شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [1]
من شروط الصلاة: طهارة البدن واللباس والمكان الذي تصلي فيه، ويجوز الصلاة بالنعلين الطاهرتين إذا لم يكن هناك مانع مثل أن يكون المسجد مفروشاً ويخشى تضرر الفراش بالنعال، أو إذا كانت الصلاة بالنعال ستسبب فتنة وخلافاً.


مسائل في الصلاة


طهارة النعلين من الأذى والمراد به
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب) أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان] .
تقدم شيء من الكلام على الصلاة في النعلين، وجاء المؤلف رحمه الله تعالى تبعاً لذلك بهذا الحديث، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فطهورهما التراب) ، والحديث المتقدم هو: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإذا رأى أذى أو قذراً فليمسحهما في التراب وليصل فيهما) ، وهما دليلان على طهارة النعل بالمسح بالتراب.
والأذى والقذر حمله بعض العلماء على النجاسة، والتحقيق أنهما أعم من كونهما نجسين، قال البيهقي: يحتمل أن يكون الأذى من الطاهر المستقذر، كما يقولون عن الطين الذي في الطريق: هو أذى مع أنه طاهر.
وقال الشافعي رحمه الله: اليابس من القذى أو الأذى أو ما هو أخص كالنجاسة يطهر إذا ذهبت منه العين، وذهب اللون، وذهبت الرائحة.
أما إذا كان النعل به أذى أو قذى -على المعنى الأعم أو المعنى الأخص- رطباً فيقول الشافعي رحمه الله: لا يطهره إلا الماء.
وجاء عن مالك رحمه الله تعالى أن الحديث محمول على ما يستقذر في اليابسات، فإذا مر على يابس مستقذر وعلق شيء منه، فإنه إذا مر على يابس آخر طهره، كما جاء في إطالة ذيل ثوب المرأة، فإن اليابس الآخر الطاهر سيستخلص ما علق بذيل المرأة من الأذى أو القذى اليابس، ولن يبقى شيء هناك.
وقد حكى مالك رحمه الله الإجماع على أن النجاسة لا تطهر إلا بالماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي يقول: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة لأن النجاسة عنده حكم ظاهر المراد إزالة عينها، والجمهور أنه تعبدي، ولا يستعمل في إزالة النجاسة إلا الماء، ومن هنا قال البيهقي: يحتمل أن يكون الأذى أو القذى هو كل طاهر مستقذر.
ويقول الآخرون: لو أن إنساناً لم يلبس النعل، ومشى حافياً، ووطئ الأذى أو القذى، وكان في هذا الأذى أو في هذا القذى نجاسة، فهل تطهر قدمه بدلكها في التراب، أم يتعين عليه غسلها؟ قالوا: إن النجاسة في الثوب والبدن لا يزيلها إلا غسلها بالماء، وكذلك النجاسة إذا كانت معروفة بالحواس، فإما أن تعرف بالرؤية بلونها، أو بالشم برائحتها، أو بالجرم بالعين، فلا بد من إزالة عينها وإزالة رائحتها وإزالة لونها، وإلا فلا يصح أن يصلي بهذه النعل.


