شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
صلاة العيدين [1]
جعل الله يوم العيد يوم فرحة للمسلمين، وشرع لهم فيه الخروج إلى الصلاة
رجالاً ونساء، وشرع ليوم العيد آداباً وسنناً، وجعل للمسلم الحق في التوسعة
على أهله وعياله مع مراعاة حقوق إخوانه وجيرانه.
ذكر بعض المظاهر
والآداب في يوم العيد
سنة خروج عموم نساء
المسلمين إلى المصلى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فيقول المؤلف: [وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج العواتق
والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى) متفق
عليه] .
حديث أم عطية هذا له عدة جوانب في باب التشريع للصلاة، وفي النواحي
الاجتماعية في الإسلام وفي المدينة آنذاك.
وهذا الحديث فيه قولها: (أمرنا) ، والآمر هنا معروف؛ لأن الذي يملك سلطة
الأمر في ذلك الوقت هو النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكر بعض المراجع أن
الرسول صلى الله عليه وسلم جمع النسوة في بيت، ثم بعث إليهن عمر رضي الله
تعالى عنه، فوقف في الباب، فسلم ثم قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه
وسلم إليكن أن تخرجن إلى المصلى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر النسوة أن يخرجن يوم العيد إلى المصلى كما
يخرج الرجال، وأم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا مدى عمق وشمول هذا
الأمر لجميع النساء حتى العواتق.
والعواتق من النسوة: اللاتي لا يخرجن، فهن قاصرات في بيوتهن مخدومات مكفيات
مئونة الخروج؛ لأن النسوة على أقسام حسب مراتب الحياء، فهناك امرأة تخرج
وتلقى الرجال، وربما باعت واشترت في الأسواق، ومن النسوة من تخرج من بيتها
لقضاء حاجتها فقط وترجع، ومن النسوة من لا تخرج حتى من بيتها.
وقد قال بعض الشعراء يبين حالة امرأة تزور جارتها: كأن مشيتها من بيت
جارتها مور السحاب بلا ريث ولا عجل فعابت عليه امرأة فقالت: جعلتها خراجة
ولاجة، هلا قلت كما قال الآخر: تعتل عن جاراتها فيزرنها أي: تعتل وتعتذر من
أن تزور الجيران، وجيرانها يأتين لزيارتها، وهي معتكفة في بيتها، فهذا
الصنف من النساء خروجه قليل وثقيل عليه، فالمرأة التي لم تعهد الخروج يكون
الخروج ثقيلاً عليها، كما أن المرأة المعتادة الخروج يكون جلوسها في البيت
ثقيلاً عليها.
فتبين لنا أم عطية بأن الأمر شمل الحيّض، والنسوة غير الحيّض يمكن أن
يصلين، وأما خروج الحيض، فقد قالوا -كما في هذا الحديث-: ليشهدن بركة ذلك
اليوم، ويشهدن الدعوات بالخير.
وناحية أخرى عند العلماء: وهي أن الغرض من إخراج النسوة مع الرجال في ذلك
اليوم إظهار كثرة عدد المسلمين أمام العدو، فكأنه استعراض للعدد الموجود
عند المسلمين، وآنذاك كانت في المدينة اليهود بقبائلها المتعددة إلى أن
انتهى أمرهم في آخر الأمر مع غزوة الأحزاب في السنة الرابعة من الهجرة.
التعاون الاجتماعي
يوم العيد
هناك مسائل في هذه الحديث، منها ما ذكره البخاري رحمه الله حيث أورد أن
الحيض يعتزلن المصلى؛ فهذا جانب فقهي؛ لأنهن لا يصلين، فإذا كانت صلاة
العيد في المسجد هل يدخلن المسجد، أم يكن خارج المسجد؟ ومن ذلك أن المرأة
إذا أرادت أن تخرج امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد لا يكون
عندها ما تلبسه لتخرج به أمام الناس، ولهذا بعض العلماء يقول: إذا أردتم أن
يجلسن في البيوت فلا تلبسوهن ثياباً فاخرة؛ لأن المرأة إذا وجدت ثياباً
فاخرة دعاها ذلك للخروج لتفاخر بلباسها، فإذا لم تجد شيئاً فترت نفسها
وقعدت.
وقد جاء في الأثر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول
الله: أمرت النساء يخرجن، وإحدانا لا يكون لها جلباب تخرج به! والجلباب: هو
الشيء الذي فوق الثوب العالي، مثل العباءة ونحوها.
فلم يعذرها صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: (لتلبسها أختها من جلبابها)
فأتانا بتعاون اجتماعي، فمن لم يكن عندها ما تخرج به وأختها عندها زائد من
اللباس فعليها أن تعطيها؛ لتشاركها فرحة ذلك اليوم.
فمن الناحية الاجتماعية نقول: إن على كل إنسان أن يتفقد جيرانه في العيد،
فكما تذهب بصرتك وتأتي بثياب جديدة لأبنائك، وهم سيلبسونها خارج البيت،
فانظر إلى أبناء الجيران هل عندهم من ذلك شيء، أم أنهم أيتام ليس هناك من
يأتيهم بشيء فتنكسر قلوبهم.
إن ألزم ما يكون على الإنسان من باب البر والطاعة، ومن باب المراعاة مراعاة
حال هؤلاء في ذلك اليوم، وقد جاء ما هو أبعد من هذا، وهو أن المرأة إذا
طبخت وخرجت ريح قدرها فلتغرف لجيرانها، وإذا اشتريت الفاكهة لأبنائك فمرهم
أن يدخلوا بها داخل البيت، فإذا خرجوا بها في الشارع فأطعم منها أولاد
جيرانك؛ لأنهم رأوها، فإن تأخذها إلى بيتك وتطعم أولادك ولا أحد ينظر فلا
مانع، لكن أن يخرجوا بها في الشارع، وينظر إليها أولاد الجيران، وليس عندهم
منها شيء، ولا استطاعة لهم على شرائها، فإنك تكون قد كسرت قلوبهم.
ففي هذا الحديث من التوجيه الاجتماعي الشيء العظيم، فالمرأة أشد ما تكون
بخلاً حين تملك الحلي وأدوات الزينة، وهنا يأمرها صلى الله عليه وسلم أن
تعطي أختها، وليست أختها بنت أمها وأبيها، لكن أختها في الإسلام، كجارتها
ونحوها.
حكم الضرب بالدف يوم
العيد
جاء في شأن هذا اليوم ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد وعندي جاريتان
للأنصار يغنين بغناء يوم بعاث، ويضربن على الكربال) والكِربال بالكاف
المكسورة، وبعض الناس يحرفها فيقول: (الغُربال) ، والكربال: هو الدف الذي
لا شناشين فيه، فإذا وضعت فيه شناشين سمي المزهر.
قالت: (فدخل أبو بكر علي، فأخذ يلهزني ويعاتبني: أمزامير من مزامير الشيطان
في بيت رسول الله؟) .
والجواري هنا إما بمعنى مملوكات، أو بمعنى: بنات صغار، فإذا بلغت الجارية
تسعاً فهي امرأة، وتطلق الجارية على الفتاة الصغيرة دون البلوغ.
وقالت: (فدخل رسول الله فتمدد على فراشه، وغطى وجهه، واستدار عنا) ، وهنا
يقال: أسمع ذلك من الجاريتين أم لا؟ أسمع الكربال يضرب عليه أم لا؟ ولكنه
سكت صلى الله عليه وسلم، فدخل أبو بكر فعاتب عائشة، فكشف وجهه وقال: (دعهما
يا أبا بكر، إن هذا عيدنا) تقول رضي الله تعالى عنها: فلما غفل غمزت إليهما
أن انصرفا.
فهاتان جاريتان تدخلان على عائشة تغنيان عندها، وفي بعض الروايات: (وليستا
بمغنيتين) أي: تحكيان الغناء، وليستا محترفتين للغناء؛ وهذا مثلما يقع في
البيوت، فالذي عنده بنات أو حفيدات يوم العيد أو في مناسبة أخرى إذا لم يكن
عندهم هذا الكربال يأتون بغيره يدقون عليه ويغنون، وليس هذا من باب احتراف
الغناء، ولكن محاكاةً وفرحة وبهجة.
فالجاريتان أتتا إلى بيت رسول الله فاستقبلتهما عائشة، وفسحت لهما، فيدخل
رسول الله ويشاهد هذا الحدث، وليس هو بالراغب في سماعه، وليس بالممانع من
وقوعه، فنام وغطى وجهه، فتغطيته لوجهه دليل على أنه مترفع عن مثل هذا،
وكونه على فراشه يسمع دليل على إقراره، أي: أقر ما يكره مما لا يتناسب مع
مقام النبوة، ولكنه بحاجة إلى هؤلاء الناس، فأباحه لهذا ولم ينكر عليهم.
فأنت -أيها الداعي- كن حكيماً فراعِ شعور الناس، وراع المناسبات، وإذا كان
هناك ما تكرهه وأنت مترفع عنه في درجة عالية، فانظر إلى الآخرين، وليكن ذلك
بحكمة، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يراع ما راعاه رسول الله، فأنكر
المنكر في بيت رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن له
العلة: (إنه يوم عيدنا ... ) وفي رواية ساقها ابن حجر في فتح الباري أنه
قال: (يا أبا بكر! دعهما؛ لتعلم يهود أن ديننا دين السماحة) ، فليس هناك
تشدد وغلو إلى أقصى حد، وكذلك ليس هناك انسياب وضياع، فهي مراعاة ليوم واحد
في السنة، وليس هناك منكر، وليستا مغنيتين محترفتي الغناء، وإنما هو لعب
أطفال في بيت من البيوت، وهذا أمر يغتفر ويسامح فيه.
وزد على هذا ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها قالت: دخل الأحباش المسجد يلعبون بحرابهم.
