شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب البيوع - باب الربا [1]
أكل الربا من أكبر الكبائر، وهو ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه!! فيجب على المسلم أن يتعلم باب الربا ليحذر منه، وقد اهتم أهل العلم بهذا الباب اهتماماً بالغاً، وبينوا أنواعه وأحكامه بياناً شافياً.


شرح حديث: (لعن رسول الله آكل الربا)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم، وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة] .
آكل هنا: اسم فاعل يختص بالذكور، وإذا كانت امرأة تأكل الربا، فهل معفو عنها أو هي داخلة؟ هذا أيضاً من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به المساوي له، فهي داخلة، (وموكله) وكذلك موكلته.
وآكل الربا هو الذي يأخذ الزيادة عن رأس المال، وموكله هو الذي يدفعه، فهو ما أكل، ولكن أطعم غيره، إذاً: عقد الربا فيه آكل وموكل، آخذ ودافع، وكلاهما داخل في هذا الوعيد واللعن.
قد يأتي إنسان ويقول: هناك أشياء اضطرارية، هذا أكل الربا اضطراراً، وهذا أكله بغير اضطرار، فالذنب على الذي أخذ، هذا بحث أشرنا إليه في أكل الرشوة وليس في الربا.
وقد أشرت سابقاً: أنه في مؤتمر ماليزيا الإسلامي عرض على المؤتمر طلب إباحة الربا للضرورة، وكانت قارعة، وأعان الله سبحانه وتعالى بأن قدم: أن الربا لا تدخله الضروريات البتة لا شرعاً ولا عقلاً، وكان النقاش حاداً فعلاً، حتى أعلن رئيس المؤتمر وهو رئيس الوزراء: أن نرجئ هذا القرار إلى مؤتمر آخر.
وكلكم تعلمون أنه مؤتمر عالمي، ستة وثلاثون دولة مسلمة مشتركة فيه، ويقدم قرار في لجنة ويدرس ويأتي إلى لجنة للتصويت، ثم يوقف هذا القرار بمناقشة تبطله، ويعلن رئيس المؤتمر بإرجائه، يعني ما نجح، وقام رجل مغربي رحمه الله إن مات، وجزاه الله خيراً إن كان حياً، وصاح على الجميع: أتريدون أن نحارب الله ورسوله؟! أجئنا من بلادنا لنعلن الحرب مع الله ورسوله في ماليزيا حتى تريدون أن نبيح الربا؟! إلى أمر يطول شرحه.
إذاً: الربا محرم بكل أنوعه وصنوفه، وهناك لفتة عجيبة جداً في (آكل وموكل) ، قال الله عن اليهود: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:160-161] ، وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة:275] ، وفي حق اليهود قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ، ما قال: وأكلهم، مما يدل على أن الربا كان في اليهود مهنة وليس من حاجة؛ لأن الذي يأكل الربا قد يكون محتاجاً، ولكن اليهود يأخذون، والأخذ أعم من مجرد الأكل، فهم يأخذونه كتجارة، يأخذونه كحرفة، وليس عن حاجة، ومن هنا -أيها الإخوة- لا تجد مرابياً فقيراً، الذين يرابون في أموال الناس هم الأغنياء، وما دمت غنياً ومغنيك الله فلماذا تنزلق في هذا الطريق الحرج؟! قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ولم يقل: وأكلهم، إذاً أخذهم للربا كان عن غنى، وليس عن فاقة وحاجة تدعو إلى الأكل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكاتبه) ، الكاتب الذي يكتب السند، كما قال الله: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] .
وقوله: (وشاهديه) ؛ لأن اثنين يشهدون على الكتابة كالعادة، كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ} [الطلاق:2] ، وشاهده اسم جنس يشمل الواحد والاثنين والعشرة، وقيّد العلماء الشاهد والكاتب في اللعن إذا كانا عالمين بأنهما يكتبان ويشهدان على ربا.
أما إذا جاءوا إلى إنسان لا يعلم بذلك، وقالوا: اكتب: هذا له في ذمتي ألف، وما يدري ما سبب الألف، وترتبت على ماذا، فكتب: فلان له في ذمة فلان ألف، وشهد الشهود: نشهد باعتراف فلان بأن في ذمته لفلان ألفاً، فلا شيء عليه، لكن إذا كانوا يعلمون أنه أقرضه ثمانمائة والتزم له بدفع الألف، وكتب الألف على أنه أصل الدَين، وهو يعلم أن الأصل ثمانمائة، والمائتان ربا، فهو شريك.
وكما يقولون: وسامع الذم شريك لقائله إذا جلست في مجلس فيه من يغتاب إنسان وتسمعت، وتتبعت، وتسليت؛ فأنت شريك للمغتاب.
وسامع الذم شريك لقائله ومُطعم المأكول شريك للآكل لو كان طعام موجوداً في محل لزيد فجاء شخص وقال: والله! إني جائع، فإنسان فضولي رأى الأكل موجوداً فقال: خذ.
قال: هل هو حقك؟ قال: لا، ما هو حقي.
فالآكل يعلم أن الذي قدم له الطعام لا يملك هذا الطعام، والذي قدم الطعام يعلم أنه لا يملك هذا الطعام، فجاء صاحب الطعام.
فيغرم قيمة الطعام الذي أكل، والذي أعطاه ومطعم المأكول شريك الآكل؛ لأنه هو الذي سلطه عليه، وإن كان الآكل هو المتلف المباشر، لكن يضم المطعم في الغرامة؛ لأنه عن طريقه وصل إليه.
(وقال: هم سواء) أي: هم سواء في الإثم، لا نقول: الآكل الذي أخذ الربا هو الآثم وحده، بل نقول: هؤلاء شركاء وسواء في الإثم.


شرح حديث: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم) رواه ابن ماجة مختصراً، والحاكم بتمامه وصححه] .
هذا الحديث الثاني -يا إخوان- يدل على فظاعة الربا، وعلى شناعة أمره، وأن الغريب في هذا هو: مقابلة أبواب الربا بشعب الإيمان، والتقبيح لأيسر هذه الأبواب.
إذاً: هناك أبواب لا يعلم جرمها إلا الله، إذا كان أيسر الثلاثة والسبعين مثل هذه الصفة التي ليست في عقولنا صفة أشنع منها؟ ما نقدر أن نتصور صفة أخرى! وهذا من باب التهويل الفظيع الذي يقرع القلوب.
(وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم) ، وهو ما يسمى بالغيبة، وهو تناول عرض المسلم في غيبته؛ لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، الكعبة إذا هدمت يمكن بناؤها، فحجارتها موجودة، والأرض موجودة، لكن عرض المسلم إذا لمز وغمز، ودم المسلم إذا سفك، فمن يعيد بناءه؟ وهذا مما يعظم شأن الغيبة، وأنها أكثر ذنباً من أدنى أبواب الربا، نسأل الله العافية والسلامة! وما تقدم تمهيد وتوطئة لباب الربا، ومن يريد أن يقف على حقيقة شناعة الربا فلينظر في كتب الرقائق، وما يترتب على تفشي الربا في المجتمعات من قلة المطر، ومحق البركة، وقصر الأعمار، وأشياء كثيرة تتسبب عن الربا.
الشبهة التي قامت عند الجاهليين هي قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وجاء الجواب: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وسيأتي إن شاء الله الفرق في المعاملة بين معاوضة البيع ومعاوضة الربا؛ لتنكشف شبهة العرب في الجاهلية، وتظهر حقيقة التشريع؛ لأن الله لم يناقشهم في العلة، ولكن أعطاهم الحكم، كأنه استصغر نفوسهم، واستحقر عقولهم؛ لأنهم شبهوا الربا بما فيه من الزيادة بالبيع بما فيه من الربح، والفرق بعيد جداً، فالله استجهلهم واعتبرهم لا يدركون الحقيقة، فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، كأنه قال: لستم أهلاً لأن يقال لكم علة التحريم، بل اسمعوا الحكم فقط واسكتوا، وهذا قمع لهم وتجهيل، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وإذا نظرنا -يا إخوان- إلى النتيجة العملية إذا تعامل الإنسان بالبيع الحلال كما شرع الله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، وإذا تعامل بالربا أو بما هو على شاكلته فيكون بين أحد أمرين: إما أن يأكل لقمة الحلال، أو يأكل لقمة الحرام، وكذلك من تلزمه نفقتهم، إما أن يربيهم على الحلال أو يربيهم على الحرام، وقد بين صلى الله عليه وسلم: (أيما لقمة يأكلها الإنسان ينبت منها دم ولحم وعظم، وأيما لحم نبت على الحلال فالجنة أولى به، وأيما لحم نبت على الحرام فالنار أولى به) .
وتقدم معنا في الحج، إذا قال الملبي: لبيك اللهم لبيك، وكان طعامه حلالاً، وراحلته حلالاً، ماذا يقال له؟ لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور.
وإذا كان طعامه حراماً قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً! إذاً: يجب التحري في لقمة العيش، وتحري المسلم طيب الكسب ينبني عليه صحة عباداته، وصحة جسمه، وسلامة مصيره يوم القيامة، فلنتحرى الحلال جميعاً بقدر المستطاع، ولنبتعد جميعاً بقدر المستطاع عن طريق الربا، وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) ] .
عقد البيع فيه مبيع وثمن، الثمن من المشتري، والمبيع من البائع، والأصل أن الذهب قيمة المشتريات، كما يقولون: المال السائل، فهو الوسيط بين صاحب السلعة ومن يحتاجها، وكان قبل الذهب وقبل النقود وقبل العملة؛ كان البيع والشراء بالمقايضة، تأخذ صاع تمر وتبيعه لصاحب البر فيعطيك بالتمر براً، أو تأخذ البر وتبيعه لصاحب السكر، فتقول له: خذ هذا الصاع من البر، وأعطني سكراً، فكانت مقايضة بالأصناف والأعيان، وتأخذ صاع الحب وتذهب للجزار وتقول له: أعطني بهذا لحماً، وإلى الآن في بعض البلدان يتعاملون بالحبوب مقايضة في دكان البقالة، إلى الآن موجود.
ثم جاءت النقود، والمعاملة بها صارت أيسر وميسرة للسفر، وتحديدها معلوم للجميع، فهنا الذهب بالذهب، أيهما ثمن؟ وأيهما مثمن؟ مع أن الذهب في أصله هو قيمة المشتريات وكذلك الفضة، لكن الذهب يخرج عن كونه قيمة المشتريات ويصبح سلعة؛ لأن الذهب له ثلاث حالات: إما تبر، مادة خام، سبيكة.
وإما مضروب، دنانير أنصاف دنانير إلى آخره، وهذه عملة.
وإما مصوغ كما يقال: منقوش، سوار، قرط في الأذن، خاتم في الأصبع، كذا كذا إلى آخره.
فهو عملة وقيمة للمثمنات حينما يضرب، ويجعل وحدة متحدة وزناً وقيمة، والذين يضربون الذهب الآن يجعلونه جنيهات ذهبية، الجنيه الجورج، الجنيه الأمريكي، الجنيه السعودي، وغيرها، وفي حد علمي أن وزن معظم الجنيهات في العالم، وهو الجنيه الصغير ثمانية جرامات، وكأنه وحدة عالمية، وهناك جنيهات تخرج عن هذا، يوجد جنيه إنجليزي أو أمريكي بقدر أربع جنيهات، وفي عهد البرامكة جعلوا الدينار البرمكي أربعة مثاقيل؛ لأنه كان ضخماً يقدم هدية.
والذي يهمنا أن الذهب بالذهب ربا، والذهب أصل قيمة المبيعات، فإذا أصبح الذهب ثمناً ومثمناً، فأين الثمن، وأين المثمن؟ إذا كان الذهب مضروباً نقداً فهذا هو الثمن، وإذا كان الذهب مصوغاً أو تبراً -مادة الخام- فهذا هو المثمن، أي: المشترى.
إذاً: يمكن بيع الذهب بالذهب نقداً بنقد، مثل: بيع الذهب بالذهب تبراً بتبر، بيع الذهب بالذهب مصوغاً بمصوغ، بيع الذهب بالذهب مضروباً نقداً بمصوغ، مضروباً نقداً بتبر، كل هذه المسميات داخلة تحت قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا ... ) ، حتى قال بعض العلماء: ولو كان أحدهما مغشوشاً والثاني سليماً فلا يجوز أن تبيع ذهباً خالصاً بذهب مغشوش بالنحاس -أو ما يسمى شبه النحاس الراقي الذي يشبه الذهب في لونه- وزناً بوزن، ما يجوز ولو زدت فيه؛ لأننا لا نعلم قدر المغشوش في المغشوش، ولا نستطيع أن نحكم على الذهب الصافي بالذهب الصافي هناك، إذاً مهما كانت صورة الذهب تبراً، نقداً، صافياً، مصوغاً، خالصاً أو مغشوشاً، فجنس ذهب بذهب إذا بيع هذا بهذا لا يمكن أن تكون هناك زيادة، ولا تأخير.
فالذهب بالذهب يحرم فيه الزيادة، ويحرم فيه التأخير، يعني: يحرم فيه ربا الفضل، وربا النسيئة.
وإذا أردت أن أشتري حلياً، وعندي ذهب دنانير جنيه، فالوجه الشرعي أن توضع الحلي في كفة، وتوضع الدنانير المضروبة في كفة حتى تتعادل الكفتان، والتاجر يأخذ الدنانير الذهب، والمشتري يأخذ الحلي.
ولو قال قائل: ما عندي دنانير، لكن عندي ذهب سبائك، وأريد ذهباً مصنعاً، فالوجه الشرعي أن يوضع الحلي المصنوع المزخرف في كفة، ويوضع الذهب الخام السبائك في كفة، فإذا تعادلتا صح البيع، وإذا زاد في وزن السبائك ونقص في المصوغ وقال: من أجل الصياغة؛ بطل هذا البيع، ولا يجوز، وما المخرج من هذا إذاً؟ بع السبيكة بالفضة، واشتري الحلي بالفضة، ويجوز بيع الذهب بالفضة مع الزيادة والنقص، ولا يشترط التماثل في الوزن، الفضة كيلو، وهذا الذهب ربع كيلو، فيوجد فرق في المقدار، لكن يشترط التقابض يداً بيد.
إذاً: الجنس بالجنس من هذه المسميات يشترط فيه التماثل والتقابض، مثل بيع الذهب بالذهب تبراً، مصوغاً، مضروباً، مغشوشاً، صحيحاً، مستعملاً، مكسراً، بأي صفة من الأصناف، ما دام مادة الذال والهاء والباء موجودة، فإن بيع بجنسه وجب أن يكون وزناً بوزن، يداً بيد.


