شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الحج - باب
فضله وبيان من فرض عليه [1]
الحج والعمرة عبادتان عظيمتان، وموسمان
عظيمان لتحصيل الأجور، وتكفير الذنوب، وقد سماهما النبي صلى الله عليه وسلم
(جهاداً لا قتال فيه) وذلك لما فيهما من الصبر على المشقة والتعب، بل
والتضحية بالمال والنفس، فحري بالمسلم أن يحرص على أدائهما، وتكرارهما،
والمتابعة بينهما.
شرح حديث: (العمرة
إلى العمرة كفارة لما بينهما)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فيقول
المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء
إلا الجنة) متفق عليه] .
خلاف العلماء في
المراد بالذنوب التي تكفر بالعمرة
بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما،
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) .
موضوع هذا الحديث هو الترغيب في هذين النسكين العظيمين: (العمرة إلى
العمرة) أي: الزيارة إلى البيت، من أي قطر من أقطار الدنيا، فأداء عمرتين
يكفر ما بينهما من ذنوب، طال المدى أو قصر، ويأتي بحث للعلماء في نوعية
المكفَّر أهي الكبائر، أم الصغائر، أم هما معاً؟ وقد جاءت أحاديث فيما يسمى
بمكفرات الذنوب، جاء في القرآن الكريم: أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيئاتِكُم} [النساء:31] ، وجاء أيضاً: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما
بينهما، وزيادة ثلاثة أيام) ، وكذلك المشي إلى المساجد للصلوات الخمس،
وكذلك يوم عرفة، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في مكفرات الذنوب.
ويرى بعض العلماء أن هذا عام (العمرة إلى العمرة كفارة) لم يأت قيد لكبيرة
ولا لصغيرة، ولم يأت قيد لحق الله أو لحق العبد، والعلماء مختلفون في هذه
المسألة: فهناك من يقول: تكفر حق الله وتكفر حق العباد على الإطلاق.
وهناك من يقول: تكفر حق الله فقط، أما حق العباد فمتوقف على الأداء.
وهناك من يقول: تكفر الصغائر فقط ولا تكفر الكبائر.
وأشد من تشدد في ذلك ابن عبد البر رحمه الله، والذين قالوا: تكفر حتى حقوق
العباد، مع أن حق العباد لا يسقطه حتى الجهاد وحتى الشهادة في سبيل الله؛
لأن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا تكفر الشهادة -فأخبره
بأنها تكفر كل شيء-؟ ثم ولى، فدعاه مرة أخرى، وقال: إلا الدين، فإن الميت
مرهون في قبره بدينه) وقالوا: إن حق العبد مبني على المشاحة، فهو يقف بين
يدي الله ويطالب بحقه.
فالذين قالوا: إنها تكفر كل شيء حتى حقوق العباد، قالوا: إن الله سبحانه قد
وعد بذلك، فهو الذي يتولى إرضاء ذوي الحقوق عن حقوقهم، وقد جاءت نصوص
وفيها: (إذا كان الناس في عرصات القيامة، ترفع غرف يراها أهل الموقف كما
يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا ربنا! لمن هذه الغرف؟ فيقول
-سبحانه-: لمن تنازل عن مظلمة له عند أخيه) ، فكل ذي مظلمة يتنازل لينال من
تلك الغرف الرفيعة المنازل، كرفعة النجوم في الدنيا إلى غير ذلك.
ومهما يكن من شيء فهذا نص عام، إلا أن المسلم العاقل لا ينبغي أن يتكل على
ذلك كل الاتكال، فعليه أن يؤدي حقوق العباد، وأن لا يقصر في حقوق الله.
آداب بنبغي على من
أراد الحج مراعاتها
وقد جاء عند الفقهاء جميعاً: بعض آداب الحج، قبل البدء فيه، فمن أراد أن
يحج فليبدأ أولاً: بالتحلل من حقوق العباد، فإن كانت عنده أمانات فليردها
إلى أهلها، وإن كانت عليه ديون فليسدد ديونه، وإن كانت عنده مظلمة لأحد
فليتحلل منه، حتى قالوا: عليه عند عزمه على السفر أن يزور صالحي أهل بلده،
ويوادعهم، ويسألهم الدعاء له بالسلامة والقبول إلى غير ذلك، ونحن أمام هذا
النص نقول: هذا فضل الله، وفضل الله عظيم.
العمرة ليس لها وقت
محدد
والمباحث الفقهية في هذا النص النبوي الكريم عديدة منها: إطلاق الإتيان
بالعمرة: (العمرة إلى العمرة) لم تقيد بيوم، ولا بشهر، ولا بزمن محدد،
بخلاف الحج فقد قال تعالى فيه: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] فقال
الفقهاء رحمهم الله: كل وقت من السنة صالح لأداء العمرة، ولكنهم استثنوا
الأيام الخاصة بالحج، وهي: يوم عرفة، وأيام التشريق، واختلفوا في أيام
التشريق فيمن تعجل في يومين: هل له أن يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، أو أن
هذا اليوم الثالث من خصائص الحج؟ فإن هناك من الناس من تأخر ولم يتعجل، فهي
أيام ثلاثة لرمي الجمرات، فاختلفوا في اليوم الثالث فقط، وما عدا يوم عرفة
وأيام التشريق فجميع أيام السنة صالحة لأداء العمرة.
حكم تكرار العمرة
وكذلك من المباحث الفقهية في هذا الحديث الشريف: تكرار العمرة؛ لأن قوله
صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة) دونما تقييد بزمن، فأخذ الجمهور
وأتباع الأئمة الأربعة ما عدا المالكية: بأن العمرة يجوز تكرارها في الشهر
وفي السنة.
وبعضهم قال: لا تكرر في الشهر الواحد.
وبعضهم قال: لا تكرر قبل عشرة أيام.
وحجة أولئك: بأن من اعتمر يحلق شعره، وإذا أراد عمرة أخرى ينتظر حتى ينبت
شعره ليحلقه في العمرة الثانية، إلى غير ذلك من الاستنتاجات، ويرى
المالكية: بأن العمرة لا تتكرر في السنة، وإنما تكون في كل سنة مرة لمن
أراد ذلك.
ووجه نظر المالكية في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر، وأتى
مكة وحج واعتمر مع حجه، ولم يأت بعمرتين في سنة واحدة، وقد جاء في فتح مكة
سنة ثمان من الهجرة، وذهب إلى حنين، وفي عودته اعتمر من الجعرانة، وكانت
عمرة واحدة، ولم يكرر العمرة، مع أنه كان لديه الوقت لذلك، وأجاب الجمهور:
بأن فعله صلى الله عليه وسلم سنة وأسوة، ولكن تركه الفعل ليس دليلاً على
عدم الجواز، فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يترك الفعل وهو يحب فعله؛
مخافة أن يفرض على الناس، أو أن يشق عليهم.
ومن هنا ترك العمرة في فتح مكة، وفي حجة الوداع، ويقال أيضاً: لقد كانت سنة
ثمان سنة فتح وجهاد، وما أن فرغ من فتح مكة حتى سمع بأن هوازن قد جمعت له،
فما كان إلا أن خرج إليهم، ولما انتهى منهم رجع بعمرة إلى مكة، وما كان إلا
قسم الغنائم ثم العودة إلى المدينة، ولو أنه صلى الله عليه وسلم كرر العمرة
في تلك السنة لشق على من كان معه، فإن معه جيشاً لا يقل عن عشرة آلاف
مقاتل، خرج بهم من المدينة، ومعه أيضاً عدة آلاف من أهل مكة، انضموا إلى
جيش المسلمين، فحينئذ لو أراد أن يعتمر لكان في ذلك مشقة على هذا العدد،
وتكرار العمرة سنة ونافلة، وليس بواجب.
وعلى كل يرى الجمهور: أن تركه صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً على عدم
الجواز، فهو صلى الله عليه وسلم وإن ترك الفعل فقد أتى بالقول، وجعله عاماً
ولم يقل: إلا أنها في السنة مرة واحدة، ولم يقل: في كل سنة، بل جاء إقرار
منه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عندما حجت
مع أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تعالى عليهن، فكانت قد حاضت
بسرف، وكانت مفردة، وخافت أن لا تطهر قبل أن تأتي بعمرتها، (فدخل عليها صلى
الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعلك نفست؟ قالت: نعم، قال: لا
عليكِ أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: عمرة في حجة -فأدخلت العمرة على
الحج وصارت قارنة- فلما انتهوا قالت: أريد عمرة قال: يكفيكِ عمرتكِ مع حجك،
قالت: لا، أيرجع صاحباتي بعمرة وحج، وأرجع أنا بعمرة مع الحج -تريد عمرة
مستقلة- فقال صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: اذهب بها فاعمرها من
التنعيم) فذهب وأعمرها من التنعيم، وجاءت وقضت عمرتها ورحلوا، وقد كانوا
على أهبة الرحيل، والوقت ليل، ولولا صحة العمرة أكثر من مرة -وقد أتت معهم
بعمرة في تلك السنة مع حجها- لما قال له وهم على سفر: اذهب وأعمرها -أي:
ويدركهم في موضع كذا- فلما أجاز لها، وأعمرها وأتت بعمرتين في السنة؛ علم
الجميع بأن العمرة يجوز تكرارها.
ويقول بعض العلماء: إن العمرة يجوز تكرارها إلا لأهل مكة؛ لأن بقاءهم عند
البيت، وطوافهم بالبيت، أولى من أن يضيعوا وقتاً في الذهاب والإياب إلى غير
ذلك.
إذاً: قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) على عمومه دون تحديد وقت
لأداء العمرة، خلافاً لما جاء عن مالك رحمه الله.
معنى الحج المبرور
والأجر المترتب على الإتيان به
والقسم الثاني من الحديث: (والحج المبرور) يرى بعض العلماء أن بر الحج إنما
هو: إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل.
ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام الطعام، وإفشاء
السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه الأول أيضاً؛ لأن من
تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (أن
تعين الرجل على دابته، تحمله عليها وتدله على الطريق، كل ذلك صدقة) وهكذا
الحج، ولما كان هذا الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف
طبائع المجتمعات عن بعضها؛ جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك
الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع، ليظل الحجيج متآلفين متآخين: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى
الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم
شهود المنافع مع وجود النزاع والخصومات، ومع وجود الرفث، فكيف يقول: لبيك،
ثم تجده يرفث عند النساء.
إذاً: الحج المبرور هو: ما وُفِّي على خير ما يكون، من إتمام واجباته،
وسننه، ومندوباته، وأركانه.
والبعض يقول الحج المبرور: ما اجتنب فيه المآثم، وهذا راجع للأول؛ لأن من
أدى الحج بكامل أركانه، وواجباته، وسننه؛ يكون بعيداً عن الأخطاء، والآثام
في هذه السفرة المباركة.
وبعضهم قال: هناك ميزان، ننظر إلى الحاج حينما خرج من بلده وجاء إلى
الأراضي المقدسة، وأدى المناسك.
إلخ، ثم عاد إلى بلده، كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة
الثانية، هل هو أحسن حالاً في سلوكه في منهجه في أمانته في معاملاته في
محافظته على العبادات في وفائه للحقوق أهو خير مما ذهب أو هو كما ذهب رجع؟
فإذا كان خيراً مما ذهب، فيكون قد استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها
تهذيب للنفس، ويظهر ذلك في محظورات الإحرام، على ما سيأتي إن شاء الله.
ومهما يكن من شيء فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج المبرور
على ما جاء فيه أن جزاءه الجنة، وجاء في بعض النصوص، لكنها بأسانيد ضعيفة:
(إطعام الطعام وإفشاء السلام) ولكن نقول: كل ذلك من فعل الخير في أداء
الحج.
قوله: (ليس له جزاء إلا الجنة) ، أعظِم بهذا الجزاء! يخرج في رحلة، أياماً
وأسابيع أو أشهراً فيعود بهذا الجزاء وهو الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند
الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة، إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى
هذا العطاء، وأن لا يحرم نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها، فإذا ما أنعم
الله على إنسان بأداء الحج، وليعلم كل مسلم أن الإتيان لأداء الحج إنما هو
فضل من الله عليه، لا بوفرة ماله، ولا بقوة بدنه، ولا بعزة جاهه، ولا
سلطانه، إنما هي نعمة من الله.
ولذلك يقول العلماء: أول ما بنى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام
البيت ورفع القواعد، أوحى الله إليه: أن يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج،
فقال: يا رب! وأين يذهب ندائي؟! وكيف يبلغهم صوتي؟! قال: عليك النداء
وعلينا البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وقال: أيها
الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فلبى كل من كتب الله له الحج،
حتى الذراري في أصلاب الآباء إلى يوم القيامة، ومن لبى مرة حج مرة، ومن لبى
مرتين حج مرتين إلى آخره، فمن لبى في ذاك الوقت وهو في عالم الذر، قبل أن
يوجد إلى الدنيا، فهو سيلبي حينما يوجد فيها.