والأحباش: جمع حبشي، من أهل الحبشة، وأهل الحبشة يحبون الطرب، وكل الأفارقة
يحبون الطرب، فأخذوا يلعبون في المسجد بحرابهم.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إما سألني وإما طلبته، وجاء
في بعض الروايات قال: (أتحبين أن تري يا عائشة، فقامت وقام معها رسول الله،
تقول: وقف خدي على خده يسترني، وأنا أنظر، ثم يقول: دونكم يا بني أرفدة،
دونكم يا بني أرفدة) وهذا لقبهم، ومعنى (دونكم) انتظروا واصبروا.
فإذاً: سمح لهم رسول الله، ثم سمح لزوجه أن تنظر إليهم، وقد دعا هذا إلى
استغراب شراح الحديث، إذ كيف تنظر إلى الأجانب، وكيف يرضى لها بذلك صلى
الله عليه وسلم، والجواب: أن عائشة في ذلك الوقت لم تبلغ خمس عشرة سنة؛
لأنها عقد عليها صلى الله عليه وسلم وعمرها سبع سنوات، ودخل عليها وعمرها
تسع سنوات، في أول سنة أو ثاني سنة من الهجرة، وهذا اللعب كان سنة خمس، فلم
تكن قد بلغت.
وهذا كله لا يلزم ما دام أن الرسول معها وهو يسترها، وسمح لها أن تنظر، فلا
حاجة إلى ذلك، فما المانع -لو وجد مثل هذا- أن يسمح الرجال للنساء ما دام
هناك ستر وليس هناك اختلاط، فهي في بيتها وفي حجرتها، وهم في المسجد.
حال المسلم مع أهله
وإخوانه من المسلمين يوم العيد
وقد تكلم العلماء -وخاصة الشافعية- على أن يوم العيد ينبغي أيضاً أن تظهر
فيه البهجة للصغار، وأباح بعضهم أن يلبس الصغار من الثياب المصبغة بالألوان
-أعني الأولاد الذكور- ولو حلُّوا بالذهب، ولو ألبسوا الحرير؛ لأنهم ليس
عليهم تكليف.
والآخرون يقولون: التكيف على وليهم، فكيف يلبسهم الحرير، والحرير ممنوع على
الرجال؟ ولكن ينبغي أن نعلم أن تحلية الأولاد بالذهب خطأ، ولا ينبغي لنا،
سواء أكان بنتاً أم ولداً إلا إذا كانوا داخل البيت لا يخرجون إلى الشارع؛
لأن في تحلية الصبية بالذهب خطر على حياتهم، كما حصل في قضية الجارية مع
اليهودي كما سيأتي في الحديث، فقد وجدها في أطراف المدينة في خربة، وعليها
أوضاح من ذهب، فرضخ رأسها بين حجرين وأخذ الذهب منها، فأُتيت وهي في الرمق
الأخير، وأخذوا يقولون: من فعل بك هذا؟ لكن لم تستطع أن تتكلم، ثم أخذوا
يعرضون عليها الأسماء: فلان.
فلان.
فلان، حتى ذكر اسم يهودي فأومأت برأسها أن نعم، فجيء به فاعترف، فرض رأسه
بين حجرين.
فسبب قتلها هو الذهب، فبريق الذهب سلب بصره وبصيرته، فقتلها من أجل هذه
الأوضاح، ولو كثرت معنا الأموال فعلينا أن نصونها، وإذا جعلنا للطفلة حلياً
فليس هناك مانع، وبعض الآباء عندهم عقل، فكل هدية تأتي للطفلة من الذهب
يخزنونها إلى وقت زواجها، لكن أن تلبس الذهب وتخرج تنظر يميناً ويساراً هذا
خطر عليها، فالعلماء -خاصة الشافعية كما ذكره النووي في المجموع- يقولون:
لا بأس أن يجمل الصبيان بالحرير، وبالثياب المصبغة الملونة.
ونحن نرى الطفل عمره ثمان سنوات أو سبع ونصف وعليه حلة ضابط برتبة مقدم،
وهو لا يستطيع أن يضبط نفسه، لكن من باب الزينة ومن باب التجميل وتفريح
الأولاد؛ لأن يوم العيد يجب أن تكون فيه سعة، ويجب أن يكون فيه إدخال
السرور على الجميع، ويجب أن يكون فيه توسعة على العيال.
وكما قلنا: مع مراعاة حقوق الجوار، فلا توسع على نفسك وأولادك وفي بيتك،
وبجوارك أيتام جياع لا يجدون كسرة، ووالله لو لم يأت دين ولم تأت سنة في
ذلك، لكانت المروءة والإنسانية توجبها.
وقد روي أن عروة بن الزبير كان كريماً جداً، وكان في سفر ومعه غلام،
فانقطعا في ليلة وضلا عن الطريق، فرأيا ناراً فقصداها، فإذا بعجوز وشيخ
كبير وبيت من الشعر، فحياهما، ثم دخل الشيخ على العجوز وقال لها: ما عندك
لضيفنا؟ قالت: والله ليس عندي إلا تلك الشاة التي تسقي حليبها ابنتك، ولا
تأكل شيئاً إلا حليبها.
فقال: اذبحيها للضيف، قالت: أتقتل ابنتك؟ قال: لابد من ذبحها، فذبحها وأطعم
الضيوف! وفي الصباح قال عروة لغلامه: هل بقي معك شيء؟ قال: نعم، معي ألف
دينار، قال: ادفع خمسمائة للرجل، قال: خمسمائة وشاته تساوي نصف دينار! قال:
ويحك، إنه أكرم منا، قال: كيف؟ قال: لقد أكرمنا بما فيه حياة ابنته، أما
أنت فتكرمه بنصف ما معك، فهو والله مع ذلك أكرم منا.
وهذا يؤيد ويوضح لنا ما كنا نستكثره في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
حينما قال: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف هذا يا رسول الله؟ قال:
رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة
ألف وتصدق بها) ، فصاحب الدرهمين أكرم؛ لأن صاحب الدرهين تصدق بـ (50%) من
رأس ماله، وصاحب المال الكثير تصدق بأقل من ذلك من رأس ماله، وبقى له شيء
كثير جداً، فدرهم أكرم وأجود وأعظم صدقة من مائة ألف درهم.
فمن التوسيع في يوم العيد أن تُلبس المسلمة أختها جلبابها إذا كانت لا تملك
ولا مانع، وقد ذكر لي أنه في زمان كان الرجل يستر قريبته بكيس السكر أو
الأرز من الفقر، وكان رجل عنده ثوب، فكل امرأة لها حاجة تأتي وتستعير ثوبه،
حتى أصبح مشهوراً، فتذهب به إلى حاجتها وترجع، وهذا من التعاون، فيجب على
الموسر أن يفيض على المعسر، والواجد يجب أن يفيض على من لم يجد، ولا ينبغي
أن ينسى الإنسان إخوانه، وقد قالوا: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري
الغني متى يعيل فالغني لا يدري متى يعيل ويفتقر، والفقير لا يدري متى يغنيه
الله وقيل: وما تدري وإن زمرت ثقباً يكون لك أو لغيرك الفصيل فإذا أنتجت
الناقة عندك، ونظفت ولد نتاجها عند ولادته واعتنيت به، فإنك لا تدري أيكون
لك، أم تتركه ويكون لغيرك.
فعلينا أن نتفقد أحوالنا في أيام العيد، وليس في العيد فقط، فالعيد نموذج
ومظهر عام، فعلينا التفقد في جميع أحوالنا وفي جميع أوقاتنا، والتوفيق من
الله.
مكان صلاة العيد
والأفضل فيه
وحديث أم عطية الذي بيْن أيدينا فيه أن الخروج كان إلى المصلى، وقد جاء في
فتح الباري عن زيد بن ثابت أنه سئل -وكذلك رواية ابن عباس -: أتعرف العلم
الذي كان في المصلى؟ قال: نعم، عند دار فلان بن الصرد، والآن مسجد الغمامة
يقال له -أيضاً-: مسجد المصلى، فمصلى العيد كان هناك.
فكان صلى الله عليه وسلم يخرج بالناس إلى ذلك المكان لسعته، ويصلي العيد
هناك، ووردت كلمة العَلَم لكون أمية بن الصلت كان قد وضع منبراً، أو وضع
علماً هناك؛ لأن بيته كان قريباً منه.
فوضع العلم لمكان مصلى رسول الله فيه حفظاً للأثر، قالوا: لم يكن هناك
منبر؛ لأن المنبر ما بني أو صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وضع في
المسجد النبوي منبر إلا في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ذلك كان يخطب
متكئاً على الجذع.
قال بعضهم: ما بين باب المسجد إلى موضع منبر رسول الله من مصلى العيد ألف
ذراع.
وبعد ذلك جاءت خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره لصلاة
العيد موضع منبر رسول الله تأدباً مع رسول الله، فأخذ ميمنة، فمسجد أبي بكر
على ميمنة مسجد الغمامة، ثم جاء عمر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره
موضع منبر رسول الله، ولا موضع منبر أبي بكر، ولابد له أن يتحول، فإن ذهب
وراء أبي بكر بعد كثيراً عن مصلى رسول الله، فجاء إلى اليسار مقابل أبي
بكر.
ولذا يجد من ورد هذا المكان أن هناك هذه المساجد، مسجد المصلى، ومسجد أبي
بكر، ومسجد عمر، ولم يكن لـ أبي بكر ولا لـ عمر رضي الله تعالى عنهما أن
يتخذا لأنفسهما مسجداً ويتركا مسجد رسول الله، ولكن بعد مائة سنة جاء عمر
بن عبد العزيز وكان أميراً على المدينة لبني أمية، فوضع مكان ذلك المعلم،
ومواقع مصلى أبي بكر وعمر ما يشبه المسجد حفاظاً على المكان، ثم تطور بعد
ذلك، فما يسمى الآن بمسجد أبي بكر ومسجد عمر لا يصح أن يظن أحد أن أبا بكر
وعمر يتخذان مصلى ومسجداً ويتركان مسجد رسول الله.
