بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار

أَبْوَابُ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ
بَابُ الْمُبَادَرَةِ إلَى إخْرَاجِهَا

2015- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ: أَوْ قِيلَ لَهُ: فَقَالَ كُنْت خَلَّفْت فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْت أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

2016- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا خَالَطَتْ الصَّدَقَةُ مَالًا قَطُّ إلَّا أَهْلَكَتْهُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ.

2017- وَالْحُمَيْدِيُّ، وَزَادَ قَالَ: يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْك فِي مَالِكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجْهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ.
وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (تِبْرًا) . بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ: الذَّهَبُ الَّذِي لَمْ يَصْفُ وَلَمْ يُضْرَبْ.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُبَيِّتَهُ) . أَيْ أَتْرُكَهُ يَبِيتُ عِنْدِي. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْمُبَادَرَةِ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الْخَيْرَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادَرَ بِهِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ تَعْرِضُ وَالْمَوَانِعَ تَمْنَعُ، وَالْمَوْتَ لَا يُؤْمَنُ، وَالتَّسْوِيفَ غَيْرُ مَحْمُودٍ زَادَ غَيْرُهُ: وَهُوَ أَخْلَصُ لِلذِّمَّةِ وَأَنْفَى لِلْحَاجَةِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْمَطْلِ الْمَذْمُومِ وَأَرْضَى لِلرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْحَى لِلذَّنْبِ.

(1/550)


وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ مُخَالَطَةِ الصَّدَقَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِ. وَاحْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ.
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِهَا

2018- عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ.

2019- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسٌ عَمُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا» . ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
2020- وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عُمَرَ، وَلَا مَا قِيلَ لَهُ فِي الْعَبَّاسِ، وَقَالَ فِيهِ: «فَهِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ الصَّدَقَةَ عَامَيْنِ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ لِلْعَبَّاسِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، ثُمَّ يَأْخُذَهُ، وَمَنْ رَوَى فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا، فَيُقَالُ: كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، ذَلِكَ الْعَامِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَأَعْتَادَهُ) . هِيَ آلَاتُ الْحَرْبِ مِنْ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ خَالِدٍ زَكَاةَ أَعْتَادِهِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ وَأَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَيَّ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ خَالِدًا مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ: «إنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَوَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْحَوْلِ عَلَيْهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَأَعْطَاهَا وَلَمْ يَشِحَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَفَ أَمْوَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّعًا فَكَيْفَ يَشِحُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ.

(1/551)


وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا وُجُوبَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ خِلَافًا لِدَاوُدَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ، وَصِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ وَبِهِ قَالَتْ الْأُمَّةُ بِأَسْرِهَا إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَبَعْضَ الْكُوفِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) . مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَجَّلَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعُمَرَ: «إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ مَالِ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ» . إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَوْ لِعَامَيْنِ.

بَابُ تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهَا
وَمُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَا الْقِيمَةِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ دَفْعِهَا

2021- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا، فَكُنْتُ غُلَامًا يَتِيمًا فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

2022- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْمَالُ قَالَ: وَلِلْمَالِ أَرْسَلْتَنِي؟ أَخَذْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

2023- وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ.
2024- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَعِيرَ مِنْ الإِبِلِ، وَالْبَقَرَةَ مِنْ الْبَقَرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

وَالْجُبْرَانَاتُ الْمُقَدَّرَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُشْرَعُ وَإِلَّا كَانَتْ تِلْكَ الْجُبْرَانَاتُ عَبَثًا.

(1/552)


2025- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

2026- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» . فَأَتَاهُ أَبِي أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: ... «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة صَرْفِ زَكَاةِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِهِ وَكَرَاهَةِ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ» . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ انْتَقَلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ كَانَ زَكَاةُ مَالِهِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ مِنْهُ مَهْمَا أَمْكَنَ إيصَالُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ» إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمِ الْجِنْسِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ) إلى آخره. قَالَ الشَّارِحُ: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَكَّرُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يَدْعُو آخِذُ الصَّدَقَةِ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَصَلَاةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَصَلَاةُ أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى لِذَلِكَ كَانَتْ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِمُعْطِيهَا.