حكم الصلاة في النعلين
هذا الموضوع يهم في الدرجة الأولى طلبة العلم؛ لأن العامة لا يصلون في النعلين تحرجاً، والذي يفعل ذلك -خاصة في هذه الآونة- هم بعض الإخوة طلبة العلم؛ لحديث: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، وفيها أمر بالصلاة في النعلين.
وأنبه إلى الرجوع في هذا إلى معالم السنن، وإلى شرح السنة، أو إلى سنن أبي داود، أو إلى سنن الترمذي، أو إلى فتح الباري، أو إلى شرح ابن دقيق العيد للعمدة فسنجد حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ فقال: نعم.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شاء فليصل في نعليه، ومن شاء فليخلعهما) ، وعلقوا على ذلك لأن هذا ناسخ للأمر الذي جاء في حديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، قالوا: (فليصل) هنا أمر، نسخه عن الوجوب قوله: (إن شاء) .
قال ابن دقيق العيد في مبحث دقيق نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد) ، وكذلك ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، حيث كان في فتح مكة -وقيل: بالمدينة- فقرأ بأول سورة المؤمنون، وأخذته كحة فاختصر القراءة، وقد أمره جبريل أن يخلع نعليه فخلعهما، فخلعوا نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على خلع نعلكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا.
قال: أما إنه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتهما) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر.
إلخ) ، فهذا تتمة لحديث جبريل عليه السلام.
قال بعض العلماء: جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد أن دخل في الصلاة، وفي رواية من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه جعلهما عن يساره، ثم قال: (إذا خلع أحدكم نعليه وصلى فلا يجعلهما عن يمينه، ولا عن يساره فيؤذي بهما جاره) ، وفي بعض الروايات: (لا يجعلهما عن يمينه ولا عن يساره فتقع عن يمين جاره) ، وعلّق على ذلك الخطابي بأن هذا من باب احترام الجوار، واحترام الصلاة.
لذا ينبغي أن يجعل الإنسان في الجانب الأيمن أفضل النعلين.
قال صلى الله عليه وسلم: (وليجعلهما بين قدميه) ، فهذه هي السنة في وضع النعلين، فإذا كان يريد ابتداءً أن يصلي، ويريد أن يضع النعلين فلا يضعهما عن يمينه؛ لأن هذا -كما يقال- ليس من الاحترام الكامل، ولا عن يساره فيأتي أحد فيصلي بجواره فتكون نعليه عن يمين هذا المصلي فيؤذيه بها، ولا تلقاء وجهه؛ لأنه إذا سجد ستكون أمامه، فيكون هذا المنظر غير لائق بالصلاة، ولكن ليجعلهما بين قدميه.
قالوا: هناك جزء مضى من الصلاة قبل أن يخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبريل وأخبره بالأذى، فلو قدرنا أن الأذى كناية عن النجاسة فكيف يُقَرُّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوقع جزءاً من صلاته وهو متلبس بنجاسة، وكان الأولى أو الأنسب أو المتوقع أن يبادر جبريل عليه السلام فيخبره قبل أن يدخل في الصلاة بتلك النجاسة؛ لأن الأكمل في حقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أطهر وأبعد من هذا كله؟ قالوا: كلمة (أذى) لا تحمل على النجاسة؛ لأنها لو كانت نجاسة لكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر صلى بنجاسة، وهذا لا يليق، ولا تصح الصلاة به، وكذا قال البيهقي في السنن: يحتمل قوله: (قذى أو أذى) أنه طاهر يستقذره الناس، أو طاهر مستقذر.
قال ابن دقيق العيد: قوله في الحديث: (فليحتهما، وليصل فيهما) ليس دليلاً على استحباب الصلاة في النعلين، وإنما هو إباحة بمعنى الرخصة، وقال: أما كونه مستحباً فليس بوارد؛ لأنه ليس من الزينة التي أمرنا بأخذها عند المساجد في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، فإن كان داخلاً في معنى الزينة فهو مطلوب ومستحب، ولكن النعل يلامس الأرض، ويخالط الأذى والقذى، فيضعفه ذلك عن منزلة الاستحباب، ولا يدخل في الآية.
وقال: إن إزالة النجاسة هي المرتبة الأولى في التشريع؛ لأنها من درء المفاسد، ودرء المفاسد إنما هو في الضروريات كما يقال، وأخذ الزينة هو الدرجة الثانية، والتشريع يدور حول درء المفاسد وجلب المصالح من التحسينيات والكماليات إلى كل ركن في الإسلام.
والاستحسان يدخل في جميع العبادات، وهو الترقي بتلك العبادة، فمن باب الاستحسان أخذ الزينة، وكمال اللباس، والعناية بالنظافة، وطهارة الثياب والمكان طهارة كاملة، وقد جاء في الحديث: (ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته) ، وكذلك أن يغتسل، وأن يتطيب، فهذا استحباب، والأصل هو صلاة الجمعة.
فدرء المفاسد بتجنب النجاسات هو درجة أعلى، وأشد طلباً من درجة الاستحسان والكمال، فالحفاظ على ترك النجاسة أولى في التشريع وأهم من الحفاظ على الزينة في اللباس.
قال: فليس هناك داعٍ إلى الصلاة في النعلين، إلا إذا كان داخلاً في عموم قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، وهذه هي الدرجة الثانية في التشريع، وتجنب النجاسة هي الدرجة الأولى في التشريع.
قال: وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على استحباب الصلاة في النعلين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قال: (إن شئت فاخلعها، وإن شئت فصل فيهما) .
ونحن في هذه المسألة بحاجة إلى التوسع والاستقصاء؛ لما يحدث فيها من أخذ وعطاء مع بعض الإخوة الغيورين على السنة، وهم يقولون: إن التعليل هو قوله عليه الصلاة والسلام: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم) .
فما دام ان ابن دقيق العيد يقول: الصلاة في النعلين ليست مستحبة، وغيره يقول: هي مسنونة -كما قال الشوكاني الذي جمع كل هذه الأقوال التي أشرت إلى مراجعها، وانتهى إلى أن الأصل المشروعية- فنقول: الأصل جواز الصلاة في النعلين، وهي مشروعة، ولكن مع التحفظ من وجود أذى أو قذى، ولو كان لابس الخفين وفوق الخفين نعلان يباشر بهما الأرض فإنه يصلي بالخفين ولا غبار على ذلك، ولا أحد ينكر عليه.
أما النعلان اللذان يباشر بهما الطريق، ويدخل بهما بيت الخلاء فإنه قد يتساهل في نظافتهما، ولا يكفي أن ينظر فيهما ويحتهما في التراب، فهل هو بهذا الحت قد طهرهما؟ فالأئمة رحمهم الله اختلفوا في تحقيق المناط في تطهير النعلين بالحت حتى ذهاب عينها وذهاب لونها وذهاب رائحتها، وهناك من يقول: هذا في اليابسات وهناك من يقول: يحتمل أن يكون هذا في الطاهر المستقذر.
فالأحوط أنه لا حاجة إلى الإصرار على الصلاة في النعلين، مادام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى منتعلاً وصلى حافياً، أي: صلى على كلتا الحالتين.
ولو أن إنساناً في سفر نزل في أرض فلاة وهو بنعليه، فنظر فيهما فلم يجد فيهما أذى ولا قذى، ولا يستطيع أن يصلي على الحصباء؛ لأنه يتأذى من ذلك فنقول: يصلي في نعليه لهذه الحاجة، ولا مانع من ذلك، فإذا لم يكن هناك حاجة فليخلعهما.
فالصلاة في النعلين رخصة يباح فعلها، والرخصة معللة بقوله: (خالفوا اليهود) ، فهل نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ أشرنا أنها لا تدخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه ليس هناك الأمر المطلق بالصلاة في الخف، وإنما لعلة بذاتها، والذي يهمنا الآن هو تنبيه الإخوة ألا يجعلوا هذه المسألة مثار خلاف ونزاع بينهم.
ومن الحكمة النبوية الكريمة أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يترك الأمر الذي يحبه ويتقرب بفعله لما يترتب عليه من مفاسد أخرى، ومن ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعلى عنها عندما سألته أن يدخلها الكعبة لتصلي فيها، فأخذ بيدها وقال: (صلي في الحجر؛ فإنه من البيت) ، وذكر أن قومها قصرت بهم النفقة عن إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، فتركوا من البيت جزءاً حجروا عليه حتى لا يضيع في المسح، ثم قالت: ما بال الباب مرتفعاً؟ قال: (ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا حداثة قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولأقمتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: باب للداخل، وباب للخارج، وسويتهما بالأرض) ، فهو رغب أن يجعل الكعبة على تلك الحالة، ولكن ترك ذلك مراعياً ما يترتب عليه من رد الفعل في نفوس قريش؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بشرك.
وكذلك لما شرب من بئر زمزم قال للسقاة: (انزعوا يا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم) ، فرغب أن يأخذ الدلو ويسقي نفسه، ولكن خاف أن يأتي كل مسلم فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزع بالدلو فأنا أنزع مثله، فإذا أراد جميع الحجاج أن ينزعوا بالأدل فيسغلبون السقاة على زمزم.
فكان صلى الله عليه وسلم يترك الشيء الذي يرغب فيه خوفاً مما يترتب عليه، وهذا يسميه علماء الأصول سد الذرائع، وهو ترك الجائز مخافة الوقوع في الحرام، والأصل فيه من كتاب الله قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، فلو أنكم سببتم أصنامهم فهذا ليس فيه مانع، وهي تستحق ذلك، ولكن إن فعلتم ذلك فنتيجة ذلك أن يسبوا الله، فلو أنكم سببتم آلهتهم سبوا إلهكم.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل أباه؟ قال: نعم.
يسب أبا الرجل فيسب أباه) ، فهو السبب في سب أبيه.
وأذكر قصة لشخص أشهد الله أني أراه على الفطرة، وهو إنسان فيه خير كثير، وكانت مخالطته للناس قليلة، وكان يحافظ على الصلوات جماعة، وكان يلبس نعلين كبيرتين ويصلي بهما، وكان معه عصا منحنية يتوكأ عليها، ففي يوم من الأيام في صلاة العصر صلى بجانبي، وعكس ا


