَةِ
الْفَجْرِ لاَ يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْلْبَاسِ، وَلأَِنَّهُ شُرِعَ
لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، فَلاَ يُشْرَعُ قَبْل
الْوَقْتِ، لِئَلاَّ يَذْهَبَ مَقْصُودُهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان ف17) .
رَابِعًا: وَقْتُ الصَّلاَةِ
9 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ
مُؤَقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ مَحْدُودَةٍ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَوَاقِيتِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَوْقَاتِ
الصَّلاَةِ ف5 وَمَا بَعْدَهَا، وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ ف10، وَصَلاَةِ
الْعِيدَيْنِ ف6، وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ ف3) .
خَامِسًا: وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ
فِي الأَْنْعَامِ - وَهِيَ الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ -
__________
(1) المجموع 3 / 87 - 89.
(44/104)
وَفِي الأَْثْمَانِ - وَهِيَ الذَّهَبُ
وَالْفِضَّةُ - وَفِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ حَوَلاَنُ الْحَوْل عَلَيْهَا
فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا، لِحَدِيثِ: لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُول
عَلَيْهِ الْحَوْل (1) ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَكَامَل نَمَاؤُهُ قَبْل
تَمَامِ الدُّخُول.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ الثِّمَارِ
وَالزُّرُوعِ عِنْدَ حَصَادِهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) . وَكَذَا الْمَعَادِنُ وَالرِّكَازُ تَجِبُ
زَكَاتُهَا وَقْتَ الْحُصُول عَلَيْهَا (3) .
(ر: زَكَاة ف29 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (زَكَاةِ الْفِطْرِ ف8، ف9) .
سَادِسًا: وَقْتُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ
هُوَ حُلُول شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَتَمَثَّل بِحُصُول أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِكْمَال شَهْرِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا.
ثَانِيهِمَا: رُؤْيَةُ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ
__________
(1) حديث: " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ". أخرجه أبو داود (2 /
230) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الزيلعي في نصب الراية (2 / 328) :
حديث حسن.
(2) سورة الأنعام / 141.
(3) مغني المحتاج 1 / 378 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 2 / 625.
(44/105)
الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، لِقَوْل
اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1)
، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ (2) .
وَوَقْتُ الصِّيَامِ الْمَشْرُوعِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى
غُرُوبِ الشَّمْسِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (4) ، وَلِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَل اللَّيْل
مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ،
فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ (5) .
(ر: صَوْم ف21 - 24، رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف2، رَمَضَان ف2) .
سَابِعًا: وَقْتُ الاِعْتِكَافِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل وَقْتٍ لِلُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ
الْمُجْزِئِ فِي الاِعْتِكَافِ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ.
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 /
119) ومسلم (2 / 857) واللفظ للبخاري.
(3) البدائع 2 / 80، والقوانين الفقهية ص115، ومغني المحتاج 1 / 420 وما
بعدها، والمغني لابن قدامة 3 / 86 وما بعدها.
(4) سورة البقرة / 187.
(5) حديث: " إذا أقبل الليل من ههنا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 196)
ومسلم (2 / 772) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.
(44/105)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ
(اعْتِكَاف ف16 - 17) .
ثَامِنًا: وَقْتُ الْحَجِّ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ إِحْرَامِ الْحَجِّ
هُوَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ (1)
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ}
(2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حَجّ ف34، إِحْرَام ف33 - 38،
أَشْهُرِ الْحَجِّ ف1 - 3) .
تَاسِعًا: وَقْتُ الْعُمْرَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ الزَّمَنِيَّ
هُوَ جَمِيعُ السَّنَةِ، فَهِيَ وَقْتٌ لإِِحْرَامِهَا وَلِجَمِيعِ
أَفْعَالِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الْعُمْرَةُ.
(ر: إِحْرَام ف37 - 38) .
أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الأَْدَاءِ:
15 - الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ أَدَائِهَا تَنْقَسِمُ إِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 471، كشاف القناع 2 / 405، والبدائع 2 / 119 وما
بعدها، والقوانين الفقهية ص129.
(2) سورة البقرة / 197.
(44/106)
مُطْلَقَةٍ وَمُؤَقَّتَةٍ. وَتُنْظَرُ
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكُل قِسْمٍ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاء ف6) .
أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الصَّلاَةُ
الْمَكْتُوبَةُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي
(أَدَاء ف8) .
مَا يُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ وَمَا لاَ يُقْضَى:
17 - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَا يُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهِ
مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا لاَ يُقْضَى. وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ
الْفَوَائِتِ) .
توقيت خِصَال الْفِطْرَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ خِصَال الْفِطْرَةِ مِنْ حَيْثُ
اسْتِيفَاؤُهَا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (أَظْفَار ف2، وَشَارِب ف12،
وَفِطْرَة ف10، وَعَانَة ف4) .
وَقْتُ الْعَقِيقَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الْعَقِيقَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (عَقِيقَة ف9) .
قَاعِدَةٌ: إِضَافَةُ الْحَادِثِ إِلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ:
20 - الْمُرَادُ بِالْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ حَادِثٌ وَاخْتُلِفَ
فِي زَمَنِ وُقُوعِهِ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى
(44/106)
أَقْرَبِ الأَْوْقَاتِ إِلَى الْحَال مَا
لَمْ يَثْبُتْ نِسْبَتُهُ إِلَى زَمَنٍ بَعِيدٍ (1) .
وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
أ - إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا طَلاَقَ
الْفَارِّ أَثْنَاءَ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَطَلَبَتِ الإِْرْثَ،
وَالْوَرَثَةُ ادَّعَوْا طَلاَقَهَا فِي حَال صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ لاَ
حَقَّ لَهَا فِي الإِْرْثِ، فَالْقَوْل لِلزَّوْجَةِ لأَِنَّ الأَْمْرَ
الْحَادِثَ الْمُخْتَلَفَ فِي زَمَنِ وُقُوعِهِ هُنَا هُوَ الطَّلاَقُ،
فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْوَقْتِ الأَْقْرَبِ وَهُوَ مَرَضُ
الْمَوْتِ الَّذِي تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ مَا لَمْ يُقَدِّمِ الْوَرَثَةُ
الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فِي حَال الصِّحَّةِ (2) .
ب - إِذَا ادَّعَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَوْ وَصِيُّهُ أَنَّ عَقْدَ
الْبَيْعِ الَّذِي أَجْرَاهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ قَدْ حَصَل بَعْدَ
صُدُورِ الْحُكْمِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ وَطَلَبَ فَسْخَ الْبَيْعِ،
وَادَّعَى الْمُشْتَرِي حُصُول الْبَيْعِ قَبْل تَارِيخِ الْحَجْرِ،
فَالْقَوْل هُنَا لِلْمَحْجُورِ أَوْ وَصِيِّهِ، لأَِنَّ وُقُوعَ الْبَيْعِ
بَعْدَ الْحَجْرِ أَصْلٌ وَهُوَ أَقْرَبُ زَمَنًا مِمَّا يَدَّعِيهِ
الْمُشْتَرِي، وَعَلَى الْمُشْتَرِي إِثْبَاتُ خِلاَفِ الأَْصْل وَهُوَ
حُصُول
__________
(1) شرح المجلة العدلية لعلي حيدر 1 / 25، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 32
المادة 11، وغمز عيون البصائر 1 / 217، والمنثور في القواعد للزركشي 1 /
174، والأشباه والنظائر للسيوطي ص59.
(2) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 25.
(44/107)
الْبَيْعِ لَهُ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ
بِالْحَجْرِ (1) .
ج - لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ مِنْ
كُل عَيْبٍ يَكُونُ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ بَعْدَ الْقَبْضِ أَرَادَ
رَدَّهُ بِعَيْبٍ، فَقَال الْبَائِعُ: كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ
فَدَخَل تَحْتَ الْبَرَاءَةِ. وَقَال الْمُشْتَرِي: بَل هُوَ حَادِثٌ
عِنْدَكَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل أَنْ أَقْبِضَهُ، فَالْقَوْل قَوْل
الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَال الْعَقْدِ لاَ
تَتَنَاوَل إِلاَّ الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالْمُشْتَرِي
يَدَّعِي الْعَيْبَ لأَِقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ
لأَِبْعَدِهِمَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ
عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْمَوْجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ إِحَالَةُ
الْمَوْجُودِ إِلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبَ إِلَى الأَْصْل،
وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (2) .
د - لَوْ بَاعَ الأَْبُ مَال وَلَدِهِ وَادَّعَى الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ
أَنَّهُ بَاعَ مَالَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ صَحِيحٍ
لِهَذَا السَّبَبِ، وَالأَْبُ أَنْكَرَ وُقُوعَ الْبَيْعِ مِنْهُ بَعْدَ
الْبُلُوغِ وَادَّعَى حُصُولَهُ قَبْل الْبُلُوغِ فَبِمَا أَنَّ الْبُلُوغَ
أَقْرَبُ زَمَنًا مِنْ قَبْل الْبُلُوغِ، فَالْقَوْل لِلاِبْنِ، وَعَلَى
الأَْبِ إِثْبَاتُ خِلاَفِ الأَْصْل (3) .
وَفُرُوعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَتَطْبِيقَاتُهَا مُتَنَاثِرَةٌ فِي
مُخْتَلَفِ الأَْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالْكُتُبُ الْمَعْنِيَّةُ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 25.
(2) شرح المجلة للأتاسي 1 / 33.
(3) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 25.
(44/107)
بِالْقَوَاعِدِ تَشْتَمِل عَلَى طَائِفَةٍ
مِنْهَا، وَلِلاِسْتِزَادَةِ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
وَقْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْوَقْفِ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ، يُقَال: وَقَفْتُ
الدَّارَ وَقْفًا: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، وَمِنْهَا الْمَنْعُ،
يُقَال: وَقَفْتُ الرَّجُل عَنِ الشَّيْءِ وَقْفًا: مَنَعْتُهُ عَنْهُ،
وَمِنْهَا السُّكُونُ، يُقَال: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ تَقِفُ وَقْفًا
وَوُقُوفًا: سَكَنَتْ.
وَيُطْلَقُ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ تَسْمِيَةً
بِالْمَصْدَرِ، وَجَمْعُهُ أَوْقَافٌ كَثَوْبٍ وَأَثْوَابٍ (1) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(44/108)
وَالْوَقْفُ اصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ
الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
فَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ
مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ،
وَهَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ
الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَال: الْوَقْفُ -
مَصْدَرًا - إِعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وَجُودِهِ لاَزِمًا
بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، وَالْوَقْفُ - اسْمًا -
مَا أَعْطَيْتَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ وُجُودِهِ. . (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ مَالٍ يُمْكِنُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ التَّصَرُّفِ فِي
رَقَبَتِهِ عَلَى مَصْرِفٍ مُبَاحٍ مَوْجُودٍ (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَحْبِيسُ مَالِكٍ مُطْلَقِ
التَّصَرُّفِ مَالَهُ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ
تَصَرُّفِهِ وَغَيْرِهِ فِي رَقَبَتِهِ يُصْرَفُ رِيعُهُ إِلَى جِهَةِ
بِرٍّ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (4) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 357 - 358، والهداية 3 / 13 -
14.
(2) منح الجليل 4 / 34، وجواهر الإكليل 2 / 205.
(3) مغني المحتاج 2 / 376.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 489، والإنصاف 7 / 3.
(44/108)
أ - التَّبَرُّعُ:
2 - التَّبَرُّعُ لُغَةً مَأْخُوذٌ مِنْ بَرَعَ، يُقَال:: بَرَعَ الرَّجُل
بَرَاعَةً:: فَاقَ أَصْحَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَتَبَرَّعَ
بِالأَْمْرِ:: فَعَلَهُ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا (1) . .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّبَرُّعِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ
التَّطَوُّعَ بِالشِّيْءِ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا، بِقَصْدِ الْبِرِّ
وَالصِّلَةِ غَالِبًا (2) . .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّبَرُّعُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ. .
ب -
ب - الصَّدَقَةُ:
3 - الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى فِي ذَاتِ اللَّهِ، أَوْ مَا
يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَلَى
وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ، أَوْ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ (3) .
َفِي الاِصْطَلاَحِ هِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ (4) .
وَيَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ:: الصَّدَقَةُ مَا
__________
(1) الصحاح للجوهري،، والمصباح المنير. .
(2) أنيس الفقهاء ص256. .
(3) لسان العرب،، والصحاح للجوهري،، وتاج العروس، والمعجم الوسيط. .
(4) المغني 5 / 649. .
(44/109)
يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ
عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الأَْصْل
لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَال لِلْوَاجِبِ (1) .
وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اسْتِعْمَال لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي
صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ؛ إِذْ قَدْ تُطْلَقُ
عَلَى الْوَقْفِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ ?
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ
فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ أَرْضٍ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ ? صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا
(3) .
وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْوَقْفِ، فَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ?
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (4) .
ج -
ج - الْهِبَةُ:
4 - الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ بِلاَ عِوَضٍ.
وَهُوَ الْمَعْنَى الاِصْطَلاَحِيُّ أَيْضًا، يَقُول ابْنُ
__________
(1) المفردات للراغب. .
(2) مغني المحتاج 3 / 120. .
(3) حديث ابن عمر " أن عمر طلب من النبي ? صلى الله عليه وسلم أن يدله. . .
. " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 399) ، ومسلم (3 / 1255) . .
(4) حديث:: " كل معروف صدقة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 447) من حديث
جابر بن عبد الله. .
(44/109)
قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا
تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ
لِجَمِيعِهِا (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ
يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فَيهَا.
أَمَّا الْهَبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ، فَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ.
د - الْعَارِيَّةُ:
5 - الْعَارِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الاِسْمُ مِنَ الإِْعَارَةِ، وَتُطْلَقُ
عَلَى الشَّيْءِ الْمُعَارِ (2) .
وَفِي الاِصْطَلاَحِ هِيَ الْعَيْنُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ مَالِكٍ
لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا بِلاَ عِوَضٍ، أَوْ هِيَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ
بِمَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعَارِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا
إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ
مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، أَمَّا الْوَقْفُ:
فَالْعَيْنُ فِيهِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى.
هـ - الْوَصِيَّةُ:
6 - الْوَصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَصَّيْتُ
__________
(1) المصباح المنير، والمغني 5 / 649. .
(2) تاج العروس. .
(3) مغني المحتاج 2 / 263، وشرح منتهى الإرادات 2 / 391. .
(44/110)
الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أَصِيهِ وَصَلْتُهُ،
وَوَصَّيْتُ إِلَى فُلاَنٍ تَوْصِيَةً، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِيصَاءً.
وَالاِسْمُ: الْوِصَايَةُ، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ جَعَلْتُهُ لَهُ،
وَأَوْصَيْتُهُ بِوَلَدِهِ اسْتَعْطَفْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَوْصَيْتُهُ
بِالصَّلاَةِ أَمَرْتُهُ بِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ
مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ
تَبَرُّعٌ بِحَقٍّ مُضَافٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا
تَبَرُّعٌ، لَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ
بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ
بِالْمَنْفَعَةِ، أَمَّا الْوَقْفُ فَهُوَ تَبَرُّعٌ فِي حَال الْحَيَاةِ
وَبِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْوَقْفِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْفِ
وَلُزُومِهِ وَاعْتِبَارِهِ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا (4) ،
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ? صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المصباح المنير. .
(2) البدائع 7 / 330. .
(3) مغني المحتاج 3 / 39. .
(4) المغني 5 / 597، 598، وشرح منتهى الإرادات 2 / 489،، والاختيار 3 / 40،
41، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 75، ومنح الجليل 4 / 34، 35،
والحطاب 6 / 18، والمهذب 1 / 477، ومغني المحتاج 2 / 376. .
(44/110)
يَسْتَأْمِرْهُ فِيهَا فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ
أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ
أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ
لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بَهَا فِي
الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيل اللَّهِ
وَابْنِ السَّبِيل وَالضَّيفِ، وَلاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ
يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَطْعَمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، وَفِي
لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً (1) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَاتَ
الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ
مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ
صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (2) .
وَقَال جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ لَهُ
مَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ إِلاَّ حَبَسَ مَالاً مِنْ
صَدَقَةٍ مُؤَبَّدَةٍ لاَ تُشْتَرَى أَبَدًا وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورثُ
(3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى
__________
(1) حديث ابن عمر:: " أصاب عمر أرضا بخيبر. . . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 354 - 355) ، ومسلم (3 / 1255) واللفظ للبخاري. .
(2) حديث:: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله. . . . . . " أخرجه مسلم (3 /
1255) من حديث أبي هريرة. .
(3) أثر جابر:: " ما أعلم أحدا ". . أخرجه الخصاف في أحكام الأوقاف (ص6 - ط
ديوان عموم الأوقاف المصرية) . .
(44/111)
الْوَقْفِ وَقَفَ وَاشْتَهَرَ ذَلِكِ
فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا (1) .
وقَال ابْنُ رُشْدٍ: الأَْحْبَاسُ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَمِل بِهَا رَسُول
اللَّهِ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ
بَعْدِهِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ عَابدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ
عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ فِي
الأَْصْل: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُجِيزُ الْوَقْفَ فَأَخَذَ بَعْضُ
النَّاسِ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَقَال: لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ
عِنْدَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنَدَ الْكُل، وَإِنَّمَا
الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ يَجُوزُ جَوَازَ الإِْعَارَةِ فَتُصْرَفُ مَنْفَعَتُهُ إِلَى
جِهَةِ الْوَقْفِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ،
وَلَوْ رَجَعَ عَنْهُ حَال حَيَاتِهِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورَثُ
عَنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْكُمَ
بِهِ الْقَاضِي،أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ (3) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ (4) عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْوَقْفَ
وَقَال: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَال: جَاءَ مُحَمَّدٌ ?
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِ الْحَبْسِ (5) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَال: جَاءَ
__________
(1) المغني 5 / 599. .
(2) منح الجليل 4 / 34. .
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 358، والبدائع 6 / 218، 219. .
(4) المغني 5 / 598. .
(5) الحاوي 9 / 369. .
(44/111)
مُحَمَّدٌ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ، وَهَذَا مِنْهُ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ
? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ
لأَِنَّ الْحَبِيسَ هُوَ الْمَوْقُوفُ - فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُول -
إِذِ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ
بَيْعُهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يُوجِبُ زَوَال
الرَّقَبَةِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - الأَْصْل فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ
إِلَيْهَا، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى فِي حَالاَتٍ
مُعَيَّنَةٍ: فَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ فَرْضًا وَهُوَ الْوَقْفُ
الْمَنْذُورُ كَمَا لَوْ قَال: إِنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ
هَذِهِ الدَّارَ عَلىَ ابْنِ السَّبِيل (2) ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا
إِذَا كَانَ بِلاَ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَلِذَا يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ
وَلاَ ثَوَابَ لَهُ، وَيَكُونُ قُرْبَةً إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِ (3)
.
وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ حَرَامًا كَمَا لَوْ وَقَفَ مُسْلِمٌ عَلَى
مَعْصِيَةٍ كَوَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 219. .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 358، 359، ومنح الجليل 4 / 34. .
(3) ابن عابدين 3 / 358، 359، والبحر الرائق 5 / 206. .
(44/112)
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا مَا قَالَهُ
بَعْضُ الْمْالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا
وَذَلِكَ كَالْوَقْفِ عَلِى الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّهُ
يُشْبِهُ فِعْل الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حِرْمَانِ الْبَنَاتِ مِنْ إِرْثِ
أَبِيهِمْ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ فَيَمْضِي الْوَقْفُ،
وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَل، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ
أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى
التَّنْزِيهِ (1) .
أَرْكَانُ الْوَقْفِ:
أَرْكَانُ الْوَقْفِ عِِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَرْبَعَةٌ:
الصِّيغَةُ، وَالْوَاقِفُ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَالْمَوْقُوفُ،
أَمَّا عِِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرُّكْنُ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ (2) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَ
بِالإِْيجَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول لاِنْعِقَادِهِ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 79، وحاشية الْعَدَوِيّ على الخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج
2 / 380، وكشاف القناع 4 / 246، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 360. .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 359، والخرشي 7 / 78، والشرح
الصغير 2 / 298 ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 376، وشرح منتهى الإرادات 2 /
490. .
(44/112)
أ - صِيغَةُ الإِْيجَابِ:
10 - الإِيجَابُ فِي صِيغَةِ الْوَقْفِ هُوَ مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ
الْوَاقِفِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ
مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَيَخْتَلِفُ
الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ صَرِيحًا مِنَ الأَْلْفَاظِ وَمَا
يُعَتَبَرُ كِنَايَةً. وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ " وَقَفْتُ " مِنَ الأَْلْفَاظِ
الصَّرِيحَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ
لاِشْتِهَارِهِ لُغَةً وَعُرْفًا (1) .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " حَبَسْتُ " مِنَ الصِّرِيحِ عِِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالْمَشْهُورِ عِِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحِ عِِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا " سَبَلْتُ " عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ
عِِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
فَمَتَى أَتَى الْوَاقِفُ بِلَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الثَّلاَثَةِ
فَقَال: وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ قَال: أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَى
كَذَا أَوْ حَبَسْتُ أَوْ سَبَلْتُ صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ
أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ
الاِسْتِعْمَال بَيْنَ النَّاسِ وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 359، والشرح الصغير 2 / 299 ط
الحلبي، والزرقاني 7 / 82، ومغني المحتاج 2 / 382، وشرح منتهى الإرادات 2 /
490، ومعونة أولي النهى 5 / 740. .
(44/113)
عُرْفُ الشَّرْعِ بِقَوْل النَّبِيِّ ?
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنْ
شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا (1) .
وَمْقَابِل الصَّحِيحِ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَفْظَيْ: حَبَسْتُ
وَسَبَلْتُ مِنَ الْكِنَايَاتِ؛ لأَِنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا اشْتِهَارَ
الْوَقْفِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " سَبَلْتُ " عِِنْدَ الْحَارِثِيِّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةٍ
مُحَرَّمَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لاَ تُبَاعُ أَوْ لاَ
تُوَهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي الأُْمِّ؛ لأَِنَّ
لَفْظَ التَّصَدُّقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ لاَ يَحْتَمِل غَيْرَ
الْوَقْفِ وَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ
كِنَايَةٌ لاِحْتِمَال التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ (2) .
أَمَّا أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ فَمِنْهَا لَفْظُ تَصَدَّقْتُ وَذَلِكَ
عِِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُجَرَّدَةً فَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ
تَصَدَّقْتُ فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَإِنْ نَوَى الْوَقْفَ لِتَرَدُّدِ
اللَّفْظِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ
الْمَوْقُوفَةِ إِلاَّ أَنْ يُضِيفَ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ
وَيَنْوِيَ الْوَقْفَ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَظَاهِرُ هَذَا
أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا حِينَئِذٍ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الرَّافِعِيِّ فِي
كُتُبِهِ
__________
(1) حديث:: " إن شئت حبست أصلها. . . . " تقدم تخرجه (فقرة 3) . .
(2) الشرح الصغير 2 / 299، والزرقاني 7 / 82، ومغني المحتاج 2 / 382، وتحفة
المحتاج 6 / 250، والمهذب 1 / 449، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490، والمغني 5
/ 602، والإنصاف 7 / 5. .
(44/113)
وَالنَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ عَدَمُ
الصَّرَاحَةِ، وَإِنَّمَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ
صَيَّرَتْهُ كِنَايَةً حَتَّى تُعْمَل فِيهِ النِّيَّةُ، وَهُوَ الصَّوَابُ
كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ، لأَِنَّ الصَّرِيحَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى
نِيَّةٍ (1) .
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا: حَرَّمْتُ وَأَبَّدْتُ وَذَلِكَ
عِِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا:
لأَِنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّ
الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَل فِي الزَّكَاةِ وَالْهِبَاتِ، وَالتَّحْرِيمَ
يُسْتَعْمَل فِي الظِّهَارِ وَالأَْيْمَانِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى
نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّأْبِيدُ يَحْتَمِل تَأْبِيدَ
التَّحْرِيمِ وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذِهِ
الأَْلْفَاظِ عُرْفُ الاِسْتِعْمَال فَلاَ يَحْصُل الْوَقْفُ
بِمُجَرَّدِهَا فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الأَْلْفَاظِ أَحَدُ
ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ حَصَل الْوَقْفُ بِهَا:
أَحَدُهَا: أَنْ يُضَمَّ عَلَيْهَا أَحَدُ أَلْفَاظٍ خَمْسَةٍ؛ وَهِيَ
الصَّرَائِحُ الثَّلاَثُ وَالْكِنَايَاتِ فَيَقُول: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً
مَوْقُوفَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحْبَسَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ
صَدَقَةً مُؤَبَّدَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُسْبَلَةً، أَوْ
تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً.
الثَّانِي: أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، فَيَقُول: صَدَقَةٌ لاَ
تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيل
الاِشْتِرَاكَ.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 299، ومغني المحتاج 2 / 382، ومنتهى الإرادات 2 /
490، والإنصاف 7 / 5. .
(44/114)
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ
فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى إِلاَّ أَنَّ النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي
الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الاِطِّلاَعِ عَلَى مَا فِي
الضَّمَائِرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ لَزِمَ فِي الْحُكْمِ
لِظُهُورِهِ، وَإِنْ قَال: مَا أَرَدْتُ الْوَقْفَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛
لأَِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ "
حَرَّمْتُ،وَأَبَّدْتُ " مِنَ الأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ لإِِفَادَةِ
الْغَرَضِ كَالتَّسْبِيل، وَلأَِنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّأْبِيدَ فِي
غَيْرِ الأَْبْضَاعِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْوَقْفِ فَحُمِل عَلَيْهِ (1)
.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا بَعْضَ الصِّيَغِ دُونَ بَيَانِ مَا
هُوَ صَرِيحٌ وَمَا هُوَ كِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَضْمُونِهِ
قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ.
أَلْفَاظُ الْوَقْفِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالأَْلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ
هِيَ:
الأَْوَّل: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى
الْمَسَاكِينِ وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، الثَّانِي: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ،
فَهِلاَلٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ
لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عَرَّفَ مَصْرِفَهُ وَانْتَفَى بِقَوْلِهِ: "
مَوْقُوُفَةٌ " احْتِمَال كَوْنِهِ نَذْرًا.
__________
(1) المغني 5 / 602 - 603، وشرح منتهى الإرادات 2 / 491، والإنصاف 7 / 5،
ومعونة أولي النهى 5 / 743، والمهذب 1 / 449، ومغني المحتاج 2 / 382، وتحفة
المحتاج 6 / 250. .
(44/114)
الثَّالِثُ: حَبْسُ صَدَقَةٍ، الرَّابِعُ:
صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَهُمَا كَالثَّانِي، الْخَامِسُ: مَوْقُوفَةٌ فَقَطْ
لاَ يَصِحُّ إِلاَّ عِِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا
بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ مَوُقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ
مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ؛ أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ
مُؤَبَّدًا لأَِنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لاَ تَنْقَطِعُ، قَال الصَّدْرُ
الشَّهِيدُ: وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ
نُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ
رَدُّ هِلاَلٍ قَوْل أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى
الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَبْطُل؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ
إِذَا كَانَ يَصْرِفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ
عَلَيْهِمْ، السَّادِسُ: مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِِنْدَ
هِلاَلٍ أَيْضًا لِزَوَال الاِحْتِمَال بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ،
السَّابِعُ: مَحْبُوسَةٌ، الثَّامِنُ: حَبْسٌ، وَهُمَا بَاطِلاَنِ، وَلَوْ
كَانَ فِي " حَبْسٌ " مِثْل هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
كَقَوْلِهِ: مَوْقُوفَةٌ، التَّاسِعُ: لَوْ قَال: هِيَ لِلسَّبِيلِ، إِنْ
تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلاَ
سُئِل فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا لأَِنَّهُ مْحْتَمِلٌ
لَفْظَهُ، أَوْ قَال: أَرَدْتُ مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ
فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ
مِيرَاثًا، ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِل، الْعَاشِرِ: جَعَلْتُهَا
لِلْفُقَرَاءِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عَمِل بِهِ وَإِلاَ سُئِل،
فَإِنْ أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ، أَوِ الصَّدَقَةَ فَهِيَ نَذْرٌ،
وَهَذَا عِِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لأَِنَّهُ أَدْنَى، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ
عِِنْدَ الاِحْتِمَال أَوْلَى، الْحَادِيَ
(44/115)
عَشَرَ: مُحَرَّمَةٌ، الثَّانِيَ عَشَرَ:
وَقْفٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِِنْدَ أَهْل الْحِجَازِ،
الثَّالِثَ عَشَرَ: حَبْسٌ مَوْقُوفَةٌ، وَهُوَ كَالاِقْتِصَارِ عَلَى
مَوْقُوفَةٍ، الرَّابِعَ عَشَرَ: جَعَلْتُ نُزُل كَرْمِي وَقْفًا، صَارَ
وَقْفًا فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ لاَ، الْخَامِسَ عَشَرَ: جَعَلْتُ غَلَّتَهُ
وَقْفًا كَذَلِكَ، السَّادِسَ عَشَرَ: مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ بِمَنْزِلَةِ
صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ، الْكُل فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَجَزَمَ فِي
الْبَزَّازِيَةِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: وَقْفٌ أَوْ مَوْقُوفَةٌ،
السَّابِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ فَقَطْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنْ لَمْ
يَتَصَدَّقْ حَتَّى مَاتَ كَانَتْ مِيرَاثًا، كَذَا فِي الْخَصَّافِ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وَجْهِ الْخَيْرِ أَوْ عَلَى
وَجْهِ الْبِرِّ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ. التَّاسِعَ عَشَرَ:
صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ فِي الْحَجِّ عَنِّي وَالْعُمْرَةِ عَنِّي يَصِحُّ
الْوَقْفُ، وَلَوْ لَمْ يَقُل عَنِّي لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ. الْعِشْرُونَ:
صَدَقَةٌ لاَ تُبَاعُ تَكُونُ نَذْرًا بِالصَّدَقَةِ لاَ وَقْفًا وَلَوْ
زَادَ " وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ " صَارَتْ وَقْفًا عَلَى
الْمَسَاكِينِ، وَالثَّلاَثَةُ فِي الإِْسْعَافِ. الْحَادِي
وَالْعِشْرُونَ: اشْتَرُوا مِنْ غَلَّةِ دَارِي هَذِهِ كُل شَهْرٍ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ خُبْزًا وَفَرِّقُوهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، صَارَتِ
الدَّارُ وَقَفًا. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ بَعْدَ وَفَاتِي
صَدَقَةٌ يُتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا، أَوْ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ
بِثَمَنِهَا، ذَكَرَهُمَا فِي الذَّخِيرَةِ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ:
أَوْصَى أَنْ يُوقَفَ ثُلُثُ مَالِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَكُونُ
لِلْفُقَرَاءِ، وَعِنْدَهُمَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَقُول لِلَّهِ
أَبَدًا كَذَا
(44/115)
فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ. الرَّابِعُ
وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الدُّكَّانُ مَوْقُوفَةٌ بَعْدَ مَوْتِي وَمُسْبَلٌ،
وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفًا لاَ يَصِحُّ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ:
دَارِي هَذِهِ مُسْبَلَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَوْتِي يَصِحُّ إِنْ
خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ وَعَيَّنَ الْمَسْجِدَ وَإِلاَّ فَلاَ. السَّادِسُ
وَالْعِشْرُونَ: سَبَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي وَجْهِ إِمَامِ مَسْجِدِ
كَذَا عَنْ جِهَةِ صَلَوَاتِي، وَصِيَامَاتِي تَصِيرُ وَقْفًا وَإِنْ لَمْ
تَقَعْ عَنْهُمَا، وَالثَّلاَثَةُ فِي الْقُنْيَةِ، السَّابِعُ
وَالْعِشْرُونَ: جَعَلْتُ حُجْرَتِي لِدُهْنِ سِرَاجِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ
يَزِدْ عَلَيْهِ صَارَتِ الْحُجْرَةُ وَقْفًا عَلَى الْمَسْجِدِ، كَمَا
قَال: وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَصْرِفَ إِلَى غَيْرِ الدُّهْنِ،
كَذَا فِي الْمُحِيطِ، الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ قَاضِيخَانُ مِنْ
كِتَابِ الْوَصَايَا: رَجُلٌ قَال: ثُلُثُ مَالِي وَقْفٌ، وَلَمْ يَزِدْ
عَلَى ذَلِكَ، قَال أَبُو نَصْرٍ: إِنْ كَانَ مَالُهُ نَقْدًا فَهَذَا
الْقَوْل بَاطِلٌ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَقْفٌ،
وَإِنْ كَانَ مَالُهُ ضِيَاعًا تَصِيرُ وَقَفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ (1) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ:
12 - كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِاللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ
اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:
أ - الإِْشَارَةُ الْمُفْهَمَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ (2) .
__________
(1) البحر الرائق 5 / 205 - 206.
(2) مغني المحتاج 2 / 381، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490، ومعونة أولي النهى
5 / 740.
(44/116)
ب - الْكِتَابَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ
الأَْخْرَسِ أَمْ مِنَ النَّاطِقِ كَالْكِتَابَةِ عَلَى أَبْوَابِ
الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَالْكُتُبِ، لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا
وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى كِتَابٍ: وَقْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبَةِ
الْعِلْمِ بِالْمَدْرَسَةِ الْفُلاَنِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً
بِالْكُتُبِ ثَبَتَتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْهُورَةً
بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ
الْوَقْفُ بِكِتَابَةِ النَّاطِقِ مَعَ نِيَّتِهِ (1) .
ج - الْفِعْل: كَمَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً
وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا أَعَدَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ
يَصِيرُ وَقْفًا وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ، وَكَمَنَ يَجْعَل أَرْضَهُ
مَقْبَرَةً وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًا بِالدَّفْنِ فِيهَا،
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
الْمَذْهَبِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ أَوِ الإِْشَارَةِ أَوِ
الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنُوا مِنِ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا
إِذَا بَنَى شَخْصٌ مَسْجِدًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ، وَنَوَى جَعْلَهُ
مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ؛
لأَِنَّ الْفِعْل مَعَ النِّيَّةِ هُنَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْقَوْل،
وَوَجَّهَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْمَوَاتَ لَمْ يَدْخُل فِي مِلْكِ مَنْ
أَحْيَاهُ مَسْجِدًا (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 299، والدسوقي 4 / 85، ومغني المحتاج 2 / 381.
(2) الشرح الصغير 2 / 299، وشرح منتهى الإرادات 2 / 49، والإنصاف 7 / 3 -
4، وحاشية ابن عابدين 3 / 369 - 370، ومغني المحتاج 2 / 381.
(44/116)
قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَقِيَاسُ ذَلِكَ
إِجْزَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا مِنَ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ
وَغَيْرِهَا (1) .
أَمَّا مَنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي مِلْكِهِ فَلاَ يَصِيرُ وَقَفًا إِلاَّ
بِالْقَوْل، قَال الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ
إِلاَّ بِالْقَوْل، فَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ أَوْ أَذِنَ
لِلنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا؛ لأَِنَّهُ إِزَالَةُ
مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ
الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ (2) .
وَقَال الرَّمْلِيُّ: لَوْ قَال: أَذِنْتُ فِي الاِعْتِكَافِ فِيهِ صَارَ
مَسْجِدًا بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي
مَسْجِدٍ بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ (3) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْوَقْفَ لاَ
يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل وَحْدَهُ (4) .
ب - الْقَبُول:
13 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول مِنَ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً لاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهَا
الْقَبُول كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، أَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ جِهَةً غَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ،
فَإِنَّ الْوَقْفَ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول وَيَكْفِي الإِْيجَابُ
فِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 381، 382.
(2) المهذب 1 / 499.
(3) مغني المحتاج 2 / 382.
(4) الإنصاف 7 / 3 - 4.
(44/117)
انْعِقَادِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي احْتِمَالٍ ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُشْتَرُطُ الْقَبُول فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى
غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَقْبَلُهُ نَائِبُ الإِْمَامِ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ مَثَلاً فَقَدِ
اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ
مِنْ أَهْل الْقَبُول، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَحْجُورًا
عَلَيْهِ مَثَلاً قَبِل عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
الْمُعَيَّنِ؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِحْقَاقِ
الْعَتِيقِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالإِْعْتَاقِ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ
إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ
يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُول (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص17، وحاشية الدسوقي 4 / 88،
وجواهر الإكليل 2 / 108، ومغني المحتاج 2 / 383، والروضة 5 / 324، والإنصاف
7 / 26، والفروع 4 / 589، ومعونة أولي النهى 5 / 780.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص17، وحاشية الدسوقي 4 / 88،
وجواهر الإكليل 2 / 108، ومغني المحتاج 2 / 383، والروضة 5 / 324، وتحفة
المحتاج 6 / 251، والمغني 5 / 600، 601، والإنصاف 7 / 27، وكشاف القناع 4 /
252، ومعونة أولي النهى 5 / 780 - 781.
(44/117)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى
الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ الْقَبُول مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ
كَمَا فِي الأَْصَحِّ - أَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى الْفَوْرِ عَقِبَ
الإِْيجَابِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ حَاضِرًا،
فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلاَ تُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول
عَقِبَ الإِْيجَابِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْقَبُول عَقِبَ بُلُوغِ
الْخَبَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ طَال الزَّمَنُ. قَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ:
وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ هَل يَكْفِي قَبُول الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ أَوْ لاَ يَكْفِي؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ
الْقَبُول لإِِلْحَاقِهِمُ الْوَقْفَ بِالْعُقُودِ دُونَ الْوَصِيَّةِ (1)
.
وَقَال الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ اتِّصَال الْقَبُول
بِالإِْيجَابِ فَإِنْ تَرَاخَى عَنْهُ بَطَل كَمَا يَبْطُل فِي الْبَيْعِ
وَالْهِبَةِ، لَكِنْ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إِذَا اشْتُرِطَ
الْقَبُول عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ
يُشْتَرَطَ الْمَجْلِسَ، بَل يُلْحَقُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ،
فَيَصِحُّ مُعَجَّلاً وَمُؤَجَّلاً بِالْقَوْل وَالْفِعْل، فَأَخْذُ
رِيْعِهِ قَبُولٌ، وَتَصَرُّفُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ يَقُومُ
مَقَامَ الْقَبُول بِالْقَوْل (2) .
رَدُّ الْمَوْقُوفِ:
14 - الرَّدُّ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا رَدَّ وَلَمْ يَقْبَل مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَقَدْ
قَال الْحَنَفِيَّةُ:: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ لَشَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 369، ومغني المحتاج 2 / 383.
(2) الإنصاف 7 / 28، والاختيارات الفقهية ص173.
(44/118)
لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ قَبِلَهُ كَانَتِ
الْغَلَّةُ لَهُ، وَإِنْ رَدَّهُ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَيَصِيرُ
كَأَنَّهُ مَاتَ، وَمَنْ قَبِل مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ
بَعْدَهُ، وَمَنْ رَدَّهُ أَوَّل مَرَّةٍ لَيْسَ لَهُ الْقَبُول بَعْدَهُ
(1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَدَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ
الْمُعَيَّنَ فَالْمَنْقُول فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا فِي ابْنِ شَاسٍ
وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا لِلإِْمَامِ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَكُونُ
وَقْفًا عَلَى غَيْرِ مَنْ رَدَّهُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا إِذَا
جَعَلَهُ الْوَاقِفُ حَبْسًا مُطْلَقًا، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ
الْمُعَيِّنُ بِخُصُوصِهِ فَرَدَّ، فَإِنَّهُ يَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِمُطَرِّفٍ:: وَهُوَ أَنَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا
لِلْوَاقِفِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:: لَوْ رَدَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ
الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بَطَل حَقُّهُ، سَوَاءً اشْتَرَطَ الْقَبُول مِنَ
الْمُعَيِّنِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ
يَعُدْ لَهُ، لَكِنْ قَال الرُّويَانِيُّ:: إِنْ رَجَعَ قَبْل حُكْمِ
الْحَاكِمِ بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ
لِغَيْرِهِ بَطَل حَقُّهُ، وَهَذَا فِي الْبَطْنِ الأَْوَّل، أَمَّا
الْبَطْنُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَنَقَل الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لاَ
يَتَّصِل بِالإِْيجَابِ، وَنَقَلاَ فِي ارْتِدَادِهِ بِرَدِّهِمْ
وَجْهَيْنِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص17.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 88، والشرح الصغير 2 / 300.
(3) روضة الطالبين 5 / 324، 325، ومغني المحتاج 2 / 383.
(44/118)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول فِي الْوَقْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى
ذَلِكَ فَلاَ يَبْطُل الْوَقْفُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِرَدِّهِ، فَقَبُولُهُ
وَرَدُّهُ سَوَاءٌ، وَقَال أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ
كَالْوَكِيل إِذَا رَدَّ الْوَكَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا
الْقَبُول، وَعَلَى الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ الْقَبُول فَإِنْ رَدَّهُ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَطَل فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ (1) . قَال
ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ قُلْنَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول فَرَدَّهُ
مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بَطَل فِي حَقِّهِ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ
الْمُنْقَطِعِ الاِبْتِدَاءِ، يَخْرُجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ
سِوَاهُ وَبُطْلاَنِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ،
فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ فَهَل يَنْتَقِل فِي الْحَال إِلَى مَنْ
بَعْدَهُ أَوْ يُصْرَفُ فِي الْحَال إِلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ
الْمُنْقَطِعِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى
مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (2) .
لُزُومُ الْوَقْفِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِ الْوَقْفِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْوَقْفَ مَتَى صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ مُسْتَكْمِلاً
شَرَائِطَهُ أَصْبَحَ لاَزِمًا، وَانْقَطَعَ حَقُّ
__________
(1) الإنصاف 7 / 27، 28، وكشاف القناع 4 / 252، والمغني 5 / 601، ومعونة
أولي النهى 5 / 780.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 601.
(44/119)
الْوَاقِفِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ
الْمَوْقُوفَةِ بِأَيِّ تَصَرُّفٍ يُخِل بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْوَقْفِ،
فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، وَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ
يُورَثُ (1) (وَلأَِنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ
وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ مِنَ
الْوَاقِفِ كَالْعِتْقِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ
مُطْلَقٌ، وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ،
فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى. .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَقْفُ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ - كَمَا سَبَقَ
- وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ حَال حَيَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ
وَيُورِثُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ بِأَحَدِ
أَمْرَيْنِ:: أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ
الْوَصِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ اللُّزُومُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ
نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: وَالْحَقُّ تَرْجِيحُ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
بِلُزُومِهِ؛ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ وَالآْثَارَ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى
ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَمَل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَتَرَجَّحَ قَوْلُهُمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ
إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ؛ لأَِنَّهُ
تَبَرُّعٌ
__________
(1) حديث: " تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 392) .
(44/119)
بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ
الْمَالِيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ كَالْهِبَةِ
وَالْوَصِيَّةِ (1) .
قَبْضُ الْمَوْقُوفِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ لِتَمَامِ
الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ؛
لأَِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجٌ لَهُ
عَنْ مِلْكِهِ إِلَى الْوَقْفِ فَأَشْبَهَ الإِْعْتَاقَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لاَ يَتِمُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ،
كَالصَّدَقَةِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ، وَيُعَبِّرُ
الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ بِالْحَوْزِ، قَال الْخَرَشِيُّ: إِذَا
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَبِيرٍ وَلَمْ يَحُزْهُ قَبْل مَوْتِ الْوَاقِفِ،
أَوْ قَبْل فَلَسِهِ، أَوْ قَبْل مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنَّ
الْحَبْسَ يَبْطُل، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا فَإِنَّ
وَلِيَّهُ يَحُوزُ عَنْهُ، وَالْحَوْزُ - أَيِ الْقَبْضُ - إِمَّا أَنْ
يَكُونَ حِسِّيًّا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 358، 367، والإسعاف ص3، 4، وحاشية
الدسوقي 4 / 75، وحاشية الْعَدَوِيّ بهامش الخرشي 7 / 84، وروضة الطالبين 5
/ 342، والمهذب 1 / 449، وكشاف القناع 4 / 254، 292، والمغني 5 / 600،
ومعونة أولي النهى 5 / 777.
(44/120)
لِلْمَوْقُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
حُكْمِيًّا، وَذَلِكَ بِتَخْلِيَةِ الْوَاقِفِ لِلْمَوْقُوفِ وَرَفْعِ
يَدِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي وَقْفِ مِثْل الْمَسْجِدِ وَالْقَنْطَرَةِ
وَالْبِئْرِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ (1) .
وَإِنَّمَا يَبْطُل الْوَقْفُ قَبْل الْحَوْزِ إِذَا حَصَل الْمَانِعُ مِنْ
مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ أَوْ مَرَضِ مَوْتٍ إِذَا لَمْ يُطَّلَعْ عَلَى
الْوَقْفِ إِلاَّ بَعْدَ حُصُول الْمَانِعِ. وَلِذَلِكَ قَال الْعَدَوِيّ:
لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْل حُصُول الْمَرَضِ أَوِ الْفَلَسِ أَوِ
الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّحْوِيزِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَإِذَا
أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ
الْوَقْفَ يَلْزَمُ بِالْقَوْل (2) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْبُطْلاَنِ عَدَمُ التَّمَامِ لاَ
حَقِيقَتُهُ (3) .
وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ
بِالتَّسْلِيمِ، وَتَسْلِيمِ كُل شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ: فَفِي
الْمَسْجِدِ بِالإِْفْرَازِ وَالصَّلاَةِ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ
بِدَفْنٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا، وَفِي السِّقَايَةِ بِشُرْبٍ وَاحِدٍ، وَفِي
الْخَانِ بِنُزُولٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَارَّةِ، لَكِنَّ السِّقَايَةَ
الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى صَبِّ الْمَاءِ فِيهَا، وَالْخَانَ الَّذِي
يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ بِمَكَّةَ وَالْغُزَاةُ بِالثَّغْرِ لاَ بُدَّ
فِيهِمَا مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 364، والإسعاف ص15، والخرشي 7 / 84، والروضة 5 /
342، وكشاف القناع 4 / 254، وشرح المنتهى 2 / 514، ومعونة أولي النهى 5 /
777.
(2) حاشية الْعَدَوِيّ بهامش الخرشي 7 / 84.
(3) الخرشي 7 / 84.
(44/120)
التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُتَوَلِّي؛ لأَِنَّ
نُزُولَهُمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَيُحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ
بِمَصَالِحِهِ وَإِلَى مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ فِيهَا (1) .
الرُّجُوعُ فِي الْوَقْفِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مَتَى أَصْبَحَ لاَزِمًا
فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُرْهَنُ وَلاَ
يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ
شَرَطَ حِينَ الْوَقْفِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ
لَهُ الْخِيَارَ، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَلاَ الْوَقْفُ،
فَيَكُونُ الْوَقْفُ بَاطِلاً، وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ
وَيَبْطُل الشَّرْطُ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ قَال: وَقَفْتُ
بِشَرْطِ أَنِّي أَبِيعُهُ أَوْ أَرْجِعُ فِيهِ مَتَى شِئْتُ فَبَاطِلٌ،
وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى كَالْعِتْقِ، أَوْ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ
وَالْهِبَة، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَذَا شَرْطٌ مُفْسِدٌ، لَكِنْ فِي
فَتَاوَى الْقَفَّال: أَنَّ الْعِتْقَ لاَ يَفْسُدُ بِهَذَا الشَّرْطِ،
وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ
وَالسِّرَايَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 364.
(44/121)
الْمَوْقُوفَ مَتَى شَاءَ أَوْ يَهَبَهُ
أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَلاَ الْوَقْفُ؛ لأَِنَّهُ
يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ
وَيَصِحَّ الْوَقْفُ بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ،
وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْوَقْفِ فَسَدَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ
لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ،
وَلأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ
الْخِيَارِ فِيهِ كَالْعَقْدِ (1) .
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ
الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ حِينَ الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ
مَعْلُومَةً كَأَنْ قَال: وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي
بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ
الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَمَامُ الْقَبْضِ
عِنْدَهُ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: الْوَقْفُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ
تَمَامُ الْقَبْضِ لِيَنْقَطِعَ حَقُّ الْوَاقِفِ، وَبِاشْتِرَاطِ
الْخِيَارِ يَفُوتُ هَذَا الشَّرْطُ، وَاخْتَارَ هِلاَلٌ قَوْل مُحَمَّدٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ
وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْل يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ؛
لأَِنَّ الْوَقْفَ كَالإِْعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إِزَالَةُ الْمِلْكِ لاَ
إِلَى مَالِكٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَبَطَل
الشَّرْطُ، فَكَذَا يَجِبُ هَذَا.
__________
(1) الروضة 5 / 328، 329، ومغني المحتاج 2 / 385، والمغني 5 / 606،
والإنصاف 7 / 25.