حكم الأوراق النقدية
الفضة الآن غير موجودة نقداً، إنما عندنا الأوراق النقدية، وهي تمثل الريال، والريال فضي، إذاً: هذه الأوراق المتداولة تمثل الفضة، فإذا اشترينا ذهباً بفضة بالنيابة وهو الورق فليس هناك وزن، وليس هناك تقدير بين الثمن والمثمن على ما اتفقا عليه، فيجوز شراء الجرام الذهب بثلاثين ريالاً، بخمسين ريالاً، بمائة ريال، لا يوجد مانع، لكن يداً بيد، يقول مثلاً: أعطني هذه الأسورة، وكان وزنها خمسين جراماً -مثلاً-، فقال: قيمتها ألفان، فأعطاه ألفين إلا خمسين ريالاً نقصت، فيقول له: حطها محلها، ولا يقول له: اذهب أنت مؤتمن، ولو أنت مؤتمن ألف مرة، فإن العقد لا يتم، إلا إذا كان الثمن والمثمن يداً بيد.
وأهل الذهب ربما يعملون حيلة، يقول أحدهم: خذ هذه خمسين ريالاً قرضة حسنة مني إليك، أعطني الخمسين الباقية، وهذه الحيلة على من؟! تبغى تروج بضاعتك بالحيلة على الشرع؟ لا.
وفي الذهب مشاكل كثيرة في الأسواق، إذا بيع بغير جنسه بالدولار، بالربية، بالاسترليني، بأي عملة ما لم تكن ذهبية، بع واشتر ما شئت، ولكن لا تفارق البائع وله عندك فلس واحد.


حكم صرف الذهب بالفضة
ويشترط التقابض في صرف الذهب بالفضة، الصراف يأخذ الذهب ويعطيه الدراهم في نفس المجلس، وينقل بعض العلماء عن مالك لو أن مصطرفاً جاء إلى الصراف، ودفع إليه الدنانير ليعطيه الدراهم، فلا يجوز أن يفارقه ولو قليلاً إلا إذا مد يده بالدنانير ليأخذها، ومد الآخر يده بالدراهم ليدفعها، في نفس المجلس، ويقول: لو أن الصراف أخذ الدنانير، ودخل دكانه ليفتح صندوقه ويأتي بالدراهم فلا يجوز! سمعتم هذا يا جماعة؟! إذا جاء المصطرف بالدنانير، والصراف قاعد عند باب الدكان، وأعطاه مثلاً مائة دينار، فقال: مرحباً، عندي صرف، وأخذ الدنانير من صاحبها، ودخل إلى مكان في آخر دكانه ليفتح الصندوق، ويضع الدنانير ويأتي بالدراهم، مالك قال: لا يجوز؛ لأنه ما حصل يد بيد، والواجب أن يترك الدنانير مع صاحبها، ويذهب يفتح صندوقه، ويأتي بالدراهم إلى صاحب الدنانير، ثم هاء وهاء، خذ وهات.
فـ مالك لا يقبل تأخير الصرف ما بين أن يذهب إلى آخر دكانه ويأتي، فما بالك إذا جاءه فقال: أروح البيت ثم أمر عليك؟! هذه معاملة ممنوعة في الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب.
إذاً: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) ، والمماثلة المعادلة، في الكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، وفي المعدود بالعد، والذهب والفضة موزونان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ] .
الشف: الزيادة أو النقص، والعوام يستعملونها، تذهب إلى الجزار وتقول: أبغى لحماً مشفياً، مشفي يعني: منقوص العظم، زائد اللحم (لا تشفوا بعضها على بعض) ، لا تقل: هذا مصنوع ومصوغ ودقة صفتها وصفتها، وهذا قديم ومكسر ويبغى له صياغة من جديد، لا تشفوا الناقص المكسر القديم على وزنه بالجديد أبداً، تبغى ذهباً بذهب مثلاً بمثل، وما تبغى مثلاً بمثل فبع هذا الذهب بفضة، واشتر ذاك الذهب الثاني بفضة، وتكون الفضة هي الوسيط، وبين الذهب والفضة لا ربا في الزيادة، ولكن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل) ] .
الورِق والورَق أو الوَرْقُ: هو النقد من الفضة خاصة {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19] سبحان الله! يا إخواني! كم استوقفتني كلمة (هذه) ، فالورِق هو عملة، فالأصل أن يقولوا: ابعثوا واحداً بالدراهم التي معكم لينظر لكم طعاماً ويشتريه، لكن التنصيص على (هَذِهِ) إعجاز القرآن أي: الموجودة معكم؛ لأنها هي مفتاح السر الذي سيكشف عنهم، فلما ذهب بتلك الورق التي معهم إلى المدينة، فالناس رءوا هذه العملة قديمة جداً، فسألوه: من أين هذه؟! فالعملة (هَذِهِ) هي التي كشفت عن سر أصحاب الكهف لأهل المدينة! إذاً: الورق هو الفضة نقداً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ] .
الفضة حكمها حكم الذهب في جميع التفصيلات السابقة، فإن كانت الفضة تبراً، أو مضروبة دراهماً، أو مصوغة حلياً، جديدة، قديمة، مكسرة، مغشوشة، سليمة، كله إذا كان فضة بفضة فهو مثل الذهب، وزناً بوزن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) ] ناجز أي: حاضر، فالصائغ عنده الحلية حاضرة، فلا يجوز لك أن تشتريها بدين لك على الصائغ، فهذا بيع حاضر بغائب، ولا يجوز التأخير، فمنع ربا الفضل في الفضة كما منع في الذهب، ومنع ربا النسيئة في الفضة كما منع في الذهب، فالذهب والفضة بنات خالة أو بنات عم.


شرح حديث: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ... )
قال رحمه الله: [وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير بالشعير والتمر بالتمر) ] .
قدم المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد في الذهب والفضة؛ لأن أكثر ما يكون الربا، في المعاملات فيهما، ثم جاء بالحديث الثاني وفيه (البر بالبر) ، ما هو البر؟ أظنه معروفاً في العالم كله، ويسمى البر، أو الحنطة، أو القمح، وكل هذه كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: مترادفات على مسمى واحد، كما تقول: الأسد والغضنفر والهزبر وو الخ.
لكن بعض العلماء ينفي توارد الأسماء على مسمى واحد الذي هو الترادف، ويقول ابن تيمية رحمه الله: هناك سر، فإذا وجدت عدة أسماء لمسمى واحد؛ فكل اسم منها يختص بصفة في المسمى، إذا قلت: أسد، فهذا للجنس يشمل الصغير والكبير والمريض والمتعافي، وإذا قلت: هزبر، فمعناه أنه في حالة النشاط والقوة، وإذا قلت: غضنفر، فمعناه أنه ضخم وكبير، وهذا كله راجع لعين واحدة، ولكن روعيت صفاته، فكان لكل صفة اسم تشير إلى المعنى المنطلق منه.
فالحنطة والبر والقمح كلها أسماء لمسمى واحد، ويراعى فيها الجودة والنوعية، وربما أننا نعرف أربعة أو خمسة أصناف موجودة، إذاً: هذا الصنف من الحبوب سمه ما شئت: قمحاً، براً، حنطة، فإذا بيع بجنسه فيجب التماثل والتقابض، صاع بر مديني بصاع بر شامي، تفاوتت صفات كل منهما وخواصه، فيوجد نوع من الحنطة يسمى العرق إذا طحن وعجن صارت العجينة مثل المطاط، ونوع إذا سحبته قليلاً تقطع مثل الذرة، فالذرة ما لها عرق، والقمح له عرق، ويتفاوت، ومهما تفاوت في صنفه، أو في لونه، أو في حجمه، حبة كبيرة وحبة صغيرة، ما دام المسمى بهذه الاسم (حنطة بحنطة) ، فلا تباع الحنطة بالحنطة إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وأما الشعير فأعتقد أن العالم كله يعرف الشعير، ولكن كما يقول أهل الفلاحة: الشعير نوعان: شعير يسميه العامة شعير الحمير، وهو للعلف، وشعير يناسب كبار السن، يجعل لهم منه الخبز، فيكون ليناً سهل الهضم، ولا يكون معه إمساك عند كبار السن، ويدخل في الأدوية، فمهما كان صنفه شعير بشعير، أمريكي فرنسي للعلف أو للأكل، فكله شعير، ومالك رحمه الله يجعل -في الربويات والزكاة- البر والشعير صنفاً واحداً، ففي الزكاة إذا كان عنده ثلاثة أوسق براً، ووسقان شعير، فقال: يكمّل بعضهما بعضاً؛ لأنهما جنسٌ واحد ويزكي.
والجمهور يقولون: لا، ما كمل عنده النصاب، هذا بر ثلاثة أوسق، وليس فيها زكاة، وهذا شعير وسقان وليس فيها زكاة، فلا زكاة عليه فيهما؛ لأن الحديث هنا ذكر الصنفين، ولو كان صنفاً واحداً لاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
إذاً: (البر بالبر والشعير بالشعير مثلاً بمثل) ، لكن لو بعنا البر بالشعير صاع بر بصاعين أو بثلاثة آصع شعير يجوز بشرط أن يكون هاء وهاء، يداً بيد، فإن قال: خذ البر واذهب وأعطني الشعير، لا يجوز، بل يكون كلاهما حاضراً: (ولا تبع ناجزاً بغائب) .


الربا في التمر
قال عليه الصلاة والسلام: (والتمر بالتمر) ، التمر تتعدد أصنافه، وبعض من كتب عن تمر المدينة قديماً أوصله إلى مائتي صنف، وسمى كل صنف ووصفه، ومن الأسماء المشهورة: الحلوة، والحلية، والبرني، والشلبي، والصفاوي، وما لم يعرف له اسم عند الناس يسمى لونة، أو الجمع المختلط من عدة أشكال، فلو باع صاع تمر صفاوي بصاع تمر حلية فيشترط التماثل والتقابض، وتمر الحلية، تمر صغير، إذا يبس صار مثل الخشب، ولكن إذا لان فهو أقوى أنواع التمر طاقة مع الحلاوة، وأقوى أنواع العلف للحيوانات، وتمر الحلية قيمته ضعف تمر الحلوة، ولا يستوي هذا مع هذا، والآن بعض أنواع التمور الكيلو بمائتين ريال، وبعض منها بعشرة ريالات أو بسبعة ريالات، فلو قال إنسان: كيف أبيع هذا بهذا مثلاً بمثل؟! يا أخي! بع تمرك الجيد بالدراهم، بع الصاع بدراهم، واشتر بقيمة الصاع الواحد عشرين صاعاً من هذا، ولا يوجد مانع، تغاير الثمن عن المثمن فجاز التفاضل.
إذاً: التمر بالتمر قضية عامة، وسيأتي حديث تمر خيبر الجنيب: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا نأخذ الصاع بالصاعين) ، وذلك كما يقول ابن عبد البر: كنا نرزق التمر، فنبيع الصاعين بالصاع، فنهينا عن ذلك، وسيأتي له زيادة بيان.
إذاً: التمر بالتمر أياً كان نوعه من المائتي صنف، إذا كان التمر ثمناً ومثمناً فلا بد أن يكون بالكيل سواء بسواء، وما كان يباع بالكيل عرفاً فلا يجوز بيعه بجنسه وزناً، والتمر مكيل أو موزون؟ الأصل فيه أنه مكيل، ويرجع في معرفة المكيل والموزون إلى عرف مكة والمدينة، فما كان مكيلاً في المدينة فعرفه الشرعي الكيل، وما كان موزوناً في مكة فعرفه الشرعي الوزن، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل، وعرف التمر الكيل، فإذا أخذنا أحسن صنف من التمر في صاع ووضعناه في كفة، وأخذنا أردأ أنواع التمر في صاع ووضعناه في كفة أخرى، فهل يكون هناك زيادة في الحجم المكعب بين الصنفين أو يكونان متساويين؟ متساويين مثلاً بمثل، لكن إذا غايرنا العرف فيه، وبعنا كيلو بكيلو، فهل يتفق الحجم المكعب في كيلو تمر الصفاوي مع الشلبي الذي هو خفيف أو الحلية الذي هو أثقل؟ هل يتفق التماثل في الحجم المكعب؟ لا، ما يتفق، إذاً: هل حصلت المثلية؟ لا، والجهل بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ ولهذا لا يجوز بيع صنف ربوي بجنسه إن كان مكيلاً إلا بعرفه الكيل، وإن كان موزوناً فبعرفه الوزن، فإذا غايرنا العرف، اختلف المقدار، ودخلنا في الجهالة بالمساواة، والجهالة بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ لأننا نقطع بأن هناك زيادة، إذاً: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وتعرف المثلية فيه بالكيل، ويكون الحجم واحداً، ولكن العرف يختلف، وباختلاف العرف يتفاوت الحجم، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل بالكيل؛ لأن عرفه الكيل.
والذهب يوزن ولا يكال، فلو وضعت ذهباً مكسراً قدر نصف صاع، وقلت: أعطني ذهباً جديداً نصف صاع، هل يتعادل الذهبان؟ لا يتعادل، لو وضعت حلقات وخواتم قدر نصف صاع، ووضعت ذهباً آخر مصوغاً ومكسراً قدر نصف صاع، فهل حصلت مماثلة بالكيل أو لا؟ لا؛ لأن الذهب يتماثل بالوزن.
إذاً: لا يجوز بيع الصنف بالصنف بغير عرفه، فلا يجوز بيع الصنف الربوي المكيل بصنفه موزوناً، ولا الموزون مكيلاً؛ لأن اختلاف عرف التقدير يأتي بالزيادة، ويأتي بالربا.