وهكذا عندما يأتي الحاج ويشرع في نسكه يكون شعاره: لبيك اللهم لبيك، و
(لبى) في اللغة بمعنى: الإجابة، والإقامة على الطاعة، إذا ناداك إنسان
فقلت: لبيك، معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتك في دعائك، وممتثل
لأوامرك، فالحاج حينما يشرع في نسكه يعلن قائلاً: لبيك، إنما هي إجابة لذاك
النداء، الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.
إذاً: مجيء الحاج فضل من الله عليه، وكل إنسان يعلم كم خلف في قومه ممن هو
أغنى منه، وأقوى بدناً، وأعز سلطاناً، ولم يقدر له الحج! فإذا لم يقدر له
الحج فلن يحج، ومن أتى فبفضل من الله، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا
الجنة) والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث: (عليهن جهاد لا قتال فيه ... )
[وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! على النساء
جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) رواه أحمد وابن
ماجة واللفظ له، وإسناده صحيح وأصله في الصحيح] .
يقول هنا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (يا رسول الله!
أعلى النساء جهاد؟) قولها: (على النساء) خبر يراد به الإنشاء أو الاستفهام؟
(على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وجاء بصيغة
أخرى وفيها: (يا رسول الله! أرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟) تقول
رضي الله تعالى عنها: نرى الجهاد -معشر النسوة- أعظم الأعمال وأفضل
الأعمال، أفلا نشارك في هذا الفضل؟ (قال: نعم، ولكن جهادكن جهاد لا قتال
فيه: الحج والعمرة) .
أوجه الشبه بين الحج
والجهاد
وهنا يتبين فضل الحج، وأنه يعدل في ثوابه ثواب الجهاد، والمجاهد في سبيل
الله ينال إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وفيها حياة برزخية دائمة إلى يوم
القيامة، ثم مأواه الجنة، وإما النصر والغنيمة.
والحج: جهاد لا قتال فيه، قالوا: هذا جهاد النساء، وقال آخرون: هو جهاد
للرجال أيضاً؛ لأن الحج: حل وارتحال وشظف في العيش، وتحمل للمشاق، ولربما
البعض لم يعش ساعة واحدة أثناء أدائه مناسك الحج على الحالة التي كان عليها
من قبل، وإن كان الآن قد تيسر الأمر بحمد الله، وكل ما يجده الآن في بيته
من وسائل الراحة قد يجدها أيضاً في الحج، ولكن مهما يكن من شيء، فلابد في
الحج من وعثاء السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فلابد فيه من بعض الحرمان
أو المشقة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد اشترك الحج مع الجهاد في الرحلة،
والحل والترحال، وبقي القتال والمسايفة.
نجد في الحج جهاد النفس، فالحاج يجاهد نفسه على تأدية الأعمال التي كلف
بها، وقد نجد في الحج جهاداً صعباً لا ينجح فيه إلا من شاء الله، فإذا جئنا
إلى محظورات الإحرام، فقد حُرّم عليه أثناء الإحرام الرفث إلى نسائه، فتكون
زوجته معه في خيمة واحدة، وفي هودج واحد، وسيارة واحدة، وهي حلال له بكتاب
الله، لكنها في وقت الإحرام محرمة عليه حتى يقضي حجه، ونجد الحاج يرى الصيد
بعينيه يقف بين يديه، فلا تمتد يده إليه، وما أشد منازعة النفس للصيد؛ لأنه
من الحلال، ولكن لإحرامه يجاهد نفسه على أن لا تمتد يده إليه إلى غير ذلك.
والجهاد كما قيل: أنواع متعددة، فمنه: الجهاد بالكلمة، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ
جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] ، وقد يكون بالقلم، وقد يكون بالمال، وقد
يكون بالنفس إلى غير ذلك من أنواع الجهاد، وهذا الحديث فيه بيان فضل الحج
وأنه يعدل فضل الجهاد.
وقد جاءت في ذلك أحاديث أخرى منها، (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال:
إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟
قال: حج مبرور) إذاً: الجهاد الذي لا قتال فيه هو الحج المبرور، ويكون على
سبيل التشبيه؛ لأن الحديث السابق جعل الحج مرتبة ثالثة بعد الجهاد: (أي
الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال:
جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) .
من فقه الفتوى
مراعاة حال السائل
وبهذه المناسبة فقد نجد أحاديث في تفاضل الأعمال، تختلف الفتوى فيها
باختلاف الأحوال، كما سئل صلى الله عليه وسلم مرة: (أي العمل أفضل؟ قال:
إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) وسئل مرة
أخرى: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم
ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ثم سئل (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟!
قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) فنجد أن السؤال
واحد، بينما الجواب مختلف، ومن هنا قال العلماء: ليس هناك تناقض، وليس هناك
تعارض؛ لأن كل جواب ينزل منزلته بحسب حالته، والمسئول الحكيم يجب أن يراعي
حالة السائل، فقد يسأل اثنان في حكم مسألة واحدة، فيبيحها لأحدهم، ويمنعها
عن الآخر.
كما جاء في موضوع القبلة للصائم، جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم:
(أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: نعم، -ثم بعد فترة وفي نفس المجلس- جاء
رجل وقال: أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: لا، -ومضى هذا ومضى ذاك- ثم
التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لعلكم تعجبون أني سمحت للأول
ومنعت الثاني، قالوا: إي والله يا رسول الله! قال: نظرت إلى الأول فإذا به
شيخ كبير، -لا خطر عليه- فأبحت له، ونظرت إلى الثاني فإذا به شاب قد خشيت
عليه، فمنعته منها) وهكذا.
جاء في بعض الأخبار: أن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمام في تأويل الرؤى-
جاءه رجل وقال: رأيتني أؤذن فما تعبير رؤياي؟ فنظر إليه وقال: تحج البيت إن
شاء الله، وذهب، وجاء آخر وقال: رأيتني أؤذن، فنظر إليه وقال: تسرق وتقطع
يدك، فعجب الحاضرون! الرؤيا واحدة، فكيف تختلف في التعبير، قال: نظرت إلى
الأول فإذا به إنسان وديع مستقيم، فأخذتها من قوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] ونظرت إلى الثاني، فإذا به على خلاف ذلك،
فأخذتها من قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] .
إذاً: لابد من مراعاة الأحوال عند الفتوى ففي هذه الأحاديث الثلاثة: بر
الوالدين، الصلاة على أول وقتها، الجهاد في سبيل الله، لاختلاف أحوال
السائل: فقوي البنية الذي يقوى على الجهاد أرشده للقتال، وضعيف البنية الذي
لا يقوى على الجهاد أرشده إلى الصلاة على أول وقتها، وذو الوالدين أرشده
إلى برهما، وهكذا كالطبيب يصف لكل ذي داء دواءً يناسبه.
إذاً: النصوص التي جاءت في بيان فضائل الحج كثيرة ويكفي ذكر بعضها، وهذا
مراد المؤلف رحمه الله في اقتصاره على ما ذكر، وبالله تعالى التوفيق.
حكم العمرة في الشرع
[عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم
أعرابي فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن
تعتمر خير لك) رواه أحمد والترمذي والراجح وقفه، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر
ضعيف، عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (الحج والعمرة فريضتان) .
] هذا ترتيب حسن من المؤلف رحمه الله، فبدأ كتاب الحج بحديثين موضوعهما
بيان فضل الحج والعمرة، والترغيب فيهما، وكأنه يدعو الناس ويرغبهم في الحج
والعمرة، ثم دخل في موضوع الأحكام.
فقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة) لكن هل هي واجبة أم سنة؟ وقوله: (الحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) هل هو واجب أم ليس بواجب؟ مع أن الحج مفروغ
من أمر وجوبه، فوجوبه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله
سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] (لله
على) هذا آكد من قوله: (أوجبت) ؛ لأنه أصبح ديناً وحقاً لله على العباد،
والفرض قد يسقط، والدين لا يسقط.
وفي نهاية الآية الكريمة: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل
عمران:97] ثم قال: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] هذا وعيد شديد، {فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ} [آل عمران:97] أي: ومن لم يحج، فإن الله غني عنه، ولكن ما
جاء المقابل من جنسه، فلم يقل: ومن لم يحج، بل جاء بديلاً عن من لم يحج
(ومن كفر) ليبقى كما يقول أهل المنطق الماصدقي (ومن كفر) تصدق على من لم
يحج، أو من لم يحج كفر.
وقد جاء عن عمر أنه قال: (من استطاع الحج ولم يحج، فليمت إن شاء نصرانياً،
أو يهودياً) وجاء عنه كذلك: (لقد هممت أن أبعث رجالاً للأعراب على مياههم،
ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما
هم بمسلمين! (.
إذاً: بدأ المؤلف في بيان الأحكام، وبدأ بالعمرة؛ لأنها محل الخلاف، أما
الحج فلا خلاف في وجوبه بالشرط المذكور: (من استطاع) .
تحقيق الخلاف في حكم
العمرة
وهنا يروي جابر لنا حديثين: الأول: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة؟) أخبرني عن حكم العمرة أواجبة هي؟
هذا سؤال إنسان متثبت: أهي واجبة أم ليست بواجبة؟ ماذا كان الجواب؟ الجواب:
لا، وكما يقولون: الجواب يتضمن إعادة السؤال، (لا) العمرة ليست واجبة، ولكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على ذلك؛ حتى لا يظن إنسان أنها
مستوية الطرفين: الفعل والترك، بل قال: (وأن تعتمر خير لك) كأنه قال: ليست
واجبة، ولكن فعلها خير من تركها، وهذا الأسلوب يدل على عدم وجوبها، وأنها
مرغب فيها ومندوب إليها.
ومن هنا بدأ خلاف العلماء، فهناك من أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا،
وقالوا: ليست بواجبة، أخذاً بهذا النص، ولكن هل سلم سند هذا الحديث؟
العلماء متفقون على أنه ضعيف.
ثم يأتي المؤلف رحمه الله -من فقهه- بالأثر الثاني عن جابر.
[ (وعن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً) ] .
(مرفوعاً) يعني: مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجابر: صحابي، ولو
كان القول من عنده لاعتبره العلماء موقوفاً على الصحابي، لكن إذا قال:
(مرفوعاً) فإنه يرفعه درجة، وإذا رفع الصحابي الحديث درجة عن طبقة الصحابة
فإنه يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وعن جابر أيضاً مرفوعاً) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن جابراً
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الحج والعمرة فريضتان) .
(الحج والعمرة فريضتان) ولكن هل هذا أيضاً صحيح قوي أو ضعيف مثل الذي قبله؟
قال المؤلف: [وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف] .
كلا الأثرين -عن جابر - ضعيف، فمن أخذ بالأول أخذ بسند ضعيف، ومن احتج
بالثاني احتج بسند ضعيف، إذن: كما قال الشافعي: حديث في عدم فرضيتها خير من
حديث في فرضيتها.
ويرجع الاستدلال على وجوبها إلى مسائل أخرى: من ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما: (العمرة والحج مقترنان) ، واستدل بقوله سبحانه:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ولكن الذين
يقولون بعدم الفرضية قالوا: الأمر هنا: (إتمام) والإتمام يكون بعد البداية،
لا ابتداءً، وبالإجماع: أن نافلة العمرة، ونافلة الحج، إذا شرع فيها
الإنسان وجب عليه أن يتمها، مع أنها نافلة، ولو اعتمر عشر مرات، ثم شرع في
عمرة جديدة فإنه وجب عليه بعد الشروع فيها أن يتمها، فقالوا: الإتمام يكون
بعد الابتداء، أما الوجوب ابتداءً فليس فيه نص، والآخرون يقولون: هي فعل
النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وفتواهم
جميعاً.
والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة ما عدا مالكاً يقولون: العمرة فرض كالحج.
إذاً: ما هو الفرق بين حديث: (فرض على كل مسلم) ، وحديث: (لا.
وأن تعتمر خير لك) يقول الأصوليون: إذا جاء نصان متعادلان في السند، أحدهما
ينفي ويسقط الوجوب، والآخر يثبت وينشئ الوجوب، قالوا: المثبت مقدم على
النافي، وقالوا: ما يخرج عن البراءة الأصلية مقدم على غيره؛ لأن الأصل عدم
الوجوب، فلما جاء النص بالوجوب ولو كان ضعيفاً فإنه أقوى من النص الأول
الذي مؤداه كالعدم؛ لأن الأصل عدم الوجوب، وحديث: (لا) ، ما زاد عن الأصل
بشيء، بخلاف الحديث الثاني الذي قال: (العمرة والحج فرض على كل أحد) .
إذاً: الناقل من البراءة الأصلية إلى التكليف مقدم عما لا ينقل عن البراءة
الأصلية؛ لأن فيه زيادة تكليف وزيادة علم، ولهذا قال الجمهور: إن العمرة
واجبة كوجوب الحج.
وهناك نصوص أخرى أصح سنداً، منها: (إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج
أفأحج عن أبي؟ قال: نعم، حج عن أبيك واعتمر) فهو سأل عن الحج، فزاده
(واعتمر) كأنه يجهل أمر العمرة، أو كأنه أغفلها، فذكّره بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
كتاب الحج - باب
فضله وبيان من فرض عليه [2]
إن وجوب فريضة الحج ثابت في كتاب الله تعالى ثبوتاً قطعياً مؤكداً، ووجوبه
ثابت أيضاً بالسنة والإجماع.