وبناءً على هذا فالأصل خروج الناس إلى الخلاء لصلاة العيد؛ لأن الخلاء فيه
سعة، فيسع الرجال والنساء والصبيان، والمبحث في هذا سيأتي لمناسبة في نهاية
الباب حيث كانوا في حالة مطر فصلى بهم رسول الله في المسجد النبوي.
ومن هنا يقول العلماء: إذا كان المسجد يسع الرجال والنساء والصبيان،
فالأفضل أن تكون الصلاة في المسجد؛ لأن بقعة المسجد خير من بقعة المصلى،
ولهذا قالوا: أهل مكة وأهل المدينة يصلون في مسجديهم ولا يخرجون منهما.
وأما بقية المدن وبقية القرى فيكون لها مصلى يسع الرجال والنساء حينما يخرج
الجميع لصلاة العيد، فـ أم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا بأن ذلك بأمر
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وراء ذلك من الحكمة ما جاء النص
عليه: (يشهدن بركة ذلك اليوم) فهؤلاء العواتق يخرجن، يوماً في السنة، وكذلك
الحيض يشاركن في دعوة الخير، ويحصلن دعوة الخير ويرجعن إلى بيوتهن، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
أحكام تختص بها
الحائض
وأما اعتزال الحيض فلأنهن لا يصلين، وكأن أم عطية تقول: الحائض لا تدخل
المسجد، وهذا واحد من عشرة أو اثني عشر حكماً تتعلق بالحيض، فالحيض يمنع
المرأة من عدة أشياء، فبعضهم ذكر أنها عشرة، وبعضهم ذكر أنها اثنا عشر،
وبعضهم ذكر أنها خمسة عشر.
أما المكث في المسجد فممنوع؛ إذ قد أجمعوا على منع الحائض من المكث في
المسجد.
وأما مرورها إن كانت لها حاجة، فقد استدلوا له بحديث عائشة رضي الله عنها
-وغيرها من أمهات المؤمنين- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قال
لها: (ناوليني الخمرة) وهو في المسجد -والخمرة: شيء يشبه السجادة من خوص
النخل- فقالت: إني حائض، قال: (حيضتك ليست بيدك) وهذا بخلاف الأحناف
القائلين: الحيضة حلت في اليد فلا تمس المصحف.
والذي يهمنا أنها جاءت بالخمرة ودخلت وناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولذا قالوا: مجرد العبور جائز إن وجدت حاجة، فلو أن الحائض تمشي في الطريق
ولحقها ما يؤذيها، ولم تجد فراراً إلا إلى المسجد فدخلت المسجد، وخرجت من
الباب الثاني فلا مانع.
وأما حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) فقد اتفق العلماء على أن
الشخص إذا أجنب وكان الماء في المسجد كما هي حالة الناس سابقاً، فله أن
يدخل ليأخذ ماءً من بئر المسجد ليغتسل، إذا لم يجد غيره.
فمما يمنع منه الحيض ما سبق.
وكذلك يمنع الوطء؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
[البقرة:222] ، وكذلك يمنع الصلاة، وبعضهم يناقش هنا فيقول: هل يمنع الحيض
فعل الصلاة، أو يرفع وجوب الصلاة؟ وهذه ناحية أصولية ليس لنا شغل بها،
وأحسن من ناقشها الباجي لمن يريد أن يرجع إليه، فيمنع فعل الصلاة ولا تصح
منها، وهي آثمة إن تعمدت فعلها، وكذلك صحة الصوم، والمباشرة فيما دون الفرج
على خلاف، وحمل المصحف ومسه، وقراءة القرآن -وهذه عند المالكية فيها نقاش-
والطلاق، والاعتكاف، فكل ذلك تمنع منه الحائض بسبب الحيضة، وأم عطية رضي
الله تعالى عنها هنا إنما نصت على اعتزال المصلى.
فهذا الحديث فيه جوانب عديدة، ولعل ما أوردناه فيه الكفاية، وبالله تعالى
التوفيق.
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النسوة ومعهن الحيض، يشعر
بمغايرة معاملة الحائض في الإسلام عما كانت عليه من قبل، إذ الرسول صلى
الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها
ولم يشاربوها ولم يعاشروها، ويخرجونها من محلها إلى محل تنزوي فيه، حتى
الإناء الذي تأكل فيه ما كانوا يأكلون فيه، والقدح الذي تشرب منه لا يشربون
منه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اصنعوا كل شيء إلا
النكاح) ، حتى قال اليهود: هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا ويريد أن يخالفنا
فيه.
فهنا تخرج مع الجميع، ولا تنعزل في بيتها، ولا تنعزل عن أهل بيتها
ومخالطتهم، بل تخرج مع عموم نسوة المسلمين إلى المصلى، وتشهد بركة ذلك
اليوم، وتشارك في الدعاء؛ لأن الحائض وإن منعت من قراءة القرآن لكنها لا
تمنع من الذكر والتحميد والتسبيح، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم،
والدعاء والاستغفار، فهي تشارك في هذا كله، كما قال لـ عائشة: (اصنعي ما
يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ، والحاج يلبي ويذكر ربه.
كتاب الصلاة - باب
صلاة العيدين [2]
من الأحكام المتعلقة بصلاة العيدين تقديم الصلاة فيها على الخطبة،
والتكبيرات في الصلاة وعددهن، والسور التي تسن القراءة بها في الصلاة،
والخطبة وما تشمل عليه، إلى غير ذلك مما شرحه الشيخ في هذه المادة.
صفة صلاة العيدين
تقديم الصلاة على
الخطبة يوم العيد
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: [وعن ابن عمر رضي الله
عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين
قبل الخطبة) متفق عليه] .
قبل الكلام على الحديث ينبغي أن يعلم أن الاغتسال للعيد سنة، فيغتسل
الإنسان للعيد كما يغتسل للجمعة، قالوا: إن الأحاديث في غسل الجمعة أشد
تأكيداً منها في العيد، ولكن السبب مشترك، وهو اجتماع الناس في يوم عيد
والجمعة، فألحقت الجمعة بالعيدين وسميت عيداً.
وأما متى يغتسل؟ فقالوا: من الفجر إلى صلاة العيد.
وبعض المالكية قالوا: لو اغتسل قبل الفجر فلا مانع من ذلك.
والشافعية قالوا: ولو بعد منتصف الليل؛ لأنه يحتاج إلى إخراج الزكاة
والذهاب إلى المصلى، فلو أخر الاغتسال إلى ما بعد صلاة الصبح فقد ينشغل
ويتأخر عن الحضور إلى المصلى.
وأما الحديث هنا ففيه أنه كان صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه من بعده، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من بعد أبي بكر -أي:
الشيخان- يصلون العيد قبل الخطبة، فالخطبة بعد الصلاة.
والمؤلف يأتي بهذا ليبين الواقع، وليرد على ما أحدثه بعض الأمويين في
المدينة، حيث كان عاملاً لـ معاوية فخطب قبل الصلاة، فقام أبو سعيد الخدري
وقال: والله لقد غيّرت.
كان رسول الله وأبو بكر وعمر يصليان قبل الخطبة! قال: يا أبا سعيد: الأمر
لا كما تعلم.
قال: والله ما أعلمه خير مما تعلمه.
فقال: يا أبا سعيد! إن الناس كانوا ينتظرون الخطبة بعد الصلاة زمن رسول
الله، وأبي بكر وعمر، فأصبحوا بعدهم لا ينتظرون، فإذا قضوا الصلاة نفروا
وذهبوا.
وقيل: إن أول من غيّر وقدم الخطبة معاوية، وكان هؤلاء عماله في الحجاز -أي:
في المدينة ومكة- فتبعوا معاوية وقدموا الخطبة؛ لأن الناس ملزمون بالبقاء
للصلاة، على مذهب من يرى أن صلاة العيد فرض عين، وهناك من يرى أنها فرض
كفاية، وقيل: هي سنة.
فالمؤلف رحمه الله ذكر لنا هذا الأثر ليبين لنا السنة النبوية في أن الصلاة
أولاً، كما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم خرج وقال: (أول عمل لنا هذا اليوم
الصلاة) أي أن الخطبة بعدها، ويذكر ابن حجر أيضاً وغيره أنه صلى الله عليه
وسلم بعدما صلى استقبل الناس، وقال: سنخطب، فمن أراد أن يجلس فليجلس، ومن
أراد أن يذهب فليذهب.
إذاً: فالأصل في الخطبة والصلاة في العيد أن تكون الصلاة أولاً، ثم بعد ذلك
الخطبة، والخطبة تكون للمواعظ والإرشاد والتوجيه، فبعض الناس يجلس يستمع
إليها، وبعض الناس يذهب عنها.
حكم صلاة العيد وعدد
ركعاتها
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد
ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) أخرجه السبعة] .
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هنا بيان عدد ركعات العيدين، وسيأتي بعد ذلك
بكيفية صلاتهما من حيث التكبيرات والقراءة، فـ ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين ركعتين، وهذا
مجمع عليه لا خلاف فيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ركعتين، وجاء عن عمر رضي الله تعالى
عنه في أثر يرويه أو يسوقه العلماء: (صلاة السفر ركعتين، وصلاة الجمعة
ركعتين، وصلاة العيد ركعتين، تمام بلا نقصان) .
فالأصل الثابت في صلاة العيدين أنهما ركعتان.
