بستان
الأحبار مختصر نيل الأوطار كِتَابُ الدِّمَاءِ
بَابُ إيجَابِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَأَنَّ مُسْتَحِقَّهُ
بِالْخِيَارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ
3899- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم -: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا
اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ
الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ
لِلْجَمَاعَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
3900- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إلا مَنْ زَنَى
بَعْدَ مَا أَحْصَنَ أَوْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا
فَقُتِلَ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَمُسْلِمٌ
بِمَعْنَاهُ.
3901- وَفِي لَفْظٍ: «لا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إلا فِي إحْدَى ثَلاثِ
خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا
مُتَعَمِّدَا، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ الإِسْلامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ
الأَرْضِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّهُ لا يُؤْخَذُ
مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
3902- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمَّا
أَنْ يَفْتَدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
3903- لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: «إمَّا أَنْ يَعْفُوَ وَإِمَّا أَنْ
يُقْتَلَ» .
3904- وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ
- وَالْخَبْلُ: الْجِرَاحُ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلاثٍ:
(2/338)
إمَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ
الْعَقْلَ أَوْ يَعْفُوَ فَإِنْ أَرَادَ رَابِعَةً فَخُذُوا عَلَى
يَدَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.
3905- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ
الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآيَةُ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}
قَالَ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ فِي الْعَمْدِ الدِّيَةَ. وَالِاتِّبَاعُ
بِالْمَعْرُوفِ يَتْبَعُ الطَّالِبُ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّي إلَيْهِ
الْمَطْلُوبُ بِإِحْسَانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
فِيمَا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «وَالتَّارِكِ
لِدِينِهِ» ظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ مُوجِبَاتِ قَتْلِ
الْمُرْتَدِّ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كَانَتْ،
وَالْمُرَادُ بِمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ: مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ
الإِسْلامِ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ إلا بِالْكُفْرِ لا بِالْبَغْيِ
وَالِابْتِدَاعِ وَنَحْوِهِمَا.
قَوْلُهُ: «بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَفْتَدِيَ وَإِمَّا أَنْ
يَقْتُلَ» ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِيَارَ إلَى الأَهْلِ الَّذِينَ هُمْ
الْوَارِثُونَ لِلْقَتِيلِ سَوَاءً كَانُوا يَرِثُونَهُ بِسَبَبٍ أَوْ
نَسَبٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْعِتْرَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ: يَخْتَصّ بِالْعَصَبَةِ إذْ
شُرِعَ لِنَفْيِ الْعَارِ كَوِلايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنْ عَفَوْا
فَالدِّيَةُ كَالتَّرِكَةِ.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يَصِحُّ الْعَفْو فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ
لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَاز مِنْهُ كَالْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَولايَةِ
الْقَصَاصِ وَالْعَفْو عَنْهُ لَيْسَتْ عَامَّة لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ،
بَلْ تَخْتَصُّ بِالْعُصْبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَتَخْرٌجٌ
رِوَايَة أَحْمَدٍ. انْتَهَى.
بَابُ مَا جَاءَ لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ
وَالتَّشْدِيدُ فِي قَتْلِ الذِّمِّيّ وَمَا جَاءَ فِي الْحُرِّ
بِالْعَبْدِ
3906- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لا وَاَلَّذِي
فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ
اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قُلْتُ:
وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الأَسِيرِ
وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ
(2/339)
أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
3907- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه
وسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى
مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلا لا يُقْتَلُ
مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَخْذِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ.
3908- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ
بِكَافِرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ.
3909- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا
يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
3910- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه
وسلم - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ
وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.
3911- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً لَهَا
ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا
يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَة
أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
3912- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَ
عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
3913- وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «وَمَنْ خَصَى
عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ
الْمَدِينِيِّ: سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ صَحِيحٌ وَأَخَذَ
بِحَدِيثِهِ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» . وَأَكْثَرُ أَهْلِ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ وَتَأَوَّلُوا
الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ كَانَ عَبْدُهُ لِئَلا يُتَوَهَّمَ
تَقَدُّمُ الْمِلْكِ مَانِعًا.
3914- وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ
عَيَّاشٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا
(2/340)
فَجَلَدَهُ ... النَّبِيُّ - صلى الله عليه
وسلم - وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ
يُقِدْهُ بِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ فِيهِ ضَعْفٌ إلا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: مَا
رَوَى عَنْ الشَّامِيِّينَ صَحِيحٌ. وَمَا رَوَى عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ
فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «وَأَنْ لا يُقْتَلَ
مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لا يُقَادُ
بِالْكَافِرِ، أَمَّا الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَذَلِكَ إجْمَاعٌ وَأَمَّا
الذِّمِّيُّ فَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِصِدْقِ اسْمِ الْكَافِرِ
عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» أَيْ تَتَسَاوَى فِي
الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ
الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فِي الدَّمِ بِخِلافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ
الْجَاهِلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» يَعْنِي إذَا أَمَّنَ
الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا كَانَ أَمَانُهُ أَمَانًا مِنْ جَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ مُكَلَّفًا.