(44/121)
وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ
مَجْهُولَةً، بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ دُونَ تَحْدِيدِ
مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَالْوَقْفُ وَالشَّرْطُ بَاطِلاَنِ بِالاِتِّفَاقِ،
هَكَذَا ذَكَرَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، لَكِنَّ
الطَّرَابُلُسِيَّ ذَكَرَ فِي الإِْسْعَافِ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ
السَّمْتِيَّ قَال: الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ عَلَى كُل حَالٍ
(1) .
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ حِينَ الْوَقْفِ: عَلَى أَنَّ لِي إِبْطَالَهُ أَوْ
بَيْعَهُ أَوْ رَهْنَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ لِفُلاَنٍ أَوْ لِوَرَثَتِي أَنْ
يُبْطِلُوهُ أَوْ يَبِيعُوهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَانَ الْوَقْفُ
بَاطِلاً عَلَى قَوْل الْخَصَّافِ وَهِلاَلٍ، وَجَائِزًا عَلَى قَوْل
يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ لإِِبْطَالِهِ الشَّرْطَ بِإِلْحَاقِهِ
إِيَّاهُ بِالْعِتْقِ (2) .
وَمَا مَرَّ مِنَ الْخِلاَفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ
أَوِ الْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حِينَ الْوَقْفِ،
إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا فِي وَقْفِ
الْمَسْجِدِ لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوِ اشْتَرَطَ
إِبْطَالَهُ أَوْ بَيْعَهُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَل الشَّرْطُ بِاتِّفَاقٍ
(3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْوَقْفُ وَلَوْ
لَمْ يَحُزْ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَاقِفُ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِ
__________
(1) فتح القدير 6 / 229، 230، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360،
والإسعاف ص28.
(2) الإسعاف ص29، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص28.
(44/122)
لاَ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ
يَحُزْ عَنْهُ أُجْبِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَوْ
قَال الْوَاقِفُ: وَلِيَ الْخِيَارُ كَمَا قَال ابْنُ الْحَاجِبِ، وَبَحَثَ
فِيهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَفَّى لَهُ
بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالُوا: أَنَّهُ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ إِذَا شَرَطَ
أَنَّهُ إِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهِ قَاضٍ رَجَعَ لَهُ، وَأَنَّ مَنِ احْتَاجَ
مِنَ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِمْ بَاعَ (1) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ الرُّجُوعَ أَوِ
الْبَيْعَ إِنِ احْتَاجَ لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ (2) .
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: التَّنْجِيزُ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّنْجِيزِ فِي الصِّيغَةِ،
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ
صِيغَةُ الْوَقْفِ مُنْجَزَةً، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً
عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ غَيْرِ كَائِنٍ، فَإِذَا قَال الْوَاقِفُ:
إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا لاَ يَصِحُّ
الْوَقْفُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْل الْمِلْكِ فِي
الْحَال لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ
تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، لَكِنْ يَجُوزُ
تَعْلِيقُهُ بِكَائِنٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَال، أَيْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 75، وجواهر الإكليل 2 / 208.
(2) الشرح الكبير 4 / 82.
(44/122)
بِأَمْرٍ مُتَحَقِّقِ الْوُجُودِ، وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ قَال: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ
الأَْرْضُ مِلْكِي فَهِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي
مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ صَحَّ الْوَقْفُ وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ
التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ الْكَائِنِ تَنْجِيزٌ.
لَكِنْ يُسْتَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ عَلَى
الْمَوْتِ، كَمَا إِذَا قَال: إِنْ مُتُّ فَأَرْضِي هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ
عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ
مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً بِالْوَقْفِ، وَعِنْدَئِذٍ
يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ
كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ
بِالْمَوْتِ وَاعْتِبَارِهِ وَصِيَّةً أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَصَّى فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ: " هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ
عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ أَنَّ
ثَمْغًا صَدَقَةٌ " (1) (، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ وَلَمْ
يُنْكَرْ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ صِيغَةَ
الْوَقْفِ تَقْبَل التَّعْلِيقَ وَأَنَّ التَّنْجِيزَ لَيْسَ شَرْطًا
__________
(1) ثمغ بالفتح مال بالمدينة لعمر وقفه (القاموس المحيط) ، وأثر عمر في ذكر
وصيته أخرجه أبو داود (3 / 299 - 300) وصححه إسناده ابن حجر في التلخيص (3
/ 162 - ط العلمية) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 362، والإسعاف ص35، ومغني
المحتاج 2 / 385، والمهذب 1 / 448، ورح منتهى الإرادات 2 / 496، وكشاف
القناع 4 / 250 - 251، والإنصاف 7 / 23.
(44/123)
لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَلَوْ قَال
الْوَاقِفُ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَدَارِي هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى كَذَا صَحَّ
الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّأْبِيدُ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَأْبِيدِ الْوَقْفِ عَلَى
رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ
لِصِحَّةِ الْوَقْفِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ لاَ إِلَى
حَدٍّ فَلاَ يُحْتَمَل التَّوْقِيتُ كَالإِْعْتَاقِ، وَجَعْل الدَّارِ
مَسْجِدًا. إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ
التَّأْبِيدِ لَفْظًا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ - وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ -
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ التَّأَبِيدِ
لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ سَوَاءٌ ذُكِرَ التَّأْبِيدُ لَفْظًا
أَوْ مَعْنًى، كَأَنْ وَقَفَهُ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ كَالْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ
هَذَا الشَّرْطُ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، وَلأَِنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ
يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ
مِنْ حَالِهِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلاَلَةً،
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 87، وشرح الخرشي على مختصر خليل
7 / 91، والإنصاف 7 / 23.
(44/123)
وَالثَّابِتُ دَلاَلَةً كَالثَّابِتِ
نَصًّا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الْوَقْفِ أَنْ يُنَصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفٍ وَقَّتَهُ
الْوَاقِفُ بِشَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ
الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ مُؤَبَّدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ. وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ
لاَ يَصِحُّ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَيَصِحُّ
الْوَقْفُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً (1) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْوَاقِف:
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَاقِفِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: كَوْنُ الْوَاقِفِ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ:
20 - الْوَقْفُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 356، وبدائع الصنائع 6 / 220، وحاشية ابن عابدين 3
/ 365 - 367، ومغني المحتاج 2 / 382 - 383، وتحفة المحتاج 6 / 252 - 253،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 497، والكافي لابن قدامة 2 / 449 - 450، والإنصاف
7 / 35، والفروع 4 / 588، ومعونة أولي النهى 5 / 783، وحاشية الدسوقي 4 /
87، والخرشي 7 / 91، وجواهر الإكليل 2 / 208.
(44/124)
الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً
لِلتَّبَرُّعِ (1) .
وَتَتَحَقَّقُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ بِمَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مُكَلَّفًا، أَيْ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً
بَالِغًا فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لأَِنَّ
الْوَقْفَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُزِيل الْمِلْكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ،
وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْل هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ
(2) .
ب - أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنَ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ
الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ (3)
.
ج - أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا، فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُكْرَهِ (4) .
د - أَلاَّ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ؛ لأَِنَّ
الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْل
التَّبَرُّعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَنَقَل ابْنُ
عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ إِذَا
وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ يَنْبَغِي أَنْ
__________
(1) البدائع 6 / 219، وحاشية ابن عابدين 3 / 359، وحاشية الدسوقي 4 / 77،
ومغني المحتاج 2 / 377، وكشاف القناع 4 / 251.
(2) البدائع 6 / 219، والشرح الصغير 2 / 298، ونهاية المحتاج 5 / 356،
وكشاف القناع 4 / 240.
(3) البدائع 6 / 219، والشرح الصغير 2 / 298، ومغني المحتاج 2 / 377، وكشاف
القناع 4 / 240، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 377.
(44/124)
يَصِحَّ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَعِنْدَ الْكُل إِذَا حَكَمَ بِهِ
حَاكِمٌ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عَلَى أَنَّ وَقْفَ
الْمُفْلِسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ
فَاضِلاً عَنِ الدَّيْنِ (1) .
أَمَّا وَقْفُ الْمَدِينِ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ إِلَى
أَنَّ الْمَدِينَ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ يَصِحُّ وَقْفُهُ وَلَوْ
كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ إِذَا كَانَ فِي حَال الصِّحَّةِ، قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ قَصَدَ بِهِ الْمُمَاطَلَةَ لأَِنَّهُ صَادَفَ
مِلْكَهُ كَمَا فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِل عَنِ الذَّخِيرَةِ، قَال فِي
الْفَتْحِ: وَهُوَ لاَزِمٌ لاَ يَنْقُضُهُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إِذَا
كَانَ قَبْل الْحَجْرِ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ
حَقُّهُمْ بِالْعَيْنِ فِي حَال صِحَّتِهِ، وَبِهِ أَفْتَى فِي
الْخَيْرِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَفْتَى بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ.
وَفِيَ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْمَدِينُ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ
لَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَشَرَطَ وَفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ غَلَّتِهِ
صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ يُوَفَّى مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ
بِلاَ سَرَفٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ إِذَا فَضَل مِنْ غَلَّةِ
الْوَقْفِ شَيْءٌ عَنْ قُوتِهِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ؛
لأَِنَّ الْغَلَّةَ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى غَيْرِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 359، والشرح الصغير 2 / 298، ومغني المحتاج 2 /
148، والمغني 4 / 486.
(44/125)
فَغَلَّتُهُ لِمَنْ جَعَل لَهُ خَاصَّةً.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَقْفِ الْمَدِينِ،
فَقَدْ نَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ مَعْرُوضَاتِ الْمُفْتِي
أَبِي السُّعُودِ أَنَّهُ سُئِل عَمَّنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَهَرَبَ
مِنَ الدُّيُونِ هَل يَصِحُّ؟ فَأَجَابَ: لاَ يَصِحُّ وَلاَ يَلْزَمُ،
وَالْقُضَاةُ مَمْنُوعُونَ مِنَ الْحُكْمِ وَتَسْجِيل الْوَقْفِ
بِمِقْدَارِ مَا شُغِل بِالدَّيْنِ (1) .
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ بَعْدَ
الدَّيْنِ أَوْ قَبْلَهُ، وَبَيْنَ حَوْزِ الْمَوْقُوفِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ
كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ
بَاطِلاً، وَيُبَاعُ لِلدَّيْنِ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ عَلَى
التَّبَرُّعِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ سَابِقًا عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ قَدْ حَازَ الْمَوْقُوفَ قَبْل حُصُول الدَّيْنِ
كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحًا وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِذِمَّةِ الْوَاقِفِ،
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحُزِ الْوَقْفَ حَتَّى حَصَل
الدَّيْنُ فَلِلْغَرِيمِ إِبْطَال الْوَقْفِ، أَيْ عَدَمُ إِتْمَامِهِ
وَأَخْذِهِ فِي دَيْنِهِ، وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ لأَِنَّ
الْحَقَّ لَهُ.
وَإِنْ جَهِل سَبْقَ أَحَدِهِمَا، أَيْ جَهِل سَبْقَ الْوَقْفِ عَلَى
الدَّيْنِ أَوْ سَبْقَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ
الْمَوْقُوفُ قَدْ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ وَحَازَهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 395، وفتح القدير 6 / 208.
(44/125)
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ كَانَ الْوَقْفُ
بَاطِلاً يُبَاعُ لِلدَّيْنِ، وَإِنْ وَقَفَ شَخْصٌ عَلَى مَحْجُورِهِ
وَحَصَل الدَّيْنُ بَعْدَ الْوَقْفِ وَحَازَهُ الأَْبُ لِمَحْجُورِهِ قَبْل
حُصُول الدَّيْنِ - أَيِ اسْتَمَرَّ الْمَوْقُوفُ تَحْتَ يَدِ الْوَاقِفِ -
فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا، لَكِنْ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: وَهِيَ
أَنْ يُشْهِدَ الْوَاقِفُ عَلَى الْوَقْفِ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْغَلَّةَ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ دَارًا
يَسْكُنُهَا الْوَاقِفُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَا وَقَفَهُ الْوَاقِفُ عَلَى
مَحْجُورِهِ مُشَاعًا وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ حِصَّةٌ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ
تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ أَحَدُهَا كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلاً.
أَمَّا إِنْ وَقَفَ عَلَى مَحْجُورِهِ وَجَهِل سَبْقَ الدَّيْنِ عَلَى
الْوَقْفِ أَوْ سَبْقَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّيْنِ وَتَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ
مِنَ الإِْشْهَادِ وَصَرْفِ الْغَلَّةِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ
الْمَوْقُوفِ غَيْرَ دَارِ سُكْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ بَاطِلاً
إِذَا حَازَ الأَْبُ لِمَحْجُورِهِ، وَيُبَاعُ لِلدَّيْنِ تَقْدِيمًا
لِلْوَاجِبِ عَلَى التَّبَرُّعِ لِضَعْفِ الْحَوْزِ، أَمَّا لَوْ حَازَهُ
لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الأَْبِ فِي صِحَّتِهِ
فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَدِينِ
الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَا فَعَلَهُ
الْمُفْلِسُ قَبْل حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ نَافِذٌ؛
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 80 - 82.
(44/126)
لأَِنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ
عَلَيْهِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ (1) .
وَقَال الْبَهُوتِيُّ: تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ فِي مَالِهِ قَبْل الْحَجْرِ
عَلَيْهِ صَحِيحٌ نَصًّا لَوِ اسْتَغْرَقَ دَيْنُهُ جَمِيعَ مَالِهِ؛
لأَِنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ
الْحَجْرُ فَلاَ يَتَقَدَّمُ سَبَبُهُ، وَيَحْرُمُ إِنْ أَضَرَّ
بِغَرِيمِهِ، ذَكَرَهُ الآْمِدِيُّ الْبَغْدَادِيُّ (2) .
وَقْفُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
21 - الْوَقْفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فِي
حَقِّ نُفُوذِهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ
وَارِثٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ. فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ
وَارِثٍ كَأَنْ يَقِفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَا وَقَفَهُ لاَ
يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ صَارَ الْوَقْفُ لاَزِمًا، وَيُعْتَبَرُ
فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ
تَبَرُّعٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ جَازَ مِنْ
غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ
ثُلُثِ مَال الْوَاقِفِ تَوَقَّفَ لُزُومُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ،
فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ الْوَقْفُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ
نَفَذَ فِي الثُّلُثِ فَقَطْ، وَبَطَل فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛
لأَِنَّ حَقَّ
__________
(1) المغني 4 / 485 - 486، ومغني المحتاج 2 / 147 - 148.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 278.
(44/126)
الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَال بِوُجُودِ
الْمَرَضِ فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، وَهَذَا مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَةِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ
وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ فَأَقَل صَحَّ الْوَقْفُ، سَوَاءٌ
أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا، وَإِنْ كَانَ
الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ تَوَقَّفَ الزَّائِدُ عَنِ
الثُّلُثِ عَلَى إِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَجَازَ وَقْفُ جَمِيعِ
التَّرِكَةِ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَمَنْ رَدَّ مِنْهُمُ اعْتُبِرَ
وَارِثًا بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ فَرْضًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، (، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ فِي قِسْمَةِ الْغَلَّةِ، بَيَانُهُ كَالآْتِي: قَال
الْحَنَفِيَّةُ: امْرَأَةٌ وَقَفَتْ مَنْزِلاً فِي مَرَضِهَا عَلَى
بَنَاتِهَا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِنَّ عَلَى أَوْلاَدِهِنَّ وَأَوْلاَدِ
أَوْلاَدِهِنَّ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا
فَلِلْفُقَرَاءِ، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا وَخَلَّفَتْ بِنْتَيْنِ
وَأُخْتًا لأَِبٍ، وَالأُْخْتُ لاَ تَرْضَى بِمَا صَنَعَتْ وَلاَ مَال
لَهَا سِوَى الْمَنْزِل جَازَ الْوَقْفُ فِي الثُّلُثِ وَلَمْ يَجُزْ فِي
الثُّلُثَيْنِ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ
سِهَامِهِمْ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ وَقْفًا، وَمَا خَرَجَ مِنْ غَلَّتِهِ
يُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ عَلَى قَدْرِ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 211، والإسعاف ص35، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4
/ 78، 82، 91، والمغني 5 / 627، ومغني المحتاج 2 / 377 و3 / 47، 50، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 525.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 363، 394، والبحر الرائق 5 / 210، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 525.
(44/127)
سِهَامِهِمْ مُدَّةَ حَيَاةِ
الْبِنْتَيْنِ، فَإِذَا مَاتَتَا صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى أَوْلاَدِهِمَا
وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِمَا كَمَا شَرَطَتِ الْوَاقِفَةُ، لاَ حَقَّ
لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالْحَاصِل أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا وَقَفَ عَلَى
بَعْضِ وَرَثَتِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ ثُمَّ عَلَى
الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ الآْخَرُ كَانَ الْكُل وَقْفًا
وَاتَّبَعَ الشَّرْطَ وَإِلاَّ (أَيْ وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ
الآْخَرُ) كَانَ الثُّلُثَانِ مِلْكًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالثُّلُثُ
وَقْفًا، مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْبَعْضِ لاَ تَنْفُذُ فِي شَيْءٍ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْوَارِثِ؛ لأَِنَّهُ بَعْدَهُ لِغَيْرِهِ،
فَاعْتُبِرَ الْغَيْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الثُّلُثِ، وَاعْتُبِرَ
الْوَارِثُ بِالنَّظَرِ إِلَى غَلَّةِ الثُّلُثِ الَّذِي صَارَ وَقْفًا،
فَلاَ يُتْبَعُ الشَّرْطُ مَا دَامَ الْوَارِثُ حَيًّا، وَإِنَّمَا
تُقْسَمُ غَلَّةُ هَذَا الثُّلُثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا انْقَرَضَ الْوَارِثُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
اعْتُبِرَ شَرْطُهُ فِي غَلَّةِ الثُّلُثِ (2) .
وَلَوْ وَقَفَ رَجُلٌ فِي مَرَضِهِ دَارًا لَهُ عَلَى ثَلاَثِ بَنَاتٍ لَهُ
وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُنَّ فَالثُّلُثُ مِنَ الدَّارِ وَقْفٌ،
وَالثُّلُثَانِ مُطْلَقٌ يَصْنَعْنَ بِهِمَا مَا شِئْنَ، قَال الْفَقِيهُ
أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُجِزْنَ، أَمَّا إِذَا أَجَزْنَ صَارَ
الْكُل وَقْفًا عَلَيْهِمْ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ دَارًا لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهَا عَلَى
ابْنِهِ وَبِنْتِهِ بِالسَّوِيَّةِ فَرَدَّا، فَثُلُثُهَا وَقْفٌ
بَيْنَهُمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 362، والبحر الرائق 5 / 210.
(2) البحر الرائق 5 / 210، وحاشية ابن عابدين 3 / 363.
(3) البحر الرائق 5 / 210.
(44/127)
بِالسَّوِيَّةِ وَلاَ يُحْتَاجُ
لإِِجَازَةٍ، وَثُلُثَاهَا مِيرَاثٌ، وَإِنْ رَدَّ الاِبْنُ وَحْدَهُ
فَلَهُ ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُهُمَا وَقْفًا،
وَإِنْ رَدَّتِ الْبِنْتُ وَحْدَهَا فَلَهَا ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا
وَلِلاِبْنِ نِصْفُهُمَا وَقْفًا وَسُدُسُهُمَا إِرْثًا لِرَدِّ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (1) .
وَلَوْ وَصَّى بِوَقْفِ ثُلُثِهِ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ صَحَّ مُطْلَقًا
سَوَاءً أَجَازَ ذَلِكَ بَاقِي الْوَرَثَةِ أَوْ رَدُّوهُ فِي الصِّحَّةِ
أَوْ فِي الْمَرَضِ نَصًّا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُورَثُ وَلاَ
يُمْلَكُ مِلْكًا تَامًّا لِتَعَلُّقِ حَقِّ مَنْ يَأْتِي مِنَ الْبُطُونِ
بِهِ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ
إِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا لَمْ يُنَفَّذِ
الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا وَالْوَقْفُ
عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ رَدَّهُ إِذَا
كَانَ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ عَلَى نَفْسِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ
بِمَرَضِ مَوْتِهِ بَطَل وَلَوْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ وَلَوْ حَازَهُ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ وَلاَ وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ، إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ لَهُ بِقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ
أَجَازُوهُ لَمْ يَبْطُل؛ لأَِنَّهُ ابْتِدَاءُ وَقْفٍ مِنْهُمْ (3) ،
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ جَوَازِ
الْوَقْفِ عَلَى الْوَارِثِ مَسْأَلَةً تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ وَلَدِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 525.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 541.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 82.
(44/128)
الأَْعْيَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ فِي
مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى أَوْلاَدِهِ لِصُلْبِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ
وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ يَصِحُّ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّ
الْوَارِثَ يُعْتَبَرُ كَالْمِيرَاثِ فِي الْقِسْمَةِ لِلذَّكَرِ مِثْل
حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ لاَ مِيرَاثٌ حَقِيقِيٌّ، فَلاَ يَتَصَرَّفُونَ
فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ بِأَيْدِيهِمْ وَقْفٌ لاَ مِلْكٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا
الْمِثَال ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ لِصُلْبِهِ وَأَرْبَعَةُ أَوْلاَدِ
أَوْلاَدٍ، وَتَرَكَ مَعَ ذَلِكَ أُمًّا وَزَوْجَةً وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ
فِي الْوَقْفِ، فَيُقْسَمُ الْوَقْفُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ
عَلَى أَوْلاَدِهِ الثَّلاَثَةِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ الأَْرْبَعَةِ،
يَخُصُّ أَوْلاَدَهُ الثَّلاَثَةَ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ وَيُشَارِكُهُمْ
فِيهَا الأُْمُّ وَالزَّوْجَةُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَرِثُ، فَيَكُونُ
لِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَهَذَا مِنْ نَصِيبِ
أَوْلاَدِهِ الثَّلاَثَةِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ
لأَِوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ حَسَبَ
شَرْطِ الْوَاقِفِ مِنْ تُفَاضِلٍ وَتَسْوِيَةٍ، وَمَا خَصَّ أَوْلاَدَهُ
الثَّلاَثَةَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَيَدْخُل
مَعَهُمْ فِي نَصِيبِهِمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَلِكَوْنِهِ
وَقْفًا مُعَقَّبًا لَمْ يَبْطُل مَا نَابَ الأَْوْلاَدُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
غَيْرِهِمْ بِهِ، وَلِكَوْنِهِمْ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ فِي
الْمَرَضِ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَعَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ
وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يُقْسَمُ عَلَى رُءُوسِ الْجَمِيعِ
ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا نَابَ الْوَرَثَةَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَمَا نَابَ أَوْلاَدَ الأَْوْلاَدِ يُقْسَمُ عَلَى حَسَبِ
شَرْطِ الْوَاقِفِ. .
(44/128)
وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاقِفُ عَقِبًا
كَأَنْ قَال: وَقْفٌ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي بَطَل
الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ وَصَحَّ عَلَى أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ،
فَالتَّعْقِيبُ شَرْطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَتُقْسَمُ ذَاتُ
الْوَقْفِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ، فَمَا نَابَ
الأَْوْلاَدَ تَكُونُ ذَاتُهُ إِرْثًا، وَمَا نَابَ أَوْلاَدَ الأَْوْلاَدِ
يَكُونُ وَقْفًا (1) .
وَقْفُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْمَرِيضُ مَرَضَ
الْمَوْتِ الْمَدِينُ بِدَيْنٍ مُحِيطٍ بِمَالِهِ نُقِضَ الْوَقْفُ وَبِيعَ
فِي دَيْنِهِ، وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَوَاكِهِ
الْبَدْرِيَّةِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحِيطَ بِالتَّرِكَةِ مَانِعٌ مِنْ
نُفُوذِ الْوَقْفِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الدَّائِنِينَ،
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِمَالِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ
يَجُوزُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ
وَرَثَةٌ وَلَمْ يُجِيزُوا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ أَوْ كَانَ
لَهُ وَرَثَةٌ وَأَجَازُوا جَازَ الْوَقْفُ فِي كُل مَا بَقِيَ بَعْدَ
وَفَاءِ الدَّيْنِ. .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَقِلًّا ثُمَّ ظَهَرَ
عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيْعِ شَيْءٍ
مِنَ الْوَقْفِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِيعَ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 82، 83.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 395، والإسعاف ص3،
والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص179، ومغني المحتاج 2 / 148، تحفة المحتاج
6 / 236، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 81 - 82.
(44/129)
وَقْفُ الذِّمِّيِّ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
الْوَاقِفُ مُسْلِمًا، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ؛
لأَِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ بِحَيْثُ لاَ
يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلاً، بَل التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى
نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ حَتَّى يَصِحَّ مِنَ
الْكَافِرِ كَالْعِتْقِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) . (إِلاَّ أَنَّ
الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَصِحُّ
وَقْفُهُ مِنَ الذِّمِّيِّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ
عَنِ الْمَوْقُوفِ. .
وَقْفُ الْمُرْتَدِّ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا وَقَفَ الْمُرْتَدُّ حَال
رِدَّتِهِ. . فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَوْ
وَقَفَ حَال رِدَّتِهِ فَإِنَّ وَقْفَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ عَادَ
وَأَسْلَمَ كَانَ وَقْفُهُ صَحِيحًا، وَإِلاَّ - بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِل
عَلَى رِدَّتِهِ - كَانَ وَقْفُهُ بَاطِلاً، وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ
عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ عَدَا أَبِي بَكْرٍ؛ حَيْثُ قَالُوا: لاَ
يُحْكَمُ بِزَوَال مِلْكِ الْمُرْتَدِّ لِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ. .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 358، 360، 361، 396، وفتح القدير 6
/ 200، 201، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 78، ومغني المحتاج 2 / 376
- 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(44/129)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مِنَ الْمُرْتَدِّ مَا يَجُوزُ مِنَ الْقَوْمِ
الَّذِينَ انْتَقَل إِلَى دِينِهِمْ. وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَقْفُ الْمُرْتَدَّةِ لأَِنَّهَا لاَ تُقْتَل، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى
حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَقْفُ
الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ قَدْ صَدَرَ مِنَ
الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنَّ وَقْفَهُ يَكُونُ بَاطِلاً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى وَلَوْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَاسْتَظْهَرَ
الشَّيْخُ عِلِيشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ وَقْفَهُ صَحِيحٌ وَلاَ
يَبْطُل (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُ الْوَاقِفِ مَالِكًا لِلْمَوْقُوفِ:
يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مَالِكًا لِلْمَوْقُوفِ وَقْتَ
الْوُقُوفِ مِلْكًا بَاتًّا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى
ذَلِكَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي وَقْفِ الْفُضُولِيِّ وَوَقْفِ الْحَاكِمِ،
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً:: وَقْفُ الْفُضُولِيِّ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ:
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 396، وحاشية الدسوقي 4 / 307،
ومنح الجليل 4 / 473، ومغني المحتاج 2 / 385، و4 / 143، وأنس المطالب 4 /
123، والمغني 8 / 129.
(44/130)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي
رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ
الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ؛ لأَِنَّ الْمَالِكَ إِذَا أَجَازَ
فِعْل الْفُضُولِيِّ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْل فِي الْحَقِيقَةِ صَادِرًا
مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْمَالِكُ لَمْ يَجُزْ. .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ - فِي
الْمَشْهُورِ - وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ
الْفُضُولِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ؛ لأَِنَّهُ
لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلاَ وَلِيٍّ وَلاَ وَكِيلٍ (1) . وَعَلَّل
الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِخُرُوجِ الْمَوْقُوفِ بِغَيْرِ عِوَضٍ
بِخِلاَفِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لأَِنَّهُ يَخْرُجُ
بِعِوَضٍ. (ر:: فُضُولِيُّ ف11) . .
ثَانِيًا:: وَقْفُ الْحَاكِمِ:
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقِفَ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الْخَيْرَاتِ
وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ بَعْضَ الْقُيُودِ
وَالتَّفْصِيل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ
وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ وَقَفَ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ
الْمَال لِمَصْلَحَةٍ عَمَّتْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 203، وحاشية الدسوقي 4 / 76، والخرشي 7 / 79، ومغني
المحتاج 2 / 15، وشرح منتهى الإرادات 2 / 43، والفروع 4 / 36، ونيل المآرب
2 / 11.
(44/130)
يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ
وَأَوْلاَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ حَتَّى وَإِنْ جَعَل آخِرَهُ
لِلْفُقَرَاءِ؛ لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال هُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،
فَإِذَا أَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ يُثَابُ، لاَ سِيَّمَا
إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَصْرِفُونَهُ
فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ، فَيَكُونُ قَدْ مَنَعَ مَنْ يَجِيءُ
مِنْهُمْ وَيَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:: مَا يَقِفُهُ السَّلاَطِينُ عَلَى الْخَيْرَاتِ
مَعَ عَدَمِ مِلْكِهِمْ لِمَا حَبَسُوهُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ السُّلْطَانَ
وَكِيلٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَوَكِيل الْوَاقِفِ، فَوَقْفُهُ
صَحِيحٌ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ
خَالِدٍ، لَكِنْ تَأَوَّلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ عَلَى مَا إِذَا
حَبَسَ الْمُلُوكُ مُعْتَقِدِينَ فِيهِ أَنَّهُمْ وُكَلاَءُ الْمُلاَّكِ،
فَإِنْ حَبَسُوهُ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ مِلْكُهُمْ بَطَل تَحْبِيسُهُمْ،
وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْعَبْدُوسِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ غَازِيٍّ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِصِحَّةِ وَقْفِ الإِْمَامِ شَيْئًا مِنْ
بَيْتِ الْمَال، وَأَفْتَى بِهِ أَيْضًا أَبُو سَعِيدِ بْنُ عَصْرُونَ
لِلسُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ مُتَمَسِّكًا بِوَقْفِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَوَادَ الْعِرَاقِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ
الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ.
وَقَال النَّوَوِيُّ:: لَوْ رَأَى الإِْمَامُ وَقْفَ أَرْضِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 393.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 76، والفروق للقرافي 3 / 7.
(44/131)
الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَازَ إِذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي
النُّزُول عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي وَقْفِ الإِْمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَال
سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَقِفَ الإِْمَامُ الأَْرْضَ الْمَغْنُومَةَ
وَأَنْ يَقِفَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، قَال الْبَهُوتِيُّ: الأَْوْقَافُ
الَّتِي مِنْ بَيْتِ الْمَال وَكَأَوْقَافِ السَّلاَطِينِ فَيَجُوزُ لِمَنْ
لَهُ الأَْخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال التَّنَاوُل مِنْهَا وَإِنْ لَمْ
يُبَاشِرِ الْمَشْرُوطَ (2) .
شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ:
27 - الْوَقْفُ قُرْبَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ يَضَعُهَا الْوَاقِفُ فِيمَنْ
يَشَاءُ وَبِالطَّرِيقَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ مِنَ
الشُّرُوطِ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ مَا لاَ يُخَالِفُ حُكْمَ
الشَّرْعِ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَضَعُهَا الْوَاقِفُ يَجِبُ الرُّجُوعُ
إِلَيْهَا، وَلاَ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ
أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ؛ إِذْ إِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ
الشَّرْعِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ.
فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: شَرَائِطُ الْوَاقِفِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، وأسنى المطالب 2 / 457.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 118، 119، 513.
(44/131)
مُعْتَبَرَةٌ إِذَا لَمْ تُخَالِفِ
الشَّرْعَ وَهُوَ مَالِكٌ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ
مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنَ
الْفُقَرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً (1) ، (وَفِي
الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ:: وَاتُّبِعَ وُجُوبًا شَرْطُ
الْوَاقِفِ إِنْ جَازَ شَرْعًا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمْ
يُتَّبَعْ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الأَْصْل أَنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِعِ
مَرْعِيَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الشُّرُوطُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إِذَا
لَمْ تُفْضِ إِلَى الإِْخْلاَل بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ، وَلاَ يَجُوزُ
الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ
(4) .
وَيُقَسِّمُ ابْنُ الْقَيِّمِ شُرُوطَ الْوَاقِفِينَ إِلَى أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ: شُرُوطٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَشُرُوطٌ مَكْرُوهَةٌ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ فِعْل مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، فَالأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ الأُْولَى لاَ حُرْمَةَ لَهَا
وَلاَ اعْتِبَارَ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ هُوَ الشَّرْطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 361، 416.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 88.
(3) مغني المحتاج 2 / 386.
(4) كشاف القناع 4 / 263، والإنصاف 7 / 56، والفروع 4 / 601.
(44/132)
الْمُتَّبَعُ الْوَاجِبُ الاِعْتِبَارِ (1)
.
28 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تُعْتَبَرُ
جَائِزَةً وَيَجِبُ الْعَمَل بِهَا، وَالشُّرُوطُ الَّتِي تُخَالِفُ
الشَّرْعَ أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، وَبِتَتَبُّعِ مَا ذَكَرَهُ
الْفُقَهَاءُ مِنَ الشُّرُوطِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ
أَقْسَامٍ.
أ - شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ وَمُبْطِلَةٌ لِلْوَقْفِ، مَانِعَةٌ مِنِ
انْعِقَادِهِ؛ لأَِنَّهَا تُنَافِي لُزُومَ الْوَقْفِ.
ب - شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ إِذَا شَرَطَهَا الْوَاقِفُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَل
الشَّرْطُ.
ج - شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فِيهَا، وَهَذِهِ
الشُّرُوطُ بِأَنْوَاعِهَا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
فَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلاً فِي مَذْهَبٍ صَحِيحًا فِي مَذْهَبٍ
آخَرَ، بَل أَحْيَانًا يَخْتَلِفُ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي
الْمِثَال الْوَاحِدِ فَيُبْطِلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُصَحِّحُهُ غَيْرُهُمْ.
وَبَيَاْنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
29 -
29 - الْقِسْمُ الأَْوَّل:: شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ وَمُبْطِلَةٌ لِلْوَقْفِ
مَانِعَةٌ مِنِ انْعِقَادِهِ، وَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي تُنَافِي لُزُومَ
الْوَقْفِ وَتُنَافِي مُقْتَضَاهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنْ
__________
(1) إعلام لموقعين 3 / 97 ط مكتبة الكليات الأزهرية.
(44/132)
يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ عِنْدَ إِنْشَاءِ
الْوَقْفِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ؛ أَيْ فِي إِبْقَاءِ وَقْفِهِ
وَالرُّجُوعِ فِيهِ مَتَى شَاءَ، أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّ لَهُ حَقَّ
بَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ أَوْ رَهْنِهِ.
وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُفْسِدُ الْوَقْفَ وَتُبْطِلُهُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ
يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنَ الْوَقْفِ أَوِ انْتِفَاعِهِ
بِهِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُنْفِقَ مِنَ الْوَقْفِ
عَلَى نَفْسِهِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ
يَنْتَفِعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُخْرِجَ
مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَيُدْخِل مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ، لأَِنَّهَا شُرُوطٌ
تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَأَفْسَدَتْهُ (2) .
30 - الْقِسْمُ الثَّانِي: شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ، إِذَا شَرَطَهَا الْوَاقِفُ
صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَل الشَّرْطُ، وَالأَْمْثِلَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ
تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ
وَاقِفَ الْكُتُبِ لَوْ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ لاَ تُعَارَ الْكُتُبُ
إِلاَّ بِرَهْنٍ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الْمُعَارَ أَمَانَةٌ
عِنْدَ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 364، ومغني المحتاج 2 / 380، والمغني 5 / 604 - 605،
والدر المختار 3 / 387.
(2) كشاف القناع 4 / 261، والإنصاف 7 / 57.
(44/133)
الْمُسْتَعِيرِ وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ
(1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أ - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ يَتَوَلَّى مِنْ
أَوْلاَدِهِ إِدَارَةَ الْوَقْفِ الْعَزْل وَالنَّصْبُ وَسَائِرُ
التَّصَرُّفَاتِ وَلاَ يُدَاخِلُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ
وَالأُْمَرَاءِ وَإِنْ دَاخَلُوهُمْ فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ،
فَهَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَفِيهِ تَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَتَعْطِيل الْوَقْفِ فَلاَ يُقْبَل، وَلأَِنَّ
الشَّرَائِطَ الْمُخَالِفَةَ لِلشَّرْعِ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ (2) .
ب - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يَعْزِل الْقَاضِي أَوِ السُّلْطَانُ
الْمُتَوَلِّيَ عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي عَزْلُهُ
لَوْ كَانَ خَائِنًا؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ
فَبَطَل (3) .
ج - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاضِي أَوِ السُّلْطَانِ
كَلاَمٌ فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ وَلِلْقَاضِي الْكَلاَمُ؛
لأَِنَّ نَظَرَهُ أَعْلَى، وَهَذَا شَرْطٌ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ لِلْوَقْفِ
وَلاَ مَصْلَحَةَ فَلاَ يُقْبَل (4) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
أ - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ إِصْلاَحَ الْوَقْفِ عَلَى
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 367، والحطاب 6 / 36.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 390.
(3) البحر الرائق 5 / 265، وفتح القدير 6 / 232.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 388، والبحر الرائق 5 / 241.
(44/133)
مُسْتَحَقِّهِ فَيُلْغَى الشَّرْطُ
وَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَيَصْلُحُ مِنْ غَلَّتِهِ، كَأَرْضٍ مُوَظَّفَةٍ -
أَيْ عَلَيْهَا مَغْرَمٌ لِحَاكِمٍ ظَالِمٍ - - وَشَرَطَ وَاقِفُهَا أَنَّ
التَّوْظِيفَ مِنْ غَلَّتِهَا (1) .
ب - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَدْءِ بِإِصْلاَحِ الْمَوْقُوفِ
إِذَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الإِْصْلاَحِ كَالْبِنَاءِ الَّذِي
يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ فَلاَ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي
إِلَى إِبْطَال الْوَقْفِ مِنْ أَصْلِهِ، بَل يَبْدَأُ بِمَرَمَّتِهِ
لِتَبْقَى عَيْنُهُ.
ج - لَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ حَيَوَانًا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ وَشَرَطَ
الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَدْءِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ فَيَبْطُل شَرْطُهُ
وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشُّرُوطُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا
إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى الإِْخْلاَل بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ وَلاَ
تَجُوزُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ
الشَّرْعِيِّ بِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ شَرَطَ فِي الْقُرُبَاتِ أَنْ
يُقَدِّمَ فِيهَا الصِّنْفَ الْمَفْضُول فَقَدْ شَرَطَ خِلاَفَ شَرْطِ
اللَّهِ كَشَرْطِهِ فِي الإِْمَامَةِ تَقْدِيمَ غَيْرِ الأَْعْلَمِ (3) .
وَلَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِلنَّاظِرِ فِعْل مَا يَهْوَاهُ
مُطْلَقًا أَوْ مَا يَرَاهُ مُطْلَقًا فَشَرْطٌ بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ
الْمَشْهُورِ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 89.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 90.
(3) كشاف القناع 4 / 263.
(44/134)
الْمَصْلَحَةِ؛ أَيِ التَّثَبُّتِ
وَالتَّحَرِّي، فَيَعْمَل بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ. .
وَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ فِي اسْتِحْقَاقِ رَيْعِ الْوَقْفِ الْعُزُوبَةَ
فَالْمُتَأَهِّل أَحَقُّ مِنَ الْمُتَعَزِّبِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ
الصِّفَاتِ (1) .
31 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا؛
لأَِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ
وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْوَقْفِ وَلاَ بِالْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنَّهُ
يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ مَالِكٌ فَلَهُ أَنْ يَجْعَل
مَالَهُ حَيْثُ يَشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً (2) .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْغَالِبِ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِتَوْزِيعِ
رَيْعِ الْوَقْفِ وَبَيَانِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَصِفَاتِهِمْ وَزَمَنِ
الاِسْتِحْقَاقِ وَمِقْدَارِ مَا يُعْطَى وَهَكَذَا، وَقَدْ وَقَفَ
سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشَرَطَ فِي وَقْفِهِ
شُرُوطًا، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ فِي
اشْتِرَاطِهِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ وَقَفَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وَلَدِهِ وَجَعَل لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ
بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا، فَإِذَا
اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلاَ حَقَّ لَهَا فِيهِ، وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ
مُتَلَقٍّ مِنْ جِهَتِهِ فَاتَّبَعَ شَرْطَهُ، وَنَصُّهُ كَنَصِّ
الشَّارِعِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 261 - 262.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 361، ومعونة أولي النهى 5 / 798.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 427، والشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي 4 / 88 - 89، روضة الطالبين 5 / 338 - 339، والمهذب 1 / 450،
والمغني 5 / 617 - 618، وكشاف القناع 4 / 258.
(44/134)
وَفِيمَا يَلِي ذِكْرُ بَعْضِ
الأَْمْثِلَةِ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ:
أ - الْبَدْءُ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ تَقْدِيمُهُ أَوْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ
مُعَيَّنٍ لَهُ:
32 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبْدَأَ
بِالصَّرْفِ مِنَ الْغَلَّةِ بِالأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ مِنْ فُقَرَاءِ
قَرَابَتِي فَيُعْطَى مِنَ الْغَلَّةِ مَا يُغْنِيهِ، يُعْطَى الأَْقْرَبُ
مِنْهُمْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ) ثُمَّ الَّذِي
يَلِيهِ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِ الْبُطُونِ (1) .
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَل أَبَدًا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو مَا عَاشَا، وَمِنْ
بَعْدِهِمَا عَلَى الْمَسَاكِينِ عَلَى أَنْ يُبْدَأَ بِزَيْدٍ فَيُعْطَى
مِنْ غَلَّةِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كُل سَنَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ،
وَيُعْطَى عَمْرٌو قُوتَهُ لِسَنَةٍ جَازَ الْوَقْفُ، وَيُبْدَأُ بِزَيْدٍ
فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ أَلْفٌ ثُمَّ يُعْطَى عَمْرٌو قُوتَهُ لِسَنَةٍ،
وَمَهْمَا فَضَل كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِجَمْعِهِ إِيَّاهُمَا
أَوَّلاً بِقَوْلِهِ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَلَوْ لَمْ يَزِدْ عَلَى
ذَلِكَ لَكَانَ الْكُل بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا، فَلَمَّا فَصَل فِي
الْبَعْضِ عُمِل بِهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ الْغَلَّةُ بِمَا قَال
يُقَدَّمُ زَيْدٌ، ثُمَّ إِنْ فَضَل عَنْهُ شَيْءٌ يُدْفَعُ إِلَى عَمْرٍو
وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَبْدِئَةَ فُلاَنٍ
__________
(1) الإسعاف ص118.
(2) الإسعاف ص122 - 123.
(44/135)
بِكَذَا مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ أَوْ
إِعْطَاءَهُ كَذَا كُل شَهْرٍ أَوْ كُل سَنَةٍ كَذَا، يُعْطَى ذَلِكَ
مَبْدَأً عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ الْغَلَّةُ الَّتِي حَصَلَتْ
فِي الْعَامِ الأَْوَّل بِحَقِّهِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ الْوَاقِفُ
يُكَمَّل لَهُ مِنْ غَلَّةِ الْعَامِ الثَّانِي. .
فَإِنْ قَال الْوَاقِفُ:: أَعْطُوهُ كَذَا مِنْ غَلَّةِ كُل عَامٍ
وَجَاءَتْ سَنَةٌ لَمْ يَحْصُل فِيهَا شَيْءٌ فَلاَ يُعْطَى مِنْ رَيْعِ
الْمُسْتَقْبَل عَنِ الْمَاضِي إِذَا لَمْ يَفِ بِحَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ
أَضَافَ الْغَلَّةَ إِلَى كُل عَامٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ صَرَفَ غَلَّةَ السَّنَةِ
الأُْولَى إِلَى قَوْمٍ، وَغَلَّةَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى آخَرِينَ
وَهَكَذَا مَا بَقُوا، اتُّبِعَ شَرْطُهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ بَعْضِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَالْبُدَاءَةِ بِبَعْضِ أَهْل الْوَقْفِ دُونَ
بَعْضٍ نَحْوَ: وَقَفْتُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ يُبْدَأُ
بِالدَّفْعِ إِلَى زَيْدٍ، أَوْ وَقَفْتُ عَلَى طَائِفَةِ كَذَا وَيُبْدَأُ
بِالأَْصْلَحِ أَوِ الأَْفْقَهِ فَيُرْجَعُ إِلَى ذَلِكَ (3) .
ب - تَفْضِيل بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَوِ التَّسْوِيَةُ
بَيْنَهُمْ:
33 - يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي وَقْفِهِ التَّسْوِيَةَ فِي
الاِسْتِحْقَاقِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 89.
(2) روضة الطالبين 5 / 339.
(3) كشاف القناع 4 / 260، والإنصاف 7 / 53، ومعونة أولي النهى 5 / 803.
(44/135)
أَوْ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ،
فَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى بَنِي
فُلاَنٍ عَلَى أَنَّ لِي أَنْ أُفَضِّل مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ وَمَاتَ قَبْل
أَنْ يُفَضِّل بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَانَتِ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ
بِالسَّوِيَّةِ لِعَدَمِ اتِّصَال التَّفْضِيل بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ
قَال: فَضَّلْتُ فُلاَنًا فَجَعَلْتُ لَهُ كُل الْغَلَّةِ لَمْ يَصِحَّ،
لأَِنَّهُ تَخْصِيصٌ وَلَيْسَ بِتَفْضِيلٍ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُعْطِيَ
لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا ثُمَّ يَزِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ
أَوْ كَثِيرٍ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَلَوْ زَادَ وَقَال:
عَلَى بَنِي فُلاَنٍ وَنَسْلِهِمْ وَفَضَّل وَاحِدًا مِنْهُمْ وَوَلَدَهُ
وَنَسْلَهُ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ
وَلِنَسْلِهِ أَبَدًا وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لأَِنَّ التَّفْضِيل
يَلْتَحِقُ بِأَصْل الْوَقْفِ بِسَبَبِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، وَلَوْ فَضَّل
وَاحِدًا بِنِصْفِ غَلَّةِ سَنَةٍ مَثَلاً جَازَ وَيَكُونُ أُسْوَةَ
شُرَكَائِهِ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَوْ قَال:
فَضَّلْتُ فُلاَنًا عَلَى إِخْوَتِهِ بِنِصْفِ الْغَلَّةِ - وَكَانُوا
ثَلاَثَةً - اسْتَحَقَّ الْمُفَضَّل ثُلُثَيْهَا وَأَخَوَاهُ ثُلُثَهَا؛
لأَِنَّ النِّصْفَ صَارَ لَهُ بِالتَّفْضِيل وَالنِّصْفَ الآْخَرَ يُقْسَمُ
بَيْنَهُمْ أَثْلاَثًا لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ فَيَكُونُ لِكُلٍّ سُدُسٌ
وَالنِّصْفُ مَعَ السُّدُسِ ثُلُثَانِ (1) .
وَلَوْ قَال: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ
عَلَى أَنْ أُعْطِيَ غَلَّتَهَا لِمَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ ثُمَّ جَعَل
__________
(1) الإسعاف ص126.
(44/136)
لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّهَا أَوْ
بَعْضَهَا مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ رَتَّبَهُمْ فِيهَا
وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، أَوْ فَضَّل بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَازَ،
وَلَوْ جَعَلَهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدَّةً فَمَضَتْ، أَوْ مُطْلَقًا
فَمَاتَ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ (1) .
وَكَذَا يُعْمَل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ لَوْ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
كَقَوْلِهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى سَوَاءٌ، أَوْ فَضَّل الذَّكَرَ عَلَى
الأُْنْثَى، أَوِ الأُْنْثَى عَلَى الذَّكَرِ (2) .
أَوْ قَال: عَلَى أَنَّ لِلْكَبِيرِ ضِعْفَ مَا لِلصَّغِيرِ، أَوْ
لِلْعَالِمِ ضِعْفَ مَا لِلْجَاهِل، أَوْ لِلْعَائِل ضِعْفَ مَا
لِلْغَنِيِّ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ مُفَوَّضٌ
إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ تَفْضِيلُهُ وَتَرْتِيبُهُ (3) .
جـ - تَخْصِيصُ الرَّيْعِ لأَِهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ:
34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَصَّصَ الْوَاقِفُ رَيْعَ
الْوَقْفِ لأَِهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ اعْتُبِرَ
شَرْطُهُ وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ عَيَّنَ الْوَاقِفُ مَذْهَبًا مِنَ
الْمَذَاهِبِ، وَشَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل عَنْهُ خَرَجَ اعْتُبِرَ
__________
(1) الإسعاف ص128.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 87، والروضة 5 / 338 - 339، والمهذب
1 / 450، وكشاف القناع 4 / 260، والإنصاف 7 / 53.
(3) المغني 5 / 617 - 618.