الربا في الملح
قال عليه الصلاة والسلام: [ (والملح بالملح) ] .
الملح عظيم القدر، حتى ذكر مع الذهب والفضة، ومع البر والشعير والتمر، ولا غنى لأحد عن الملح، لكن إذا زاد يفسد، والملح قسمان: ملح جبلي، وهو معدني.
وملح بحري.
وما كل بحر يخرج منه الملح، فمياه البحار فيها العديد من الأملاح، وبحيرة لوط خاصة فيها أنواع من الأملاح، وملح الطعام يؤخذ مما يسمونه الملاحة، وهي بقاع من الأرض يتجمع فيها الماء، وغالباً تكون الأرض سبخة مالحة، فإذا طفح الماء من منبعه، وامتلأت الحفرة، ترك الماء يتعرض للشمس، وتبخر الماء وترسب الملح، فيجمع ويكوّم ويجفف ويعبأ في الأكياس وينزل به إلى الأسواق، هذا ملح مائي، وليس معناه أن تذهب إلى البحر الأحمر وتستخرج ملح الطعام مباشرة، لا يوجد، وإن وجد فبمقدار قليل مع أملاح أخرى (صوديوم وفسفور وفسفات) ، وكل هذه يمكن استخراجها من المحيطات، ولكن ملح الطعام إما يستخرج من منقع ماء في أرض سبخة وإما من معدن في جبل، وفي أفريقيا بعض الجبال فيها عرق الملح، كما يوجد فيها عرق الذهب، وعرق الفضة، وعرق النحاس، كما يوجد فيها أحجار تحمل كحل الإثمد، تجد حجرة مثل الليمونة أو البرتقالة وفيها كحل العين، لا يكون فيها طين أو تراب، بل يكون فيها كحل من أجود أنواع الإثمد، مطحون وجاهز.
والملح المعدني يدق؛ لأنه حجر مثل الرخام، وكيفية استعماله: أن يكسر منه قطعاً مثل علب الكبريت مثلاً، وتضعها في الماء، وتحركها في الماء حتى يستحلب منها الملح، كما أنه إذا وضع الملح في الماء فإنه يذوب نهائياً، سواء كان ملحاً معدنياً أو ملحاً مائياً.
وهل الملح يكال أو يوزن في العرف؟ يكال، فإذا أردت أن تبيع ملحاً بملح ولو معدني بمائي فالجنس واحد، فيشترط التماثل والتقابض كما في أجناس البر وأجناس التمر، وكذلك الآن الرز أصناف، بل قالوا: فيه رز صناعي ورز نباتي، والذي يدخل في الربا الرز النباتي، لا الصناعي، ويهمنا هنا قوله: (والملح بالملح مثلاً بمثل) ، فلا يجوز فيه الزيادة، ولا يجوز فيه التأخير.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد) ] .
(سواء بسواء) أي: متعادل (يداً بيد) ، وفي بعض الروايات: (هاء وهاء) (ها وها) ، (هاك وهاك) ، وهذه اسم فعل كما يقول ابن مالك: بمعنى: خذ، هات.


القاعدة العامة في معرفة الربا
قال عليه الصلاة والسلام: [ (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم) ] .
هذا هي القاعدة العامة، فإذا اتحدت هذه الأصناف: ذهب بذهب، فضة بفضة، بر ببر، شعير بشعير، تمر بتمر، ملح بملح، وكان الثمن والمثمن من جنس واحد، فلا تشفوا بعضها على بعض، مثلاً بمثل، ويداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم.
فإذا كان الثمن جنساً، والمثمن جنساً آخر، مثلاً: باع ذهباً بفضة، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، وهكذا: باع تمراً ببر اختلف، فإذا اختلفت هذه الأجناس، وأصبح المبيع يغاير الثمن، والثمن يغاير المبيع، وإن كان كلاً منهما ربوي، وإن كان كلاً منهما من الأصناف الستة؛ (فبيعوا كيف شئتم) ، بمعنى: صاع بصاعين، صاع بعشرة، لا يوجد مانع، ولكن بقيد: يداً بيد، (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) ، فإذا كان عندك البر، وعنده التمر، واشتريت التمر ببر، ويمكن التمر يكون أحسن، والصاع فيه بصاعين بر أو بالعكس كما فعل معاوية، نصف صاع يعادل صاعاً، فهل يجوز أن تبيع البر نصف صاع بصاع تمر إلى بعد يوم؟ لا، ولا يؤخر دقيقة، ولا بد أن يكون الصنفان موجودين، خذ وهات.
إلى هنا إن شاء الله يكون قد اتضح لنا صور بيع الربويات الست بعضها ببعض إذا اختلفت أجناسها، ثم بعد ذلك تبقى عندنا مسألة: هل يقتصر الحكم على هذه الأصناف الستة أو يلحق بها غيرها؟ وإذا كان يلحق بها غيرها، فبأي علة يكون الإلحاق؟ سنتكلم على هذا في الدرس القادم.
وبالله تعالى التوفيق.


كتاب البيوع - باب الربا [2]
اتفق أهل العلم على جريان الربا في الذهب والفضة؛ وفي البر والشعير والتمر والملح، واختلفوا في علة الربا فيها؛ ولهذا اختلفوا في الأشياء التي تلحق بهذه الأصناف الستة، ومعرفة خلافهم، ومآخذ أقوالهم، تدرب الطالب على التفقه، وتمرنه على الاجتهاد، فحري بطالب العلم أن يهتم بهذا الباب.


شرح حديث: (الذهب وزناً بوزن ... )


أنواع الربا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم] .
تقدم الكلام على الربا في الأصناف الستة المتقدمة: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وتبين لنا أصول الربويات، وأن الربا يدور على أصله الحقيقي وهو الزيادة، وموضوعه كما قسمه الفقهاء: ربا الفضل.
وربا النسيئة.
فربا الفضل: هو الزيادة، إذا بيع جنس بجنسه وحصلت زيادة في أحد الطرفين، مثلاً: تمر بتمر صاع بصاع وزيادة درهم مع أحد الصاعين، فهذا هو ربا الفضل.
والنسيئة: صاع بصاع، لكن يقول: آخذ صاعك اليوم، وأرد إليك صاعي الذي هو الثمن غداً، هذا هو ربا النسيئة.


هل يجري الربا في غير الأصناف الستة؟
نذكر مسألة كثر الخلاف فيها، واختلفت المذاهب في القول بها: هل الربا مقصور على هذه الأصناف الستة أم أنه يدخل في غيرها؟ أو بمعنى علمي: هل يلحق بها غيرها أم لا؟ وإذا كان غيرها يلحق بها فبأي مبدأ؟ وبأي علة؟ لأن القياس عند العلماء: هو إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعلة جامعة، كما أنهم ألحقوا كل مسكوت عنه من المسكرات بالخمر، بجامع علة الإسكار، فالتحريم جاء نصاً في الخمر، ثم ألحق الفقهاء به كل مسكوت عنه، بأي اسم كان، إذا وجدت علة تحريم الخمر في ذاك المسكوت عنه، وعلة الخمر الإسكار، فإذا وجد الإسكار في العسل أو في اللبن أو في أي ثمرة ألحقت بالخمر في التحريم، وهذا أمر متفق عليه.
إذاً: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به يحتاج إلى رابط، ويحتاج إلى قرابة، ويحتاج إلى صلة نسب بين المسكوت عنه والمنطوق به، فهل يلحق بتلك الأصناف غيرها أم لا؟ وإذا كان يلحق بها غيرها فما هي العلة؟ ذهب داود الظاهري إلى أن المنصوص عليه في الربويات لا يلحق به غيره، وأن أي نوع من الحبوب غيرها من المطعوم أو المكيل أو الموزون أو المدخر أو غيره لا يلحق بالربويات، والربا لا يكون عنده إلا في هذه الأصناف الستة المنصوص عليها فقط، وهذا قول انفرد به عن جمهور العلماء، وعامة علماء المسلمين يلحقون غير المنصوص عليه به، وما هي؟ وبأي شيء يكون الإلحاق؟ قالوا: توجد علة يلحق بها المسكوت عنه، وهذه الست الأصناف نماذج، وكأنها تنبيه بالأخص على الأعم.


العلة الربوية في الأصناف الستة
الذهب والفضة هما المصدر بهما نصوص الربا، ما هي العلة في كونهما ربويين؟ وإذا وجدت فيهما علة فهل هي قاصرة عليهما أم تتعدى إلى غير الذهب والفضة؟ الجمهور على أن علة الذهب والفضة في الربا علة قاصرة، أي: لا تتعدى محلها؛ ولهذا لا يقاس على الذهب والفضة موزون من المعادن الأخرى، وما هي العلة القاصرة؟ قالوا: هي ثمن المبيعات، وقيمة المتلفات.
فالذهب والفضة ليسا سلعة، ولكن لها مهمة وهي الثمنية، فلكون الذهب والفضة ثمنية فلا ينبغي أن تدخل في البيع والشراء والزيادة والنقص، هذا على أنها عملة والعلة الثمنية، فلا نتحكم فيها بيعاً وشراء وتكون خالصة من الربا والزيادة.
إذاً: الذهب والفضة عنصران ربويان لا يقاس عليهما.
فإذا كان ذهبٌ ومعدن آخر: نحاس، أو قصدير، أو زنك، أو برونز أو أي نوع من أنواع المعادن، فإذا بيع ذهب بتلك المعادن وزناً بوزن فهل ينبغي فيه المساواة في الوزن؟ قالوا: لا؛ لأن الذهب ليس سلعة بل هو ثمن وقيمة؛ ولذا علة الربا فيه قاصرة عليه.
وهل يجوز أن نبيع الموزونات الأخرى غير الذهب والفضة جنسها بجنسها؟ قالوا: نعم، والعلة في الذهب والفضة هي الثمينة.
وقيل: الوزن، ومن قال بأن العلة هي الوزن قال: كل موزون يدخل فيه الربا، وإذا جعلنا الذهب والفضة علتهما قاصرة عليهما وهي الثمنية فلا ربا في الموزونات.
نأتي إلى الأربعة الأصناف الأخرى المذكورة، ما هي الصفات المشتركة بينها؟ تمر، بر، شعير، ملح، نؤخر الملح، فهذه الثلاثة: تمر، بر، شعير، ما هو الوصف الذي يشترك بينها؟ أولاً: الكيل؛ لأنها كلها تقدر كيلاً، إذاً: الكيل جزء من علة الربا.
ثانياً: الطعم.
وهل الطعم في التمر والبر والشعير كالطعم في التفاح والخوخ؟ ثالثاً: الاقتيات، إذاً: يكون مطعوماً مقتاتاً، فالتمر والبر والشعير موزون مطعوم مقتات، وهل يوجد وصف آخر أم لا؟ الادخار، ممكن أن ندخر التمر والشعير والبر سنة أو سنتين بخلاف التفاح والخوخ، فالفواكه إذا لم تكن في الثلاجة، أو وقف الكهرباء فسدت، فهي لا تدخر.
إذاً: هناك من قال: العلة في الربويات الثلاثة الموجودة مع الذهب والفضة هي الكيل، فقال: كل مكيلٍ بيع بجنسه فهو ربوي، وجماعة زادوا وقالوا: ليست العلة الكيل وحده، بل العلة كونه مكيلاً مقتاتاً، والمقتات يتضمن المطعوم، وجماعة زادوا في العلة الادخار مع الكيل والاقتيات، فاختلف اجتهاد الفقهاء في اعتبار العلة المشتركة بين الأصناف الثلاثة، فما وجدت العلة فيه مما لم يسم ألحق بها قياساً.
فمثلاً: الدخن والذرة غير منصوص عليهما، وهل توجد في الدخن والذرة علّة جامعة مع الثلاثة المذكورة؟ كلاً من الدخن والذرة مكيل وقوت ويدخر، إذاً: لا فرق بينها، فتلحق بالأصناف الستة، فبعضهم ألحق المسكوت عنه بجامع العلة، وبعضهم قال: هناك غير العلة، وهي تقارب المنفعة.
فمثلاً: الزبيب ليس من الستة الأصناف، لكن قال: إن الزبيب يشارك التمر في المعنى، فما الفرق بين التمر والزبيب؟ كلاهما حلو، ويكال، ويقتات، ويدخر، فقال: أنا لا ألحق بالقياس، بل ألحق بالاشتراك في المعنى، وتوسعوا في هذا، وأجروا الربا في اللحم باللحم، مثل: لحم الإبل بلحم الغنم؛ لأنه قريب منه في المنفعة، إذاً: من عمل بالقياس ألحق كل ما لم يذكر بما ذكر إن وجدت فيه العلة، واختلفوا في معرفة العلة ما هي؟


مذهب الأحناف والحنابلة
قال الحنابلة: العلة هي الكيل، حتى أجروا الربا في الأشنان، والأشنان نوع من النبات ينبع على مجاري المياه، كان يغسل به الصوف دون الصابون؛ لأنه يذهب عنه الأوساخ والآكلة، ولا يوهن الصوف، فهو نوع من النبات، لكنه يباع بالكيل.
وألحقوا بالأصناف الستة الحناء، فإنه إذا دق ورق الحناء صار مثل الدقيق، والعرف فيها الكيل، فقالوا: إذا بيع حناء بحناء فالعلة الكيل، فيمنع الربا فيها بجامع الكيل، واستدلوا بما جاء عند ابن حبان: (كل ما يوزن مثلاً بمثل، وكذلك الكيل) .
وبهذا أخذ الحنابلة والأحناف.
ومن العلماء من قال: العلة هي: الطعم مع الكيل؛ لحديث: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) ، وكان طعامهم يومئذ الشعير، ولكن اللفظ: (الطعام بالطعام) أنتم طعامكم الشعير، وهناك في مكة طعامهم البر، وهناك في أندنوسيا طعامهم الأرز، وهناك في أفريقيا طعامهم اللوبيا، إذاً: الطعام في كل مكان بحسبه، ولفظ الطعام عام، ولا نخصصه بطعامهم يومئذٍ، هذا طعامكم أنتم، لكن طعام غيركم غير هذا.
إذاً: علة الربا، وإلحاق غير المنصوص عليه، اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، فمن استقرت عنده علّة الربا، ثم وجدها في غيرها ألحقه بها، فبعضهم عنده العلة الكيل والوزن فقط لحديث ابن حبان: (كل موزون مثلاً بمثل، وكذلك الكيل) يعني: وكذلك كل مكيل؛ ولهذا اقتصر الحنابلة على أن العلة الكيل فقط.