قَوْلُهُ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»
قَالَ الشَّارِحُ: وَهَا كِنَايَة عَنْ عَدَمِ دُخُولِهَا، وَالْحَدِيثَانِ
اشْتَمَلا عَلَى تَشْدِيدِ الْوَعِيدِ عَلَى قَاتِلِ الْمُعَاهَدِ. إلى أن
قال: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ.
وَحَكَى صَاحِبُ
الْبَحْرِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ
إلا عَنْ النَّخَعِيّ. وَهَكَذَا حَكَى الْخِلافَ عَنْ النَّخَعِيّ
وَبَعْضِ التَّابِعِينَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِعَبْدِ
غَيْرِهِ فَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ،
وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ
وَالْعَبْدِ قِصَاصٌ لا فِي النَّفْسِ وَلا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. قَالَ:
وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَتَلَ
عَبْدَهُ لا يُقْتَلُ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ قُتِلَ بِهِ،
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. انْتَهَى.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيّ إِلا أَنْ
يَقْتُلَهُ غِيلَة لأَخْذِ مَالِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَلا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي
الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَحِيَحةٌ صَرِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيّ بَلْ أَجْوَدُ
مَا رُوِيَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ
(2/341)
قَتَلْنَاهُ» . وَهَذَا لأَنَّهُ إِذَا
قَتَلَهُ ظُلْمًا كَانَ الإِمِامُ وَلِيّ دَمّه. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ
فِي السُّنَّةِ وَالآثَارِ أَنَّهُ إِذَا مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عُتِقَ
عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَتْلُهُ
أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمُثْلَةِ فَلا يَمُوتُ إِلا حُرًّا لَكِن
حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَثْبٌتْ حَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى تَرِثَهُ عُصْبَتُهُ
بَلْ حُرِّيَّتَهُ ثَبَتَتْ حُكْمًا وَهُوَ إِذَا عُتِقَ كَانَ وَلاؤُهُ
لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الإِمَامُ هُوَ وَلِيُّهُ فَلَهُ قَتْلَ قَاتِلَ
عَبْدِهِ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ قَاتِلَ عَبْدِ
غَيْرِهِ لِسَيِّدِهِ قَتْلُهُ. وَإِذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا
كَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ
أَحْمَدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَهَادَة الْعَبْدِ كَالْحُرِّ بِخِلافِ
الذِّمِّيِّ فَلِمَاذَا لا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ
دِمَاؤُهُمْ» . وَمَنْ قَالَ: لا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ يَقُولُ: إِنَّهُ
لا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِِمِ وَاللهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن
مُّشْرِكٍ} . فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنَ الذِّمِّيِّ الْمُشْرِكِ
فَكَيْفَ لا يُقْتَلُ بِهِ؟ . انْتَهَى.
بَابُ قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَهَلْ
يُمَثَّلُ بِالْقَاتِلِ إذَا مَثَّلَ أَمْ لا؟
3915- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ
حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِك هَذَا؟ فُلانٌ أَوْ فُلانٌ
حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَجِيءَ بِهِ
فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرُضَّ
رَأْسُهُ بِحَجَرَيْنِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
3916- وَعَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ
فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا
فَقَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ
وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.
3917- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - يَحُثُّ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ
الْمُثْلَةِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
3918- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا
خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً إلا أَمَرَنَا
بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3919- وَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَمُرَةَ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (رَضَّ رَأْسَ
جَارِيَةٍ) فِي رِوَايَةٍ
(2/342)
لِمُسْلِمٍ (فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ)
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْجُمْهُورُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ
قَالَ: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ يُنْتَهَى
إلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقَادُ مِنْ الرَّجُلِ عَيْنًا
بِعَيْنٍ وَأُذُنًا بِأُذُنٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ عَلَى ذَلِكَ
وَإِنْ قَتَلَهَا قُتِلَ بِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، وَفِيهِ
أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَوَدُ بِمِثْلِ مَا قُتِلَ بِهِ
الْمَقْتُولُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عُمُومُ
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} . وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ
الِاقْتِصَاصَ لا يَكُونُ إلا بِالسَّيْفِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ» قَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَاسْتَدَلُّوا بِالأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ
فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيُفْعَلُ بِالْجَانِي عَلَى النَّفْسِ مِثْل
مَا فَعَلَ بِالْمَجْنِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ
أَوْ يَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ
أَحْمَدٍ وَلَوْ كَوَى شَيْخًا بِمِسْمَارٍ كَانَ لِلْمَجْنِي عَلَيْهِ
أَنْ يَكْوِيهُ مِثْلَ مَا كَوَاهُ إِنْ أَمْكَنَ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ فِي
اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ وَنَحْو ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ
إِسْمَاعِيل بن سَعْدِ السَّالِنْجِي. انْتَهَى.