وإن من رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم أن علق وجوب الحج بالاستطاعة،
وتكون: بالزاد والراحلة، وصحة البدن، وأمن الطريق، وتجوز الإنابة من الحي
العاجز عن الحج ببدنه، إن كان مستطيعاً بماله.
ويجب الحج على الفور ويستحب تكراره، ويصح من الصبي.
شرح حديث: (ما
السبيل؟ قال: الزاد والراحلة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قيل: (يا
رسول الله! ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم،
والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وفي إسناده ضعف] .
صيغة وجوب الحج
والتأكيدات الواردة في كتاب الله تعالى لها
ساق المؤلف رحمه الله أولاً الأحاديث في الترغيب فيه، وبيان فضله: (العمرة
إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ، (نرى
الجهاد أفضل الأعمال يا رسول الله! أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال
فيه) ثم جاء بما يبين على من يجب.
والأصل في الوجوب أو الإيجاب هو الكتاب الكريم ثم السنة النبوية المطهرة،
وجاء في كتاب الله بيان الفرضية المؤكدة في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل
عمران:97] يرى العلماء: أن هذه الصيغة للوجوب مؤكدة بعدة تأكيدات: اللام،
في قوله: (ولله) وهي لام الملك والاستحقاق.
(على) : وهي للاستعلاء والفرضية.
(الناس) : عموم الناس، حتى قال البعض: لقد شملت غير المسلمين؛ لأنهم
مطالبون بالإسلام وبفروع الإسلام، وهذا العموم والشمول يؤكد الوجوب
والفرضية.
(حج البيت) : تقدم تعريف الحج أنه: القصد إلى معظم، و (البيت) : هو البيت
الحرام، وهو الكعبة، وهو البيت العتيق، وهو {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ} [آل عمران:96] ، وهذا البيت جاء في بيان حرمته ومكانته ما لا
يحتاج معه إلى مزيد بيان.
(من استطاع) يقول العلماء: (من) هنا بدل البعض من الكل، فالكل: الناس، و
(من استطاع) بعض الناس، وهذا بمثابة الاستثناء، وهذا يؤكد الفرضية أيضاً،
وتعلق الفرضية بالاستطاعة بيان لهذه الملة الحنيفية في يسرها وسهولتها، قال
تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فنجد
في جميع التكاليف والعبادات التيسير، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فأهم أركان الإسلام
الصلاة أي: بعد الشهادتين، حتى في الشهادتين تيسير، قال تعالى: {إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] .
والصلاة مفتاحها الطهور، فمن عجز عن استعمال الماء رخص له في التيمم، ومن
عجز عن القيام رخص له أن يصلي على حسب حالته جالساً أو متكئاً.
والزكاة ما فرضت إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده حولاً كاملاً
مستغنياً عنه.
والصيام من كان مريضاًََ أو على سفر فاضطر إلى الفطر للمشقة: {فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
والجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] .
وهنا في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، وهنا
يسأل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما السبيل؟
الذي شرطت الآية استطاعته في وجوب الحج (من استطاع إليه) ؟ فيفسره صلى الله
عليه وسلم لهم بقوله: (الزاد والراحلة) هذا التفسير لو أن الحديث سلم من
التضعيف لكان نصاً قاطعاً في تفسير كتاب الله من سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولكن العلماء يقفون من هذا النص المفسر بالمقارنة بينه وبين
العمومات الأخرى في كتاب الله، ويقولون: إن قصر الاستطاعة على الزاد
والراحلة أسقط شروطاً أخرى، ألا وهي: صحة البدن، وأمن الطريق.
المراد بالاستطاعة
في الحج
وهنا يبحث الفقهاء موضوع الاستطاعة من حيث هي: فيرى بعض العلماء: أن
الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن والمال، والمال ماثل في الزاد وفي الراحلة،
أي: وسيلة السفر والوصول، وقد تكون الاستطاعة بالبدن فقط ولا مال، وقد تكون
الاستطاعة بالمال فقط ولا صحة للبدن.
ومن هنا يقع الخلاف عند الأئمة رحمهم الله فيمن تجب عليه فريضة الحج؟
فالجمهور: على أن الاستطاعة بصحة البدن ووفرة المال، المال الذي يهيئ له
الزاد، ووسيلة السفر، مع توفير الزاد لمن تلزمه نفقته حتى يرجع، فإن كان له
عيال، أو تبعة مطلوبة منه، فإنه مع اشتراط وجود الزاد له في سفره حتى يرجع
يجب أن يكون الزاد موجوداً أيضاً لمن يخلفه في بيته: (كفى بالمرء إثماً أن
يضيع من يعول) فإذا وجد ما يكفيه وحده ولا يكفي أهله فليس بمستطيع، والسعي
على أولاده في تلك الحالة أولى من السفر إلى الحج وتركهم في ضياع، إذن:
الزاد له ولمن تلزمه النفقة حتى يرجع.
والاستطاعة بالبدن ليست شرطاً عند بعض العلماء، فقالوا: إذا عجز عن الحج
ببدنه -أي: عجز عن القدرة على السفر، وعنده مال، تعين عليه أن يخرج من ماله
ويدفعه لمن يحج به عنه من بلده، فيدفع المال لشخص آخر من بلده؛ ليكون سفر
البديل معادلاً لسفر الأصيل من مكان واحد، وسيأتي: أن هذا البديل يجب أن
يكون قد حج عن نفسه أولاً؛ لتصح أعمال حجه عن غيره، وسيأتي ذلك في حديث
شبرمة، حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يطوف بالبيت ويقول: (لبيك
اللهم عن شبرمة، قال: من شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب لي -شك الراوي-
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة) .
وسيأتي مبحث الاستئجار للحج، وهل تجوز الأجرة للإتيان بالحج أو لا تجوز؟
وهل هي على البلاغ، أو هي على الإجارة؟ ومعنى البلاغ: أن يأخذ ممن سيحج عنه
ما يبلغه الحج حتى العودة، فإن نقص شيء وفَّاه إليه، وإن زاد شيء رده إليه.
أما إذا كانت من باب الإجارة: فعلى ما اتفقا عليه، إن نقص وفىّ لنفسه، وإن
زاد أمسك الزائد، وسيأتي في ذلك زيادة بيان إن شاء الله.
وهناك من يقول: الاستطاعة بالبدن فقط، ولو لم يوجد المال، وهذا عند
الشافعية بشرط: أن يكون قادراً على المشي، وأن يكون ذا مهنة، أو صنعة، أو
عمل يمكن أن يتكسب به مدة سفره حتى يرجع، وقيل لمن قال ذلك: هل أوجب الله
على الناس المشي إلى مكة على أقدامهم؟ قال: أرأيت لو كان له ميراث في مكة
أكان يتركه؟ قال: لا.
بل يأتي إليه ولو حبواً، قال: كذلك الحج.
وبعضهم يقول: الاستطاعة بالمشي لمن كان قريباً، وليست للآفاقي البعيد، مع
أننا وجدنا رحلات وجماعات تخرج من الآفاق وتسافر الأيام والأسابيع والأشهر،
حتى يصلون إلى مكة، ولكن في هذا من المشقة والضياع ما يمكن أن يقول الإنسان
فيه: ليس هذا في منهج التشريع بصفة عامة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ} [البقرة:185] .
إذاً: لا ينبغي أن نحكم على الناس بأن على المستطيع للمشي من الآفاق -من
القارات البعيدة والأقطار النائية- أن يمشي ليحج، وهناك من يقول: شرط الحج
ماشياًً للصحيح المعافى المتكسب بمهنته أن يضمن غالباً أن يكون عمله في
اليوم الواحد يكفي لمئونة اليومين، ولماذا؟ احتياطاً؛ لأن هذا الصحيح قد
يمرض؛ ولأن تلك المهنة قد تتعطل في يوم من الأيام، وليس بلازم أن يجد عملاً
لمهنته في كل يوم ما يكفيه، فإذا كان أجر عمله يكفيه لمئونة يومين، فلو قدر
أنه مرض بعض الأيام فسيكون قد توفر عنده زاد بقية الأيام.
وهنا لفتة فقهية للمذاهب الاقتصادية، بأن تقييم الأشياء -كلها- في العالم
ليست العملة، التي ترتفع وتنزل في (البورصات) ، وفي الأسواق المالية، ولكن
تقييم الأشياء -حقاً- إنما هو بكسب العامل في اليوم، أجرة هذا العامل غالية
أو رخيصة، وهذه أمور نسبية، فقد تكون أجرة عامل في قطر درهماً، وقد تكون في
قطر آخر عشرة دراهم، وهذا فرق كبير، ولكن نسأل: العامل الذي يعمل بدرهم في
بلد، كم يكفيه هذا الدرهم؟ فلربما كان يكفيه لقوت يومه؛ لرخص الحاجات عنده،
والذي يعمل بعشرة دراهم، أتكفيه لقوت يومه -في بلده- أو لقوت يومين؟ فربما
لا تكفيه بسبب غلاء الأسعار، إذن: التسعير الحقيقي والتقويم الحقيقي، لقيم
الأشياء، إنما هو كسب العامل اليومي، فإذا كانت له أسرة وعائلة فليكن ذلك
أيضاً في الحسبان.
ومن هنا كان مأخذ الشافعية بقولهم: الاستطاعة قد تكون بالمشي إن كانت له
مهنة يتكسب منها، ويكسب بها في اليوم ما يكفي نفقة يومين.
وزاد بعض المالكية: إن الفقير المعافى الذي يعيش في بلده على التكفف، أي:
يمد يده ويبسط كفه للناس، ويعيش على السؤال، إن تيسر له في سفره أن يجد من
يسأله، ويعيش كما يعيش في بلده؛ يعتبر مستطيعاًً، وعليه أن يصحب القافلة
بالسؤال ليحج.
وهذا القول فيه ما فيه.
وقد قال العلماء: من لم يجد مالاً، ووجد إنساناً يدفع له المال من عنده هبة
ليحج، قالوا: ليس بواجب عليه أن يقبل، خشية أن تكون فيه عليه منَّة.
وهنا يمكن أن نأخذ سر التعبير في كتاب الله حيث قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، ولم يقل: من استطاع إليه وصولاً؛ لأن
الوصول إليه قد يكون من عنده، أو قد يكون من عند غيره، أما السبيل: فلا
يكون إلا من عنده هو، وعلى هذا فالجمهور على أن الاستطاعة الكاملة تكون
بالبدن وبالمال معاً.
وقال الشافعي: من استطاع ببدنه ومات ولم يحج، فإن على الورثة إخراج جزء من
ماله قبل قسمة التركة لمن يحج عنه من بلده؛ لأن الشافعي رحمه الله يرى
تقديم الحقوق المتعلقة بالتركة ومنها حق الله؛ فلذلك قدمه على تقسيم
التركة، وبالمناسبة: فإن الحقوق المتعلقة بالتركة منها ما هو دين للناس،
ومنها ما هو دين لله، والدين للناس: دين موثق، ودين غير موثق، وكذلك حق
الميت في التجهيز، وكذلك الوصايا، ثم بعد ذلك كله الميراث، فإذا كان
مديناً، وكان قد أوصى، وعليه حق لله: في كفارة، أو نذر، أو حلف، وترك ما
يكفي واحداً من ذلك فقط، فأيها يقدم؟ عند الحنابلة: تقدم مئونة تجهيزه؛
لأنه حقه هو، كما لو كان مفلساً وعليه دين للآخرين فإنه يباع ما يملك في
دينه إلا ثيابه ونفقته، فحقه الخاص مقدم.
الشافعي يقول: يقدم في ذلك كله حق الله، أما تجهيزه فعلى بيت مال المسلمين،
واستدل على ذلك بما سيأتي في قصة المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن تحج عن أمها فقال: (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعها،
قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) .
قال الشافعي قوله: (دين الله أحق) هذا أفعل تفضيل.
وغيره يقول-وهم المالكية-: ديون العباد مقدمة؛ لأن حق الله مبني على
المسامحة، وحق العباد مبني على المشاحة، والشهيد يحبس في قبره في دينه إلى
آخر ذلك، ولذا قال الشافعية: إن من مات وكان مستطيعاً للحج فلم يحج، أخرج
من تركته ما يحج به عنه قبل أن تقسم التركة، أي: قبل حق الورثة والوصايا،
وغير ذلك.
اختلاف الزاد
والراحلة باختلاف الأشخاص والأزمان والبلدان
وقد فصل الفقهاء في الزاد والراحلة: فتختلف الراحلة، ويختلف الزاد باختلاف
الأشخاص، فهناك من يقوى على السفر على ظهر بعير بدون شيء، وهناك من لا يقوى
ولا يستطيع أن يثبت حتى نأتي له بالهودج، أو نأتي له بالرحال، أو نأتي له
بالفراش، فلا تكون استطاعة شخص هي استطاعة لشخص آخر، والآن هناك من يستطيع
أن يركب على ظهر سيارة (لوري) ولو كانت محملة بالبضائع، وهناك من لا يستطيع
أن يركب إلا (الأتوبيس) ، وهناك من لا يستطيع أن يسافر إلا في سيارة صغيرة،
وهناك من لا يستطيع أن يسافر إلا في الطائرة أو في الباخرة، وهي درجات.