ولكن المستدرك هنا في حق من فاته العيد، فهل يصلي عيداً؟ وكم يصلي؟ فقد روي
عن علي رضي الله تعالى عنه أنه لما خرج لصلاة العيد في المصلى، قيل له: إن
هناك أناساً عجزة -أي: يشق عليهم الخروج مع الناس إلى المصلى- فاستخلف من
يصلي لهم، قال: (لو استخلفت لأمرت أن يصلي أربع ركعات) .
وقبل الشروع في الغرض ينبغي أن يعلم أن من فاتته صلاة العيد إن شاء صلى وإن
شاء ترك، فهو إن شاء صلى هناك، وإن شاء رجع إلى المسجد، وإن شاء ترك الصلاة
بالكلية؛ لأن صلاة العيدين ليست فرض عين، خلافاً لمن يقول بذلك، وأشد من
يتشدد في ذلك الأحناف، فيرون أنها واجبة، والواجب عندهم غير الفرض، فالفرض
ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل آحادي، وبقية العلماء يقولون: هي
فرض كفائي، ولو تركها أهل قرية لقاتلهم الإمام عليها.
ومنهم من قال: هي سنة مؤكدة، كما يقول الشافعية.
ما يفعله من فاتته
صلاة العيد
ويبحثون فيمن فاتته لعذر أو لغير عذر إذا أراد أن يتدارك ذلك.
فمنهم من يقول: يصلي.
والآخرون يقولون: إن شاء ترك ولا شيء عليه؛ لأن الواجب قد أدي بغيره.
والقائلون: إنه يصلي يختلفون، فمنهم من يقول: يصلي ركعتين، ومنهم من يقول:
يصلي أربعاً، ويستدلون بحديث علي المذكور، وهو موقوف عليه، وقياساً -وإن
كان القياس فيه نقاش- على الجمعة، فإن فاتته الجمعة يصلي أربعاً، ولكن هل
الأربع هذه بدل الجمعة، أم الأربع هي الظهر؟ والجواب: الأربع هي الظهر، فلا
علاقة لها بالجمعة.
وجاء في الحديث: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) ؛ لأنه أدركها
مستكملة شروط الجمعة في مسجد، ومع الإمام في جماعة، وفي وقتها، (ومن لم
يدرك ركعة فليصل أربعاً) ، فمن لم يدرك ركعة كاملة، بأن يدرك الإمام بعد
الاعتدال من الركعة الثانية بعد أن يرفع ظهره، فعليه أن يصلي أربعاً، وإن
كان عند الأحناف أن من أدرك أي جزء من الركعة الثانية فإنه يصلي ركعتين،
فإذا أدرك الإمام وهو في التشهد، وكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم الإمام
فإنه بعد سلام الإمام يأتي بركعتين فقط، والأئمة الثلاثة يقولون: إذا لم
يدرك ركعة كاملة، بأن يدرك ركوعها فإنه يأتي بأربع، فلو جاء والإمام قد رفع
رأسه وقال: (سمع الله لمن حمده) ، فوقف في الصف وكبر فعليه أن يأتي بأربع؛
لأنه لم يدرك ركعة كاملة.
فقال البعض: من فاتته صلاة العيد يصلي أربعاً، قياساً على من فاتته الجمعة.
ولكن يجاب عن هذا بأن القياس كائن مع الفارق؛ لأن من فاتته الجمعة انتقل
إلى فرض آخر وهو الظهر، والظهر أربع، والأربع التي يصليها ليست عوضاً عن
الجمعة، إنما هي فرض مستقل بذاته، وهنا يأتي المؤلف ليبين أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يصلي العيدين ركعتين، ولذا فالجمهور على أن من فاتته
صلاة العيد وأراد أن يصلي فإنه يجزئه أيضاً ركعتان، سواءٌ أصلاها في المصلى
أم ذهب إلى المسجد، أم صلاها في بيته، فكل ذلك يجزئه، والأمر فيه سعة.
والله تعالى أعلم.
ومما يتعلق بمن فاتته صلاة العيد أنه إذا كان معه آخرون هل يصلون جماعة أم
فرادى؟ وهل يأتون بالخطبة كما جاء بها الإمام في صلاة العيد في المصلى أم
لا؟ والجواب عند العلماء أنهم إن كانوا قليلين لا تقوم بهم الجمعة، أو
كانوا متخلفين أشتاتاً، وأرادوا أن يصلوا صلاة العيد، أو يقضوا صلاة العيد
فلا يعيدون الخطبة، ولو أن الإمام خرج إلى المصلى وهناك من ضعفة الناس من
استخلف لهم ليصلي بهم فإن المستخلف لا يعيد الخطبة، فيصلي بلا خطبة؛ لأن
الخطبة أساساً مع الإمام، وهؤلاء ليس لهم عيد مستقل، إنما هم أهل أعذار
يصلون عوضاً عما فاتهم مع الإمام؛ لأنهم لو تركوا الصلاة بالكلية فليسوا
آثمين؛ لأن صلاة العيد ليست فرضاً عينياً كالظهر والعصر، وغاية ما تكون
أنها فرض كفائي، والفرض الكفائي قد أدي بمن خرج مع الإمام، وعلى هذا فمن
فاتته صلاة العيد، وأراد أن يصلي فليست عليه خطبة، سواءٌ أكان وحده أم كان
معه جماعة.
لا أذان ولا إقامة
في صلاة العيد
[وعنه رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا
إقامة) .
أخرجه أبو داود، وأصله في البخاري.
] .
هذا الحديث يتعلق بهيئة وكيفية وآداب صلاة العيدين، فيذكر ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد -والعيد هنا اسم
جنس يراد به العيدين، أي: عيد الفطر أو الأضحى- بلا أذان ولا إقامة.
وبالتأمل نجد أن كل صلاة لم يشرع لها أذان إلا الصلوات الخمس، فصلاة
الاستسقاء ليس فيها أذان، وصلاة الكسوف ليس فيها أذان، والتراويح والجنازة
والصلوات العامة التي تؤدى فرادى وجماعة لم يشرع لها أذان.
قصة مشروعية الأذان
في الإسلام
الأذان من خصائص الصلوات الخمس، وكانوا في بادئ الأمر يعلم بعضهم بعضاً
حينما يأتي وقت الصلاة، ويخرج المبكر ويمر على بيوت الآخرين في الطريق
يقول: جاء وقت الصلاة، والثاني من جهة، والثالث من جهة، ثم كثر الناس وثقل
هذا الأمر، فاجتمعوا ليختاروا وسيلة إعلام بدخول الوقت، فقوم اقترحوا
الناقوس، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا للنصارى، وقوم اقترحوا البوق، فقال:
هذا لليهود، وقوم اقترحوا أن يشعلوا ناراً، فقال: هذا للمجوس.
ثم افترقوا ولم يتفقوا على شيء، وإذا بـ عبد الله بن زيد يرى في منامه أنه
رأى رجلاً يلبس بردين أخضرين يحمل ناقوساً على كتفه -وفي بعض الروايات:
عوداً على ظهره- قال: أتبيع هذا الناقوس؟ قال: ماذا تفعلون به؟ قال: نؤذن
به للصلاة قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تقولون: (الله
أكبر) أربع مرات، ثم ذكر ألفاظ الأذان كاملة، ثم تنحى عنه، ثم قال: ثم
تقولون: (الله أكبر الله أكبر) وذكر الإقامة كاملة، فاستيقظ وجاء فرحاً إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه ما رأى، فقال: إنها رؤيا صدق، قم
فألقه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً، فقام بلال يؤذن وقت الصلاة، فإذا بـ
عمر يأتي يجر رداءه مسرعاً فقال: يا رسول الله! والله لقد رأيت مثلما سمعت،
رأيت في النوم مثل هذا الذي سمعته من بلال! قال: قد رأى عبد الله مثل ذلك.
وقد يقال: إن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة وهي فريضة وركن الإسلام
الأكبر، والرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي ليلاً ونهاراً، فكيف لا
ينزل عليه الوحي ويترك ليراه صحابي في النوم! مع أن الوحي قد جاءه صلى الله
عليه وسلم وهو في الصلاة وفي نعليه أذى ليقول له جبريل: اخلع نعليك يا
محمد؛ فإن فيهما أذى، فكيف لا يأتيه بالأذان؟ والذي يبدو لي أن هذا هو عين
الحكمة؛ لأن الأذان فيه أعظم منقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم
شرف ومكانة، وذلك حين يقرن اسمه صلى الله عليه وسلم بـ (لا إله إلا الله) ،
فيقول المؤذن بأعلى صوت: (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول
الله) فلما كان فيه تكريم لرسول الله إلى هذا الحد ترك المجيء به عن طريق
الوحي إلى أن يراه شخص من الناس، فيقول: رأيت فيما يرى النائم.
ويذكر الأذان.
فحينما يُعلم بهذا على المنائر لا يمكن لمنافق رغم أنفه أن يأتي ويقول: إن
محمداً صلى الله عليه وسلم يمدح نفسه على المنائر فيقرن نفسه مع (لا إله
الله) ، فالوحي تخلى عن ذلك وتركه حتى يأتي لفظ الأذان مشروعاً على لسان
رجل من عامة الناس.
وليس التشريع لرجل من عامة الناس! ولكن لما سمع ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (إنها لرؤيا حق) فأقرها، وحينما قال: (رؤيا حق) دخلت بذلك
في التشريع، فنقول: شرعها رسول الله.
أي: صادق عليها.
فكان الأذان أساساً لإعلام الناس وهم متفرقون في بيوتهم للصلاة، ولكن يوم
العيد ليس الناس فيه بحاجة إلى من يناديهم، فكلهم مجتمعون منذ الصباح، فقد
مضت أيام وهم ينتظرون مجيء العيد، فهم متواعدون على الاجتماع قبل أن يأتي
وقته، فلا حاجة إلى هذا النداء، وهذا أمر.