مذهب المالكية
المالكية عندهم أن العلة هي أن يكون قوتاً مدخراً، فإذا بيع الجنس بجنسه كيلاً أو وزناً، وكلاهما قوت مدخر فيجري فيهما الربا إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وهناك من يقول: نلحق بالمنطوق به كل ما كان زكوياً، فما هي الحبوب التي تزكى؟ هل التفاح يزكى؟ لا، هل التفاح يكال أو يوزن؟ عرفه العدد، والآن صار الناس يوزنون كل شيء، ذكر العلماء القدماء أن مما لا يكال ولا يقتات الفواكه، وابن قدامة يقول: التفاح والفرسك والخوخ والمشمش والكمثرى والخيار ليست مكيلة، وليست مدخرة، هي مطعومة ولكن ليست مدخرة.
قيل: إن العلة هي الكيل والوزن كما جاء التنصيص عليها في بعض النصوص، وهي موجودة بالفعل في هذه المسميات الست، ومالك ألحق بالمطعوم ما يصلح المطعوم وهو الملح، فالملح ليس قوتاً لكنه مدخر ومكيل، اجتمعت فيه العلتان.
إذاً: لا تبع مكيلاً بمكيل مدخراً بمدخر إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، والملح ولو لم يكن قوتاً فبه صلاح القوت.
الحنابلة يردون -كما يذكر ابن قدامة في المغني- على مالك في قوله: بإصلاح القوت، ويعترضون عليه بالحطب، فالإدام يصلحونه بالحطب والنار، لكن هذا ليس لإصلاح ذات الطعام، بل لإنضاجه، لكن الملح في الطعام يكون جزءاً منه، وألحقوا به التوابل التي تدخل في الطعام، إذاً: قضية الربويات فيما عدا المنصوص عليه بحرٌ لا ساحل له.
وكلٌ من الأئمة رحمهم الله ألحق من غير المسميات ما وجدت فيه العلة التي استقرت عنده، والعلة دائرة بين المقدار الذي هو الكيل والوزن، مكيل بمكيل، موزون بموزون، وبين الأوصاف الأخرى الموجودة في المنصوص عليها، أن تكون قوتاً ومدخراً، وعلى هذا فيجري الربا بلا خلاف عند الجمهور في الدخن والذرة والأرز.
والسمسم قوت، ويحكى أن جماعة أضافهم ناس، فقدموا لهم صحن عسل وصحن سمسم، وهم غير عارفين بطبيعة أهل البلد! فرءوا طفلاً صغيراً فقالوا: تعال تعال كل، فجلس الطفل الصغير، وغمس أصبعه في العسل، ثم في السمسم ولحسه، فقالوا: بس! قم، قم، كلم أمك! فهو قوت.
وبذر القطن يعصر ويخرج منه زيت، ولكن ليس قوتاً، وحينما نعصر البذرة، وأصبح عندنا زيت، فالزيت مكيل أو موزون؟ الأصل فيه الكيل، وكذا السمن وجميع السوائل الأصل فيها الكيل، فأصبح عندنا الزيت مكيلاً، وأصبح مدخراً، فيدخل في أنواع الربويات، فلو بيع زيت بذرة قطن بزيت بذرة قطن وجب الحلول والتقابض والتساوي.
وإذا بيع زيت بذرة القطن بزيت الزيتون، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، (بيعوا كيف شئتم) ، فلا يلزم فيه التساوي، ويلزم التقابض؛ لأن كلاً منهما دهن، ويدخلان في علة المقدار التي هي الكيل والادخار.
والتفصيل بالجزئيات في أنواع الربويات لا يمكن حصره، ولكن الإلحاق موجود عند الأئمة الأربعة، وما امتنع من الإلحاق إلا داود الظاهري؛ لأنه لم يقل بالقياس.


الحكمة من تحريم الربا في المطعومات
الإلحاق يكون بالعلة، كما ألحقنا كل مسكر بالخمر لوجود علة الإسكار فيه، وهنا يقول ابن رشد في البداية: وصف الطعم يدل على اشتقاق العلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الطعام بالطعام) ، فوصفه بكونه طعماً يدل على أن العلة هي الطعم، كما في قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، علة القطع هنا هي السرقة؛ لأن الحكم تعلق بوصف وهو السارق، والسارق اسم فاعل يشتق من سرق يسرق فهو سارق.
إذاً: (الطعام بالطعام) دلت كلمة الطعام على علة الربا كما أن كلمة السارق دلت على علة القطع، وكذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ، فوصف الزنا في الطرفين هو علة الجلد، إذاً: الطعم علة في الربا لقوله: (الطعام بالطعام) .
والذين يقولون: ما خرج عن الأصناف الستة يلحق بها بعلة الكيل والجنس، قالوا: أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ولما كانت زيادة الجنس على الجنس غبن، فإذا وجد في المكيل من غير المسميات -مثل الأشنان والحناء- فالعلة واحدة، والأصل حفظ الأموال وعدم الغبن، فيجب أن يكونا متساويين في الفائدة وفي النتيجة، فكيف أعطيك صاع حناء وتعطيني صاعاً إلا ربع؟! لماذا تغبني في ربع الصاع هذا؟ فما دامت متساوية في المنفعة فيجب أن تكون متساوية في المقدار؛ ولذا ذكر ابن رشد قاعدة تبين الربا، وهي أن ما خرج عن قانون الربا مما ليس بربوي، فتكون القيمة بين المبيع والمشترى، لو أن كلاً منهما سلعة بنسبة آحاد هذا الصنف في جنسه مع نسبة آحاد الجنس الثاني في جنسه، ويمثل ويقول: مثلاً: نشتري فرساً بثياب، فالثياب ليست ربوية، والفرس غير ربوي، فيصح أن نشتري الفرس بمائة ثوب، بمائتين ثوب، بعشرين ثوباً، ولكن ما الذي يقدر قيمة الفرس بعدد الثياب؟ قالوا: النسبة، أي: نسبة هذا الثوب الواحد في جنسه كنسبة الفرس الواحد في جنسه، فإذا تحققت النسبة ارتفع الغبن، هذا الفرس في جنسه كم يساوي؟ مثلاً يساوي ألف ريال، وهذا الثوب في جنسه كم يساوي؟ قالوا: عشرة ريال، إذاً: نسبة الفرس في الأفراس ألف ريال، ونسبة الثوب في الثياب عشرة ريال، فكم ثوب نقدر للفرس حتى لا يحصل غبنٌ؟ مائة، إذاً: نأخذ الفرس بمائة ثوب، ولو أخذناه بمائتين يحصل غبن، لو أخذناه بخمسين يحصل غبن، إذاً: النسبة التقديرية بين غير الربويات ترجع إلى المساواة، وترفع الغبن.
إذاً: إذا كان المبيع جنساً واحداً فما الذي يرفع الغبن؟ التساوي، كيل بكيل، وزن بوزن، فلا يحصل غبن، ستقول: هذا جنس جيد، وهذا جنس رديء، إن بعناهما متماثلين وقع الغبن فيما هو فرق بين الجودة والرداءة، فنقول: سد هذا الباب، وبع الجيد بدراهم، واشتر بالدراهم الرديء، أو العكس بع الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم الجيد، وفي تلك البيعتين لا غبن؛ لأنك ستبيع الرديء بنسبته من جنسه بالثمن المتعادل، وتشتري بالدراهم التي عندك الجيد بنسبته من جنسه بالدراهم، وانتفى الغبن في الصفقتين.


شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلاً
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا.
والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك) متفق عليه، ولـ مسلم: (وكذلك الميزان) ] .
نعلم جميعاً أن خيبر فتحت عنوة، وأنها أصبحت للمسلمين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبقى اليهود فيها يعملونها على جزء من الثمرة، وأصبحت معاملة عند المسلمين تسمى المخابرة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر في بلدهم، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ابن رواحة يخرص عليهم التمر، فيلتزمون بحصة المسلمين، ويأخذون حصتهم، فالعامل بمعنى الأمير، بمعنى الوكيل، بمعنى النائب، عامل رسول الله في خيبر، يعني: نائبه في إدارتها، والحكم فيها، وما يتعلق بشئونهم دنيوياً ودينياً.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم قد نظّم أمور الدولة، وأقام العمّال، ونظم الجباية، ورتب الإدارات، كما قيل: التراتيب الإدارية في الدولة المسلمة الفتية، هذا العامل سواء كان أميراً أو قاضياً أو حاكماً أو غير ذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فلما نظر إليه صلى الله عليه وسلم قال: (أكُلّ تمر خيبر هكذا؟) ، وهذا مما ينبه عليه العلماء: أن ولي الأمر يجب أن يتفقد الولاة والعمال، كيف جاء العامل بهذا التمر؟ هل كل تمر خيبر هكذا أو أنه تصرف؟ فتبين أن العامل قد تصرف، فقال: لا والله! يا رسول الله! ما كل تمر خيبر هكذا، إنا لنشتري الصاع من هذا الجيد بالصاعين من دونه، أو الصاعين بالثلاثة، يعني: متفاضلاً، إذاً: نشتري الجنس بجنسه كيلاً مطعوماً مقتاتاً مدخراً مع التفاضل.
فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ (لا تفعل) ، لا تفعل ماذا؟ أن تشتري الجنس الواحد بجنسه متفاضلاً، هل تبغى تشتري جنساً بجنسه؟ يجب أن يكون متساوياً، وأما الجودة والرداءة فحلها آخر، وليس في الإسلام طريق مسدود أبداً، عندك السوق، بع الرديء بنقد، فيحصل في يدك النقد ثمناً للرديء، وانقطعت العلاقة بالرديء، وأصبح في يدك نقد ثمنه، فتذهب إلى السوق وتشتري جيداً بالنقد، وأصبحت الصفقة الثانية بين الجيد والنقد، ولا علاقة للصفقة الثانية بالرديء الأول، وإن كان النقد ثمناً لها؛ لأن ببيع الرديء بالدراهم انقطعت علاقة الرديء، ونستأنف علاقة جديدة بالدراهم التي بأيدينا.
إذاً: هذا خروجٌ من مأزق فوارق الجودة والرداءة.
وقوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) ؛ يعني: لأن التمر مكيل، فكأنه قال: كل مكيل بيع بجنسه متفاضلاً لا يجوز، ماذا أفعل؟ بع بالتساوي، وإن كان فرق في الجودة والرداءة فبع بالنقد واشتر بالنقد، وكذلك افعل في كل ميزان، وليس المراد بكلمة ميزان هنا: الآلة التي نزن بها؛ لأنها آلة مصنّعة لا ربا فيها، ولكن المراد: وكذلك الموزون بالميزان.
تكلمنا على حديث التمر الجنيب إجمالاً، وهناك مباحث في هذا الحديث فيما يتعلق بالأحكام الفقهية في تلك الصفقة، وهذا الحديث يبين بصفة عامة أن الجنس بجنسه لا بد أن يكون متماثلاً متساوياً ويداً بيد، فهذا الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا يجوز شراء التمر الجنيب صاعاً بصاعين من الجمع، والجمع يقال: إنه مجموع أصناف مجهولة الاسم، وغالباً ما تكون تلك الأصناف مجهولة الاسم قليلة الجودة عن المعروف المتعين باسمه، وكما نشاهد الآن في المدينة الشيء الفاخر الجيد معروف اسمه، يقول لك: صفاوي، شلبي، سكري، ومثله تمر الإخلاص المعروف في الإحساء، فالتمور الجيدة محافظة على اسمها ومعينة عند الناس، لكن التمور التي غير متميزة قد يكون لها اسم ولكن لا يحفظ.
فكونه اشترى صاعاً جنيباً جيداً بصاعين أو صاعين بثلاثة، لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم عاب ذلك وقال: (لا تفعل) لا تفعل في هذه الصفقة، أو لا تفعل في المستقبل، (ولكن بع الجمع بدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً) .
إذاً: هذا منهج للتعامل بين الرديء والجيد، وإذا كنا لا نقبل أن نتبادل جيداً برديء مثلاً بمثل؛ لأنه غير معقول، عندي تمر من أجود ما يكون، وتعطيني تمراً أردأ ما يكون، وتقول: مثلاً بمثل، أعطني صاعاً بصاع! أنا غير معطيك، فكيف نفعل؟ صاحب التمر الرديء يريد أن يأكل تمراً جيداً، فليعمل بهذا المنهج، وهو أن تدخل القيمة وسيطاً بين الرديء والجيد، بع الجمع بدراهم، وبعد أن أخذت الدراهم ثمناً للجمع اشتر بالدراهم جنيباً جيداً، ويكون هناك انفكاك بين الصفقة الأولى في الجمع، وبين الصفقة الثانية في الجنيب.