بَابُ مَا جَاءَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ
3920- وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ
مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ وَلا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ أَنْ
يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ
ضَغِينَةٍ وَلا حَمْلِ سِلاحٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
3921- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ
قَتِيلُ السَّوْطِ أَوْ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ مِنْهَا
أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا
التِّرْمِذِيَّ.
3922- وَلَهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رّضِيَ اللهُ
عَنْهَُا مِثْلُهُ.
(2/343)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
قَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَتْلَ عَلَى
ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
جَمَاهِيرُ
الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ،
فَجَعَلُوا فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصَ. وَفِي الْخَطَإِ الدِّيَةَ وَفِي
شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةً مُغَلَّظَةً.
بَابُ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَرُ
3923- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ
الآخَرُ يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» . رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ.
3924- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ
رَجُلًا مُتَعَمِّدًا وَأَمْسَكَهُ آخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْقَاتِلُ
وَيُحْبَسُ الآخَرُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكَ لِلْمَقْتُولِ حَالَ قَتْلِ الْقَاتِلِ لَهُ لا
يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ وَلا يُعَدُّ فِعْلُهُ مُشَارَكَةً حَتَّى يَكُونَ
ذَلِكَ مِنْ بَابِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَالْحَبْسُ
الْمَذْكُورُ جَعَلَهُ الْجُمْهُورُ مَوْكُولًا إلَى نَظَرِ الإِمَامِ فِي
طُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا لأَنَّ الْغَرَضَ تَأْدِيبُهُ وَحُكِيَ فِي
الْبَحْرِ أَيْضًا عَنْ النَّخَعِيّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ أَنَّهُ
يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ كَالْمُبَاشِرِ لِلْقَتْلِ لأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ،
وَالْحَقُّ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَتْلِ
شَخْصٍ فَلأَوْلِياءِ الدَّمِّ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ وَلَهُمْ أَنْ
يَقْتُلُوا بَعْضُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْن الْقَاتِل
فَلِلأَوْلِياءِ أَنْ يحلفُوا عَلَى وَاحِدٍ بِقَتْلِهِ وَيُحْكَمُ لَهُمْ
بِالدَّمِّ. انْتَهَى.
بَابُ الْقِصَاصِ فِي كَسْرِ السِّنِّ
3924- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرُّبَيِّعِ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ
جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا إلَيْهَا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَعَرَضُوا الأَرْشَ
فَأَبَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَبَوْا إلا
الْقِصَاصَ فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ
النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ
(2/344)
الرُّبَيِّعِ؟ لا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» . فَرَضِيَ
الْقَوْمُ فَعَفَوْا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
«إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ
الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ الإِجْمَاعَ عَلَى
ذَلِكَ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَسْرًا لا قَلْعًا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ
مِقْدَارُ الْمَكْسُورِ وَيُمْكِنَ أَخْذُ مِثْلِهِ مِنْ سِنِّ الْكَاسِرِ
فَيَكُونَ الِاقْتِصَاصُ بِأَنْ تُبْرَدَ سِنُّ الْجَانِي إلَى الْحَدِّ
الذَّاهِبِ مِنْ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ. وَقَدْ حُكِيَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لا قِصَاصَ فِي
الْعَظْمِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلاكُ.
بَابُ مَنْ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَهَا فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ
3925- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ
فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ فَاخْتَصَمُوا إلَى
النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَعَضُّ أَحَدُكُمْ يَدَ
أَخِيهِ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟ لا دِيَةَ لَك» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ
إلا أَبَا دَاوُد.
3926- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ
إنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَانْتَزَعَ أُصْبُعَهُ
فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ فَانْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ وَقَالَ: «أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ
تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ» ؟ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا
التِّرْمِذِيَّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى
أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ
مِنْهُ كَالْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا شَابَهَهَا فَلا قِصَاصَ وَلا
أَرْشَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا
يَتَمَكَّنَ الْمَعْضُوضُ مَثَلاً مِنْ إطْلاقِ يَدِهِ أَوْ نَحْوِهَا
بِمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَضُّ مِمَّا
يَتَأَلَّمُ بِهِ الْمَعْضُوضُ.
بَابُ مَنْ اطَّلَعَ مِنْ بَيْتِ قَوْمِ مُغْلَقٍ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ
إذْنِهِمْ
3927- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي
بَابِ رَسُولِ اللَّهِ
(2/345)
- صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يُرَجِّلُ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ
لَهُ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ طَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك إنَّمَا
جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» .
3928- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ
- صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
بِمِشْقَصٍ - أََوْ بِمَشَاقِصَ - فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَخْتِلُ
الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ.
3929- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْك
بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ
عَلَيْك جُنَاحٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ.
3930- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ
لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
3931- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ
إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلا دِيَةَ لَهُ وَلا قِصَاصَ» . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ
الْبَابِ مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ قَصَدَ النَّظَرَ إلَى مَكَان لا يَجُوزُ
لَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ جَازَ لِلْمَنْظُورِ إلَى
مَكَانِهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ وَلا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلا دِيَةَ.