(44/136)
شَرْطُهُ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ
وَشَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ صَارَ
خَارِجًا فَانْتَقَل مِنْهُمْ وَاحِدٌ صَارَ خَارِجًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ
الْوَاقِفُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَشَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل إِلَى
مَذْهَبِ أَهْل السُّنَّةِ صَارَ خَارِجًا اعْتُبِرَ شَرْطُهُ، وَلَوْ
شَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل مِنْ مَذْهَبِ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى غَيْرِهِ
فَصَارَ خَارِجًا أَوْ رَافِضِيًّا خَرَجَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ خَصَّصَ أَهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لِصَرْفِ
غَلَّةِ وَقْفِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ بِالتَّدْرِيسِ فِي مَدْرَسَتِهِ فَلاَ
يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُمْ لِغَيْرِهِمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِشَرْطِ
كَوْنِهِمْ عَلَى مَذْهَبِ فُلاَنٍ يُرَاعَى شَرْطُهُ. وَكَذَا لَوْ خَصَّ
طَائِفَةً بِمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ اخْتُصَّ بِهِمْ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَصَّصَ الْوَاقِفُ الْمَدْرَسَةَ بِأَهْل
مَذْهَبٍ كَالْحَنَابِلَةِ أَوِ الشَّافِعِيَّةِ تَخَصَّصَتْ، وَكَذَلِكَ
الرِّبَاطُ وَالْخَانِقَاهْ كَالْمَقْبَرَةِ إِذَا خَصَّصَهَا بِأَهْل
مَذْهَبٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ قَبِيلَةٍ تَخَصَّصَتْ إِعْمَالاً لِلشَّرْطِ،
وَإِنْ خَصَّصَ الإِْمَامَةَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ
بِمَذْهَبٍ تَخَصَّصَتْ بِهِ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْرُوطُ لَهُ
الإِْمَامَةُ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 266، والإسعاف ص106.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 88، والخرشي 7 / 92.
(3) روضة الطالبين 5 / 339، ومغني المحتاج 2 / 385.
(44/137)
فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلاَةِ
مُخَالِفًا لِصَرِيحِ السُّنَّةِ أَوْ لِظَاهِرِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ
أَحْكَامِ الصَّلاَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عَلَى
أَنَّهُ إِنْ خَصَّصَ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَسْجِدِ بِمَذْهَبٍ لَمْ
يُخْتَصَّ بِهِمْ؛ لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْمَسْجِدِيَّةِ تَقْتَضِي عَدَمَ
الاِخْتِصَاصِ، فَاشْتِرَاطُ التَّخْصِيصِ يُنَافِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَصَاحِبُ التَّلْخِيصِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ
اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ اخْتَصَّ بِهِمْ، قَال صَاحِبُ التَّلْخِيَصِ:
اخْتُصَّ بِهِمْ عَلَى الأَْشْبَهِ، لاِخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي
أَحْكَامِ الصَّلاَةِ (1) .
د - شَرْطُ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجِ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ
يَشْتَرِطَ فِي وَقْفِهِ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجَ (2) .
وَالْمَقْصُودُ بِالإِْدْخَال تَرَتُّبُ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ عَلَى صِفَةٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالإِْخْرَاجِ تَرَتُّبُ عَدَمِ
اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَلَى صِفَةٍ فَهُوَ لَيْسَ
بِإِخْرَاجٍ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ
تَعْلِيقُ الاِسْتِحْقَاقِ بِصِفَةٍ، فَكَأَنَّ الْوَاقِفَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 262 - 263، ومغني المحتاج 2 / 385.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 431، والدسوقي 4 / 87، و98، والمهذب 1 / 450،
والروضة 5 / 339، وكشاف القناع 4 / 261، والمغني 5 / 618.
(44/137)
جَعَل لَهُ حَقًّا فِي الْوَقْفِ إِذَا
اتَّصَفَ بِكَذَا أَعْطَاهُ، وَلَمْ يَجْعَل لَهُ حَقًا إِذَا انْتَفَتْ
تِلْكَ الصِّفَةُ. وَقَيَّدَ تُرَتُّبُ الاِسْتِحْقَاقِ وَعَدَمُهُ عَلَى
الصِّفَةِ هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ. .
وَمَثَّل الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ
طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ عَلَى الشَّبَابِ أَوِ الصِّغَارِ أَوِ
الأَْحْدَاثِ ثُمَّ زَال وَصْفُهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ؛ لأَِنَّ
الاِسْتِحْقَاقَ قَدْ عُلِّقَ بِوَصْفٍ، فَإِذَا زَال الْوَصْفُ يَزُول
الاِسْتِحْقَاقُ بِزَوَالِهِ (1) .
وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ لِلإِْخْرَاجِ بِصِفَةٍ كَأَنْ يَقُول الْوَاقِفُ
وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ بَنَاتِي
فَلاَ حَقَّ لَهَا أَوْ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَغْنَى مِنْ أَوْلاَدِي فَلاَ
حَقَّ لَهُ فِيهِ. .
وَأَمَّا الإِْدْخَال بِصِفَةٍ فَهُوَ أَنْ يَقُول: مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ
بَنَاتِي فَلاَ حَقَّ لَهَا فِيهِ، فَإِنْ طُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ عَنْهَا
زَوْجُهَا عَادَ إِلَيْهَا حَقُّهَا (2) .
وَمَثَّل الْحَنَابِلَةُ:: بِأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ بِشَرْطِ
كَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ أَوْ صُلَحَاءَ، أَوْ يَقُول الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ
عَلَى أَوْلاَدِي، وَمَنْ فَسَقَ مِنْهُمْ أَوِ اسْتَغْنَى فَلاَ شَيْءَ
لَهُ، أَوْ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَلَهُ وَمَنْ نَسِيَهُ فَلاَ شَيْءَ
لَهُ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ بِقَيْدٍ
آخَرَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الإِْخْرَاجُ وَالإِْدْخَال مِنْ أَهْل
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 97.
(2) المهذب 1 / 450، والروضة 5 / 339.
(44/138)
الْوَقْفِ لاَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ
لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ إِنْ شَرَطَ فِيهِ إِدْخَال مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ
أَهْل الْوَقْفِ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ
فَأَفْسَدَهُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يُقَيِّدُوا الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجَ
بِأَيِّ قَيْدٍ، جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ فِي
وَقْفِهِ أَنْ يَزِيدَ فِي وَظِيفَةِ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهُ، وَأَنْ
يَنْقُصَ مِنْ وَظِيفَةِ مَنْ يَرَى نُقْصَانَهُ مِنْ أَهْل الْوَقْفِ،
وَأَنْ يُدْخِل مَعَهُمْ مَنْ يَرَى إِدْخَالَهُ، وَأَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ
مَنْ يَرَى إِخْرَاجَهُ جَازَ، ثُمَّ إِذَا زَادَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَوْ
نَقَصَهُ مَرَّةً أَوْ أَدْخَل أَحَدًا أَوْ أَخْرَجَ أَحَدًا لَيْسَ لَهُ
أَنْ يُغَيِّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ شَرْطَهُ وَقَعَ عَلَى فِعْلٍ
يَرَاهُ فَإِذَا رَآهُ وَأَمْضَاهُ فَقَدِ انْتَهَى مَا رَآهُ، وَإِذَا
أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ دَائِمًا مَا دَامَ حَيًّا يَقُول عَلَى
أَنَّ لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ أَنْ يَزِيدَ فِي مُرَتَّبِ مَنْ يَرَى
زِيَادَتَهُ، وَأَنْ يَنْقُصَ مِنْ مُرَتَّبِ مَنْ يَرَى نُقْصَانَهُ،
وَأَنْ يَنْقُصَ مَنْ زَادَهُ، وَيَزِيدَ مَنْ نَقَصَهُ مِنْهُمْ وَأَنْ
يُدْخِل مَعَهُمْ مَنْ يَرَى إِدْخَالَهُ وَيُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى
إِخْرَاجَهُ مَتَى أَرَادَ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى رَأْيًا بَعْدَ رَأْيٍ
وَمَشِيئَةٍ بَعْدَ مَشِيئَةٍ مَا دَامَ حَيًّا ثُمَّ إِذَا أَحْدَثَ فِيهِ
شَيْئًا مِمَّا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ يَسْتَقِرُّ
أَمْرُ الْوَقْفِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَ
مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لَهُ فِي أَصْل الْوَقْفِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 261، والمغني 5 / 618، ومغني المحتاج 2 / 385.
(2) الإسعاف ص34 - 35، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.
(44/138)
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: عَلَى أَنَّ لِي
أَنْ أَحْرِمَ وَأُخْرِجَ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ
تَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ أَخْرَجَ وَاحِدًا
مِنْهُمْ أَوْ أَخْرَجَهُمْ إِلاَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مُطْلَقًا أَوْ
مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّ، وَلَيْسَ لَهُ حِرْمَانُ الْجَمِيعِ قِيَاسًا،
وَإِذَا مَاتَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَوْ أَخْرَجَهُمْ كُلَّهُمْ بِنَاءً
عَلَى الاِسْتِحْسَانِ تَكُونُ الْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يُعِيدَهَا إِلَيْهِمْ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا حَرَّمَهُمْ غَلَّتَهَا
أَبَدًا فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ وَانْقَطَعَتْ
مَشِيئَتُهُ فِيهَا وَصَارَتْ لِلْمَسَاكِينِ (1) .
حُكْمُ مُخَالَفَةِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ:
36 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُخَالَفَةَ شَرْطِ الْوَاقِفِ
لِلْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ فِي مَسَائِل مِنْهَا:
أ - شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال، فَلِلْقَاضِي الاِسْتِبْدَال
لِلْمَصْلَحَةِ.
ب - لَوْ شَرَطَ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَعْزِل النَّاظِرَ فَلَهُ عَزْل
غَيْرِ الأَْهْل.
ج - لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤَجِّرَ وَقْفَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ
وَالنَّاسُ لاَ يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِ سَنَةٍ أَوْ كَانَ فِي
الزِّيَادَةِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ، فَلِلْقَاضِي الْمُخَالَفَةُ دُونَ
النَّاظِرِ.
__________
(1) الإسعاف ص127.
(44/139)
د - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ
يُتَصَدَّقَ بِفَاضِل الْغَلَّةِ عَلَى مَنْ يَسْأَل فِي مَسْجِدِ كَذَا،
فَلِلْقَيِّمِ التَّصَدُّقُ عَلَى سَائِل غَيْرِ هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ
خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى مَنْ لاَ يَسْأَل.
هـ - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ خُبْزًا وَلَحْمًا
مُعَيَّنًا كُل يَوْمٍ فَلِلْقَيِّمِ دَفْعُ الْقِيمَةِ مِنَ النَّقْدِ،
وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ فِي أَخْذِ الْمُعَيَّنِ
مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ أَوْ أَخْذُ الْقِيمَةِ. .
و تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنَ الْقَاضِي عَلَى مَعْلُومِ الإِْمَامِ إِذَا
كَانَ لاَ يَكْفِيهِ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا. .
ز - يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ مُخَالَفَةُ الشُّرُوطِ إِذَا كَانَ أَصْل
الْوَقْفِ لِبَيْتِ الْمَال (1) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ:
37 - الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي تَنْتَفِعُ
بِالْمَوْقُوفِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِهَةُ مُعَيَّنَةً كَشَخْصٍ
مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَأْتِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:: كَوْنُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ
وَقُرْبَةٍ:
38 - يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا جِهَةَ
بِرٍّ وَقُرْبَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 389.
(44/139)
ذمِّيًّا لأَِنَّ الذِّمِّيَّ مَوْضِعُ
قُرْبَةٍ وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ (1) ، وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ (2) .
وَإِذَا كَانَ الأَْصْل فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ جِهَةَ
قُرْبَةٍ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي الأَْصَحِّ
لَمْ يَشْتَرِطُوا ظُهُورَ الْقُرْبَةِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ،
قَالُوا: لأَِنَّ الْوَقْفَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ قُرْبَةٌ وَلِهَذَا جَازَ
عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ
الَّذِينَ لاَ يُجِيزُونَ الْوَقْفَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ وَحْدَهُمْ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ قُرْبَةً فِي نَظَرِهِمْ، قَال الْحَنَفِيَّةُ:
إِلاَّ أَنْ يُجْعَل الْوَقْفُ بَعْدَ الأَْغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
فَيَجُوزُ، كَمَا لاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْوَقْفُ عَلَى
طَائِفَةِ الأَْغْنِيَاءِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ نَظَرًا إِلَى اشْتِرَاطِ
ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ (3) .
وَنَظَرًا لاِشْتِرَاطِِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 361، والشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 379، 380، والمهذب 1 / 448، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 492، 493، والمغني 5 / 644، 646.
(2) أثر أن صفية وقفت على أخ لها يهودي. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6 /
33) بلفظ. . عن ابن عمر أن صفية ابنة حي أوصت لابن أخ لها يهودي.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 357، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 77، ومغني
المحتاج 2 / 381، وكشاف القناع 4 / 247.
(44/140)
قُرْبَةٍ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ: كَالْوَقْفِ عَلَى الْكَنَائِسِ
وَالْبِيَعِ وَبُيُوتِ النَّارِ وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ؛ لأَِنَّهُ
مَعْصِيَةٌ وَإِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ؛ لأَِنَّ
الْقُرْبَةَ تَتَحَقَّقُ بِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ
وَبِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِي نَظَرِ الْوَاقِفِ كَمَا يَقُول
الْحَنَفِيَّةُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: شَرْطُ وَقْفِ الذِّمِّيِّ أَنْ
يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
بِخِلاَفِ الْوَقْفِ عَلَى بَيْعَةٍ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَقَطْ،
أَوْ عَلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا فَقَطْ،
وَيُعَلِّل الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ صِحَّةِ وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى
الْكَنِيسَةِ بِأَنَّ الْمَذْهَبَ خِطَابُهُمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ،
وَكَمَا لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ
عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ حُصُرِهَا وَقَنَادِيلِهَا، وَهَذَا عَلَى مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال عِيَاضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنِيسَةِ
مُطْلَقًا صَحِيحٌ غَيْرُ لاَزِمٍ سَوَاءٌ أَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ
الْوَقْفِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ أَمْ
لاَ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ، وَفَصَل ابْنُ رُشْدٍ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَال: إِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ عَلَى عُبَّادِ
الْكَنِيسَةِ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا عَلَى مَرَمَّتِهَا
أَوْ عَلَى الْجَرْحَى أَوِ الْمَرْضَى الَّتِي فِيهَا فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ
مَعْمُولٌ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عِمَارَةُ كَنَائِسِ غَيْرِ الْمُتَعَبِّدِ:
كَكَنَائِسِ نُزُول الْمَارَّةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَمَا قَال
(44/140)
الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ
وَغَيْرُهُمَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ
يَمُرُّ بِالْكَنِيسَةِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِجَوَازِ الصَّدَقَةِ
عَلَى الْمُجْتَازِينَ وَصَلاَحِيَتِهِمْ لِلْقُرْبَةِ فَإِنْ خَصَّ أَهْل
الذِّمَّةِ بِوَقْفٍ عَلَى الْمَارَّةِ مِنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ (1) .
وَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ أَوْ
سِلاَحٍ لِقِتَالٍ غَيْرِ جَائِزٍ أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى
كِتَابَةِ التَّوْارَةِ وَالإِْنْجِيل لأَِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مُبَدَّلَةٌ
(2) وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
رَأَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَقَال:: ابْن الْخَطَّاب؟
لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً،. . . . . . وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَخِي مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ
إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي " (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَصِحُّ
أَنْ يَمْلِكَ:
39 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ
يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، أَيْ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّمَلُّكِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 360، 361، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 /
78، ومغني المحتاج 2 / 380، وشرح متنهى الإرادات 2 / 493.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77،
ومغني المحتاج 2 / 380، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(3) حديث: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب. . " أخرجه أحمد (3 / 387) ،
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 174) وذكر أن فيه راويا ضعفه أحمد
ويحيى بن سعيد وغيرهما.
(44/141)
حَقِيقَةً كَزَيْدٍ وَالْفُقَرَاءِ، أَوْ
حُكْمًا كَمَسْجِدٍ وَرِبَاطٍ وَسَبِيلٍ (1) ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى
الْمَسَاجِدِ وَنَحْوَهَا يُعْتَبَرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ
أَنَّهُ عُيِّنَ فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ (2) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّطْبِيقِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ
هَذَا الشَّرْطِ الْمَسَائِل الآْتِيَةُ:
أ - الْوَقْفُ عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ:
40 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَى مَنْ
سَيُوجَدُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَقْفِ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ
وَلَدَ لَهُ صَحَّ الْوَقْفُ لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَصِيرُ
إِلَيْهِ الْمَوْقُوفُ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِ زَيْدٍ وَلاَ وَلَدَ
لَهُ، أَوْ عَلَى مَكَانٍ هَيَّأَهُ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ
صَحَّ فِي الأَْصَحِّ، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِلْفُقَرَاءِ إِلَى أَنْ
يُولَدَ لِزَيْدٍ أَوْ يُبْنَىَ الْمَسْجِدُ فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ الَّتِي
تُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَلَدِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ (3) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ
الْمَوْقُوفُ:
__________
(1) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 379.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 495، والمغني 5 / 646.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 414، 438.
(44/141)
أَوَّلُهَا لِلإِْمَامِ مَالِكٍ قَال:
الْوَقْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ صَحِيحٌ إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ
لاَزِمٍ، فَلِلْوَاقِفِ بَيْعُهُ قَبْل وِلاَدَةِ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِ
وَإِنْ لَمْ يَحْصُل لَهُ يَأْسٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنْ غَفَل عَنْهُ
حَتَّى حَصَل لَهُ وَلَدٌ تَمَّ الْوَقْفُ.
وَالثَّانِي لاِبْنِ الْقَاسِمِ، قَال:: الْوَقْفُ لاَزِمٌ بِمُجَرَّدِ
عَقْدِهِ وَلاَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ إِلاَّ إِذَا حَصَل يَأْسٌ
مِنَ الْوَلَدِ فَيُوقَفُ أَمْرُ ذَلِكَ الْحَبْسِ لِلإِْيَاسِ فَإِذَا
يَئِسَ مِنَ الْوَلَدِ كَانَ لَهُ بَيْعُهُ.
وَالثَّالِثُ:: لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ، قَال: يُحْكَمُ بِحَبْسِهِ
وَيُخْرَجُ إِلَى يَدِ ثِقَةٍ لِيَصِحَّ حَوْزُهُ وَتُوقَفُ ثَمَرَتُهُ
فَإِنْ وُلِدَ لَهُ كَانَ الْحَبْسُ وَالْغَلَّةُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُولَدْ
لَهُ كَانَ لأَِقْرَبِ النَّاسِ لِلْوَاقِفِ. .
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وُلِدَ
لَهُ سَابِقًا، أَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ
بِلاَ نِزَاعٍ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الزُّرْقَانِيُّ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ
يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَقْفِ فَلَوْ وَقَفَ
عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ أَوْ عَلَى فَقِيرِ أَوْلاَدِهِ وَلاَ
فَقِيرَ فِيهِمْ فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيُعْتَبَرُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّ
الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ لاَ يُمَلَّكُ فَلاَ يُفِيدُ الْوَقْفُ
عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ الْمَوْجُودِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 89، ومنح الجليل 4 / 66.
(44/142)
تَبَعًا لاَ أَصَالَةً كَقَوْل الْوَاقِفِ
وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي مَا تَنَاسَلُوا (1) .
ب - الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل:
41 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى
عَدَمِ جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْحَمْل ابْتِدَاءً، وَصَحَّحَ ابْنُ
عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ الْوَقْفِ عَلَى الْحَمْل ابْتِدَاءً
وَاخْتَارَهُ الْحَارِثِيُّ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل
تَبَعًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ لاَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ أَيْضًا حَيْثُ
قَالُوا: لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى جَنِينٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ
تَمَلُّكِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصُودًا أَمْ تَابِعًا، حَتَّى لَوْ
قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَكَانَ لَهُ أَوْلاَدٌ وَلَهُ جَنِينٌ
عِنْدَ الْوَقْفِ لَمْ يَدْخُل، نَعَمْ إِنِ انْفَصَل دَخَل مَعَهُمْ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ قَدْ سَمَّى الْمَوْجُودِينَ أَوْ ذَكَرَ
عَدَدَهُمْ فَلاَ يَدْخُل كَمَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ، بِخِلاَفِ مَا
لَوْ وَقَفَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنَّسْل وَالْعَقِبِ فَإِنَّهُ يَدْخُل
فِي الْوَقْفِ الْحَمْل الْحَادِثُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَجَازُوا الْوَقْفَ عَلَى الْحَمْل إِذَا
كَانَ تَبَعًا، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى
مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ إِذَنْ وَهُوَ لاَ
يُمَلَّكُ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل تَبَعًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 379، 386، والمهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 /
495 - 496، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 6 / 242.
(44/142)
كَقَوْل وَاقِفٍ: وَقَفْتُ كَذَا عَلَى
أَوْلاَدِي وَفِيهِمْ حَمْلٌ فَيَشْمَلُهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال ابْنُ عَرَفَةَ نَقْلاً عَنِ الْمُتِيطِيِّ:
الْمَشْهُورُ الْمَعْمُول عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَقْفِ عَلَى الْحَمْل، قَال
ابْنُ الْهِنْدِيِّ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ
عَلَى الْحَمْل، وَالرِّوَايَاتُ وَاضِحَةٌ بِصِحَّتِهِ عَلَى مَنْ
سَيُولَدُ (2) .
وَالَّذِي تُفِيدُهُ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ
عَلَى الْحَمْل حَيْثُ قَالُوا: إِذَا وَقَفَ الرَّجُل أَرْضَهُ عَلَى
وَلَدِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَقْفًا صَحِيحًا،
فَإِنَّمَا يَدْخُل تَحْتَ الْوَقْفِ الْوَلَدُ الْمَوْجُودُ يَوْمَ
وُجُودِ الْغَلَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا يَوْمَ الْوَقْفِ أَوْ
وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، هَذَا قَوْل هِلاَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ،
وَكَذَا لَوْ قَال: عَلَى وَلَدِي وَعَلَى مَنْ يَحْدُثُ لِي مِنَ
الْوَلَدِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْمَسَاكِينِ. وَلَوْ قَال:
أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَنْ يَحْدُثُ لِي مِنَ
الْوَلَدِ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ، فَإِذَا
أُدْرِكَتِ الْغَلَّةُ تُقْسَمُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ
وَلَدٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ تُصْرَفُ الْغَلَّةُ الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ
ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَلَدِ مَا يَبْقَى هَذَا الْوَلَدُ، فَإِنْ لَمْ
يَبْقَ لَهُ وَلَدٌ صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 379، وشرح منتهى الإرادات 2 / 495، 496، والإنصاف 7 /
22.
(2) الحطاب 6 / 22، ومنح الجليل 4 / 38.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 371.
(44/143)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ
قَوْلَهُ:: ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ مِنَ الْوَلَدِ - أَيْ فِي الْوَقْفِ
عَلَى الأَْوْلاَدِ - كُل مَنْ أَدْرَكَ خُرُوجَ الْغَلَّةِ عَالِقًا
فِي بَطْنِ أُمِّهِ حَتَّى لَوْ حَدَثَ وَلَوْ بَعْدَ خُرُوجِ
الْغَلَّةِ بِأَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ، وَمَنْ حَدَثَ
إِلَى تَمَامِهَا فَصَاعِدًا لاَ يَسْتَحِقُّ؛ لأَِنَّا نَتَيَقَّنُ
بِوُجُودِ الأَْوَّل فِي الْبَطْنِ عِنْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ
فَاسْتَحَقَّ، فَلَوْ مَاتَ قَبْل الْقِسْمَةِ فَلِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا
فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ، أَمَّا إِذَا وَلَدَتْ مُبَانَةٌ لِدُونِ
سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الإِْبَانَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ
لِثُبُوتِ نَسَبِهِ بِلاَ حِل وَطْئِهَا (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:: أَنْ لاَ يَعُودَ الْوَقْفُ عَلَى الْوَاقِفِ::
وَيَشْمَل هَذَا حَالَتَيْنِ: الأُْولَى أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ،
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ. .
أ - أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ:
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الإِْنْسَانِ عَلَى
نَفْسِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الأَْوَّل: عَدَمُ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى
نَفْسِهِ لِتَعَذُّرِ تَمْلِيكِ الإِْنْسَانِ مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ؛
لأَِنَّهُ حَاصِلٌ وَتَحْصِيل الْحَاصِل مُحَالٌ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 438.
(44/143)
فِي الأَْصَحِّ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ
- وَهُوَ الْمَذْهَبُ - وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ.
لَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى
نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْقَضْ
لأَِنَّهَا مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ صِحَّةُ وَقْفِ الإِْنْسَانِ عَلَى
نَفْسِهِ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ،
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، قَالُوا: لأَِنَّ
اسْتِحْقَاقَ الشَّيْءِ وَقْفًا غَيْرُ اسْتِحْقَاقِهِ مِلْكًا، وَهُوَ
أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ (1) .
ب - أَنْ يَشْتَرِطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ:
43 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْوَاقِفِ الْغَلَّةَ
لِنَفْسِهِ أَوِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ
الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ
وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى
عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ قَوْل
ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالزُّهْرِيِّ تَرْغِيبًا
لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ. قَال فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ: مَنْ
وَقَفَ شَيْئًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 387، والدسوقي 4 / 80، ومغني المحتاج 2 /
380، وشرح منتهى الإرادات 2 / 494، والإنصاف 7 / 17.
(44/144)
عَلَى غَيْرِهِ وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهُ
كُلَّهَا أَوِ اسْتَثْنَى بَعْضَهَا لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ
مُدَّةً مُعَيَّنَةً صَحَّ، أَوِ اسْتَثْنَى غَلَّتَهُ أَوْ بَعْضَهَا
لِوَلَدِهِ كَذَلِكَ صَحَّ، أَوِ اسْتَثْنَى الأَْكْل مِنْهُ أَوِ
الاِنْتِفَاعَ لِنَفْسِهِ أَوْ لأَِهْلِهِ أَوِ اشْتَرَطَ أَنْ
يُطْعَمَ صَدِيقُهُ مِنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً
صَحَّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ حُجْرٍ
الْمَدَرِيِّ: إِنَّ فِي صَدَقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْكُل أَهْلُهُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ
غَيْرِ الْمُنْكَرِ (1) وَيَدُل لَهُ أَيْضًا قَوُل عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ: " لاَ
جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا أَوْ يُطْعِمَ
صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ " (2) ، وَكَانَ الْوَقْفُ فِي
يَدِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ ثُمَّ بِنْتِهِ حَفْصَةَ ثُمَّ ابْنِهِ عَبْدِ
اللَّهِ، قَال الْحَنَابِلَةُ وَلأَِنَّهُ لَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا
كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ كَانَ لَهُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ فَكَذَا هُنَا.
وَاسْتَدَل أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ
الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا
شَرَطَ الْبَعْضَ أَوِ الْكُل لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَل مَا صَارَ
مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لاَ أَنَّهُ يَجْعَل مِلْكَ
نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " حجر المدري: إن في صدقة رسول الله. . ". أخرجه الأثرم كما
في المغني لابن قدامة (8 / 191 - ط هجر) .
(2) أثر عمر لما وقف: لا جناح على من وليها. . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 392) ، ومسلم (3 / 1255) .
(44/144)
جَائِزٌ كَمَا إَذَا بَنَى خَانًا أَوْ
سَاقِيَةً أَوْ جَعَل أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِل فِيهِ
أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَلأَِنَّ مَقْصُودَهُ
الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إِلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ (1) ، قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْفَقَ الرَّجُل
عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ فَهُوَ صَدَقَةٌ (2)
.
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ وَأَبَا يُوسُفَ قَالُوا: إِنَّ انْتِفَاعَ
الْمَوْقُوفِ بِغَلَّةِ الْوَقْفِ لاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالشَّرْطِ،
فَلاَ يَحِل الأَْكْل مِنَ الْمَوْقُوفِ إِلاَّ إِذَا اشْتَرَطَ
ذَلِكَ.
لَكِنَّ هَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا
عَامًّا، أَمَّا إِذَا وَقَفَ شَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ
يَدْخُل فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مِثْل أَنْ يَقِفَ
مَسْجِدًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ مَقْبَرَةً فَلَهُ
الدَّفْنُ فِيهَا أَوْ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ
مِنْهَا أَوْ سِقَايَةً أَوْ شَيْئًا يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ
كَأَحَدِهِمْ (3) وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سَبَّل بِئْرَ رُومَةَ وَكَانَ
دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ (4) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 387، وفتح القدير 6 / 225 - 227، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 494 - 495، ومغني المحتاج 2 / 380.
(2) حديث: " ما أنفق الرجل على نفسه. . " أخرجه ابن ماجه (2 / 723) من
حديث المقدام بن معد يكرب، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 /
5 - ط دار الجنان) .
(3) فتح القدير 6 / 226، والمغني 5 / 604.
(4) أثر عثمان بن عفان أنه سبل بئر رومة. أخرجه الترمذي (5 / 627)
وقال: حديث حسن.
(44/145)
غَلَّةَ الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِهِ
لِنَفْسِهِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قِيَاسُ
قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَعَدَمُ الصِّحَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا
إَذَا شَرَطَ الاِنْتِفَاعَ بِغَلَّةِ الْوَقْفِ. قَال الشِّيرَازِيُّ:
لأَِنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي حَبْسَ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكَ
الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْفَعَتُهَا
مَمْلُوكَةٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ مَعْنًى، وَقَال
الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَشَرَطَ
أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ فَلاَ يَصِحُّ لِفَسَادِ
الشَّرْطِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ أَنَّهُ إِنِ
احْتَاجَ إِلَى الْوَقْفِ بَاعَ فَلَهُ بَيْعُهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ
إِثْبَاتِ الْحَاجَةِ وَالْحَلِفِ عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ
الْوَاقِفُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِلاَ يَمِينٍ (1) .
وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مَسَائِل يَجُوزُ فِيهَا لِلْوَاقِفِ
الاِنْتِفَاعُ بِالْمَوْقُوفِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى
الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ
أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ افْتَقَرَ، أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
كَأَنْ وَقَفَ كِتَابًا لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ قِدْرًا
لِلطَّبْخِ فِيهِ أَوْ كِيزَانًا لِلشُّرْبِ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ
فَلَهُ الاِنْتِفَاعُ مَعَهُمْ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ نَفْسَهُ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 380، والمهذب 1 / 448، والدسوقي 4 / 89، والخرشي
7 / 93.
(2) مغني المحتاج 2 / 380.
(44/145)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ
الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ:
44 - الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ كَالْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاجِدِ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) لَكِنَّهُمْ
يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُنْقَطِعِ
الاِبْتِدَاءِ أَوِ الْوَسَطِ أَوِ الاِنْتِهَاءِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الاِبْتِدَاءِ
وَالاِنْتِهَاءِ:
45 - كَمَنْ يَقِفُ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ فَلاَ يَصِحُّ
هَذَا الْوَقْفُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
الْمَذْهَبِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ
لِلْفُقَرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ الْوَلَدُ صُرِفَ إِلَيْهِ،
وِلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ (2) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ
ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَقْفِ عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ. (ف33)
.
ثَانِيًا: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الاِبْتِدَاءِ
مُتَّصِل الاِنْتِهَاءِ:
46 - كَمَنْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ (عِنْدَ مَنْ لاَ يُجِيزُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 365، والمهذب 1 / 448، والمغني 5 / 622، 623،
والدسوقي 4 / 84.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 414، والدسوقي 4 / 89، ومنح الجليل 4 / 66،
ومغني المحتاج 2 / 379، 386، والمهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 /
495 - 496، والمغني 5 / 607.
(44/146)
الْوَقْفَ عَلَى النَّفْسِ) أَوْ عَلَى
عَبْدٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي
الْمَذْهَبِ يُصْرَفُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ (أَيِ الْفُقَرَاءِ) فِي
الْحَال، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِنْ حِيزَ مِنَ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ قَبْل حُصُول مَانِعٍ لِلْوَاقِفِ مِنْ
فَلَسٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ مَوْتٍ فَإِنْ لَمْ يَحْصُل حَوْزٌ حَتَّى
حَصَل لِلْوَاقِفِ مَانِعٌ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ
(الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَلَسِ) لَمْ يَتِمَّ الْوَقْفُ
وَلِلْوَرَثَةِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ أَوِ الْمَوْتِ إِبْطَالُهُ
وَلَهُمْ إِجَازَتُهُ، وَفِي حَالَةِ الْفَلَسِ كَانَ لِلْغَرِيمِ
إِبْطَالُهُ وَأَخْذُهُ فِي دَيْنِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِيهِ طَرِيقَانِ: قَال الشِّيرَازِيُّ: مِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَال يَبْطُل قَوْلاً وَاحِدًا، لأَِنَّ الأَْوَّل
بَاطِلٌ، وَالثَّانِي فَرْعٌ لأَِصْلٍ بَاطِلٍ فَكَانَ بَاطِلاً،
وَمِنْهُمُ مَنْ قَال فِيهِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاطِلٌ
لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصِحُّ لأَِنَّهُ لَمَّا بَطَل الأَْوَّل صَارَ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَصَارَ الثَّانِي أَصْلاً، فَإِذَا قُلْنَا
إِنَّهُ يَصِحُّ فَإِنْ كَانَ الأَْوَّل لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ
انْقِرَاضِهِ كَرَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ صُرِفَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ
وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ
فَسَقَطَ حُكْمُهُ.
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ كَالْعَبْدِ فَفِيهِ
ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا يُنْقَل فِي الْحَال إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ
(44/146)
الَّذِي وُقِفَ عَلَيْهِ فِي الاِبْتِدَاءِ
لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لِلْوَاقِفِ ثُمَّ
لِوَارِثِهِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ثُمَّ
يُجْعَل لِمَنْ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الاِنْتِقَال
إِلَى الْفُقَرَاءِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَكُونُ لأَِقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ إِلَى أَنْ
يَنْقَرِضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُجْعَل لِلْفُقَرَاءِ،
لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الاِنْتِقَال إِلَيْهِمْ (1) .
ثَالِثًا: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ:
47 - كَمَا إِذَا وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ عَلَى
رَجُلٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ
ثُمَّ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُصْرَفُ
إِلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ انْقِطَاعِ مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ
لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَا إِذَا حَصَل
حَوْزٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَبْل حُصُول مَانِعٍ لِلْوَاقِفِ مِنْ
فَلَسٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي
الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
وَيَصِحُّ الْوَقْفُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 80 - 81، والشرح الصغير 2 / 304،
والمهذب 1 / 449، وشرح منتهى الإرادات 2 / 497، 498.
(44/147)
فَرَّقُوا بَيْنَ صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ كَوَقَفْتُ
عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى رَجُلٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ عَلَى
الْفُقَرَاءِ فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ لِوُجُودِ الصَّرْفِ فِي الْحَال
وَالْمَآل.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَوْلاَدِهِ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ
لاَ لأَِقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ أَمَدِ
الاِنْقِطَاعِ.
الثَّانِيَةُ: كَأَنْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى
الْعَبْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، كَانَ مُنْقَطِعَ
الْوَسَطِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُصْرَفُ بَعْدَ
أَوْلاَدِهِ لأَِقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ (1) .
رَابِعًا: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ
الاِنْتِهَاءِ:
48 - كَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَلَمْ يَزِدْ، أَوْ وَقَفَ
عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجْعَل آخِرُ الْوَقْفِ
لِجِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ، أَيْ أَنَّهُ لاَبُدَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى
التَّأْبِيدِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهَذَا فِي
غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ:
الرِّوَايَةُ الأُْولَى: أَنَّ التَّأْبِيدَ غَيْرُ شَرْطٍ، وَلَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 414، وحاشية الدسوقي 4 / 80، مغني المحتاج 2
/ 384، وحاشية القليوبي 3 / 103، وشرح منتهى الإرادات 2 / 497 - 498.
(44/147)
سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ كَمَا لَوْ
وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَلَمْ يَزِدْ جَازَ الْوَقْفُ، وَإِذَا
انْقَرَضُوا عَادَ إِلَى مِلْكِهِ لَوْ حَيًّا، وَإِلاَّ فَإِلَى
مِلْكِ الْوَارِثِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ حَتَّى
تُصْرَفَ الْغَلَّةُ بَعْدَ الأَْوْلاَدِ إِلَى الْفُقَرَاءِ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ
وَالْوَقْفِ الْمُؤَقَّتِ.
فَبِالنِّسْبَةِ لِلْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْجِهَةُ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا رَجَعَ الْوَقْفُ لأَِقْرَبِ فُقَرَاءِ
عَصَبَةِ الْمُحْبِسِ نَسَبًا وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ،
وَيَسْتَوِي فِي الأَْنْصِبَةِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى حَتَّى وَلَوْ
كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ فِي أَصْل وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ،
لأَِنَّ مَرْجِعَ الْوَقْفِ إِلَيْهِمْ لَيْسَ بِإِنْشَاءِ الْوَاقِفِ
وَإِنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، لَكِنْ لَوْ قَال الْوَاقِفُ إِنِ
انْقَطَعَ الْوَقْفُ رَجَعَ لأَِقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَتِي لِلذَّكَرِ
مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْمَل بِشَرْطِهِ
حَيْثُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَرْجِعِ، لأَِنَّ الْمَرْجِعَ صَارَ
بِذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَبْسِ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الاِبْنُ
فَابْنُهُ فَالأَْخُ فَابْنُهُ فَالْجَدُّ فَالْعَمُّ فَابْنُهُ
وَيَشْتَرِكُ مَعَهُمْ أَقْرَبُ امْرَأَةٍ مِنْ فُقَرَاءِ أَقَارِبِ
الْوَاقِفِ لَوْ كَانَتْ ذَكَرًا كَانَتْ عَصَبَتُهُ كَالْبِنْتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 365، وتبيين الحقائق 3 / 326 - 327، وفتح
القدير 6 / 214 - 215.
(44/148)
وَالأُْخْتِ وَالْعَمَّةِ، فَإِنْ ضَاقَ
الْوَقْفُ فِي الْغَلَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ قُدِّمَ الْبَنَاتُ
عَلَى الأُْخْوَةِ لاَ عَلَى الاِبْنِ فَتَأْخُذُ الْبَنَاتُ مَا
يَكْفِيهِنَّ وَلاَ يَأْخُذْنَ الْجَمِيعَ، وَلاَ يَدْخُل فِيهِ
الْوَاقِفُ وَلَوْ فَقِيرًا، فَإِنْ كَانَ الأَْقْرَبُ غَنِيًّا
فَلِمَنْ يَلِيهِ فِي الرُّتْبَةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُؤَقَّتًا
كَمَنْ وَقَفَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ وَقَيَّدَهُ بِحَيَاتِهِمْ
أَوْ حَيَاةِ فُلاَنٍ أَوْ قَيَّدَ بِأَجَلٍ كَعَشَرَةِ أَعْوَامٍ،
فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَنَصِيبُهُ لِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ،
فَإِذَا انْقَرَضُوا رَجَعَ مَلِكًا لِرَبِّهِ أَوْ لِوَارِثِهِ إِنْ
مَاتَ، فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ وَأَطْلَقَ فَيَرْجِعُ بَعْدَ
انْقِرَاضِ جَمِيعِهِمْ مَرْجِعَ الأَْحْبَاسِ عَلَى الأَْصَحِّ،
وَهُوَ رِوَايَةُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَمِنْهُمُ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ رُجُوعُهُ مِلْكًا
لِلْوَاقِفِ أَوْ لِوَارِثِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ.
وَإِذَا رَجَعَ مَرْجِعَ الأَْحْبَاسِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْوَقْفِ
الْمُؤَبَّدِ أَيْ لأَِقْرَبِ عَصَبَةِ الْمُحْبِسِ وَلاِمْرَأَةٍ لَوْ
فُرِضَتْ ذَكَرًا عَصَّبَتْ كَالْبِنْتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ
أَوِ انْقَرَضُوا فَلِلْفُقَرَاءِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَهُمْ رَأْيَانِ، الأَْوَّل وَهُوَ
الأَْظْهَرُ: صِحَّةُ الْوَقْفِ لأَِنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ
الْقُرْبَةُ وَالدَّوَامُ وَإِذَا بُيِّنَ مَصْرِفُهُ ابْتِدَاءً سَهُل
إِدَامَتُهُ عَلَى سَبِيل الْخَيْرِ. وَالثَّانِي: بُطْلاَنُ الْوَقْفِ
لاِنْقِطَاعِهِ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 85 - 87، والشرح الصغير 2 / 305 - 306.
(44/148)
وَعَلَى الأَْظْهَرِ فَإِذَا انْقَرَضَ
الْمَذْكُورُ فَلَهُمْ رَأْيَانِ:
فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا.
وَالثَّانِي: يَرْتَفِعُ الْوَقْفُ وَيَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ
وَارِثِهِ إِنْ مَاتَ.
وَعَلَى الرَّأْيِ الأَْوَّل الَّذِي يَرَى صِحَّةَ الْوَقْفِ، لَهُمْ
رَأْيَانِ فِي مَصْرِفِهِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الأَْظْهَرُ أَنَّهُ
يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ
الْمَذْكُورِ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الأَْقَارِبِ مِنْ أَفْضَل
الْقُرُبَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ
صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (1) .
وَيَخْتَصُّ الْمَصْرِفُ وُجُوبًا - كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْخَوَارِزْمِيُّ وَغَيْرُهُ بِفُقَرَاءَ قَرَابَةِ الرَّحِمِ لاَ
الإِْرْثِ فِي الأَْصَحِّ فَيُقَدَّمُ ابْنُ بِنْتٍ عَلَى ابْنِ عَمٍّ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ صَرَفَ الإِْمَامُ الرَّيْعَ إِلَى
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ
النَّصِّ، وَقِيل: يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ، لأَِنَّ الْوَقْفَ يَؤُول إِلَيْهِمْ فِي
الاِنْتِهَاءِ (2) .
__________
(1) حديث: " الصدقة على المسكين. . . " أخرجه الترمذي (3 / 38) من حديث
سلمان بن عامر. وقال: حديث حسن.
(2) مغني المحتاج 2 / 384، والمهذب 1 / 448 وما بعدها.
(44/149)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ
وَيُصْرَفُ بَعْدَ مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ إِلَى وَرَثَةِ
الْوَاقِفِ نَسَبًا حِينَ الاِنْقِطَاعِ عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمْ،
وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ فَلاَ يَمْلِكُونَ نَقْل الْمِلْكِ فِي
رَقَبَتِهِ (1) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا
مَعْلُومَةً:
49 - الأَْصْل فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا مَعْلُومَةً، فَإِذَا لَمْ تُحَدَّدِ الْجِهَةُ
أَصْلاً فِي الْوَقْفِ كَمَا إِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ
وَسَكَتَ، وَلَمْ يُحَدِّدْ مَصْرِفًا، أَوْ إِذَا كَانَتِ الْجِهَةُ
مَجْهُولَةً أَوْ مُبْهَمَةً كَالْوَقْفِ عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ
مُعَيَّنٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صِحَّتَهُ وَلَهُمْ فِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ إِلَى
أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفًا بِأَنْ قَال: وَقَفْتُ
وَسَكَتَ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْجِهَةَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهَا فَإِنَّ
الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَصِيرُ
إِلَيْهِ الْمَوْقُوفُ:
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَعَلَيْهِ
الْفَتْوَى، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَوْلَهُ وَقَفْتُ يَقْتَضِي إِزَالَتَهُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 498.
(44/149)
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إِلَى
نَائِبِهِ وَهُوَ الْفَقِيرُ وَمِثْل ذَلِكَ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ قَال دَارِي وَقْفٌ وَلَمْ يُعَيِّنْ
مَصْرِفَهُ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى مَا يُوَجِّهُهُ الْمَالِكُ إِنْ
أَمْكَنَ سُؤَالُهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ سُؤَالُهُ صُرِفَ فِي غَالِبِ مَا
يُقْصَدُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ غَالِبًا فِي عُرْفِ أَهْل بَلَدِ
الْوَاقِفِ كَأَهْل الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
غَالِبٌ لَهُمْ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ
بِالاِجْتِهَادِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُصْرَفُ إِلَى وَرَثَتِهِ نَسَبًا عَلَى
قَدْرِ إِرْثِهِمْ وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ فَلاَ يَمْلِكُونَ
نَقْل الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ، وَيَقَعُ الْحَجْبُ بَيْنَ
الْوَرَثَةِ كَالإِْرْثِ فَلِلْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ الثُّلُثُ وَلَهُ
الْبَاقِي وَلِلأَْخِ مِنَ الأُْمِّ مَعَ الأَْخِ لِلأَْبِ السُّدُسُ
وَلَهُ مَا بَقِيَ، فَإِنْ عُدِمُوا فَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَنَصُّ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيَرْجِعُ إِلَى
بَيْتِ الْمَال.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُل وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبُطْلاَنُهُ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ لِعَدَمِ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ.
لَكِنْ قَال مُحَمَّدٌ: لَوْ قَال: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ وَصَدَقَةُ
الْوَقْفِ وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ، لأَِنَّ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ يَدُل
عَلَى التَّأْبِيدِ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لأَِنَّ
مَحَل الصَّدَقَةِ فِي
(44/150)
الأَْصْل الْفُقَرَاءُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ مَجْهُولَةٍ كَالْوَقْفِ عَلَى
رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِهَةُ مُبْهَمَةً
كَالْوَقْفِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ
صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ، لأَِنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ مُنْجَزٌ فَلَمْ
يَصِحَّ (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ:
50 - إِذَا ذَكَرَ الْوَاقِفُ طَبَقَةً وَاحِدَةً فِي الْوَقْفِ عَلَى
الأَْوْلاَدِ كَأَنْ يَقُول: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي أَوْ وَقَفْتُ
عَلَى وَلَدِي ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ
الْحَال يَنْفَرِدُ بِالاِسْتِحْقَاقِ مَنْ يَكُونُ مَوْجُودًا مِنْ
أَوْلاَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ
وَالْجَمْعِ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى كَمَا قَالَهُ أَهْل اللُّغَةِ،
وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لأَِنَّهُ جَعَلَهُ لَهُمْ،
وَإِطْلاَقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ
__________
(1) الإسعاف ص16، الطبعة الثانية طبعة هندية، وحاشية ابن عابدين 3 /
365 - 366، والفتاوى الهندية 2 / 357 - 358، وفتح القدير 6 / 202،
والدسوقي 4 / 87 - 88، والشرح الصغير 2 / 300، ومغني المحتاج 2 / 384،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 498، ونيل المآرب 2 / 14.
(2) المهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 / 485، ونيل المآرب 2 / 13،
وروضة القصاة للسمناني 2 / 794.
(44/150)
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ وَلَدٌ
وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ جَمِيعَ غَلَّةِ الْوَقْفِ، وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ (1) .
وَإِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي
الاِسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
اخْتَارَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ الزَّاغَوَانِيِّ
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي
الْمُبْهِجِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَاخْتَارَهُ فِي الإِْقْنَاعِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَدْخُل فِي الاِسْتِحْقَاقِ
الْوَلَدُ الَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَقْفِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ (2) .
51 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُول أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ
فِيمَا لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي
وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الأَْوْلاَدِ
سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ لأَِنَّ
الْوَلَدَ حَقِيقَةً
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 436 - 437، والإسعاف 95 -
96، وفتح القدير 6 / 242 - 243، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 93،
والمهذب 1 / 451، ومغني المحتاج 2 / 387، وكشاف القناع 4 / 277 - 278.
(2) فتح القدير 6 / 243، وأحكام الأوقاف ص104، وحاشية الدسوقي 4 / 77،
89، ومغني المحتاج 2 / 387، والروضة 5 / 337، ونهاية المحتاج 5 / 378،
وكشاف القناع 4 / 278، ومنتهى الإرادات 2 / 508، والإنصاف 7 / 74 وما
بعدها.
(44/151)
وَعُرْفًا إِنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ
لِصُلْبِهِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدًا مَجَازًا
وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ اقْتَصَرَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى طَبَقَةٍ
وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْبَطْنُ الأَْوَّل وَلَمْ يُوجَدْ نَصٌّ أَوْ
شَرْطٌ بِدُخُول أَوْلاَدِ الاِبْنِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَوْلاَدَ الاِبْنِ
فَقَطْ دُونَ الإِْنَاثِ يَدْخُلُونَ لأَِنَّ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَدٌ
لَهُ بِدَلِيل قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ} (2) وَ {يَابَنِي
إِسْرَائِيل} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ
رَامِيًا (4) ، وَلاَ يَدْخُل فِي ذَلِكَ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ
لأَِنَّهُمْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، وَلأَِنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ
يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّاعِرُ:
بَنُونَا بَنُو آبَائِنَا وَبَنَاتُنَا
بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَال الأَْبَاعِدِ (5)
__________
(1) الإسعاف ص96، ومغني المحتاج 2 / 387، والروضة 5 / 335 - 336،
والمغني 5 / 609.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) سورة البقرة / 40.
(4) حديث: " ارموا بني إسماعيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 /
413) من حديث سلمة بن الأكوع.