هل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم البيع الربوي قبل العلم بالحكم الشرعي؟
سؤال يبحثه العلماء: إذا كانت تلك الصفقة الصاع بصاعين لا تجوز، فهل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصفقة، ورد الرجل الجنيب واسترجع الصاعين من الجمع أم سكت عن تلك الصفقة وكان التنبيه لما يستقبل؟ التحقيق في ذلك أن الأحكام قبل التشريع تمضي، والحكم بعد صدوره يكون للمستقبل، وكما يقول الأصوليون: ليس للأوامر رد فعل عكسي، إنما تكون للمستقبل، ولا ترجع على الماضي، فالماضي مضى بما كان.
والنظم والقوانين والتشريعات إنما تكون من صدورها إلى ما بعد، وهذا هو نص القرآن الكريم، وخاصة في الربويات، فتقدم لنا في دراسة الربا نص القرآن الكريم: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ، يعني الربا الذي حصل عليه قبل مجيء الموعظة له، ما طالب المرابين أن يردوا الربويات على أصحابها، ولكن تركها لهم؛ لأنه ما كان هناك تشريع، ولا كان هناك نهي، فهم أكلوها على مبدأ التعامل عندهم، ثم جاء النهي وتبين الواقع: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ} [البقرة:279] من الآن {رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] .
إذاً: يحرم الربا بعد الموعظة، فما كان قبل الموعظة ترك لهم، ومما يثبت تعميم هذا الحكم أو هذه القاعدة بأن الأوامر للمستقبل أو أن ما وقع قبل الإعلام أو قبل التشريع يترك ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أتي بنكاح شهد عليه رجل وامرأتان، والأصل في الشهادة شاهدا عدل ممن ترضون من الشهداء، أما قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} [البقرة:282] فهذه لا دخل لها في النكاح والطلاق والدماء، ولكن في الأموال تجوز شهادة رجل وامرأتين، ولما كان الأمر كذلك فماذا يفعل عمر؟ قال: لو كنت سُبقت أو سَبقت؛ لرجمت.
لو كنت سُبقت على ما أعلم بالتنبيه ممن سبقني سواء كان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أو لو كنت سَبقت بالإعلام بعدم صحة النكاح برجل وامرأتين، لو كنت أعلنت ذلك بين الناس، وسبق العلم بمنع هذا، ثم فعل بعد العلم؛ لرجمت؛ لأنه يكون فعل بعد العلم، وإصرار على المخالفة، لكن كانت الشبهة قائمة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] ، فهم عمموا الحكم في الأموال وفي الفروج، وربما يجعلوها حتى في الدماء، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما لم يكن هناك علمٌ منتشر سابق بمنع الشهادة في النكاح برجل وامرأتين -أي: بعدم إدخال النساء في الشهادة في النكاح والطلاق- عذر هؤلاء، ولم يجعل لهذا الفعل أو هذا النهي رد فعل سابق، وأمر بتجديد العقد؛ لأن العقد تبين أنه باطل، وهل عاقبهم نتيجة لبطلان العقد لأنهما كانا زانيين؟ لا، بل من الآن، فكذلك هنا، وإن كان بعض الناس يقول: الرسول أمره برد ذلك، لكن الآخرين يقولون: لم يثبت هذا، ونحن نقول: لا حاجة إلى البحث عن رد العقد الأول أو عن إبطاله، وأنه غير جائز شرعاً ونقول: إنه قد وقع قبل العلم، وما وقع قبل العلم وقبل التشريع فإنه يترك كما في كتاب الله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ، ثم تكون قاعدة عامة في جميع العقود التي صدرت، وكان الجهل يحتمل فيها؛ لأن هناك أشياء لا يعذر أحدٌ بجهله، فبعد حادثة عمر لو عقد أحد بشاهدٍ وامرأتين هل نقبل منه؟ هل نقول: لم نسُبق ولا سَبق العلم، ولا نعاقبه؟ لا.
هذا ما يتعلق بحكم الصفقة الأولى، وقد وقعت مغايرة للحكم الشرعي، ومضت على ما مضت عليه ويستأنف العمل الجديد بما بعد هذا الإعلام.


كتاب البيوع - باب الربا [3]
حرم الله أكل أموال الناس بالباطل؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكبيرة على الفرد والمجتمع، وقد جاء الإسلام ليُتمِّم مكارم الأخلاق، وظلم الناس في أموالهم ينافي ذلك؛ ولهذا حرم الإسلام الربا وكل ما يفضي إليه من المعاملات المالية، وهي كثيرة وينبغي معرفتها للحذر والتحذير منها.


شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الصبرة من التمر…)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر التي لا يعلم مكيالها بالكيل المسمى من التمر) رواه مسلم] .
هذه صورة من صور الربا، وتقدم التنبيه على أن الربا بضع وسبعون باباً، فهو أبواب متعددة، فبيع الجمع بالجنيب نوع من الربا، ومن الربا بيع جنس بجنسه متفاضلاً كبر ببر، وهنا لا يوجد تفاضل في الجنس، فما هي الصبرة؟ الصبرة من كل شيء: المجموع المكوّم، تأتي مثلاً بكيس البر، وتفرغه في الأرض، ثم بكيس آخر، وآخر.
حتى يصبح بشكل هرمي من البر، وكذلك من التمر، فهذه هي الصبرة، والأصل في بيع الصبرة أن يكال، فنقول لصاحبها: أبغى صاعين.
أبغى ثلاثة، أبغى خمسة.
، ومالك ذكر في الصبرة أحكاماً عديدة، وقد نبهت سابقاً أن من أراد الجزئيات الدقائق جداً في الربا فليرجع إلى موطأ مالك، وإلى الباجي في شرحه.
نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا الصبرة بجنسها كيلاً، مثلاً يقول الرجل: يا صاحب الصبرة! هذه الصبرة تمر أو بر؟ قال: تمر، فيقول: أشتريها منك بخمسين صاعاً، والزائد من الخمسين لي، والناقص علي؛ لأنه لا يمكن أن نحكم أن الصبرة خمسين صاعاً ما تزيد تمرة ولا تنقص، فتحتمل الزيادة والنقص، فيقول: آخذها على حظي، آخذها بخمسين صاعاً، وإن وجدتها إحدى وخمسين، أو خمسة وخمسين، أو ستين، فالزائد لي، وإن وجدتها أربعين، أو خمسة وثلاثين، فالناقص عليّ، وما أنا مطالبك بشيء.
يوجد تراض وتسامح بينهما، لكن تراضي المتعاقدين لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ لأن كل المعاملات تكون عن تراضٍ، حتى الذي يكتب سنداً بأنه اقترض ألفاً، ويرده ألفاً ومائتين، ويوقع عليه؛ فهو راضٍ بذلك.
إذاً: لا كما يقول القانونيون سابقاً: العقد شرعة المتعاقدين.
ثم عدلوا في هذه القاعدة وزادوا: ما لم يخالف قانوناً، إذاً: العقد شرعة المتعادقين ما لم يخالف الشرع، ونحن بحمد الله قانوننا الشرع، فما المانع في هذه الصورة أن يصحح بيع الصبرة مجهولة الكيل بكيل معلوم محدد؟ المانع أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.


الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا
الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، البر بالبر لا بد أن يكون مثلاً بمثل، وهل عرفنا المثلية في الصبرة؟ لا، نحن عرفناها في الخمسين لكن هل عرفناها في الصبرة؟ لا، إذاً: الجهل بالتساوي كالعلم بالزيادة، كأننا بعنا الصبرة وعرفنا أنها ستون صاعاً، وبعناها بخمسين، لو أن صاحبها كالها ستين صاعاً، وصارت معلومة عنده، ثم جاء المشتري وقال: أشتريها بخمسين، قال: بعتك، فنكون قد علمنا بالزيادة، والزيادة في الجنس الواحد تكون رباً.
إذاً: الجهل بالتساوي كالعلم بالزيادة.
لو جاء وقال: أنا عندي صبرة هناك عند ذاك الباب، وأنت عندك صبرة هناك عند ذاك الباب، وأنا محلي هناك قريب من صبرتك، وأنت محلك هناك قريب صبرتي، فأشتري صبرتك بصبرتي لتنقلها إلى محلك بسهولة، وأنقل صبرتي إلى محلي بسهولة، فما حكم بيع صبرة بصبرة، ولا يوجد تحديد بالثمن؟ لا ندري كم صبرتك، ولا كم صبرتي، إن كانت معلومة الكيل، هذه خمسون صاعاً، فيجوز، ولا توجد زيادة، حصل بيع الجنس بجنسه متساوياً يداً بيد، لكن إذا كنت أنا لا أعلم مقدار صبرتي، وأنت لا تعلم مقدار صبرتك؛ فحينئذٍ لا يجوز إلا إذا كان كيلاً بكيل حتى تتحقق المساواة والمماثلة.
ولو كانت الصبرة موجودة، وصاحب الدراهم جاء وقال: يا صاحب الصبرة! بكم تبيعها؟ قال له: بمائة ريال، قال اشتريت، فعندما جاء يعبئ الصبرة في الأكياس وجد الصبرة مكومة على صخرة، ماذا تقولون؟ تكويمها على الصخرة تدليس، فهي صبرة إلا ربع، فالصخرة زادت في حجم الصبرة، وأنا اشتريت حباً ما اشتريت صخرة، فماذا يفعل المشتري؟ ما دام أن البيع بالدراهم فهي الواسطة، والزيادة والنقصان لا دخل لها هنا، لكن وجدت صورة تدليس؛ لأن كومها على صخرة، أو كانت الأرض غير متساوية، كل الأرض معتدلة إلا عند هذا المحل يوجد محل ناتئ كوم عليه الصبرة.
إذاً: إذا كان يباع المبيع بجنسه فلا بد من معرفة المقدار في الجانبين، أما إذا كان البيع بالدراهم فالجهالة لا تضر، قال: بكم الكيس؟ قال: الكيس بعشرة، قال: كم فيه؟ قال: والله! أحياناً عشرة صاعات، وأحياناً تسعة ونصف، زاد أو نقص لا يضر؛ لأن المقابل هنا الدراهم، وليس بين الدراهم والمطعومات ربا.


شرح حديث: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل)
قال رحمه الله: [وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل، وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) رواه مسلم] .
رجع المؤلف رحمه الله إلى البر والشعير، وكان هذا الحديث محله هناك مع تلك الأصناف، لكن كأن المؤلف يريد أن يختم بحث الربويات المطعومة بما هو أعم؛ لأن المتقدم في حديث عبادة بن الصامت ذهب وفضة وتمر وبر وشعير وملح، وهذه أعيان مسماة مميزة معروفة، وهل نقتصر عليها كما اقتصر الظاهرية أو نلحق بها غيرها؟ نلحق بها كل ما وجدت فيه العلة التي توجد مشتركة بين تلك المسميات، وتقدم لنا بأن الكيل والوزن فقط علة عند بعض العلماء، وقالوا: كل مكيل أو كل موزونٍ يجري فيه الربا، وفي حديث الجنيب: (وكذلك الميزان) ، فإذا بيع بجنسه فلا بد من المماثلة ومن القبض، أي: الحلول والتقابض.
الذي يمنع من الإلحاق يقول: الرسول ذكر أشياء، وسكت عن الباقي، فما لنا شغل فيه، والآخرون يقولون: ما دام قد اشترك في المعنى فيدخل، كما قالوا: الزبيب والتمر، والبر والشعير، فهذه مشتركة في المعنى، وكذلك الذرة والبر، وكذلك الدخن وغيره من المكيلات، فقالوا: نلحق، وبعضهم وسعوا في العلة، وبعضهم ضيقوا فيها، وبعضهم زادوا وصفاً آخر وقالوا: قوتاً، وبعضهم قالوا: مقتاتاً ومدخراً.
إذاً: ألحقوا المسكوت عنه بالمنطوق به بالعلة، جاء المؤلف وقال: هذا نص موجود، فالطعام، (أل) هنا لاستغراق الجنس، كل طعام، ولهذا هناك من قال: العلة كل مكيل مزكى، وبعضهم قال: ذكر الطعام ولم يشترط الاقتيات، فأجرى الربا في اللوبيا الحمص الفاصوليا البزاليا الفول، وكل هذه قطنية، ومنع الربا فيها لأنها طعام تؤكل، فأخر المؤلف رحمه الله حديث الطعام بالطعام لعمومه وشموله، فهو أوسع من مدلول المسميات الأخر، فكأنه يقول: إن من ألحق المسكوت عنه بالمنطوق به عنده نص ولا مانع أن يثبت الحكم بنص وقياس وإجماع، لا مانع أن تتوافر على تشريع الشيء كل الأصول: إجماع وقياس ونص من كتاب أو سنة.
إذاً: المؤلف أتى بهذا الحديث بعد ما ذكر من الصبرة، ومن الجنيب، والجمع وغير ذلك من المسميات، وهنا جاء طعام بالطعام.
ثم كلمة الصبرة، هل بين لنا نوع هذه الصبرة التي لا يجوز بيعها بجنسها مكيلاً أو كل صبرة من طعام؟ كل صبرة من طعام، إن كانت براً إن كانت شعيراً، إن كانت تمر، إن كانت لوبيا، إن كانت فولاً، إن كانت إن كانت ما دام أنه يدخل تحت عنوان الطعام بالطعام.
وكون الراوي يقول: (وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) لا يقصر المعنى العام في الجنس على طعامهم، فطعامهم في ذاك الوقت هو الشعير، وطعام غيرهم البر، وطعام غيرهم اللوبيا، وطعام غيرهم كذا، ونحن طعامنا اليوم الأرز، ولهذا يدخل الأرز مع التمر ومع البر في عموم طعام.
فنلحقه بالقياس كما تقدم، والعلة هي كل مكيل وقوت ومدخر، إذاً: تساوى مع البر وتساوى مع الشعير في علة الربا، فيكون الرز أيضاً ربوياً، وهذا ما يشير إليه تأخير المؤلف رحمه الله لإيراد هذا الحديث (الطعام بالطعام) .