بَابُ النَّهْي عَنْ الِاقْتِصَاصِ فِي الطَّرَفِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ
3932- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا جُرِحَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِيدَ
فَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُسْتَقَادَ مِنْ
الْجَارِحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
3933- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ
رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَقَالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ» .
ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَأَقَادَهُ ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَجْت قَالَ: «قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي
فَأَبْعَدَك اللَّهُ وَبَطَلَ عَرْجُك» . ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ
صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ
بِالْحَدِيثَيْنِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ الِانْتِظَارُ إلَى أَنْ
يَبْرَأ الْجُرْحُ وَيَنْدَمِلُ ثُمَّ يُقْتَصُّ الْمَجْرُوحُ بَعْدَ
ذَلِكَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ
(2/346)
الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ،
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فَقَطْ، وَتَمَسَّكَ
بِتَمْكِينِهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَ الْمَطْعُونَ بِالْقَرْنِ
الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ الْقِصَاصِ قَبْلَ الْبُرْءِ. إلى
أن قال: قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَهَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى
يَبْرَأَ صَاحِبُهُ) . يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاقْتِصَاصِ قَبْلَ
الِانْدِمَالِ.
بَابُ فِي أَنَّ الدَّمَ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ
3934- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنْ يَعْقِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ
عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا وَلا يَرِثُوا مِنْهَا إلا مَا فَضَلَ عَنْ
وَرَثَتِهَا وَإِنْ قَتَلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ
يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.
3935- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «وَعَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ
وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَأَرَادَ بِالْمُقْتَتِلِينَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ الطَّالِبِينَ
الْقَوَدَ وَيَنْحَجِزُوا أَيْ يَنْكَفُّوا عَنْ الْقَوَدِ بِعَفْوِ
أَحَدِهِمْ وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً وَقَوْلُهُ: «الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ»
أَيْ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ
بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدَّمِ
جَمِيعُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الذَّكَرِ
وَالأُنْثَى وَالسَّبَبِ وَالنَّسَبِ فَيَكُونُ الْقِصَاصُ إلَيْهِمْ
جَمِيعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّ
ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَةِ. انتهى.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَوِلايَةُ الْقِصَاصُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ
لَيْسَتْ عَامَّة لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ بَلْ تَخْتَصُّ بِالْعُصْبَةِ.
انْتَهَى.
قَالَ الشَّارِحُ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ
بْنُ رَاشِدٍ الدِّمَشْقِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَتَكَلَّمَ
فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي إسْنَادِهِ حِصْنُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ. قَالَ أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيّ: لا
أَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ الأَوْزَاعِيِّ وَلا أَعْلَمُ أَحَدًا
نَسَبَهُ.
(2/347)
بَابُ فَضْلِ الْعَفْوِ عَنْ الِاقْتِصَاصِ
وَالشَّفَاعَةِ فِي ذَلِكَ
3936- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إلا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا
عِزًّا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
3937- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - أَمْرٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إلا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ.
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.
3938- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ
فَيَتَصَدَّقَ بِهِ إلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ بِهِ
عَنْهُ خَطِيئَةً» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ.
3939- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثٌ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنْ
كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ
فَتَصَدَّقُوا، وَلا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا
وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَلا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إلا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالتَّرْغِيبُ فِي الْعَفْوِ
ثَابِتٌ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
بَابُ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِالإِقْرَارِ
3940- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: إنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّه هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم -: ... «أَقَتَلْتَهُ» ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ لَمْ
يَعْتَرِفْ أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ.
قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ» ؟ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ
شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى
قَرْنِهِ فَقَتَلْته. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
«هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِك» ؟ قَالَ: مَا لِي مَالٌ
إلا كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: «فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك» ؟ قَالَ:
أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ.
وَقَالَ: «دُونَك صَاحِبَك» . قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ فَلَمَّا
وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ قَتَلَهُ
فَهُوَ مِثْلُهُ» . فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي
أَنَّكَ قُلْتَ: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» .
(2/348)
وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك
وَإِثْمِ صَاحِبِك» ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَعَلَّهُ؟ قَالَ:
بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ» . فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى
سَبِيلَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
3941- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - بِحَبَشِيٍّ فَقَالَ: إنَّ هَذَا قَتَلَ أَخِي. قَالَ: «كَيْفَ
قَتَلْته» ؟ قَالَ: ضَرَبْت رَأْسَهُ بِالْفَأْسِ وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ.