والأمر الثاني وهو أدق -أن المؤذن ينادي ويقول: (حي على الصلاة) ، ومعنى
ذلك: أقبلوا يا سامعين، فيتعين على كل من سمع أن يقبل، وصلاة العيد لا
تتعين على كل من يسمع.
إذاً: فلما لم تكن صلاة العيد متعينة لم يكن النداء عاماً يشمل الجميع،
وعلى هذا كانت صلاة العيدين في واقع أمرها في غنى عن أن يشرع لها أذان أو
إقامة.
هل ينادى لصلاة
العيد بغير الأذان؟
وأما المناداة بما فيه تنبيه للناس فبعضهم يقول: لا مانع أن نقول: الصلاة
الصلاة، ولكن لا حاجة لذلك؛ لأن في العيدين إشعاراً أكبر، وهو سنة التكبير،
فالتكبير للعيدين من شعائر الإسلام، ويكبر لصلاة عيد الفطر من غروب شمس آخر
يوم من رمضان، فالليلة التي هي ختام أيام رمضان محسوبة من شوال، فيبدأ
التكبير من غروب شمسها، فالنداء من قبل من الليل، فيكبر الناس في الطرقات،
وفي المسجد، وفي البيوت، وفي كل مكان، فلا حاجة أيضاً إلى النداء إليها،
ويستمر التكبير حتى يخرج الإمام ليعلو المنبر ويخطب.
وفي عيد الأضحى يبدأ التكبير من عشية يوم عرفة، ولكن يستمر إلى نهاية أيام
التشريق الثلاثة؛ لأنها أيام عيد أيضاً، أو تبع للعيد، فيستمر التكبير
فيها، وبعضهم يقول: يترك التكبير، أو تترك التلبية عند رمي جمرة العقبة، ثم
هو بالخيار، فيسبح، أو يحمد، أو يكبر، أو يهلل.
فالعيدان في غنىً عن الأذان، وفي غنىً عن أي إشعار آخر؛ لأن الأذان
للإعلام؛ ولإخبار الناس المتفرقين، وهم عالمون ومجتمعون، فلا حاجة إلى
الأذان.
كيفية التكبير في
العيدين
والتكبير يكون فرادى ويكون جماعة، ومعنى (جماعة) أن يكون الجميع في وقت
واحد يقولون: (الله أكبر الله أكبر) ، ويكون بالدور، فقوم يكبرون والآخرون
يرددون تكبير هؤلاء القوم، وربما سمعنا، أو نشرت الصحف قول بعض من يعترض
ويمتنع، بل هناك من تقدم إلى المحراب، وأخذ وآلة تكبير الصوت من يد الذي
يكبر وقال: هذه بدعة.
وهذه والله جرأة، ولا ينبغي هذا أبداً؛ فالتكبير بالتدوير موجود في الزمن
السابق، ويذكر العلماء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان يكبر منذ
أن يخرج من بيته إلى المصلى والناس يكبرون بتكبيره، وعمر كان يكبر في منى
وهو في مكانه، ويسمع الناس تكبيره فيكبرون بتكبيره حتى ترتج منى بالتكبير.
فالتكبير بالدور لا مانع منه، والتكبير بالصيغ المعروفة التي ألفها الناس
وورد النص بها، وترديدهم هذا التكبير في أنفسهم، أو بصوت يسمعه الآخرون، لا
مانع منه.
حكم التنفل قبل صلاة
العيد وبعدها في المصلى أو في المسجد
[وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي
قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) .
رواه ابن ماجة بإسناد حسن] .
الصلوات الخمس كل صلاة منها لها نافلة قبلها أو بعدها، أو قبلها وبعدها،
وهذه تسمى الرواتب، أو النافلة الراتبة، فللصبح ركعتان قبلها، وللظهر قبلها
وبعدها ركعتان وركعتان، أو أربع وأربع، وللعصر قبلها أربعٌ، وللمغرب بعدها
ركعتان، ويستحب أيضاً ركعتان قبل المغرب، لحديث: (صلوا قبل المغرب ... )
والعشاء لها ركعتان بعدها.
فهذه نوافل راتبة مع الصلوات الخمس، واختلف في الجمعة: هل لها نافلة راتبة
قبلها أم لا؟ فبعضهم يقول: راتبتها قبلها هي راتبة بديلة عن التي قبل
الظهر، ولكن جاء الحديث: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر ثم صلى ما كتب له ...
) الحديث، فليس هناك عدد معين قبل الجمعة، أما بعدها فهناك حديث: (إن شاء
صلى بالمسجد أربعاً، أو صلى بالبيت اثنتين) ، فبعضهم يقول: هذه راتبة
الجمعة، والتحقيق أنها ليست راتبة كراتبة الصلوات الخمس؛ لأن الحديث قبلها:
(وصلى ما تيسر له) أي: ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو أكثر من ذلك.
وعدد رواتب الصلوات الخمس جاء فيها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه
قال: (حفظت عن رسول الله اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة) ، وجاء عنه صلى
الله عليه وسلم: (من حافظ على اثنتي عشرة ركعة ضمنت له الجنة) .
وأما العيدان فيقول العلماء: إن كان سيصلي الإمام بالناس في المصلى فلا
صلاة، فيأتي ويجلس، وليس للإمام أن يأتي قبل وقت الصلاة، وإنما يأتي من
مكانه، ويخرج على الناس حينما يحين وقت الصلاة، ويبدأ بالصلاة حالاً.
وإذا كان مكانه بعيداً ويريد أن يأتي مبكراً فلا يأتي إلى مكانه الذي سيصلي
فيه، بل يجلس جانباً وحينما يحين وقت الصلاة يأتي إلى مصلاه، فليس هناك سنة
قبل الصلاة في المصلى.
وأما إن كانت صلاة العيد في المسجد فبعضهم يقول: لا صلاة؛ لأن الرسول كان
يصلي العيد مباشرة، ولا يصلي قبلها.
فقالوا: عند المجيء إلى العيد ليس هناك صلاة.
وبعضهم يقول: ما دام العيد في المسجد فمن جاء إلى المسجد فعليه تحية
المسجد، فإن كانت صلاة العيد في المصلى فباتفاق أنه لا صلاة قبلها ولا
بعدها، وإن كانت صلاة العيد في المسجد فهناك الخلاف، فمن يقول: الحكم مطرد
يقول: ليس لها صلاة قبلها ولا بعدها، وهناك من يقول: هذا حق في جانب وهذا
حق في جانب آخر، فلو جئت بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فليس هناك صلاة
تحية ولا غيرها، وإن جئت بعد بزوغ الشمس، والإمام تأخر فلم يأت بعد، فإنك
تؤدي تحية المسجد.
والحديث هنا أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء لصلاة العيد لا يصلي قبلها
ولا بعدها، ولكن إذا رجع إلى بيته صلى ركعتين، فإن شئت فعلت كذلك، اقتداء
بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فصليت ركعتين، والمهم عندنا في هذا الباب
فقهه، وهو أنه ليس هناك نافلة راتبة للعيد قبله ولا بعده.
ما يفعله الإمام بعد
الصلاة وهيئة المستمع للخطبة
[وعنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى
المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على
صفوفهم، فيعظهم ويأمرهم) متفق عليه.
] .
في هذا الحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى
المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، والخطبة بعد الصلاة، وفيه أنه كان ينصرف
من مكانه الذي كان يصلي فيه، فكان يصلي مستقبل القبلة، ثم ينصرف عن القبلة
إلى المصلين والناس على صفوفهم جالسين فيعظهم ويأمرهم وينهاهم بالإرشاد
والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يراه مناسباً، والموعظة من
أساس الخطبة، سواءٌ كانت هذه الموعظة وهذا الأمر هو الخطبة أم غير ذلك، فإن
الوعظ وقع بعد الصلاة.
وهذا حديث طويل اختصره البخاري، وتتمته أنه صلى الله عليه وسلم بعدما صلى
خطب الناس بما فيه الموعظة، وبما فيه الأمر، وبما فيه النهي، والناس على
صفوفهم وهو مستقبل الناس، فسنة الخطبة أن الإمام يستقبل الناس، لا أن
يستقبل القبلة وظهره إلى الناس، وكذلك المصلون يستقبلون الإمام بوجوههم.
وقد يكون هذا الأمر عادياً في غير المسجد النبوي، ولكن في المسجد النبوي في
الطرفة من باب السلام إلى الحجرة الشريفة يكون الناس أمام المنبر، والإمام
يخطب، وجلستهم العادية أنهم يكونون مستدبرين الإمام مستقبلين القبلة، فإذا
بدأ الإمام بالخطبة ينبغي أن يستقبلوه بوجوههم، وكذلك من كان في أقصى الصف،
الآن المسجد يمتد إلى ألف تقريباً من الشرق إلى الغرب، ومن كان في وسط الصف
محاذياً للمنبر لا يعادل مكان من كان في طرف الصف شرقاً أو غرباً، فيلتفت
بوجهه إلى الإمام ليسمع الخطبة.
فهؤلاء الذين هم أمام المنبر عليهم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة.
وأما إذا لم نسمع الإمام بذاته، ولم نره بأعيننا، وكان هناك آلات تكبير
الصوت في جدار المسجد القبلي وأتانا صوت الخطيب من أمامنا، فهل نعتبر
أنفسنا مستقبلين للخطيب، أم نستدبر هذا الصوت ونستقبل المنبر؟ والجواب أن
هذه مسألة جديدة تحتاج إلى فتوى.
وعندي أنه إذا كنت في الصف الأخير والمنبر بعيداً فسماعي من الإمام مباشرة
أحسن مما أسمع من السماعة، وإن كنت عند الجدار في آخر الصف، والصوت فوق
رأسي، وإذا التفت لا أرى الإمام ولا أسمعه مباشرة، وسيأتيني الصوت عن طريق
السماعة فالسماعة هذه أولى.