(5) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 44، ومنح الجيل 4 / 73،
والروضة 5 / 336، ومغني المحتاج 2 / 387، وكشاف القناع 4 / 278، وشرح
المنتهى 2 / 508، والإنصاف 7 / 74.
(44/151)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ
أَوْلاَدَ الأَْوْلاَدِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ
مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانُوا أَوْلاَدَ الْبَنِينَ أَوْ أَوْلاَدَ
الْبَنَاتِ لأَِنَّ الْبَنَاتَ أَوْلاَدُهُ، وَأَوْلاَدُهُنَّ
أَوْلاَدُ أَوْلاَدِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ}
إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} (1) وَهُوَ وَلَدُ بِنْتِهِ - وَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ (2)
يَعْنِي الْحَسَنَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ " إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ
أَوْلاَدٌ حِينَ الْوَقْفِ عَلَى الْوَلَدِ وَكَانَ لَهُ أَوْلاَدُ
أَوْلاَدٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ يُحْمَل عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ
الْقَرِينَةِ وَصِيَانَةً لِكَلاَمِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الإِْلْغَاءِ
كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَيَكُونُ وَلَدُ الاِبْنِ عِنْدَ عَدَمِ
وَلَدِ الصُلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ قَال فِي
الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ وَلَدُ صُلْبٍ
حِينَ الْوَقْفِ عَلَى الْوَلَدِ فَيُخْتَصُّ بِوَلَدِ الاِبْنِ وَلَوْ
أُنْثَى، لأَِنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَعُمُّهُ دُونَ مَنْ دُونَهُ مِنَ
الْبُطُونِ وَدُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي الصَّحِيحِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَخَذَ
__________
(1) سورة الأنعام / 84 - 85.
(2) حديث: " إن ابني هذا سيد. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 307)
من حديث أبي بكرة.
(44/152)
هِلاَلٌ، لأَِنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ
يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ لاَ آبَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ بِخِلاَفِ
وَلَدِ الاِبْنِ، وَقَال فِي الإِْسْعَافِ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ، وَالصَّحِيحُ
ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلاَ وَلَدُ وَلَدٍ وَكَانَ لَهُ وَلَدُ
وَلَدِ وَلَدٍ فَالْغَلَّةُ لَهُ وَلِمَنْ كَانَ أَسْفَل مِنَ
الْبُطُونِ، وَعَمَّ نَسْلُهُ الأَْقْرَبَ وَالأَْبْعَدَ إِلاَّ أَنْ
يَذْكُرَ مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ (1) .
52 - وَيَسْتَوِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول الْوَاقِفُ: عَلَى
وَلَدِي بِصِيغَةِ الإِْفْرَادِ، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِي بِصِيغَةِ
الْجَمْعِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ، فَمَا سَبَقَ
مِنْ أَحْكَامٍ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِصِيغَةِ
الإِْفْرَادِ، أَمَّا إِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى
أَوْلاَدِي بِلْفِظِ الْجَمْعِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ
الاِخْتِيَارِ أَنَّهُ يَشْمَل جَمِيعَ الْبُطُونِ لِعُمُومِ اسْمِ
الأَْوْلاَدِ، وَيُقَدَّمُ الْبَطْنُ الأَْوَّل، فَإِذَا انْقَرَضَ
فَالثَّانِي، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ
الْبُطُونِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 437، والإسعاف ص96، وفتح القدير 6 / 243،
ومغني المحتاج 2 / 387، والمغني 5 / 609، ونهاية المحتاج 5 / 378.
(44/152)
السَّوَاءِ قَرِيبُهُمْ وَبِعِيدُهُمْ،
لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي
الْخَانِيَّةِ فَفِيهَا: رَجُلٌ وَقَفَ أَرْضًا عَلَى أَوْلاَدِهِ
وَجَعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ فَمَاتَ بَعْضُهُمْ قَال هِلاَلٌ:
يُصْرَفُ الْوَقْفُ إِلَى الْبَاقِي فَإِذَا مَاتُوا يُصْرَفُ إِلَى
الْفُقَرَاءِ لاَ إِلَى وَلَدِ الْوَلَدِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي
الْخُلاَصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَخِزَانَةِ الْفَتَاوَى وَخِزَانَةِ
الْمُفْتِينَ (1) .
وَإِنْ خَصَّصَ فِي وَقْفِهِ الذُّكُورَ دُونَ الإِْنَاثِ اخْتُصَّ
بِهِمْ، وَكَذَا إِذَا ذَكَرَ أَوْلاَدَهُ بِالاِسْمِ فَقَال: وَقَفْتُ
عَلَى أَوْلاَدِي فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فَلاَ يَشْمَل الْمَسْكُوتَ عَنْهُ
مِنْ أَوْلاَدِهِ (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ:
53 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي
فَقَطْ، أَيْ لَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى الْبَطْنَيْنِ
وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْغَلَّةِ، وَلاَ يُقَدَّمُ الصُّلْبِيُّ عَلَى
وَلَدِ الاِبْنِ، لأَِنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا حَيْثُ لَمْ يَذْكُرُ
مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا انْقَرَضَ الأَْوْلاَدُ
وَأَوْلاَدُهُمْ صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ لاِنْقِطَاعِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلاَ يَدْخُل الْبَطْنُ الثَّالِثُ حَيْثُ
لَمْ يَذْكُرِ الْوَلَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَوْ زَادَ فَذَكَرَ
الْبَطْنَ الثَّالِثَ بِأَنْ قَال: عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 438.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 92، ومواهب الجليل 6 / 44، وكشاف القناع 4 /
281، وفتح القدير 6 / 243.
(44/153)
وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي عَمَّ
نَسْلَهُ فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ إِلَى أَوْلاَدِهِ مَا تَنَاسَلُوا لاَ
لِلْفُقَرَاءِ مَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفُل،
وَيَشْتَرِكُ جَمِيعُ الْبُطُونِ فِي الْغَلَّةِ لِعَدَمِ مَا يَدُل
عَلَى التَّرْتِيبِ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ
كَأَنْ يَقُول: الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، أَوْ يَقُول: عَلَى وَلَدِي
ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِي وَهَكَذَا، أَوْ يَقُول: بَطَنًا بَعْدَ
بَطْنٍ فَحِينَئِذٍ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْوَاقِفُ (1) .
أَمَّا لَوْ ذَكَرَ الأَْوْلاَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَال:
عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي فَإِنَّ الْغَلَّةَ تُصْرَفُ
إِلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا،
وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مَا دَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
بَاقِيًا وَإِنْ سَفُل، لأَِنَّ اسْمَ الأَْوْلاَدِ يَتَنَاوَل الْكُل
بِخِلاَفِ اسْمِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ
ثَلاَثَةِ بُطُونٍ حَتَّى يُصْرَفَ إِلَى النَّوَافِل (2) مَا
تَنَاسَلُوا، وَالأَْقْرَبُ وَالأَْبْعَدُ فِي الْغَلَّةِ سَوَاءٌ،
فَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ وَالأُْنْثَى مِثْل
الذَّكَرِ (3) .
هَل يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبِنْتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ:
54 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي دُخُول وَلَدِ الْبِنْتِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 437، والإسعاف ص98.
(2) النوافل جمع نافلة، ومن معانيها: ولد الولد (المصباح المنير) .
(3) الإسعاف ص98.
(44/153)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ اعْلَمْ أَنَّهُمْ
ذَكَرُوا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ الْمُفْتَى بِهِ عَدَمُ دُخُول
أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي الأَْوْلاَدِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ قَال:
عَلَى أَوْلاَدِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ أَوْ بِلَفْظِ اسْمِ الْجِنْسِ
كَوَلَدِي وَسَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَطْنِ الأَْوَّل أَوْ ذَكَرَ
الْبَطْنَ الثَّانِيَ مُضَافًا إِلَى الْبَطْنِ الأَْوَّل الْمُضَافِ
إِلَى ضَمِيرِ الْوَاقِفِ كَأَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي أَوِ
الْعَائِدِ عَلَى الأَْوْلاَدِ كَأَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِهِمْ عَلَى مَا
فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ.
وَقَال الْخَصَّافُ: يَدْخُلُونَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
وَقَال عَلِيٌّ الرَّازِيُّ: إِنْ ذَكَرَ الْبَطْنَ الثَّانِي بِلَفْظِ
اسْمِ الْجِنْسِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاقِفِ كَوَلَدِي
وَوَلَدِ وَلَدِي لاَ يَدْخُلُونَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ
الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الأَْوْلاَدِ كَأَوْلاَدِي، وَأَوْلاَدِ
أَوْلاَدِهِمْ دَخَلُوا.
وَقَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لاَ يَدْخُلُونَ فِي
الْبَطْنِ الأَْوَّل رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي
الْبَطْنِ الثَّانِي، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الدُّخُول لأَِنَّ وَلَدَ
الْوَلَدِ اسْمٌ لِمَنْ وَلَدَهُ وَلَدُهُ، وَابْنَتُهُ وَلَدُهُ،
فَمَنْ وَلَدَتْهُ بِنْتُهُ يَكُونُ وَلَدَ وَلَدِهِ حَقِيقَةً (1) .
وَفِي الإِْسْعَافِ: قَال هِلاَلٌ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ
عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ تَكُونُ
الْغَلَّةُ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ ابْنِهِ. لأَِنَّهُ سَوَّى
بَيْنِهِمَا فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 434.
(44/154)
الذِّكْرِ وَيَدْخُل وَلَدُ الْبِنْتِ.
وَنَقَل صَاحِبُ الإِْسْعَافِ قَوْل عَلِيٍّ الرَّازِيِّ الَّذِي
ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، ثُمَّ قَال: وَالصَّحِيحُ مَا قَال
هِلاَلٌ، لأَِنَّ اسْمَ وَلَدِ الْوَلَدِ كَمَا يَتَنَاوَل أَوْلاَدَ
الْبَنِينَ يَتَنَاوَل أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي
فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ وَأَوْلاَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَل الْحَافِدَ
أَيْ وَلَدَ الْبِنْتِ، لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي الذُّكُورِ
وَالإِْنَاثِ فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَوَلَدُهُ بِمَنْزِلَتِهِ دَخَل
وَلَدُ الْبِنْتِ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ (فَمَنْ مَاتَ) مِنْ تَمَامِ
صِيغَةِ الْوَقْفِ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ يَدْخُل
وَلَدُ الْبِنْتِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي مُعِينِ
الْحُكَّامِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ تَمَامِ الْوَقْفِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ حِينَ الْوَقْفِ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجَ
وَالتَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيل وَذَكَرَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ.
فَإِنْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى ابْنَتِي وَوَلَدِهَا دَخَل أَوْلاَدُهَا
الذُّكُورُ وَالإِْنَاثُ فَإِنْ مَاتُوا كَانَ لأَِوْلاَدِ الذُّكُورِ
ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَلاَ شَيْءَ لاِبْنِ بِنْتٍ ذَكَرٍ وَلاَ
لاِبْنِ بِنْتٍ أُنْثَى.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي دُخُول وَلَدِ الْبِنْتِ فِي
الاِسْتِحْقَاقِ فِيمَا لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي
وَوَلَدِ وَلَدِي، أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ
أَوْلاَدِي.
__________
(1) الإسعاف ص97.
(44/154)
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى
أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ،
لأَِنَّ الْوَلَدَ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَهُوَ
رِوَايَةُ أَبِي الْحَسَنِ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ،
وَنَقَلَهُ ابْنُ غَازِي فِي تَكْمِيلِهِ وَقَال عَقِيبَهُ: وَهُوَ
الْمَشْهُورُ، وَقِيل: إِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لاَ يَدْخُل وَلاَ
يَسْتَحِقُّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ
عَبْدُوسٍ عَنْ مَالِكٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ
(1) .
كَمَا اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي دُخُول وَلَدِ الْبِنْتِ فِيمَا
لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِهِمْ فَأَفْتَى أَهْل
قُرْطُبَةَ بِدُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ وَقَضَى بِهِ
ابْنُ السَّلِيمِ، وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: لاَ يَدْخُلُونَ فِي
الْوَقْفِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِل
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ
أَوْلاَدِهِ دَخَل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ لِصِدْقِ
اللَّفْظِ بِهِمْ، فَإِنْ قَال: عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيَّ مِنْ
أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي لَمْ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ عَلَى
الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ بَل إِلَى
آبَائِهِمْ (3) .
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي دُخُول الْبَطْنِ الثَّالِثِ فِيمَا
لَوْ وَقَفَ عَلَى بَطْنَيْنِ فَقَطْ، قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ وَقَفَ
عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ فَفِي دُخُول أَوْلاَدِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 93.
(2) منح الجليل 4 / 74، 75.
(3) روضة الطالبين 5 / 336، ومغني المحتاج 2 / 388.
(44/155)
أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ الْخِلاَفُ (أَيِ
الْخِلاَفُ السَّابِقُ فِي دُخُول أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ فِي
الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لاَ
يَدْخُلُونَ) (1) .
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ
أَوْلاَدِي فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي أَصْل الإِْعْطَاءِ
وَالْمِقْدَارِ بَيْنَ الْكُل وَهُوَ جَمِيعُ أَفْرَادِ الأَْوْلاَدِ
وَأَوْلاَدِهِمْ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، لأَِنَّ الْوَاوَ
لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لاَ لِلتَّرْتِيبِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الأُْصُولِيِّينَ، وَكَذَا يُسَوَّى بَيْنَ الْكُل لَوْ زَادَ فَقَال:
مَا تَنَاسَلُوا، أَيْ أَوْلاَدُ الأَْوْلاَدِ، وَكَذَا لَوْ قَال:
بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَوْ نَسْلاً بَعْدَ نَسْلٍ. فَإِنَّهُ
يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَيُشَارِكُ الْبَطْنُ
الأَْسْفَل الْبَطْنَ الأَْعْلَى، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ
الْبَغَوِيُّ وَالْفَوْرَانِيُّ وَالْعَبَّادِيُّ. وَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ.
لِلتَّرْتِيبِ وَصَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ تَبَعًا لاِبْنِ يُونُسَ.
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ أَوْلاَدِ
أَوْلاَدِي ثُمَّ أَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ
بَطْنٍ فَهُوَ لِلتَّرْتِيبِ فَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي
شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الأَْوَّل وَاحِدٌ وَلاَ إِلَى
الثَّالِثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّانِي أَحَدٌ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ
دَخَل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ، وَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 336.
(2) مغني المحتاج 2 / 386 - 387، وروضة الطالبين 5 / 334 - 336.
(44/155)
الْبَنَاتِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ كَقَوْلِهِ:
مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ وَكَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ
عَلَى أَوْلاَدِي فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ ثُمَّ أَوْلاَدِهِمْ،
أَوْ قَال: عَلَى أَنَّ لِوَلَدِ الذَّكَرِ سَهْمَيْنِ وَلِوَلَدِ
الأُْنْثَى سَهْمًا فَإِنَّهُ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ يَدْخُل فِيهِ
وَلَدُ الْبَنَاتِ (1) .
وَإِنْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي مَا تَنَاسَلُوا
وَتَعَاقَبُوا الأَْعْلَى فَالأَْعْلَى أَوِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ
أَوِ الأَْوَّل فَالأَْوَّل أَوِ الْبَطْنِ الأَْوَّل ثُمَّ الْبَطْنِ
الثَّانِي أَوْ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي
أَوْ عَلَى أَوْلاَدِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلاَدِ
أَوْلاَدِي فَكُل هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ فَيَكُونُ عَلَى مَا شَرَطَ
وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي شَيْئًا حَتَّى يَنْقَرِضَ
الْبَطْنُ الأَْوَّل كُلُّهُ وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَطْنِ
الأَْوَّل كَانَ الْجَمِيعُ لَهُ.
وَإِنْ قَال: عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِهِمْ مَا تَعَاقَبُوا
وَتَنَاسَلُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ
مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى وَلَدِهِ كَانَ ذَلِكَ
دَلِيلاً عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فَإِنَّهُ
يَتَرَتَّبُ بَيْنَ كُل وَلَدٍ وَوَلَدِهِ، فَمَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ
انْتَقَل إِلَى وَلَدِهِ سَهْمُهُ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ
الأَْوَّل أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ.
وَإِنْ رَتَّبَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَقَال: وَقَفْتُ عَلَى
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 508، والمغني 5 / 615.
(44/156)
وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي ثُمَّ عَلَى
أَوْلاَدِهِمْ أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى
أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا
أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي ثُمَّ
عَلَى أَوْلاَدِهِمْ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا فَهُوَ
عَلَى مَا قَال، يَشْتَرِكُ مَنْ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ بِالْوَاوِ
الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ، وَتَرْتِيبُ مَنْ
رَتَّبَهُ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ ثُمَّ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ
الأُْولَى يَشْتَرِكُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ إِذَا
انْقَرَضُوا صَارَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَخْتَصُّ
بِهِ الْوَلَدُ، وَفِي الثَّالِثَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَطْنَانِ
الأَْوَّلاَنِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِذَا انْقَرَضُوا اشْتَرَكَ فِيهِ
مَنْ بَعْدَهُمْ (1) .
الْوَقْفُ عَلَى الْبَنِينَ:
55 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْبَنِينَ هَل
يَشْمَل الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ أَمْ يَقْتَصِرُ عَلَى الذُّكُورِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْوْجُهِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ فَإِنَّهُ يَشْمَل الذُّكُورَ
وَالإِْنَاثَ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 610 - 611، وكشاف القناع 4 / 280.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 433، 438، وشرح الزرقاني 7 /
90، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 93.
(44/156)
جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ قَال
الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى بَنِيِّ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ قَال
هِلاَلٌ: تَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ،
لأَِنَّ الْبَنَاتَ إِذَا جُمِعْنَ مَعَ الْبَنِينَ ذُكِرْنَ بِلَفْظِ
التَّذْكِيرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ
قَال: عَلَى إِخْوَتِي وَلَهُ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ تَكُونُ الْغَلَّةُ
لَهُمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}
(1) وَأَنَّهُ يَشْمَل الإِْنَاثَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُهُ عَلَى
بَنِيِّ وَلَهُ بَنَاتٌ فَقَطْ أَوْ قَال: عَلَى بَنَاتِي وَلَهُ
بَنُونَ لاَ غَيْرَ تَكُونُ الْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ شَيْءَ
لَهُمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا مُنْقَطِعًا، وَلاَ شَيْءَ لِلْبَنَاتِ أَوِ
الْبَنِينَ لِعَدَمِ صِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى مَدْلُول الآْخَرِ،
فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ وُلِدَ لَهُ بَنُونَ فِي الأَْوَّل
أَوْ وُلِدَ لَهُ بَنَاتٌ فِي الثَّانِي عَادَ الْوَقْفُ إِلَيْهِمْ.
وَلَوْ قَال: عَلَى بَنَاتِي وَلَهُ بَنَاتٌ وَبَنُونَ تَكُونُ
الْغَلَّةُ لِلْبَنَاتِ فَقَطْ لِعَدَمِ شُمُول لَفْظِ الْبَنَاتِ
الْبَنِينَ، وَلَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى بَنِيَّ وَكَانَ لَهُ
ابْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ تَكُونُ الْغَلَّةُ كُلُّهَا لَهُمْ، وَإِنْ
كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْغَلَّةِ
وَالنِّصْفُ الآْخَرُ لِلْمَسَاكِينِ، لأَِنَّ أَقَل الْجَمْعِ
اثْنَانِ هُنَا كَالْوَصِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ
لَوْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ لاَ يَدْخُل الإِْنَاثُ وَتَكُونُ
الْغَلَّةُ
__________
(1) سورة النساء / 11.
(2) الإسعاف ص96، والدر المختار 3 / 438.
(44/157)
لِلذُّكُورِ خَاصَّةً، لأََنَّ الْبَنِينَ
اسْمٌ لِلذُّكُورِ حَقِيقَةً (1) ، قَال تَعَالَى: {أَاصْطَفَى
الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (2) ، وَقَال تَعَالَى: {زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ وَقَفَ عَلَى بَنِي
فُلاَنٍ وَهُمْ قَبِيلَةٌ - كَالْوَقْفِ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ -
فَإِنَّهُ يَشْمَل الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ، لأَِنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ
عَنِ الْقَبِيلَةِ.
وَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ الْقَبِيلَةِ وَفِي
الْوَجْهِ الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الإِْنَاثَ لاَ
يَدْخُلْنَ لأَِنَّ الْبَنِينَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ حَقِيقَةً (4) .
الْوَقْفُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنَّسْل وَالْعَقِبِ:
أ - الْوَقْفُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ:
56 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى ذُرِّيَّتِي فَإِنَّهُ
يَشْمَل أَوْلاَدَهُ الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ وَأَوْلاَدَ أَوْلاَدِهِ
الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ وَهَكَذَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ،
لأَِنَّ الْبَنَاتِ أَوْلاَدُهُ وَأَوْلاَدَهُنَّ أَوْلاَدُ
أَوْلاَدِهِ
__________
(1) المهذب 1 / 451، والإنصاف 7 / 84، وكشاف القناع 4 / 285، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 511، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 93.
(2) سورة الصافات / 153.
(3) سورة آل عمران / 14.
(4) الإسعاف ص96، والمهذب 1 / 450، وكشاف القناع 4 / 285، وروضة
الطالبين 5 / 336.
(44/157)
حَقِيقَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِيسَى} (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ابْنِي
هَذَا سَيِّدٌ (2) يَعْنِي الْحَسَنَ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَقَال فِي
الشَّرْحِ: وَالْقَوْل بِدُخُولِهِمْ أَصَحُّ وَأَقْوَى دَلِيلاً.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْوَاقِفِ
ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَأَوْلاَدُ أَوْلاَدِهِ الذُّكُورِ دُونَ
أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ، فَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ إِلاَّ
بِقَرِينَةٍ لأَِنَّهُمْ لاَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ (3) .
ب - الْوَقْفُ عَلَى النَّسْل:
57 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى نَسْلِي فَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي الْمَذْهَبِ - وَفِي رِوَايَةٍ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْوَاقِفِ
ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ وَأَوْلاَدُ الذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهِ دُونَ
أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: فَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ إِلاَّ
بِقَرِينَةٍ لأَِنَّهُمْ لاَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهَذَا مَا لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِدُخُول
أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ لأَِنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ
عَلَى الْعُرْفِ.
__________
(1) سورة الأنعام / 84 - 85.
(2) حديث: " إن ابني هذا سيد. . " تقدم تخريجه ف49.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 433، والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي عليه 4 / 92، 93، وروضة الطالبين 5 / 337، وكشاف القناع 4 /
287، والمهذب 1 / 451.
(44/158)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ
أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى النَّسْل
كَأَوْلاَدِ الذُّكُورِ، لأَِنَّ الْجَمِيعَ مِنْ نَسْلِهِ (1)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ}
إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} (2) .
ج - الْوَقْفُ عَلَى الْعَقِبِ:
58 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى عَقِبِي فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي الْمَذْهَبِ
- يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ
وَإِنَاثُهُمْ، وَأَوْلاَدُ الذُّكُورِ مِنْ أَوْلاَدِهِ دُونَ
أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ وَلَدَ
وَلَدِهِ الذُّكُورِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ
عُرْفٌ بِدُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ، لأَِنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ
الْوَاقِفِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْعَقِبِ (3) .
الْوَقْفُ عَلَى الْقَرَابَةِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْقَرَابَةِ
فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: قَرَابَتُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 439، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 93،
والمهذب 1 / 451، وكشاف القناع 4 / 287، ومغني المحتاج 2 / 388.
(2) سورة الأنعام / 84 - 85.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 439، وحاشية الدسوقي 4 / 93، والمهذب 1 /
451، وكشاف القناع 4 / 287، ومغني المحتاج 2 / 388.
(44/158)
وَأَرْحَامُهُ وَأَنْسَابُهُ كُل مَنْ
يَنْتَسِبُ إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي
الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الإِْسْلاَمَ أَسْلَمَ أَوْ
لَمْ يُسْلِمْ، وَقِيل: يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ الأَْبِ الأَْعْلَى وَلاَ
يَشْمَل ذَلِكَ أَبَوَيْهِ وَوَلَدَهُ لِصُلْبِهِ فَإِنَّهُمْ لاَ
يُسَمَّوْنَ قَرَابَةً اتِّفَاقًا وَكَذَا مَنْ عَلاَ مِنْهُمْ أَوْ
سَفُل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ
فَقَدْ عَدَّهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَتَنَاوَل لَفْظُ الأَْقَارِبِ أَقَارِبَ
جِهَةِ أَبِيهِ وَجِهَةِ أُمِّهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَسَوَاءٌ كَانَ
مَنْ يَقْرُبُ لأُِمِّهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا أَوْ جِهَةِ أُمِّهَا،
ذُكُورًا وَإِنَاثًا كَوَلَدِ الْخَال أَوِ الْخَالَةِ وَلَوْ كَانُوا
كُفَّارًا، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِصِدْقِ
اسْمِ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وَقَفَ عَلَى أَقَارِبِهِ دَخَل فِيهِ
كُل مَنْ تُعْرَفُ قَرَابَتُهُ غَيْرَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ فِي
الأَْصَحِّ، فَإِنْ كَانَ لِلْوَاقِفِ أَبٌ يُعْرَفُ بِهِ وَيُنْسَبُ
إِلَيْهِ دَخَل فِي وَقْفِهِ كُل مَنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الأَْبِ
وَلاَ يَدْخُل فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَخِي الأَْبِ أَوْ أَبِيهِ،
وَيَسْتَوِي فِيمَنْ يَدْخُل مَنْ قَرُبَ وَبَعُدَ مِنْ أَقَارِبِهِ
وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى لِتَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي
الْقَرَابَةِ، وَإِنْ حَدَثَ قَرِيبٌ بَعْدَ الْوَقْفِ دَخَل فِيهِ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 439.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 94.
(44/159)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّ الأَْصْل
وَالْفَرْعَ يَدْخُلُونَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَةِ
زَيْدٍ فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ
أَبِيهِ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، وَأَوْلاَدُ جَدِّهِ وَهُمْ
أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَأَوْلاَدُ جَدِّ أَبِيهِ وَهُمْ
جَدُّهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُ أَبِيهِ فَقَطْ، لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ
بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي
عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَعْطَى بَنِي
الْمُطَّلِبِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ
إِسْلاَمٍ وَلَمْ يُعْطِ قَرَابَتَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو
زُهْرَةَ شَيْئًا مِنْهُ.
وَيُسَوَّى مَنْ يُعْطَى مِنْهُمْ فَلاَ يُفَضِّل أَعْلَى وَلاَ
فَقِيرًا وَلاَ ذَكَرًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ،
وَلاَ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ عَلَى قَرَابَتِهِ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ
دِينَ الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُل فِي
قَرَابَتِهِ كَافِرُهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَدْخُل
الْمُسْلِمُ فِي قَرَابَتِهِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الآْل وَالأَْهْل:
60 - الآْل وَالأَْهْل بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّ مَدْلُولَهُمَا يَخْتَلِفُ، وَلِذَلِكَ
يَخْتَلِفُ
__________
(1) المهذب 1 / 451، ومغني المحتاج 3 / 63، وروضة الطالبين 6 / 176.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 511، والإنصاف 7 / 85، وكشاف القناع 4 /
287.
(44/159)
مَنْ يَشْمَلُهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الآْل
وَالأَْهْل:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ
الْوَقْفَ عَلَى الآْل وَالأَْهْل كَالْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الآْل وَالأَْهْل
يَشْمَل الْعَصَبَةَ (1) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (آل ف3) .
انْقِرَاضُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:
61 - الاِنْقِرَاضُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِطَاعُ، وَانْقَرَضَ
الْقَوْمُ: دَرَجُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ (2) وَالْفُقَهَاءُ
يَسْتَعْمِلُونَهُ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُمْ تَارَةً
يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِرَاضٍ) وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ
(انْقِطَاعٍ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَهُمَا (3) ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
غَالِبًا مَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ انْقِرَاضٍ فِي تَرْتِيبِ
الطَّبَقَاتِ أَوِ الْبُطُونِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ
وَذَلِكَ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا قَال الْوَاقِفُ:
وَقَفْتُ عَلَى وَلَدَيَّ هَذَيْنِ فَإِذَا انْقَرَضَا فَهِيَ عَلَى
أَوْلاَدِهِمَا أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، قَال الشَّيْخُ الإِْمَامُ
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 391، وابن عابدين 3 / 439، والبدائع 7 / 349 -
350، وحاشية الدسوقي 4 / 94، وروضة الطالبين 6 / 174 وما بعدها،
وقليوبي وعميرة 3 / 171، وشرح منتهى الإرادات 2 / 511، والإنصاف 7 /
87.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح.
(&# x663 ;) المغني 5 /
623، والمهذب 1 / 448.
(44/160)
الْفَضْل: إِذَا انْقَرَضَ أَحَدُ
الْوَلَدَيْنِ وَخَلَّفَ وَلَدًا يُصْرَفُ نِصْفُ الْغَلَّةِ إِلَى
الْبَاقِي، وَالنِّصْفُ الآْخَرُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا
مَاتَ الْوَلَدُ الآْخَرُ يُصْرَفُ جَمِيعُ الْغَلَّةِ إِلَى أَوْلاَدِ
أَوْلاَدِهِ لأَِنَّ مُرَاعَاةَ شَرْطِ الْوَاقِفِ لاَزِمَةٌ فِي
الْوَقْفِ وَهُوَ إِنَّمَا جَعَل لأَِوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ بَعْدَ
انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الأَْوَّل فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا يُصْرَفُ
الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ (1) .
وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْبُطُونِ قَدْ يَكُونُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ
(ثُمَّ) أَوِ (الْفَاءِ) فَلَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى
أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ
أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ
فَتُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إِلَى الْبَطْنِ الأَْوَّل وَهُمْ
أَوْلاَدُهُ، لاَ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ إِلاَّ
بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الأَْوَّل وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ
الثَّالِثِ شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي وَاحِدٌ (2) .
وَقَدْ يَقْصِدُ بِالاِنْقِرَاضِ انْقِطَاعَ جِهَةِ الْوَقْفِ
وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ
تَنْقَرِضُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا جِهَةً أُخْرَى كَالْوَقْفِ
عَلَى الأَْوْلاَدِ فَقَطْ.
وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيل ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيهِ
فِي فِقْرَةِ (48) .
__________
(1) الإسعاف ص99، وكشاف القناع 4 / 278 - 279.
(2) الروضة 5 / 334، ونهاية المحتاج 5 / 375، والمغني 5 / 611.
(44/160)
تَعَطُّل الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهَا:
62 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا فَإِنَّ رَيْعَ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إِلَى
جِهَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَعَطَّلَتْ
مَنَافِعُهَا وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا.
فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ وَقْفٌ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بِئْرٍ
أَوْ حَوْضٍ فَخَرِبَ الْمَسْجِدُ أَوِ الرِّبَاطُ أَوِ الْحَوْضُ
وَأَصْبَحَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا، فَإِنَّ مَا وُقِفَ عَلَى
الْمَسْجِدِ يُصْرَفُ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى
حَوْضٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ رِبَاطٍ وَمَا وُقِفَ عَلَى الْحَوْضِ أَوِ
الْبِئْرِ أَوِ الرِّبَاطِ يُصْرَفُ وَقْفُهَا لأَِقْرَبِ مُجَانِسٍ
لَهَا (1) .
وَمَا حُبِسَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِمَحَلٍّ عَيَّنَهُ
الْوَاقِفُ، ثُمَّ تَعَذَّرَ الطَّلَبُ فِي ذَلِكَ الْمَحَل فَإِنَّهُ
لاَ يَبْطُل الْحَبْسُ، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ عَلَى الطَّلَبَةِ
بِمَحَلٍّ آخَرَ، وَمَا حُبِسَ عَلَى مَدْرَسَةٍ فَخَرِبَتْ وَلَمْ
يُرْجَ عَوْدُهَا صُرِفَ فِي مِثْلِهَا حَقِيقَةً إِنْ أَمْكَنَ،
فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِمَدْرَسَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
صُرِفَ فِي مِثْلِهَا نَوْعًا فِي قُرْبَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ رُجِيَ
عَوْدُهَا وُقِفَ لَهَا لِيُصْرَفَ فِي التَّرْمِيمِ أَوِ الإِْحْدَاثِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالإِْصْلاَحِ (2) .
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الإِْسْلاَمِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 371 - 372، وحاشية الدسوقي 4 / 87، وكشاف
القناع 4 / 293.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 87.
(44/161)
حَوْلَهُ قَال الشَّافِعِيَّةُ: تُحْفَظُ
غَلَّةُ الْوَقْفِ لاِحْتِمَال عَوْدِهِ ثَغْرًا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اخْتَل الثَّغْرُ صُرِفَ الْمَوْقُوفُ فِي
ثَغْرٍ مِثْلِهِ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إِذَا
خَرِبَ، إِذِ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ هُنَا الصَّرْفُ إِلَى
الْمُرَابِطِ، فَإِعْمَال شَرْطِ الثَّغْرِ الْمُعَيَّنِ مُعَطِّلٌ
لَهُ فَوَجَبَ الصَّرْفُ إِلَى ثَغْرٍ آخَرَ، قَال فِي التَّنْقِيحِ:
وَعَلَى قِيَاسِهِ مَسْجِدٌ وَرِبَاطٌ وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مَا
صَرَّحَ بِهِ الْحَارِثِيُّ، قَال: وَالشَّرْطُ قَدْ يُخَالَفُ
لِلْحَاجَةِ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ
مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِ
الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى الْمُتَفَقِّهَةِ
عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ (2) .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَوْقُوفُ:
مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ وَقْفُهُ:
63 - لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْرِيفٍ مُحَدَّدٍ لِمَا
يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ
عَلَى مَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: بِأَنَّهُ الْمَال
الْمُتَقَوَّمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، فِيهِ
تَعَامُلٌ، أَوْ هُوَ مَا لاَ يُنْقَل وَلاَ يُحَوَّل كَالْعَقَارِ
وَنَحْوِهِ، فَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 358.
(2) كشاف القناع 4 / 296.
(44/161)
الْمَنْقُول مَقْصُودًا كَمَا قَال
الْكَاسَانِيُّ (1) وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ مَا مُلِكَ
مِنْ ذَاتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ
مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا يَقْبَل النَّقْل، وَيَحْصُل مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ
عَيْنِهَا فَائِدَةٌ، أَوْ مَنْفَعَةٌ يُسْتَأْجَرُ لَهَا (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ يَصِحُّ بَيْعُهَا
وَيُنْتَفَعُ بِهَا عُرْفًا مَعَ بَقَائِهَا (4) .
وَالأَْصْل الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنْ يَكُونَ
الْمَوْقُوفُ عَيْنًا مَمْلُوكَةً يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا مَعَ
بَقَاءِ عَيْنِهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ يَصِحُّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ تَشْمَل الْعَقَارَ
وَالْمَنْقُول وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: وَقْفُ الْعَقَارِ:
64 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ
مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَآبَارٍ وَقَنَاطِرَ (5) وَالدَّلِيل عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 359، والبدائع 6 / 220، والإسعاف ص10، وفتح
القدير 6 / 217.
(2) الشرح الصغير 2 / 298.
(3) مغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1 / 447، وروضة الطالبين 5 / 314،
وتحفة المحتاج 6 / 237.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 491.
(5) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه3 / 359، والهداية 3 / 15،
ومنح الجليل 4 / 35، والخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1
/ 447، وكشاف القناع 4 / 273، وشرح منتهى الإرادات 2 / 491، 492.
(44/162)
صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ أَنَّ جَمَاعَةً
مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
وَقَفُوا ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا،
فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ
أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟
قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَال:
فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ
يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَفِي
الرِّقَابِ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل وَالضَّيْفِ (1) .
مَا يَتْبَعُ الْعَقَارَ فِي الْوَقْفِ وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ:
65 - فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الإِْسْعَافِ: يَدْخُل فِي وَقْفِ الأَْرْضِ
مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ دُونَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ
كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَدْخُل أَيْضًا الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ
كَالإِْجَارَةِ، وَلَوْ جَعَل الأَْرْضَ مَقْبَرَةً وَفِيهَا أَشْجَارٌ
عِظَامٌ وَأَبْنِيَةٌ لاَ تَدْخُل، وَلَوْ زَادَ فِي وَقْفِ الأَْرْضِ
وَقَال: بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَعَلَى
الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ قَائِمَةٌ يَوْمَ الْوَقْفِ قَال هِلاَلٌ: لاَ
تَدْخُل قِيَاسًا، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أصاب عمر أرضا. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 /
354 - 355) ، ومسلم (3 / 1255) .
(44/162)
التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ
لاَ الْوَقْفِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: إِذَا قَال: بِحُقُوقِهَا
تَدْخُل فِي الْوَقْفِ وَهَذَا أَوْلَى خُصُوصًا إِذَا زَادَ:
بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا بِجَمِيعِ مَا
فِيهَا وَفِيهَا حَمَامَاتٌ يَطِرْنَ، أَوْ بَيْتًا وَفِيهِ كِوَارَاتُ
عَسَلٍ يَدْخُل الْحَمَامُ وَالنَّحْل تَبَعًا لِلدَّارِ وَالْعَسَل
كَمَا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً وَذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَبِيدِ
وَالدَّوَالِيبِ وَآلاَتِ الْحِرَاثَةِ (1) .
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ وَقَفَ الْعَقَارَ بِبَقَرِهِ
وَأَكَرَتِهِ - أَيْ عَبِيدُهُ الْحَرَّاثُونَ - صَحَّ اسْتِحْسَانًا
تَبَعًا لِلْعَقَارِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ
مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لاَ يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي
الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ، لأَِنَّ مُحَمَّدًا أَجَازَ إِفْرَادَ بَعْضِ
الْمَنْقُول بِالْوَقْفِ فَبِالتَّبَعِ أَوْلَى (2) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَذْكُرُوا مِثْل هَذَا
التَّفْصِيل فِي بَابِ الْوَقْفِ وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْكَلاَمِ
عَنِ الْوَقْفِ اسْتِطْرَادًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَاعْتَبَرُوا أَنَّ
مَا يَدْخُل فِي بَيْعِ الأُْصُول كَالأَْرْضِ وَالدَّارِ وَالشَّجَرِ
يَدْخُل فِي وَقْفِهَا كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَقْفَ نَاقِلٌ
لِلْمَلِكِ كَالْبَيْعِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 373.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 372 - 373.
(44/163)
التَّفْصِيل، وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالاً
فِيمَا يَأْتِي:
أ - وَقْفُ الأَْرْضِ يُدْخِل مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَيَّدَ
الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ،
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِكَوْنِهِ رَطْبًا لاَ يَابِسًا.
وَفِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ لاَ يَدْخُل فِي وَقْفِ الأَْرْضِ مَا
فِيهَا مِنْ زَرْعٍ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ دُفْعَةً وَاحِدَةً
كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الزُّرُوعِ، أَمَّا الْبَذْرُ
وَالأُْصُول الَّتِي تَبْقَى فِي الأَْرْضِ سَنَتَيْنِ - كَالْقَتِّ -
فَإِنَّهَا تَدْخُل فِي وَقْفِ الأَْرْضِ (1) .
ب - وَقْفُ الدَّارِ يُدْخِل فِيهَا الأَْرْضَ وَالْبِنَاءَ
وَالْفِنَاءَ وَالأَْشْيَاءَ الثَّابِتَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا
وَكَذَلِكَ يُدْخِل فِيهَا الشَّجَرَ الْمَغْرُوسَ لَكِنْ قَيَّدَ
الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِالشَّجَرِ الرَّطْبِ دُونَ الْيَابِسِ،
كَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ وَقْفَ الدَّارِ يَتَنَاوَل
الأَْرْضَ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الأَْرْضُ
مَوْقُوفَةً كَمِصْرَ وَالشَّامِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ (2) .
__________
(1) منح الجليل 2 / 723، والشرح الكبير على حاشية الدسوقي 3 / 170،
171، ومغني المحتاج 2 / 80، 81، وشرح منتهى الإرادات 2 / 207.
(2) منح الجليل 2 / 725 - 726، ومغني المحتاج 2 / 84، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 206 - 207.
(44/163)
ج - وَقْفُ الشَّجَرِ يَدْخُل فِيهِ
الأَْرْضُ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَتَنَاوَل
حَرِيمَهَا، وَقِيل: لاَ يَتَنَاوَلُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ
وَقْفَ الشَّجَرِ لاَ يَتَنَاوَل الأَْرْضَ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ
لأَِنَّ اسْمَ الشَّجَرِ لاَ يَتَنَاوَلُهُ (1) .
ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ:
66 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْفَ
الْعَقَارِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ حُدُودِهِ إِذَا كَانَ
مَشْهُورًا، وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَال بْنِ
الْهُمَامِ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَتِ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً
صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ، اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا
عَنْ تَحْدِيدِهَا.
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ظَاهِرُهُ
اشْتِرَاطُ التَّحْدِيدِ، وَلاَ يَخْفَى مَا فِيهِ، بَل ذَلِكَ شَرْطٌ
لِقَبُول الشَّهَادَةِ بِوَقْفِيَّتِهَا (2) .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: بَابٌ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ
يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَلَى ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: كَذَا أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا
إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَوِ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَشْهُورًا
مُتَمَيِّزًا
__________
(1) منح الجليل 2 / 722، ومغني المحتاج 2 / 85 - 86، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 210.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 373، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(44/164)
بِحَيْثُ يُؤْمَنُ أَنْ يَلْتَبِسَ
بِغَيْرِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّحْدِيدِ اتِّفَاقًا،
لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ قَال:
اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْلاَكِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ
مَصْرِفَهَا وَلَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا مِنْهَا صَارَتْ جَمِيعُهَا
وَقْفًا وَلاَ يَضُرُّ جَهْل الشُّهُودِ بِالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَل
أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ
بِالصِّيغَةِ الَّتِي لاَ تَحْدِيدَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
اعْتِقَادِ الْوَاقِفِ وَإِرَادَتِهِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ،
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّحْدِيدُ لأَِجْل الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ
لِيُبَيِّنَ حَقَّ الْغَيْرِ (1) .
ثَانِيًا: وَقْفُ الْمَنْقُول:
67 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُول
مِنْ أَثَاثٍ وَحَيَوَانٍ وَسِلاَحٍ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيل
اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ
وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(3) ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا خَالِدٌ
فَقَدِ
__________
(1) فتح الباري 5 / 396.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 77، ومنح الجليل 4 / 37، والمهذب
1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 491، 492،
والقوانين الفقهية ص374.
(3) حديث " من احتبس فرسا في سبيل الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6
/ 57) من حديث أبي هريرة.
(44/164)
احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي
سَبِيل اللَّهِ (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ
الْمَنْقُول قَصْدًا، وَهَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ قَوْل أَبِي
حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَقَفَ
الْمَنْقُول إِذَا كَانَ تَبَعًا لِلأَْرْضِ اسْتِحْسَانًا كَمَا إِذَا
وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَكَذَا سَائِرُ آلاَتِ
الْحِرَاثَةِ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لِلأَْرْضِ فِي تَحْصِيل مَا هُوَ
الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لاَ يَثْبُتُ
مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ وَفِي الْوَقْفِ
(2) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ وَقْفُ الْكُرَاعِ - وَهِيَ
الْخَيْل وَالسِّلاَحُ - اسْتِحْسَانًا لِلآْثَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي
ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ
وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ قَال لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: " إِذَا أَنَا مُتُّ
فَانْظُرُوا سِلاَحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيل
اللَّهِ " (3) وَتَأْخُذُ الإِْبِل حُكْمَ الْخَيْل لأَِنَّ الْعَرَبَ
يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا
__________
(1) حديث " أما خالد فقد احتبس أدراعه. . . " أخرجه مسلم (2 / 677) .
(2) الهداية 3 / 15، 16، وفتح القدير 6 / 216 نشر دار الفكر.
(3) حديث " وقال خالد: إذا أنا مت فانظروا سلاحي. . . " أخرجه الطبراني
في الكبير (3 / 106) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 350) : إسناده
حسن.
(44/165)
وَكَذَا السِّلاَحُ يُحْمَل عَلَيْهَا،
وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُول لأَِنَّ شَرْطَ
الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، وَالْمَنْقُول لاَ يَتَأَبَّدُ، فَتُرِكَ
الْقِيَاسُ لِلآْثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ - وَقْفُ
الْمَنْقُول قَصْدًا إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ تَعَامُلٌ
لِلنَّاسِ كَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْقِدْرِ وَالْجِنَازَةِ
وَثِيَابِهَا وَالْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ لأَِنَّ الْقِيَاسَ قَدْ
يُتْرَكُ بِالتَّعَامُل، لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: " مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ
اللَّهِ حَسَنٌ " (1) بِخِلاَفِ مَا لاَ تَعَامُل فِيهِ، أَيْ لَمْ
يَجُزِ التَّعَامُل بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ
وَالْمَتَاعِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَمِنْهُمُ السَّرَخْسِيُّ، أَمَّا أَبُو
يُوسُفَ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَقْفُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ
إِنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ
وَالسِّلاَحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ (2) .
ثَالِثًا: وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ:
68 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ
__________
(1) أثر ابن مسعود " ما رأى المسلمون حسنا. . . " أخرجه أحمد في المسند
(1 / 379) وحسن إسناده السخاوي في المقاصد الحسنة (ص367) .
(2) فتح القدير 6 / 217، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 375.
(44/165)
الْمَنْفَعَةِ إِذْ إِنَّهُمْ
يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا يُنْتَفَعُ بِهَا
مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا كَمَا أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ تَأْبِيدَ
الْوَقْفِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ فَمَنِ
اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَقِفَ مَنْفَعَتَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيَنْقَضِيَ الْوَقْفُ
بِانْقِضَائِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ تَأْبِيدُ
الْوَقْفِ (2) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً:
69 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ
الْمَوْقُوفَةِ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُ
الْمُبْهَمِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
الْمَوْقُوفُ مَعْلُومًا فَلَوْ وَقَفَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهِ وَلَمْ
يُسَمِّهِ لاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الشَّيْءَ يَتَنَاوَل الْقَلِيل
وَالْكَثِيرَ وَلَوْ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِذْ رُبَّمَا يُبَيِّنُ
شَيْئًا قَلِيلاً لاَ يُوقَفُ عَادَةً، وَلَوْ قَال: وَقَفْتُ هَذِهِ
الأَْرْضَ أَوْ هَذِهِ الأَْرْضَ كَانَ بَاطِلاً لِمَكَانِ
الْجَهَالَةِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492، والبدائع 6 /
220، وحاشية ابن عابدين 3 / 359.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 76، والشرح الصغير 2 / 298
ط. الحلبي.
(3) البحر الرائق 5 / 203، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360.
(44/166)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنْ
وَقَفَ عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ
فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ أَحَدَ دَارَيْهِ أَوْ
أَحَدَ عَبْدَيْهِ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّ الْوَقْفَ نَقْل مِلْكٍ عَلَى
وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلاَ يَصِحُّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ
كَمَا لاَ يَصِحْ فِي عَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَدَارٍ وَعَبْدٍ وَلَوْ
مَوْصُوفًا (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ -
أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ كَقَوْل الْوَاقِفِ: إِنْ
مَلَكْتُ دَارَ فُلاَنٍ فَهِيَ وَقْفٌ. وَعَلَّقَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَانْظُرْ هَل لاَ بُدَّ فِي التَّعْلِيقِ مِنْ
تَعْيِينِ الْمُعَلَّقِ فِيهِ أَوْ يَدْخُل فِيهِ مَا إِذَا قَال: كُل
مَا تَجَدَّدَ لِي مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَدَخَل فِي مِلْكِي
فَهُوَ مُلْحَقٌ بِوَقْفِي؟ أَقُول: الْمَأْخُوذُ مِنْ كَلاَمِ
الرَّصَاعِ فِي شَرْحِ الْحُدُودِ أَنَّهُ إِذَا عَمَّ التَّعْلِيقُ
فَإِنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ لِلتَّحْجِيرِ كَالطَّلاَقِ (2) ..
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ
عَيْنِهِ:
70 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْقُوفِ
أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ (3) ،
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) المهذب 1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 /
492.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 76.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 374، وفتح القدير 6 / 218، والخرشي 7 / 80،
ومغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 399، والمغني 5 / 640.
(44/166)
قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ وَقْفُ مَا يُسْتَهْلَكُ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لأَِنَّ
مَنْفَعَةَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ فِي اسْتِهْلاَكِهِ، كَمَا لاَ
يَجُوزُ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَفِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ وَالتَّحَلِّي بِهَا، أَوْ لِلْوَزْنِ،
أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِإِقْرَاضِهَا، لأَِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ
الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ إِلاَّ
بِإِتْلاَفِهِ لاَ يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى قَوْل مَنْ أَجَازَ إِجَارَتَهَا.
وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ الْمَشْمُومِ الَّذِي
يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ
وَالْعُودِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ النَّدِّ وَالصَّنْدَل
وَقِطَعِ الْكَافُورِ.
أَمَّا الْمَشْمُومُ الَّذِي لاَ تَبْقَى عَيْنُهُ فَلاَ يَجُوزُ
وَقْفُهُ عِنْدَهُمْ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَقَدْ
أَجَازُوا وَقْفَ الطَّعَامِ كَالْحِنْطَةِ وَوَقْفَ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ إِذَا وَقَفَ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ وَرَدِّ الْبَدَل،
وَاعْتَبَرُوا أَنَّ رَدَّ الْبَدَل قَائِمٌ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1 / 447، وشرح منتهى الإرادات 2 /
400، والمغني 5 / 640 - 641.
(44/167)
مُقَامَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، أَمَّا
وَقْفُهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَلاَ يَجُوزُ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: الدَّرَاهِمُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَهِيَ
وَإِنْ كَانَتْ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا لَكِنَّ
بَدَلَهَا قَائِمٌ مَقَامَهَا لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا فَكَأَنَّهَا
بَاقِيَةٌ وَلاَ شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَنْقُول، فَحَيْثُ جَرَى
فِيهَا تَعَامُلٌ دَخَلَتْ فِيمَا أَجَازَهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ
وَقْفُ كُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ لاَ بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لأَِنْفُسِهِمْ ثُمَّ
يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الإِْدْرَاكِ قَدْرَ الْقَرْضِ ثُمَّ
يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا
السَّبِيل، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ
لِيُبَاعَ وَيُدْفَعَ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً، وَكَذَا يُفْعَل فِي
وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَا خَرَجَ مِنَ الرِّبْحِ
يُتَصَدَّقُ بِهِ فِي جِهَةِ الْوَقْفِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَقْفُ مَا
يُنْتَفَعُ بِهِ وَيُرَدُّ بَدَلُهُ، لأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي
اسْتِهْلاَكِهِ وَالْوَقْفُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ
عَيْنِهِ (1) .
جـ - أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ
الْغَيْرِ:
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 374، 375، وفتح القدير 6 /
219، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، والخرشي 7 / 8.
(44/167)
الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ
كَأَنْ تَكُونَ مَرْهُونَةً أَوْ مُؤَجَّرَةً.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ
الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوِ
الْمُؤَجَّرَةِ وَتَعُودُ الْعَيْنُ بَعْدَ افْتِكَاكِهَا مِنَ
الرَّهْنِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ إِلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعَيْنِ
الْمُؤَجَّرَةِ.
وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَفِيهَا عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ
كَالْعِتْقِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَصِحُّ
إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ.
وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ
الْمَرْهُونِ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ لاَ يَسْرِي إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ
فَلاَ يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ (1) .
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا
كَانَ الْوَقْفُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّ مَنْعَهُ مِنَ
التَّصَرُّفِ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَقَدْ
أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ وَبَطَل الرَّهْنُ لأَِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ
يَمْنَعُ الرَّهْنَ ابْتِدَاءً فَامْتَنَعَ مَعَهُ دَوَامًا (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 201، وحاشية الدسوقي 4 / 77، والزرقاني 7 / 75،
والمهذب 1 / 320، وشرح منتهى الإرادات 2 / 234، 400، 376، والمغني 4 /
401، وأسنى المطالب 2 / 458.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 234، والمغني 4 / 401، والإنصاف 5 / 153 -
156.
(44/168)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ لِكُل
مَذْهَبٍ نَوْعٌ مِنَ التَّفْصِيل، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: نَقَل
ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ وَغَيْرِهِ: لَوْ وَقَفَ
الْمَرْهُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ صَحَّ وَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى
دَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا
أَبْطَل الْوَقْفَ وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ وَافْتَكَّهُ جَازَ فَإِنْ مَاتَ عَنْ
عَيْنٍ تَفِي بِالدَّيْنِ صَحَّ الْوَقْفُ وَلاَ يُغَيَّرُ، وَإِنْ
لَمْ يَفِ مَا تَرَكَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَإِنَّ
الْقَاضِيَ يُبْطِل الْوَقْفَ وَيَبِيعُهُ لِلدَّيْنِ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ
وَالْمُسْتَأْجَرِ بِمَا إِذَا قَصَدَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا بَعْدَ
الْخَلاَصِ مِنَ الرَّهْنِ وَالإِْجَارَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
فِي الْوَقْفِ التَّنْجِيزُ (2) .
د - أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ:
72 - اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا
يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ
بِكَوْنِهِ مِمَّا يَقْبَل النَّقْل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ
يَصِحُّ وَقْفُ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ
وَالْمَرْهُونِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ
الْبَهَائِمِ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ
الَّتِي لاَ يُصَادُ بِهَا، لأَِنَّ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 391، 395، والإسعاف ص21.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 77، وشرح الزرقاني 7 / 75.
(44/168)
الْوَقْفَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي
الْحَيَاةِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ
الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ وَمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لاَ
يَحْصُل فِيهِ تَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ وَالْكَلْبُ أُبِيحَ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل لِلضَّرُورَةِ فَلَمْ
يَجُزِ التَّوَسُّعُ فِيهَا، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إِبْطَال
حَقِّ الْمُرْتَهَنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ (1) .
وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ بِأُمِّ
الْوَلَدِ وَالْحَمْل وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَهَذَا فِي
الأَْصَحِّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يَصِحُّ وَقْفُ أُمِّ الْوَلَدِ
وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، أَمَّا الْكَلْبُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلاَ
يَصِحُّ وَقْفُهُ جَزْمًا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ، قَال
الدُّسُوقِيُّ: صَحَّ وَقْفُ مَمْلُوكٍ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
الْمَمْلُوكُ الَّذِي أُرِيدَ وَقْفُهُ وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ
كَجِلْدِ أُضْحِيَةٍ وَكَلْبِ صَيْدٍ وَعَبْدٍ آبِقٍ خِلاَفًا
لِبَعْضِهِمْ (2) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَتْ
قَوَاعِدُهُمْ لاَ تَأْبَاهُ، فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ
وَقْفِ الْمَنْقُول إِلاَّ تَبَعًا أَوْ مَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُل
بَيْنَ النَّاسِ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَقْفُ كُل مَا
يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ
__________
(1) المغني 5 / 641، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(2) الدسوقي 4 / 75 - 76، والخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 377 -
378، وأسنى المطالب 2 / 458.
(44/169)
قِيَاسًا عَلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ،
قُلْنَا: الأَْصْل عَدَمُ جَوَازِ الْوَقْفِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى
مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْعَقَارُ وَالْكُرَاعُ وَالسِّلاَحُ،
وَأَوْرَدَ الْمِرْغِينَانِيُّ قَوْل الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَال:
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لاَ يَتَأَبَّدُ (يَقْصِدُ الْمَنْقُول)
بِخِلاَفِ الْعَقَارِ (1) .
رَابِعًا: وَقْفُ الْمَشَاعِ:
73 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ
الْمَشَاعِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ (أَنَّهُ أَصَابَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ وَاسْتَأْذَنَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَأَمَرَهُ
بِوَقْفِهَا) (2) ، وَهَذَا صِفَةُ الْمَشَاعِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ
الْجُمْلَةِ مُفْرَزًا فَجَازَ عَلَيْهِ مَشَاعًا كَالْبَيْعِ، أَوْ
عَرْصَةً يَجُوزُ بَيْعُهَا فَجَازَ وَقْفُهَا كَالْمُفْرَزَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الأَْصْل
وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا يَحْصُل فِي الْمَشَاعِ كَحُصُولِهِ
فِي الْمُفْرَزِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ وَقْفُ الْمَشَاعِ
مَسْجِدًا وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلاَحِ، وَإِذَا وَقَفَ الْمَشَاعَ
مَسْجِدًا فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تَجِبُ لِتَعَيُّنِهَا طَرِيقًا
لِلاِنْتِفَاعِ بِالْمَوْقُوفِ (4) .
__________
(1) الزيلعي 3 / 327، والهداية 3 / 16.
(2) حديث " أن عمر أصاب مائة سهم. . " أخرجه النسائي (6 / 232) .
(3) المغني لابن قدامة 5 / 643.
(4) مغني المحتاج 2 / 377 - 378، والمهذب 1 / 448، وكشاف القناع 4 /
243 - 244، والمغني 5 / 643.
(44/169)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي وَقْفِ
الْمَشَاعِ، قَال الدَّرْدِيرُ: يَصِحُّ وَقْفُ الْمَمْلُوكِ وَإِنْ
كَانَ مَشَاعًا فِيمَا يَقْبَل الْقِسْمَةَ، وَيُجْبَرُ الْوَاقِفُ
عَلَى الْقِسْمَةِ إِنْ أَرَادَهَا الشَّرِيكُ، أَمَّا مَا لاَ يَقْبَل
الْقِسْمَةَ فَفِيهِ قَوْلاَنِ مُرَجَّحَانِ، أَيْ فِي الصِّحَّةِ
وَعَدَمِهَا، وَعَلَى الْقَوْل بِالصِّحَّةِ يُجْبَرُ الْوَاقِفُ عَلَى
الْبَيْعِ إِنْ أَرَادَ شَرِيكُهُ وَيُجْعَل ثَمَنُهُ فِي مِثْل
وَقْفِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لاَ
يُجْبَرُ عَلَى جَعْل ثَمَنِهِ فِي مِثْل وَقْفِهِ (1) .
وَقَدْ حَكَى الْبُنَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الزُّرْقَانِيِّ مَا
حَصَّلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَحْبِيسِ الْمَشَاعِ قَال: وَقَدْ
حَصَّل ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَحْبِيسِ الْمَشَاعِ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: الْجَوَازُ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَ يَقْبَل
الْقِسْمَةَ أَوْ لاَ يَقْبَلُهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ
وَظَاهِرُ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَصُّ ابْنِ زَرِبٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَتَوَقَّفُ وَقْفُ الْمَشَاعِ عَلَى إِذْنِ
شَرِيكِهِ فِيمَا لاَ يُقَسَّمُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ صَحَّ
الْوَقْفُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بَطَل الْوَقْفُ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْوَقْفُ مُطْلَقًا وَيُجْعَل لِحَظِّ
الْمُحْبِسِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ فِي مِثْل مَا حَبَسَهُ فِيهِ
وَهُوَ لاِبْنِ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَوَضَّحَ الشَّيْخُ
عَبْدُ الْقَادِرِ الْفَاسِيُّ قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ،
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 76.
(44/170)
فَقَال: هُوَ جَوَازُ الإِْقْدَامِ عَلَى
تَحْبِيسِ الْمَشَاعِ مُطْلَقًا انْقَسَمَ أَمْ لاَ وَعَدَمُ
التَّوَقُّفِ عَلَى إِذْنِ الشَّرِيكِ، فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ
الشَّرِيكُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَبْقَى شَرِيكًا فِي الْحَبْسِ أَوْ
بِيعَ وَحْدَهُ أَيْضًا عَلَى الإِْشَاعَةِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ
يَرْضَ بِيعَ وَيُجْبَرُ عَلَى جَعْل الثَّمَنِ فِي مِثْلِهِ.
قَال الْبُنَانِيُّ: وَكَلاَمُ التَّوْضِيحِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي
أَنَّ مَحَل الْخِلاَفِ هُوَ النُّفُوذُ بَعْدَ الْوُقُوعِ
وَالنُّزُول، أَمَّا ابْتِدَاءً فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَى
تَحْبِيسِ مَا لاَ يَنْقَسِمُ دُونَ إِذْنِ الشَّرِيكِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاؤُهُمْ عَلَى جَوَازِ
وَقْفِ الْمَشَاعِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ كَالْحَمَّامِ
وَنَحْوِهِ، فَلاَ يَضُرُّهُ الشُّيُوعُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ
وَالْمَقْبَرَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ، لأَِنَّ
بَقَاءَ الشَّرِكَةِ فِيهِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَلأَِنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهَا مِنْ أَقْبَحِ مَا يَكُونُ، بِأَنْ
يُدْفَنَ الْمَوْتَى فِي الْمَقْبَرَةِ سَنَةً وَيُزْرَعَ سَنَةً،
وَيُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذُ اصْطَبْلاً فِي
وَقْتٍ بِخِلاَفِ وَقْفِ غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فَإِنَّهُ
يُمْكِنُ الاِسْتِغْلاَل وَقِسْمَةُ الْغَلَّةِ فَلاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ
الْوَقْفِ فِيمَا لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ (2) .
أَمَّا الْمَشَاعُ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا
__________
(1) حاشية البناني على هامش الزرقاني 7 / 74.
(&# x662 ;) الهداية 3
/ 16، وفتح القدير 6 / 212، والبحر الرائق 5 / 212 - 213، والزيلعي 3 /
324.
(44/170)
فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ
وَقْفُ الْمَشَاعِ الَّذِي يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ كَالْمَشَاعِ الَّذِي
لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ
الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَكَذَا
تَتِمَتُّهُ، وَأَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخٍ بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ (1) .
قَال السَّرَخْسِيُّ: لَوْ وَقَفَ نِصْفَ أَرْضٍ أَوْ نِصْفَ دَارٍ
مَشَاعًا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ
لأَِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْقَبْضَ
لِلْحِيَازَةِ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ فِيمَا يُقْسَمُ بِالْقِسْمَةِ،
ثُمَّ أَصْل الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي
الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ
الْوَقْفِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَذْهَبِهِ قِيَاسُ
الْعِتْقِ وَالشُّيُوعُ لاَ يَمْنَعُ الْعِتْقَ فَكَذَلِكَ لاَ
يَمْنَعُ الْوَقْفَ (2) وَإِذَا صَحَّ وَقْفُ الْمَشَاعِ الَّذِي
يَقْبَل الْقِسْمَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَطَلَبَ الشَّرِيكُ
الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ لأَِنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ
ثُمَّ إِنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي
يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ
الْمَوْتِ إِلَى وَصِّيهِ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6 / 211 - 212.
(2) المبسوط 12 / 36، 37.
(44/171)
وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ
فَالَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي، أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي
مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ
مِنْهُ، لأَِنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا
وَمُقَاسَمًا.
وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْل دَرَاهِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ
النِّصْفَيْنِ أَجْوَدَ مِنَ الآْخَرِ فَجُعِل بِإِزَاءِ الْجَوْدَةِ
دَرَاهِمُ فَإِنْ كَانَ الآْخِذُ لِلدَّرَاهِمِ هُوَ الْوَاقِفَ بِأَنْ
كَانَ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْوَقْفِ هُوَ الأَْحْسَنَ لاَ
يَجُوزُ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْضَ الْوَقْفِ وَبَيْعُ
الْوَقْفِ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الآْخِذُ شَرِيكَهُ بِأَنْ كَانَ
نَصِيبُ الْوَقْفِ أَحْسَنَ جَازَ، لأَِنَّ الْوَاقِفَ مُشْتَرٍ لاَ
بَائِعٌ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَوَقَفَهُ
(1) .
وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَشَاعِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ عِنْدَ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لأَِنَّ أَصْل الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ،
فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ الْقَبْضُ، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ:
لَمَّا شَرَطَ مُحَمَّدٌ الْقَبْضَ مَنَعَهُ - أَيِ الْوَقْفَ -
لأَِنَّ الشُّيُوعَ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّسْلِيمِ
وَالْقَبْضِ - أَلاَ تَرَى أَنَّ الشَّائِعَ كَانَ مَقْبُوضًا
لِمَالِكِهِ قَبْل أَنْ يَقِفَهُ - لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ تَمَامِ
الْقَبْضِ، فَلِذَا مَنَعَهُ مُحَمَّدٌ عِنْدَ إِمْكَانِ تَمَامِ
الْقَبْضِ وَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ
أَنْ يُقَسَّمَ أَوَّلاً ثُمَّ يَقِفُهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ
مُحَمَّدٌ اعْتِبَارَ تَمَامِ الْقَبْضِ عِنْدَ عَدَمِ الإِْمْكَانِ
__________
(1) الهداية 3 / 16، وفتح القدير 6 / 220 - 221.
(44/171)
وَذَلِكَ فِيمَا لاَ يَحْتَمِل
الْقِسْمَةَ، لأَِنَّهُ لَوْ قَسَّمَ قَبْل الْوَقْفِ فَاتَ
الاِنْتِفَاعُ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَمَّامِ فَاكْتَفَى
بِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَخَذَ مَشَايِخُ
بُخَارَى بِقَوْل مُحَمَّدٍ، وَصَرَّحَ فِي الْخُلاَصَةِ بِأَنَّ
الْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ فِي وَقْفِ الْمَشَاعِ، وَكَذَا فِي
الْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا (1) .
وَإِنَّمَا يَكُونُ الشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ مَانِعًا
عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْوَقْفِ إِذَا كَانَ هَذَا الشُّيُوعُ وَقْتَ
الْقَبْضِ لاَ وَقْتَ الْعَقْدِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ كَانَ
بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْضٌ وَقَفَاهَا وَدَفَعَاهَا مَعًا إِلَى قَيِّمٍ
وَاحِدٍ جَازَ اتِّفَاقًا، لأََنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ هُوَ الشُّيُوعُ وَقْتَ الْقَبْضِ لاَ وَقْتَ الْعَقْدِ
وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا لِوُجُودِهِمَا مَعًا مِنْهُمَا، وَكَذَا لَوْ
وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى جِهَةٍ وَسَلَّمَاهُ مَعًا
لِقَيِّمٍ وَاحِدٍ جَازَ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَقْتَ
الْقَبْضِ، وَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي وَقْفَيْهِمَا جِهَةً
وَقَيِّمًا وَاتَّحَدَ زَمَانُ تَسْلِيمِهِمَا لَهُمَا أَوْ قَال كُلٌّ
مِنْهُمَا لِقَيِّمِهِ: اقْبِضْ نَصِيبِي مَعَ نَصِيبِ صَاحِبِي
لأَِنَّهُمَا صَارَا كَمُتَوَلٍّ وَاحِدٍ (2) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الشُّيُوعَ - فِيمَا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ -
الَّذِي يَمْنَعُ الْوَقْفَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ الشُّيُوعُ
الْمُقَارَنُ
__________
(1) الهداية وشروحها فتح القدير والعناية 6 / 211، والبحر الرائق 5 /
212.
(2) حاشة ابن عابدين على الدر المختار 3 / 365.
(44/172)
لاَ الشُّيُوعُ الطَّارِئُ، فَلَوْ وَقَفَ
شَخْصٌ كُل عَقَارِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ جُزْءٌ مِنْهُ شَائِعًا بَطَل
الْوَقْفُ فِي الْبَاقِي، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ بَعْدَ الاِسْتِحْقَاقِ
أَنَّ الشُّيُوعَ كَانَ مُقَارِنًا لِلْوَقْفِ.
أَمَّا إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ دَارَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ
هَذِهِ الدَّارَ لاَ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَمْ يُجِزِ
الْوَرَثَةُ وَقْفَ الْجُزْءِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّ
الْوَقْفَ يَبْطُل فِي الْجُزْءِ الزَّائِدِ وَيُصْبِحُ مِلْكًا
لِلْوَرَثَةِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي مِنَ الدَّارِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ
الثُّلُثِ وَقْفًا، وَقَدْ صَحَّ الْوَقْفُ هُنَا مَعَ كَوْنِهِ
حِصَّةً شَائِعَةً، لأَِنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ بِسَبَبِ عَدَمِ
إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (1) .
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمَوْقُوفِ:
زَكَاةُ الْمَال الْمَوْقُوفِ:
يَتَأَتَّى الْكَلاَمُ فِي زَكَاةِ الْمَوْقُوفِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: زَكَاةُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ نَفْسِهَا:
74 - زَكَاةُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلاَفِ
الْفُقَهَاءِ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ لاَ زَكَاةَ
فِيهَا، يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَوَائِمِ
الْوَقْفِ وَالْخَيْل الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لأَِنَّ فِي
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 6 / 212، والبحر الرائق 5 / 213، وحاشية ابن
عابدين 3 / 364، 365.
(44/172)
الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ فِي
غَيْرِ الْمِلْكِ لاَ يُتَصَوَّرُ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَتِ الْمَاشِيَةُ مَوْقُوفَةً
عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاجِدِ أَوِ
الْغُزَاةِ أَوِ الْيَتَامَى أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا
بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ.
وَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى مُعَيَّنٍ - سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا
أَوْ جَمَاعَةً - فَبِنَاءً عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي
رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلَّهِ تَعَالَى لاَ زَكَاةَ فِيهَا
كَالْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ - وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ
الْمَوْقُوفِ تَكُونُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ - فَفِي وُجُوبِ
زَكَاتِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ
تَجِبُ، لأَِنَّ مِلْكَهُ مِلْكُ ضَعِيفٍ بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ
يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَجِبُ
عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامًّا مُسْتَقِرًّا
فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَوْقُوفِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ الْمَوْقُوفُ عَلَى مِلْكِ
الْوَاقِفِ وَعَلَى ذَلِكَ فَزَكَاتُهُ عَلَى الْوَاقِفِ، جَاءَ فِي
حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: مَنْ وَقَفَ
عَيْنًا لِلسَّلَفِ يَأْخُذُهَا الْمُحْتَاجُ وَيَرُدُّ مِثْلَهَا،
يَجِبُ عَلَى الْوَاقِفِ زَكَاتُهَا، لأَِنَّهَا عَلَى مِلْكِهِ
فَتُزَكَّى كُل عَامٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 9.
(2) المجموع شرح المهذب 5 / 339 - 340، ومغني المحتاج 2 / 389.
(44/173)
وَلَوْ بِانْضِمَامِهَا لِمَالِهِ، وَإِنْ
مَكَثَتْ عِنْدَ الْمَدِينِ أَعْوَامًا فَإِنَّهَا تُزَكَّى بَعْدَ
قَبْضِهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ وَقَفَ أَنْعَامًا لِتَفْرِقَةِ لَبَنِهَا أَوْ
صُوفِهَا أَوِ الْحَمْل عَلَيْهَا أَوْ لِتَفْرِقَةِ نَسْلِهَا فَإِنَّ
الْجَمِيعَ يُزَكَّى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إِنْ كَانَ فِيهَا
نِصَابٌ وَلَوْ بِالاِنْضِمَامِ لِمَالِهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ
وَيَقُومُ النَّاظِرُ مَقَامَ الْوَاقِفِ إِلاَّ أَنَّ النَّاظِرَ
يُزَكِّيهَا إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا وَلاَ يَتَأَتَّى الضَّمُّ
لِمَالِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ يَكُونُ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا
كَزَيْدٍ مَثَلاً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَوْقُوفِ مِنْ
إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ سَائِمَةٍ، لأَِنَّ الْمِلْكَ
يَنْتَقِل لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَشْبَهَ سَائِرَ
أَمْلاَكِهِ.
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِضَعْفِ
الْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ
مَثَلاً فَلاَ تَجُبِ الزَّكَاةُ فِي الْمَوْقُوفِ (2) . انْظُرْ
(زَكَاة: ف17) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَكَاةُ غَلَّةِ الأَْرْضِ وَثِمَارِ
الأَْشْجَارِ:
75 - غَلَّةُ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَثِمَارُ الأَْشْجَارِ إِنْ
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 229 ط الحلبي.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 367 و2 / 499.
(44/173)
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ
بِأَعْيَانِهِمْ فَحَصَل لِبَعْضِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ أَوِ الْحَبِّ
نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، لأَِنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ
يَمْلِكُونَ الثِّمَارَ وَالْغَلَّةَ مِلْكًا تَامًّا وَيَتَصَرَّفُونَ
فِيهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ فَمَتَى حَصَل لأَِحَدِهِمْ
نِصَابٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ
طَاوُوسٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي ذَلِكَ لأَِنَّ
الأَْرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ
زَكَاةٌ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ كَالْمَسَاكِينِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ
وَالْفُقَرَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ
مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ - تَجِبُ الزَّكَاةُ
إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) ، وَلأَِنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي
الْخَارِجِ لاَ فِي الأَْرْضِ فَكَانَ مِلْكُ الأَْرْضِ وَعَدَمُهُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَخْرُجُ أَوَّلاً بِمَعْرِفَةِ
مَنْ يَلِي الْوَقْفَ ثُمَّ يُفَرِّقُ الْبَاقِي عَلَى الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ بِالاِجْتِهَادِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى
غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَلاَ فِيمَا يَحْصُل فِي
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) بدائع الصنائع 2 / 56، ومنح الجليل 4 / 77.
(44/174)
أَيْدِيهِمْ، سَوَاءٌ حَصَل فِي يَدِ
بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ أَوْ لَمْ يَحْصُل،
لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لاَ يَتَعَيَّنُ
لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ
حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
إِجَارَةُ الْمَوْقُوفِ:
أ - مَنْ يَمْلِكُ حَقَّ تَأْجِيرِ الْمَوْقُوفِ:
76 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ حَقَّ
تَأْجِيرِ الْمَوْقُوفِ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي شَرَطَهُ الْوَاقِفُ،
إِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ نَاظِرًا مُعَيَّنًا، سَوَاءٌ أَكَانَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو أَمْ غَيْرَ
مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
النَّاظِرُ هُوَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ أَمْ كَانَ
غَيْرَهُ (2) .
وَإِذَا لَمْ يُحَدِّدِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا لِلْوَقْفِ فَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا فَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكُونُ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ بِإِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا
إِنْ كَانَ رَشِيدًا (3) .
__________
(1) المغني 5 / 639، والمجموع شرح المهذب 5 / 292 و457.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 399، 400، 409، وفتح القدير 6
/ 244، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 88، 96، والخرشي 7 / 92، 100،
ومغني المحتاج 2 / 393، وشرح منتهى الإرادات 2 / 505، والإنصاف 7 / 53.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88، وشرح منتهى الإرادات 2 / 503،
504، والإنصاف 7 / 69.
(44/174)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال فِي الدُّرِّ
الْمُخْتَارِ نَقْلاً عَنِ الْعِمَادِيَّةِ: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
الْغَلَّةُ أَوِ السُّكْنَى لاَ يَمْلِكُ الإِْجَارَةَ وَلاَ
الدَّعْوَى إِلاَّ بِتَوْلِيةٍ أَوْ إِذْنِ قَاضٍ، وَلَوِ الْوَقْفُ
عَلَى رَجُلٍ مُعَيَّنٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّ
حَقَّهُ فِي الْغَلَّةِ لاَ الْعَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ
قَال: أَمَّا فِي الإِْيجَارِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْعِمَادِيَّةِ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَل قَال: وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ لَمْ
يَمْلِكُوا إِجَارَةَ الْوَقْفِ، وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ:
لَوْ كَانَ الأَْجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ فِي الْغَلَّةِ،
فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ إِجَارَتُهُ فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ،
وَأَمَّا الأَْرَاضِي: فَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ
وَالْخَارِجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ وَجَعَل لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
الْفَاضِل لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا، لأَِنَّهُ لَوْ جَازَ
كَانَ كُل الأَْجْرِ لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ شَرْطُ
الْوَاقِفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ،
وَيَكُونُ الْخَرَاجُ وَالْمُؤَنُ عَلَيْهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
وَنَحْوُهُ فِي الإِْسْعَافِ ثُمَّ قَال: فَقَدْ عُلِمَ صِحَّةُ
إِيجَارِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا بِهَذِهِ
الشُّرُوطِ. ثُمَّ قَال: وَيَنْبَغِي عَدَمُ التَّرَدُّدِ فِي صِحَّةِ
إِيجَارِهِ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ التَّوْلِيَةَ وَالنَّظَرَ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِعَارَةُ شَخْصٍ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 399 - 400، والبحر الرائق 5 /
236.
(44/175)
مَالِكٍ انْتِفَاعًا بِنَفْسِهِ فَقَطْ
كَمُحْبَّسٍ عَلَيْهِ لِسُكْنَاهُ وَلاَ تَصِحُّ إِجَارَتُهُ أَيْضًا
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ، يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ
وَإِجَارَةٍ كَسَائِرِ الأَْمْلاَكِ، لَكِنْ لاَ يُؤَجِّرُ إِلاَّ
إِذَا كَانَ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ، هَذَا
إِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِشَيْءٍ
كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا عَلَى أَنْ يُسَكِّنَهَا مُعَلِّمَ
الصِّبْيَانِ فِي الْقَرْيَةِ مَثَلاً لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَكِّنَهَا
غَيْرَهُ بِأُجْرَةٍ وَلاَ بِغَيْرِهَا.
وَقَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ
أَوْ غَيْرِهِ فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ لَهُ
النَّظَرَ الْعَامَّ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَلأَِنَّ
الْمِلْكَ فِي الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالطَّرِيقُ الثَّانِي
يَنْبَنِي عَلَى أَقْوَال الْمِلْكِ (2) .
وَقَال فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ لَمْ يَشْرُطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا
فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِلَى الْوَاقِفِ، لأَِنَّهُ كَانَ النَّظَرُ
إِلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرُطْهُ بَقِيَ عَلَى نَظَرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْغَلَّةُ لَهُ
فَكَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 145.
(2) مغني المحتاج 2 / 393، 389، وروضة الطالبين 5 / 344.
(44/175)
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّظَرَ
لِلْحَاكِمِ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
وَحَقُّ مَنْ يَنْتَقِل إِلَيْهِ، فَكَانَ الْحَاكِمُ أَوْلَى وَهُوَ
الْمَذْهَبُ (1) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ -
كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ - وَلَمْ يُحَدِّدِ
الْوَاقِفُ نَاظِرًا كَانَ النَّظَرُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي كَمَا
يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
ب - اتِّبَاعُ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي التَّأْجِيرِ:
77 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ
يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ فَإِذَا
شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يُؤَجَّرَ الْمَوْقُوفُ أَصْلاً أَوْ أَنْ
لاَ يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مَثَلاً صَحَّ الْوَقْفُ
وَاتُّبِعَ شَرْطُهُ، لأَِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُتَّبَعُ شَرْطُ
الْوَاقِفِ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّهُ حَجْرٌ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ فِي
الْمَنْفَعَةِ (3) .
__________
(1) المهذب 1 / 452 - 453.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 410، والبحر الرائق 5 /
251، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88 - 96، والخرشي 7 / 92 - 100،
ومغني المحتاج 2 / 393، وشرح منتهى الإرادات 2 / 503 - 504، والإنصاف 7
/ 69 - 70.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 396، والخرشي 7 / 100، والشرح
الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 96، ومغني المحتاج 2 / 385، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 501.
(44/176)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنَ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ
فِي تَحْدِيدِ مُدَّةَ الإِْجَارَةِ أَوْ عَدَمِ التَّأْجِيرِ مَا
إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لِلتَّأْجِيرِ كَمَا لَوْ شَرَطَ
الْوَاقِفُ أَنْ لاَ تُؤَجَّرَ الدَّارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ
انْهَدَمَتْ وَلَيْسَ لَهُ جِهَةُ عِمَارَةٍ إِلاَّ بِإِجَارَةِ
سِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مُخَالَفَةُ شَرْطِ
الْوَاقِفِ، لأَِنَّ اتِّبَاعَ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِهِ (1) .
كَذَلِكَ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ
حَالَةَ مَا إِذَا كَانَ النَّاسُ لاَ يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِ
الْمَوْقُوفِ الْمُدَّةَ الَّتِي شَرَطَهَا الْوَاقِفُ كَمَا إِذَا
شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤَجَّرَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ،
وَالنَّاسُ لاَ يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِهَا، وَكَانَتْ
إِجَارَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ أَنْفَعَ وَأَدَرَّ لِلْفُقَرَاءِ،
فَلَيْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ بَل
يَرْفَعُ الأَْمْرَ لِلْقَاضِي لِيُؤَجِّرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ،
لأَِنَّ لِلْقَاضِي وِلاَيَةَ النَّظَرِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْغَائِبِينَ
وَالْمَوْتَى.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ شَيْئًا فَلِلْقَيِّمِ ذَلِكَ بِلاَ
إِذْنِ الْقَاضِي (2) .
هَذَا إِذَا كَانَ لِلْوَاقِفِ شَرْطٌ فِي التَّأْجِيرِ، أَمَّا إِذَا
لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ مُدَّةً لِلتَّأْجِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ
__________
(1) الخرشي 7 / 100، ومغني المحتاج 2 / 385، وشرح منتهى الإرادات 2 /
502.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 396، والإسعاف ص64.
(44/176)
الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ
الَّتِي يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ التَّأْجِيرُ فِيهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ تَحْدِيدِ
الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ تَأْجِيرُ الْمَوْقُوفِ فِيهَا
إِذْ لاَ تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ فَتَجُوزُ الإِْجَارَةُ مُدَّةً تَبْقَى
فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُهَا مَوْتٌ أَوْ
هَدْمٌ لإِِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَيَذْكُرُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا يَرْجِعُ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ
فَيُؤَجَّرُ الدَّارُ وَالرَّقِيقُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَالدَّابَّةُ
عَشْرَ سِنِينَ وَالثَّوْبُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ عَلَى مَا يَلِيقُ
بِهِ، وَالأَْرْضُ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَفِي قَوْلٍ: لاَ يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ لاِنْدِفَاعِ الْحَاجَةِ
بِهَا، وَفِي قَوْلٍ عَلَى ثَلاَثِينَ سَنَةً لأَِنَّهَا نِصْفُ
الْعُمْرِ الْغَالِبِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: أَقَل مُدَّةٍ تُؤَجَّرُ الأَْرْضُ فِيهَا
لِلزِّرَاعَةِ مُدَّةُ زِرَاعَتِهَا، وَأَقَل مُدَّةٍ تُؤَجَّرُ
الدَّارُ لِلسُّكْنَى يَوْمٌ (1) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَهْمَل الْوَاقِفُ مُدَّةَ
الإِْجَارَةِ قِيل: تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ لِلْقَيَّمِ وَقِيل:
تُقَيَّدُ بِسَنَةٍ مُطْلَقًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ هَذِهِ
الْمُدَّةَ إِذَا طَالَتْ تُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال الْوَقْفِ فَإِنَّ
مَنْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 349، وشرح منتهى الإرادات 2 / 363، وتحفة المحتاج
6 / 172.
(44/177)
رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ
الْمُلاَّكِ عَلَى طُول الزَّمَانِ يَظُنُّهُ مَالِكًا، قَال فِي
الدُّرِّ: وَبِإِجَارَةِ السَّنَةِ يُفْتَى فِي الدَّارِ وَبِثَلاَثِ
سِنِينَ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمُصْلِحَةُ بِخِلاَفِ
ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ زَمَانًا وَمَوْضِعًا، وَنَقَل
صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّهُ لَوِ احْتِيجَ
لِذَلِكَ يَعْقِدُ عُقُودًا أَيْ عُقُودًا مُتَرَادِفَةً كُل عَقْدٍ
سَنَةً بِكَذَا، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا فِي
الدَّارِ، أَمَّا فِي الأَْرْضِ فَيَصِحُّ كُل عَقْدٍ ثَلاَثَ سِنِينَ،
وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول: آجَرْتُكَ الدَّارَ الْفُلاَنِيَّةَ
سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ بِكَذَا وَآجَرْتُكَ إِيَّاهَا سَنَةَ
خَمْسِينَ بِكَذَا، وَآجَرْتُكَ إِيَّاهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
بِكَذَا وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ.
وَيَكُونُ الْعَقْدُ الأَْوَّل لاَزِمًا وَمَا عَدَا الْعَقْدَ
الأَْوَّل لاَ يَكُونُ لاَزِمًا، لأَِنَّ جَمِيعَ مَا عَدَاهُ مُضَافٌ،
وَذَكَرَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: أَنَّ الإِْجَارَةَ
الْمُضَافَةَ تَكُونُ لاَزِمَةً فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ (1) .
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ
أَرْضًا أَوْ دَارًا وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
مُعَيَّنًا أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا وَكَانَ
الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ إِجَارَةُ
الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ سِنِينَ وَلاَ
يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ
مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 397.
(44/177)
جَازَ أَنْ تُكْرَى أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ
لاَ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا فَلاَ تُؤَجَّرُ
أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
مُعَيَّنًا أَمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ أَكْرَى النَّاظِرُ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ - سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّارِ أَوِ
الأَْرْضِ - فَإِنْ كَانَ نَظَرًا (أَيْ لِلْمَصْلَحَةِ) مَضَى وَلاَ
يُفْسَخُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَالْحُكْمُ فِي كُل مَا سَبَقَ إِذَا كَانَ الْكِرَاءُ لِغَيْرِ مَنْ
مَرْجِعُهَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ لِمَنْ مَرْجِعُهَا لَهُ
جَازَ الْكِرَاءُ كَعَشْرِ سِنِينَ وَنَحْوِهَا لِخِفَّةِ الْغَرَرِ،
لأَِنَّ الْمَرْجِعَ لَهُ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ
دَارًا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَمْرٍو فَأَكَرَاهَا زَيْدٌ
لِعَمْرٍو الَّذِي لَهُ الْمَرْجِعُ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ فَذَلِكَ
جَائِزٌ.
وَتَحْدِيدُ الْمُدَدِ السَّابِقَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَكُنْ
هُنَاكَ ضَرُورَةٌ تَسْتَدْعِي الإِْجَارَةَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ تَقْتَضِي الْكِرَاءَ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَهَدَّمَ الْوَقْفُ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهُ بِمَا
يُبْنَى بِهِ وَلَوْ طَال الزَّمَانُ كَأَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ
أَزْيَدَ بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِي الضَّرُورَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ
ضَيَاعِهِ وَانْدِرَاسِهِ (1) .
وَانْظُرْ (إِجَارَة ف84)
تَقْدِيرُ أُجْرَةِ الْمَوْقُوفِ:
الأَْصْل أَنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ تَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 96، والشرح الصغير 2 / 310 - 311، والخرشي 7 /
93 - 95.
(2) الدر المختار 3 / 398، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 95،
والخرشي 7 / 98 - 99، ومغني المحتاج 2 / 395، وروضة الطالبين 5 / 351 -
352، وشرح منتهى الإرادات 2 / 506، ومطالب أولي النهى 4 / 34.
(44/178)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ
كَالآْتِي:
أ - الإِْجَارَةُ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل:
78 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ بِأَقَل مِنْ
أُجْرَةِ الْمِثْل.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ
يُؤَجِّرَ النَّاظِرُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى غَيْرِهِ،
وَبَيْنَ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا
كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْقُوفَةً عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ
لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، فَلَوْ
أَجَّرَهَا بِالأَْقَل فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ غَيْرَ صَحِيحٍ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - قَال
الْحَارِثِيُّ عَنْهُ: هُوَ الأَْصَحُّ - لاِنْتِفَاءِ الإِْذْنِ
فِيهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا
وَيَضْمَنُ النَّاظِرُ قِيمَةَ النَّقْصِ الَّذِي لاَ يُتَغَابَنُ بِهِ
عَادَةً، لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَال غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ
الْحَظِّ فَضَمِنَ مَا نَقَصَهُ بِعَقْدِهِ، كَالْوَكِيل إِذَا بَاعَ
بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْل أَوْ أَجَّرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 395، وشرح منتهى الإرادات 2 / 506، والإنصاف 7 /
73، وكشاف القناع 4 / 269.
(44/178)
عَلَى جَوَازِ الإِْعَارَةِ، وَكَذَا
الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لاَ يَجُوزُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ النَّاظِرُ
الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل سَوَاءٌ
أَكَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ أَوْ غَيْرَهُ، لِمَا يُؤَدِّي
إِلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْوَقْفِ بِسَبَبِ الأُْجْرَةِ إِلاَّ
إِذَا كَانَ النُّقْصَانُ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْل يَسِيرًا وَهُوَ مَا
يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً أَيْ يَقْبَلُونَهُ وَلاَ
يَعُدُّونَهُ غَبْنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا فَلاَ
تَجُوزُ الإِْجَارَةُ، وَاعْتُبِرَ خِيَانَةً مِنَ الْمُتَوَلِّي إِذَا
كَانَ عَالِمًا بِأُجْرَةِ الْمِثْل. لَكِنْ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ
بِالأَْقَل أَيْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِلضَّرُورَةِ وَمَثَّلُوا لَهَا
بِمَا يَأْتِي:
أ - إِذَا نَابَتِ الْوَقْفَ نَائِبَةٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ،
أَوْ كَانَ الدَّارُ عَلَيْهَا مُرْصَدٌ. وَالْمُرْصَدُ دَيْنٌ عَلَى
الْوَقْفِ يُنْفِقُهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِعِمَارَةِ الدَّارِ لِعَدَمِ
مَالٍ حَاصِلٍ فِي الْوَقْفِ.
ب - إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِي إِجَارَتِهَا إِلاَّ
بِالأَْقَل.
وَيَذْكُرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَجَّرَ الْمُتَوَلِّي بِدُونِ
أُجْرَةِ الْمِثْل، وَكَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 390، 395، وشرح منتهى الإرادات 2 / 50، ومطالب
أولي النهى 4 / 340، والإنصاف 7 / 73.
(44/179)
ضَرُورَةٌ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ
يَلْزَمُهُ تَمَامُ أُجْرَةِ الْمِثْل (1) .
قَال أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْل: عَلَى أَصْل أَصْحَابِنَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا، وَذَكَرَ
الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لاَ يَصِيرُ غَاصِبًا وَيَلْزَمُهُ
أَجْرُ الْمِثْل، فَقِيل لَهُ: أَتُفْتِي بِهَذَا؟ قَال: نَعَمْ،
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ أَبْطَل بِالتَّسْمِيَةِ مَا زَادَ
عَلَى الْمُسَمَّى إِلَى تَمَامِ أَجْرِ الْمِثْل وَهُوَ لاَ
يَمْلِكُهُ، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل، كَمَا لَوْ أَجَّرَ مِنْ غَيْرِ
تَسْمِيَةِ أَجْرٍ (2) . وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ
أَنَّ الْوَاقِفَ أَيْضًا إِذَا آجَرَ بِالأَْقَل مِمَّا لاَ
يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ تَجُزْ وَيُبْطِلُهَا الْقَاضِي
فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مَأْمُونًا وَفَعَل ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ أَقَرَّهُ الْقَاضِي فِي يَدِهِ وَأَمَرَهُ
بِالإِْجَارَةِ بِالأَْصْلَحِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ
أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهَا فِي يَدِ مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ
(3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 398.
(2) الإسعاف ص65.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 401.
(44/179)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
النَّاظِرَ إِذَا أَكْرَى الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِدُونِ أُجْرَةِ
الْمِثْل فَإِنَّ النَّاظِرَ يَضْمَنُ تَمَامَ أُجْرَةِ الْمِثْل إِنْ
كَانَ مَلِيًّا وَإِلاَّ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لأَِنَّهُ
مُبَاشِرٌ وَكُل مَنْ رَجَعَ عَلَيْهِ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الآْخَرِ،
هَذَا مَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ بِأَنَّ الأُْجْرَةَ غَيْرُ
أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَامِنٌ فَيَبْدَأُ بِهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ
وَالدُّسُوقِيِّ - أَنَّ الإِْجَارَةَ لَوْ وَقَعَتْ بِدُونِ أُجْرَةِ
الْمِثْل ثُمَّ زَادَ شَخْصٌ آخَرُ مَا يَبْلُغُ أُجْرَةَ الْمِثْل
فُسِخَتْ إِجَارَةُ الأَْوَّل وَتُؤَجَّرُ لِلثَّانِي الَّذِي زَادَ،
وَلَوِ الْتَزَمَ الأَْوَّل تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ
ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَنْ زَادَ حَيْثُ لَمْ تَبْلُغْ
زِيَادَةُ مَنْ زَادَ أُجْرَةَ الْمِثْل، فَإِنْ بَلَغَتْهَا فَلاَ
يُلْتَفَتُ لِزِيَادَةِ مَنْ زَادَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهَذَا فِي
غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَحَل وَقْفٍ
وَقَعَتْ إِجَارَتُهُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل، ثُمَّ زَادَ
عَلَيْهَا شَخْصٌ أُجْرَةَ الْمِثْل وَطَلَبَتِ الْبَقَاءَ
بِالزِّيَادَةِ فَإِنَّهَا تُجَابُ إِلَى ذَلِكَ، قَال الدُّسُوقِيُّ:
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تَزِيدُ
عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل وَطَلَبَتِ الْبَقَاءَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل
فَقَطْ فَإِنَّهَا تُجَابُ لِذَلِكَ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْعَدَوِيّ عَلَى الْخَرَشِيِّ أَنَّ هَذَا رَأْيُ
عَلِيٍّ الأَْجْهُورِيِّ ثُمَّ قَال: وَلاَ يَخْفَى بَعْدَهُ، ثُمَّ
قَال: يُحْتَمَل أَنَّ مَعْنَى عِبَارَةِ عَلِيٍّ الأَْجْهُورِيِّ
أَنَّهُ إِذَا بَلَغَتِ الأُْجْرَةُ الزَّائِدَةُ تَمَامَ الْمِثْل
وَالْتَزَمَهَا السَّاكِنُ كَانَ أَحَقَّ وَلاَ يُلْتَفَتُ لِزِيَادَةِ
مَنْ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ زَادَ الْغَيْرُ أُجْرَةَ الْمِثْل
وَالْتَزَمَهَا السَّاكِنُ كَانَ أَحَقَّ لِوُقُوعِ عَقْدٍ عُقِدَ
مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ، مَا لَمْ يَزِدِ الآْخَرُ عَلَى ذَلِكَ
وَإِلاَّ كَانَ أَحَقَّ لِوُقُوعِ الْخَلَل
(44/180)
فِي الْعَقْدِ مَا لَمْ يَلْتَزِمِ
السَّاكِنُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ (1) .
ب - حُكْمُ مَا إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل ثُمَّ
زَادَتِ الأُْجْرَةُ:
79 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَجَّرَ النَّاظِرُ
الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، ثُمَّ زَادَتْ أُجْرَةُ
الْمِثْل أَثْنَاءَ مُدَّةِ الْعَقْدِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ
بِالزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - هِيَ رِوَايَةُ فَتَاوَى
سَمَرْقَنْدَ وَعَلَيْهَا مَشَى فِي التَّجْنِيسِ لِصَاحِبِ
الْهِدَايَةِ وَالإِْسْعَافِ - وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَقْدُ الإِْجَارَةِ
صَحِيحًا لاَزِمًا وَكَانَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل عِنْدَ الْعَقْدِ فَلاَ
يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِزِيَادَةِ الأُْجْرَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
أَجْرَ الْمِثْل يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعَقْدِ وَفِي وَقْتِهِ كَانَ
الْمُسَمَّى أَجْرَ الْمِثْل، فَلاَ يَضُرُّ التَّغْيِيرُ بَعْدَ
ذَلِكَ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّهُ كَمَا يَقُول
الشَّافِعِيَّةُ قَدْ جَرَى بِالْغِبْطَةِ فِي وَقْتِهِ فَأَشْبَهَ مَا
إِذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَال الطِّفْل ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْقِيَمُ
بِالأَْسْوَاقِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ (2) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 7 / 99، وحاشية الدسوقي 4 / 95.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 399، والخرشي 7 / 98 - 99، والإسعاف ص65،
وحاشية الدسوقي 4 / 95، ومغني المحتاج 2 / 395، ومطالب أولي النهى 4 /
340، وكشاف القناع 4 / 269.
(44/180)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ
الْعَقْدَ يُفْسَخُ وَيُعْقَدُ ثَانِيَةً بِالزِّيَادَةِ أَيْ أَنَّهُ
يُجَدِّدُ الْعَقْدَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل بِالأُْجْرَةِ
الزَّائِدَةِ، جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ نَقْلاً عَنِ
الأَْشْبَاهِ: لَوْ زَادَ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي نَفْسِهِ بِلاَ
زِيَادَةِ أَحَدٍ فَلِلْمُتَوَلِّي فَسْخُ الإِْجَارَةِ وَبِهِ يُفْتَى
وَمَا لَمْ يَفْسَخْ فَلَهُ الْمُسَمَّى، قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبُول الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ
تَجْدِيدِ الْعَقْدِ. وَقَدَ وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ عِدَّةَ قُيُودٍ
عَلَى الْقَوْل الأَْصَحِّ هَذَا هِيَ كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ
عَابِدِينَ:
أ - أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ مَا يَشْمَل زِيَادَةَ
تَعَنُّتٍ أَيْ إِضْرَارٍ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ فَإِنَّهَا
غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، بَل الْمُرَادُ أَنْ تَزِيدَ فِي نَفْسِهَا عِنْدَ
الْكُل - أَيْ كُل النَّاسِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الإِْسْبِيجَابِيُّ
(1) .
ب - أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْوَقْفِ
أَيْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الأَْرْضِ فِي نَفْسِهَا، لاَ
بِسَبَبِ عِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَالِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا فِي
الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ لأَِجْل الْعِمَارَةِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: مُسْتَأْجِرُ أَرْضِ الْوَقْفِ إِذَا بَنَى فِيهَا ثُمَّ
زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ
الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ فَلاَ تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ لأَِنَّهَا
أُجْرَةُ عِمَارَتِهِ وَبِنَائِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ
بِسَبَبِ زِيَادَةِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 398 - 399.