قَالَ " «هَلْ لَكَ مَالٌ تُؤَدِّي دِيَتَهُ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ:
«أَفَرَأَيْتَ إنْ أَرْسَلْتُك تَسْأَلُ النَّاسَ تَجْمَعُ دِيَتَهُ» ؟
قَالَ: لا. قَالَ: «فَمَوَالِيك يُعْطُونَك دِيَتَهُ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ
لِلرَّجُلِ: «خُذْهُ» . فَخَرَجَ بِهِ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «أَمَا إنَّهُ إنْ قَتَلَهُ كَانَ
مِثْلُهُ» . فَبَلَغَ بِهِ الرَّجُلُ حَيْثُ سَمِعَ قَوْلَهُ فَقَالَ: هُوَ
ذَا فَمُرْ فِيهِ مَا شِئْت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم
-: «أَرْسِلْهُ يَبُوءُ بِإِثْمِ صَاحِبِهِ وَإِثْمِهِ فَيَكُونَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ
مِثْلُهُ» . قَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا بَعْدَ إذْنِهِ - صلى الله عليه وسلم -
بِالِاقْتِصَاصِ وَإِقْرَارِ الْقَاتِلِ الْقَتْلَ عَلَى الصِّفَةِ
الْمَذْكُورَةِ، وَالأَوْلَى حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ
بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ: «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ»
لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ، وَكَيْفَ يُرِيدُهُ
وَالْقِصَاصُ مُبَاحٌ، لَكِنْ أَحَبَّ لَهُ الْعَفْوَ فَعَرَّضَ تَعْرِيضَا
أَوْهَمَهُ بِهِ أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلَهُ فِي الإِثْمِ
لِيَعْفُوَ عَنْهُ، وَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ نَفْسًا كَمَا
أَنَّ الأَوَّلَ قَتَلَ نَفْسًا، وَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ ظَالِمًا
وَالآخَرُ مُقْتَصًّا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ مِثْلهُ فِي حُكْمِ
الْبَوَاءِ فَصَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ لا فَضْلَ لِلْمُقْتَصِّ إذَا
اسْتَوْفَى عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ رَدْعَهُ عَنْ
قَتْلِهِ، لأَنَّ الْقَاتِلَ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ،
فَلَوْ قَتَلَهُ الْوَلِيُّ كَانَ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ مِثْلَهُ
لَوْ ثَبَتَ مِنْهُ قَصْدُ الْقَتْلِ.
3942- يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -
قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
فَدُفِعَ الْقَاتِلُ إلَى وَلِيِّهِ، فَقَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت قَتْلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم -: «أَمَا إنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَقَتَلْتَهُ دَخَلْتَ
النَّارَ» .
(2/349)
فَخَلاهُ الرَّجُلُ وَكَانَ مَكْتُوفًا
بِنِسْعَةٍ فَخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ، قَالَ: فَكَانَ يُسَمَّى ذَا
النِّسْعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَعَلَّهُ) أَيْ لَعَلَّهُ أَنْ لا
يَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِ صَاحِبِي، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:
«بَلَى» . يَعْنِي بَلَى يَبُوءُ بِذَلِكَ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ
حُجْرٍ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَانِي بِإِقْرَارِهِ
وَهُوَ مِمَّا لا أَحْفَظُ فِيهِ خِلافًا إذَا كَانَ الإِقْرَارُ صَحِيحًا
مُتَجَرِّدًا عَنْ الْمَوَانِعِ.
بَابُ ثُبُوتِ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ
3943- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ
بِخَيْبَرَ مَقْتُولًا فَانْطَلَقَ أَوْلِيَاؤُهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «لَكُمْ شَاهِدَانِ
يَشْهَدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ» ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا هُمْ يَهُودٌ
قَدْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا قَالَ: «فَاخْتَارُوا
مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَاسْتَحْلِفُوهُمْ» . فَوَدَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
3944- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ ابْنَ
مُحَيِّصَةُ الأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقِمْ شَاهِدَيْنِ
عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» . قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ وَإِنَّمَا أَصْبَحَ
قَتِيلاً عَلَى أَبْوَابِهِمْ؟ قَالَ: «فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً» .
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ أَعْلَمْ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَاسْتَحْلِفْ
مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
نَسْتَحْلِفُهُمْ وَهُمْ الْيَهُودُ؟ فَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا. رَوَاهُ
النَّسَائِيّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْكَلامُ عَلَى مَا
اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَسَامَةِ يَأْتِي فِي
بَابِهَا، وَأَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِمَا
عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ.
(2/350)
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقَسَامَةِ
3945- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقَرَّ
الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
3946- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ - وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ - فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ
ابْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ثُمَّ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ سَهْلٍ
وَمُحَيِّصَةَ وَحُوَيِّصَةُ - ابْنَا مَسْعُودٍ - إلَى النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ:
«كَبِّرْ كَبِّرْ» وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا قَالَ:
... «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ» ؟
فَقَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ:
«فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» ؟ فَقَالُوا: كَيْفَ
نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
3947- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم -: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» . قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ
نَحْلِفُ؟ قَالَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ»
؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
بِنَحْوِهِ.
وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: لا يُقْسِمُونَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ.