والمهم عندنا أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أدى الصلاة قال: (صلينا،
وسنخطب، فمن شاء جلس، ومن شاء انصرف) وسماع الخطبة يوم العيد ليس كسماعها
يوم الجمعة، والذين قدموها رأوا أن الناس ما كانوا يجلسون إلا وهم يستمعون،
والرسول أباح لمن يريد أن ينصرف أو يجلس، ولكن الأولى والأفضل أن يجلس؛
لأنه لن يعدم الوصية بالخير والنصيحة والتوجيه، ومع جماعة المسلمين تشمله
كلمة (آمين) في الدعاء.
موعظته صلى الله
عليه وسلم للنساء
ومن تتمات هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن وعظ الرجال انصرف إلى
النساء، فالنساء لم يختلطن بالرجال، فالرجال في جهة والنسوة في جهة متميزة
عن الرجال، فأتى إليهن في مكانهن، ومعه بلال يتوكأ عليه، وأخذ يعظهن
ويخوفهن ويأمرهن بالصدقة، فأخذن يلقين من أقراطهن ومن فواتخ أيديهن
-الخواتم- في حجر بلال.
وقد جاء في هذه الخطبة للنساء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تصدقن؛ فإني
رأيتكن أكثر أهل النار) فقامت امرأة منهم تستفسر عن ذلك، فقال لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير) .
وكون المرأة تتصرف في مالها في غيبة زوجها فالجمهور على جوازه ما دامت
تملكه لنفسها، أما لو كان ملكاً للزوج وهو عندها أمانة تتزين به فلا يحق
لها ذلك، والمالكية يقولون: لا يحق للمرأة المتزوجة أن تتصرف في مالها
الخاص إلا بإذن زوجها؛ إذ قد يكون مالها من دواعي رغبته فيها، فإذا عريت عن
المال، وعريت عن الحلي أصبحت هناك مشكلة.
والذي يهمنا في ذلك أن النسوة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذن
يلقين في حجر بلال من حليهن.
عدد التكبيرات في
صلاة العيد، والسنة فيما يقرأ
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال نبي الله صلى
الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى، والقراءة
بعدهما كلتيهما) أخرجه أبو داود، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه.
] بدأ المؤلف رحمه الله في تفصيل كيفية صلاة العيدين، فذكر هنا حديث:
التكبير في الفطر سبعاً في الأولى.
والتكبير في العيدين من شعار العيدين، ومن خصائص الإسلام، والتكبير -كما
يقولون- تكبير عام وتكبير خاص، فالتكبير العام: ما يكون من الليل، وفي
البيوت، وفي الطرقات ونحو ذلك، والتكبير الخاص: ما يكون في الصلاة وما يكون
في الخطبة، وما يكون عقب الصلوات، فهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (التكبير في الفطر) .
وكلمة في (الفطر) ، بعضهم يقول: لا مفهوم لها، فالتكبير في الأضحى كالتكبير
في الفطر، وبعضهم يقول: التكبير في الفطر مخصوص، والأضحى أقل من ذلك أو
أكثر، فبدل السبع تسع أو خمس.
وهنا ينص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التكبير المختص بالصلاة
التي هي صلاة العيدين؛ لأن هناك تكبيرات في الصلوات الخمس، كتكبيرة
الإحرام، وتكبيرات الانتقال عند الركوع، وعند الرفع من السجود، وعند القيام
للركعة الثانية التي تليها، فهذه تكبيرات تسمى تكبيرات الانتقال.
فالتكبيرات التي هي من صلاة العيدين في الأولى سبع، وهناك من يقول: إنها
سبع من غير تكبيرة الإحرام، وهناك من يقول: هي سبع مع تكبيرة الإحرام،
فيكبر تكبيرة الإحرام لتنعقد بها الصلاة، ثم يأتي بعدها بست تكبيرات،
وبعضهم يقولون: التكبيرة الأولى للدخول في الصلاة، ولا تعتبر من تكبيرات
الصلاة، وتكبيرات الصلاة في الركعة الأولى سبع.
وأما هل يأتي بها سرداً: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أو يفصل بينهن
بالأذكار نحو: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة
وأصيلاً) ، فالجواب أن من شاء جاء بها سرداً، ومن شاء جاء ببعض الأذكار بين
كل تكبيرة وأخرى، فإذا أنهى التكبيرات قرأ.
وسيأتي الحديث بعد هذا يبين كثرة ما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ به في
العيدين، وهذا على سبيل البيان، وليس إلزاماً، ويتعين ولا يحاد عنه، ففي
الركعة الأولى يكبر سبعاً بعد تكبيرة الإحرام، وبعد ما ينتهي من التكبيرات
يقرأ الفاتحة وبعدها سورة (ق) أو غيرها، أو على ما سيأتي النص عليه في
الحديث الذي بعده، ثم يركع ويرفع ويقوم للركعة الثانية، وعند قيامه للركعة
الثانية يكبر، فتلك تكبيرة الانتقال لا يحسبها، ويبدأ فيكبر خمساً.
ففي الأولى يكبر سبعاً لا يحسب معهن تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً لا
يحسب معهن تكبيرة الانتقال التي هي معهودة في الصلوات الخمس، ثم يقرأ في
تلك الركعتين بعد التكبيرات السبع أو الخمس.
القراءة بـ (ق،
واقتربت) في صلاة العيد
قال المؤلف: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ (ق) واقتربت) أخرجه مسلم.
] .
لما ذكر في الحديث الأول أنه يكبر ثم يقرأ في كلتا الركعتين بعد التكبير،
جاء هذا الحديث ليبين ماذا كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، وهم يتفقون على
أنه لا تعيين ولا تحجير، فما رآه الإمام ليقرأ به قرأ، ولكن روي أنه كان
صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة (ق) وبسورة {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وكلتا السورتين فيها المواعظ وفيها
التذكير، وفيها الحث على فعل الخير.
فهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله ماذا كان يقرأ، ويهمنا هنا أن مقدار سورة
(ق) ليس مثل مقدار سورة الضحى، ولا (ألم نشرح) فالإمام يقرأ بما يراه
مناسباً للحاضرين، فإن شاء طول بـ (ق) وأمثالها، وإن شاء اختصر بالضحى و
(ألم نشرح) ، إلى غير ذلك من قصار السور.
كتاب الصلاة - باب
صلاة العيدين [3]
في العيد يظهر فضل الله تعالى على عباده المؤمنين بما شرع لهم من أسباب
الترويح عن النفس والأهل، كما أن من فضله عليهم تلك الآداب الواردة في
كيفية الذهاب إلى المصلى والرجوع منه، حيث يشرع للمسلم الذهاب من طريق
والرجوع من آخر ليلقى أكثر إخوانه ويسلم عليهم ويدعو لهم، وكذلك الخروج إلى
المصلى، إذ فيه إظهار فضل الله على عباده المؤمنين بإعزاز دينه وأهله،
وإغاظة اليهود والنصارى وسائر الكافرين.
من آداب العيدين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حكمة المخالفة في
الطريق يوم العيد
فيقول المصنف: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق) أخرجه البخاري، ولـ أبي داود عن ابن
عمر نحوه] .
هذا من آداب يوم العيد، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى المصلى
وصلى العيد خالف بين الطريق، وهذا عندما يكون للمصلى طرق متعددة بالنسبة
للإمام وكذلك المصلي، وقد اختلفوا في هذه المغايرة هل هي خاصة بالنبي صلى
الله عليه وسلم؛ لأن الذين في الطرقات أو في البيوت ينتظرون مرور رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ويسلم عليهم وتنالهم بركات سلامه عليهم
ودعواته، أم أن ذلك عام لكل مصل؟ فبعضهم يقول: هذه خاصة برسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ لأن الناس ينتظرون عودته ورواحه، وهنا يذكر ما يفعله بعض
الناس من التهنئة بيوم العيد، وربما نسمع بعض الناس يقول: هذه بدعة! وهي
سنة عن رسول الله، والسلف رضي الله تعالى عنهم ينقل العلماء عنهم أنه كان
بعضهم يقول لبعض: تقبل الله منا ومنك، وهذه هي التهنئة بيوم العيد.
فالذهاب من طريق والعودة من طريق قيل: إنها ليرى الإنسان من لم يره من قبل،
وقيل: هذا من جانب المقيمين، ليكون لهم حظ من سلام الإمام ودعوته لهم في
ذلك اليوم بالخير.
فمغايرة الطريق قيل: هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل هي عامة
لكل مصلٍ، والله تعالى أعلم.
العيد يوم راحة
المسلم وسعادته مع إخوانه المسلمين
[وعن أنس رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله خيراً منهما يوم الأضحى
ويوم الفطر) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد] .
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً صلوات
الله وسلامه عليه، وجد لأهل المدينة يومين يلعبون فيهما، وهذه من عادات
الشعوب، فلها -حسب العادات والوقائع- أيام يفرح فيها الناس ويلعبون فيها،
كما هي العادة المشهورة عند كثير من الأمم، وسبب هذين اليومين لم أقف عليه
حتى الآن.
وهنا لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب اللعب في هذين اليومين،
ولكنه لما كان من عمل الجاهلية وقبل الإسلام، ولم يتضح لهما سبب شرعي لم
ينههم عن ذلك، وهذه مسألة ينبغي التنبيه عليها؛ لأنها قاعدة إسلامية
إصلاحية عظيمة جداً، فإذا رأيت إنساناً يرتكب أمراً مخالفاً فقبل أن تنهاه
عنه انظر إلى البديل الذي يصلح لتقدمه إليه ليتخلى عن غير الصالح، إنسان
كفيف له عصا يتوكأ عليها، لكن تلك العصا متنجسة، أو فيها شوك، أو أنها على
وشك الانكسار، أي أنها غير صالحة لمهمتها في نظرك وأشفقت عليه، فلا تقل له:
ارم العصا من يدك، بل قبل ذلك، وقبل أن تقول له إن العصا غير صالحة ائت
بعصا صالحة، وقل له: خذ هذه فهي خير مما في يدك، وألق التي في يدك.