حكم الكلام في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم] .
هذا من بيان شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة إذا وقع فيها كلام الناس، ويراد بكلام الناس الكلام الذي منشأه من الناس، وإلا فالناس يتكلمون بالتسبيح والتكبير وغير ذلك مما أصله من التشريع، بأن يكون نصاً قرآنياً، أو حديثاً نبوياً، فإذا قرأ الإنسان القرآن فهذا كلامه، والأصل فيه أنه كلام المولى سبحانه، وهذه قضية عقدية لها مكانها.
ونعلم جميعاً أنه إذا قال إنسان: (اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم) فهذا ليس من كلام الناس؛ لأن الله أمر بأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت الصيغ فالأولى أن يتحرى الإنسان الصيغ الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنواع الصلاة الإبراهيمية في تشهد الصلاة.
فكلام الناس هو ما أنشأه الناس من عندهم، وإذا جئنا إلى بعض المواطن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المصلي في سجوده أن يجتهد في الدعاء، فقال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء) ، فالدعاء قد يكون من كتاب أو سنة، وقد يكون من كلام الإنسان يسأل الله حاجة له خاصة، فيقول: اللهم! اشف ولدي اللهم! نجح ولدي، اللهم! رد علي غائبي بخير.
فهذا كلام الإنسان في مصلحته الشخصية، وعموم الدعاء مطلوب ومشروع، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى ورغب الإنسان أن يدعو الله في السجود.
قال بعض العلماء: يجوز أن تدعو الله بما ورد في الكتاب على تأويل الدعاء، لا على تأويل التلاوة، فتقول -مثلاً-: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ... ) ، (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين) .
فهذه ألفاظ دعوات يأخذها الإنسان من الكتاب، ويتكلم بها لا على أنها تلاوة، ولكن على أنها دعاء وطلب.
ولهذا فإن الجنب والحائض إذا أتيا بهذه الألفاظ من الأدعية من الكتاب وهما لا يريدان تلاوة، وإنما يريدان التعبد بالدعاء بهذه الألفاظ فلا مانع، وإن كان الجنب والحائض يمنعان من تلاوة القرآن، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا، ولا حرفاً واحداً) .
فكلام الناس المراد به ما عدا ما شرعه النبي عليه صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتكبير؛ لأن المصلي يحمد الله، سواءٌ كان في الفاتحة، أم عند الرفع من الركوع، والتسبيح يكون في الركوع وفي السجود، وهذا من كلامه، فيسبح الله ويحمد الله.
والمنهي عنه في الصلاة هو ما يبينه الحديث الذي يأتي بعده: (يكلم أحدنا صاحبه في حاجته) ، كأن يقول: أين كنت أمس؟! وكيف حال المريض الذي كان عندكم؟! وما هو السعر اليوم في السوق؟ وهل فلان أتى أم لم يأت؟ فكلام الناس هذا الذي في مصلحة الناس لا دخل له في العبادة، ولا يجوز في الصلاة.
وقد كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير ... ) إلخ.


الدعاء بما لم يرد
مسألة: هل للمصلي أن يسأل الله في قنوته أو في سجوده بما أراد، أو يتقيد بما هو وارد؟ بعض المالكية يقول: ما هو مشروع في العبادة يتقيد به، كالقنوت في الصلاة، والقنوت في النوازل، فينبغي أن يتقيد القانت بما ورد من الدعاء في تلك المناسبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل من كلام الناس شيئاً؛ لأن القنوت عبادة.
وهناك من يقول: ما دام الباب باب دعاء فله أن يدعو بالمناسب، والرسول صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وقد سماهم بأعيانهم كما في قصة أصحاب الرجيع، وهم القراء الذين استشهدوا.
مسألة: إذا كان في الصلاة فهل له أن يتكلم بالقرآن مخاطباً لإنسان سأله عن شيء، أو استفسر عن شيء، أو رأى شيئاً ويريد أن ينبه عليه فتلا آية من كتاب الله ليدل على المطلوب؟ الجمهور يقولون: لا.
لأن هذا يخرج القرآن إلى كلام الناس فيجيب به الآخرين.
وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم كان في صلاة النافلة يأذن بالتنحنح، أو يرد السلام بإشارة اليد.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) يدل على أنه لا ينبغي لإنسان وهو في الصلاة أن يتكلم بكلام الناس، ولو فعل بطلت صلاته، ولو كان حرفاً واحداً يؤدي معنى.
فلو أن إنساناً وقف بجوارك وقال: أجاء زيد؟ فقلت: (لا) فهذا حرف، لكن هذا الحرف يتضمن نفي جملة، أي: لم يأت.
لأن النفي هنا راجع إلى جملة المجيء، وأنت تقول: (لا) ، فـ (لا) وحدها ليست كلمة، كما قال ابن مالك في الألفية: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم فكلمة (استقم) هي كلمة واحدة، وهو يقول: كلامنا لفظ مفيد.
ويقول النحاة: لفظ مركب.
والإفادة حصلت بكلمة (استقم) ؛ لأن المعنى: (استقم أنت) ، فهي كلمة متضمنة جملة كاملة.
وكذلك الحروف المستعملة في المعاني، نحو: يا زيد فـ (يا) تقوم مقام الفعل: (أناديك) ، فكذلك إذا حصل كلام ولو بحرف واحد يؤدي معنى يحسن السكوت عليه فحينئذٍ تبطل الصلاة.


نسخ جواز الكلام في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن زيد بن أرقم أنه قال: (إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هذا الحديث يشعر بأن الصلاة مرت بأطوار، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن الصلاة مرت بثلاث حالات، منها الإعلام بها، فكان يعلم أحدهم صاحبه بالصلاة، فهذا الطور الأول، ثم جاء الأذان بعد ذلك.
وكان الرجل المسبوق يأتي فيسأل من في الصف: كم صليتم؟ فيشير بأصابعه ولا يتكلم: صلينا ركعة أو صلينا اثنتين، فيصلي المسبوق ما فاته بسرعة، ثم يلحق الإمام في الركعة التي هو فيها، ويتساوى معه في عدد الركعات، فإذا أتم الإمام صلاته يكون هو أيضاً قد أتم؛ لأنه أتى بما سبق به أول ما جاء، فإذا سلم الإمام سلم معه؛ لأنه أتى بما نقص عليه قبل أن يتابع الإمام.
فجاء معاذ بن جبل وقال: والله لا أجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة في الصلاة إلا تابعته عليها.
فجاء ذات مرة وقد فاته من الصلاة شيء، فدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، ولم يأت بشيء قبل، ولم يسأل أحداً، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم علم ما الذي فاته من صلاته، فقام يقضي ما فاته، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل من معاذ فقال لهم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاقضوها) .
فكان الواحد منهم يكلم صاحبه في الصلاة بحاجته، حتى نزل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] .
ونص الآية الكريمة فيه عطف الخاص على العام، وهذا يستدعي الاهتمام بهذا الخاص على أفراد عمومه، ومثله قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] ، فجبريل داخل في عموم (ملائكته) ، ولكن عطف جبريل على عموم الملائكة يدل على خصوصية جبريل عليه السلام؛ لأن اليهود لما سألوا: من الذي يأتيك بالوحي يا محمد؟! قال: (جبريل) .
قالوا: هذا عدونا من الملائكة؛ لأنه يأتي بالعذاب، وأما ميكائيل فهو صديقنا؛ لأنه يأتي بالأرزاق.
فهم أبدوا عداوة لجبريل بخصوصه، فجاءت الآية الكريمة ترد عليهم: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] ، وخص جبريل الذي يتخذونه عدواً، فيكون عطف جبريل عليه الصلاة والسلام على عموم الملائكة لأمر أثاره اليهود بخصوصه هو.
وهنا كذلك قال الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، والصلوات خمس صلوات، والوسطى منها بلا شك، فخص الوسطى من تلك الصلوات بالحث عليها بذاتها، فتكون موضع عناية ورعاية أكثر من عموم الصلوات الداخلة في اللفظ العام: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] .