3948- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم -: «تُسَمُّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمَّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ
يَمِينًا ثُمَّ نُسَلِّمُهُ» .
3949- وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ» ؟ قَالُوا: مَا لَنَا مِنْ بَيِّنَةٍ
قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ» ؟ قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ
فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ
فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ.
3950- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلا فِي الْقَسَامَةِ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
(2/351)
3951- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ
أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْيَهُودِ - وَبَدَأَ
بِهمْ -: «يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا» ؟ فَأَبَوْا فَقَالَ
لِلأَنْصَارِ: «اسْتَحِقُّوا» . فَقَالُوا: أَنَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
دِيَةً عَلَى الْيَهُودِ لأَنَّهُ وُجِدَ بَيْن أَظْهُرِهِمْ. رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (أَقَرَّ
الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)
الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ صِفَتهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ
كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ كَانَ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخْذٍ أُخْرَى،
فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إبِلِهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
قَدْ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جَوَالِقِهِ فَقَالَ: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ
أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جَوَالِقِي لا تَنْفِرُ الإِبِلُ، فَأَعْطَاهُ
عِقَالًا فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جَوَالِقِهِ، فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتْ
الإِبِلُ إلا بَعِيرًا وَاحِدًا. فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: مَا بَالُ
هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ
عِقَالٌ. قَالَ: فَأَيْنَ عِقَالُهُ؟ فَحَذَفَهُ بِعَصًا كَانَ فِيهِ
أَجَلُهُ،
فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ
الْمَوْسِمَ؟ قَالَ: مَا أَشْهَدُهُ وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ. قَالَ: هَلْ
أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنْ الدَّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِذَا شَهِدْتَ فَنَادِ: يَا قُرَيْشُ، فَإِذَا أَجَابُوكَ
فَنَادِ: يَا آلَ هَاشِمٍ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ
فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلانًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ وَمَاتَ
الْمُسْتَأْجَرُ. فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو
طَالِبٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا؟ قَالَ: مَرِضَ فَأَحْسَنْتُ
الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَوَلِيتُ دَفْنَهُ. قَالَ: قَدْ كَانَ أَهْلُ ذَاكَ
مِنْكَ، فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إلَيْهِ
أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ: يَا قُرَيْشُ. قَالُوا:
هَذِهِ قُرَيْشٌ. قَالَ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ. قَالُوا: هَذِهِ بَنُو
هَاشِمٍ. قَالَ: أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو طَالِبٍ،
قَالَ: أَمَرَنِي فُلانٌ أَنْ أُبَلِّغَكَ رِسَالَةً إنَّ فُلانًا قَتَلَهُ
فِي عِقَالٍ، فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: اخْتَرْ مِنَّا إحْدَى
ثَلاثٍ: إنْ شِئْتَ أَنْ تُؤدِي مِائَةً مِنْ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ
صَاحِبَنَا، وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ أَنَّكَ لَمْ
تَقْتُلْهُ، فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ، فَأَتَى قَوْمَهُ
فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: نَحْلِفُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي
هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ،
فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيرَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ
مِنْ الْخَمْسِينَ وَلا تَصْبِر يَمِينُهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ،
(2/352)
فَفَعَلَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ
فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْت خَمْسِينَ رَجُلًا أَنْ يَحْلِفُوا
مَكَانَ مِائَةٍ مِنْ الإِبِلِ فَيُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
بَعِيرَانِ، هَذَانِ الْبَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا مِنِّي وَلا تَصْبِرْ
يَمِينِي حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ، فَقَبِلَهُمَا، وَجَاءَ ثَمَانِيَةُ
وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالأَرْبَعِينَ
عَيْنٌ تَطْرِفُ.
قَوْلُهُ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ» . فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ. إِلَى أَنْ قَالَ:
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ
عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ وَادِعَةَ وَشَاكِرٍ،
فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا
فَوَجَدُوهُ إلَى وَادِعَةَ أَقْرَبَ، فَأَحْلَفَهُمْ عُمَرُ خَمْسِينَ
يَمِينًا كُلّ رَجُلٍ مَا قَتَلْته وَلا عَلِمْتُ قَاتِلَهُ، ثُمَّ
أَغْرَمَهُمْ الدِّيَةَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا
أَيْمَانُنَا دَفَعَتْ عَنْ أَمْوَالِنَا، وَلا أَمْوَالُنَا دَفَعَتْ عَنْ
أَيْمَانِنَا. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ الْحَقُّ وَأَخْرَجَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ
لَيْثٍ أَجْرَى فَرَسًا فَوَطِئَ عَلَى أُصْبُعِ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ
فَمَاتَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلَّذِينَ ادَّعَى عَلَيْهِمْ: أَتَحْلِفُونَ
خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا، فَأَبَوْا. فَقَالَ لِلآخَرِينَ:
احْلِفُوا أَنْتُمْ، فَأَبَوْا، فَقَضَى عُمَرُ بِشَطْرِ الدِّيَةِ عَلَى
السَّعْدِيِّينَ.