فستجد أنه عندما يحصل على شيء خير من الذي بيده سيلقي ما بيده قبل أن تقول
له: ألق ما في يدك؛ وهكذا لو وجدت شخصاً في طريقة مبتدعة وطريقة منكرة لم
تجد لها أصلاً في الدين.
فلا تأت إلى إنسان لتنزع ما بيده استنكاراً قبل أن تهيأ له البديل عن ذلك
المنكر.
حكمة النبي صلى الله
عليه وسلم في معالجة الأمور
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يلعبون على حال من الترفيه
البريء، فما استنكر لعبهم، ولكن استنكر توقيت اللعب باليومين، فقال: (قد
أبدلكم الله خيراً من هذين اليومين يوم الفطر والأضحى) .
ولو جئت من باب الترفيه، ومن باب التسلية، ومن باب إظهار السرور لا تجد
يومين في حياة الأمة كيومي العيد، بخلاف الأفراد؛ لأنه قد يكون للفرد في
حياته يوم خير من العيد، كما وقع لـ كعب بن مالك حين كان مع الذين تخلفوا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، فعندما تخلفوا عن تبوك وجاءوا
يعتذرون قبل عذرهم إلا ثلاثة، ومنهم كعب بن مالك، حتى جاءت توبتهم من عند
الله، وليس المخلفون الذين تخلفوا عن الغزوة، فالذي تخلف عن الغزوة عدد
كثير، لكن كلهم جاءوا فاعتذروا فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ظاهر الأمر، وترك حقيقتهم إلى الله إلا هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا وقالوا:
والله ما كان عندنا عذر فخلفوا عن قبول توبتهم وعذرهم، فيوم أن نزلت توبتهم
وذهب إلى كعب رجل ونادى وقال: أبشر يا كعب، وركض إليه رجل بالفرس فكان صوت
المنادي أسرع من ركض الخيل، فلما جاء الذي صرخ له أعطاه ثوبه الذي عليه
وقال: والله ما عندي غيره، ثم استعار ثوباً من جماعته وذهب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فاستقبله رسول الله بالبشر وقال له: (أبشر -يا كعب -
بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس من حين ولدتك أمك) ، فأسعد يوم مر عليك هذا
اليوم، رغم أنه قد مرت عليه أعياد، وشارك في الجهاد، لكن هذا اليوم الذي
تاب الله عليه فيه كان أسعد يوم مر عليه.
فالأيام السعيدة ذات الذكرى الجميلة قد تكون للفرد، وكلنا له يوم أو أيام
حسب ظروفه ومشاغله، لكن لا يوجد للأمة يومان أفضل من يومي العيدين، وتقدم
لنا أن الأعياد عند الأمم لمناسبات سببها حدث في يوم واحد تبقى ذكراه مع
التكرار، لكن في الإسلام في كل سنة عيد حقيقي؛ لأن عيد الفطر عيد بصيام
رمضان، وهذه نعمة كبرى؛ لأن الله وفق الناس وأعانهم على أنفسهم وعلى
الشيطان والهوى، وحجزوا النفس عن الأكل والشرب والشهوات حتى أكملوا الشهر،
كذلك الحج جاءوا من كل فج عميق، واجتمعوا في واد غير ذي زرع، وأدوا المناسك
بحمد الله، فكان عيد الأضحى.
فهما يومان عظيمان مرتبطان بيومين متكررين وعبادتين متكررتين في كل سنة،
والرسول صلى الله عليه وسلم انتقد اليومين ولم ينتقد اللعب، وأشعرهم أن
الله قد أبدلهما خيراً منهما.
إباحة اللعب والترفه
يوم العيد
فمن باب الإيماء والتنبيه يكون هذا الحديث: (إن الله قد أبدلكم يومين خيراً
منهما) فيه إباحة اللعب في العيد، ولا شك أنه لم ينكر اللعب عليهم، ولكن
أنكر التوقيت الزمني، فأخبرهم أن الله تعالى أبدلهم يومين بيومين، واللعب
على ما هو عليه.
والله أعلم.
ولو أن للناس عادة ويوجد نظير ذلك من السنة من الشرع فالأولى أن يأخذ
البديل من السنة، بل قد يتعين؛ لأن المسلمين أمروا باتباع ما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] والخير كل الخير فيما جاءنا به الرسول
صلى الله عليه وسلم، ولو كان يخالف عادات وطباع الناس، وعلى الناس أن
يتطبعوا على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن يخضع الرسول صلى
الله عليه وسلم وما جاء به لأهوائهم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا
يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) .
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وصنع له الطعام، وكان رجل بصحبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فكان الطعام من الدباء، فالرجل يقول: (رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء في القصعة، قال: فما زلت أحب الدباء من
ذلك اليوم) ، فبسبب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للدباء صار الصحابي يحب
الدباء، وهل هناك حب أكبر من هذا؟ فكأنه يقول: اخترت ما اختاره الله لرسوله
صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت الحديث الذي يدل على لعب الأحباش في المسجد النبوي وأم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (ربما سألني -أو سألته-: أتحبين أن
ترينهم؟ قلت: بلى.
فقمت وهو يسترني من الناس وخدي على خده، وهو يقول لهم: دونكم يا بني أرفدة،
دونكم يا بني رفيدة) وكان يقول لـ عائشة: (هل اكتفيت) وهي تقول: لا.
قالت: والله ما بي رؤيتهم، وإنما أردت أن يعلم زوجات رسول الله بقيام رسول
الله معي ليعرفن مكانتي عند رسول الله، فهل يمكن أن تتسع لإنسان أخلاقه مع
الزوجة في مثل هذا الباب إلى هذا الحد فيتحمل من أجلها ويصبر؟ فانظروا إلى
مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فلا مانع من اللعب في يومي العيد، وفي القديم كان يوجد مكان للعب الصبيان
في المدينة، وكان أهلهم يجمعونهم ويحملونهم على العربات التي تنزل من القرى
محملة بالبرسيم أو الدباء، وهي التي كانت تستعمل في التنقل في المدينة،
فكانت هذه العربات التي تجرها البهائم يوم العيد تزين، ويجعل لها صندوق،
ويجمع الأطفال بلباسهم يوم العيد والزينة، ويذهب بهم للتنزه واللعب، وتظهر
ألعاب جديدة منها الجائز ومنها المحرم، فكان أطفال المدينة يظلون ثلاثة
أيام في لعب ومرح وبهجة، ولا يعكر عليهم شيء.
فلا مانع أن يسمح للكبار والصغار، ولا مانع أن يسمح أيضاً للأطفال ذكوراً
كانوا أو إناثاً، ماداموا في السن الذي ليس فيه فتنة، وكان عندهم كبير
يرعاهم حتى لا يتأذون، فلا مانع أن نسمح لهم، ونجعل لهم أماكن للعب، بشرط
أن تكون تحت إشراف مسئولين، وبأنواع جائزة بعيداً عن المقامرات.
ومما جاء في هذا أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على عائشة، وأنكر عليها
وجود الجاريتين تغنيان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (دعهن يا أبا بكر؛
ليعلم اليهود أن ديننا دين سماحة) ، أي: ليعلموا أن في ديننا الترفيه
البريء.
فسعادة الإنسان إن يجد شيئاً كان يفتقده، وهذا ما يحصل في يوم العيد، ومما
يذكر عن بعض الفلاسفة أن إنساناً جاء يشتكي إليه الضيق والقلق، فسأله: هل
أنت متزوج؟ قال: لا، قال: هل ينقصك من الدنيا شيء؟ قال: عندي أموال كثيرة،
قال: هل أحد ينغص عليك وظيفتك؟ قال: أنا أعمل عملاً حراً، فأخذ يسأله عن كل
الجوانب فرأى أن كل شيء متوفر عنده، فقال له: اكتب لي أن تعمل ما آمرك به
حتى تنال السعادة؟ قال: أعَملُ ما أردت، فأخذه ودخل به على الطبيب وقال له:
اثنِ رجله إلى فخذه وغطها بالجبس، فخدره فنام، وجاء من المشرحة برجل مبتورة
ووضعها بجانبه على السرير، فلما استيقظ إذا به يبحث عن رجله فلم يرها، ووجد
رجلاً مبتورة بجانبه، فظن أن رجله قد بترت، فقال: أنا ما قلت لك أن تفعل
هذا، قال: لقد كتبت لي أن أعمل ما أشاء حتى أوصلك إلى السعادة، ثم قال له:
إن أردت أن أرجع لك رجلك، فإني أريد مالاً، قال له: خذ ما تريد، فخدره وفتح
الجبس وأعاد تلك الرجل إلى المشرحة، فلما استيقظ قال: أنا الآن أسعد مخلوق؛
لأنه افتقد شيئاً عزيزاً عليه ثم وجده وظفر به.
ورجل هرب عليه عبد، فقال: من يأتيني بعبدي فله عشرة آلاف.
فقيل له: العبد لا يساوي أكثر من ألف! قال لهم: ائتوني به، فلما أتوا به
دفع العشرة الآلاف، فعوتب على ذلك، فقال: إنكم لا تعرفون لذة الظفر،
فالعشرة الآلاف لم أدفعها لعودة العبد، ولكن لأظفر بمطلوبي.
وقد روي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قيل له: شاركت في المعارك، ولك
أموال وصحة، فما هي أمنيتك بعد هذا؟ فقال: (أن تكون ليلة شديدة البرد عاصفة
الرياح غزيرة الأمطار وأقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله) .