اختلاف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد الصلاة الوسطى، فـ مالك رحمه الله يقول: هي صلاة الصبح.
وقال بعضهم: كل الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى؛ لأن الوسطية في الصلوات نسبية.
ولكن لو قلنا: الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى فمعناه أن الصلوات الخمس كلها صلوات وسطى، ونحن عندنا الوسطى واحدة فقط كما في هذه الآية؛ لأنه تعالى قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، ثم خص واحدة من تلك الصلوات وجعلها الوسطى.
فـ مالك رحمه الله قال: إنها صلاة الصبح.
والجمهور يقولون: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
فما موجب تخصيص مالك لصلاة الصبح؟ وما موجب تخصيص الجمهور لصلاة العصر؟ أما مالك رحمه الله فإنه نظر إلى شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الصبح، وقوله: (لقد هممت أن آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، فأحرق على أناس بيوتهم) ، وهم: الذين لم يشهدوا صلاة الصبح.
وأي اهتمام أكثر من هذا، فهو قد هم أن يحرق البيوت على من فيها لأنهم لم يصلوا الصبح، ولكن البيوت فيها النساء، وليست الجماعة واجبة عليهن، والبيوت فيها الصبيان وليست عليهم الفريضة، فكونه يقول: (لقد هممت) والرسول صلى الله عليه وسلم ما يهم بأمر إلا وهو مهتم بشأنه يدل على عظم قدر صلاة الصبح.
قال مالك: هذا الاهتمام أشد ما سمع؛ لأنه في سبيل أن يحرق على الناس بيوتهم، وفيهم من ليس مكلفاً بالصلاة.
وقال أيضاً: صلاة الصبح هي وقت نوم وغفلة، وكثير من الناس قد يغلبه النوم فيها، ويضيع صلاة الصبح، فيكون هذا الحث عليها.
أما الجمهور فقالوا: صلاة العصر وقد جاءت نصوص كثرة تبين ذلك منها: حديث غزوة الأحزاب لما شغلوا بالعدو -ولم تكن قد شرعت صلاة الخوف- حتى دخل الليل، فـ عمر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله -يا رسول الله- ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! ما صليتها) ، ثم دعا على المشركين فقال: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) ، فالصلاة الوسطى التي شغلوهم عنها هي صلاة العصر، وبعد ذلك صلى المغرب والعشاء، وهما تشتركان في الوقت، فالتي فاتهم وقتها هي صلاة العصر، فسماها صلى الله عليه وسلم بأنها صلاة العصر.
وجاء بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها طلبت من زيد أن يكتب لها مصحفاً، فقالت: إذا وصلت إلى هذه الآية الكريمة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] فآذني -تعني: أعلمني وأخبرني أنك وصلت- فلما وصل أخبرها، فقالت: اكتب: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) ، وهذا تفسير منها للآية، وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حاشاها أن تزيد كلمة في كتاب الله، ولكن كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يجعلون بعض الألفاظ شارحة أو مفسرة لمعنى غامض أو هامٍّ على هامش المصحف، فكتب على هامش المصحف: (الصلاة الوسطى) ؛ لأن الصلاة الوسطى ما جاءت في القراءة، ولا ثبتت قراءة في كتاب الله، لكنها أملتها عليه كأنه من باب الشرح، وتكون في حافة المصحف.
ولهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لما أتاه من يشتكو إليه اختلاف القراء في القراءات جمع القراء، وجمع الكتاب، وكتب المصحف الإمام، فطلب الصحف التي كانت عند أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم انتقلت من أبي بكر إلى عمر، ثم كانت عند حفصة ابنة عمر رضي الله تعالى عن الجميع، فاستعارها منها لينقل المصحف على رسم واحد، وأمر كل من كان عنده مصحف كتبه لنفسه أن يحرقه، حتى لا يطول الزمن ويدخل ما كان في الهوامش في صلب القرآن، فأحرق الجميع ما كان بأيديهم، واكتفوا بالمصحف الإمام الذي قرئ على عثمان رضي الله تعالى عنه، وأصبح المصحف الذي يرجع إليه العالم الإسلامي، وجعله خمس نسخ، وأرسل كل نسخة إلى مصر من الأمصار ومعها قارئ يقرئ الناس، فأخذوا القرآن سماعاً ووجادة.
فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أملت على الكاتب أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولم ينكر الكاتب، ولم ينكر عليها من سمع بذلك.
فالجمهور على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ لما قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، ولقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عند إرادتها كتابة مصحف لها.
وقال الجمهور: إن جميع أوقات الصلاة تأتي عند فراغ الناس إلا العصر، فصلاة الصبح يكون الناس فيها فارغين من الأعمال، وما على الإنسان إلا أن يصلي ثم يرجع لينام كما شاء، وصلاة الظهر تأتي عند القيلولة والناس قد ملوا من العمل وجاؤوا إلى بيوتهم للقيلولة وللغداء والراحة، فهم في فراغ، والمغرب يكون عند انتهاء النهار وأول الليل، فيأوي الناس إلى بيوتهم وهم فارغون، وكذلك في العشاء يكونون في بيوتهم فارغين، فجميع الصلوات الخمس تأتي أوقاتها عند فراغ الناس من العمل إلا العصر، فهي في وقت شدة العمل، أو هي في أوسط أوقات العمل.
وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب الذاهب إلى بني عوف فيجدهم يصلون العصر.
قال الشراح: كانوا يؤخرون العصر في المدينة؛ لأنهم أصحاب فلاحة وأعمال، فكانوا يقيلون، فإذا قاموا من القيلولة استأنفوا العمل، فيأتي وقت العصر وهم في وسط عملهم، فإن تركوا العمل في أول وقت الصلاة وصلوا تكون العودة إلى العمل ثقيلة، ولكنهم يتمادون في العمل شيئاً ما حتى يذهب شيء من أول الوقت، ثم يصلون العصر ولا يعودون إلى العمل.
فكان يأتي وقت العصر والناس في شدة عملهم، ولهذا كانوا يشغلون عنها، وكانوا يؤخرونها، وكانت أعمالهم تعوقهم عنها، فجاء التنبيه عليها؛ لأنها في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأن أشغال الناس تكون في وقتها أشد ما تكون.
والله تعالى أعلم.


كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [2]
من كان يصلي وأراد أن ينبه الإمام على خطأ، أو ينبه أحداً على أي أمر فله أن يسبح إن كان رجلاً وأما المرأة فتصفق.
ويجوز للمصلي أن ينحنح في الصلاة للحاجة، وأن يرد السلام بالإشارة، وأن يحمل صبياً إذا احتاج إلى حمله، وأن يبكي، وأن يقتل الحية والعقرب وكل هذا من سماحة الشريعة وتيسيرها.