شرح حديث: قاعدة مد عجوة ودرهم
قال رحمه الله: [وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل) رواه مسلم] .
هذا من المبيعات المتداخلة، كما يوجد الآن عند الصاغة بعض الحلي مرصع بالأحجار الكريمة التي لها قيمة مستقلة، وغالباً تكون أغلى من الذهب، ولكن الذهب إذا بيع بذهب كان جنساً بجنس، والذهب يباع، وزناً بوزن، والأحجار الموجودة معه ستدخل في الميزان، فيكون ذهب بذهب وزيادة أحجار، لكن ينبغي أن نعرف مقدار الذهب الموجود في قطعة الحلي التي معها أحجار كريمة حتى نقول: إن هذه القطعة فيها ذهب عشرون جراماً، وفيها أحجار كريمة عشرة جرامات فيكون الذهب بالذهب عشرين جراماً، وقيمة الأحجار الكريمة نفصلها جانباً إن بيعت بجنسها ذهب.
وهناك من يفصل في الأحجار الكريمة مع الذهب ويقول: ننظر أيهما أصل وأيهما تبع، قد يكون الأصل هو الجوهرة من الأحجار الكريمة مثل الياقوت، والزمرد، والماس، وهو أغلى أنواع الأحجار الكريمة، وأشدها صلابة، والفيروز، فهذه الأحجار الكريمة قد تحلى بالذهب، فيجعل لها إطار من ذهب، ويجعل عليها نقوش من ذهب، ويجعل فيها حفريات وتملأ بالذهب، إذاً: يكون الحجر الكريم هو الأصل، والذهب هو تبع.
وقد يكون الذهب هو الأصل، سوار من ذهب ورصع في بعض أطرافه أو جهاته بأحجار كريمة من الماس أو من غيرها، فهناك من يقول: ننظر إذا كان الذهب تبعاً للحجر الكريم، واشترينا الحجر الكريم بذهب فلا عبرة بالذهب التابع في هذا الحجر؛ لأنه غير مقصود لذاته، وغالباً يكون طفيفاً، أما إذا كان العكس وكان السوار مثلاً ربع كيلو، والأحجار الكريمة فيه مثلاً خمسة عشر جراماً، فهذه نسبة قليلة جداً، إذاً: الأحجار تبع للذهب، فلا بد أن نعامل الذهب الموجود الذي هو الأصل في تلك السلعة معاملة الذهب بالذهب.
ومالك رحمه الله وضح متى تكون الأحجار هي الأصل، ومتى يكون الذهب هو الأصل، فقال: ما كان حده الثلث فأقل، فهو تبع، وما كان الثلثان فأكثر فهو الأصل، وهذا حد تقريبي، فمثلاً حجر كريم محلى بالذهب وزنه مائة جرام، فيه من الذهب عشرة أو عشرون جراماً، فهل بلغ الثلث؟ لا، فهنا عند مالك الذهب تبع وإذا كان العكس، قطعة الحلي وزنها خمسمائة جرام، والأحجار الكريمة التي فيها عشرة أو خمسة عشر جراماً، إذاً: مالك يحد حداً بين ما هو تبع، وما هو أصل؛ أو ما هو أكثر وما هو أقل بالثلث، فما كان الثلث فدون فهو تابع ويعتبر أقل، وما كان أكثر من الثلث فهو أكثر، وهو المقصود بالعقد في البيع والشراء، فإذا كان على سبيل التساوي، فما الحكم؟ إلى عهد قريب كانت تصاغ الدنانير في السوار، أسورة وتحاط بالجنيهات وتعلق حولها، يكون سوار ومعه عشرون أو ثلاثون ديناراً ذهبياً، فإذا كان مع تلك الدنانير أحجار كريمة، وتساوى قدر الدنانير مع الأحجار وبيعت بذهب، فهنا لا نستطيع أن نعرف مقدار الذهب الموجود في القلادة إلا إذا فصلنا ونزعنا عنه الحجارة، فحينئذٍ نستطيع أن نقول: وزناً بوزن، ولكن الآن لو تأتي إلى الصائغ وعنده القلادة أو الأسورة وفيها الأحجار الكريمة، وتقول له: أفصل هذه الأحجار، وزن الذهب بالذهب! لن يوافق؛ لأن هذا يفسد عليه الصنعة، فلا تشتر بالذهب، واشتر بالفضة، وغالب الصاغة يكون عندهم بيان أن هذه القطعة من الحلي يوجد فيها من تلك الأحجار ما وزنه كذا، ويكون قد عرف وزن تلك الأحجار قبل أن يدخلها بالصنعة في هذا السوار، وتقول: يا أخي! أنا أبغى ذهباً بذهب، مثلاً بمثل، فيقول: مرحباً، هذه وزنها خمسمائة جرام، وفيها من الأحجار مائة وخمسون جراماً، إذاً: عرفنا وزن الذهب من وزن الأحجار، فنتعامل مع الذهب الموجود في هذه القلادة على ما عرفنا من وزنه، ولا يبيع بصفة عامة ويقول: والله! ما أدري كم فيها من أحجار؟ ما أدري كم وزن الذهب الذي فيها؟ فكيف يبيع الذهب مثلاً بمثل والحجارة موجودة في القلادة؟! فخروجاً من هذا كله نشتري تلك القلادة الموجود فيها ذهب وحجارة، أو فيها ذهب وفضة، أو فيها ذهب ونحاس، أو على حسب الصنعة؛ نشتريها بالفضة؛ لأنه يجوز التفاضل بين الفضة والذهب، جرام ذهب تأخذه بعشرة جرامات فضة لا يوجد مانع، إذاً: إذا اشترينا بغير جنس الذهب -أياً كان- خرجنا من المحظور.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تباع حتى تفصل) لماذا؟ لنعرف مقدار الذهب فيها؛ لأنه اشتراها باثنى عشر ديناراً، والدينار معروف في ذلك الوقت، لم يختلف وزنه، الدينار والمثقال اسمان على مسمى واحد، المثقال وحدة وزنية، فالدينار وحدة نقدية، أما الدرهم فوحدة وزنية ونقدية، تقول: هذا وزنه درهم، وتقول: هذا قيمته درهم، وإلى الآن بعض الدول تستعمل الدينار على أنه وحدة نقدية، وكذا الدرهم، مثل الدرهم المغربي، والدرهم في الخليج، إلى غير ذلك.
إذاً: لما اشتراها بذهب وجد فيها ذهباً أكثر من الثمن الذي دفع، فيكون أخذ ذهباً بذهب متفاضلاً.
وما سبب وجود التفاضل؟ وجود الأحجار في السلعة، وما عرفنا كم وزن الذهب في تلك الحلية.
إذاً: لكي نعرف مقدار الذهب، نفصل عنها الحجارة الكريمة إذا أمكن، فإذا لم يمكن، أو كان الصانع بنفسه أو التاجر لا يوافق على الفصل، فلا نقول: افصلوا هذا من هذا، ثم ارجعوه وركبوه، بل لا نجعل الثمن ذهباً لوجود الذهب، ونجعل الثمن فضة، ومهما زادت الفضة أو نقصت عن الذهب فلا محظور في ذلك.


شرح حديث: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
قال رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) ] من المبيعات المنهي عنها، وتصنف في أبواب الربا، ما ورد في حديث سمرة الذي ساقه المؤلف رحمه الله، وهو النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والحيوان كل ذوات الأربع، والنسيئة التأجيل والتأخير، وهذا الحديث يعتبر من المشكلات، فقد ورد ما يعارضه من حديثي أبي رافع وابن عمرو، أما حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه فيقول: (استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً، فرد رباعياً) ، وحديث ابن عمرو يقول: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فكنت آخذ البعير على البعيرين من إبل الصدقة) ، فحديث أبي رافع وحديث ابن عمر كلاهما فيه نسيئة، وحديث سمرة ينهى فيه عن النسيئة! وهنا وقف العلماء ما بين الجمع بين الحديثين، وما بين ادعاء النسخ، وما بين الترجيح بين سند الطرفين، أما حديث سمرة فروي عن الشافعي رحمه الله أنه جمع بينه وبين حديث أبي رافع وابن عمرو قائلاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إذا كان كلاً من المبيع والثمن غائباً، أي: كلا طرفي العقد غائباً، كأن تقول: عندي جمل نجيب جيد، فقال لك الآخر: اشتريه منك بجملين أو بثلاثة، وكل من الجمل المبيع والجملين أو الثلاثة -الثمن- غائبة غير حاضرة، بأن قال لك المشتري مثلاً: أين جملك؟ تقول: إنه مع الإبل يرعى في المرعى، ويقول البائع: أين جملاك؟ أو أين الثلاثة الجمال؟ فيقول: إنها تأتيني بعد غد، فيتبايعان حيوان بحيوان كلاً منهما غائب، هكذا فسر الشافعي رحمه الله حديث سمرة في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، أي: أن يكون النَسَاء في كلا الطرفين.
وذهب الأحناف ورواية عن أحمد بأن هذا الحديث ناسخ لحديث أبي رافع: (تسلف بكراً فرد رباعياً) ، فـ الشافعي يجمع بين الروايات ويقول: الجمع أولى من اطراح أحد الطرفين بادعاء النسخ، والجمهور يقولون: النسخ يحتاج إلى دليل.
وهناك من يقول: إن حديث سمرة أقل إسناداً من حديث أبي رافع ومن حديث ابن عمرو، وقد ذكر الصنعاني شارح هذا الكتاب رحمه الله بأنهم اختلفوا في هذا الحديث وصلاً وإرسالاً، فبعض العلماء يقول: هو مرسل، وبعضهم يقول: موقوف على ابن عباس، ومعلوم عند الفقهاء أن المرسل: هو ما لم يذكر فيه الصحابي، كما قال الناظم: ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راو فقط فعلى هذا يكون حديث سمرة إما أنه أضعف سنداً، وإما أن يجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى بأن النسيئة تحمل على الطرفين، وبيع النسيئة من الطرفين مجمع على النهي عنه، ويسمى بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو الدين، فلا يجوز بيع دين بدين، فتقول: اشتر ديني الذي علي لك بكذا، وأين ثمن الدين؟ يقول: مؤجل! إذاً: دين بدين لا يجوز، ويقولون: تفسير الشافعي رحمه الله يجمع بين الحديثين.
وبعد ذكر الخلاف في هذا الحديث، نأتي إلى ما ذكره المؤلف بقوله: رواه الخمسة، والخمسة هم السبعة ما عدا البخاري ومسلم، أي: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، فنأتي إلى أبي داود؛ فنجده يبوب على هذا الحديث كراهية بيعه، ثم بعده يأتي بحديث سمرة، ثم يقول: باب: الرخصة في ذلك، ويذكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه اشترى جملاً بجملين وقدم أحد الجملين وقال: الآخر آتيك به غداً، ويعني بالرخصة: أن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يكون رخصة.
والترمذي ذكر حديث سمرة ثم قال: وقد ترخص بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وذكر أثر ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وعلى هذا يكون النهي أقل ما فيه الكراهية، وهناك من حمله على المنع والتحريم، وهناك من حمله على أنه ناسخ لغيره، وهناك من رجح أن الحديث ضعيف السند، ووجدنا صنيع أبي داود وصنيع الترمذي أنهم عقبوا هذا الحديث بذكر الرخصة، فيكون الأولى ترك ذلك، اللهم إلا إذا حصل اضطرار ولا اضطرار في ذلك؛ لأن صورة بيع ابن عمر أنه اشترى بعيراً ببعيرين، ودفع بعيراً اليوم، وقال: الثاني آتيك به غداً، إذاً: أقل الدرجات أن هذا الحديث يحمل على الكراهية، والله تعالى أعلم.


كتاب البيوع - باب الربا [4]
إذا كانت الأمة تقدم دنياها على دينها، وتمزق دينها لترقع دنياها، وتترك الجهاد في سبيل الله، وتتغافل عن فضائله وفوائده؛ فإن الله يبتلي هذه الأمة بالذل والصغار أمام الكفار حتى ترجع إلى دينها، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام هذا في حديثه المشهور الذي يعتبر من دلائل نبوته، فينبغي تدبره، والانتفاع به.


شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) ] .
إذا تبايعتم، يعني: حصل البيع من طرفين أو من أكثر تكراراً، وصار البيع بالعينة متداولاً، شائعاً ظاهراً فاشياً، (واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) اتبعتم أذناب البقر فيه تقبيح، وإن كان العمل شريفاً؛ لأنه في مقابل ترك الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فما كان معطلاً لهذا السنام فإنه يقبح، واتباع أذناب البقر كناية عن الاشتغال بالزراعة والحرث، والتعامل مع البقر.
ومن النعم الزراعة، واختلف العلماء أيهما أفضل: الزراعة أم التجارة؟ قيل: إن الله أنزل مائة قيراط من البركة، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في جميع الأعمال، ومع ذلك فالزراعة أفضل من التجارة؛ لأن كسب التجارة للتاجر، وفائدة الزراعة للإنس وللحيوان وللطير، وحتى للجن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتاه وفد الجن ثم قالوا: (نريد الطعام يا رسول الله! فقال لهم: كل عظم ذكر اسم الله عليه؛ كساه الله لكم لحماً كأوفر ما كان) ؛ ولهذا يسن للإنسان إذا ألقى العظام أن يسمي الله ليكون طعاماً لمؤمني الجن لا لكفارهم، قالوا: (وعلف دوابنا؟ قال: كل روث حيوان يكون علفاً لدوابكم) .
إذاً: الجن إما أن يأكل من الزرع مباشرة، أو بالواسطة، وقد جاء أنه سرق الطعام من هذا المسجد، وأبو هريرة رضي الله عنه كان حارساً عليه، فأمسكه ليلة ثم ثانية ثم ثالثة، وفي كل مرة كان الجني يعتذر ويقول: أنا مسكين، أنا صاحب عيال، ويتركه، وفي المرة الثالثة قال: لأربطنك حتى تصبح بيدي رسول الله، فقال: أقول لك: اتركني هذه المرة، وأعلمك آية تحرس لك كل شيء من جميع الجن، فقال: وما هي؟ قال: آية الكرسي، إذا قرئت على شيء لا يستطيع جني أن يقربه.
فتركه، وهذه فائدة عظيمة، ولما غدا أبو هريرة على رسول الله في الصباح استقبله رسول الله وقال: (ماذا فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! قال: والله! يا رسول الله! كذا كذا، فقال: أتدري مع من كنت تتعامل في الليالي الثلاث؟ قال: لا، قال: إنه من الجن) ، إذاً: الجني يأخذ الطعام ويأكله، فالزراعة يستفيد منها الجن مع الإنس، والزراعة هي أصل الأقوات، والتاجر لا ينبت نبات الأرض، والحبوب والألبان واللحوم كلها ليست إنتاج التاجر الذي في المعرض! بل هي بسبب الزارع الفلاح الذي يكابد الليل والنهار، ومع ذلك يكني صلى الله عليه وسلم عن هذا ويقول: (واتبعتم أذناب البقر) لماذا؟ (وتركتم الجهاد) .


ترك الجهاد مهلكة
ترك الجهاد مهلكة، ذكروا في تفسير قوله سبحانه: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] قصة رجل من المسلمين، اصطف الفريقان، فبرز من الصف وقاتل واخترق صف الكفار حتى اخترقه إلى الجهة الأخرى، ثم جاء راجعاً أيضاً كاراً يقتل من يلاقيه حتى رجع إلى صف المسلمين.
فقال قائل: هذا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وحده يخترق صفوف العدو! والله يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، فقال رجلٌ من الأنصار: لا تقولوا ذلك، والله! لقد نزلت فينا معشر الأنصار، لما أتم الله الدين ونزل على رسوله الكريم: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، فقلنا: لقد انشغلنا عن أموالنا وبساتيننا ومزارعنا، وقد انتشر الإسلام، لو رجعنا إلى مزارعنا لنصلحها، فنزلت: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، فقال: التهلكة بترك الجهاد؛ لأننا إذا تركنا الجهاد جاءنا العدو، وما انتصر الإسلام وانتشر إلا بالاستمرار في الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) .