إذاً: الراحلة تتنوع حسب تنوع الأشخاص، فإذا كان مستطيعاً للراحلة المناسبة
مع حالته فقد توفرت، وكذلك الزاد، هناك من يجتزئ في سفره بالتمر والخبز،
وهناك من لا يستطيع ذلك، بل يحتاج إلى أنواع الأغذية والأطعمة، فإذا توفر
التمر فقط لا نقول: هذا زادك؛ لأنه لم يتعود على هذا.
إذاً: الزاد والراحلة كل ذلك بحسب أحوال الأشخاص، فمن توفرت له الراحلة
والزاد، وكان مستطيعاً للحج، تعين عليه أن يحج.
الأمر بالحج يقتضي
الفورية من غير تكرار
بقي هنا الأمر في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
[آل عمران:97] ، يبحث الأصوليون في صيغ الأمر هل تقتضي التكرار وهل تقتضي
الفورية؟ أو لا تقتضي الفور وتكون على التراخي؟ نجد أن هذا الأمر لا يفيد
التكرار؛ لأن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالحج
فقالوا: (أفي كل عام يا رسول الله؟! يعني: يتكرر، فسكت عنهم، حتى سألوا
ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج في
العمر مرة) .
ولهذا قالوا: إن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل
مسلم في العمر مرة؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فإذا صلى على النبي صلى
الله عليه وسلم في العمر مرة واحدة خرج من عهدة هذا الأمر، ولكن وردت نصوص
أخرى تطلب التكرار، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عندما صعد المنبر:
(آمين! آمين! آمين! -وكان المنبر ثلاث درجات- فقالوا: يا رسول الله! سمعناك
تؤمن، ولا ندري على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل، وقال: يا محمد! من أدرك شهر
رمضان، وخرج ولم يغفر له، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا
محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما، ولم يغفر له -أي: ببرهما- باعده الله في
النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده، ولم يصل عليك، باعده
الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين) ، فتعين على كل مسلم إذا سمع ذكر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، هذا التكرار بطلب جديد، وليس
بالطلب الأول: (صلوا عليه وسلموا تسليماً) وقد جاء في النصوص بيان فضل ذلك:
(من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) .
إذاً: الأمر لا يقتضي التكرار.
بقيت الفورية، هل الأمر يقتضي الفورية، أو يكون على التراخي؟ بحث الأصوليون
في ذلك، فعند الجمهور -ما عدا الشافعية- الأمر على الفورية، وقال الشافعي:
الأمر على التراخي؛ لأن وقت الحج: العمر كله، ومع ذلك يقول: من أخر الحج؛
لكونه على التراخي فمات، أخرج من تركته، وعلى هذا نقول: لماذا لا يُطلب منه
الحج على الفور، فتبرأ ذمته ويخرج من هذه الإشكالات.
ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث: الترجيح
والتأكيد على أن الأمر للفورية: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وجاءت نصوص خاصة في الحث على الحج منها: (حجوا
قبل أن لا تحجوا) ، وأيضاً: فلو أن سيداً قال لعبده: أعطني ماءً، فذهب
العبد ومن الغد جاءه بالماء، فقال له السيد: لماذا؟ فقال: الأمر على
التراخي، فماذا يكون موقف السيد من هذا العبد الذي لم يتمثل الأمر الذي كلف
به؟ فقد كان على هذا العبد أن يذهب حالاً، ويأتي بالماء لسيده، فيكون قد
أدى الواجب عليه، وامتثل الأمر.
والشافعية يقولون: لقد فرض الحج سنة ست من الهجرة، وما حج صلى الله عليه
وسلم إلا في السنة العاشرة، ويقول الجمهور: ما كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يحج؛ لأن مكة تحت أيدي الكفار، وما فتحت إلا في السنة
الثامنة، قيل: ولماذا لم يحج في السنة الثامنة؟ قالوا: لم تكن هناك فرصة
للحج؛ لأن فتح مكة كان في رمضان، ثم ذهب إلى هوازن، ورجع إلى المدينة، ولم
يتأتى له الحج، ولما قيل: وفي سنة تسع لماذا لم يحج؟ قال الجمهور: لموانع
منعته من تنفيذ الأمر، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر
يحج بالناس، ثم أردفه بـ علي رضي الله تعالى عنه ليقرأ على الحجيج سورة
براءة، ويعلن للناس: أنه لا عهد لمشرك بعد اليوم، ولا يحج البيت مشرك، ولا
يطوف بالبيت عريان.
إذاً: كان للمشركين عهد، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساء،
وهل يتأتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر هذا المشهد؟ لا والله،
هكذا يعلل العلماء، ولكن التحقيق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في
تلك السنة؛ لما أعلنه صلى الله عليه وسلم بقوله -في السنة التي حج فيها-:
(إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) ومعنى ذلك: أن
العرب كانت عندهم أيام النسيء، يقدمون ويؤخرون في الأشهر، فكانوا ينسئون
المحرم إلى صفر، ويقدمون صفر إلى المحرم؛ لأنهم كانت تطول عليهم الأشهر
الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ لتواليها، وكانوا يغير بعضهم على
بعض، فيؤخرون المحرم بحرمته، ويقدمون صفر مكانه؛ ليغير بعضهم على بعض،
ولهذا حصل تخلخل في مواعيد الحج، فما كان الحج يصادف ذا الحجة الذي هو وقت
الحج، وما كان الوقوف بعرفات يقع يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة، وقيل: إن
حجة أبي بكر ما كانت في الزمن المحدد يقيناً، ولما استدار الزمن وجاء يوم
عرفة مطابقاً لأمر الله وهو اليوم التاسع من ذي الحجة كانت حجة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فوقعت في الزمان والمكان المأمور به.
يهمنا أن الشافعية قالوا: الحج على التراخي، (من استطاع إليه سبيلاً)
والجمهور قالوا: الحج على الفور، فعلى من استطاع الحج أن يحج ولا يؤخر.
وجاءت نصوص قد أشرنا إليها من قبل منها: (من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن
شاء يهودياً أو نصرانياً) وعمر يقول: (لقد هممت أن أبعث للأعراب رجالاً على
مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم
بمسلمين! ما هم بمسلمين!) .
إذاً: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] على الفور
لا على التراخي، ومرة دون تكرار، ولكن التكرار نافلة، كما سيأتي عنه صلوات
الله وسلامه عليه.
إذاً: الاستطاعة المشروطة في الحج فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد
والراحلة، وقد كان أناس من اليمن يحجون بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكلون،
فأمرهم الله بقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ} [البقرة:197] تزودوا لسفركم، وتزودوا من حجكم لميعادكم، فلابد
من زاد الدنيا للبدن، ومن زاد الآخرة بالعمل، ولا ينبغي لإنسان أن يقول:
أنا متوكل على الله، ولم يأخذ بالأسباب التي أمر الله بها، كالزاد هنا،
وإلا فإنه متواكل على الناس وليس متوكلاً على الله.
المستطيع بماله دون
بدنه له أن ينيب من يحج عنه
بقي في ما إذا كان مستطيعاً بماله عاجزاً ببدنه وهو على قيد الحياة،
فالجمهور: يجيزون له أو لوليه أن ينيب عنه من يحج عنه، كما سيأتي في سؤال
المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبي شيخ كبير لا يقوى على
الثبوت على الراحلة) ، وسؤال شخص آخر: (لا يقوى على الثبوت على الراحلة،
أخاف إن وثقته عليها أن يموت، أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك) وخالف في ذلك
المالكية، ومنعوا الإنابة في حج الفريضة عن الحي، وهذه الأحاديث حجة عليهم،
وسيأتي للمؤلف رحمه الله زيادة نصوص في كل هذه المسائل وبالله تعالى
التوفيق.
حديث ابن عباس في
اعتبار حج الصبي
[وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: من
القوم؟ فقالوا: من أنت؟ فقال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت:
ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) رواه مسلم] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله هذه الحادثة، وكما أشرنا بأن حجة النبي صلى الله
عليه وسلم قد اشتملت على جميع أصول الحياة، فهؤلاء رفقة يسيرون في الطريق
فأدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء، وهي: منطقة ما بين المدينة
وبدر، وهو بئر معروف في الطريق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (سَيهلُ عيسى
ابن مريم بالروحاء بحج أو بعمرة أو بهما معاً) فالروحاء معروفة لأهل
المدينة.
مشروعية التعارف بين
الناس في السفر
عندما بقي النبي صلى الله عليه وسلم الركب قال: (من القوم؟) الذي بدأ
بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من واجب ولي الأمر، أنه إذا لقي
قوماً أن يتعرف عليهم: من أي الجماعات هم؟ وأين وجهتهم؟ مع أنه من المعلوم
أنهم ذاهبون للحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحج، وقبل
مجيء أشهر الحج بعث رجالاًَ إلى القبائل في الجزيرة أني حاج هذه السنة، فمن
أراد أن يحج معي فليوافني، وكل وافاه بحسبه، فمنهم من وافاه بالمدينة،
ومنهم من وافاه بالطريق، ومنهم من وافاه بمكة، كل على حسب موقعه.
فهؤلاء قوم وافاهم في الطريق، فسألهم (من القوم؟) ، لكنهم لم يجيبوا
مباشرة، وإنما تعرفوا أولاً على السائل مَنْ هو، وهذا من دهاء العرب
ويقظتهم، وفي هذا احتياط لهم، وما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بل أقرهم على ذلك، مع أنهم لم يجيبوه، وإنما سألوه هو: ومن أنت؟ فأجابهم:
أنا رسول الله.
إذاً: هم عرفوه، وقد يكون حصل بينهم وبينه جوار بعد ذلك، وليس هذا ما يهمنا
في هذا المقام، فيكفي أن الفريقين تعارفا بالإسلام، وأنهم جميعاً مسلمون
والحمد لله، يعني: ما هم أعداء.
مشروعية استغلال
مواطن الاستفادة والتعليم
فلما عرفت المرأة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهزت الفرصة لتستفيد،
فرفعت طفلاً بيدها، وقيل: بضبعه، أي: رفعته من تحت إبطه، إذن: هذا الطفل
غلام كبير أم طفل رضيع؟ رضيع، وفي بعض الروايات (في محفته) المحفة: عبارة
عن قطعة قماش مستطيلة وفي طرفيها أعواد، ينام الطفل فيها ويربط بالأعواد،
وتحمله على ظهرها، وهذا أحسن من هذه العربيات التي يوضع فيها الأطفال
اليوم، يوشك أن ينكسر ظهر الطفل من طول قعوده في العربية، أما هذه المحفة
فينام الطفل فيها مستريحاً وفي قماش لين، وهي من عادات العرب.
(ألهذا حج) أي: انظر إليه فهو أمامك، ويلاحظ أن ابن عبد البر رحمه الله
يقول: كيف يصح لهؤلاء أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ ولكن
لعل اللقاء كان في الليل.
ولكن إذا كان اللقاء في الليل فكيف تقول المرأة: ألهذا حج؟ وكيف يراه صلى
الله عليه وسلم؟ ولا أدري هل أجاب ابن عبد البر على هذه الناحية أم لا،
وسواء أكان اللقاء في الليل أو في النهار، فهل كل مسلم لقي رسول الله صلى
الله عليه وسلم يعرفه؟ لا.
إذاً: لا مانع أن يكون اللقاء نهاراً ولم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ألم نجد في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، ونزل في
ظل نخلة، هو وأبو بكر وجاء الأنصار أو بعضهم، ولم يعرفوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولم يفرقوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي
بكر؛ لأنهم لم يروه قبل ذلك، حتى اشتد النهار وقام أبو بكر يظلل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فهناك عرفوا من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن
صاحبه؟! إذاً: لا حاجة أن نفترض أن اللقاء كان ليلاً، يهمنا من الحدث:
(ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) .
وكما يقال: الجواب يتضمن السؤال، وعليه فالمعنى: نعم لهذا حج، ولك أجر،
يقول العلماء: (لك أجر) أي: في معانات حجه، ولكن القضية عامة، وكما جاء:
(من فطر صائماً كان له كأجره لا ينقص من أجره شيئاً) فهذا فعل الخير وكما
جاء في الحديث: (الدال على الخير كفاعله) فهذا فضل الله.
سن الإدراك ليس شرطاً للحج بالصبي
وهنا يبحث الفقهاء: من هو الصبي الذي له حج؟ قال بعضهم: هو الذي له إدراك،
وهو: الذي خوطب بالصلاة، أي: أمر وليه أن يأمره، (مروا أبناءكم بالصلاة
لسبع) قالوا: لأن أول سن الإدراك عند الطفل سبع سنوات، ولهذا فالنظم
التعليمية الحديثة لا تقبل الطفل في الدراسة قبل سن سبع سنوات؛ لأنه إن
قُبل قبل هذه السن فستسبب الدراسة الكد والإكلال لذهنه؛ فيعجز عن التحصيل،
والطفل في هذا السن إنما يقبل التلقي عن طريق اللعب والأمور العملية، أما
الأمور الذهنية فصعبة عليه.