فسعادة الإنسان في أن يجد شيئاً كان مفقوداً، وإذا ما استكملت له كل أغراضه
افتقد السعادة، فيوم العيد يجد فيه الأطفال والكبار والصغار البهجة ودواعي
السرور وما يسمى الترفيه البريء، وليس غير البريء، والذين يذكرون بعض
الحروب المتأخرة يعرفون الترفيه البريء ماذا كانت نتائجه، سواءٌ على
إسرائيل أم على غيرها.
سنة المشي في الذهاب
إلى المصلى
[وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً.
] .
هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وهذا اصطلاح علماء الحديث، والسنة لغة:
الطريقة، والسنة: نهج الحياة، كما قيل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل أمة
سنة وإمام فالسنة: الطريقة التي تعارف عليها الجماعة.
والسنة في الشرع تطلق على معنيين، فتطلق على النصوص التي صدرت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بجانب القرآن، فتقول: الكتاب والسنة، فيكون الكتاب
نصوصه وحي من الله والسنة وحي لرسول الله، وكلاهما وحي كما قال السيوطي:
الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته وتعبدنا بتلاوته، فقال صلى الله عليه وسلم:
(من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف،
ولام حرف، وميم حرف) ، فهذا تعبدنا الله بتلاوته، قال: ووحي لم نؤمر
بكتابته ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة.
وكان كلامه وحياً لنص القرآن الكريم في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}
[النجم:4] ، لكن اتفقوا على أن الحديث القدسي كلام الله، ولكن فرق في
الاصطلاح بين القرآن المأمور بكتابته المتعبد بتلاوته وبين الحديث القدسي،
وكذلك هناك فرق بين الوحي الثالث والسنة النبوية.
وتطلق السنة على منهج العمل، فالسنة في الأكل والشرب أن تأكل بيمينك، نسبة
إلى الحديث الذي يقول: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك) ، والسنة في النوم أن
تضطجع على شقك الأيمن، فالسنة: الطريق والمنهج الذي سنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم للأمة.
فهنا علي يقول: (من السنة) ولم يقل: من السنة قوله صلى الله عليه وسلم
فتكون سنة قولية، لكنه هنا ينقل لنا سنة فعلية، فقال: (أن تذهب إلى العيد
ماشياً) وتخرج من بيتك إلى مصلى العيد ماشياً، ولا يكلف كل إنسان أن ينزل
من ذاك المكان ماشياً، ويمكن أن نقول: في الزمن الأول لا بأس بذلك، الرسول
صلى الله عليه وسلم -وقد جاوز الخمسين- كان يخرج إلى قباء تارة ماشياً
وتارة راكباً، لكن قد تغير الناس في زماننا، فقالوا: لو ركب يركب من منزله
حتى يقارب مشارف مصلى العيد فينزل ويمشي.
وقالوا: المشي هنا لأنه ذاهب إلى عبادة، ويكون ممشاه له فيه بكل خطوة أجر.
وعند الرجوع لم يذكر لنا علي سنة، قالوا: العودة على حسب العادة راكباً أو
ماشياً، والفرق بين الذهاب والعودة أن الذهاب من البيت إلى المصلى بقصد
العبادة، فهذا يتمحض فيه المشي للطاعة والعبادة، لكن في العودة تكون
العبادة قد انتهت.
فالسنة في الذهاب لمن كان يقدر على المشي أن يذهب ماشياً؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يذهب إلى المصلى ماشياً، وكان يغاير بين الطريقين،
فقالوا: ذلك سنة فعلية نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لأن في المشي نوعاً من التواضع وإظهار الإخبات إلى الله، فيكون منذ
خروجه من بيته إلى مصلاه في إخبات وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
حكمة الخروج إلى
المصلى، ومتى يصلى في المسجد
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد) رواه أبو داود بإسناد جيد]
.
لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاة العيدين إلى المصلى،
وذلك لأمرين: لضيق المسجد، ولإظهار الكثرة العددية، والكثرة العددية في ذلك
التاريخ كان لها أثر كبير؛ لأن مجتمع المدينة كان فيه المسلمون والوثنيون
واليهود والمنافقون، والوثنيون واليهود والمنافقون يتربصون بالمسلمين، وكان
في نواحي المدينة أعراب لا يعرفون شيئاً، ولا يقدرون إلا القوة والمنفعة.
فالأعداء في داخل المدينة وخارجها كانوا لا يعرفون إلا منطق القوة، فعندما
يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بهذا العدد الكبير رجالاً ونساء
وأطفالاً حتى الحيض يخرجن مع المسلمين إلى صلاة العيد، يرى أعداء الإسلام
الكثرة فيعملون لذلك حساباً، ومن هنا كانت الكثرة قوة، ومن هنا كان النبي
صلى الله عليه وسلم يحث على التكاثر، فقال: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني
مباه بكم الأمم يوم القيامة) ، بل يذكر في تاريخ العصور الحديثة والدول
الكبرى والصغرى أن جولدا مائير كانت كل صباح تسأل مصلحة المواليد
الإسرائيلية عن عدد المواليد الإسرائيليين والمواليد العرب تنتظر العدد
والكثرة،؛ لأن الكثرة قوة وغلبة.
وقد ذكر أن محاضراً ذهب يحاضر في الصين عن خطورة القنبلة الذرية ويحذرهم
منها، فضحك الحاضرون، فسأل المحاضر: لم يضحكون؟ قالوا: لأن الصين تفرح ولا
تهتم إذا جاءت قنبلة وأخذت مائة ألف أو أكثر من ذلك، فإنه سيبقى في الصين
من يرث العالم كله بالتعداد، فالعدد في الأمة إنما هو قوة.
وحدث في مؤتمر ماليزيا عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة -وشاركنا
فيه- أنهم قدموا قراراً بتحديد النسل تتدخل فيه الدولة، فقلنا لهم: نحن قبل
أن نأتي إلى ماليزيا درسنا التعداد السكاني والوضع الاجتماعي حتى نكون على
بينة، فعرضنا على رئيس اللجنة عدد سكان ماليزيا، فالمسلمون فيهم خمسة
وخمسون في المائة، والصينيون خمسة وأربعون في المائة، والصينيون لم يكونوا
يحددون النسل عقيدة في ذلك الوقت، أما اليوم فأصبحت القضية عامة، فإذا
أصدرتم قراراً بتحديد النسل في ماليزيا الذي سيعمل به المسلمون، فإذا عمل
المسلمون بهذا القانون ولم يعمل به الصينيون -وهم أعداؤكم- فبعد خمس سنوات
سيقضي هذا القرار على ماليزيا دون أن تشعروا، فألغي القرار وألغي الموضوع؛
بسبب ما سيئول إليه التعداد من الكثرة أو القلة.
وهنا كانوا يخرجون إلى مصلى العيد لإظهار تلك الكثرة أمام الأعداء، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يحث الشباب على الزواج، ونهى عن تحديد النسل على
الصحيح، فنهى عن العزل أو كرهه، والله تعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وأقل شيء
أن كل واحدة تأتي بواحد.
وسوداء ولود خير من حسناء لا تلد.
إذاً: كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين لمصلى العيد لأمرين:
الأول: التوسعة على المسلمين، فقد كان مسجده ضيقاً لا يسع لجميع الناس،
فخرج بهم إلى الصحراء، وقد كانت الصحراء واسعة قبل أن يحدث البناء الموجود
اليوم.
ولما نزل المطر وعم الجميع، وأصبح المصلى ممطوراً صلى بهم في المسجد، وهنا
يبحث الفقهاء مسألة صلاة العيدين في المسجد.
فالفقهاء يقولون: إن كان المسجد يسع المصلين فهو أولى وأفضل؛ لأنه معد
للعبادة طوال السنة فهو أولى من الخروج إلى المصلى.
والآخرون قالوا: ولو كان يسع فإن السنة الخروج.
ومن قال: إن تعذر الخروج، أو كان فيه مشقة على الناس، فإنهم يصلون في
المسجد، ولكن إذا ضاق المسجد بالناس فإنهم يصلون حوله؛ ولهذا ينص المالكية
على أن الجمعة تصح في تلك المحلات المحيطة بالمسجد إذا كان يدخل إليها بدون
استئذان، مثل المعارض المفتوحة، والدكاكين التي بجوار المسجد، ففي هذه
المحلات تصح الجمعة، فإذا امتدت الصفوف من المسجد إلى الشارع إلى المعرض
والدكان صحت الجمعة لمن صلى في الدكان ما دام الصف متصلاً بالمسجد، فإذا
كان الحال كذلك في الجمعة -وهي آكد من العيد- وحصل مطر وتعذر الخروج إلى
المصلى صلينا في المسجد.
وفي الحرمين من زمن بعيد يصلون صلاة العيدين في المسجد، فلو جئت إلى مكة
الآن، أو سألت أهل مكة: هل يوجد مكان يمكن أن يصل الإنسان إليه بقدمه أوسع
من المسجد الحرام وما حوله؟ يقال لك: لا.
وهل يوجد مكان بسعة المسجد النبوي يمكن أن يصل إليه إنسان برجله؟ خاصة بعد
التوسعة الأخيرة والتخلية التي حولها، فالمدينة كلها دخلت في التوسعة، ولم
يبق بيت واحد مما كان داخل السور الرسمي للمدينة إلا دخل في توسعة المسجد
النبوي.
فالمؤلف رحمه الله يختم البحث بهذا الحديث ليبين لنا أنه إن كان المسجد
ضيقاً، ويوجد مصلى للعيد، وليس هناك عذر فالسنة الصلاة في المصلى، وإن كان
هناك عذر مانع، أو ما يشق على الناس معه الذهاب إلى المصلى صلوا العيد في
المسجد، سواءٌ أكان في المسجدين الشريفين أم المسجد الأقصى، أم أي مسجد كان
في أي قرية كانت، وبالله تعالى التوفيق.
|