فضل الجهاد في سبيل الله
وفضل الجهاد ليس في حاجة إلى بيان، وتكفي آية واحدة، فالمولى سبحانه وتعالى هو الممتن على الإنسان بإيجاده، والممتن عليه بما بيديه، ثم يأتي سبحانه ويتلطف مع عباده ويعقد معهم صفقة ويقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:111] اشترى منهم ماذا؟ {أَنفُسَهُمْ} [التوبة:111] ، هل ورثوها من آبائهم؟ هل صنعوها؟ هل أنتجوها؟ لا، بل منحهم الله إياها، وكما يقول ابن القيم وغيره من علماء الرقائق: أنفسهم هنا هي أرواحهم، والنفس تطلق ويراد بها الروح، وتطلق ويراد بها الجسم مع الروح معاً، قال الله: {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] ، وقال: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93] ، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر:27-28] ، فقد تطلق ويراد بها الروح فقط، وقد يراد بها مجموع الإنسان، فهنا اشترى من المؤمنين أنفسهم، يعني: شخصيتهم روحاً وجسماً (وَأَمْوَالَهُمْ) اشتراها، وما هو الثمن؟ (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) الثمن والله غالٍ، وسلعة الله غالية، (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) ، إذاً: يكفي هذا، وقال تعالى عن الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ، فلا حاجة إلى الكلام في هذا، والسكوت عنه أولى؛ لأنه بوضوحه لا يحتاج إلى بيان، فترك الجهاد في سبيل الله مهلكة، ومن يوم أن ترك الناس الجهاد في سبيل الله واشتغلوا بالزراعة وببيع العينة، سلط الله عليهم الذل.


الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا
هل نترك الزراعة ونموت من الجوع؟! هل نترك البيع والشراء ونعطل مصالحنا؟ لا، والله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيوية أمراً مؤقتاً، وجعل الحياة الأخروية هي الدائمة، وأمرنا أن نعمر الدنيا، وفيها نعمر الآخرة، كما قال سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، وقال: (التاجر البار مع الكرام البررة) ، وتقول عائشة: (من بات كالة يده من عملٍ بات مغفوراً له) ، فالإسلام دين عمل، ودين إنتاج، لكن لا نغلب كفة على كفة، فالإنسان روحٌ وجسد، وكلا الطرفين يحتاج إلى غذاء، وكلاً منهما مغاير في التكوين للآخر، قال الله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وقال عن الجسم: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:17] ، تعيش كالنبات الذي ينبت، وتعيش على النبات، ومردك إلى الأرض.
فإذا نظرنا إلى الأمم الماضية: نجد أن اليهود غلبت عليهم الماديات، كمن ترك الجهاد واشتغل بالزراعة والتجارة، فما كانت النتيجة؟ احتالوا على ما حرم الله حتى جعل الله منهم القردة والخنازير.
ونجد النصارى غلبوا جانب الروح كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فكلتا الأمتين جنحت بها المسيرة أولئك فرطوا، وهؤلاء أفرطوا، وجاءت الأمة المحمدية كما وصفها الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ، يقول العلماء: الوسط العدل، وسطاً بمعنى: عدلاً، وسطاً بمعنى: أفضل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] وسطاً أي: اعتدالاً؛ لأن خير الأمور الوسط، وقال الله في افتتاحية المصحف في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
والاستقامة: وسط بين طرفين، فالشجاعة وسط بين التهور وبين الجبن، والكرم وسطٌ بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، وهكذا في العبادات وفي المعاملات، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هذا وسط، وذكر الطرفين النائيين المنحرفين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم تركوا العمل بما علموا، والضالون هم النصارى؛ لأنهم عملوا على جهالة وضلالة، أما المسلمون فلا، قصدوا وأخذوا الوسط {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] لماذا؟ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] أي: بالوسطية، وبإمكانكم الاعتدال في المسيرة والمعاملات، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، أمة متوسطة بلا إفراط ولا تفريط.
وجاءت النصوص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي: الجري الذي يخرج عن المروءة، ولكن خذوا في الأسباب، ارجعوا إلى بيوتكم، اغتسلوا، تطيبوا، غيروا الملابس، واذهبوا إلى أين؟ {أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:31] {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] .
والسعي إلى ذكر الله غذاء للروح، والبيع غذاء للبدن، ولكن لكلٍ وقته (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ) هل نقعد في الصوامع كما فعل النصارى؟ لا، {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ} [الجمعة:9] هل نعرض عن الداعي، ونضرب في الأسواق، ونعمل في التجارة، ونغفل عن حي على الصلاة؟ لا، إذاً: الإسلام أعطى الجسم حقه بطرفيه، الروح غذاءها ومقوماتها بالعبادات، وأعطى البدن غذاءه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، الأرض ما هي مستعصية عليكم، تزرعون، وتحفرون، وتصنعون، وتخرجون المعادن، الأرض مذللة لكم، والمناكب هي الأعالي، لا تمشوا في بطون الأودية، بل على قمم الجبال! {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] .
{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] (ابتغوا واذكروا) سبحان الله! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) بالكسب والمعيشة، ومع ذلك: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
أيها الإخوة! الإسلام جمع بين المصلحتين، ووازن بين حاجة الإنسان روحاً وجسداً، فإذا غلبت كفة على كفة اختل التوازن، إذا غلبت كفة الروح كما كان النصارى فسدت الدنيا؛ ولذا النصراني يقول لك: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، ما هذا الخنوع؟ لا والله! بل اضربه على خده.
واسأل اليهود عن القرية التي قال أهلها: نحن لا نعمل يوم السبت؛ لأنه ممنوع العمل فيه عندهم، وكانت تأتي الحيتان على وجه الماء يوم السبت، فما قدروا أن يصبروا، فاحتالوا بأن رموا الشباك يوم الجمعة، وتركوها إلى يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! والله! لو عجوزة عمياء تقول لها: عملنا وعملنا ستقول: والله! هذه حيلة، ما تخفى عليها.
إذاً: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) ، أما إذا لم نترك الجهاد فلنتبع أذناب البقر والجواميس والخيل والإبل، ولنستزرع كل شبرٍ على وجه الأرض، ما دامت راية الجهاد قائمة، والإسلام عنده من ينصره ويرفع رايته، فالحمد لله، ويجب على الأمة كلها أن تعمل، والعجب كل العجب أن الشرق الأوسط بأكمله إنما لحقه ما لحقه من ضائقة الاقتصاد هو من ترك أذناب البقر؛ لأن نسبة ما هو مزروع في الشرق الأوسط كله لا يوازي 25% من أراضيهم، والعالم الأوروبي اتسع في المزارع، وصاروا يغزوننا، ويفيضون علينا بإنتاج البر، بل يتلفونه في البحر من أجل المحافظة على الأسعار في الأسواق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وزير زراعة دولة أوروبية يقول: بإمكان دولة كذا أن تنتج غذاء للعالم كله، ولا يكلف الميزانية إلا 10% فقط! ويقول أستاذ الاجتماع علي عبد الواحد وافي: لو أن مصر زرعت نصف أرضها الصالحة للزراعة؛ لكفت العالم العربي كله، والآن تستقرض الحبوب!! والله! شيء مؤلم يا إخوان!


حرمة بيع العينة
حذر النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من بيع العينة، وقد وقع مصداق ما قال: (إذا تبايعتم بالعينة) ، والعينة عند الفقهاء: اصطلاح لنوع من البيع مخصوص، وهي صورة واحدة عند الجمهور، وعند الحنابلة عكس العينة يأخذ حكم العينة، والعينة: هي من العين، قيل: هي الاشتغال بالنقد عندما تكثر الأموال بأيدي الناس، ومن قبل كانت المعاملات مقايضة بيع الصنف بالصنف.
والآخرون يقولون: لا، العينة هي بيع العين بذاتها بيعتين: تأتي إلى التاجر وتريد منه قرضاً ألف ريال، فيقول لك: والله! أنا ما عندي قرض، أبيع سكراً وشاهياًوأرزاً، ولكن من أجلك أنا أبيعك من السكر مائة كيس بألف ريال.
- أنا ما عندي فلوس.
- لا مانع، لك مهلة.
اشتريت المائة كيس بألف ريال وتدفعها بعد ستة أشهر! وأنت جئت تبغى أكياس سكر أو تبغى ريالات؟! تبغى الريالات، وهو يعرف هذا، وكتب: عليك ألف ريال قيمة مائة كيس سكر، تقول: هات الأكياس! فيقول: نعم، هي موجودة انظرها بعينك لكن قل لي: أين تضعها؟ وما تبغى بالمائة الكيس؟ هل ستفتح محلاً؟! - لا، ما أنا فاتح محل، سأذهب أبيعها، وآخذ ثمنها، وأقضي حاجتي، فالتاجر يقول لك وكأنه يعاملك بالرفق وبالمعروف: لا يا أخي! لا تتعب نفسك، أنا أشتريها منك بالنقد.
- اشترها مني.
- بثمانمائة!! - أنت الآن بعتها لي بألف!! - لا، ذاك مؤجل، لكن هذا أعطيك الثمانمائة الآن.
فأنت تقول: أين أبيعها؟ فتختصر الطريق وتقول له: هات ثمانمائة.
- خذ، فأخذت الثمانمائة في جيبك، ورجعت إلى بيتك، وحقيقة الأمر آلت هذه الزيادة الكريمة لهذا التاجر الرحيم الرفيق إلى الربا، فإنك أخذت ثمانمائة نقداً، وعلى ظهرك ألفٌ مؤجلة، ويبقى الفرق بينهما مائتين، هذه هي العينة، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقول: (.
الربا بينهما حريرة) ، كان بعض الناس يجلس في دكانه وعنده أثواب قماش حرير أو قطن أو غير ذلك، فيأتيه رجل فيقول: يا فلان! أبغى ألفين ريال قرضة.
- والله! ما عندي، خذ لك بالدين حريراً، فأخذ حريراً بالمبلغ الذي يريده إلى سنة، فيبغى يأخذه، فيقول له: أين تذهب؟! لماذا تتعب نفسك؟! أنا اشتريه منك بكذا، ويرجع الحرير إلى محله، ففي هذه الصورة تتحقق العينة، ويتحقق الربا.
ولكن يقول الفقهاء: إذا كان التبايع على بابه.
أنت بحثت عمن يقرضك ألفاً فلم تجد، فجئت إلى التاجر واشتريت منه البضاعة ديناً على نية أنك تبيعها، وتأخذ الثمن وتقضي مصلحتك، فاشتريت منه بألف ريال ديناً إلى ستة أشهر، لا ننسى النهي عن بيعتين في بيعة، ولا ننسى زيادة الثمن من أجل الأجل.
فأخذت السكر أو الرز من التاجر، وسجل عليك الثمن إلى نصف سنة، ثم جئت بالسيارة وحملت الرز أو السكر إلى بيتك، ثم أخذت تبيعه على من يأتيك، ولا علاقة للبائع في بيعك بالنقد، فالجمهور على أن هذا جائز، ويسمى التورق.
ولو ذهبت بالبضاعة من عند التاجر إلى السوق، وقلت: يا دلال! حرج لي على هذه المائة كيس من الرز، بخمسمائة بستمائة حتى وقف المزاد على ثمانمائة، من الذي يزايد؟ إذاً: الذي يزايد، ويشتري، بعيد كل البعد عن البائع، فالبيع صحيح ولا شيء فيه، أما إذا كان البائع بالأجل أرسل شخصاً وراء المشتري ليشتري منه البضاعة بنقد بكذا، فهذه عين العينة، أما إذا بيعت على غير بائعها، مؤجلاً أو بأي ثمن كانت نقداً، ولا ترجع إلى صاحبها الأول، ولا إلى من لا تجوز شهادته له من الأقارب أو الشريك أو الوكيل؛ إذا لم ترجع للأول فلا شيء عليه.
إذاً: العينة متى تكون محرمة؟ إذا رجعت السلعة المبيعة بثمن مؤجل إلى بائعها بنقدٍ أقل من ثمن التأجيل.


حرمة الحيلة على الربا
ما هو عكس العينة؟ إنسان احتاج إلى نقد وما وجد أحداً يعطيه، فبحث عمن يبيعه أرزاً إلى آخر السنة بثمن مؤجل فما وجد أحداً يعطيه، هو غير معروف في السوق أو غير مؤتمن أو مماطل، المهم ما أحد بايعه، فذهب إلى البيت وقال لزوجته المسكينة: اعملي معروفاً، هات المصاغ الذي عندك، وأنا أبغى كذا، وأبغى أتصرف، وأفعل لك وأفعل، حيل كثيرة تحصل، فقالت: لا مانع يا ابن الحلال! تفضل، فأخذ المصاغ من المرأة، وذهب إلى الصائغ وقال: أنا عندي هذا الحلي وأريد أن أبيعه، قال: ما عندي مانع، فوزنه وقال: والله! هذا قيمته ألف ريال، فقال: بعت، أعطني الألف، الصائغ أخذ الحلي، والرجل أخذ الألف، ووضعها في جيبه، ثم قال للصائغ: يا شيخ! والله! أنا آسف، هذا حق امرأتي، وأنا قلت لها: سآتي لك به، وأخاف أن تقع مشكلة ونزاع وكذا وكذا، اعمل معي معروفاً، خلصني من هذه المشكلة، قال: ماذا تريد؟ قال: أنا أشتريه منك بثمن مؤجل بألف ومائتين.
قال له: لا مانع، اكتب لي سنداً بألف ومائتين ثمن حلي وزنه كذا، تفضل خذ الحلي، فرجع إلى بيته بحلي المرأة، وبألف ريال، وعلى ظهره للصائغ ألف ومائتان ريال، فهذا حكمه حكم بيع العينة، فالحلي دليل على الطريق، والعملية انتهت على ألف ريال نقداً، بألف ومائتين بعد سنة، وهذا عكس العينة؛ لأن المبيع ملك المشتري، بخلاف الأولى، وكلاهما مآله إلى الربا.
ما موقف العلماء من هذا العقد؟ الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، مالك، أحمد رحمهم الله على فساد البيع والتحريم.
الشافعي يقول: إن كان البائع والمشتري لأكياس الأرز مثلاً متفقان بنظرات العيون، وبقسمات الوجوه، ويعرفان بحالة الواقع، وكلاهما يعرف ماذا عند صاحبه، فكأنهما متفقان لفظاً، وكما قيل: الموجود عرفاً كالموجود حقيقة، فإذا جاء إلى رجل معروف أنه قعد في دكانه، ولا يبيع أرزاً ولا سكراً، عنده عشرون أو ثلاثون كيساً على طول السنة وهي موجودة، ويبيعها في اليوم عشرين مرة! ويسترجعها، إذاً: الذي يأتي إليه عادة هل يريد أن يشتري أو من أجل العينة؟ من أجل العينة؛ لأنه معروف بهذا، يقول الشافعي رحمه الله: إذا وقع العقد على غير اتفاق بين الطرفين فلا مانع.
والجمهور يقولون: لا يجوز أبداً، ما دامت السلعة سترجع إلى بائعها؛ فسداً للباب تمنع، ومالك خاصة عنده سد الذرائع مقدم، وهو أصل من أصول مذهبه، وسد الذرائع هو: ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس.
إذاً: حكم بيع العينة عند الأئمة رحمهم الله أنها ممنوعة وباطلة عند الأئمة الثلاثة، وفيها تفصيل عند الشافعي، وأجاب عليه الجمهور، وبالله تعالى التوفيق.