والذي يظهر أن هذه المرأة لم ترفع طفلاً عمره سبع سنوات على يدها، فإن هذا
بعيد، وإنما رفعت طفلاً في محفته، وهذا يدل على أنه طفل صغير.
ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث ليبين أن الحج فرض على المستطيع، وأنه يصح
للصغير، لكن هل يصح منه استقلالاً، أم أنه يصح منه بواسطة وليه؟ وكيف يحج
الولي بالصبي؟ قالوا: يفعل له ما يفعل لنفسه: يجرده عن المخيط، ويلفه في
لفائف، ويجنبه النجاسة، ويلبي له عند الميقات بقوله: لبيك اللهم عن نفسي
كذا لبيك اللهم عن طفلي كذا وإذا أحرم له بالعمرة متمتعاً وحج به عليه دم
له.
ومن الذي يملك أن يحج بالصبي؟ قالوا: أبوه أو وصيه، وهل يشمل هذا كل وصي؟
وهل المرأة تملك أن تحج عن الصبي؟ وهناك نفقة، فمن الذي يؤدي تلك النفقة؟
قالوا: أبوه، أو وصي أبيه، أو الأم إذا كانت لها وصاية عليه، تنفق من ماله،
فإذا لم يكن الشخص وصياً لا يحق له أن ينفق من مال الصبي في حجه؛ لأن هذا
الحج لا يجزئ عن حجة الإسلام، فيكون ضياعاً لمال الصبي؛ لأنه سيأتينا:
(أيما صبي حج قبل البلوغ، فعليه أن يحج حجة الإسلام إن استطاع) وكذلك
المملوك: (أيما عبد حج وهو مملوك فأعتق فعليه حجة الإسلام إن استطاع) .
إذاً: لا يحج بالصبي إلا أبوه؛ لأنه ولي أمره وماله، أو وصي الأب، أو الأم
إن كانت لها وصاية؛ وذلك من أجل التصرف في مال الصبي، أما إذا كان متبرعاً
من عنده فيحج بالصبي وينفق عليه معه، فجزاه الله خيراً، ولا إشكال في ذلك،
والله تعالى أعلم.
كتاب الحج - باب
فضله وبيان من فرض عليه [3]
إن للحج أهمية عظيمة، وقد رتب الله على أدائه الأجر الجزيل، ولما كان
الإنسان لا يخلو من موانع تمنعه وتحول بينه وبين هذه العبادة العظيمة،
كالعجز والموت، فقد كان من تيسير الله على عباده أن أجاز حج الولد عن
والده، كما أجاز الحج عن الغير بشرط أن يكون الشخص قد حج عن نفسه.
ويصح الحج من الصبي والمملوك، إلا أن حجهما لا يسقط عنهما حجة الإسلام بعد
البلوغ والعتق.
شرح حديث ابن عباس
في بيان حكم الحج عن الشيخ الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان
الفضل بن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت
امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله
عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة
الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة،
أفأحج عنه؟ قال: نعم.
وذلك في حجة الوداع) متفق عليه واللفظ للبخاري] .
بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى حكم حج الصبي انتقل إلى بيان حكم الحج عن
الغير، فجاء بهذا الحديث وهو المعروف عند العلماء بحديث الخثعمية.
أورد المؤلف رحمه الله تعالى حديث ابن عباس وفيه: أن الفضل بن عباس، أي:
ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم.
والرديف: هو الذي يركب خلف صاحب الدابة.
(فجاءت امرأة من خثعم) هنا تأتي عدة روايات يسوقها ابن حجر رحمه الله في
الجزء الرابع من فتح الباري: تارةً (جاء رجل فسأل عن أمه) ، وأخرى: (جاء
رجل فسأل عن أبيه) وأخرى: (جاءت امرأة فسألت عن أمها) وكل ذلك وارد بأسانيد
صحاح، فقيل: بتعدد السؤال، وتعدد الجواب.
وفي بعض الروايات لهذه القصة: أن هذه الخثعمية معها أبوها، وجاء في بعض
روايات الفضل: أن أباها أتى بها يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعله يتزوجها، أو أمرها بالسؤال ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثها، وقد جاء في وصفها أنها حسناء.
نظر الفضل بن العباس
إلى الخثعمية وكلام العلماء في ذلك
وكما جاء في الحديث هنا: كانت تنظر إلى الفضل، وكان الفضل ينظر إليها، فكان
صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عنها إلى الجهة الأخرى، وتكرر ذلك حتى
قال العباس رضي الله تعالى عنه -وكان حاضراً-: يا ابن أخي! قد أتعبت أو
أوجعت عنق ابن أخيك.
أي: في تكرار صرف وجهه إلى الجهة الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت
شابة وشاباً فخشيت أن يدخل الشيطان بينهما) .
وهنا للعلماء مباحث: كيف كان الفضل ينظر إليها، وقد فرض الحجاب من قبل؟
يقول بعض العلماء: إن المرأة في الحج تسفر عن وجهها؛ لأنها نهيت عن لباس
البرقع والنقاب، ولكن جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كنا إذا لقينا الركبان أسدلنا على وجوهنا، وإذا فارقونا كشفنا عن وجوهنا)
.
ومن هنا تكلموا في تغطية المرأة لوجهها أثناء الإحرام، والذين قالوا: إن
المرأة تكشف وجهها دائماً في إحرامها، أخذوا ذلك من هذا الحديث: أن الفضل
ينظر إليها، وهي حسناء، وقالوا: لا يتأتى ذلك إلا إذا كانت مسفرة عن وجهها،
ولكن فاتهم ما يوجد في الحديث: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت فتاة
وشاباً) ، فإن الفتاة ولو كانت مخمرة وجهها، فإنها لقرب الحجاب من عينيها
ترى الطريق، وترى من تلقاه من الرجال، فكما يخشى على الشاب من الفتاه، كذلك
يخشى على الفتاة من الشاب.
إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لا يدل قطعاً على أنها
كانت مسفرة عن وجهها، بل يدل قطعاً بأنها لشبابها ولشباب الفضل يمكن أن
تفتتن به، ويتفق العلماء: على أن بني هاشم بصفة عامة كانوا من أجمل الناس،
رجالاً ونساء، وجاء في هذه القصة -بالذات- أن الفضل كان وسيماً.
إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل لا يقتضي أن تكون الفتاة
مسفرةً وجهها، ولا دليل فيه لمن يقول ذلك.
وقد قدمنا بأن حجة النبي صلى الله عليه وسلم تأتي على كل شيء في الإسلام،
فهذه الحادثة وقف عندها العلماء وبحثوا سفور المرأة في الحج وعدم سفورها.
ثم ذكروا أن من الشفقة ومن الرأفة بالإنسان أن تردفه على دابتك إذا كانت
تحتمل اثنين، أما إذا كانت لا تحتمل فلا يجوز، وهذا من باب الرفق بالحيوان.
وقد جاء في شأن الرفق بالحيوان ما هو أبعد من ذلك، جاء: أن امرأة دخلت
النار في هرة، وجاء: أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب سقته، وجاء عنه صلى
الله عليه وسلم في قصة البعير الذي ندّ عن صاحبه، أن بيّن له وقال: (بعيرك
يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) ، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن
يرفق بالحيوان ولا يكلف فوق طاقته.
الحج عن العاجز
وفي هذا الحديث: أن المرأة سألت، وفي رواية: جاء أبوها يعرضها، أو يعرض بها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأب موجود، فكيف تسأل عن عجزه عن
الحج؟ قالوا: لعل المراد: الأب الأعلى، وهو: جدها، وقالوا: لعلها قضية
أخرى، يهمنا صيغة السؤال وصيغة الجواب، قالت هذه المرأة: (إن فريضة الله
على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة) .
فقولها: (لا يثبت) .
أي: لا يثبت بنفسه على الراحلة، وجاء في بعض الروايات: (أن امرأة سألت،
وقالت: إني أخشى إن أنا شددته على الراحلة بالحبل أن أقتله) وجاء -أيضاً
مرةً أخرى- (أن رجلاً سأل عن أبيه وقد عجز، ولا يستطيع أن يربطه ويثبته على
الراحلة) .
وهذه الصور بمجموعها تعطينا أن هذا العاجز قد بلغ به عجزه إلى حد لا يستطيع
أن يثبت بنفسه على الراحلة.
وهنا ينظر العلماء في هذا العجز ما سببه؟ إن كان للشيخوخة فهو لا يرجى عوده
إلى الشباب والصبا، فهو ميئوس من ذهاب هذه العلة عنه، أما إذا كان مريضاً
مرضاً عارضاً ويظن أو يرجى له البرء فإن حكمه يختلف، ومن هنا قال بعض
العلماء: لا يجوز الحج عن الغير في حال الحياة إلا إذا كان عاجزاً بهذه
الصفة، أو بسبب لا يرجى برؤه ولا زواله، فحينئذٍ يجوز أن يحج عنه، والكلام
في حجة الفرض لا في النوافل؛ لأنهم متفقون على أن الحج نافلة عن الغير يصح،
ولو كان الغير سليماً معافى، اللهم إلا قولاً للمالكية يخالف في ذلك.
إذاً: هذا المبحث ونظيره إنما هو في حجة الفرض لا في حجة النفل.
فقالت: (أفأحج عنه؟) (قال: نعم) يعني: نعم حجي عنه، وهنا قد يأتي البعض
ويقول: هذا مجرد جواز الحج عنه، ولكن هل يسقط به الفرض أم لا؟ لا حاجة إلى
هذا التساؤل؛ لأنه كما يقال: الجواب يتضمن السؤال، فهي سألت عن أبيها، وقد
أدركته فريضة الحج على العباد، فهل قوله: حجي عنه، يكون حج فريضة أم حج
نافلة؟ لا شك أنه حج فريضة، وسيأتي ما يبين ذلك أكثر، وأن هذا واجب عليها،
وكما سيأتي في قصة المرأة التي سألت عن أمها التي نذرت حجاً وماتت ولم تحج،
فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين؟ -إلى أن قال- دين الله أحق) .
إذاً: ما دام قد تعلق بذمته وجوب الحج، فسألت: هل تحج عنه أم لا؟ وأجابها:
بنعم، فيكون ذلك حج الفريضة.
صحة الحج عن الغير
وفي هذا الحديث -كما يقول الإمام ابن حجر وغيره- من المسائل الفقهية: صحة
حج الغير عن غيره، وهذه كما قالوا: مغايرة للأصول: {وَأَنْ لَيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وأنهم مجمعون على أنه لا يصلي
إنسان عن إنسان، ولا يصوم إنسان عن إنسان وهو على قيد الحياة، وقال
الآخرون: هذه قضية فيها نص، فلا حاجة إلى قياسها على غيرها.
وقالوا أيضاً: إن العبادات تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية مقصودة من الشخص
بعينه.
وعبادة مالية ليست مقصودة من الشخص بعينه، ولكنها مقصودة من عين المال،
فالعبادة البدنية لا تتأتى من أحد عن أحد؛ لأن الصلاة فيها وقوف بين يدي
الله، وفيها الخشوع، وفيها الخضوع، وفيها الذكر والدعاء، وهذا أمر شخصي
يرجع إلى المصلي، فإذا صلى غيره عنه، فأين تلك المعاني لمن صلى عنه؟! وكذلك
الصوم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: بالصوم، فإذا صام إنسان
عن إنسان، فات على من صيم عنه معاني اكتساب التقوى.
أما العبادات المالية: كالزكاة، والكفارات، ووفاء النذور، فإنها تتعلق
بالمال، والمال لا دخل له في الإنسان إلا من ناحية الشح والسخاء ونحو ذلك،
ويسقط الواجب بهذا الجزء من المال سواءً كان من صاحبه أو من غيره، كما
سيأتي في الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته أكان ينفعها؟) أي: هل
يسقط عنها الدين، والمطالبة به أم لا؟ قالت: نعم، فأحالها على ما تعلم،
لتعرف حكم ما لم تعلم.
فإذا وجد إنسان مدين، وطولب بأداء الدين فلم يستطع الأداء وأخذ إلى السجن،
فجاء إنسان آخر ودفع عنه الدين شفقة ورحمة، فهل يقال: لا، بل يبقى في السجن
حتى يدفع هو! أو حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة؟ حتى يسقط عنه الدين
وتسقط المطالبة.
وقالوا: إن الحج يجمع بين القسمين، عبادة البدن: المتمثلة في الحل
والترحال، والطواف، والسعي، والوقوف، وعبادة المال: المتمثلة في الزاد،
والراحلة، ولذا يقول بعض العلماء: إذا غلب جانب البدن فلا يحج أحد عن أحد
في الحياة، وإذا غلب جانب المال فإنه يحج كل إنسان عن أي إنسان في الحياة،
وعلى هذا يكون الراجح: صحة نيابة الإنسان في الحج عن غيره، وهذا هو مذهب
الجمهور، وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: ما دام موجوداً حياً فلا حج عنه
ولا نيابة، فغلبوا جانب العبادة البدنية.