أفعال يجوز فعلها في الصلاة


تسبيح الرجال وتصفيق النساء إذا حدث شيء في الصلاة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) متفق عليه، زاد مسلم: (في الصلاة) ] .
تقدم الكلام على النهي عن الكلام في الصلاة، كما بيناه في سبب نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، وجاء النص: (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) .
والقنوت له معان فوق عشرة، منها السكوت، ومنها الخشوع، ومنها دوام العبادة، ومنها خشية الله، وكل هذه من معاني القنوت.
وأتى المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب بعدة نصوص لبعض الصور التي قد تطرأ على المصلي فيحتاج إلى أن يتكلم، وهو منهي عن الكلام أثناء الصلاة، فماذا يفعل؟! فأورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) ، والمعنى: أن المصلي إذا نابه شيء وأراد أن ينبه عليه، ولا يستطيع أن يقول: يا فلان! احذر كذا، أو يا فلان! افعل كذا، أو إذا كان مأموماً وسها إمامه، فهو لا يستطيع أن يقول: يا إمام! أنت سهوت فتركت ركعة، أو أنت قمت من الركعة الثانية، ولو قال هذا بطلت صلاته؛ لأنه مأمور بالسكوت، منهي عن الكلام، فإن له أن ينبه الإمام بأن يسبح فيقول: سبحان الله.
وكذلك إذا كان إنسان في صلاته، وأمامه إنسان يريد أن يكلمه، فحينما همّ بالانصراف قال: (سبحان الله) فلفت نظره لذلك، فجلس ينتظر ما وراء قوله: سبحان الله.
وفي بعض الحالات قد يضطر الإنسان أن يخرج من الصلاة للضرورة، كإنسان يصلي وطفل أمامه، وأمام الطفل شيء خطير، كنار تلهب، أو كهرباء، أو شيء آخر، وخشي على الطفل أن يهلك، فله أن يخرج من صلاته وينقذ الطفل، وآخرون يقولون: لا.
لكن يبقى في صلاته ويسعى ويأخذ الطفل ويبعده، وله أن يسبح ليسمع أحداً قريباً فينتبه لهذا التسبيح، ويدرك الغلام.
فالرجل إذا نابه شيء في صلاته يقول: سبحان الله.
وهذا هو (التسبيح) من باب النحت، والتحميد قول: (الحمد لله) ، والتهليل: (لا إله إلا الله) ، والتكبير: (الله أكبر) ، والحوقلة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فهذه كلمات نحتت، وهي تدل على جمل كاملة، فالتسبيح للرجال، فإذا نابه شيء قال: (سبحان الله) ؛ لينبه غيره، والإمام إذا سمع المأمومين يقولون: (سبحان الله) .
وكان على شك رجع إلى صوابه وإلى يقينه، واستفاد من قولهم: (سبحان الله) .
أما المرأة إذا نابها شيء فلكون صوتها لا ينبغي أن يرتفع، ولا ينبغي أن يسمعه الأجانب فإنها تصفق، ولا تصفق كما تصفق في اللعب، وإنما قالوا: بإصبعين من يمينها على يسراها، وهل ذلك في باطن الكف أم في ظاهره؟ بعضهم يقول: في باطن الكف والغرض من هذا التنبيه، فبإصبعين من كفها الأيمن تضرب كفها الأيسر مرتين أو ثلاثاً أو أكثر حتى تنبه من تريد أن تنبهه.
فنحن نهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت عندما نزل قوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: خاشعين صامتين لا تتكلمون.
فلو أن إنساناً تكلم سهواً أو جهلاً فماذا يكون الحكم؟ الجواب: إن كان ناسياً فلا شيء عليه عند الأكثر؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة:286] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) .
وإذا تكلم جاهلاً بالحكم فبعضهم يجعل الجهل كالنسيان، وبعضهم يقول: الجاهل لا يعذر؛ لأن هذه أمور تعرف من الدين بالضرورة، ودليل القائل بأن الجاهل كالناسي حديث معاوية بن الحكم لما عطس بجواره رجل، فقال: يرحمك الله.
ولما أنهى صلى الله عليه وسلم صلاته دعاه وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن) ، فهو قالها جهلاً، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة صلاته، مع أنه تكلم جاهلاً.
والآخرون يقولون: هذا كان في أول التشريع، وما كان يعلم الجميع حكم هذا، وهو لم يعلم حكم ذلك، وخاصة الذين ذهبوا إلى الحبشة، وكان النهي عن الكلام في الصلاة في مكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة علموا بذلك.
فالمؤلف رحمه الله بيّن لنا أن المصلي لا يحق له أن يتكلم، وأنه يلزمه أن يسكت، ثم ذكر عدة نصوص لعدة حالات، وهذا من حسن التأليف.


البكاء في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) ] .
هذا الصحابي الجليل يروي لنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل، أي: القدر الكبير الذي يغلي.
والأزيز من أسماء الأصوات، كما تقول: خرير الماء، وتقول: صفير الطيور، وزقزقة العصافير، وصلصلة الجرس، وغليان الماء.
والألفاظ التي فيها تكرار الحروف تدل على حركة، أو على صوت، قالوا: الأزيز هو: صوت يكون داخل الصدر لانفعال الإنسان، ولا يكون باللسان ولا بالهمهمة، إنما يكون لانفعال داخلي في صدر الإنسان، وسبب ذلك هو انفعال نفسي، كأنه يريد البكاء ويحبس بكاءه، فهو صوت في جوف الإنسان وفي صدره.
فهو صوت يعيه السامع، فهل هذا كلام مما نهي عنه، أم أنه خارج عن حد الكلام فلا يبطل الصلاة؟ قالوا: إن البكاء بالعين بدون التلفظ باللسان، والأزيز في الصدر بدون حرف يخرج منه لا يبطل الصلاة، وهي حالة -كما يقولون- روحية تغلب على صاحبها ولا يمكلها، وتتحكم هي فيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقالت: إنّ أبا بكر رجل أسيف لا يتمالك عينيه أن يقوم مقامك، فقال: مروا أبا بكر، فإنكن صواحب يوسف) .
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان لها نظر بعيد جداً، وله أثره في الخلافة؛ فقيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه إماماً بالناس بدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مرضه يدل على أن الذي سيتولى الصلاة بعده هو الذي سينيبه صلى الله عليه وسلم ويستخلفه بعده، وإن لينص عليه، وهذه واحدة.
والثانية: إذا كان لك شخص عزيز كريم في عمل، فسافرت ورجعت ووجدت إنساناً غيره في هذا العمل فحالاً تتساءل بلهفه: أين فلان؟ وتخاف أن يكون وجود فلان هذا كناية عن وفاة الأول، وهذا قام مقامه، فالقلب يتأثر حينما يرى شخصاًآخر يقوم مقام من تعلق قلبه به، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها حسبت حسابين: الأول: حسبت أن يحزن الناس حين يرون أبا بكر قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نوع من التشاؤم، وأي مسلم يجد شخصاً في مكان رسول الله يتأثر ويتألم؛ لأنه لا يريد أن يغيب رسول الله عن هذا المقام.
والثاني: أدركت أم المؤمنين عائشة أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس مقدمة لاستخلافه، ولذلك لما اجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السقيفة صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أيها الحاضرون! هذا أبو عبيدة، وهذا عمر، فاختاروا من شئتم، وبايعوا له ولا تختلفوا، فقال عمر: سبحان الله! ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا بالصلاة، ولا نرتضيك لدنيانا! مد يدك لأبايعك فبايعه، فكان أمره صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس فيه إشارة إلى أنه هو الذي سيتولى الأمر من بعده.
فإذا كان الأمر كذلك فأم المؤمنين عائشة خافت إذا أمر رسول الله أبا بكر أن يصلي بالناس، أن يقال: هي التي دفعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم أباها؟ ولا تسلم من التهمة، وحفصة موجودة، وعائشة موجودة، وهذه بنت عمر وهذه بنت أبي بكر، فأقل شيء أن يقال: هي التي من وراء هذا، وهي التي سعت، وهي السبب، فلما كان هذا الاتهام وهذا التساؤل محتملاً -وهو خطير حين تتهم أنها هي وراء اختيار أبيها- أعلنت للناس عند رسول الله قولها له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء، فكأنها تقول: لا يصلح لذلك، فإذا حصل ذلك تقول: أنا ليس لي ذنب، كان رأيي من قبل أنه لا يصلح لهذا.
ومن هنا ندرك معنى قوله: (إنكن صواحب يوسف) ، فما الذي جاء بصواحب يوسف إلى هنا؟ والجواب: لأنهن أخفين شيئاً وأظهرن شيئاً آخر، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصد عائشة وأنها تريد أن تدفع عن نفسها شبهة التهمة بأن لها سبباً في تقديم أبي بكر على غيره.
والشاهد من هذا قول عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء) ، فالبكاء لا يبطل الصلاة، والبكاء والأزيز يكون في حالة الخشوع، وحالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وقد يكون في الصلاة، وقد يكون خارج الصلاة، وهي منح يمنحها الله سبحانه وتعالى للمؤمن الصادق، ومن علامات ليلة القدر رقة القلب، كما قالت عائشة: ألا تجد في نفسك أحياناً رقة القلب ودمعة العين؟ فذاك إذا صافحك جبريل، فأحياناً الإنسان يحس برقة قلبه، وتدمع عينه ولا يعرف السبب، وقد يكون عقب قراءة آية، أو عقب تأمل في موقف، غير ذلك، وقد يكون لمجرد انطلاقه بروحه في عالم ملكوت المولى سبحانه، فيجد عالماً بعيداً يرقق قلبه، ويدر دمعته.
فالإنسان قد يعرض له ما يرقق طبعه، ويزيد قوة روحه، فتحصل له هذه الحالة، فقد يبكي ويفرج عن نفسه، وقد يكتم البكاء، قال ابن تيمية رحمه الله: القوي الذي يكظم ذلك، ويقدر على نفسه، بخلاف هؤلاء الذين يصيحون ويصرعون، ويقولون: المخلص المكثر من العبادات قد يحدث له حالة صرع وغيبوبة مع الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لضعفه، وقوي الشخصية هو الذي يتحمل هذه النفحة، ويتحمل هذا الانفعال، ويتماسك.
فأزيز صدره صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لشدة خشوعه بين يدي الله، ولذة مناجاته لله، فإذا حصل مثل هذا للإنسان وهو في صلاته لا يبطلها، والله تعالى أعلم.