بَابُ مَنْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ غَنِيًّا

2027- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ:

(1/553)


لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهِ مِنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهِ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَكَ الْحَمْدُ) أَيْ لَا لِي؛ لِأَنَّ صَدَقَتِي وَقَعَتْ فِي يَدِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَلَكَ الْحَمْدُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِكَ لَا بِإِرَادَتِي. وَفِيهِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ.
بَابٌ بَرَاءَةُ رَبِّ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ
مَعَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَأَنَّهُ إذَا ظَلَمَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ عَنْ شَيْءٍ

2028- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إذَا أَدَّيْتَ الزَّكَاةَ إلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إذَا أَدَّيْتَهَا إلَى رَسُولي فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَكَ أَجْرُهَا وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» . مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ.
وَقَدْ احْتَجَّ بِعُمُومِهِ مَنْ يَرَى الْمُعَجَّلَةَ إلَى الْإِمَامِ إذَا هَلَكَتْ عِنْدَهُ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْمُلَّاكِ.

2029- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

2030- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجُلٌ

(1/554)


يَسْأَلُهُ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَمْنَعُونَا حَقَّنَا وَيَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ؟ فَقَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

2031- وَعَنْ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: إنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: «لا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى سَلَاطِينِ الْجَوْرِ وَإِجْزَائِهَا. وَهُوَ الْحَقُِّ.
بَابُ أَمْرِ السَّاعِي أَنْ يُعِدَّ الْمَاشِيَةَ حَيْثُ تَرِدُ الْمَاءَ
وَلَا يُكَلِّفُهُمْ حَشْدَهَا إلَيْهِ

2032- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
2033- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دِيَارِهِمْ» .

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَعْنَى «لَا جَلَبَ» : أَنْ تُصَدَّقَ الْمَاشِيَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَلَا تُجْلَبُ إلَى الْمُصَدِّقِ. وَمَعْنَى لَا جَنَبَ: أَنْ يَكُونَ الْمُصَدِّقُ بِأَقْصَى مَوَاضِعِ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ فَتُجْنَبُ إلَيْهِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَفَسَّرَ مَالِكٌ الْجَلَبَ: بِأَنْ تُجْلَبَ الْفَرَسُ فِي السِّبَاقِ فَيُحَرَّكَ وَرَاءَهُ الشَّيْءُ يُسْتَحَثُّ بِهِ فَيَسْبِقَ. وَالْجَنَبُ: أَنْ يُجْنَبَ الْفَرَسُ الَّذِي سَابَقَ بِهِ فَرَسًا آخَرَ حَتَّى إذَا دَنَا تَحَوَّلَ الرَّاكِبُ عَنْ الْفَرَسِ الْمَجْنُوبِ فَسَبَقَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي لِلصَّدَقَاتِ وَيَأْخُذُهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لَهُمْ.

بَابُ سِمَةِ الْإِمَامِ الْمَوَاشِيَ إذَا تَنَوَّعَتْ عِنْدَهُ

2034- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَدَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي

(1/555)


طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ. أَخْرَجَاهُ.

2035- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ: دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ يَسِمُ غَنَمًا فِي آذَانِهَا.
2036- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ: أَمِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، أَوْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ؟ قَالَ أَسْلَمُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، وَقَالَ: إنَّ عَلَيْهَا مِيسَمَ الْجِزْيَةِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَسْمِ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَيَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزُهَا، وَلِيَرُدَّهَا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ الْتَقَطَهَا وَلِيَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا فَلَا يَشْتَرِيهَا إذَا تُصُدِّقَ بِهَا مَثَلًا لِئَلَّا يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِأَمْوَالِ الصَّدَقَةِ وَتَوَلِّيهَا بِنَفْسِهِ وَجَوَازُ تَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا لَوْ عُجِّلَتْ لَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَسْمِ.

(1/556)