ولا تشترط المماثلة فيجوز أن تحج امرأة عن رجل، وكذلك رجل يحج عن امرأة،
ولا مانع من ذلك، هذا من النواحي الفقهية.
من النواحي الأخرى: أن هذه امرأة نظرت إلى حال أبيها، وقد بلغ به الكبر إلى
هذا الحد، وهي تتطلع إلى بره والإحسان إليه؛ لتخرجه من عهدة الواجب عليه،
وهذا هو الواجب على كل ابن تجاه والديه.
إذاً: الحديث يتناول عدة جوانب سواء كان من جانب التشريع: الحلال والحرام،
والإجزاء وعدمه، أو كان من جانب الأمور الاجتماعية: من الإحسان، والبر،
ونحو ذلك.
كذلك مسألة سفور المرأة، وإزالة ما يراه الإنسان سداً للذرائع، كما هو
الأصل في مذهب مالك؛ لأن صرف وجه الفضل عن الفتاة سدٌ لذريعة الفتنة
بينهما، وهذا على قدر سلطة الإنسان، إن كانت له سلطة باليد فباليد، وإن لم
تكن له سلطة باليد فبالقول، وإن لم يستطع بالقول فيكون بالوسيلة الثالثة،
وهي القلب، وذلك أضعف الإيمان.
إذاً: موضوع هذا الحديث هو: بيان نيابة حج الإنسان عن غيره لعذر، ألا وهو:
العجز عن السفر إلى الحج لعذر لا يرجى زواله ولا برؤه.
حكم من أناب في الحج
لعجزه ثم قوي بعد ذلك
بقيت مسألة واحدة وهي: إذا كان الإنسان لا يستطيع الحج لكبر سنه، وأناب في
الحج عنه، ولكن مع الزمن قوي بدنه، وتيسرت له الوسائل التي بها يستطيع أن
يحج، فهل نطالبه بحجة الإسلام؛ لأن الأولى كانت لعلة وقد زالت، أو يكتفى
منه بما مضى في وقته بوجه شرعي؟ اختلف الأئمة في ذلك، فـ مالك لا يرى أن
يحج عنه أصلاً مادام حياً، وعلى هذا فيلزمه الحج، وأحمد يقول: لا يطالب
بالحج؛ لأنه أُدِّيَ عنه بوجه مشروع، وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله
يقولان: عليه أن يحج حجة أخرى، على ما سيأتي في حق الصبي والمملوك.
والله تعالى أعلم.
شرح حديث ابن عباس
في وجوب الوفاء بالنذر لمن نذر الحج
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت،
أفأحج عنها؟ قال: نعم.
حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق
بالوفاء) رواه البخاري] .
الحديث الأول: امرأة من خثعم، والحديث الثاني: امرأة من جهينة، وكونها من
خثعم، أو من جهينة، أو من تميم، أو من مضر، أو من باهلة، أو من أي جنس من
الأجناس لا علاقة له بالحكم، ولكن هذا من باب التوثيق في الخبر؛ لأنه متأكد
أن المرأة معروفة بعينها وقبيلتها، وهذا مما يعطي السند قوة، والخبر أصالة.
أحكام النذر وأقسامه
والمؤلف رحمه الله بعدما ذكر الحديث الدال على الحج عن العاجز الحي لعذر
المرض ذكر الحديث الدال على الحج عن الميت، فهذه المرأة الأخرى تسأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إن أمي كانت قد نذرت أن تحج) إذا كان هذا
النذر لحج الفريضة، فيكون واجباً بأمرين: بالإيجاب الأول: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] وبالإيجاب الثاني: وهو النذر،
وإذا كان نذراً لحج النافلة، وكانت قد حجت الفريضة، ثم نذرت حجة أخرى
نافلة، والنافلة بالنذر تصبح واجبة إيجاباً جديداً، ومهما يكن من شيء فأمها
نذرت.
والنذر من حيث هو: إلزام الإنسان نفسه بشيء قربة لله، وقد يكون مطلقاً، وقد
يكون مشروطاً، فالمطلق مثاله: رجل كسلان عن الصيام، فأراد أن يلزم نفسه
بالصيام فقال: لله علي نذر أن أصوم يوم كذا، ويوم كذا لله، فهذا يسمى:
نذراً مطلقاً، والنذر المشروط مثاله: أن يقول طالب: لله علي نذر إن نجحت في
الامتحانات أن أذهب وأعتمر، هذا النذر مشروط، ومعلق بما إذا نجح في
الامتحانات.
أما النذر المطلق فلا مانع فيه، وبعضهم يكرهه؛ لأنه إلزام لنفسه بما لم
يلزمه به الشرع، وما يدريك لعلك تعجز، فهو غير واجب ابتداءً، ولكن عندما
ألزم الشخص نفسه به أصبح واجباً في حقه، والأفضل للإنسان أن يترك النذر،
وإذا أراد أن يتطوع بعمل ما فليأت به تطوعاً من غير نذر، وهذا هو الأفضل،
أما المشروط فكرهه العلماء؛ لأن فيه حديث: (إن النذر لا يأتي بخير وإنما
يستخرج به من البخيل) النذر لن يأتي لك بالنجاح وإنما يكون النجاح
بالمذاكرة، وبالتوفيقِ من الله، ولو قال قائل: إن شفى الله مريضي حججت
وتصدقت، هل الحج أو النذر هو الذي سيشفي المريض؟ لا: {وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] .
هذه مساومة مع الله ومبايعة، إن أعطيتني أعطيتك! ولكن يستخرج به من
البخلاء، لولا مرض الولد، ومجيء الشفاء، والتطلع إليه، ما حج ولا اعتمر؛
لأنه بخيل.
إذاً: (النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من البخيل) ، يعني: لا يأتي به
لذاته، وإنما الذي يأتي بالخير هو الله سبحانه وتعالى.
فهذه امرأة نذرت، وبسبب نذرها تورطت ابنتها، وجاءت البنت تريد أن تفك أمها
مما ألزمت به نفسها ولم تف به، فهي كانت في عافية، ولكن لما نذرت صارت
مدينة مسئولة، وهذا أيضاً من شفقة البنت على أمها؛ لأنها علمت أنها مدينة
مرتهنة بنذرها، فاغتنمت فرصة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله،
ولقد كان عصر الصحابة أحسن العصور لتمتعهم بهذه النعمة وهذا الفضل العظيم،
(خير القرون قرني) إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما أشكل عليهم
أمر بادروا بالسؤال ويجدون الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفأحج
عنها؟ قال: نعم، حجي) .
ثم لما استشكلت البنت الوفاء عن أمها؛ لأنه عمل للغير، فالغير ألزم نفسه به
تبرعاً، ولم يوجبه الله عليه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين
لها ليزول هذا الإشكال، وهذا رأفة بالسائل، وحكمة من المسئول، قال: (أرأيت)
يعني: أخبريني بما تفهمين أنت: لو أن على أمك ديناً لجارتها، وماتت وهي
مطالبة بالدين، فقضيت أنت عنها الدين، أكان ينفعها؟ قالت: نعم ينفعها، قال:
دين الله أحق، ما دمت تعلمين بأن سداد الدين عن الغير ينفعه، ويرفع عنه
المطالبة والمسئولية، وإذا كنت توفين دين المخلوق، والنذر دين لله، ودين
الله أحق بأن توفيه، وبهذا علمنا صحة الحج عن الميت.
والمالكية يقولون: من أوصى بالحج عنه، حججنا عنه، لكن من نذر بالحج أنحج
عنه أم لا؟ بعضهم يقول: نعم؛ لأنه أوجبه على نفسه، بخلاف ما أوجبه الله على
العبد، ومات العبد قبل تمكنه من أدائه، فالله الذي أوجبه هو الذي أخذ
العبد، ولم يمكنه من أن يحج، بخلاف ما لو أوجب العبد على نفسه الحج فيكون
هو الذي ورط نفسه، فيكون الإلزام هنا من جانب الوفاء؛ لأن العبد هو الذي
حمّل نفسه وألزمها.
ويهمنا في هذا أن الجمهور قالوا: أيما ميت مات وعليه حج، سواء كان عليه
بأصل الوجوب: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران:97] أو كان عليه
بإيجابه على نفسه بالنذر، فإن وليه يحج عنه، أو ينفعه حج الغير عنه.
إذاً: الحج عن الحي بسبب علة عجزه، والحج عن الميت، بسبب موته، واستقرار
الحج دين في ذمته، وبهذا يتم عندنا جواز الحج عن الغير حياً أو ميتاً، إلا
أن الحي مشروط فيه أن يكون عاجزاً عن أن يحج بنفسه، وهذا كله في حجة
الفريضة.
نيابة الأجنبي في
الحج
وهنا يبحث العلماء في نيابة الأجنبي؛ لأن الوارد في السؤالين نيابة البنت
أو الابن، وإذا كان النائب أجنبياً فهل يجزئ أم لا؟ يقول البعض: القياس لا
يجزئ؛ لأن ولد الرجل من عمل أبيه، إذ الولد بضعة من أبيه ويقول صلى الله
عليه وسلم: (أو ولد صالحٌ يدعو له) لأن عمل الولد تابع للوالد، فإذا كان
أجنبياً عنه فلا توجد بينهما رابطة ولكن سيأتينا حديث شبرمة وفيه: (أخٌ لي،
أو صاحب لي) أي: ليس بأبي ولا بأمي، فيدل هذا على صحة حج الإنسان عن غيره،
والأولى أن يكون النائب من ولده، وإذا لم يكن من ولده ولا من أقربائه صح
ذلك، على ما سيأتي الشرط فيه.
شرح حديث ابن عباس
في حكم حج الصبي والمملوك
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى، وأيما عبد
حج، ثم أعتق، فعليه أن يحج حجةً أخرى) روا ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله
ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف] .
هذا الخبر جاء موقوفاً على صحابي، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ولكن حكمه حكم الرفع؛ لأن حج الصبي، وإجزاؤه وعدم إجزائه تشريع، ولا
يتأتى لإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُشرع ويصدر مثل هذا
الحكم، إذن: سواء ثبت في الصناعة الحديثية رفعه إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بأن جاء فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه موقوف على الصحابي،
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً لا يملكون أن يقولوا مثل ذلك،
والعلماء يقولون: الموقوف على الصحابي إذا لم يكن للرأي فيه مجال فهو مرفوع
حكماً؛ لأنه لا يتكلم فيه بالرأي ولا بالعقل، ولكنه يكون قد سمعه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
اعتبار الأهلية في
التكليف
وموضوع هذا الحديث مرتبط بالحديث الذي تقدم في قصة المرأة التي رفعت صبياً
بالروحاء وسألت: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) .
فهذا الصبي قد حجت أمه عنه في صغره قبل أن يُكلف، فإذا بلغ هذا الصبي سن
التكليف، فهل يُكلف بالحج أم أن حجه الأول يسقط عنه فريضة الحج؟ فهذا
الحديث جواب على هذه المسألة.
(أيما) أي: من صيغ العموم، و (ما) كذلك وهما معاً كلمة واحدة (أيما صبي حج،
ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى) الصبي هذا كم عمره؟ تقدم أنه رفع في
المحف، وكانوا يحجون بالصبيان دون البلوغ، كما جاء في حديث ابن عباس رضي
الله عنهما، حيث قال عن نفسه: (كنت مع الضعفة ليلة المزدلفة وكنت غلاماً) ،
وجاء عنه أيضاً أنه قال: (جئت على أتان وقد ناهزت الاحتلام -يعني: قاربت أن
أحتلم ولم أحتلم بعد- والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بمنى، فمررت
بالأتان بين الصفوف، حتى وجدت مكاناً، فنزلت عنها وتركتها) أي: وقمت في
الصلاة، فهذا غلام ناهز الاحتلام وكان حاجاً معهم.
إذاً: سواءً كان غلاماً أو صبياً رضيعاً، أو فطيماً، أو ابن سبع سنوات، أو
تسع، ما دام أنه حج دون البلوغ، فعليه أن يؤدي حجة الإسلام بعد البلوغ.
حكم من بلغ أثناء
أدائه للمناسك
وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء، ومما يجب على
طالب العلم أن لا يقف عند نصوص الحديث، بل لابد أن يرجع إلى الموسوعات
الفقهية؛ لأن للفقهاء تفريعات واستنتاجات نحن لم نتوصل إليها.