(44/181)
أُجْرَةِ الأَْرْضِ فِي نَفْسِهَا فَإِنَّ
الزِّيَادَةَ تَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ (1) .
ج - أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ بَل
يَفْسَخُهُ الْمُتَوَلِّي كَمَا حَرَّرَهُ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِل
وَقَال: فَإِنِ امْتَنَعَ يَفْسَخُهُ الْقَاضِي.
د - أَنَّهُ قَبْل الْفَسْخِ لاَ يَجِبُ إِلاَّ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا
تَجِبُ الزِّيَادَةُ بَعْدَهُ.
ثُمَّ إِذَا قَبِل الْمُسْتَأْجِرُ الأَْوَّل الزِّيَادَةَ كَانَ
أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَل الزِّيَادَةَ وَكَانَتِ
الأَْرْضُ خَالِيَةً مِنَ الزِّرَاعَةِ آجَرَهَا الْمُتَوَلِّي مِنَ
الثَّانِي، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ مَشْغُولَةً بِالزِّرَاعَةِ
فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل مِنْ
وَقْتِهَا - أَيْ وَقْتِ الزِّيَادَةِ - إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ
الزَّرْعُ، لأَِنَّ شَغْلَهَا بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ
إِيجَارِهَا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا اسْتُحْصِدَ فُسِخَ وَأُجِّرَ مِنْ
غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَنَى فِي الأَْرْضِ أَوْ غَرَسَ لَكِنَّ
هَذَا يَبْقَى إِلَى انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ
مَعْلُومَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ بِخِلاَفِ الزَّرْعِ، فَإِذَا
انْتَهَى الْعَقْدُ وَلَمْ يَقْبَل الزِّيَادَةَ أُمِرَ بِرَفْعِ
الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَتُؤَجَّرُ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ
الْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل
فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ قَبْل فَرَاغِ الأُْجْرَةِ وَقَدْ
قَبِل الزِّيَادَةَ، أَمَّا إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ
فَلَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بَل لِنَاظِرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 391.
(44/181)
الْوَقْفِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِمَّنْ
أَرَادَ وَإِنْ قَبِل الْمُسْتَأْجِرُ الأَْوَّل الزِّيَادَةَ لِزَوَال
عِلَّةِ الأَْحَقِّيَّةِ وَهِيَ بَقَاءُ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ إِلاَّ
إِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ بِالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ
فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ إِذَا
قَبِل الزِّيَادَةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ
عَلَى الْوَقْفِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَقْدَ
يَنْفَسِخُ إِذَا كَانَ لِلزِّيَادَةِ وَقْعٌ وَالطَّالِبُ ثِقَةٌ
لِتَبَيُّنِ وُقُوعِهِ عَلَى خِلاَفِ الْغِبْطَةِ (2) .
انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ:
إِجَارَةُ الْمَوْقُوفِ تَنْتَهِي إِمَّا بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوِ
الْمَوْتِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ بِالْمَوْتِ:
80 - الأَْصْل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الإِْجَارَةَ لاَ
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَل تَبْقَى
إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَزِمٌ
فَلاَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجِرَ وَارِثُهُ
فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 399.
(2) مغني المحتاج 2 / 395.
(44/182)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْفَسِخُ
الإِْجَارَةُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ
قَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ (1) .
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ لاَ
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ نَاظِرِ الْوَقْفِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ
الإِْجَارَةِ إِذَا كَانَ النَّاظِرُ الَّذِي آجَرَ هُوَ الْوَاقِفَ
أَوِ الْحَاكِمَ أَوْ نَائِبَهُ أَوْ كَانَ النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ
لَهُ النَّظَرُ مِنَ الْوَاقِفِ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ
عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ كَالْوَكِيل عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ
وَالْعُقُودُ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيل (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي آجَرَ الْمَوْقُوفَ هُوَ الْمَوْقُوفَ
عَلَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمْ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
بَيَانُهُ مَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ آجَرَ مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ بِأَقَل مِنْ
أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تُفْسَخُ وَهَذَا إِذَا كَانَ
بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَلاَ ضَرُورَةَ لِلإِْجَارَةِ بِالأَْقَل (3) .
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَقْفٌ عَلَى أَرْبَابٍ وَأَحَدُهُمْ مُتَوَلٍّ
فَأَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ هَذَا الْمُتَوَلِّي لاَ تَبْطُل
الإِْجَارَةُ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لِلْمَوْقُوفِ فَلاَ تَبْطُل
__________
(1) الاختيار 2 / 61، والبدائع 4 / 222، وأسهل المدارك 2 / 330، 331،
ومغني المحتاج 2 / 356، وشرح منتهى الإرادات 2 / 373.
(2) الاختيار 2 / 61 و3 / 47، وحاشية ابن عابدين 3 / 398، ومنح الجليل
3 / 797، ومغني المحتاج 2 / 356، وشرح منتهى الإرادات 2 / 362، 363.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 398.
(44/182)
بِمَوْتِ الْعَاقِدِ كَمَا لاَ تَبْطُل
بِمَوْتِ الْوَكِيل فِي الإِْجَارَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَكْرَى الْمُسْتَحِقُّ لِوَقْفٍ
سِنِينَ، وَمَاتَ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الإِْجَارَةَ
تَنْفَسِخُ لاِنْقِطَاعِ حَقِّهِ مِنَ الْوَقْفِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ
وَانْتِقَال الْحَقِّ لِمَنْ يَلِيهِ فِي تَرْتِيبِ الْوَقْفِ عَلَى
الأَْصَحِّ مِنَ الْخِلاَفِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: إِذَا أَكْرَى الْمُسْتَحِقُّ الْوَقْفَ
مُدَّةً يَجُوزُ لَهُ كِرَاؤُهُ فِيهَا وَمَاتَ قَبْل انْقِضَاءِ
الْمُدَّةِ فَإِنَّ كِرَاءَهُ لاَ يَنْفَسِخُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ
لِلْوَقْفِ وَآجَرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِذَا مَاتَ فِي
أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ
الرِّفْعَةِ، وَلَوْ آجَرَ الْبَطْنُ الأَْوَّل مِنَ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ مُدَّةً وَمَاتَ الْبَطْنُ
الْمُؤَجِّرُ قَبْل تَمَامِ الْمُدَّةِ وَكَانَ الْوَاقِفُ قَدْ شَرَطَ
لِكُل بَطْنٍ مِنْهُمُ النَّظَرَ فِي حِصَّتِهِ مُدَّةَ اسْتِحْقَاقِهِ
فَقَطْ، فَالأَْصَحُّ أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ
مِنَ الْمُدَّةِ.
لأَِنَّ الْوَقْفَ انْتَقَل اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ
لِغَيْرِهِ وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَلاَ نِيَابَةَ، وَمُقَابِل
الأَْصَحِّ لاَ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ كَالْمِلْكِ، وَلَوْ أَجَّرَ
أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمُ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ
بِالأَْرْشَدِيَّةِ ثُمَّ
__________
(1) الفتاوى الخانية 3 / 334.
(2) منح الجليل 3 / 797، وحاشية الدسوقي 4 / 33، والشرح الصغير 5 /
318.
(44/183)
مَاتَ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ فِي
نَصِيبِهِ خَاصَّةً كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الأَْذْرُعِيُّ
وَاعْتَمَدَهُ الْغُزِّيُّ فِي الْفَتْوَى (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ آجَرَ النَّاظِرُ الْمُسْتَحِقُّ
لِلْوَقْفِ وَكَانَ الْوَاقِفُ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ وَشَرَطَ لَهُ
النَّظَرَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَنْفَسِخِ الإِْجَارَةُ بِمَوْتِهِ،
لأَِنَّهُ أَجَّرَ بِطَرِيقِ الْوِلاَيَةِ أَشْبَهَ الأَْجْنَبِيَّ،
وَإِنْ أَجَّرَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ مَعَ
عَدَمِ الشَّرْطِ أَوْ لِكَوْنِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ لَمْ تَنْفَسِخِ
الإِْجَارَةُ فِي وَجْهٍ كَمَا لَوْ أَجَّرَ وَلِيٌّ مَال مُوَلِّيهِ
أَوْ نَاظِرٌ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ زَالَتْ وِلاَيَتُهُ. قَال الْقَاضِي
فِي الْمُجَرَّدِ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَشْهَرُ
وَعَلَيْهِ الْعَمَل.
وَقَال فِي التَّنْقِيحِ: وَإِنْ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ انْفَسَخَتْ إِنْ
كَانَ الْمُؤَجِّرُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَصْل الاِسْتِحْقَاقِ.
وَقِيل: لاَ تَنْفَسِخُ كَمِلْكِهِ وَهُوَ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ
الْعَمَل (2) .
81 - وَمَا سَبَقَ مِنْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤَجِّرِ، أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا مَاتَ
فَإِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ فَسْخِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ
الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 356، ونهاية المحتاج 5 / 314، 315.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 362، والمغني 5 / 469.
(44/183)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ
إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ،
لأَِنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ
الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا
إِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ
الْمُسْتَأْجِرُ جَمَاعَةً فَلاَ تَبْطُل بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ قَبْل
تَمَامِ الْمُدَّةِ وَتُصْرَفُ حِصَّةُ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ
(1) .
ثَانِيًا: انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ:
82 - إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي عَقْدِ إِجَارَةِ
الْمَوْقُوفِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لأَِنَّ الثَّابِتَ إِلَى غَايَةٍ
يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ
يَقْتَضِي بَقَاءَ الإِْجَارَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا.
فَلَوِ انْتَهَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِي
الأَْرْضِ مِلْكٌ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ كَزَرْعٍ لَمْ يَبْلُغْ
حَصَادَهُ فَإِنَّ الأَْرْضَ تَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
بِأَجْرِ الْمِثْل إِلَى أَنْ يَحْصُدَ الزَّرْعَ، لأَِنَّهُ بِهَذَا
يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ
بِالْوَقْفِ مَا دَامَ يَسْتَحِقُّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل، وَهَذَا فِي
الْجُمْلَةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الخانية 3 / 335، وأسهل المدارك 2 / 330، 331.
(2) الاختيار 2 / 52، وبدائع الصنائع 4 / 223، والمهذب 1 / 410 - 411،
وشرح المنتهى 2 / 381 - 382، والمغني 5 / 488 - 490، وجواهر الإكليل 2
/ 196، ومنح الجليل 3 / 818.
(44/184)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(إِجَارَةٍ ف60) .
الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ:
83 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْبِنَاءِ
وَالْغِرَاسِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَانِي أَوِ
الْغَارِسُ هُوَ الْوَاقِفَ أَوِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوِ
الْمُسْتَأْجِرَ لأَِرْضِ الْوَقْفِ أَوْ كَانَ أجنبيًّا مَا دَامَ
الْبِنَاءُ أَوِ الْغِرَاسُ مُفِيدًا لِلْوَقْفِ، لَكِنَّهُمْ
يَخْتَلِفُونَ فِي مِلْكِيَّةِ هَذَا الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ هَل
تَكُونُ لِلْبَانِي أَوِ الْغَارِسِ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ نَقْضِهِ
وَقَلْعِهِ أَمْ تَكُونُ وَقْفًا كَالأَْرْضِ وَهُمْ يَبْنُونَ ذَلِكَ
عَلَى أُمُورٍ كَنِيَّةِ الْبَانِي أَوْ إِشْهَادِهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِ أَرْضِ الْوَقْفِ غَرْسُ
الأَْشْجَارِ وَالْكُرُومِ فِيهَا إِذَا لَمْ يُضِرَّ بِالأَْرْضِ
بِدُونِ صَرِيحِ الإِْذْنِ مِنَ الْمُتَوَلِّي دُونَ حَفْرِ
الْحِيَاضِ، وَإِنَّمَا يَحِل لِلْمُتَوَلِّي الإِْذْنُ فِيمَا يَزِيدُ
بِهِ الْوَقْفُ خَيْرًا وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ
فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ قَرَارِ الْعِمَارَةِ فِيهَا،
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فَيَجُوزُ لَهُ الْحَفْرُ
وَالْغَرْسُ وَالْحَائِطُ مِنْ تُرَابِهَا لِوُجُودِ الإِْذْنِ فِي
مِثْلِهَا دَلاَلَةً، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَحَلُّهُ عِنْدَ
عَدَمِ الضَّرَرِ بِالأَْرْضِ.
وَمَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَرَسَهُ وَكَانَ مِنْ مَالِهِ
بِلاَ
(44/184)
إِذْنِ النَّاظِرِ فَهُوَ لَهُ مَا لَمْ
يَنْوِ أَنَّهُ لِلْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ الْبَانِي هُوَ مُتَوَلِّيَ
الْوَقْفِ فَإِنْ كَانَ بِمَال الْوَقْفِ فَهُوَ وَقْفٌ، سَوَاءً
بَنَاهُ لِلْوَقْفِ أَوْ لِنَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ كَانَ
الْبِنَاءُ مِنْ مَالِهِ لِلْوَقْفِ أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَقْفٌ
إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَانِي هُوَ الْوَاقِفَ وَأَطْلَقَ فَهُوَ لَهُ،
وَإِنْ بَنَاهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ
أَنَّهُ لَهُ قَبْل الْبِنَاءِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ
الْبَانِي مُتَوَلِّيًا فَإِنْ بَنَى بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي
لِيَرْجِعَ فَهُوَ وَقْفٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ بَنَى لِلْوَقْفِ فَوَقْفٌ،
وَإِنْ بَنَى لِنَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ لَهُ رَفَعَهُ إِنْ لَمْ
يُضِرَّ بِالأَْرْضِ، وَلَوْ غَرَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ
لِلْمَسْجِدِ، لأَِنَّهُ لاَ يَغْرِسُ فِيهِ لِنَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ فِي
أَرْضِ الْوَقْفِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَلَوْ بِالْوَصْفِ
كَالإِْمَامِ وَالْمُدَرِّسِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ أَوِ
الْغِرَاسَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ وَيَسْتَحِقُّهُ
وَارِثُهُ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِنْ مَاتَ، وَإِنْ بَيَّنَ
أَنَّهُ وَقْفٌ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ وَقْفٌ فَلاَ
يُورَثُ عَنْهُ قَل أَوْ كَثُرَ، وَلَوْ كَانَ الْبَانِي أَوِ
الْغَارِسُ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ وَقْفٌ كَانَ وَقْفًا
وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ
مِلْكٌ لَهُ وَلِوَارِثِهِ وَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا،
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ لاَ يَحْتَاجُ لَهُ وَإِنْ كَانَ
الْوَقْفُ يَحْتَاجُ لِهَذَا الْبِنَاءِ فَيُوَفَّى لَهُ مِنْ
غَلَّتِهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَنَى النَّاظِرُ أَوْ أَصْلَحَ
فَإِنَّهُ يُوَفَّى لَهُ جَمِيعُ مَا صَرَفَهُ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 428 - 429، والإسعاف ص22.
(44/185)
الْبِنَاءِ وَيُجْعَل الْبِنَاءُ وَقْفًا
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ أَرْضًا غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ عَلَى
مُعَيَّنٍ، امْتَنَعَ عَلَيْهِ غَرْسُهَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِيمَا
تَصْلُحُ لَهُ غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ إِلاَّ إِنْ نَصَّ الْوَاقِفُ
عَلَيْهِ أَوْ شَرَطَ لَهُ جَمِيعَ الاِنْتِفَاعَاتِ كَمَا رَجَّحَهُ
السُّبْكِيُّ، وَمِثْل الْغَرْسِ الْبِنَاءُ. فَلَوْ وَقَفَ أَرْضًا
خَالِيَةً مِنَ الْبِنَاءِ لاَ يَجُوزُ بِنَاؤُهَا، مَا لَمْ
يُشْتَرَطْ لَهُ جَمِيعُ الاِنْتِفَاعَاتِ، وَضَابِطُهُ أَنَّهُ
يَمْتَنِعُ كُل مَا غَيَّرَ الْوَقْفَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ اسْمِهِ
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَال الْوَقْفِ، بِخِلاَفِ مَا يَبْقَى
الاِسْمُ مَعَهُ، نَعَمْ إِنْ تَعَذَّرَ الْمَشْرُوطُ جَازَ
إِبْدَالُهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى نَاظِرٌ فِيمَا هُوَ
مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَحْدَهُ فَالْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ لِغَارِسِهِ
أَوْ بَانِيهِ، وَهُوَ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ
طَلَبُهُ بِقَلْعِهِ، لِمِلْكِهِ لَهُ وَلأَِصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ
الْغَارِسُ أَوِ الْبَانِي شَرِيكًا فِي الْوَقْفِ بِأَنْ كَانَ
الْوَقْفُ عَلَى جَمَاعَةٍ فَغَرَسَ فِيهِ أَحَدُهُمْ أَوْ بَنَى
فَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ لَهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ
كَانَ الْغَارِسُ أَوِ الْبَانِي نَاظِرًا فَقَطْ أَيْ غَيْرَ
مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ فَغَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ لَهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِبْقَاؤُهُ بِغَيْرِ رِضَا أَهْل
الْوَقْفِ.
وَيَتَوَجَّهُ إِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ نَاظِرٌ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 96.
(2) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 / 386، 387.
(44/185)
فِي وَقْفٍ أَنَّهُ لَهُ إِنْ أَشْهَدَ
أَنَّ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ بِذَلِكَ
فَهُمَا لِلْوَقْفِ لِثُبُوتِ يَدِ الْوَقْفِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ
غَرَسَهُ أَوْ بَنَاهُ لِلْوَقْفِ أَوْ مِنْ مَال الْوَقْفِ فَهُوَ
وَقْفٌ، وَيَتَوَجَّهُ فِي غَرْسِ أَجْنَبِيٍّ وَبِنَائِهِ أَنَّهُ
لِلْوَقْفِ بِنِيَّتِهِ، وَالتَّوْجِيهَانِ لِصَاحِبِ الْفُرُوعِ،
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَدُ الْوَقْفِ ثَابِتَةٌ عَلَى
الْمُتَّصِل بِهِ مَا لَمْ تَأْتِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مُوجِبَهَا
كَمَعْرِفَةِ كَوْنِ الْغَارِسِ غَرَسَهَا لَهُ بِحُكْمِ إِجَارَةٍ
أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى
الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لَهُ دَعْوَى الْبِنَاءِ بِلاَ حُجَّةٍ، وَيَدُ
أَهْل عَرْصَةٍ مُشْتَرَكَةٍ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِيهَا بِحُكْمِ
الاِشْتِرَاكِ إِلاَّ مَعَ بَيِّنَةٍ بِاخْتِصَاصِهِ بِبِنَاءٍ
وَنَحْوِهِ (1) .
قِسْمَةُ الْمَوْقُوفِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:
84 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ
فِي قِسْمَةِ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ
تَسْوِيَةٍ أَوْ تَفْضِيلٍ بَيْنَهُمْ أَوْ تَقْدِيمِ أَحَدٍ عَلَى
أَحَدٍ وَهَكَذَا (2) .
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلأَْوْقَافِ الَّتِي لَهَا غَلَّةٌ وَشَرَطَ
الْوَاقِفُ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيل
ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي الشُّرُوطِ
الصَّحِيحَةِ لِلْوَاقِفِينَ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 506.
(2) المهذب 1 / 450، وشرح منتهى الإرادات 2 / 501 - 502، والإسعاف
ص126، والشرح الكبير 4 / 88 - 89.
(44/186)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا
لِلسُّكْنَى مَثَلاً أَوْ أَرْضًا مَوْقُوفَةً لِلزِّرَاعَةِ وَكَانَتِ
الدَّارُ أَوِ الأَْرْضُ لاَ تَسْتَوْعِبُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ أَعْيَانِ
الْوَقْفِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ الْمَوْقُوفَ
عَلَيْهِ لاَ مِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ
هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفِ،
فَإِذَا جَازَتِ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا
تَجُوزُ فِي الْمَنَافِعِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ يَكُونُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَفِيمَا
يَلِي تَفْصِيل أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ وَقْفِ الْمُشَاعِ
وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ
الْمُخْتَلِفَاتِ، فَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمُ الْقِسْمَةَ فَعِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقَسَّمُ وَلَكِنْ يَتَهَايَئُونَ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ الشَّلَبِيِّ أَنَّ
الْقِسْمَةَ بِطَرِيقِ التَّهَايُؤِ التَّنَاوُبُ فِي الْعَيْنِ
الْمَوْقُوفَةِ كَمَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا مَثَلاً بَيْنَ
جَمَاعَةٍ فَتَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ
مِنَ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ قِطْعَةً مُعَيَّنَةً يَزْرَعُهَا
لِنَفْسِهِ هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الأُْخْرَى يَأْخُذُ
كُلٌّ مِنْهُمْ قِطْعَةً غَيْرَهَا فَذَلِكَ سَائِغٌ، وَلَكِنَّهُ
لَيْسَ بِلاَزِمٍ فَلَهُمْ إِبْطَالُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي
الْحَقِيقَةِ بِقِسْمَةٍ، إِذِ الْقِسْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَنْ
يَخْتَصَّ بِبَعْضٍ مِنَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الدَّوَامِ.
(44/186)
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ
يَجُوزُ اسْتِدَامَةُ التَّهَايُؤِ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي فِي طُول
الزَّمَانِ إِلَى دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ أَوْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمْ
أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ.
وَبَيَّنَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ
قِسْمَةَ مِلْكٍ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ
حَقَّهُمْ لَيْسَ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ قِسْمَةِ الْوَقْفِ
قِسْمَةَ مُهَايَأَةٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى
الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: أَمَّا الْحَبْسُ (أَيِ الْوَقْفُ) فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَسْمُ رِقَابِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا قِسْمَتُهُ
لِلاِغْتِلاَل بِأَنْ يَأْخُذَ هَذَا كِرَاءَهُ شَهْرًا مَثَلاً
وَالآْخَرُ كَذَلِكَ فَقِيل: يُقَسَّمُ وَيُجْبَرُ مَنْ أَبَى لِمَنْ
طَلَبَ، وَيَنْفُذُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ يَحْصُل مَا يُوجِبُ
تَغْيِيرَ الْقِسْمَةِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُوجِبُ التَّغْيِيرَ.
وَقِيل: لاَ يُقَسَّمُ بِحَالٍ وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلاَمُ
الإِْمَامِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقِيل: يُقَسَّمُ قِسْمَةَ اغْتِلاَلٍ بِتَرَاضِيهِمْ، فَإِنْ أَبَى
أَحَدُهُمُ الْقِسْمَةَ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَاسْتَظْهَرَ
الْحَطَّابُ الْقَوْل الثَّالِثَ.
وَسَوَاءٌ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ قُسِّمَ قِسْمَةَ اغْتِلاَلٍ أَوْ
قِسْمَةَ انْتِفَاعٍ بِأَنْ يَنْتَفِعَ كُل وَاحِدٍ بِالسُّكْنَى
بِنَفْسِهِ أَوْ بِالزِّرَاعَةِ بِنَفْسِهِ مُدَّةً، وَإِنْ كَانَتِ
الأَْقْوَال
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 367 - 369، وفتح القدير 6
/ 212، والبحر الرائق 5 / 224.
(44/187)
الثَّلاَثَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي قِسْمَةِ
الاِغْتِلاَل (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْوَقْفِ بَيْنَ
أَرْبَابِهِ مُمْتَنِعَةٌ مُطْلَقًا، لأَِنَّ فِيهِ تَغْيِيرًا
لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ مُهَايَأَةٍ رَضُوا بِهَا
كُلُّهُمْ إِذْ لاَ تَغْيِيرَ فِيهَا لِعَدَمِ لُزُومِهَا (2) .
وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي
الْمَوْقُوفِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ
أَجَازُوا قِسْمَةَ عَيْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ
الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَصِحُّ قَسْمُ
مَوْقُوفٍ وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ
وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، قَال عَنْ شَيْخِهِ تَقِيِّ
الدِّينِ: صَرَّحَ الأَْصْحَابُ بِأَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا تَجُوزُ
قِسْمَتُهُ إِذَا كَانَ عَلَى جِهَتَيْنِ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى
جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلاَ تُقَسَّمُ عَيْنُهُ قِسْمَةً لاَزِمَةً
اتِّفَاقًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ
وَالثَّالِثَةِ، لَكِنْ تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ بِلاَ مُنَاقَلَةٍ،
ثُمَّ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَنِ
الأَْصْحَابِ وَجْهٌ، يَعْنِي كَغَيْرِهِ مِنَ الْوُجُوهِ
الْمَحْكِيَّةِ، قَال: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْصْحَابِ أَنَّهُ لاَ
فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ أَوْ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 499، ومنح الجليل 3 / 623.
(2) تحفة المحتاج 4 / 306، ومغني المحتاج 2 / 393.
(44/187)
جِهَتَيْنِ، وَفِي الْمَنْهَجِ: لُزُومُهَا
إِذَا اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ (1) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِسْمَةَ الْمُهَايَأَةِ الَّتِي يَقُول بِهَا
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَتْ عَلَى قَوْمٍ
أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لاَ يُحَاطُ بِهِمْ
كَالْفُقَرَاءِ فَإِنَّ النَّاظِرَ يُعْطِي مِنَ الْغَلَّةِ
بِالاِجْتِهَادِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُفَضِّل النَّاظِرُ أَهْل الْحَاجَةِ
وَالْعِيَال الْفُقَرَاءَ بِالاِجْتِهَادِ فِي غَلَّةٍ وَسُكْنَى (2) .
التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ عِنْدَ تَعَطُّل الْمَوْقُوفِ:
إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ فَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي
يُمْكِنُ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ هِيَ:
أ - عِمَارَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ إِنْ أَمْكَنَ.
ب - بَيْعُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ غَيْرَهُ.
ج - رُجُوعُهُ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ
كَالآْتِي:
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 513.
(2) ينظر شرح منتهى الإرادات 2 / 501، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي
4 / 96، وفتح القدير 6 / 245.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 382، 383، وفتح القدير 6 /
238، وحاشية الدسوقي 4 / 90، والخرشي 7 / 94، ومغني المحتاج 2 / 391،
393، وكشاف القناع 4 / 292 - 294، وشرح منتهى الإرادات 2 / 514 - 516،
والمغني 5 / 631 - 632.
(44/188)
أَوَّلاً: عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ: 85 -
الْغَرَضُ مِنْ عِمَارَةِ الْمَوْقُوفِ بَقَاءُ عَيْنِهِ صَالِحَةً
لِلاِنْتِفَاعِ تَحْقِيقًا لِلْغَرَضِ الأَْصْلِيِّ مِنَ الْوَقْفِ.
وَتَتِمُّ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: تَعَهُّدُهُ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ وَعَمَل مَا
يُحَقِّقُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ
صَالِحًا لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ الآْنَ وَلَيْسَ بِهِ خَلَلٌ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْل الدُّرِّ الْمُخْتَارِ
" وَيَبْدَأُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ قَبْل الصَّرْفِ
إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ ": وَالْعِمَارَةُ اسْمٌ لِمَا يُعْمَرُ بِهِ
الْمَكَانُ بِأَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى
يَبْقَى إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ الزِّيَادَةِ إِنْ لَمْ
يُشْتَرَطْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ شَجَرًا يُخَافُ هَلاَكُهُ
كَانَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَلَّتِهِ قَصِيلاً (زَرْعًا)
فَيَغْرِزُهُ، لأَِنَّ الشَّجَرَ يَفْسُدُ عَلَى امْتِدَادِ
الزَّمَانِ. . . وَكَذَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ سَبِخَةً لاَ
يَنْبُتُ فِيهَا شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُصْلِحَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ
دَفْعُ الْمَرْصَدِ (أَيِ الدَّيْنِ) الَّذِي عَلَى الْمَوْقُوفِ
فَإِنَّ الْمَرْصَدَ دَيْنٌ عَلَى الْوَقْفِ لِضَرُورَةِ تَعْمِيرِهِ
فَإِذَا وُجِدَ فِي الْوَقْفِ مَالٌ وَلَوْ فِي كُل سَنَةٍ شَيْءٌ
دُفِعَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ رَقَبَةُ الْوَقْفِ وَيَصِيرَ يُؤَجَّرُ
بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لَزِمَ النَّاظِرَ ذَلِكَ، وَكَوْنُ
(44/188)
التَّعْمِيرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إِذَا
لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ بِصُنْعِ أَحَدٍ (1) .
وَمِمَّا يُصْرَفُ فِيهِ رَيْعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَةِ
الْمَسْجِدِ - كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ - السُّلَّمُ،
وَالْبَوَارِي لِلتَّظْلِيل بِهَا، وَالْمَكَانِسُ لِيُكْنَسَ بِهَا،
وَالْمَسَاحِي لِيُنْقَل بِهَا التُّرَابُ، وَظُلَّةٌ تَمْنَعُ
إِفْسَادَ خَشَبِ الْبَابِ بِمَطَرٍ وَنَحْوِهِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ
بِالْمَارَّةِ (2) .
ثَانِيهُمَا: أَنْ تَتِمَّ الْعِمَارَةُ بِالْبِنَاءِ وَالتَّرْمِيمِ
وَالتَّجْصِيصِ لِمَا تَشَقَّقَ أَوْ تَهَدَّمَ مِنَ الأَْبْنِيَةِ
الْمَوْقُوفَةِ.
يَقُول الْخَرَشِيُّ: يَبْدَأُ بِمَرَمَّةِ الْوَقْفِ وَإِصْلاَحِهِ
لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَدَوَامِ مَنْفَعَتِهِ.
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ: يُصْرَفُ رَيْعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى
عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّجْصِيصِ الْمُحْكَمِ
وَالسُّلَّمِ وَالْبَوَارِي. . . إِلَخْ (3) .
أ - تَقْدِيمُ الْعِمَارَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَصَارِفِ:
86 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى
أَنَّ عِمَارَةَ الْوَقْفِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَصَارِفِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 376.
(2) مغني المحتاج 2 / 393.
(3) الخرشي 7 / 93 - 94، وحاشية الدسوقي 4 / 90، ومغني المحتاج 3 /
393.
(44/189)
الأُْخْرَى، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ
ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، لأَِنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ
الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلاَ تَبْقَى دَائِمَةً إِلاَّ
بِالْعِمَارَةِ، فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً.
بَل إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ
عَدَمَ الْبَدْءِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِإِصْلاَحِهِ، أَوْ شَرَطَ
عَدَمَ الْبَدْءِ بِنَفَقَتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ فَلاَ
يُتَّبَعُ شَرْطُهُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال الْوَقْفِ مِنْ
أَصْلِهِ بَل يَبْدَأُ بِمَرَمَّتِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ
غَلَّتِهِ لِتَبْقَى عَيْنُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَبَّعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ،
فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ سِلاَحٍ
وَمَتَاعٍ وَكُتُبٍ لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ
بِشَرْطٍ، فَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عِمَارَتَهُ عُمِل بِهِ مُطْلَقًا
سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا
فَيُعْمَل بِمَا شَرَطَ، فَإِنْ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْجِهَةِ عَلَى
الْعِمَارَةِ عُمِل بِهِ، لَكِنْ قَال الْحَارِثِيُّ: مَا لَمْ يُؤَدِّ
إِلَى تَعْطِيل الْوَقْفِ، فَإِنْ أَدَّى إِلَيْهِ قُدِّمَتِ
الْعِمَارَةُ حِفْظًا لأَِصْل الْوَقْفِ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَاقِفُ
وَلَمْ يُحَدِّدْ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى أَرْبَابِ
الْوَظَائِفِ، قَال فِي التَّنْقِيحِ: مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى تَعْطِيل
مَصَالِحِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الإِْمْكَانِ (2) .
وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعِمَارَةِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 376، 377، والبحر الرائق 5 /
225، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 90، ومغني المحتاج 2 / 393،
ونهاية المحتاج 5 / 393.
(2) كشاف القناع 4 / 266، وشرح المنتهى 2 / 507.
(44/189)
الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ،
فَإِذَا كَانَتِ الْعِمَارَةُ ضَرُورِيَّةً وَاحْتِيجَ إِلَيْهَا
كَرَفْعِ سَقْفٍ أَوْ بِنَاءِ جِدَارٍ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى
جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَصَارِفِ، إِذْ لَيْسَ مِنَ النَّظَرِ خَرَابُ
الْمَسْجِدِ لأَِجْل مَا يُعْطَى لِلإِْمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ، فَإِنْ
فَضَل عَنِ التَّعْمِيرِ شَيْءٌ يُعْطَى مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ
مِمَّا فِي قَطْعِهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ
غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ بِحَيْثُ لاَ يُؤَدِّي تَرْكُهَا إِلَى خَرَابِ
الْعَيْنِ لَوْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ إِلَى غَلَّةِ السَّنَةِ
الْقَادِمَةِ فَيُقَدَّمُ الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ (1) .
وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّةِ
الأَْرْضِ فِي يَدِ الْقَيِّمِ، فَظَهَرَ لَهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ
الْبِرِّ نَحْوُ فَكِّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ إِعَانَةِ
الْغَازِي الْمُنْقَطِعِ، وَكَانَ الْوَقْفُ مُحْتَاجًا إِلَى
الإِْصْلاَحِ وَالْعِمَارَةِ، وَيَخَافُ الْقَيِّمُ لَوْ صَرَفَ
الْغَلَّةَ إِلَى الْعِمَارَةِ يُفَوِّتُ ذَلِكَ الْبِرَّ فَإِنَّهُ
يَنْظُرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِ إِصْلاَحِ الأَْرْضِ
وَمَرَمَّتِهِ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ يُخَافُ
خَرَابُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ الْغَلَّةَ إِلَى ذَلِكَ
الْبِرِّ، وَتُؤَخَّرُ الْمَرَمَّةُ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ كَانَ فِي تَأْخِيرِ الْمَرَمَّةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهُ
يَصْرِفُ الْغَلَّةَ إِلَى الْمَرَمَّةِ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ يُصْرَفُ
إِلَى ذَلِكَ الْبِرِّ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ
يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَتَأْخِيرُ الْعِمَارَةِ
إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ إِذَا لَمْ يُخَفْ ضَرَرٌ بَيِّنٌ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 377 - 379.
(44/190)
ثُمَّ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَوْ صَرَفَ
الْمُتَوَلِّي عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَهُنَاكَ عِمَارَةٌ لاَ
يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا، لأَِنَّ مَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ مِنَ الْعِمَارَةِ وَالْمُؤْنَةِ
مُسْتَثْنًى عَنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، فَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ
ذَلِكَ ضَمِنَ (1) .
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ
تَقْدِيمَ الْعِمَارَةِ ثُمَّ يُصْرَفُ الْفَاضِل لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمُسْتَحِقِّينَ، لَزِمَ النَّاظِرَ إِمْسَاكُ قَدْرِ الْعِمَارَةِ
كُل سَنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْهُ الآْنَ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ
حَدَثٌ وَلاَ غَلَّةٌ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ
ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْعِمَارَةِ كُل
سَنَةٍ وَالسُّكُوتِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَعَ السُّكُوتِ تُقَدَّمُ
الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَلاَ يُدَّخَرُ لَهَا
عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمَعَ الاِشْتِرَاطِ تُقَدَّمُ
الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا
ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي، لأَِنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَل
الْفَاضِل عَنْهَا لِلْفُقَرَاءِ (2) .
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ
الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي الْعِمَارَةِ، فَإِنْ
كَانَ التَّهَيُّؤُ لِلْعِمَارَةِ ثَابِتًا فِي الْحَال صَرَفَهُ
إِلَيْهَا، وَإِلاَّ حَفِظَهُ حَتَّى يَتَهَيَّأَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقَ
الْحَاجَةُ.
__________
(1) البحر الرائق 5 / 225.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 389.
(44/190)
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ
الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَدَّخِرُ
مِنْ زَائِدِ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا
يُعَمِّرُهُ بِتَقْدِيرِ هَدْمِهِ، وَيَشْتَرِي لَهُ بِالْبَاقِي
عَقَارًا وَيَقِفُهُ، لأَِنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ لاَ بِشَيْءٍ مِنَ
الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَتِهِ لأَِنَّ الْوَاقِفَ وَقَفَ عَلَيْهَا
(1) .
ب - الْجِهَةُ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ
وَعِمَارَتِهِ:
87 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا
عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا
عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ، وَإِصْلاَحِ مَا وَهَى مِنْ
بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا تَكُونُ
مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ
يَشْرُطْ لأَِنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فِي سَبِيل اللَّهِ
تَعَالَى وَلاَ تَجْرِي إِلاَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ بَطَل
شَرْطُهُ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 382، والهداية مع الفتح 6 /
224، ونهاية المحتاج 5 / 393، ومغني المحتاج 2 / 392 - 393.
(2) البدائع 6 / 221، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 380، وحاشية
الدسوقي 4 / 90.
(3) الخرشي 7 / 94.
(44/191)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ
دَارَهُ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ
السُّكْنَى، وَلَوْ مُتَعَدِّدًا مِنْ مَالِهِ لاَ مِنَ الْغَلَّةِ،
إِذِ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ، وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَكَانَتِ
الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْعِمَارَةِ أَوْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَيْهَا لِفَقْرِهِ آجَرَهَا الْقَاضِي مِنْهُ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِ وَعَمَّرَهَا بِالأُْجْرَةِ كَعِمَارَةِ الْوَاقِفِ، وَلاَ
يُجْبَرُ الآْبِي عَلَى الْعِمَارَةِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ لِلْغَزْوِ يُنْفَقُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَلاَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ الْوَاقِفَ
وَلاَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَدِمَ بَيْتُ الْمَال بِيعَ
وَعُوِّضَ بِثَمَنِهِ سِلاَحٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ
لِنَفَقَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ
شَرْطُ الْوَاقِفِ.
فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمَوْقُوفِ
وَمُؤْنَةَ تَجْهِيزِهِ وَعِمَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ شُرِطَتْ، سَوَاءٌ
شَرَطَهَا الْوَاقِفُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَال الْوَقْفِ، وَإِلاَّ
فَمِنْ مَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ كَكَسْبِ الْعَبْدِ وَغَلَّةِ
الْعَقَارِ، فَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَالنَّفَقَةُ وَمُؤَنُ
التَّجْهِيزِ لاَ الْعِمَارَةُ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، كَمَنْ
أَعْتَقَ مَنْ لاَ كَسْبَ لَهُ، أَمَّا الْعِمَارَةُ فَلاَ تَجِبُ
عَلَى أَحَدٍ حِينَئِذٍ
__________
(1) البدائع 6 / 221، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 380، وحاشية
الدسوقي 4 / 90.
(2) البدائع 6 / 221، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 380، وحاشية
الدسوقي 4 / 90.
(44/191)
كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلاَفِ
الْحَيَوَانِ لِصِيَانَةِ رُوحِهِ وَحُرْمَتِهِ (1) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ
الْقِنَاعِ: يُرْجَعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى
الْمَوْقُوفِ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ وَخَرِبَ، بِأَنْ
يَقُول: يُنْفَقُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَمَّرُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، فَإِنْ
عَيَّنَ الْوَاقِفُ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ مِنْ
غَيْرِهَا عُمِل بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ
ذَا رُوحٍ كَالرَّقِيقِ وَالْخَيْل فَإِنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ
غَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ
عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى
تَكُونُ وَقْفًا، وَإِنْ أَمْكَنَ إِجَارَتُهُ أُجِّرَ بِقَدْرِ
نَفَقَتِهِ، وَكَذَا لَوِ احْتَاجَ خَانٌ مُسْبِلٌ إِلَى مَرَمَّةٍ
أُوجِرَ مِنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ
فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَقَارًا وَنَحْوَهُ كَسِلاَحٍ وَمَتَاعٍ لَمْ
تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ (2) .
جـ - حُكْمُ التَّعَدِّي عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْفِ:
88 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَعَدَّى عَلَى الْوَقْفِ
بِهَدْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 397، وأسنى المطالب 2 /
473.
(2) كشاف القناع 4 / 265 - 266.
(44/192)
عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ كَوْنَ
التَّعْمِيرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ
بِصُنْعِ أَحَدٍ، وَلِذَا قَال فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: رَجُلٌ آجَرَ
دَارَ الْوَقْفِ فَجَعَل الْمُسْتَأْجِرُ رِوَاقَهَا مَرْبِطًا
لِلدَّوَابِّ وَخَرَّبَهَا يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ فَعَل بِغَيْرِ إِذْنٍ
(1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمَنْ هَدَمَ وَقْفًا تَعَدِّيًا فَعَلَيْهِ
إِعَادَتُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
الْمَهْدُومُ بَالِيًا، لأَِنَّ الْهَادِمَ ظَالِمٌ بِتَعَدِّيهِ
وَالظَّالِمُ أَحَقُّ بِالْحَمْل عَلَيْهِ، وَلاَ تُؤْخَذُ قِيمَةُ
الْمَهْدُومِ، وَذَلِكَ كَمَا قَال ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ شَاسٍ.
وَالرَّاجِحُ: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَسَائِرِ الْمَتْلَفَاتِ
وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَشَهَّرَهُ عِيَاضٌ، وَهُوَ
ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ (2) .
وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ - أَيِ الضَّمَانِ بِالتَّعَدِّي - ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الْكُتُبُ
الْمَوْقُوفَةُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ تَلِفَ
فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِلاَ تَعَدٍّ وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ.
وَمِنَ التَّعَدِّي اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُقِفَ لَهُ (3) .
د - الاِسْتِدَانَةُ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ:
89 - إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَعْمِيرٍ
وَإِصْلاَحٍ، أَوْ كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَفَقَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ
مِنَ الرَّيْعِ مَا يَكْفِي لِسَدِّ حَاجَةِ التَّعْمِيرِ
وَالإِْصْلاَحِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 376.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 92.
(3) مغني المحتاج 2 / 391.
(44/192)
فَهَل يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ
الاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْوَقْفِ لِهَذَا السَّبَبِ وَهَل يَحْتَاجُ
فِي ذَلِكَ إِلَى إِذْنٍ أَوْ لاَ يَحْتَاجُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي
قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقْتَرِضَ
لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ كَشِرَائِهِ
لِلْوَقْفِ نَسِيئَةً أَوْ بِنَقْدٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَسَائِرِ
تَصَرُّفَاتِهِ، لأَِنَّ النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ،
فَالإِْذْنُ وَالاِئْتِمَانُ ثَابِتَانِ كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوِ الْتَزَمَ حِينَ أَخَذَ النَّظَرَ أَنْ
يَصْرِفَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ مَالِهِ إِنِ احْتَاجَ لَمْ يَلْزَمْهُ
ذَلِكَ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا صَرَفَهُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الاِقْتِرَاضُ
دُونَ شَرْطِ الْوَاقِفِ أَوْ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ
يُقْرِضَ الإِْمَامُ النَّاظِرَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، أَوْ يَأْذَنَ
لَهُ فِي الاِقْتِرَاضِ أَوِ الإِْنْفَاقِ مِنْ مَال نَفْسِهِ عَلَى
الْعِمَارَةِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، وَلَوِ اقْتَرَضَ النَّاظِرُ مِنْ
غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ وَلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ،
وَلاَ يَرْجِعُ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ بِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
تَجُوزُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 89، ومواهب الجليل 6 / 40، وكشاف القناع 4 /
267، وحاشية ابن عابدين 3 / 419.
(2) روضة الطالبين 5 / 361، ونهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 /
397.
(44/193)
الاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْوَقْفِ إِلاَّ
إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهَا لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ كَتَعْمِيرٍ
وَشِرَاءِ بَذْرٍ، فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ: الأَْوَّل: إِذْنُ
الْقَاضِي، فَلَوْ يَبْعُدُ عَنْهُ يَسْتَدِينُ بِنَفْسِهِ.
الثَّانِي: أَلاَّ يَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفُ مِنْ
أُجْرَتِهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ الاِسْتِدَانَةَ عَلَى الْوَقْفِ لاَ
تَجُوزُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ، لأَِنَّ الدِّينَ لاَ
يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إِلاَّ فِي الذِّمَّةِ، وَالْوَقْفُ لاَ ذِمَّةَ
لَهُ، وَالْفُقَرَاءُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ لَكِنْ
لِكَثْرَتِهِمْ لاَ تُتَصَوَّرُ مُطَالَبَتُهُمْ، فَلاَ يَثْبُتُ
إِلاَّ عَلَى الْقَيِّمِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَيِّمِ لاَ يَمْلِكُ
قَضَاءَهُ مِنْ غَلَّةِ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ.
لَكِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو
اللَّيْثِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ
الاِسْتِدَانَةِ بُدٌّ فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِأَمْرِ الْقَاضِي إِنْ
لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنِ الْمُتَوَلِّي، لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْقَاضِي
أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا مَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ - كَالصَّرْفِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ -
فَلاَ تَجُوزُ الاِسْتِدَانَةُ لأَِجْل ذَلِكَ، كَمَا فِي الْقُنْيَةِ،
إِلاَّ مَا يُعْطَى لِلإِْمَامِ وَالْخَطِيبِ وَالْمُؤَذِّنِ لأَِنَّ
ذَلِكَ لِضَرُورَةِ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَظْهَرُ، كَذَلِكَ
إِذَا كَانَتِ الاِسْتِدَانَةُ لِلْحُصْرِ وَالزَّيْتِ بِنَاءً عَلَى
الْقَوْل الرَّاجِحِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ.
(44/193)
وَإِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ
الْقَاضِي فَادَّعَى الْمُتَوَلِّي الإِْذْنَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ
يُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي مَقْبُول
الْقَوْل، لَمَّا أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ فِي الْغَلَّةِ وَهُوَ
إِنَّمَا يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ
كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ
الأَْخْذُ مِنَ الْغَلَّةِ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا مَا
دَامَ لَمْ يُوجَدْ إِذْنٌ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا كَانَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ فَأَنْفَقَ
الْمُتَوَلِّي مِنْ مَال نَفْسِهِ لإِِصْلاَحِ الْوَقْفِ كَانَ لَهُ
أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى
الْحَانُوتِيَّ أَنَّهُ لَهُ الرُّجُوعُ دِيَانَةً، لَكِنْ لَوِ
ادَّعَى ذَلِكَ لاَ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ
أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَجِبُ تَقْيِيدُ
ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
غَلَّةٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي (2) .
ثَانِيًا: بَيْعُ الْمَوْقُوفِ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ:
90 - إِذَا تَعَطَّل الْمَوْقُوفُ وَصَارَ بِحَالَةٍ لاَ يُنْتَفَعُ
بِهَا فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ بَيْعَهُ وَجَعْل
ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ وَالاِسْتِبْدَال وَلَوْ لَمْ
يَتَعَطَّل الْمَوْقُوفُ، لَكِنْ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 419.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 420.
(44/194)
كَمَا فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ
الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. وَلِكُل مَذْهَبٍ
تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
لِلاِسْتِبْدَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ صُوَرٌ ثَلاَثٌ:
الصُّورَةُ الأُْولَى:
91 - أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ
الاِسْتِبْدَال بِأَرْضِ الْوَقْفِ أَرْضًا أُخْرَى حِينَ الْوَقْفِ،
وَلِهَذِهِ الصُّورَةِ صِيغَتَانِ:
الصِّيغَةُ الأُْولَى: أَنْ يَقُول: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ
مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل أَبَدًا عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا
وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا أُخْرَى، فَتَكُونُ وَقْفًا
بِشَرَائِطِ الأُْولَى (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي حُكْمِ هَذِهِ
الصُّورَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِلاَلٍ وَالْخَصَّافِ يَجُوزُ الْوَقْفُ
وَالشَّرْطُ اسْتِحْسَانًا (2) .
وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا جَاءَ فِي فَتَاوَى
قَاضِيخَانْ، لأَِنَّ هَذَا شَرْطٌ لاَ يُبْطِل حُكْمَ الْوَقْفِ،
فَإِنَّ الْوَقْفَ مِمَّا يَحْتَمِل الاِنْتِقَال مِنْ أَرْضٍ إِلَى
أُخْرَى، وَيَكُونُ الثَّانِي قَائِمًا مَقَامَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 387، 388، والإسعاف ص31.
(2) الإسعاف ص31، وفتح القدير 6 / 227.
(44/194)
الأُْولَى فَإِنَّ أَرْضَ الْوَقْفِ إِذَا
غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءَ حَتَّى صَارَتْ
بَحْرًا لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيَشْتَرِي
بِقِيمَتِهَا أَرْضًا أُخْرَى، فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ وَقْفًا عَلَى
شَرَائِطِ الأُْولَى، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْوَقْفِ إِذَا قَل نُزْلُهَا
(رَيْعُهَا) لآِفَةٍ وَصَارَتْ بِحَيْثُ لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ
أَوْ لاَ تَفْضُل غَلَّتُهَا عَنْ مُؤَنِهَا يَكُونُ صَلاَحُ الْوَقْفِ
فِي الاِسْتِبْدَال بِأَرْضٍ أُخْرَى فَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ
الْوَاقِفُ وِلاَيَةَ الاِسْتِبْدَال وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الضَّرُورَةُ
دَاعِيَةً إِلَيْهِ فِي الْحَال (1) .