التنحنح في الصلاة للحاجة
قال رحمه الله تعالى: [وعن علي قال: كان لي من رسول الله صلى الله عليه مدخلان، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي.
رواه النسائي وابن ماجة] .
قوله: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، أي: إذا جئته وهو في حجرة عائشة واستأذنته للدخول، فكان له مدخلان، فعند مدخل يقول: ادخل، إذا لم يكن في الصلاة، وعند مدخل يتنحنح إذا كان في الصلاة، ولا يمكن أن يقول: ادخل، فقد أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، وبعض الناس يمثل النحنحة بصفارة الإنذار، فالتنحنح صوت يخرج من الحلق بدون حروف أو كلمات، فإذا تنحنح المصلي، لم ينطق بكلمة، وإنما أسمع صوتاً أخرجه من الحلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا تنحنح يعرف علي رضي الله تعالى عنه أنه في الصلاة، فيعلم أن الرسول أذن له بالدخول.
والتنحنح في الصلاة لا يبطلها، ولو كان يبطلها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: هذا في النافلة، أما في الفريضة فلا؛ لأن النحنحة ربما تخرج حرفاً دون قصد، مثل: (أح أح) فيخرج الهمزة والحاء، فقالوا: لا يجوز التنحنح في الفريضة، وقالوا: كان علي رضي الله تعالى عنه لا يذهب يستأذن على رسول الله إلا وهو في بيته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته النافلة، ولو كان في المسجد لم يستأذن عليه علي؛ فإن المسجد بيت الله، وكل الناس يدخلون المسجد بلا استئذان، كما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إذا أردت أن تدخل على ربك بلا استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ وضوءك، واستقبل القبلة، وقم في محرابك، وكبر للصلاة) ، فعندما تدخل المسجد تقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك.
وتدخل وتقوم في محرابك، وتخاطب ربك بلا ترجمان، وكم في الصف الواحد من ألسنة متعددة؟ وكلهم يناجي ربه بلسانه! فحديث علي رضي الله تعالى عنه يدل أن هذا الاستئذان كان في البيت، وهو يصلي النافلة، وهل يجوز ذلك في الفريضة أم لا؟ قيل: في الفريضة لا، والحاجة لا تدعو إلى ذلك في الفريضة، ولكن تدعو إلى ذلك في النافلة في البيت.
ولو قدر أن مريضاً أو خائفاً أو غيرهما ممن تصح له الصلاة في بيته، كان يصلي فرضه فاستأذن عليه إنسان، فهل يتنحنح في الفريضة كما تنحنح رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة؟ الذين يفرقون بينهما يقولون: النافلة يغفر فيها ما لا يغفر في الفريضة، بدليل أن المسافر يتنفل على راحلته، ويومئ حيث ما توجهت به، بخلاف الفريضة فلابد أن ينزل إلى الأرض ويركع ويسجد وهو على الأرض، ويكون مستقبل القبلة، ففرق بين الفريضة وبين النافلة، والله تعالى أعلم.


رد المصلي للسلام بالإشارة
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قلت لـ بلال: كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا وبسط كفه.
أخرجه أبو داود والترمذي وصححه] .
في قوله: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليكم السلام؟ قال: (يقول هكذا وبسط كفه) .
اختلف أهل العلم: هل بسطه كان إلى الأعلى، أم بغير ذلك؟ فبعضهم يقول: يقبض أصابعه ويمد السبابة، وبعضهم يقول: يمد الكف كاملاً، وهو دليل على جواز رد السلام بالإشارة.
ويقول بعض العلماء: هذا الرد كان قبل النهي عن الكلام؛ لأن الرد بالإشارة كالكلام، فكأنك تتكلم.
والآخرون يقولون: إن الحركة باليد ليست كلاماً، والنهي عن الكلام في الصلاة المراد به كلام الناس في الصلاة.
وقالوا: هذه الحركة كانت قبل الهجرة، وقبل أن يسافروا ويهاجروا إلى الحبشة، فقد جاءت الأخبار بأن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في مكة يسلمون على المصلين ويردون عليهم السلام، وهذا يدخل في عموم قول الراوي: (كان أحدنا يحدث صاحبه بحاجته وهو في الصلاة، حتى نزل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) .
قالوا: قوله: نهينا عن الكلام، أي: بعد الهجرة في المدينة، وكان تكليم بعضهم لبعض في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فكانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ويرد عليهم السلام بالقول؛ لأنهم لم ينهوا عن الكلام في الصلاة، فهاجر بعض الصحابة إلى الحبشة، فلما رجع أحدهم من الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلم عليه فلم يرد عليه، قال: فجمعت الماضي والحاضر -يعني: أخذت أفكر في تاريخي الإسلامي وفيما مضى وفي حاضري- فظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرد عليه سخطة عليه، وما علم أنهم قد نهوا عن الكلام، فاشتد الحال عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم وفرغ من الصلاة رد عليه السلام، وقال له: (إن في الصلاة لشغلاً) ، يعني: كنت مشغولاً بصلاتي عن أن أرد عليك السلام.
فاستدلوا بحديث: (إن في الصلاة لشغلاً) ، بأن من سُلم عليه وهو في الفريضة لا يرد، وإذا أنهى صلاته رد السلام على من سلم عليه، أما في النافلة فيبسط اليد.
وبعضهم يقول: إن النهي عن الكلام وقع في مكة أيضاً؛ لأنه في بعض روايات الرواية المتقدمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رد السلام بعد الصلاة، قال له الصحابي: ماذا حدث يا رسول الله؟ قال: (إن الله يحدث من أمره ما شاء، وقد أحدث من أمره أنه نهانا عن الكلام في الصلاة) ، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في مسألة من سلم عليه وهو يصلي، ففي هذا الحديث أنه كان يبسط كفه، وفي الحديث الآخر: (إن في الصلاة لشغلاً) ، ورد على المسلِّم بعد أن فرغ من صلاته، فجمعوا بين الحديثين وقالوا: حديث: (إن في الصلاة لشغلاً) يحمل على ما إذا كانت فريضة، فلا يرد ولا يبسط كفه، وإذا فرغ من صلاته رد السلام على من سلم عليه، وإذا كان في نافلة رد بالإشارة وبسط كفه لمن سلم عليه، والله تعالى أعلم.