قَوْلُهُ: «فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ
وَهِيَ الْحَبْلُ الَّذِي يُقَادُ بِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ
قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ بِالْقَسَامَةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ
وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَمُعْظَمُ الْحِجَازِيِّينَ. إِلَى
أَنْ قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -:
«يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ
بِرُمَّتِهِ» أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ
الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ
أَكْثَرَ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَخْتَصُّ الْقَتْلُ بِوَاحِدٍ مِنْ
الْجَمَاعَةِ الْمُعَيَّنِينَ أَوْ يُقْتَلُ الْكُلُّ إِلَى أَنْ قَالَ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ عَلَى مُعَيَّنٍ كَانَ الْوَاجِبُ فِي
الْعَمْدِ الْقَوَدَ وَفِي الْخَطَأ الدِّيَةَ فَمَا وَجْهُ إيجَابِ
الْقَسَامَةِ؟ فَيُقَالُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ
بَيِّنَةٌ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مُصَادَقَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ
لَوْثٍ، فَإِنَّ اللَّوْثَ فِي الأَصْلِ هُوَ مَا يُثْمِرُ صِدْقَ
الدَّعْوَى، وَلَهُ صُوَرٌ مِنْهَا:
(2/353)
وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي بَلَدٍ يَسْكُنُهُ
مَحْصُورُونَ، فَإِنْ كَانَ يَدْخُلُهُ غَيْرُهُمْ اُشْتُرِطَ عَدَاوَةُ
الْمُسْتَوْطِنِينَ لِلْقَتِيلِ كَمَا فِي قِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ.
وَمِنْهَا: وُجُودُهُ فِي صَحْرَاءَ وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ رَجُلٌ فِي
يَدِهِ سِلاحٌ مَخْضُوبٌ بِالدَّمِ
وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ. وَمِنْهَا وُجُودُهُ بَيْنَ صَفَّيْ
الْقِتَالِ، وَمِنْهَا: وُجُودُهُ مَيِّتًا بَيْنَ مُزْدَحِمِينَ فِي سُوقٍ
أَوْ نَحْوِهِ. وَمِنْهَا: كَوْنُ الشُّهَّادِ عَلَى الْقَتْلِ نِسَاءً
أَوْ صِبْيَانًا لا يُقَدَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَمِنْ صُوَرِ
اللَّوْثِ أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ فِي حَيَاتِهِ دَمِي عِنْدَ فُلانٍ
أَوْ هُوَ قَتَلَنِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَمِنْهَا: إذَا كَانَ الشُّهُودُ
غَيْرَ عُدُولٍ أَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهَا لا تَجِبُ
الْقَسَامَةُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الأَوْلِيَاءِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا
شُبْهَةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْحُكْمُ بِهَا.
قَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ
أَنْكَرَ إلا فِي الْقَسَامَةِ» قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ
بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْقَسَامَةِ مُخَالِفَةٌ لِمَا
عَلَيْهِ سَائِرُ الْقَضَايَا مِنْ إيجَابِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. انْتَهَى.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: قَالَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ الإِمَامِ
أَحْمَدٍ: أذهب إِلَى الْقسامَةِ إِذَا كَانَ ثَمَّ لَطْخٌ وَإِذَا كَانَ
سَبَبٌ بَيّنٌ، وَإِذَا كَانَ ثَمَّ عَدَاوَةٌ وَإِذَا كَانَ مِثْلُ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفْعَلُ هَذَا. انْتَهَى.
بَابُ هَلْ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ أَمْ لا؟
3952- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ
عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ
رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ،
فَقَالَ: «اُقْتُلُوهُ» .
3953- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ
الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ
تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ،
وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي» .
3954- وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ
سَعِيدٍ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا
الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم -
(2/354)
الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ
أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ
بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ مَكَّةَ
حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلا
يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ
أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا
بِالأَمْسِ، فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» . فَقِيلَ لأَبِي
شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَاكَ مِنْك
يَا أَبَا شُرَيْحٍ إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلا فَارًّا
بِدَمٍ وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ.
3955- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ حَرَّمَهُ
اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ
بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ
الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلا سَاعَةً مِنْ
نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
مُتَّفَقٌ عَلَى أَرْبَعَتِهِنَّ.
3956- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه
وسلم - قَالَ: «إنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ
قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ
الْجَاهِلِيَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3957- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ نَحْوُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا
هُجْتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي الَّذِي يُصِيبُ حَدًّا ثُمَّ يَلْجَأُ إلَى
الْحَرَمِ -: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ.
حَكَاهُمَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: «إنَّ أَعْدَى
النَّاسِ» فِي رِوَايَةٍ: إنَّ أَعْتَى النَّاسِ إلى أن قال: وَقَدْ ذَهَبَ
إلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَرَمَ لا يَعْصِمُ
مِنْ إقَامَةِ وَاجِبٍ، وَلا يُؤَخَّرُ لأَجْلِهِ عَنْ وَقْتِهِ. وَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِالْحَرَمِ
دَمًا وَلا يُقِيمُ بِهِ حَدًّا حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهُ مَنْ لَجَأَ
إلَيْهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَرَقَ
أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ. انْتَهَى
مُلَخَّصًا.