فيقولون: لو أن إنساناً أخذ صبياً ليحج به، ولما جاء إلى مكة وهو محرم
بالحج بلغ واحتلم، يقولون: متى كان احتلامه؟ هل كان قبل الوقوف بعرفة أم
بعده؟ إن صح احتلامه قبل الوقوف بعرفة، أو وهو في أرض عرفات، قبل أن ينصرف
منها، أجزأت عنه حجة الإسلام؛ لأنه أداها وهو بالغ، وإن كان احتلامه بعد أن
نزل من عرفات، فهو قد حج دون البلوغ؛ لأن الحج عرفة، وما يأتي بعد عرفة فهو
من مكملات الحج فعليه حجةٌ مرةً أخرى، (فأيما صبي حج، ثم بلغ) أي: بلغ سن
التكليف، واستطاع الحج؛ لأنه في حال صغره قد يحججه وليه، فلما بلغ أصبح
كعامة الناس: (من استطاع إليه سبيلا) يعني: أن الحجة الأولى، التي أوقعها
له وليه قبل البلوغ لا تجزئ عن حجة الإسلام.
حكم حج قاصر الأهلية
ثم يأتي بعد ذلك قاصر الأهلية وهو: المملوك، ومعنى قاصر الأهلية: أنه لا
يتصرف بأهلية كاملة في نفسه وفي ماله، والصغير قاصر الأهلية، يحجر عليه في
ماله، ولا يعطى المال في يده، وإنما يعطى بقدر ما يمتحن به؛ حتى يجرب:
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا} [النساء:6] أي: بعد بلوغ
سن الرشد، أو بعد البلوغ مع الرشد في التصرف، وهل المراد الرشد في الدين أو
الرشد في الدنيا؟ هذا بحث آخر.
وفي حق المملوك: (أيما مملوك) أيما عبد أيما جارية -فالمملوك يصدق على
العبد والجارية، وعلى الذكر والأنثى- كان قد حج مع مواليه وهو مملوك، ثم
بعد ذلك أعتق أو كاتب على نفسه وصار حراً، كذلك إن استطاع سبيلاً للحج
فعليه أن يحج حجة أخرى، وبهذا يستدل على أن العبد المملوك قاصر الأهلية
لأنه في حكم سيده، وهناك تفريعات عديدة على هذا، في من سقطت عنه الجمعة،
وسقطت عنه الزكاة في ماله، إلا بإذن سيده، إلى أشياء أخرى والله تعالى
أعلم.
وأيضاً يضاف إلى هذين الاثنين -كما تقدم- من المريض الذي لا يستطيع الحج،
فحج عنه غيره، ثم تعافى، فيكون أيضاً مضافاً إلى الصغير وإلى المملوك،
وكذلك من حج عنه لعجزه عن الركوب، ثم استطاع أن يركب بعد ذلك.
كتاب الحج - باب
فضله وبيان من فرض عليه [4]
إن المرأة مأمورة بالحج كالرجل، إلا أن الإسلام راعى ضعف المرأة، وحاجتها
إلى غيرها، فأوجب عليها إن أرادت أن تسافر إلى الحج أن يكون معها محرم، فإن
لم تجد فلا يجب عليها الحج، والمحرم هو كل من حُرّمت عليه المرأة تحريماً
مؤبداً.
ويجوز الحج عن الغير فرضاً كان أو نفلاً، بشرط أن يكون قد حج عن نفسه
أولاً، والوصية بالحج تنفذ من ثلث مال الموصي، ويستحب تكرار الحج كل عام
ويكره تأخيره -لمن كان مستطيعاً- أكثر من خمس سنوات.
اشتراط وجود المحرم
مع المرأة عند خروجها للحج
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلُونّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم،
ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي
خرجت حاجة، وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك)
متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هذا الحديث يتناول قضية كبرى من كبريات قضايا المجتمع، ألا وهي: قضية سفر
المرأة، ومفهوم سفر المرأة يقتصر على ما يسمى سفراً في العرف، بخلاف ما كان
دون ذلك، كما لو خرجت المرأة من المدينة إلى قباء، فلا يقال: إن هذا سفر،
أو خرجت من بيتها من ضاحية المدينة إلى المسجد النبوي فلا يقال: ذلك سفر،
وإنما السفر كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (كل ما احتاج الإنسان
معه إلى زاد وراحلة) هذا بالجملة، ولكن جاءت نصوص: (يوم وليلة) ، (يومين) ،
(ثلاثة أيام) ، إلى غير ذلك.
وصدر الحديث (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) قضية عامة: لا يخلون
رجل بامرأة، حضراً أو سفراً، والخلوة: أن يكون الاثنان معاً فقط، سواءً كان
في السيارة، أو كان في الخيمة، أو كان في البيت، أو.
إلخ، إذا خلا المكان من غيرهما فهذا ممنوع؛ لأنه قد جاء في الحديث: (ما خلا
رجل بامرأة، إلا كان الشيطان ثالثهما، أو معهما) وإذا كان الشيطان معهما
فسيجرهما إلى الشر، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ثم جمع مع النهي عن الخلوة ما يتعلق بموضوعها أيضاً وهو السفر للحج،
فالمرأة حين سألت النبي: هل تحج عن أمها؟ فقال: حجي، فعندها يأتي السؤال:
كيف تحج؟ فجاء بشرط حج المرأة وسفرها: أن يكون معها محرم، ومن هنا يرى أحمد
رحمه الله: أن استطاعة المرأة للحج بالزاد والراحلة والمحرم، وإذا لم يكن
لها محرم كزوج، وأب أو كان محرمها فقيراً لا يستطيع الحج فلا تتم
استطاعتها، والجمهور: على أن استطاعة المرأة كاستطاعة الرجل، الزاد،
والراحلة، والمحرم شرط زائد عن ذلك.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله في حج المرأة حجة الفريضة من غير محرم يقولون:
إن كانت هناك رفقة مأمونة فلها أن تخرج للفريضة فقط، وما هي الرفقة
المأمونة؟! إذا كانت المرأة في جمع من النسوة مع محارمهن إلى غير ذلك،
فتخرج لحج الفريضة ولا تخرج لحج النافلة.
لما قدم المؤلف رحمه الله بيان فضل الحج، جاء بشروط وجوبه، وهي: الاستطاعة،
وتفسيرها من النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة، ثم جاء بعد ذلك بمن
يحج عن غيره، من أب أو أم، حياً أو ميتاً، نذراً أو غير نذر، ثم جاء هنا
بواجب من الواجبات، أو بشرط من الشروط وهو: حج المرأة بمحرم لها.
اختلاط المرأة
بالرجال وخلوتها بهم في السفر وفي غيره
وفي صدر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو يخطب على المنبر،
والخطابة على المنبر قد تكون للجمعة وقد تكون لغيرها-: (لا يخلون رجل
بامرأة إلا ومعهما ذو محرم) هذا الجزء من الحديث -على إيجازه- يعطينا صورة
كاملة على مدى الحفاظ على المرأة في الإسلام، وعلى وجوب التوقي من فتنتها؛
وذلك أن علاقة المرأة بالرجل، والرجل بالمرأة علاقة أصل بفرع، وفرع بأصله،
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]
فالأصل يعطف على الفرع، والفرع يحن إلى الأصل، وهذه جبلة وغريزة، والله
سبحانه وتعالى حفظ الجنسين من بناء علاقة بينهما إلا ما كان في عقد نكاح،
أو ملك يمين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] .
فإذا جاء العقد كانت هناك رابطة أخص: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وقبل أن يأتي هذا اللباس فالمرأة الأجنبية
محرمة على الأجنبي، وبهذه المناسبة -وقد انتشر في العالم التساهل في هذه
القضية- نجد أن الله سبحانه سدّ منافذ الوصول إلى المرأة، من الحواس الخمس،
عن النظر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] ماذا؟ {يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فأمر بغض البصر من كلا الجانبين، وحفظ الفرج،
وكذلك السماع: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ} [الأحزاب:32] ،
وكذلك: {وَلا يَضْرِبْنَ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}
[النور:31] لأن ضرب الخلخال يصدر صوتاً تسمعه الأذن ويلفت النظر، وكذلك
الملامسة من باب أولى، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون) ، بل
أيضاً منع ما يثير حاسة الشم: (أيما امرأة تعطرت وخرجت من بيتها، فمرت على
رجال، فوجدوا منها ريحها، فهي زانية) .
وقد يتعاظم الإنسان هذا الحكم، ولكن إذا عرفنا بأن العين تزني وزناها
النظر، والأذن تزني وزناها السماع والتلذذ، والأنف أيضاً تزني وزناها الشم
إلى غير ذلك هان الأمر علينا.
ثم منع الخلوة أياً كانت، وهذا زيادة في الحفاظ عليها، حتى جاء في ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم لمن سأله: (أفرأيت الحمو يا رسول الله؟!) والحمو: أخو
الزوج، يعني: يدخل في غيبة أخيه، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه أشد خطراً
فقال: (الحمو الموت) ؛ لأن الأجنبي لا يجرؤ أن يدخل، وإذا دخل لفت
الانتباه، أما أخو الزوج فيدخل بيت أخيه، وهناك تكون عدم المبالاة، فيكون
هناك ما يشبه الموت.
إذاً: في هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن على الرجل أن
يتوقى من المرأة، وكذلك المرأة.
وتقدم لنا في قضية الخثعمية التي كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم
والفضل بن العباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ ينظر إليها، وأخذ
الرسول صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عن الخثعمية، ولما سأله العباس
في ذلك قال: (رأيت شاباً وشابة، فخشيت عليهما الفتنة) .
حرمة سفر المرأة من
غير محرم
قوله: (ولا تسافر امرأة بغير محرم) السفر بصفة عامة يكون للحج ولغير الحج،
والمؤلف ساقه فيما يتعلق بالحج؛ لأن الرجل الذي قام وسأل ربط السفر بالحج،
ولا تسافر المرأة بغير محرم، والسفر ليس مطلق النقلة، بل له حدود ومسافات،
وجاء مسيرة يوم وليلة، (مسيرة) في اللغة: مفعلة، تصلح مصدراً ميمياً،
وتصلح: اسم زمانٍ ومكان، فعلى أنها اسم زمان يكون النهي أن تسير يوماً
وليلة قطعت فيها عشرة أميال أو آلاف الأميال، ويكون النهي متعلقاً بجزء
زماني وهو: اليوم والليلة، وعلى أنها اسم مكان: يكون النهي عن أن تسافر
مكاناً، ومسافته تقطع عادة في يوم وليلة، حتى ولو قطعتها في ساعة واحدة.
إذاً: (مسيرة) هنا تحتمل الأمرين، وقد وجدنا أن بعض العلماء يأخذها على
الناحية الزمنية، فإذا سافرت أقل من يوم وليلة، -ولو قطعت مئات الأميال- لم
تبلغ الحد الذي نهيت عنه، ومن حمله على المكان قال: لا تسافر تلك المسافة
التي من عادتها أن تقطع في يوم وليلة، ولو سافرتها في ساعة واحدة.
ونجد ابن حجر رحمه الله في فتح الباري يفرق فيما يتعلق بقصر الصلاة والفطر
في رمضان، فيجعله من باب المكان، وعموم السفر يجعله من باب الزمان،
والمسألة مشتبهة جداً وخطيرة، والغرض من ذلك: الحفاظ على المرأة من أن تخلو
في سفرها؛ لأنه كما يقال: يخشى عليها من ذئاب الخلاء، وحينئذٍ إن اضطرت إلى
سفر فهل تسافر أم لا؟ والنهي هنا هل هو للتحريم أو للكراهية؟ نجد القول
متشعباً ومتعدداً في هذا الأمر، ولكن عندما يأتي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذا البيان، فالرجل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن
تسافر المرأة بغير ذي محرم، فأدرك المعنى، وهو يعلم أن زوجته خرجت للحج،
وهو جالس وليس معها محرم، فقام وسأل: ماذا أفعل؟ ما هو الحكم؟ وقد اكتتبت
في غزوة كذا؟ فهنا مقارنة بين أمرين: أن يصحب الزوجة لتكون ذات محرم في
الحج، أو أن يذهب إلى الغزوة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذهابه مع
زوجه ليحج معها، حتى لا تحج بغير محرم، فلكأن وجود المحرم مع المرأة أهم من
وجوده في تلك الغزوة، والمشاركة في الغزوة بالنسبة له من باب فروض الكفاية؛
لأنهم لم يهاجموا، والقتال يكون فرض عين على كل شخص حتى النساء إذا داهم
العدو البلد، ويكون فرضاً كفائياً، إذا كان بعيداً عن بلده، والقوة موجودة،
والعدد متوفر، ويكون من النافلة إذا توفر العدد الكثير ولم يتوقف عليه.
وهكذا رجح النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة بين هاتين العبادتين،
فقال: (اذهب وحج مع امرأتك) .
ربما يقول البعض: إن تلك المرأة التي خرجت للحج كانت برفقة أبي بكر رضي
الله تعالى عنه، ولكن في النفس من ذلك شيء؛ لأن حجة أبي بكر رضي الله تعالى
عنه كانت في السنة التاسعة، وفتحت مكة عام ثمانية من الهجرة، وبعث النبي
صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس سنة تسع، وأي غزوة كانت في سنة تسع؟
لا نعرف إلا غزوة تبوك، وهي لم تكن في وقت الحج.
إذاً: كونها في صحبة، أو رفقة أبي بكر هذا فيه نظر.