حمل المصلي للصبي للحاجة
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
متفق عليه، ولـ مسلم: (وهو يؤم الناس في المسجد) ] .
حديث أمامة بنت زينب -كما يقول ابن دقيق العيد - فيه إشكالات، وأمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو جدها، وأبوها أبو العاص بن الربيع زوج زينب، وهو ابن أخت خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخديجة هي التي خطبت زينب لابن أختها، فتزوج ابن خالته.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب أمامة حباً جماً، حتى إنه أتى بقلادة فقال: (لأعطينها لأحب أهلي إلي) فقالوا: لمن يعطيها؟ فقال بعضهم: مَنْ غير الصديقة بنت الصديق؟ فإذا به صلى الله عليه وسلم يدعو بـ أمامة فألبسها إياها.
وفي هذا الحديث أنها تعلقت به صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فمتى كان هذا، وفي أي صلاة؟ أكثر الروايات على أنها في صلاة الظهر أو العصر في المدينة، وبعض الناس يقول: كان هذا قبل الهجرة عند إباحة الكلام وإباحة الحركة.
لكن واقع التاريخ يرده؛ فـ زينب رضي الله تعالى عنها أُسر زوجها أبو العاص يوم بدر، ولما جاء فكاك الأسارى، أرسلت زينب رضي الله عنها بقلادة لها لتفدي زوجها، وتلك القلادة كانت لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، وقد أهدتها إليها ليلة زواجها بابن أختها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القلادة ذكرته بـ خديجة، وأخذته العاطفة، فقال لأصحابه: (إن رأيتم أن تردوا إليها قلادتها وأسيرها فعلتم) ، فقال: (إن رأيتم) ، ولم يلزم؛ لأن الأسارى حق للمقاتلين، وهو صلى الله عليه وسلم لا يبطل حقاً لحق آخر، وقد روي أن العباس لما أخذ أسيراً يوم بدر قال الأنصار: ائذن لنا -يا رسول الله- أن نفكه بلا فداء.
فقال: (لا؛ والله، ولا درهماً واحداً) ، وقد كان قادراً على أن يدفع الفداء.
فرد المسلمون لـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادتها، وأطلقوا العاص بن الربيع، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل إليَّ ابنتي زينب) ، فقال: سأرسلها إليك، وأرسل صلى الله عليه وسلم رجلين ينتظرانها في التنعيم، فجاءت إليهما، وردوها إلى المدينة، وكانت أمامة معها.
فـ زينب ما جاءت بـ أمامة معها إلا بعد الهجرة.
فهذا العمل كان بعد النهي عن الكلام، وبعد أن منعت الحركة في الصلاة، فكيف يحمل طفلة معه؟ وكيف تحرك هذه الحركات؟ ثم من ناحية أخرى تلك طفلة ليست بالغة، وليست في حد التمييز، فكيف حملها مع أنه لا يؤمن أن يحدث منها شيء ينزل على رسول الله وهو يصلي؟ فالإشكالات متعددة.
فمن العلماء من يقول: إن هذا الأمر قد نسخ بالأمر بالسكوت والنهي عن الكلام.
لكن قيل: كيف ينسخ قبل أن يقع؟ لأنه وقع في المدينة، وقيل: إن هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فالله أعلمه أن أمامة لن تحدث شيئاً حتى تنتهي الصلاة، لكن قال قوم آخرون: الخصوصيات تحتاج إلى دليل.
وأشكل على الشافعية وغيرهم الحركة إذا سجد، وإذا قام وهو حاملها، والحركات المتوالية تبطل الصلاة، فعندهم ثلاث حركات متواليات تبطل الصلاة، فأجاب بعضهم بأن أمامة كانت تتعلق هي برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنها جاءته وهو ساجد، فلما أراد القيام تعلقت به وهو لم يحملها، فلما أراد أن يسجد وضعها، فكانت منه حركة واحدة في كل ركعة.
وأجيب عن ذلك بأنه جاء في رواية: (كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فخرج علينا حاملاً أمامة بنت زينب، فصف وصففنا وراءه وصلى بنا) ، فهي لم تتعلق به، بل هو الذي أتى يحملها معه من البيت، فهو الذي يضعها، وهو الذي يحملها.
وقال بعض العلماء: هذه حالة لضرورة، إذ لم يجد من يكفيه مؤنة حفظها ورعايتها في البيت، وهو جدها وولي أمرها، فاضطر أن يحافظ عليها، فحملها معه وأتى بهذه الحركات، والضرورة مبيحة للمحظور.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: كل ذلك يمكن أن يرد، وليس لنا إلا التسليم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو كان واحد منا عنده طفلة فهل هي كـ أمامة بنت زينب؟ أي: هل له أن يعاملها معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أمامة بنت زينب؟ وهل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أو بغيرها مرة أخرى؟ الجواب أنه حدث مع الحسن والحسين في البيت، فقد سجد صلى الله عليه وسلم وجاء الحسن وامتطى ظهره، وانتظر صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى نزل، فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (إن ابني قد ارتحلني -يعني: اعتبرني راحلة له- فكرهت أن أعجله عن حاجته) ، لكن في الفريضة لم يأت هذا.
وأما هل جاء عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ذلك فأنا لم أقف على شيء من هذا.
فلم يبق عندنا إلا وجه واحد، وهو أنه من كان معه طفل، وكانت هناك حاجة ماسة لحمله، واقتضت الضرورة أن يحفظه، ولو تركه لذهب يميناً ويساراً، وربما خرج من باب المسجد إلى الشوارع وهي مليئة بالسيارات فحينئذ له أن يحمله في صلاته.
وقد قال بعض العلماء: ورد النهي عن استصحاب الصغار إلى المساجد، فكيف جاء بـ أمامة بنفسه؟ قالوا: نعم، ينبغي أن تصان المساجد عن الصبيان والمجانين، فلا تأتي وتترك الصبي يلعب في المسجد.
ولقد شاهدنا أطفالاً صغاراً لا يعرفون شيئاً، وأهلهم يأتون بهم ويتركونهم، فيجعلون المسجد ملعباً.
فيمنع الأطفال من اللعب في المساجد، أما إذا جاء رجل ولزم طفله فلا مانع، لكن أن يأتي به ويتركه يعبث بالمصاحف، أو يلعب، أو يؤذي الآخرين، أو يصيح ويبكي، فهذا يمنع.
وعلى هذا لو أن الإنسان كان في حالة اضطرار، وليس عنده في البيت أحد، وعنده ولد وليس عنده من يرعاه، فإن تركه وأغلق الباب خاف عليه أن يحدث شيئاً، فله أن يأخذه معه إلى المسجد.
وإذا جاء إلى المسجد فهو أمام أحد أمرين، إما أن يقبضه بيده، وإما أن يتركه عرضة للخطر.
فنقول له: عامله كمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أمامة.
بقيت مسألة الاحتراز من نجاسة الطفل، فبعضهم قال: إن من خصوصيته صلى الله عليه وسلم أن الله أعلمه بأنها لن تحدث شيئاً، ولن تفسد صلاته.
وبعضهم يقول: إن ثياب الأطفال محمولة على الطهارة ما لم تشاهد فيها النجاسة.
وبعضهم قال: كان من عادة أهل المدينة أن ينظفوا الأطفال في أوقات معينة، فلعله حمل أمامة بعد تنظيفها، وقد ذكروا أشياء كلها للاحتراز من أن يوجد شيء يعارض الصلاة.
والواجب على الأم وعلى الأب، وعلى كل من يصحب طفلاً معه إلى المسجد أن يحتاط مع هذا الطفل فيما لو أحدث شيئاً، حتى لا يلوث المسجد، فالطفل ليس بعاقل، وليس له تمييز، فقد يحدث منه ما يحدث، فينجس المسجد، أو ينجس ملابس الأم فيفسد عليها صلاتها، فإذا ألبسه الحافظة وأدله المسجد للضرورة فلا بأس.
وقد عقدت لجان لمعالجة هذه القضية، حتى إنه في بعض الاجتماعات اقترح مدير الشرطة أن تجعل استراحات على أبواب المساجد، فكل أم تجيء بطفلها تضعه في الاستراحة، وبعد أن تنتهي من الصلاة تأخذ طفلها وتذهب.
ولكن أي أم ستترك طفلها في الاستراحة؟ وأي أم ستضمن راحة ولدها فيها؟ ، فكان هذا حلاً غير عملي.
ولكن الحل العملي هو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أمامة بنت زينب.
وقد يقال: لماذا نسبها الراوي إلى أمها فقال: أمامة بنت زينب، ولماذا لم ينسبها إلى أبيها؟ والجواب: ذلك لبيان عاطفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فـ أمامة هي بنت زينب بنت رسول الله فهو جدها، وهو مسئول عنها، أما لو قال: أمامة بنت أبي العاص فإنه سيقال: من هو أبو العاص؟ فيطول الشرح حتى نعلم أنها بنت زينب بنت رسول الله، فاختصاراً قال: بنت زينب.
ومن النسبة إلى الأم ما تذكره كتب الأدب أن محمد بن الحنفية والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كانا أخوان لأب، فأبوهما علي، ومحمد أمه من بني حنيفة، والحسن أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنهما خرجا إلى السوق، وكان بينهما ما قد يقع بين الإخوان في الأسواق، فرجعا متغاضبين، وذهب كل إلى بيته، فإذا بـ محمد رضي الله تعالى عنه يأخذ قصاصة من الورق ويكتب فيها: (من محمد بن الحنفية -ولم يقل: ابن علي - إلى الحسن بن فاطمة بنت رسول الله -وانظر إلى هذا! فقد أبرز نسب الحسن إلى رسول الله تكريماً للحسن، وليبني عليه ما يأتي بعده- قال: أما بعد: فقد علمت ما كان بيني وبينك، ولقد هممت أن آتيك إلى بيتك لأستسمحك وأسترضيك، ولكن كرهت أن يكون لي فضل السبق عليك وأنت ابن بنت رسول الله -يعني: أنا ابن الحنفية، أبي وأبوك واحد، لكن أمينا مختلفتان، فلا ينبغي أن يكون لي فضل عليك- قال: فإذا وصلك كتابي فخذ عليك ثيابك، وشد نعليك، وائتني في البيت؛ ليكون لك الفضل عليّ.
فانظر كيف كانوا يؤثرون على أنفسهم حتى في مكارم الأخلاق! وهكذا أبرز نسبة الحسن إلى رس