(2/355)
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ
وَالتَّشْدِيدِ فِي الْقَتْلِ
3958- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
«أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»
. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَبَا دَاوُد.
3959- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ
الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ ...
الْقَتْلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3960- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ
لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ.
3961- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلا
الرَّجُلَ يَمُوتُ كَافِرًا، أَوْ الرَّجُلَ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
3962- وَلأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ كَذَلِكَ.
3963- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ
بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ
وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» . ... فَقِيلَ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ
الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
3964- وَعَنْ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ
جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ
الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي
بِنَفْسِهِ حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . أَخْرَجَاهُ.
3965- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ
يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا
فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ
يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا
وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَرَدٍّ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» .
(2/356)
3966- وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ
رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا ... رَسُولَ اللَّهِ
أَرَأَيْت إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ
إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ
فَقَالَ: أَسْلَمْت لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ
أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: «لا تَقْتُلْهُ» . قَالَ: فَقُلْت يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ يَدِي ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا
أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ: «لا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ
بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ
يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
3967- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم - إلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ
فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ
فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ
فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي
إلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاك
مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا
أَفْسَدْتَ فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَلِيَدَيْهِ
فَاغْفِرْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
3968- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ -: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا
وَلا تَسْرِقُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا
بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلا
تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ
كَفَّارَتَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ
فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» .
فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
3967- وَفِي لَفْظٍ: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إلا بِالْحَقِّ» .
3970- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيُّ - رضي الله عنه - أَنَّ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ
الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ قَتَلَ
تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا.
فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ
(2/357)
الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ
فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ مَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ
إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ
فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إلَى أَرْضِك فَإِنَّهَا أَرْضُ
سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ،
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ،
فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا فَقَبِلَهُ
اللَّهُ، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا
قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ،
فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ
الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا
فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَهُ مَلائِكَةُ
الرَّحْمَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
3971- وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ - يَعْنِي النَّارَ -
بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ
مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
قَوْلُهُ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْم الْقيَامَة فِي
الدِّمَاءَ» قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ الْقَتْلِ، لأَنَّ الِابْتِدَاءَ إنَّمَا يَكُونُ
بِالأَهَمِّ.
قَوْلُهُ: «فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالَ فِي
الْفَتْحِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى كَوْنِهِمَا فِي النَّارِ
أَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَمْرَهُمَا إلَى اللَّهِ
تَعَالَى إنْ شَاءَ عَاقَبَهُمَا ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا مِنْ النَّارِ
كَسَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمَا أَصْلاً وَلا
حُجَّةَ فِيهِ لِلْخَوَارِجِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ
أَهْلَ الْمَعَاصِي مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ
يَرَ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ وَهُمْ كُلُّ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ
عَلِيٍّ فِي حُرُوبِهِ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
إلَى وُجُوبِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَقِتَالِ الْبَاغِينَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ
السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عُرِفَ الْمُحِقُّ مِنْهُمْ
لأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إلا عَنْ اجْتِهَادٍ، وَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْ الْمُخْطِئ فِي الِاجْتِهَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَالَ الشَّارِحُ: وَحَدِيثُ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
يَدُلانِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ مِنْ الْمُخَلَّدِينَ فِي
النَّارِ، فَيَكُونُ عُمُومُ إخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مُخَصَّصًا بِمِثْلِ
هَذَا وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ وَظَاهِرُ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ
يُخَالِفُهُمَا فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي
(2/358)
قَطَعَ بَرَاجِمَهُ بِالْمَشَاقِصِ وَمَاتَ
مِنْ ذَلِكَ أَخْبَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
غَفَرَ لَهُ، وَوَقَعَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - التَّقْرِيرُ
لِذَلِكَ بَلْ دَعَا لَهُ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
قَتْلَ نَفْسِهِ. انتهى. قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} .
قَوْلُهُ: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
إلَى أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ. قَوْلُهُ: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ
وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» قَالَ الْمَازِرِيُّ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى
الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَرَدٌّ عَلَى
الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَعْذِيبَ الْفَاسِق إذَا مَاتَ بِلا
تَوْبَةٍ، لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ
تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
قَوْلُهُ: «انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا» إلى آخره قَالَ
الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ مُفَارَقَةِ التَّائِبِ
لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوبَ، وَالأَخْدَانِ
الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتِهِمْ مَا دَامُوا عَلَى
حَالِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِمْ صُحْبَةَ أَهْلِ الْخَيْرِ
وَالصَّلاحِ وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ عَمْدًا.
(2/359)
|