وَقَال مُحَمَّدٌ وَيُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ: الْوَقْفُ
صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ (2) .
وَقَدْ وَجَّهَ السَّرَخْسِيُّ رَأْيَ مُحَمَّدٍ فِي كَوْنِ فَسَادِ
شَرْطِ الاِسْتِبْدَال لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ فَقَال:
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ قَوْل أَهْل الْبَصْرَةِ - الْوَقْفُ
جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ يُؤَثِّرُ
فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ وَالْوَقْفُ يَتِمُّ بِذَلِكَ، وَلاَ
يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْل الْوَقْفِ فَيَتِمُّ
الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الاِسْتِبْدَال شَرْطًا فَاسِدًا
فَيَكُونُ بَاطِلاً فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إِذَا شَرَطَ
الاِسْتِبْدَال بِهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 239، والإسعاف ص31، وفتح القدير 6 / 228، وفتاوى
قاضيخان بهامش الهندية 3 / 306.
(2) الإسعاف ص31، والبحر الرائق 5 / 239، والهداية مع فتح القدير 6 /
227، 228.
(44/195)
دُونَ قَوْمٍ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَاتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ (1) .
وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ
فَاسِدَانِ (2) .
وَنَقَل الْكَمَال ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ
الشَّرْطَ صَحِيحٌ لَكِنْ لاَ يَبِيعُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ
وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ - إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْفَعَةَ فِي
الْوَقْفِ - أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهَا إِذَا رَآهُ أَنْظَرَ لأَِهْل
الْوَقْفِ (3) .
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا
أَرْضًا أُخْرَى وَلَمْ يَزِدْ صَحَّ اسْتِحْسَانًا، وَصَارَتِ
الثَّانِيَةُ وَقْفًا بِشَرَائِطِ الأُْولَى وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى
إِيقَافِهَا لأَِنَّ الأَْرْضَ تَعَيَّنَتْ لِلْوَقْفِ فَيَقُومُ
ثَمَنُهَا مَقَامَهَا فِي الْحُكْمِ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ أَرْضٍ
بِثَمَنِهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى شَرَائِطِ الأُْولَى مِنْ غَيْرِ
تَجْدِيدِ وَقْفٍ.
وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ
إِقَامَةَ أَرْضٍ أُخْرَى مَقَامَ الأُْولَى (4) .
الصِّيغَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ شَرَطَ أَنَّ لِلْقَيِّمِ
الاِسْتِبْدَال وَلَمْ يَشْرُطْهُ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ
يَسْتَبْدِل لِنَفْسِهِ، لأَِنَّ
__________
(1) المبسوط 12 / 41، 42.
(2) الإسعاف ص31، وفتاوى الخانية 3 / 306.
(3) فتح القدير 6 / 228.
(4) الإسعاف ص31، والبحر الرائق 5 / 240، وفتح القدير 6 / 229.
(44/195)
إِفَادَتَهُ الْوِلاَيَةَ لِغَيْرِهِ
بِذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ يَمْلِكُهَا (1) .
وَلَوْ شَرَطَ الاِسْتِبْدَال لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَ نَفْسِهِ مَلَكَ
الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال وَحْدَهُ، وَلاَ يَمْلِكُهُ فُلاَنٌ
وَحْدَهُ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ شَرَطَ الاِسْتِبْدَال لِنَفْسِهِ أَوْ
لِغَيْرِهِ، أَوْ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَالاِسْتِبْدَال جَائِزٌ
عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيل اتِّفَاقًا.
وَلَوْ وَقَفَ أَرْضَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِأَرْضٍ لَيْسَ
لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِدَارٍ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ
الْبَدَل دَارًا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِأَرْضٍ،
وَلَوْ شَرَطَ أَرْضَ قَرْيَةٍ لاَ يَسْتَبْدِلُهَا بِأَرْضِ
غَيْرِهَا، لِتَفَاوُتِ أَرَاضِي الْقُرَى مُؤْنَةً وَاسْتِغْلاَلاً
فَيَلْزَمُ الشَّرْطُ.
وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدِ الْبَدَل بِأَرْضٍ وَلاَ دَارٍ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَسْتَبْدِل بِهَا مِنْ جِنْسِ الْعَقَارَاتِ بِأَيِّ أَرْضٍ أَوْ
دَارٍ أَوْ بَلَدٍ شَاءَ لِلإِْطْلاَقِ (3) .
وَإِنْ شَرَطَ الاِسْتِبْدَال فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِل
الأَْرْضَ الثَّانِيَةَ بِأَرْضٍ ثَالِثَةٍ لأَِنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ
فِي الأُْولَى فَقَطْ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُفِيدُ ذَلِكَ
(4) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 228.
(2) البحر الرائق 5 / 240، وفتح القدير 6 / 229.
(3) البحر الرائق 5 / 240، والإسعاف ص32، وحاشية ابن عابدين 3 / 387.
(4) الدر المختار وابن عابدين 3 / 388، وفتح القدير 6 / 228.
(44/196)
وَالاِسْتِبْدَال فِي حَالَةِ اشْتِرَاطِهِ
يَجُوزُ وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ ذَاتَ رَيْعٍ وَنَفْعٍ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال لِنَفْسِهِ أَوْ
لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَلْزَمُ خُرُوجُ الْوَقْفِ عَنِ الاِنْتِفَاعِ
وَلاَ مُبَاشَرَةُ الْقَاضِي لَهُ وَلاَ عَدَمُ رَيْعٍ يُعَمَّرُ بِهِ
(1) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
92 - أَلاَّ يَشْرُطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال حِينَ الْوَقْفِ،
سَوَاءٌ شَرَطَ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال أَوْ سَكَتَ لَكِنْ صَارَ
الْوَقْفُ بِحَيْثُ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لاَ
يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً أَوْ لاَ يَفِي بِمُؤْنَتِهِ،
فَالاِسْتِبْدَال فِي هَذِهِ الصُّورَةِ جَائِزٌ عَلَى الأَْصَحِّ
إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهُ قَدِ
اخْتَلَفَ كَلاَمُ قَاضِيخَانْ، فَفِي مَوْضِعٍ جَوَّزَ لِلْقَاضِي
الاِسْتِبْدَال بِلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ حَيْثُ رَأَى
الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَنَعَ مِنْهُ وَلَوْ
صَارَتِ الأَْرْضُ بِحَالٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْمُعْتَمَدُ
أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الاِسْتِبْدَال بِالشُّرُوطِ الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْقُوفُ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 388.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 387.
(44/196)
ب - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رَيْعٌ
لِلْوَقْفِ يُعَمَّرُ بِهِ.
ج - أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ.
د - أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَبْدِل قَاضِيَ الْجَنَّةِ، الْمُفَسَّرَ
بِذِي الْعِلْمِ وَالْعَمَل، لِئَلاَّ يَحْصُل التَّطَرُّقُ إِلَى
إِبْطَال أَوْقَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَاضِي الْجَنَّةِ هُوَ
الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ
فِي النَّارِ " (1) .
هـ - أَنْ يَكُونَ الْبَدَل عَقَارًا لاَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ.
و أَنْ لاَ يَبِيعَهُ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ وَلاَ
مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
ز - أَنْ يَكُونَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لِمَا
فِي الْخَانِيَّةِ: لَوْ شَرَطَ اسْتِبْدَالَهَا بِدَارٍ لَمْ يَكُنْ
لَهُ اسْتِبْدَالُهَا بِأَرْضٍ وَبِالْعَكْسِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ
نَقْلاً عَنِ الْعَلاَّمَةِ قِنَالِي زَادَةَ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ
اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْمَوْقُوفَةِ لِلاِسْتِغْلاَل،
لأَِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهَا كَثْرَةُ الرَّيْعِ وَقِلَّةُ
الْمَرَمَّةِ وَالْمُؤْنَةِ، فَلَوِ اسْتَبْدَل الْحَانُوتَ بِأَرْضٍ
تُزْرَعُ وَيَحْصُل مِنْهَا غَلَّةٌ قَدَّرَ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ
كَانَ أَحْسَنَ، لأَِنَّ الأَْرْضَ أَدْوَمُ وَأَبْقَى وَأَغْنَى عَنْ
كُلْفَةِ التَّرْمِيمِ وَالتَّعْمِيرِ بِخِلاَفِ الْمَوْقُوفَةِ
لِلسُّكْنَى، لِظُهُورٍ أَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ الاِنْتِفَاعُ
بِالسَّكَنِ.
ح - فِي الْقُنْيَةِ مُبَادَلَةُ دَارِ الْوَقْفِ بِدَارٍ أُخْرَى
__________
(1) حديث: " القضاة ثلاثة. . " أخرجه أبو داود (4 / 5 - ط حمص) من حديث
بريدة.
(44/197)
إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَتْ فِي
مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى خَيْرًا، وَالْعَكْسُ لاَ
يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتِ الْمَمْلُوكَةُ أَكْثَرَ مِسَاحَةً وَقِيمَةً
وَأُجْرَةً، لاِحْتِمَال خَرَابِهَا فِي أَدْوَنِ الْمَحَلَّتَيْنِ
لِدَنَاءَتِهَا وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (1) .
وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ
وَهْبَانَ، لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال، أَوْ
يَكُونُ النَّاظِرُ مَعْزُولاً قَبْل الاِسْتِبْدَال، أَوْ إِذَا هَمَّ
بِالاِسْتِبْدَال انْعَزَل هَل يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ؟ قَال
الطَّرَسُوسِيُّ: إِنَّهُ لاَ نَقْل فِيهِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ
الْمَذْهَبِ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَبْدِل إِذَا رَأَى
الْمَصْلَحَةَ فِي الاِسْتِبْدَال (2) .
وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَيْضًا: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ
إِذَا ضَعُفَتِ الأَْرْضُ الْمَوْقُوفَةُ عَنِ الاِسْتِغْلاَل
وَالْقَيِّمُ يَجِدُ بِثَمَنِهَا أُخْرَى هِيَ أَكْثَرُ رَيْعًا كَانَ
لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ
رَيْعًا، ثُمَّ قَال: وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ
بَيْعَهُ تَعَطَّل الْوَقْفُ أَوْ لَمْ يَتَعَطَّل، وَكَذَا لَمْ
يُجَوِّزِ الاِسْتِبْدَال فِي الْوَقْفِ، وَقَال قَاضِيخَانْ: لَوْ
كَانَ الْوَقْفُ مُرْسَلاً أَيْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَرْطُ
الاِسْتِبْدَال فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ وَلَوْ
كَانَ أَرْضُ الْوَقْفِ سَبِخَةً لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا لأَِنَّ سَبِيل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 388، والبحر الرائق 5 / 240 - 241، والإسعاف
ص32.
(2) البحر الرائق 5 / 241.
(44/197)
الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا لاَ
يُبَاعُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وَلاَيَةُ الاِسْتِبْدَال بِالشَّرْطِ
وَبِدُونِ الشَّرْطِ لاَ تَثْبُتُ (1) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: 93 - أَلاَّ يَشْرُطَ الْوَاقِفُ
الاِسْتِبْدَال وَلِلْوَقْفِ رَيْعٌ وَغَلاَّتٌ وَغَيْرُ مُعَطَّلٍ،
وَلَكِنْ فِي الاِسْتِبْدَال نَفْعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَبَدَلُهُ خَيْرٌ
مِنْهُ نَفْعًا وَرَيْعًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا لاَ يَجُوزُ
اسْتِبْدَالُهُ عَلَى الأَْصَحِّ الْمُخْتَارِ كَذَا حَرَّرَهُ
الْعَلاَّمَةُ قِنَالِي زَادَةَ (2) .
ثُمَّ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الأَْشْبَاهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
اسْتِبْدَال الْعَامِرِ إِلاَّ فِي أَرْبَعِ مَسَائِل:
الأُْولَى: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال.
الثَّانِيَةُ: إِذَا غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْمَاءَ
حَتَّى صَارَ بَحْرًا فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَيَشْتَرِي الْمُتَوَلِّي
بِهَا أَرْضًا بَدَلاً.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْحَدَهُ الْغَاصِبُ وَلاَ بَيِّنَةَ وَأَرَادَ
دَفْعَ الْقِيمَةِ فَلِلْمُتَوَلِّي أَخْذُهَا لِيَشْتَرِيَ بِهَا
بَدَلاً.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرْغَبَ إِنْسَانٌ فِيهِ بِبَدَلٍ أَكْثَرَ
غَلَّةً وَأَحْسَنَ صُقْعًا فَيَجُوزُ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ، قَال
صَاحِبُ النَّهْرِ: قَوْل قَارِئِ الْهِدَايَةِ: وَالْعَمَل عَلَى
قَوْل أَبِي يُوسُفَ مَعَارَضٌ بِمَا قَالَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ:
__________
(1) البحر الرائق 5 / 223.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 387.
(44/198)
نَحْنُ لاَ نُفْتِي بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ
(1) .
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
94 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ آخَرُ: إِذْ أَنَّهُمْ
يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول فِي بَيْعِهِ
وَاسْتِبْدَال غَيْرِهِ بِهِ، فَأَجَازُوا الاِسْتِبْدَال فِي
الْمَنْقُول إِذَا لَمْ تُوجَدْ جِهَةٌ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَخِيفَ
عَلَيْهِ الْهَلاَكُ أَوْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ وَصَارَ لاَ
يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ مِنْ أَجْلِهِ.
جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَيْهِ:
الْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ فِي سَبِيل اللَّهِ كَالْغَزْوِ وَالرِّبَاطِ
تَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ عُدِمَ بَيْتُ الْمَال
فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ بَدَلَهُ سِلاَحٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لاَ
يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ. وَكَذَلِكَ يُبَاعُ كُل حَبْسٍ لاَ يُنْتَفَعُ
بِهِ - غَيْرَ عَقَارٍ - كَفَرَسٍ يُكْلَبُ أَيْ يُصَابُ بِدَاءِ
الْكَلْبِ وَأَصْبَحَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ عَلَيْهِ أَوْ
كَثَوْبٍ يَخْلَقُ أَوْ عَبْدٍ يَهْرَمُ أَوْ كُتُبٍ تَبْلَى، وَإِذَا
بِيعَ جُعِل ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَوْ شِقْصِهِ - أَيْ
فِي جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ - إِنْ لَمْ يُمْكِنْ شِرَاءُ
الشَّيْءِ كَامِلاً، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تُصُدِّقَ بِالثَّمَنِ (2) ،
كَمَا أَنَّ ذُكُورَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْغَزْوِ
وَكَانَ فِيهَا مَا يَزِيدُ لِتَحَصُّل اللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ إِذَا
كَبُرَتْ وَأَصْبَحَتْ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا فَإِنَّهَا تُبَاعُ
وَيُجْعَل ثَمَنُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 389.
(2) الشرح الصغير 2 / 307، والدسوقي 4 / 90 - 91.
(44/198)
إِنَاثٍ لِتَحْصِيل اللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ
مِنْهَا لِيَدُومَ الْوَقْفُ.
قَال الدَّرْدِيرُ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا مِنَ النَّعَامِ
لِيُنْتَفَعَ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
فَنَسْلُهَا كَأَصْلِهَا فِي التَّحْبِيسِ فَمَا فَضَل مِنْ ذُكُورِ
نَسْلِهَا عَنِ النَّزْوِ، وَمَا كَبُرَ مِنْ إِنَاثِهَا، فَإِنَّهُ
يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ عَنْهُ إِنَاثٌ صِغَارٌ لِتَمَامِ النَّفْعِ
وَتَكُونُ وَقْفًا كَأَصْلِهَا (1) .
أَمَّا الْعَقَارُ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ خَرِبَ وَصَارَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ،
وَسَوَاءٌ كَانَ دَارًا أَوْ حَوَانِيتَ أَوْ غَيْرَهَا كَمَا لاَ
يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ غَيْرِ خَرِبٍ، قَال مَالِكٌ: لاَ
يُبَاعُ الْعَقَارُ الْمُحَبَّسُ وَلَوْ خَرِبَ، وَبَقَاءُ أَحْبَاسِ
السَّلَفِ دَاثِرَةً دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لَكِنْ رَوَى أَبُو
الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا رَأَى بَيْعَ ذَلِكَ
لِمَصْلَحَةٍ جَازَ وَيُجْعَل ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ (2) .
كَمَا أَجَازَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُعَاوَضَةَ الرَّبْعِ
الْخَرِبِ، فَفِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل: يُمْنَعُ بَيْعُ مَا خَرِبَ
مِنْ رَبْعِ الْحَبْسِ مُطْلَقًا، قَال ابْنُ الْجَهْمِ: إِنَّمَا لَمْ
يُبَعِ الرَّبْعُ الْمُحَبَّسُ إِذَا خَرِبَ، لأَِنَّهُ يَجِدُ مَنْ
يُصْلِحُهُ بِإِيجَارَتِهِ سِنِينَ، فَيَعُودُ كَمَا كَانَ،
وَاخْتُلِفَ فِي مُعَاوَضَةِ الرَّبْعِ الْخَرِبِ بِرَبْعٍ غَيْرِ
خَرِبٍ،
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 307 - 308، والدسوقي 4 / 91.
(2) الشرح الصغير 2 / 308، والدسوقي 4 / 91.
(44/199)
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ
الْقِطْعَةُ مِنَ الأَْرْضِ الْمُحَبَّسَةِ انْقَطَعَتْ مَنْفَعَتُهَا
جُمْلَةً وَعَجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا وَكَرَائِهَا فَلاَ بَأْسَ
بِالْمُعَاوَضَةِ فِيهَا بِمَكَانٍ يَكُونُ حَبْسًا مَكَانَهَا،
وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحُكْمٍ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ
السَّبَبِ، وَالْغِبْطَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَيُسَجَّل
ذَلِكَ وَيُشْهَدُ بِهِ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الْعَقَارِ لِضَرُورَةِ تَوْسِيعِ
مَسْجِدٍ جَامِعٍ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ أَوْ
غَيْرِ مُعَيَّنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الَّذِي
تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: ظَاهِرُ سَمَاعِ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُل مَسْجِدٍ وَهُوَ قَوْل
سَحْنُونٍ. وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالأَْخَوَيْنِ
وَأَصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِ
الْجَوَامِعِ إِنِ احْتِيجَ لِذَلِكَ، لاَ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ
إِذْ لَيْسَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا كَالْجَوَامِعِ.
كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِتَوْسِعَةِ مَقْبَرَةٍ أَوْ طَرِيقٍ
لِمُرُورِ النَّاسِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِذَلِكَ وَلَوْ
جَبْرًا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ أَوِ النَّاظِرِ، وَأَمَرَ
الْمُسْتَحِقُّونَ وُجُوبًا بِجَعْل ثَمَنِهِ فِي حَبْسٍ غَيْرِهِ،
وَلاَ يُجْبِرُهُمُ الْحَاكِمُ عَلَى الْجَعْل فِي حَبْسٍ غَيْرِهِ،
أَيْ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِهِ.
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 42.
(44/199)
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَنَّ مَا
وُسِّعَ بِهِ الْمَسْجِدُ مِنَ الرِّبَاعِ فَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إِذَا
كَانَ حَبْسًا عَلَى مُعَيَّنٍ، أَمَّا مَا كَانَ حَبْسًا عَلَى غَيْرِ
مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَلاَ يَلْزَمُ تَعْوِيضُهُ أَيْ دَفْعُ
ثَمَنٍ فِيهِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِمُعَيَّنٍ، وَمَا يَحْصُل مِنَ الأَْجْرِ
لِوَاقِفِهِ إِذَا دَخَل فِي الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِمَّا قَصَدَ
تَحْبِيسَهُ لأَِجْلِهِ أَوَّلاً (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ التَّغْيِيرَ
وَالتَّبْدِيل عُمِل بِهِ، وَفِي النَّوَادِرِ وَالْمَتِّيطِيَّةِ
وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنَّهُ
إِنْ وُجِدَ فِيهِ ثَمَّ رَغْبَةٌ - أَيْ ثَمَنًا مَرْغُوبًا فِيهِ -
بِيعَ وَاشْتُرِيَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ
وَقَعَ مَضَى وَعُمِل بِشَرْطِهِ (2) .
وَفِي فَتْحٍ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى سَبِيلٍ
فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شَرَطَ وَاقِفُهَا أَلاَّ تُبَاعَ وَلاَ
تُسْتَبْدَل بِغَيْرِهَا، ثُمَّ اسْتَبْدَل نَاظِرُ السَّبِيل تِلْكَ
الأَْرْضَ بِأَرْضٍ أُخْرَى مِنْ أَرَاضِي الدِّيوَانِ: بِأَنْ دَفَعَ
أَرْضَ الْوَقْفِ لِرَجُلٍ مِنَ الْفَلاَّحِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ
أَرْضًا مِنْ أَرَاضِي الدِّيوَانِ، وَصَارَ النَّاظِرُ يَدْفَعُ
مَصَارِيفَ الْوَقْفِ وَالْفَلاَّحُ يَدْفَعُ مَا عَلَيْهِ مِنَ
الْخَرَاجِ، قَال الدَّرْدِيرُ: حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ
الاِسْتِبْدَال وَأَطْلَقَ كَانَتِ الْمُبَادَلَةُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 308، والدسوقي 4 / 91 - 92.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 87، ومواهب الجليل 6 / 33.
(44/200)
الْحَاصِلَةُ مِنَ النَّاظِرِ بَاطِلَةً،
وَيَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ رَدُّ أَرْضِ الدِّيوَانِ لِصَاحِبِهَا
وَأَخْذُ أَرْضِ الْوَقْفِ بِعَيْنِهَا، وَمَنِ امْتَنَعَ فَعَلَى
الْحَاكِمِ زَجْرُهُ (1) .
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
95 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي الاِسْتِبْدَال تَفْصِيلٌ:
جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَخَرِبَ الْمَكَانُ
وَانْقَطَعَتِ الصَّلاَةُ فِيهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ، وَلَمْ
يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لأَِنَّ مَا زَال الْمِلْكُ فِيهِ
لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ بِالاِخْتِلاَل
كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: الأَْصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصُرِ الْمَسْجِدِ
الْمَوْقُوفَةِ إِذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعِهِ إِذَا انْكَسَرَتْ أَوْ
أَشْرَفَتْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَلَمْ تَصْلُحْ
إِلاَّ لِلإِْحْرَاقِ لِئَلاَّ تَضِيعَ وَيَضِيقَ الْمَكَانُ بِهَا
مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَتَحْصِيل نَزْرٍ يَسِيرٍ مِنْ ثَمَنِهَا
يَعُودُ إِلَى الْوَقْفِ أَوْلَى مِنْ ضَيَاعِهَا، وَلاَ تَدْخُل
بِذَلِكَ تَحْتَ بَيْعِ الْوَقْفِ، لأَِنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ
الْمَعْدُومَةِ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ:
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 243.
(44/200)
وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَى هَذَا
يُصْرَفُ ثَمَنُهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، قَال الرَّافِعِيُّ:
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَصِيرِ حَصِيرٌ لاَ
غَيْرُهَا.
قَال: وَيُشْبِهُ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ أَمْكَنَ
وَإِلاَّ فَالأَْوَّل. وَكَالْحُصْرِ فِي ذَلِكَ نُحَاتَةُ الْخَشَبِ
وَأَسْتَارُ الْكَعْبَةِ إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ وَلاَ
جَمَالٌ. وَالثَّانِي: لاَ يُبَاعُ مَا ذُكِرَ إِدَامَةً لِلْوَقْفِ
فِي عَيْنِهِ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي طَبْخِ
جِصٍّ أَوْ آجُرٍّ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَقَدْ تَقُومُ قِطْعَةٌ مِنَ الْجُذُوعِ مَقَامَ
آجُرَّةٍ وَقَدْ تَقُومُ النُّحَاتَةُ مَقَامَ التُّرَابِ وَيُخْتَلَطُ
بِهِ. قَال الأَْذْرُعِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَقَامَ التِّبْنِ
الَّذِي يُسْتَعْمَل فِي الطِّينِ، وَجَرَى عَلَى هَذَا جَمْعٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ.
أَمَّا الْحُصْرُ الْمَوْهُوبَةُ أَوِ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمَسْجِدِ،
فَإِنَّهَا تُبَاعُ لِلْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الْجُذُوعُ وَمَا شَابَهَهَا إِذَا صَلَحَ لِغَيْرِ
الإِْحْرَاقِ بِأَنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا أَلْوَاحٌ
وَأَبْوَابٌ فَلاَ تُبَاعُ قَطْعًا.
فَإِنْ خِيفَ عَلَى الْمَسْجِدِ - كَأَنْ كَانَ آيِلاً لِلسُّقُوطِ -
نُقِضَ وَبَنَى الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَأَى
ذَلِكَ وَإِلاَّ حَفِظَهُ، وَبِنَاؤُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى، وَلاَ
يَبْنِي بِهِ بِئْرًا كَمَا لاَ يَبْنِي بِنَقْضِ بِئْرٍ خَرِبَتْ
مَسْجِدًا بَل بِئْرًا أُخْرَى مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ مَا
أَمْكَنَ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ وَانْحَرَقَ
(44/201)
الْوَادِي وَتَعَطَّلَتِ الْقَنْطَرَةُ
وَاحْتِيجَ إِلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى جَازَ نَقْلُهَا إِلَى مَحَل
الْحَاجَةِ، وَغَلَّةُ وَقْفِ الثَّغْرِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُلاَصِقُ
مِنْ بِلاَدِنَا بِلاَدَ الْكُفَّارِ إِذَا حَصَل فِيهِ الأَْمْنُ
يَحْفَظُهُ النَّاظِرُ لاِحْتِمَال عَوْدِهِ ثَغْرًا (1) .
وَإِنْ وَقَفَ نَخْلَةً فَجَفَّتْ أَوْ بَهِيمَةً فَزَمِنَتْ أَوْ
جُذُوعًا عَلَى مَسْجِدٍ فَتَكَسَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ،
وَهُوَ الأَْصَحُّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِنَّهُ
لاَ يُرْجَى مَنْفَعَتُهُ فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ
بِخِلاَفِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُمْكِنُ الصَّلاَةُ فِيهِ
مَعَ خَرَابِهِ وَقَدْ يَعْمُرُ الْمَوْضِعُ فَيُصَلَّى فِيهِ، فَإِنْ
قُلْنَا تُبَاعُ كَانَ الْحُكْمُ فِي ثَمَنِهِ حُكْمَ الْقِيمَةِ
الَّتِي تُوجَدُ مِنْ مُتْلَفِ الْوَقْفِ.
فَمِنَ الأَْصْحَابِ مَنْ قَال إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمِلْكَ فِي
رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ - وَهُوَ مُقَابِل
الأَْظْهَرِ - كَانَ ثَمَنُهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بَدَل
مِلْكِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى - وَهُوَ
الأَْظْهَرُ - اشْتَرَى بِهِ مِثْلَهُ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ،
وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإِْسْفِرَايِينِيُّ: يَشْتَرِي بِهَا
مِثْلَهُ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ قَوْلاً وَاحِدًا (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 392.
(2) المهذب 1 / 450، 452، ومغني المحتاج 2 / 38، 391 - 392.
(44/201)
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ:
96 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال فِي الْوَقْفِ
إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْغَرَضِ الَّذِي وُقِفَ مِنْ أَجْلِهِ
وَلَمْ يَعُدْ صَالِحًا لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ
الْمَوْقُوفُ مَنْقُولاً أَمْ عَقَارًا، مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ
مَسْجِدٍ.
قَالُوا: يَحْرُمُ بَيْعُ الْوَقْفِ وَلاَ يَصِحُّ وَلاَ تَصِحُّ
الْمُنَاقَلَةُ بِهِ أَيْ إِبْدَالُهُ وَلَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ نَصًّا،
إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّل مَنَافِعُهُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ بِخَرَابٍ
وَلَمْ يُوجَدْ فِي رَيْعِ الْوَقْفِ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَيُبَاعُ،
أَوْ تَتَعَطَّل مَنَافِعُهُ الْمَقْصُودَةُ بِغَيْرِ الْخَرَابِ
كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ نَصًّا. وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ
مَسْجِدًا وَتَعَطَّل نَفْعُهُ الْمَقْصُودُ لِضِيقِهِ عَلَى أَهْلِهِ
نَصًّا وَتَعَذَّرَ تَوْسِعَتُهُ أَوْ تَعَذَّرَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ
لِخَرَابِ مَحَلَّتِهِ أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَذِرًا، قَال
الْقَاضِي: يَعْنِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ
فَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ
إِضَاعَةِ الْمَال، وَفِي إِبْقَائِهِ كَذَلِكَ إِضَاعَةٌ، فَوَجَبَ
الْحِفْظُ بِالْبَيْعِ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ مُؤَبَّدٌ فَإِذَا لَمْ
يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَبْقَيْنَا الْغَرَضَ وَهُوَ
الاِنْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ فِي عَيْنٍ أُخْرَى، وَاتِّصَال
الأَْبْدَال يَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ وَالْجُمُودُ عَلَى
الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ (1) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 514 - 515، وكشاف القناع 4 / 292.
(44/202)
وَيَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ
يَبِسَتْ، وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ
الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، قَال فِي التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ
جِذْعُ الْوَقْفِ عَلَى الاِنْكِسَارِ أَوْ دَارُهُ عَلَى
الاِنْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ
مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ،
وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسْبَلَةُ وَنَحْوُهَا
جَائِزٌ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا وَجْهًا وَاحِدًا (1) .
وَالْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَزْوِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ
لِلْغَزْوِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَرَسٌ يَصْلُحُ
لِلْغَزْوِ، وَقَال فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: الَّذِي يَعْجُفُ
مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُحَبَّسُ فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ يُبَاعُ
ثُمَّ يُجْعَل ثَمَنُهُ فِي حَبِيسٍ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَل
يَصِيرُ الْبَدَل وَقْفًا (2) .
كَمَا قَالُوا: وَمَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ
وُجُوبًا وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ بَيْعِهِ فَشَرْطُهُ
فَاسِدٌ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى بَيْعَ الْمَوْقُوفِ - حَيْثُ جَازَ
بَيْعُهُ - هُوَ الْحَاكِمُ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى سَبِيل
الْخَيْرَاتِ كَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ
وَنَحْوِهَا، لأَِنَّهُ فَسْخٌ لِعَقْدٍ لاَزِمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ
اخْتِلاَفًا قَوِيًّا فَتُوقَفُ عَلَى الْحَاكِمِ كَالْفُسُوخِ
الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ
أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ مَنْ يَؤُمُّ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ
يَقُومُ بِهَذَا الْمَسْجِدِ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 293.
(2) كشاف القناع 4 / 294 - 295.
(44/202)
وَنَحْوِهِ فَالَّذِي يَتَوَلَّى بَيْعَهُ
نَاظِرُهُ الْخَاصُّ، وَالأَْحْوَطُ أَلاَّ يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ
بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعَ عَلَى مَنْ
سَيَنْتَقِل إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْجُودِينَ الآْنَ أَشْبَهَ
الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَل لِجِهَةِ
الْوَقْفِ يَصِيرُ وَقْفًا، وَالاِحْتِيَاطُ وَقْفُهُ بِصِيغَةٍ
جَدِيدَةٍ لِئَلاَّ يَنْقُضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لاَ يَرَى
وَقْفِيَّتَهُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ (1) ..
ثَالِثًا: رُجُوعُ الْوَقْفِ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ:
97 - ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى
أَنَّهُ لَوْ خَرِبَ مَا حَوْل الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِي عَنْهُ وَلَوْ
مَعَ بَقَائِهِ عَامِرًا، وَكَذَا لَوْ خَرِبَ الْمَسْجِدُ وَلَيْسَ
لَهُ مَا يُعْمَرُ بِهِ وَقَدِ اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهُ لِبِنَاءِ
مَسْجِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ الْبَانِي إِنْ كَانَ
حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا خِلاَفًا لأَِبِي
يُوسُفَ، وَعَلَّل مُحَمَّدٌ ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَاقِفَ عَيَّنَ
الْوَقْفَ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ وَقَدِ انْقَطَعَتْ فَيَنْقَطِعُ هُوَ
أَيْضًا، وَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إِذَا اسْتُغْنِيَ
عَنْهُ، وَقِنْدِيلِهِ إِذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ
مُتَّخِذِهِ، وَكَمَا لَوْ كَفَّنَ مَيِّتًا فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ
عَادَ الْكَفَنُ إِلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، وَكَهَدْيِ الإِْحْصَارِ
إِذَا زَال الإِْحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ
بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 515، 516.
(44/203)
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَل إِلَى
مَسْجِدٍ آخَرَ بِإِذْنِ الْقَاضِي، فَيُبَاعُ نَقْضُهُ بِإِذْنِ
الْقَاضِي وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى بَعْضِ الْمَسَاجِدِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ
أَنَّهُ إِذَا انْهَدَمَ الْوَقْفُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ مَا
يُعَمَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَانِي أَوْ وَرَثَتِهِ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ مَا خَرَجَ عَنِ الاِنْتِفَاعِ
الْمَقْصُودِ لِلْوَاقِفِ بِالْكُلِّيَّةِ كَحَانُوتٍ احْتَرَقَ، وَلاَ
يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ، وَرِبَاطٍ وَحَوْضِ مَحَلَّةٍ خَرِبَ وَلَيْسَ
لَهُ مَا يُعَمَّرُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مُعَدًّا لِلْغَلَّةِ فَلاَ يَعُودُ إِلَى
الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْقَاضُهُ وَتَبْقَى سَاحَتُهُ وَقْفًا تُؤَجَّرُ
وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ قَال مُحَمَّدٌ فِي الْفَرَسِ إِذَا جَعَلَهُ
حَبِيسًا فِي سَبِيل اللَّهِ فَصَارَ بِحَيْثُ لاَ يُسْتَطَاعُ أَنْ
يُرْكَبَ: فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْ
لِوَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ
لَوْ تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ كَأَنْ
جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ
ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرِسِهَا قَبْل
جَفَافِهَا فَإِنَّ الْوَقْفَ يَنْقَطِعُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 371، والهداية مع فتح القدير 6 / 236 - 237.
(44/203)
وَيَنْقَلِبُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ
وَارِثِهِ.
أَمَّا الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لاَ يَعُودُ مِلْكًا بَل يَظَل
وَقْفًا، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
النَّظَرُ عَلَى الْوَقْفِ:
98 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ
فِي النَّظَرِ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِذَا جَعَل النَّظَرَ لِشَخْصٍ
مُعَيَّنٍ اتُّبِعَ شَرْطُهُ، " لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَعَل وَقْفَهُ إِلَى ابْنَتِهِ
حَفْصَةَ تَلِيهِ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ إِلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ
أَهْلِهَا " (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ مَصْرِفَ الْوَقْفِ
يُتَبَّعُ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِيهِ (3) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ
النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحُزِ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 391، والروضة 5 / 356، وكشاف القناع 4 / 296 -
297.
(2) أثر وقف عمر إلى ابنته حفصة. . أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6 /
161) .
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 409، وفتح القدير 6 / 230 - 231، وحاشية
الدسوقي 4 / 88، والخرشي 7 / 92، ومغني المحتاج 2 / 393، والمهذب 1 /
452، والمغني 5 / 646 - 647.
(4) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 384، وفتح القدير 6 /
230، 231، ومغني المحتاج 2 / 393، والمغني 5 / 647.
(44/204)
الْوَقْفَ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ، أَوْ
مَرِضَ، أَوْ فَلِسَ بَطَل الْوَقْفُ.
أَمَّا إِذَا حَازَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ، وَشَرَطَ
النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ، وَأُجْبِرَ الْوَاقِفُ
عَلَى أَنْ يَجْعَل النَّظَرَ لِغَيْرِهِ إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ
أَنْ يَجْعَل النَّظَرَ لِنَفْسِهِ (1) .
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا عَلَى الْوَقْفِ بِأَنْ
أَغْفَل ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى
غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ
فَالْحَاكِمُ يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، لأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ
يُمْكِنُهُ تَوَلِّي النَّظَرِ بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ رَشِيدٍ فَهُوَ الَّذِي
يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ مَلَكَهُ وَنَفْعُهُ لَهُ، فَكَانَ
نَظَرُهُ إِلَيْهِ كَمِلْكِهِ الْمُطْلَقِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَلِيُّهُ يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ،
وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ
- أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْحَاكِمُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي
مُوسَى (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 81، والحطاب 6 / 25، والخرشي
7 / 84، والزرقاني 7 / 79، ومنح الجليل 4 / 47.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 88، والخرشي 7 / 92، والمغني 5 /
647.
(44/204)
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْحَنَفِيَّةِ،
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِلاَلٍ - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ -
تَكُونُ الْوِلاَيَةُ لِلْوَاقِفِ، ثُمَّ لِوَصِيِّهِ إِنْ كَانَ
وَإِلاَّ فَلِلْحَاكِمِ، لأَِنَّ الْمُتَوَلِّيَ إِنَّمَا يَسْتَفِيدُ
الْوِلاَيَةَ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيل أَنْ
يَكُونَ لَهُ الْوِلاَيَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلاَيَةَ
مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْوَقْفِ
فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلاَيَتِهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ تَكُونُ الْوِلاَيَةُ لِلْوَاقِفِ مَا دَامَ
لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ
إِلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ
يَبْقَ لَهُ وِلاَيَةٌ فِيهِ (1) .
وَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ وَلَمْ يَجْعَل وِلاَيَتَهُ لأَِحَدٍ جَعَل
الْقَاضِي لَهُ قَيِّمًا وَلاَ يَجْعَلْهُ مِنَ الأَْجَانِبِ مَا دَامَ
يَجِدُ مِنْ أَهْل بَيْتِ الْوَاقِفِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، إِمَّا
لأَِنَّهُ أَشْفَقُ، أَوْ لأَِنَّهُ مَنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ نِسْبَةَ
الْوَقْفِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَمِنَ الأَْجَانِبِ مَنْ
يَصْلُحُ لِذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ
النِّظَارَةَ لأَِحَدٍ فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ،
لأَِنَّ لَهُ النَّظَرَ الْعَامَّ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ،
وَلأَِنَّ الْمِلْكَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 384، وفتح القدير 6 /
231.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 410، 411، والإسعاف ص50.
(44/205)
فِي الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى
الْوَاقِفِ، لأَِنَّهُ كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَمْ
يَشْرُطْهُ بَقِيَ عَلَى نَظَرِهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْغَلَّةَ لَهُ
فَكَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ (2) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصَلاَحِيَّةِ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ
شُرُوطًا عِدَّةً، مِنْهَا مَا هُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ،
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: التَّكْلِيفُ:
99 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ
عَلَى الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً، فَلاَ يَصِحُّ
تَوْلِيَةُ الصَّبِيِّ وَلاَ الْمَجْنُونِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْضُ التَّفْصِيل:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ
الْوَاقِفُ نَاظِرًا مُعَيَّنًا، وَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَلِي أَمْرَ الْوَقْفِ
بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ نَاظِرًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 389 - 393.
(2) المهذب 1 / 452.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 385، والبحر الرائق 5 / 244، وفتح القدير 6 /
242، وحاشية الدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 393، وروضة الطالبين 5
/ 347، وكشاف القناع 4 / 270.
(44/205)
عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَقُومُ
مَقَامَهُ فِي النَّظَرِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي تَخْصِيصِ
نَاظِرٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَل الْوَاقِفُ نَاظِرًا فَإِنْ
كَانَ الْمُسْتَحِقُّ مُعَيَّنًا رَشِيدًا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى
أَمْرَ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَلِيُّهُ، وَإِنْ
كَانَ الْمُسْتَحِقُّ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَالْحَاكِمُ
يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ
الْمَوْقُوفَةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ آدَمِيًّا
مُعَيَّنًا أَوْ جَمْعًا مَحْصُورًا كَأَوْلاَدِهِ أَوْ أَوْلاَدِ
زَيْدٍ، وَيَنْظُرُ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا
رَشِيدًا، أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ وَلِيُّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ سَفِيهًا. وَقَال ابْنُ أَبِي
مُوسَى: يَنْظُرُ فِيهِ الْحَاكِمُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ
قَوْلَهُ: وَلَوْ أَوْصَى إِلَى صَبِيٍّ تَبْطُل فِي الْقِيَاسِ
مُطْلَقًا، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ هِيَ بَاطِلَةٌ مَا دَامَ صَغِيرًا
فَإِذَا كَبُرَ تَكُونُ الْوِلاَيَةُ لَهُ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ
يُخْلَقْ مِنْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ فِي الْوِلاَيَةِ كَحُكْمِ
الصَّغِيرِ قِيَاسًا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي فَتَاوَى
الْعَلاَّمَةِ الشَّلَبِيِّ: وَأَمَّا الإِْسْنَادُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 88.
(2) كشاف القناع 4 / 244 - 255، 270، والمغني 5 / 647، والإنصاف 7 / 66
- 67.
(44/206)
لِلصَّغِيرِ فَلاَ يَصِحُّ بِحَالٍ لاَ
عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْلاَل بِالنَّظَرِ وَلاَ عَلَى سَبِيل
الْمُشَارَكَةِ لِغَيْرِهِ، لأَِنَّ النَّظَرَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ
بَابِ الْوِلاَيَةِ، وَالصَّغِيرُ يُوَلَّى عَلَيْهِ لِقُصُورِهِ،
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى عَلَى غَيْرِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: رَأَيْتُ فِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ
لِلإِْسْتُرُوشِنِيِّ عَنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ قَال: الْقَاضِي
إِذَا فَوَّضَ التَّوْلِيَةَ إِلَى صَبِيٍّ يَجُوزُ إِذَا كَانَ
أَهْلاً لِلْحِفْظِ، وَتَكُونُ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ، كَمَا
أَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ إِذْنَ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ
لاَ يَأْذَنُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَيْهِ فَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِحَمْل
مَا فِي الإِْسْعَافِ وَغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل لِلْحِفْظِ
بِأَنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ، أَمَّا الْقَادِرُ
عَلَى التَّصَرُّفِ فَتَكُونُ تَوْلِيَتُهُ مِنَ الْقَاضِي إِذْنًا
لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأَذَنَ لِلصَّغِيرِ وَإِنْ
لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلِيُّهُ (1) .
وَكَمَا أَنَّ الْجُنُونَ يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ
يَمْنَعُهَا بَقَاءً، فَلَوْ كَانَ نَاظِرًا ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ
يُعْزَل عَنِ النِّظَارَةِ. لَكِنْ لَوْ عَادَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ
وَبَرِئَ مِنْ عِلَّتِهِ هَل يَعُودُ نَاظِرًا؟ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ
عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ النَّاظِرَ يَنْعَزِل بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ
سَنَةً لاَ أَقَل، وَلَوْ بَرِئَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 385، والبحر الرائق 5 /
244 - 245.
(44/206)
عَادَ إِلَيْهِ النَّظَرُ، قَال فِي
النَّهْرِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْمَشْرُوطِ لَهُ النَّظَرُ،
أَمَّا مَنْصُوبُ الْقَاضِي فَلاَ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ
الْوِلاَيَاتُ (2) ، قَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ: لَوْ أَفَاقَ
الْمَجْنُونُ تَعُودُ إِلَيْهِ وِلاَيَةُ النِّظَارَةِ بِنَفْسِ
الإِْفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ إِذَا كَانَ بِشَرْطِ
الْوَاقِفِ (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَدَالَةُ:
100 - يُشْتَرَطُ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ:
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْعَدَالَةِ
شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطَ أَوْلَوِيَّةٍ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ. فَقَدْ نَقَل
ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ: وَلاَ يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ
قَادِرٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ
مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ
الْخَائِنِ لأَِنَّهُ يُخِل بِالْمَقْصُودِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ،
فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ
أَوْلَوِيَّةٍ لاَ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا فُسِّقَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 385.
(2) نهاية المحتاج 4 / 343.
(3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 345.
(44/207)
اسْتَحَقَّ الْعَزْل وَلاَ يَنْعَزِل،
كَالْقَاضِي إِذَا فُسِّقَ لاَ يَنْعَزِل عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى
بِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ شَرْطًا إِذَا كَانَ
النَّاظِرُ مَنْصُوبًا مِنْ قِبَل الْقَاضِي أَوْ مِنْ قِبَل
الْوَاقِفِ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَطَّابِ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ
لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ فِي
دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَل الْمُحَبِّسُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ
النَّظَرُ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُقَدِّمُ لَهُ مَنْ يَرْتَضِيهِ. .
وَالنَّاظِرُ عَلَى الْحَبْسِ إِذَا كَانَ سَيِّئَ النَّظَرِ غَيْرَ
مَأْمُونٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْزِلُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ مَالِكًا أَمْرَ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ
وَيَسْتَمِرُّ، وَذَكَرَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ
يَعْزِل نَاظِرًا إِلاَّ بِجُنْحَةٍ، وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُهُ وَلَوْ
بِغَيْرِ جُنْحَةٍ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ
وَالْبَاطِنَةُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ، قَال السُّبْكِيُّ:
يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ
الظَّاهِرَةِ.
وَقَال الأَْذْرُعِيُّ: تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ
وَالْبَاطِنَةُ فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ أَيْضًا، قَال
الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالأَْوَّل أَوْجَهُ.
وَإِذَا فُسِّقَ النَّاظِرُ انْعَزَل وَمَتَى انْعَزَل بِالْفِسْقِ
فَالنَّظَرُ لِلْحَاكِمِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 385، والبحر الرائق 5 / 244.
(2) الحطاب 6 / 37، وحاشية الدسوقي 4 / 88.
(3) مغني المحتاج 2 / 393، ونهاية المحتاج 5 / 396، وتحفة المحتاج 6 /
288.
(44/207)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ فُسِّقَ
النَّاظِرُ ثُمَّ صَارَ عَدْلاً فَإِنْ كَانَتْ وِلاَيَتُهُ
مَشْرُوطَةً فِي أَصْل الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ
عَادَتْ وِلاَيَتُهُ وَإِلاَّ فَلاَ، أَفْتَى بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ
وَوَافَقَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ. قَال الزَّرْكَشِيُّ:
وَهُوَ ظَاهِرٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ وَكَانَتْ تَوْلِيَةُ النَّاظِرِ مِنَ الْحَاكِمِ بِأَنْ
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَلَّى الْحَاكِمُ نَاظِرًا
مِنْ غَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، أَوْ كَانَ النَّظَرُ لِبَعْضِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ وِلاَيَتُهُ مِنْ حَاكِمٍ بِأَنْ
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَوَلَّى الْحَاكِمُ مِنْهُمْ
نَاظِرًا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ مِنْ نَاظِرٍ أَصْلِيٍّ
فَلاَ بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ
عَلَى مَالٍ فَاشْتُرِطَ لَهَا الْعَدَالَةُ كَالْوِلاَيَةِ عَلَى مَال
الْيَتِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً لَمْ تَصِحَّ وِلاَيَتُهُ
وَأُزِيلَتْ يَدُهُ عَنِ الْوَقْفِ حِفْظًا لَهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَى
أَهْلِيَّتِهِ عَادَ حَقُّهُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا لَمْ تَصِحَّ
وَأُزِيلَتْ يَدُهُ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ مَشْرُوطًا مِنْ قِبَل
الْوَاقِفِ فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَيُضَمُّ إِلَى
الْفَاسِقِ عَدْلٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ
وَغَيْرُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمَل بِالشَّرْطِ وَحِفْظِ
الْوَقْفِ، وَلاَ تُزَال يَدُهُ إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ حِفْظُهُ
مِنْهُ فَتُزَال وِلاَيَتُهُ،
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 179، ونهاية المحتاج 5 / 397.
(44/208)
لأَِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ
أَهَمُّ مِنْ إِبْقَاءِ وِلاَيَةٍ لِفَاسِقٍ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ
أَكَانَ النَّاظِرُ أَجْنَبِيًّا أَوْ بَعْضَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ
وَأَنَّهُ يَنْعَزِل إِذَا فُسِّقَ فِي أَثْنَاءِ وِلاَيَتِهِ
لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَنَفَاهَا الْفِسْقُ،
وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِمَّا بِجَعْل
الْوَاقِفِ النَّظَرَ لَهُ بِأَنْ قَال: وَقَفْتُهُ عَلَى زَيْدِ
وَنَظَرُهُ لَهُ أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهِ لِعَدَمِ نَاظِرٍ
شَرَطَهُ الْوَاقِفُ فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ،
عَدْلاً كَانَ أَوْ فَاسِقًا، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، لأَِنَّهُ
يَمْلِكُ الْوَقْفَ فَهُوَ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، وَقِيل: يُضَمُّ إِلَى
الْفَاسِقِ أَمِينٌ، حِفْظًا لأَِصْل الْوَقْفِ عَنِ الْبَيْعِ أَوِ
التَّضْيِيعِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْكِفَايَةُ:
101 - الْمَقْصُودُ بِالْكِفَايَةِ قُوَّةُ الشَّخْصِ وَقُدْرَتُهُ
عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الْكِفَايَةُ، لأَِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ
الْوَقْفِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّاظِرُ مُتَّصِفًا
بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ مُرَاعَاةُ حِفْظِ الْوَقْفِ.