وهنا نجد بعض علماء الحنابلة يقولون: لا تتم استطاعة المرأة للحج، ولا
تلزمها الفريضة إلا باستطاعتها في ذاتها وأيضاً كونها مستطيعة لمحرم يحج
معها؛ لأنها في حاجة إليه، ونفقته عليها إن لم يكن خرج للحج عن نفسه معها.
ونجد الشافعي رحمه الله يرى أن ذلك النهي للكراهية، ويقول: إن كانت الحجة
فريضة، ووجدت رفقة مأمونة من النسوة وغيرهن سافرت معهن، فهي عندما تكون في
جماعة النسوة معهن المحارم، فإنها تخدم وتحفظ وتصان مع النسوة فتكون في
مأمن.
والنووي يدلل على هذا الجانب فيقول: لو أن امرأة خرجت مع محرمها، وفي منتصف
الطريق مات المحرم، ماذا ستفعل تلك المرأة؟ أتبقى في مكانها في خلاء؟ أم
ترجع إلى بلدها وحدها؟ إذاً: تمضي مع الرفقة حتى تتم حجها.
ثم جاءوا واستدلوا أيضاً بحديث الظعينة التي تسير بين يثرب والحيرة لا تخاف
على راحلتها السرق، قالوا: فهذه ظعينة تسير وحدها، وأجاب الآخرون: بأن هذا
إخبار -في الجملة- عن استباب الأمن، ولكن ليس فيه جواز مسير المرأة بغير
محرم، ولا ينبغي أن ننصب التعارض بين هذين الحديثين، ولا سيما مع طول الزمن
وفساد الحال.
المحرم الذي تسافر
معه المرأة في الحج
من هو المحرم الذي يكون للمرأة في الحج؟ قالوا أولاً: الزوج.
ثانياً: من كانت المرأة تحرم عليه تحريماً مؤبداً، أما إذا كان زوج أختها،
أو زوج خالتها، أو زوج عمتها، فهي لا تحل له، لئلا يجمع بين الأختين، ولا
تنكح المرأة مع عمتها أو خالتها، لكن هذا التحريم مؤقت، لأنه إذا ماتت
الأخت أخذ أختها، وإذا ماتت البنت أخذ خالتها، وهكذا يمكن أن يأخذ الواحدة
منهن على انفراد، وقد يطلقها في الطريق، وتحل له هذه بعد طلاقها وخروجها من
العدة، فالمقصود بالتحريم أن يكون مؤبداً.
والعجيب أن نجد قولاً لـ مالك رحمه الله، يستثني من هذا التحريم المؤبد
الأخ من الرضاع، وولد الزوج، فالأخ من الرضاع محرم على التأبيد، وولد الزوج
محرم؛ لأنها زوجة أبيه، ويعلل ذلك بفساد الزمن، فإذا كان في زمن مالك يمنع
أن يكون ولد الزوج محرماً في السفر مع زوجة أبيه لفساد الزمن، فماذا نقول
في وقتنا الحاضر؟ إذاً: المسألة تحتاج إلى تحفظ واحتياط.
ولكن للأسف فإننا نشاهد مجيء المرأة بدون محرم في حلها وترحالها، عند
ركوبها السيارة، عند نزولها، وعند وجودها في منى، وعند وقوفها في عرفات،
فلو أرادت أن تشرب ماءً، أو أن تريق ماءً، فإنها في حاجة إلى من يكون معها،
ويأخذ بيدها إلى قضاء حاجتها.
إذاً: إذا كان المولى سبحانه أعفى المرأة ولم يوجب الحج عليها إذا لم يكن
لها محرم، فلا حاجة أن تغرر بنفسها، ولا حاجة أن نشجعها على مخالفة السنة
النبوية المطهرة، لكن إذا حدث وجاءت فهل نردها؟ لا نملك ذلك، وسنقع في
المحظور، ولكن ينبغي أن يُعرف هذا الحديث ويحفظ ويعلّم ويدرس قبل أن تخرج
المرأة من بيتها، وأنتم الآن وقد علمتم ذلك، فقد حملكم الله الأمانة،
وحملكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (ألا فليبلغ
الشاهد الغائب فرب مُبَلغ أوعى من سامع) ، وقال: (رحم الله امرأً سمع
مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) .
إذاً: هذه قضية عامة ينبغي أن تراعى.
ونجد بعض الناس يقول: المرأة إن كانت شابة فتمنع؛ لأنها موضع الفتنة، وإن
كانت عجوزاً فلا مانع، ونجد الآخرين يقولون: لكل ساقطة لاقطة، فالعجوز لها
عجوز أيضاً، ولكن: آخر ما يمكن أن يقال: سددوا وقاربوا، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (حج عن
نفسك، ثم حج عن شبرمة)
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول:
(لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال: حججت عن
نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن حبان
والراجح عند أحمد وقفه] .
الحج عن الغير وشرطه
هذا الحديث تتمة لما تقدم بيانه من أن المرأة الخثعمية سألت: (فريضة الله
في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً) .
وهكذا ثبتت صحة حج الإنسان عن الغير عند الجمهور، وكذلك الحج عن الميت إن
أوصى أن يحج عنه، وهذا عند مالك فقط، إذن: يجوز أن يحج إنسان عن غيره، لكن
ما هو المشروط في هذا النائب في حجه عن الغير؟ وللجواب على ذلك جاء المؤلف
رحمه الله بهذا الحديث.
الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع إنساناً يطوف بالبيت قائلاً: (لبيك اللهم
عن شبرمة) اسم علم، قال: من شبرمة هذا؟ أي: ماذا يكون لك؟ قال: أخ لي، أو
صديق لي، أو قريب لي، الشك من الراوي؛ لأن الملبي سمى واحداً فقط، لكن
الراوي التبس عليه أي الألفاظ قال.
يهمنا أنه حاج عن غيره، فسأله صلى الله عليه وسلم: (أحججت عن نفسك؟ -أنت
الآن تحج عن شبرمة، فهل حججت عن نفسك أنت؟ - قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم
حج عن شبرمة) .
وعلى هذا فعند الجمهور: من لم يحج عن نفسه لا يتأتى منه أن يحج عن الغير،
لكن لو قدر أن وقع ماذا يكون؟ هذا هو الفقه.
مدلول النصوص قد يستوي في إدراكه الكثيرون، ولكن فقه الحديث قد يختص به
العلماء وسلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم، فلو وقع وجاء إنسان ولبى عن
غيره، وهو لم يحج عن نفسه، قالوا: تقع الحجة عن نفسه، وإن كان قد أخذ أجراً
من ولي أمر الذي يريد أن يحج عنه، فما أخذه دين في ذمته، فإن شاء حج في
السنة التي تليها عمن أراد، وإن شاء رد الأجر على أهله.
حكم الإجارة في الحج
وعلى هذا يأتي بحث الإجارات في الحج، وهل هذا الرجل حج عن شبرمة متطوعاً أو
بأجرة؟ لم يسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن كلمة (أخ) وكلمة: (صاحب)
تشعر بأنه متطوع ومتبرع، وما كان يعرف في الزمن السابق أن إنساناً يأخذ
أجرة على الحج، والآن أصبح طريقاً من طرق الكسب، والله المستعان.
ويبحث العلماء عن حكم أخذ الأجرة على الحج عن الغير، فمن العلماء من يمنع
ذلك بالكلية، قال: لأن الحج عبادة، والعبادة لا يؤخذ عليها الأجر، وقوم
قالوا: هناك فرق بين أمرين: من حج ليأخذ، ومن أخذ ليحج، فمن أخذ ليحج أي:
أنه لا يريد أن يتمول، ومستعد أن يحج عن الغير، وقد حج عن نفسه، لكنه لم
يستطع أن يقوم بلوازمه بنفسه، فأخذ من ولي النائب عنه ما يحججه، بمعنى:
يأخذ على الوصول، ولو أن ولي من ينوب عنه أخذه في صحبته بسيارته، أو أسكنه
معه في خيمته وتكفل بأكله وشربه، حتى أدى المناسك ورده إلى بيته، أجزأه،
ولا مانع في ذلك.
ولكن من ليست له رغبة في الحج في البدء، ولما عرض عليه الولي الأمر، وجعل
له مبلغاً من المال لفت نظره، فحج ليأخذ هذا المبلغ، فهذا حج ليأخذ ولم
يأخذ ليتبلغ، فهو يأخذ هذا المبلغ ويحج منه، وما زاد فله، بخلاف الذي يحج
على البلاغ، فإنه لو لم يصحبه معه، وأعطاه مبلغاً فأنفق منه بالمعروف، على
ما ينفق على مثله، ولو زاد شيء من المال رده لصاحبه، وإذا نقص عليه شيء
استوفاه من صاحبه؛ لأنه على البلاغ، وهكذا، من حج ليأخذ فلا يحق له، ومن
أخذ ليستعين به على الحج فلا مانع.
ثم إن الشافعي رحمه الله قال: من أخر الحج بعد الاستطاعة بالزاد والراحلة،
ومات قبل أن يحج، فإن الواجب على ورثته أن يخرجوا من رأس مال التركة قبل
قسمتها، وليحجوا عنه من تركته ومن بلده.
الوصية بالحج وكيفية
تنفيذها
ومن أوصى بحجة من تركته، تعلقت الوصية بالثلث، فريضة كانت أو نافلة؛ لأنه
له الحق في التصرف في الثلث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم
زيادة في أجوركم) فلو أوصى وقال: فأوصى: حججوا عني، نظرنا كم يحتمل؟ ثلث
التركة فإن احتمل من يحج عنه من بلده تعين إنفاذ الوصية، وإن احتمل من يحج
عنه من نصف الطريق اكتفينا، وإن لم يحتمل إلا أن نأخذ من مكة فيكتفى بذلك،
وهكذا، فتتعلق الوصية بالحج بثلث التركة، ومن حيث احتمل الثلث أخذنا من يحج
عنه، وبالله تعالى التوفيق.
ثم إنهم اتفقوا على أن من حج عن أحد تطوعاً، كأحد أبويه، أو قريب له، أو
صديق، فإن له من الأجر كأجر الذي حج عنه، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (إن الله كتب عليكم الحج ... )
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنهما قال: (خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال:
أفي كل عام يا رسول الله؟! قال: لو قلتها لوجبت، الحج مرة، فمن زاد فهو
تطوع) رواه الخمسة غير الترمذي، وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة] .
استحباب تكرار الحج
أخيراً: يأتي المؤلف رحمه الله ببيان ما يلتبس على الناس، لأن الحج يأتي كل
سنة، ورمضان يأتي كل سنة، والصوم في رمضان كلما جاء رمضان واجب، فهل كلما
جاء الحج وجب على المستطيع؟ فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الله
كتب عليكم الحج) (كتب) بمعنى: ألزم، وهي صيغة تكليف مؤكدة، وتأتي في الأمور
الهامة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}
[البقرة:180] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] .
(إن الله كتب الحج) أي: أوجبه بكتابه، وجاء في الكتاب الكريم: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] فقام: الأقرع بن حابس -وهو
سيد في قومه- وقال: (يا رسول الله! كتب الله علينا الحج، والحج يأتي كل
سنة، أفي كل سنة نحج؟) أي: يكون التكرار بتكرار موجبه كما في رمضان؟ فرمضان
جاء فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فكان إلزاماً لكل من شهد
الشهر بأن يصومه، ولكن هنا قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل
عمران:97] .
فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم، لوجبت، ولم تستطيعوا)
وفي بعض الروايات: (دعوني ما تركتكم، إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) .
ثم بين صلى الله عليه وسلم أن الحج في العمر مرة واحدة، وما زاد عن المرة
فتطوع، ومتى يكون؟ لم يحدد، فإذا كرر الحج كل سنة، فهو طيب.
تكرار الحج أفضل من
التصدق بنفقته
وقال بعض العلماء: تكرار الحج أفضل من التصدق بنفقته؛ لأن فيه منافع كثيرة؛
ولكن جاء هناك تحديد في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي: (لا
يحل -أو لا يحق- لعبد عافيته في بدنه، وأوسعت له في رزقه، أن يهجر البيت
فوق الخمس) ، إنسان مستطيع وثري، والطريق آمن، فما ينبغي أن يهجر البيت
أكثر من خمس سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم سماه هجراً: (أن يهجر
البيت) فإذا كان يستطيع لأقل من الخمس فهو المطلوب، وإن وفاها إلى الخمس
فلا ينبغي أن يتجاوزها، وهكذا الحج في العمر مرة، والنافلة لا حد لها، ولا
ينبغي لمستطيع أن يجاوز الخمس سنوات، وكيف وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم:
(من أراد خيري الدنيا والآخرة فليؤمنّ هذا البيت) ، من أراد أن يوسع الله
في رزقه فليؤمن هذا البيت، ففي الحج فوائد كثيرة.
ويكفي عموم قوله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} [الحج:28] واتفق
علماء البلاغة على أن التنكير في مثل هذا للعموم: منافع دنيوية شخصية،
واجتماعية، واقتصادية، ومنافع أخروية.
إذاً: الحج مرة في العمر، ونافلته لا تنحصر، ولا ينبغي تركه أكثر من خمس
سنوات، والله تعالى أعلم.
|