الحركة والكلام لمصلحة الصلاة
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب) أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان] .
جاء المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث لبيان شروط الصلاة، فمن شروط الصلاة ستر العورة واستقبال القبلة، وفي حديث أمامة حصلت حركات من حملها، ولكنها حركات لا تبطل الصلاة.
وأما الكلام في الصلاة فخلاصة ما يقوله الفقهاء أنه ينقسم إلى قسمين: كلام لصحتها، وكلام لا علاقة له بصحتها، قالوا: إن الكلام لصحة الصلاة مع الإمام جائز في بعض الأحوال، كما جاء في سهوه صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين عندما قال: (أصدق ذو اليدين؟) وقال هذا بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين، فسكت القوم مخافة أن يكون حدث في دين الله شيء، فتكلم ذو اليدين -وكان رجلاً في يديه طول- فقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ -يعني: هل الصلاة قصرت من أربع إلى ركعتين أم أنت نسيت الركعتين الباقيتين؟ - فقال: (كل ذلك لم يكن، فقال: بعض ذلك قد كان!) .
وهذه الجملة المناطقة الآن يبنون عليها قواعدهم، فقوله: (كل ذلك) يقولون فيه: هذه صورة كلية، وجاء النفي فيكون النفي للجميع، يعني: ما قَصرت ولا نسيت، ونقيضها -كما يقولون- الجزئية الموجبة، فقوله: (بعض ذلك قد كان) ، يعني: بعض ذلك حصل.
فالتفت إلى الصحابة وقال: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم) .
فحصل كلام من ذي اليدين، وكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام من المصلين، فتوجه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وأتى بالركعتين، ثم أتى بسجود السهو، وتمت الصلاة.
قالوا: إذا كان في مثل هذه الصورة فلا يبطل الصلاة، والحركة إذا كانت لمصلحة الصلاة لا تبطلها، وجاء في الحديث: (أفضل خطوة يخطوها المسلم أن يخطو إلى الصف أمامه ليتمه) ، فإذا وجدت فرجة أمامك فاخط خطوة إلى الصف، وسد الفرجة التي فيه.
وهنا قال: (اقتلوا الأسودين: الحية والعقرب) ، وقتل الحية والعقرب لابد له -قطعاً- من الحركات، ولو كانا مقيدين فستأخذ آلة تضربها بها، فأخذك الآلة وضربك إياها حركة، مع أنها إذا شعرت بك لن تستلم لك، بل ستهرب يميناً ويساراً، وتتبعها حتى تقتلها، وأنت في الصلاة، فترجع إلى موقعك.
فهذه الحركات لمصلحة الصلاة؛ لأنك لا تستطيع أن تصلي والحية جوارك، فمن مصلحتك ومصلحة الصلاة أن تقتلها.
وقالوا أيضاً: لو أن الإنسان في صلاة، ورأى الأسد مقبلاً عليه، فله أن يشرد، ولكن أين ذهب فالأسد سيسبقه، فقالوا: إذا وجد شجرة صعد عليها، وهو في كل ذلك لا يتكلم، ويكمل صلاته فوق الشجرة إيماءً.
ولو كان عدوك جاءك وأنت تصلي وقد سل سيفه ليقتلك، فلك أن تسل سيفك وتسايفه وأنت تصلي، وهكذا لو كنت تصلي فجاء إنسان وخطف متاعك، فلا تستسلم وتقول: أنا أصلي فسأدعه يذهب لا، بل اتبعه واجر وراءه حيثما سار، وبعد أن تأخذ متاعك أكمل صلاتك في مكانك هناك، ولا حاجة أن ترجع إلى المكان الأول؛ لأنه يكون عملاً زائداً على مصلحة الصلاة.
فهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نقتل الحية والعقرب في الصلاة، وقتل الحية والعقرب يستلزم الحركة، والله تعالى أعلم.