فَإِنِ اخْتَلَّتِ الْكِفَايَةُ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْزِعُ
الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 270، 272، والإنصاف 7 / 67، والمغني 5 / 647، وشرح
المنتهى 2 / 504.
(44/208)
الْوَاقِفَ، وَقَضِيَّةُ كَلاَمِ
الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَوَلاَّهُ اسْتِقْلاَلاً
فَيُوَلِّيهِ مَنْ أَرَادَ وَأَنَّ النَّظَرَ لاَ يَنْتَقِل لِمَنْ
بَعْدَهُ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لإِِنْسَانٍ بَعْدَ آخَرَ
أَيْ إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ كَمَا قَالَهُ
السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ زَال الاِخْتِلاَل عَادَ نَظَرُهُ
إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ
كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَإِنِ اقْتَضَى كَلاَمُ
الإِْمَامِ خِلاَفَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَّتِ الْكِفَايَةُ لاَ يُعْزَل،
قَال الْبُهُوتِيُّ: يُضَمُّ إِلَى نَاظِرٍ ضَعِيفٍ قَوِيٌّ أَمِينٌ،
لِيُحَصَّل الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ نَاظِرًا بِشَرْطٍ أَوْ
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يُنْزَعُ النَّاظِرُ وُجُوبًا
لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ عَاجِزًا.
وَفِي الإِْسْعَافِ: لاَ يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ
أَوْ بِنَائِبِهِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ
النَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ لأَِنَّهُ
يُخِل بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا تَوْلِيَةُ الْعَاجِزِ لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ لاَ يَحْصُل بِهِ.
لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَرْطُ
الأَْوْلَوِيَّةِ لاَ شَرْطُ صِحَّةٍ (2) .
وَكَلاَمُ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ الْكِفَايَةِ أَيْضًا،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 393، ونهاية المحتاج 5 / 396 - 397، وكشاف القناع
4 / 270، وشرح المنتهى 2 / 504.
(2) ابن عابدين 3 / 385، والإسعاف ص49.
(44/209)
فَقَدْ قَالُوا: النَّاظِرُ عَلَى
الْحَبْسِ إِنْ كَانَ سَيِّئَ النَّظَرِ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَإِنَّ
الْقَاضِيَ يَعْزِلُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ
مَالِكًا أَمْرَ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ وَيَسْتَمِرُّ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الإِْسْلاَمُ:
102 - قَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الإِْسْلاَمُ
إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَانَتِ الْجِهَةُ
كَمَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (2) } ، فَإِنْ كَانَ
الْوَقْفُ عَلَى كَافِرٍ مُعَيَّنٍ جَازَ شَرْطُ النَّظَرِ فِيهِ
لِكَافِرٍ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ الْكُفَّارِ وَشَرَطَ
النَّظَرَ لأَِحَدِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ (3) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ ذِمِّيًّا وَأَنَّ
الإِْسْلاَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ ذِمِّيًّا
وَأَخْرَجَهُ الْقَاضِي لأَِيِّ سَبَبٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ لاَ
تَعُودُ الْوِلاَيَةُ إِلَيْهِ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الرَّمْلِيُّ: قِيَاسُ مَا فِي
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 37.
(2) سورة النساء / 141.
(3) كشاف القناع 4 / 270، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504.
(4) ابن عابدين 3 / 385، والإسعاف ص52، والبحر الرائق 5 / 245.
(44/209)
الْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ صِحَّةُ شَرْطِ
ذِمِّيٍّ النَّظَرَ لِذِمِّيٍّ عَدْلٍ فِي دِينِهِ إِنْ كَانَ
الْمُسْتَحِقُّ ذِمِّيًّا لَكِنْ يُرَدُّ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ:
الْقَوْل بِالرَّدِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَتَزْوِيجِ الذِّمِّيِّ مُوَلِّيَتَهُ أَنَّ
وَلِيَّ النِّكَاحِ فِيهِ وَازِعٌ طَبِيعِيٌّ يَحْمِلُهُ عَلَى
الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِينِ مُوَلِّيَتِهِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ
بِخِلاَفِ الْوَقْفِ (1) .
وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي
الْمَوَّاقِ قَال ابْنُ عَرَفَةَ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ
جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، قَال الْمَتِّيطِيُّ: يَجْعَلُهُ
لِمَنْ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ (2) .
أُجْرَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:
الْكَلاَمُ عَلَى أُجْرَةِ النَّاظِرِ يَشْمَل عِدَّةَ مَسَائِل؛ مِثْل
أَحَقِّيَّتِهِ فِي الأُْجْرَةِ، وَفِي تَقْدِيرِهَا مِنَ الْوَاقِفِ
أَوِ الْقَاضِي، وَفِي مِقْدَارِهَا، وَهَل يَسْتَحِقُّ أَجْرًا إِذَا
لَمْ يَجْعَل لَهُ الْوَاقِفُ أَوِ الْقَاضِي أَجْرًا؟ وَهَكَذَا،
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - أَحَقِّيَّةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ فِي الأُْجْرَةِ:
103 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّاظِرَ عَلَى الْوَقْفِ
يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً نَظِيرَ قِيَامِهِ بِإِدَارَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 396، وأسنى المطالب 2 / 471، وتحفة المحتاج 6 /
288 مع الحاشيتين.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 37.
(44/210)
الْوَقْفِ وَالْعِنَايَةِ بِمَصَالِحِهِ
(1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ أَرْضَهُ
بِخَيْبَرَ حَيْثُ قَال: " لاَ بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ
يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ
فِيهِ ".
وَمَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ حَيْثُ جَعَل نَفَقَةَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ وَقَفَهُمْ مَعَ
صَدَقَتِهِ لِيَقُومُوا بِعِمَارَتِهَا مِنَ الْغَلَّةِ (2) .
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى عَامِل الزَّكَاةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا،
مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ
صَدَقَةٌ " (4) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ شَرْحِهِ لِهَذَا
الْحَدِيثِ: هُوَ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أُجْرَةِ الْعَامِل
عَلَى الْوَقْفِ، وَمُرَادُ الْعَامِل فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
الْقَيِّمُ عَلَى الأَْرْضِ (5) .
__________
(1) البحر الرائق 5 / 264، والدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 380،
394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 295، 503.
(2) البحر الرائق 5 / 264، والدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 380،
394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 295، 503.
(3) الإسعاف ص53، والمغني لابن قدامة 5 / 605 - 606.
(4) حديث: " لا تقتسم ورثتي دينار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 /
406) من حديث أبي هريرة.
(5) فتح الباري 5 / 406.
(44/210)
ب - تَقْدِيرُ أُجْرَةِ النَّاظِرِ أَوْ
مَا يَسْتَحِقُّهُ النَّاظِرُ مِنَ الأَْجْرِ:
96 - أُجْرَةُ النَّاظِرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً مِنْ قِبَل
الْوَاقِفِ أَوْ مُقَدَّرَةً مِنْ قِبَل الْقَاضِي.
104 - فَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مَشْرُوطَةً مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ
فَإِنَّ النَّاظِرَ يَأْخُذُ مَا شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ وَلَوْ
كَانَ أَكْثَرَ مِنَ أَجْرِ مِثْلِهِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ لَهُ الْوَاقِفُ
أَقَل مِنْ أَجْرِ الْمِثْل فَلِلْقَاضِي أَنْ يُكْمِل لَهُ أَجْرَ
مِثْلِهِ بِطَلَبِهِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَل النَّظَرَ
لِنَفْسِهِ وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ أَجْرًا فَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى
أُجْرَةِ الْمِثْل، فَإِنْ شَرَطَ النَّظَرَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ
يَصِحَّ الْوَقْفُ لأَِنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ (2) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ لِلنَّاظِرِ
أُجْرَةً أَيْ عِوَضًا مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لِقَدْرِ
أُجْرَةِ الْمِثْل اخْتُصَّ بِهِ وَكَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهُ
الْوَقْفُ مِنْ أُمَنَاءَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، وَإِنْ
كَانَ الْمَشْرُوطُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل فَكُلْفَةُ مَا
__________
(1) حاشة ابن عابدين 3 / 417، والبحر الرائق 5 / 264، ومغني المحتاج 2
/ 394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 295، 503.
(2) مغني المحتاج 2 / 380، ونهاية المحتاج 5 / 364.
(44/211)
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْ نَحْوِ
أُمَنَاءَ وَعُمَّالٍ يَكُونُ عَلَى النَّاظِرِ يَصْرِفُهَا مِنَ
الزِّيَادَةِ حَتَّى يَبْقَى لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ الْوَاقِفُ شَرَطَهُ لَهُ خَالِصًا (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا شَيْئًا وَتَرَكُوا
ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ الْوَاقِفِ أَوِ الْقَاضِي (2) .
105 - وَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مُقَدَّرَةً مِنْ قِبَل الْقَاضِي
بِأَنْ لَمْ يَجْعَل الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي مَا يُقَدِّرُهُ الْقَاضِي لِلنَّاظِرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْجْرَ
الْمُقَدَّرَ مِنَ الْقَاضِي يَجِبُ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَنْ أُجْرَةِ
الْمِثْل، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ زَائِدًا عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْل
يُمْنَعْ عَنْهُ الزَّائِدُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُتْرَكُ الأَْمْرُ لاِجْتِهَادِ الْقَاضِي.
جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ
إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ فِي دِينِهِ
وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَل الْمُحَبِّسُ عَنْ جَعْل النَّظَرِ لِمَنْ
يَثِقُ بِهِ، كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِلْقَاضِي فَيُقَدِّمُ
عَلَيْهِ مَنْ يَرْتَضِيهِ وَيَجْعَل لَهُ مِنْ كِرَاءِ الْوَقْفِ مَا
يَرَاهُ الْقَاضِي سَدَادًا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.
وَقَال ابْنُ فَتُّوحٍ: لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَل لِمَنْ قَدَّمَهُ
لِلنَّظَرِ فِي الأَْحْبَاسِ رِزْقًا مَعْلُومًا فِي كُل شَهْرٍ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 271.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 88، ومنح الجليل 4 / 64.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 417، والبحر الرائق مع هامشه منحة الخالق 5 /
264، والفروع لابن مفلح 4 / 595.
(44/211)
بِاجْتِهَادِهِ فِي قَدْرٍ ذَلِكَ بِحَسَبِ
عَمَلِهِ، وَفَعَلَهُ الأَْئِمَّةُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ
أُجْرَةً فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ
أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْوَقْفِ فَإِنْ فَعَل ضَمِنَ وَلَمْ
يَبْرَأْ إِلاَّ بِإِقْبَاضِهِ لِلْحَاكِمِ، وَهَذَا هُوَ
الْمُعْتَمَدُ فَلَوْ رَفَعَ النَّاظِرُ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي
لِيُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةً فَهُوَ كَمَا إِذَا تَبَرَّمَ الْوَلِيُّ
بِحِفْظِ مَال الطِّفْل فَرَفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُثْبِتَ
لَهُ أُجْرَةً، قَالَهُ الْبَلْقِينِيُّ، قَال تِلْمِيذُهُ
الْعِرَاقِيُّ: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الأُْجْرَةَ مَعَ
الْحَاجَةِ إِمَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ لَهُ - كَمَا رَجَّحَهُ
الرَّافِعِيُّ - أَوِ الأَْقَل مِنْ نَفَقَتِهِ وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ
كَمَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقِيل: إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ
يُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ
النَّفَقَةِ (2) .
ج - حُكْمُ مَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أَجْرًا:
106 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيَّنْ لِلنَّاظِرِ
أَجْرٌ.
فَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ
الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا
جَعَل لَهُ الْقَاضِي أُجْرَةً مِثْل عَمَلِهِ فِي
__________
(1) الدسوقي 4 / 88، ومنح الجليل 4 / 64، والحطاب 6 / 40.
(2) نهاية المحتاج 5 / 398، ومغني المحتاج 2 / 394.
(44/212)
الْوَقْفِ، فَيَأْخُذُهُ عَلَى أَنَّهُ
أُجْرَةٌ (1) .
وَحَرَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ الْمَسْأَلَةَ فَقَال: فَتَحَرَّرَ أَنَّ
الْوَاقِفَ إِنْ عَيَّنَ لَهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، كَثِيرًا كَانَ
أَوْ قَلِيلاً عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَهُ، عَمِل أَوْ لَمْ يَعْمَل،
حَيْثُ لَمْ يَشْرُطْهُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَل، وَإِنْ لَمْ
يُعَيِّنْ لَهُ الْوَاقِفُ وَعَيَّنَ لَهُ الْقَاضِي أُجْرَةَ مِثْلِهِ
جَازَ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ أَكْثَرَ يُمْنَعُ عَنْهُ الزَّائِدُ عَنْ
أُجْرَةِ الْمِثْل، هَذَا إِنْ عَمِل، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل لاَ
يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً. وَبِمَثَلِهِ صَرَّحَ فِي الأَْشْبَاهِ فِي
كِتَابِ الدَّعْوَى.
وَإِنْ نَصَبَهُ الْقَاضِي وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ شَيْئًا يُنْظَرُ:
إِنْ كَانَ الْمَعْهُودُ أَنْ لاَ يَعْمَل إِلاَّ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ
فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، لأَِنَّ الْمَعْهُودَ كَالْمَشْرُوطِ،
وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ (2) .
لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ نَقَل عَنِ الْقُنْيَةِ رَأْيَيْنِ
لِلْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْصُوبِ الْقَاضِي إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ
أُجْرَةً.
الأَْوَّل: أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ نَصَبَ قَيِّمًا مُطْلَقًا وَلَمْ
يُعَيِّنْ لَهُ أَجْرًا فَسَعَى فِيهِ سَنَةً فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَيِّمَ يَسْتَحِقُّ مِثْل أَجْرِ سَعْيِهِ
سَوَاءٌ شَرَطَ لَهُ الْقَاضِي أَوْ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَجْرًا أَوْ
لاَ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل الْقِوَامَةَ ظَاهِرًا إِلاَّ بِأَجْرٍ،
وَالْمَعْهُودُ كَالْمَشْرُوطِ (3) .
__________
(1) منحة الخالق بهامش البحر الرائق 5 / 264.
(2) المرجع السابق.
(3) البحر الرائق 5 / 264.
(44/212)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ
يَشْرُطِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا لاَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً
عَلَى الصَّحِيحِ.
وَإِذَا رُفِعَ الأَْمْرُ لِلْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَعَ
الْحَاجَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ في ف 105. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: آرَاءٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: أَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَأْكُل مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ
بِالْمَعْرُوفِ سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ
إِلْحَاقًا لَهُ بِعَامِل الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
أَبُو الْخَطَّابِ (2) .
الثَّانِي: أَنَّ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَأْخُذَ الأَْقَل مِنْ
أَجْرِ الْمِثْل أَوْ كِفَايَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى وَلِيِّ الصَّغِيرِ،
وَلاَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الأَْجْرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا
كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ (3) .
الثَّالِثُ: أَنَّ لِلنَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا
بِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَجْرَ عَمَلِهِ الْحَقُّ فِي أَجْرِ الْمِثْل
لأَِنَّهُ مُقَابِل عَمَلٍ يُؤَدِّيهِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئًا
فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 472، ونهاية المحتاج 5 / 398.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 295، والفروع 4 / 325، وينظر الكافي 2 /
457.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 295، والفروع 4 / 324 - 325.
(44/213)
عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ،
وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ (1) .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْقَاضِي يَجْعَل
لَهُ فِي الأَْحْبَاسِ أُجْرَةً، أَوْ كَمَا يَقُول ابْنُ فَتُّوحٍ
رِزْقًا مَعْلُومًا فِي كُل شَهْرٍ بِاجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ ذَلِكَ
بِحَسَبِ عَمَلِهِ (2) .
د - الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مِنْهَا النَّاظِرُ أُجْرَتَهُ:
107 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ابْنِ عَتَّابٍ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ النَّاظِرُ مِنْ
أَجْرٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَشْرُوطًا مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ أَمْ مِنْ
قِبَل الْقَاضِي يَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال: لِوَالِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَأْكُل
مِنْهَا غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً (3) .
وَقَال ابْنُ عَتَّابٍ عَنِ الْمُشَاوِرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ
يَكُونُ أَجْرُ النَّاظِرِ إِلاَّ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ
أَخَذَهَا مِنَ الأَْحْبَاسِ أُخِذَتْ مِنْهُ وَرَجَعَ بِأَجْرِهِ فِي
بَيْتِ الْمَال فَإِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْهَا فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ،
قَال الْحَطَّابُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَل لَهُ فِيهَا شَيْءٌ
لأَِنَّهُ تَغْيِيرٌ
__________
(1) الفروع 4 / 595، والاختيارات ص177، وكشاف القناع 4 / 271.
(2) مواهب الجليل 6 / 40.
(3) الإسعاف ص53، وحاشية ابن عابدين 3 / 417، والحطاب 6 / 40، ومغني
المحتاج 2 / 394، والفروع 4 / 323 - 325، وشرح المنتهى 2 / 295.
(44/213)
لِلْوَصَايَا، وَبِمِثْل قَوْل
الْمُشَاوِرِ أَفْتَى ابْنُ وَرْدٍ (1) .
لَكِنَّ الدُّسُوقِيَّ ضَعَّفَ قَوْل ابْنِ عَتَّابٍ (2) .
هـ - الْعَمَل الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّاظِرُ الأُْجْرَةَ:
108 - الْعَمَل الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّاظِرُ الأُْجْرَةَ هُوَ
حِفْظُ الْوَقْفِ وَعِمَارَتُهُ وَإِيجَارُهُ، وَتَحْصِيل رَيْعِهِ
مِنْ أُجْرَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَالاِجْتِهَادُ فِي
تَنْمِيَتِهِ، وَصَرْفُهُ فِي جِهَاتِهِ مِنْ عِمَارَةٍ وَإِصْلاَحٍ
وَإِعْطَاءٍ مُسْتَحَقٌّ لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ (3) .
وَلِلنَّاظِرِ الأُْجْرَةُ مِنْ وَقْتِ نَظَرِهِ فِيهِ لأَِنَّهَا فِي
مُقَابَلَتِهِ، فَلاَ يُسْتَحَقُّ إِلاَّ بِقَدْرِهِ (4) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَمَتَى فَرَّطَ النَّاظِرُ سَقَطَ مِمَّا لَهُ
مِنَ الْمَعْلُومِ بِقَدْرِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى الْوَقْفِ مِنَ
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَل، فَيُوَزَّعُ مَا قُدِّرَ لَهُ
عَلَى مَا عَمِل وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَيَسْقُطُ قِسْطُ مَا
لَمْ يَعْمَلْهُ (5) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ نَازَعَ أَهْل الْوَقْفِ الْقَيِّمَ،
وَقَالُوا لِلْحَاكِمِ: إِنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَل لَهُ
الأَْجْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَل وَهُوَ لاَ يَعْمَل شَيْئًا، لاَ
يُكَلِّفُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْعَمَل مَا لاَ يَفْعَلُهُ الْوُلاَةُ،
وَلَوْ حَلَّتْ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 40.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 88.
(3) كشاف القناع 4 / 268، وروضة الطالبين 5 / 348، ومغني المحتاج 2 /
394.
(4) كشاف القناع 4 / 272، والإسعاف ص53 - 54، ومواهب الجليل 6 / 40.
(5) كشاف القناع 4 / 271.
(44/214)
بِهِ آفَةٌ يُمْكِنُهُ مَعَهَا الأَْمْرُ
وَالنَّهْيُ وَالأَْخْذُ وَالإِْعْطَاءُ فَلَهُ الأَْجْرُ وَإِلاَّ
فَلاَ أَجْرَ لَهُ، وَلَوْ جَعَل الْوَاقِفُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ
مِثْلِهِ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لَوْ جَعَل ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ يَجُوزُ، فَهَذَا أَوْلَى
بِالْجَوَازِ (1) .
وَلَوْ وَقَفَ أَرْضَهُ عَلَى مَوَالِيهِ ثُمَّ مَاتَ، فَجَعَل
الْقَاضِي لِلْوَقْفِ قَيِّمًا وَجَعَل لَهُ عُشْرَ الْغَلَّةِ، وَفِي
الْوَقْفِ طَاحُونٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِالْمُقَاطَعَةِ لاَ يَحْتَاجُ
فِيهَا إِلَى الْقَيِّمِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْفِ يَقْبِضُونَ
غَلَّتَهَا مِنْهُ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْقَيِّمُ عُشْرَ غَلَّتِهَا،
لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ الأُْجْرَةِ وَلاَ
أُجْرَةَ بِدُونِ عَمَلٍ (2) .
و مُحَاسَبَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:
109 - مِنْ وَظِيفَةِ النَّاظِرِ تَحْصِيل غَلَّةِ الْوَقْفِ
وَالإِْنْفَاقُ مِنْهَا عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ الْوَقْفُ وَالصَّرْفُ
إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مُحَاسَبَةِ النَّاظِرِ عَلَى مَا
يُنْفِقُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ
مِنْ قِبَل الْقَاضِي أَمْ مِنْ قِبَل الْمُسْتَحِقِّينَ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قَبُول قَوْل النَّاظِرِ فِي
الإِْنْفَاقِ، هَل يُقْبَل دُونَ بَيِّنَةٍ أَمْ لاَ بُدَّ مِنَ
الْبَيِّنَةِ؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ هَل يُقْبَل
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَوْ دُونَ يَمِينٍ.
__________
(1) الإسعاف ص53 - 54.
(2) الإسعاف ص56.
(44/214)
وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ يَخْتَلِفُ
عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
110 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُ أَنْ يُحَاسِبَ الْقَاضِي
مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ بِالتَّفْصِيل لِكُل مَا صَرَفَهُ مِنْ غَلاَّتِ
الْوَقْفِ، بَل يَكْتَفِي مِنْهُ بِالإِْجْمَال لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا
بِالأَْمَانَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مُتَّهَمًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ
يُجْبِرُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلاَ يَحْبِسُهُ،
وَلَكِنْ يُحْضِرُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً وَيُخَوِّفُهُ
وَيُهَدِّدُهُ إِنْ لَمْ يُفَسِّرْ، فَإِنْ فَعَل فَبِهَا، وَإِلاَّ
فَإِنَّهُ يَكْتَفِي مِنْهُ بِالْيَمِينِ (1) .
وَنَقَل فِي الدُّرِّ عَنِ الْقُنْيَةِ: لَوِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي
فَإِنَّهُ يُحَلِّفُهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ وَلَوْ كَانَ
أَمِينًا، كَالْمُودَعِ يَدَّعِي هَلاَكَ الْوَدِيعَةِ أَوْ رَدَّهَا.
وَقِيل: إِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَاضِي
شَيْئًا مَعْلُومًا، وَقِيل: يُحَلَّفُ عَلَى كُل حَالٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوِ ادَّعَى
الْمُتَوَلِّي الدَّفْعَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ.
فَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: قُبِل قَوْلُهُ بِلاَ يَمِينٍ (2) .
لَكِنْ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَالإِْسْعَافِ خِلاَفُ هَذَا، فَقَدْ
جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ قَال الْمُتَوَلِّي: قَبَضْتُ
الأُْجْرَةَ وَدَفَعْتُهَا إِلَى هَؤُلاَءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) الدر المختار 3 / 425، والبحر الرائق 5 / 262.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 425.
(44/215)
وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْل
قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ كَالْمُودَعِ إِذَا
ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ، لِكَوْنِهِ
مُنْكِرًا مَعْنًى وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ
لِلْمَعْنَى. وَيَبْرَأُ مُسْتَأْجِرُ عَقَارِ الْوَقْفِ مِنَ
الأُْجْرَةِ لاِعْتِرَافِ الْمُتَوَلِّي بِقَبْضِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال الْمُتَوَلِّي: قَبَضْتُ الأُْجْرَةَ وَضَاعَتْ
مِنِّي أَوْ سُرِقَتْ، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ
لِكَوْنِهِ أَمِينًا (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ أَنَّ
الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ عَنِ الْمُفْتِي أَبِي السُّعُودِ:
أَنَّهُ أَفْتَى بِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إِنْ كَانَ مُفْسِدًا
مُبَذِّرًا لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ بِصَرْفِ مَال الْوَقْفِ بِيَمِينِهِ.
وَفِي الْحَامِدِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْل فِي الأَْمَانَةِ قَوْل
الأَْمِينِ مَعَ يَمِينِهِ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَمْرًا يُكَذِّبُهُ
الظَّاهِرُ، فَحِينَئِذٍ تَزُول الأَْمَانَةُ وَتَظْهَرُ الْخِيَانَةُ
فَلاَ يُصَدَّقُ.
وَفِي الْحَامِدِيَّةِ كَذَلِكَ عَنْ فَتَاوِي الشَّلَبِيِّ أَنَّ مَنِ
اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الَّتِي صَارَ بِهَا
فَاسِقًا لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا صَرَفَهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَل يُقْبَل قَوْل النَّاظِرِ
الثِّقَةِ بَعْدَ الْعَزْل؟ ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ أَنَّ ظَاهِرَ
كَلاَمِهِمُ
__________
(1) الإسعاف ص68 - 69، والبحر الرائق 5 / 263.
(44/215)
الْقَبُول لأَِنَّ الْعَزْل لاَ يُخْرِجُهُ
عَنْ كَوْنِهِ أَمِينًا (1) .
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْمُنْلاَ أَبِي السُّعُودِ تَفْصِيلاً
آخَرَ حَيْثُ أَفْتَى بِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَوِ ادَّعَى الدَّفْعَ
مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ الَّذِي وَقَفَهُ عَلَى أَوْلاَدِهِ أَوْ
أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ قُبِل قَوْلُهُ.
وَإِنِ ادَّعَى الدَّفْعَ لأَِرْبَابِ الْوَظَائِفِ كَالإِْمَامِ
وَالْمُؤَذِّنِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ مِثْل مَنِ
اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِلْبِنَاءِ فِي الْجَامِعِ بِأُجْرَةٍ
مَعْلُومَةٍ ثُمَّ ادَّعَى تَسْلِيمَ الأُْجْرَةِ إِلَيْهِ لَمْ
يُقْبَل قَوْلُهُ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ هَذَا التَّفْصِيل التِّمِرْتَاشِيُّ حَيْثُ قَال
إِنَّهُ تَفْصِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ (2) .
111 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ وَعُدِمَ
كِتَابُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُقْبَل قَوْل النَّاظِرِ فِي الْجِهَاتِ
الَّتِي يَصْرِفُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ أَمِينًا، وَإِذَا ادَّعَى
النَّاظِرُ أَنَّهُ صَرَفَ الْغَلَّةَ صُدِّقَ إِنْ كَانَ أَمِينًا،
مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شُهُودٌ فِي أَصْل الْوَقْفِ فَلاَ يَصْرِفُ
إِلاَّ بِاطِّلاَعِهِمْ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ بِدُونِهِمْ.
وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ صَرَفَ عَلَى الْوَقْفِ مَالاً مِنْ عِنْدِهِ
صُدِّقَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا وَإِلاَّ
فَيُحَلَّفُ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 425.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 425.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 5 / 404، وحاشية الدسوقي 4 / 89.
(44/216)
وَفِي الْحَطَّابِ: سُئِل السَّيُورِيُّ
عَنْ إِمَامِ مَسْجِدٍ وَمُؤَذِّنِهِ وَمُتَوَلِّي جَمِيعِ أُمُورِهِ
قَامَ عَلَيْهِ مُحْتَسِبٌ بَعْدَ أَعْوَامٍ فِي غَلَّةِ حَوَانِيتَ
لَهُ وَقَال: فَضَلَتْ فَضْلَةٌ عَمَّا أَنْفَقْتَ. فَقَال
الْمُتَوَلِّي: لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ فَقَال لَهُ الْمُحْتَسِبُ:
بَيِّنْ لِلْقَاضِي صِفَةَ الْخُرُوجِ (أَيِ الإِْنْفَاقِ) فَقَال: لاَ
يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ مَا
تَوَلَّيْتُ وَلاَ قُمْتُ بِهِ، وَالْحَال أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ مَنْ
يَقُومُ بِهِ إِلاَّ هُوَ، وَلَوْلاَ هُوَ لَضَاعَ، فَهَل يُقْبَل
قَوْلُهُ أَوْ لاَ يُقْبَل؟ فَأَجَابَ السَّيُورِيُّ: الْقَوْل
قَوْلُهُ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ إِذَا كَانَ يُشْبِهُ مَا
قَال، قَال الْبِرِزْلِيُّ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ
دَخْلاً وَلاَ خَرْجًا إِلاَّ بِإِشْهَادٍ (1) .
112 - وَالشَّافِعِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْمُسْتَحِقُّونَ مُعَيَّنِينَ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو مَثَلاً، وَبَيْنَ
أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ
الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ.
فَلَوِ ادَّعَى مُتَوَلِّي الْوَقْفِ صَرْفَ الرَّيْعِ
لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَالْقَوْل قَوْلُهُمْ
وَلَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ
مُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ فَهَل لِلإِْمَامِ مُطَالَبَتُهُ
بِالْحِسَابِ أَوْ لاَ؟ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الْقَاضِي الإِْمَامُ
أَبُو نَصْرٍ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ،
أَوْجَهُهُمَا الأَْوَّل، وَيُصَدَّقُ فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَهُ
عِنْدَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 40.
(44/216)
الاِحْتِمَال، فَإِنِ اتَّهَمَهُ
الْحَاكِمُ حَلَّفَهُ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَال الأَْذْرُعِيُّ
إِنْفَاقُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَادَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ
الصَّرْفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْجِهَاتِ
الْعَامَّةِ بِخِلاَفِ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
الْمُعَيَّنِ فَلاَ يُصَدَّقُ فِيهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ (1) .
113 - وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّاظِرِ الْمُتَبَرِّعِ
بِنَظَرِهِ عَلَى الْوَقْفِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ
الَّذِي يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى النِّظَارَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ
الْقِنَاعِ: يُقْبَل قَوْل النَّاظِرِ الْمُتَبَرِّعِ فِي الدَّفْعِ
لِمُسْتَحَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ
إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ وَالْمُرْدَاوِيُّ: لاَ اعْتِرَاضَ لأَِهْل
الْوَقْفِ عَلَى مَنْ وَلاَّهُ الْوَاقِفُ أَمْرَ الْوَقْفِ إِذَا
كَانَ الْمُوَلَّى أَمِينًا، وَلأَِهْل الْوَقْفِ مُسَاءَلَةُ
النَّاظِرِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَى عَمَلِهِ مِنْ أُمُورِ
وَقْفِهِمْ حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُهُمْ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ،
وَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَنْصِبَ دِيوَانًا مُسْتَوْفِيًا
لِحِسَابِ أَمْوَال الأَْوْقَافِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ (3) .
قَال فِي الإِْنْصَافِ: مُبَاشَرَةُ الإِْمَامِ الْمُحَاسَبَةَ
بِنَفْسِهِ كَنَصْبِ الإِْمَامِ الْحَاكِمَ، وَلِهَذَا كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُ الْحُكْمَ فِي
الْمَدِينَةِ بِنَفْسِهِ وَيُوَلِّي مَعَ الْبُعْدِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394.
(2) كشاف القناع 4 / 269.
(3) كشاف القناع 4 / 277، والإنصاف 7 / 68.
(4) الإنصاف 7 / 68.
(44/217)
ز - عَزْل نَاظِرِ الْوَقْفِ وَمَنْ لَهُ
الْحَقُّ فِي ذَلِكَ:
سَبَقَ بَيَانُ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي النَّاظِرِ
مَعَ بَيَانِ الْحُكْمِ فِي عَزْلِهِ إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ
الشُّرُوطِ.
وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَزْل:
أَوَّلاً: حَقُّ الْوَاقِفِ فِي عَزْل نَاظِرِ الْوَقْفِ:
114 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الْوَاقِفِ فِي عَزْل مَنْ
وَلاَّهُ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا
شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ
ثُمَّ أَسْنَدَ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا شَرَطَ
النَّظَرَ لِغَيْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ.
أ - فَإِذَا شَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ
ثُمَّ أَسْنَدَ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ فَلَهُ عَزْلُهُ وَنَصْبُ
غَيْرِهِ مَكَانَهُ، لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَا يَعْزِل
الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ وَيَنْصِبُ غَيْرَهُ (1) .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ
وَالصَّوَابُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي تَصْحِيحِ
الْفُرُوعِ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 399، وكشاف القناع 4 /
272، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504، والفروع 4 / 592، والإنصاف 7 / 60 -
61.
(44/217)
وَنَبَّهَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ
أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ لِلْوَاقِفِ الْعَزْل بِلاَ سَبَبٍ،
وَبِهِ صَرَّحَ السُّبْكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ فَقَال: إِنَّهُ يَجُوزُ
لِلْوَاقِفِ وَلِلنَّاظِرِ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ عَزْل الْمُدَرِّسِ
وَنَحْوِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ، لِمَصْلَحَةٍ
وَلِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لأَِنَّهُ كَالْوَكِيل.
ثُمَّ قَال: وَأَفْتَى كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ
رَزِينٍ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَزْل بِلاَ سَبَبٍ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ
الْعَزْل، لأَِنَّ مِلْكَهُ زَال فَلاَ تَبْقَى وِلاَيَتُهُ عَلَيْهِ
(1) .
ب - أَمَّا إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِشَخْصٍ حَال
الْوَقْفِ، كَأَنْ يَقُول: وَقَفْتُ هَذَا الشَّيْءَ بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ فُلاَنٌ نَاظِرًا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ، زَادَ
الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ، لأَِنَّهُ لاَ نَظَرَ لَهُ
بَعْدَ شَرْطِهِ لَغَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَغْيِيرَ لِمَا
شَرَطَهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَزَل النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ فِي
ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ نَفْسَهُ أَوْ فُسِّقَ، فَتَوْلِيَةُ غَيْرِهِ
إِلَى الْحَاكِمِ لاَ إِلَى الْوَاقِفِ، إِذْ لاَ نَظَرَ لَهُ بَعْدَ
أَنْ جَعَل النَّظَرَ حَال الْوَقْفِ لِغَيْرِهِ (2) .
لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394 - 395، وروضة الطالبين 5 / 349، والإنصاف 7 /
60 - 61، والفروع 4 / 591.
(2) مغني المحتاج 2 / 395، ونهاية المحتاج 5 / 400، وكشاف القناع 4 /
272، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504، والفروع 4 / 592، والإنصاف 7 / 60.
(44/218)
لِغَيْرِهِ، وَشَرَطَ أَنَّ لَهُ عَزْلَهُ
كَانَ لَهُ عَزْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ
عَزْلُهُ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ
لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ تَكُونَ الْوِلاَيَةُ لَهُ
وَلأَِوْلاَدِهِ فِي تَوْلِيَةِ الْقُوَّامِ وَعَزْلِهِمْ
وَالاِسْتِبْدَال بِالْوَقْفِ، وَفِي كُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ
الْوِلاَيَةِ، وَسَلَّمَ الْوَقْفَ إِلَى الْمُتَوَلِّي، جَازَ ذَلِكَ،
وَكَانَ لَهُ عَزْل مَنْ وَلاَّهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ لِنَفْسِهِ
وِلاَيَةَ عَزْل الْمُتَوَلِّي فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ بَعْدَمَا
سَلَّمَهَا (أَيِ الْوِلاَيَةَ) إِلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِكَوْنِهِ
قَائِمًا مَقَامَ أَهْل الْوَقْفِ (2) ، قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ:
وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي
اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُتَوَلِّي، فَإِنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ فَلاَ تَبْقَى لِلْوَاقِفِ وِلاَيَةٌ إِلاَّ بِالشَّرْطِ (4)
.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْوِلاَيَةَ تَثْبُتُ
لِلْوَاقِفِ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، لأَِنَّ
التَّسْلِيمَ إِلَى الْمُتَوَلِّي لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُ، قَال
الْمِرْغِينَانِيُّ: وَهُوَ قَوْل هِلاَلٍ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ
الْمَذْهَبِ، وَإِذَا وَلَّى الْوَاقِفُ غَيْرَهُ كَانَ وَكِيلاً
عَنْهُ وَلَهُ عَزْلُهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّ لَهُ عَزْلَهُ أَوْ لَمْ
يَشْرُطْ (5) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 272، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504، ومطالب أولي
النهى 4 / 329.
(2) الإسعاف ص49.
(3) البحر الرائق 5 / 244.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 412.
(5) الإسعاف ص49، والهداية وشروحها فتح القدير والعناية 6 / 230 - 231.
(44/218)
قَال الرَّمْلِيُّ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي
أَنَّهُ يَصِحُّ عَزْلُهُ بِجُنْحَةٍ وَبِغَيْرِ جُنْحَةٍ، لأَِنَّهُ
وَكَيْلٌ وَلِلْمُوَكِّل عَزْل الْوَكِيل مُطْلَقًا (1) .
قَال فِي الدُّرِّ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ. وَفِي
الْبَحْرِ: وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ
النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُتْبَعُ شَرْطُهُ فِي تَعْيِينِ
النَّاظِرِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ فُلاَنٌ نَاظِرَ وَقْفِهِ
اتُّبِعَ شَرْطُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ لِغَيْرِهِ، قَال
الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ: وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُهُ وَلَوْ لِغَيْرِ
جُنْحَةٍ (3) وَكَذَا نَصَّ ابْنُ عَرَفَةَ، قَال: لَوْ قَدَّمَ
الْمُحَبِّسُ مَنْ رَأَى لِذَلِكَ أَهْلاً فَلَهُ عَزْلُهُ
وَاسْتِبْدَالُهُ، وَقَال الْحَطَّابُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ
النَّوَازِل وَأَقْوَال الْعُلَمَاءِ فِيهَا: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا
أَنَّ مَنْ حَبَّسَ شَيْئًا وَجَعَلَهُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، ثُمَّ
أَرَادَ عَزْلَهُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِمُوجِبٍ يَظْهَرُ،
كَالْقَاضِي إِذَا قَدَّمَ أَحَدًا (4) .
ثَانِيًا: حَقُّ الْقَاضِي فِي الْعَزْل:
115 - لِلْقَاضِي حَقُّ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ
__________
(1) منحة الخالق لابن عابدين بهامش البحر الرائق 5 / 244.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 312، والبحر الرائق 5 / 244.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 88.
(4) مواهب الجليل 6 / 39.
(44/219)
يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ عَزْل النَّاظِرِ
الْمَشْرُوطِ لَهُ النَّظَرُ مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ الَّذِي تَثْبُتُ
خِيَانَتُهُ (1) . أَوِ الَّذِي لَمْ يَتَوَافَرْ فِيهِ شَرْطٌ مِنَ
الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي النَّاظِرِ عَلَى مَا
سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ تَفْصِيلٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ بِلاَ
سَبَبٍ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي أَسْنَدَ إِلَيْهِ
النِّظَارَةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَزْلِهِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَزْل مَنْ وَلاَّهُ
الْقَاضِي إِلاَّ بِسَبَبٍ، مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ
يَجُوزُ عَزْل النَّاظِرِ بِلاَ خِيَانَةٍ (3) .
ح - تَعَدُّدُ نُظَّارِ الْوَقْفِ:
116 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ،
كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ (4) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 384 - 385، ومواهب الجليل 6 /
37، وحاشية الدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 393.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 386، والبحر الرائق 5 / 245، 252 - 254،
والدسوقي 4 / 88، ونهاية المحتاج 5 / 399.
(3) الحطاب 6 / 40، والدسوقي 4 / 88، وكشاف القناع 4 / 272، ومطالب
أولي النهى 4 / 330، وحاشية ابن عابدين 3 / 386، 419، والبحر الرائق 5
/ 254، ونهاية المحتاج 5 / 399.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 409، ومغني المحتاج 2 / 394، وكشاف القناع 4
/ 272، والعدوي على الخرشي 8 / 193، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 430.
(44/219)
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ
أَسْنَدَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لاِثْنَيْنِ، هَل يَصِحُّ أَنْ
يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ دُونَ الآْخَرِ؟ فَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ أَسْنَدَ
الْوَاقِفُ النَّظَرَ لاِثْنَيْنِ فَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا
مُسْتَقِلًّا عَنِ الآْخَرِ، لأََنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ
أَحَدِهِمَا، لَكِنْ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا صَحَّ تَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا (1) .
وَلَوْ جَعَل الْوَاقِفُ عِمَارَةَ الْوَقْفِ لِوَاحِدٍ، وَجَعَل
تَحْصِيل رَيْعِهِ لِلآْخَرِ صَحَّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا شَرَطَهُ
لَهُ الْوَاقِفُ؛ لِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى شَرْطِهِ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ أَنْ
يَكُونَ النَّاظِرُ هُوَ الأَْرْشَدَ مِنْ أَوْلاَدِهِ فَالأَْرْشَدَ،
فَأَثْبَتَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الأَْرْشَدُ؛ فَإِنَّهُمْ
يَشْتَرِكُونَ فِي النَّظَرِ إِنْ وُجِدَتِ الأَْهْلِيَّةُ فِيهِمْ،
وَلاَ يَسْتَقِل أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالتَّصَرُّفِ، لأَِنَّ
الأَْرْشَدِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ وَبَقِيَ
أَصْل الرُّشْدِ، وَإِنْ وُجِدَتِ الأَْرْشَدِيَّةُ فِي بَعْضٍ
مِنْهُمُ اخْتُصَّ بِالنَّظَرِ (3) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ
__________
(1) الإسعاف ص50، ومغني المحتاج 2 / 394، وكشاف القناع 4 / 272.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 505.
(3) مغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 398 - 399.
(44/220)
كُلٌّ مِنَ النَّاظِرَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ
مُنْفَرِدًا، جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ جَعَل الْوَاقِفُ وِلاَيَةَ
الْوَقْفِ إِلَى رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ انْفِرَادُهُمَا
بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَعَل النَّظَرَ لِرَجُلٍ ثُمَّ جَعَل
رَجُلاً آخَرَ وَصِيًّا كَانَا نَاظِرَيْنِ، وَيَكُونُ الْوَصِيُّ
شَرِيكًا لِلْمُتَوَلِّي فِي أَمْرِ الْوَقْفِ، إِلاَّ أَنْ يُخَصِّصَ
بِأَنْ يَقُول: وَقَفْتُ أَرْضِي عَلَى كَذَا وَجَعَلْتُ وِلاَيَتَهَا
لِفُلاَنٍ، وَجَعَلْتُ فُلاَنًا وَصِيِّي فِي تَرِكَاتِي وَجَمِيعِ
أُمُورِي، فَحِينَئِذٍ يَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا فُوِّضَ
إِلَيْهِ، نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ عَنِ الإِْسْعَافِ، ثُمَّ
قَال: وَلَعَل وَجْهَهُ أَنَّ تَخْصِيصَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ فِي
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ، ثُمَّ قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنَّ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِل عَنِ
الذَّخِيرَةِ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ فِي الْوَقْفِ وَأَوْصَى إِلَى
آخَرَ فِي وَلَدِهِ، كَانَا وَصِيَّيْنِ فِيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (2) .
وَقَالُوا: لَوْ وُجِدَ كِتَابَانِ لِوَقْفٍ وَاحِدٍ، فِي كُل كِتَابٍ
اسْمُ مُتَوَلٍّ، وَتَارِيخُ الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ؛ فَإِنَّهُمَا
يَشْتَرِكَانِ (3) .
وَلَوْ جَعَل الْوَاقِفُ الْوِلاَيَةَ لأَِفْضَل أَوْلاَدِهِ وَكَانُوا
فِي الْفَضْل سَوَاءً فَلاَ يَشْتَرِكُونَ فِي
__________
(1) الإسعاف ص50.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 409، 410، والإسعاف ص51.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 410.
(44/220)
الْوِلاَيَةِ وَإِنَّمَا تَكُونُ
لأَِكْبَرِهِمْ سِنًّا (1) .
وَلَوْ جَعَل النَّظَرَ إِلَى رَجُلَيْنِ فَقَبِل أَحَدُهُمَا وَرَدَّ
الآْخَرُ، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قَامَ بِهِ مَانِعٌ، أَقَامَ
الْحَاكِمُ مَقَامَهُ آخَرَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كُلٌّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
6 -
تَفْوِيضُ نَاظِرِ الْوَقْفِ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ:
117 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ
يُفَوِّضَ النَّظَرَ إِلَى مَنْ أَرَادَ أَوْ يُوصِيَ بِالنَّظَرِ
إِلَى غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ جَعَل لَهُ ذَلِكَ
وَفَوَّضَهُ فِيهِ (3) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَعْضُ
التَّفْصِيل، بَيَانُهُ كَالآْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ تَفْوِيضُ الْوَاقِفِ لِلْمُتَوَلِّي
عَامًّا، أَيْ إِنَّ الْوَاقِفَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَجَعَل
لَهُ أَنْ يُسْنِدَ النَّظَرَ وَيُوصِيَ بِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ، فَفِي
هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إِلَى
غَيْرِهِ فِي حَال صِحَّتِهِ وَفِي حَال مَرَضِهِ الْمُتَّصِل
بِالْمَوْتِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّفْوِيضُ لَهُ عَامًّا
فَلَمْ يَجْعَل لَهُ الْوَاقِفُ
__________
(1) الإسعاف ص51.
(2) الإسعاف ص50، ومغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 398،
ومطالب أولي النهى 4 / 331، والإنصاف 7 / 60 - 61.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 411 ت412، وحاشية الدسوقي 4 /
88، والحطاب 6 / 38، ونهاية المحتاج 5 / 399، ومغني المحتاج 2 / 394،
وكشاف القناع 4 / 272.
(44/221)
أَنْ يُسْنِدَ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ،
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُفَوِّضَ الْمُتَوَلِّي النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ
فِي حَال صِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي
مَرَضِ مَوْتِهِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ، وَلِلْوَصِيِّ
أَنْ يُوصِيَ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ: جَعَلْتُ النَّظَرَ
لِفُلاَنٍ، وَلَهُ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إِلَى مَنْ أَرَادَ، جَازَ
ذَلِكَ، وَهَل يَزُول نَظَرُ الْمُفَوِّضِ، أَوْ يَكُونُ الْمُفَوَّضُ
إِلَيْهِ وَكِيلاً عَنِ الْمُفَوِّضِ؟ رَأْيَانِ: الأَْوَّل، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَزُول نَظَرُ الْمُفَوِّضِ، فَلَوْ أَسْنَدَ
الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ النَّظَرَ إِلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ، فَلَيْسَ
لِلْوَاقِفِ وَلاَ لِلْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ عَزْلُهُ وَلاَ
مُشَارَكَتُهُ، وَلاَ يَعُودُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ،
لأَِنَّ التَّفْوِيضَ بِمَثَابَةِ التَّمْلِيكِ.
وَالثَّانِي - وَهُوَ لِلإِْمَامِ السُّبْكِيِّ -: أَنَّهُ يَكُونُ
الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ وَكِيلاً عَنِ الْمُفَوِّضِ، فَلَوْ مَاتَ
الْمُفَوِّضُ لاَ يَبْقَى النَّظَرُ لِلْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ، وَكَذَا
لَوْ مَاتَ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ يَعُودُ النَّظَرُ لِلْمُفَوِّضِ،
لأَِنَّهُ كَالْوَكِيل (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ النَّاظِرَ الْمَشْرُوطَ لَهُ النَّظَرُ
مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَوْ
غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَانَ
لَهُ نَصْبُ وَكِيلٍ عَنْهُ وَعَزْلُهُ؛ لأَِصَالَةِ وِلاَيَتِهِ،
أَشْبَهَ الْمُتَصَرِّفَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 411 - 412.
(2) مغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 399، وتحفة المحتاج 6 /
291.
(44/221)
فِي مَال نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ
النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ
نَصْبُ نَاظِرٍ وَلاَ الْوَصِيَّةُ بِالنَّظَرِ مَا لَمْ يَكُنْ
مَشْرُوطًا لَهُ أَنْ يَنْصِبَ مَنْ شَاءَ أَوْ يُوصِيَ (1) .
انْتِهَاءُ الْوَقْفِ:
118 - مِنْ صُوَرِ انْتِهَاءِ الْوَقْفِ عَوْدَةُ الْمَوْقُوفِ إِلَى
مِلْكِ الْوَاقِفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَعَطُّل
الْمَوْقُوفِ وَتَخَرُّبِهِ وَعَدَمِ صَلاَحِيَتِهِ لِلاِنْتِفَاعِ
بِهِ، كَمَا يَقُول بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (ر: ف 97) ، أَوْ
كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ، كَمَا
يَقُول بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (ر: ف47) ،
أَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَقْفِ الْمُؤَقَّتِ الَّذِي
أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ (ر: ف 18) ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ
الْمَسَائِل فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 272.
(44/222)
|