معنى قوله: (واتبعتم أذناب البقر)
في قوله صلى الله عليه وسلم: (واتبعتم أذناب البقر) بعضهم يصرفه إلى شيء بعيد فيقول: إذا سخر القوي الضعيف، وساقه بذنب البقر، ففي بعض الجهات يتخذ من ذنب البقر سوط، خاصة في حالات الطغيان، وتسخير الناس في مشاريع حفر نهر، أو في بناء جسر، أو في كذا وكذا، ويسخرون المواطنين للعمل بالقوة دونما أجرة، من أجل أن يقيموا تلك المشاريع، ويسوقونهم بسياطٍ من ذنب البقر، وبعضهم يستعمل إحليل البقر سوطاً، ييبسه بالملح ويصبح كالسوط إلى غير ذلك، ولكن التفسير الصحيح هو الأول: اتبعتم أذناب البقر: أي بالزراعة، وتركتم الجهاد من أجلها، ويكون عليه هذا الوعيد: (سلط الله عليكم ذلاً) ؛ لأنكم تركتم الجهاد الذي فيه قتل النفس، وقتل النفس عزة، تطلب إحدى الحسنيين: شهادة أو نصر، والجزاء من جنس العمل، فعوملوا بنقيض قصدهم، هم تركوا الجهاد ليسلموا من القتل فجاءهم الذل، والذل موت معنوي، وانظر إلى الرقيق إذا أعتقه رجل، فله الولاء؛ لأنه بمثابة من أحياه حياة معنوية (سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم) ، هذه المصيبة الكبرى، إذاً: ما يقع في الأمم من كوارث وأحداث ومذلة للأفراد والجماعات، إنما هو بسبب، وكل شيء بقضاء الله وقدره، ولكن من قضائه إذا تركت الجهاد سلط عليك الذل، فإذا تركتم الجهاد واستعضتم عنه بالدنيا، جاء الذل بسبب ذلك، ولا يرفع هذا الذل الذي لحق بالأمة حتى ترجع إلى إلى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ، ولما سألوا في غزوة أحد {أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ، لماذا من عند أنفسهم؟! الرسول يؤكد عليكم: (لا تبرحوا أماكنكم ولو رأيتم الطير تتخطفنا) ، فنزلوا إلى الغنيمة، فحصل ما قضا الله وقدره، وما شاء فعل {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] .
المهم أن آخر هذا الحديث خطير؛ لأن الأمة الإسلامية إذا أرادت عزتها وأرادت مكانتها التي كانت عليها في القمة، وفي المقدمة؛ فلتجاهد في سبيل الله؛ وبهذا تحصل لها قيادة الأمم، والوسطية الكريمة، والخيرية على الناس، وإنما يحصل هذا بالدين، فإذا شغلت عنه وضيعته، ضيعت مكانتها وأفلت الزمام من يدها، فمتى ترجع إلى دينها، يرد الله عليها ما أخذ منها، وبالله تعالى التوفيق.


كتاب البيوع - باب الربا [5]
الرشوة من أعظم الأمراض التي تفتك بالأمة، وفيها مفاسد كثيرة، وأضرار عديدة؛ على الأفراد والمجتمعات، ومن محاسن الشريعة الإسلامية أنها حرمت الرشوة، بل وحرمت ما يشبه الرشوة، وزجرت عنها زجراً شديداً، ورهبت منها ترهيباً عظيماً.


شرح حديث: (من شفع لأخيه شفاعة ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) رواه أحمد وأبو داود] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديثاً فيه التقبيح والتنفير من أخذ الهدايا على خدمة الإنسان وفعل الخير، وخاصة في باب الشفاعة، وأصل الشفاعة من الشفع، والأساس في هذا أن الإنسان واحد فرد، فيأتي بشخص معه فيشفعه فيكونا شفعاً، وكما يقولون: العدد إما فرد وإما شفع، فالشفع ما قبل القسمة على اثنين بدون باق، والفرد: الأعداد الفردية أو الآحاد، وهي التي لا تقبل القسمة، مثل: الثلاثة الخمسة السبعة والإنسان وحده قد لا يستطيع أن يصل إلى حاجته عند من هي عنده، فينظر أقرب الناس إلى ذاك الشخص أو من لهم عليه سلطان أدبي أو اعتباري أو حقيقي، فيأتي إليه ويقول: أريد أن تشفع لي عند فلان، أي: تذهب معي بدلاً من أن أكون وحدي، فأكون أنا وأنت، فتشفع لي عنده في كذا وكذا، والشفاعة فضلها معروف عند الجميع: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء) .
والشفاعة يوم القيامة يعطيها الله للأنبياء وللصلحاء وللعلماء، وقد يشفع الإنسان في جيرانه وأهل بيته، والطفل يشفع في أبويه، وأعطي صلى الله عليه وسلم سبعة أقسام من الشفاعة، وأهمها الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وذلك حينما يشتد الأمر على أهل الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس، فيقول بعضهم لبعض: (ألا تنظرون من يشفع لنا عند ربنا ليأتي لفصل الخطاب؟) ، فيذهبون لآدم أبي البشر، فيعتذر بقوله: إني أكلت من الشجرة وقد نهيت عنها.
فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام ويعتذر، والله أعلم بنوع العذر، يقول: كذبت كذبة: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] .
ومن اللطائف أن شيخ القراء في المدينة الشيخ حسن الشاعر كان في محفل مجيء المحمل المصري للحج، فقرأ: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:62-63] ، فقام بعض شيوخ القراءات فحمله وقبّله وكان غلاماً، فإنه وقف على قوله تعالى: ((قَالَ بَلْ فَعَلَهُ)) [الأنبياء:63] كأنه تصديق على قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] {بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء:63] يعني: إبراهيم فعله، ثم استأنف كلاماً جديداً: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] ، ويكون فيه تورية على أن الفاعل فعلاً هو إبراهيم، ولم تكن هناك كذبة، ولكن العلماء يذكرون هذه الكذبة في حديث الشفاعة، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله ويعتذر أيضاً بقوله: إني قتلت نفساً، اذهبوا إلى عيسى، ويعتذر عن الشفاعة، اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها، أنا لها، ويذهب ويسجد تحت العرش، ويلهمه الله محامد لم يكن يعلمها في الدنيا) ، وهي المنوه عنها في الحديث: (بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فمن تلك الأسماء الحسنى التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده يلهمها رسول الله في ذلك الوقت، فيحمده بها، ويسبحه بها، ويدعوه بها، حتى يستجاب له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) ، فيشفع في جميع الخلائق، فيغبطه على تلك الشفاعة الأولون والآخرون.
قوله: (من شفع لأخيه) يعني: مشى معه في حاجة إلى إنسان، سواء كان هذا الإنسان حاكماً أو غير حاكم، ومطلق حاجة الإنسان عند آخر لم يستطع أن يظفر بها وحده، فيبحث عن شخص له عنده وجاهة، ولا يرد له طلب، قد يكون بسبب إحسان إليه، وقد يكون مكرهاً، كما لو جاء إنسان يشفع لآخر، والشفيع هذا صاحب سلطة وقوة، والمشفوع عنده يخشاه، فإذا رد شفاعته يخشى أن يتسلط عليه، فيقضيها رغماً عنه، أو يكون الشفيع صديقاً محباً مثل زوجه أو ولده أو أبيه أو صديقه، فيكلمه فيه، ويقضي له حاجته من باب المودة والملاطفة والإحسان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية) ، يعني: بعد الشفاعة، وتكون هذه الهدية كأنها مكافأة على شفاعته، فكأنه أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، لماذا؟ يقولون: تلك الشفاعة لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون شفاعة في حق، وإما شفاعة في باطل، والشفاعة في الحق حق، ولا ينبغي أن تأخذ على الحق أجراً، فمن حق أخيك عليك أن تساعده، ولك أجر عند الله، وإن كانت الشفاعة في باطل فهي باطل، ولا يجوز لك أن تمشي فيها، فضلاً عن أن تأخذ عليها هدية، ومشابهة الهدية بالربا أن كلاً منهما مالٌ في غير مقابل، وقدمنا أن علماء الاقتصاد يقولون: الحياة تبنى على المعاوضة، فسلعة وثمنها متعادلة، ألف ريال قرضه، وألف ريال سداد؛ متعادلة، لكن ألف ريال قرضه وألف ومائة سداد؛ فالألف مقابل الألف، والمائة مقابل ماذا؟ هي زائدة عن الحق، فكذلك الهدية في شفاعته لأخيه زائدة، لماذا تأخذ هدية مقابل مشيك مع أخيك؟! فهذا تقبيح وتنفير من أخذ شيء على الشفاعة؛ لأن هذا إما حق لأخيك فعليك أن تؤديه إليه، وأجرك على الله، وإما باطل فيجب أن تبتعد عنه، بل وتنهاه عنه، لا أن تسعى معه وتأخذ هدية.


شرح حديث: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) رواه أبو داود والترمذي] .
الحديث السابق فيه: شافع، ومشفوع عنده، ومشفوع إليه، وقضيت الحاجة ودفع إليه هدية.
والموضوع الثاني هنا: موضوع الرشوة، والرشوة أخطر وأضر داء في المجتمعات، يفسد الدين والدنيا، والفرد والجماعة والحاكم والمحكوم، فالرشوة في الغالب لا تكون إلا في باطل؛ لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى رشوة في الغالب، وفي النادر يحتاجها صاحب الحق، وسميت رشوة للمحاكاة، وأما الغالب الدائم فهو أن تدفع رشوة للباطل، وأما إن كنت صاحب حق فحقك يصل إليك.
إذاً: الرشوة: ما يدفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، والله سبحانه وتعالى أشار إلى خطر الرشوة في موطن تشريع عجيب يا إخوان! ففي سياق آيات الصيام قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، ويمضي المنهج والأسلوب في التشريع وفي الرخص وفي الفدية، ثم في إباحة ما كان محرماً، ثم ذكر أول الصيام وآخر الصيام، ثم التحذير من حدود الله فلا تقربوها، ثم النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، ثم في النهاية قال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، تدلوا: من الإدلاء وهو الدلو (وَتُدْلُوا بِهَا) أي: بأموالكم، فالدلو تدلونها إلى قاع البئر لتأخذوا الماء، فكذلك الرشوة، والرشوة من الرشا، والرشا هو الحبل الذي يتدلى به الدلو إلى قاع البئر، فكأن الرشوة بمثابة هذا الحبل الذي ينزل الدلو إلى قاع البئر لأخذ الماء، فكذلك عند الحكام، فالرشوة هي الحبل الذي يتوصل به الراشي إلى المرتشي ليأخذ منه ما يريد، من إبطال حق خصمه أو إحقاق باطله عليه.
وأقول: إن هذا من عجائب التشريع والإعجاز في كتاب الله؛ لأن الآيات في صيام رمضان ولوازمه، ثم قبل الخروج منها يأتي النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وبعدها: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] ، فأيهما ألصق بالصيام: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أو {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] ؟ الأهلة من تتمة أحكام الصيام (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، لكن حجزها في الأخير، وجاء قبلها بتحريم الرشوة، وكأن السياق الكريم يقول لنا: صمتم رمضان، وصمتم عن الحلال، أمسكتم عن الطيبات، وتعففتم عن الزوجات طيلة الشهر، فأنتم كمن دخل مصحة وهو مريض فتعافى، فقفوا هنا فكما صمتم عن الطيب الحلال من المطعم والزوجة؛ فصوموا عن أموال الناس بقية العام، لا تأكلوا أموال الناس، وأنتم صيام ما أكلتم أموالكم الحلال، وكذلك بعد رمضان لا تأكلوا أموال الناس بالباطل.
ويقولون: بعض الدول الأوروبية تفشت فيها الرشوة، وهي من لوازم الحروب، إذا وقعت حرب في دولة لا بد أن تأتي الرشوة؛ لأن مواد الغذاء والتموين تقل، وليس كل إنسان يحصل على حقه إلا بالرشوة، والمظالم تكثر، فقيل لرئيس وزرائها: لقد تفشت الرشوة في البلد وأفسدتها، فقال: أخبروني عن القضاء، هل وصلته الرشوة أو هو سالم منها؟ قالوا: القضاء سالم منها، فقال: إذاً: البلد بخير؛ لأن القضاء سيرد كل شيء إلى أصله، فالرشوة في القضاء مفسدة كبيرة، يأتي شاهد الزور ويأخذ الرشوة من المشهود له، ويقف أمام القاضي ويشهد، والقاضي لا يعلم الغيب، بل المصطفى صلى الله عليه سلم يقول: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، يأتي بها أسطاماً يوم القيامة في عنقه) ، والأسطام الحديد الذي يحرك به النار، يحرك به الفحم والحطب حتى يشتعل، فلما سمع كلاً منهما ذلك تراجعا، وقالا: حقي لأخي، لا أريد شيئاً.
ويهمنا أن سيد الخلق يقول: (وإنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع) ؛ لأن الوحي لن يأتيه في هذه؛ لأنه يشرع ويسن للناس، فإذا كان يأتيه الوحي سيقول: الحق عند فلان، والحق عند فلان، والقضاة الآخرون من سيأتيهم؟ وهل جبريل سينزل للقضاة بعد هذا؟! لا.
فالرشوة تفسد النظام، وتضيع المصالح، وتحق الباطل، وتبطل الحق، وإذا أُبطل الحق، وحق الباطل فليس هناك فساد أكثر من ذلك.
إذاً: من هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي) وهو دافع الرشوة، (والمرتشي) أي: آخذها، وفي لفظٍ: (والرائش بينهما) أي: الساعي بينهما، يقول: كم تدفع لفلان ويمشي لك كذا؟ كم تأخذ من فلان وتفعل له كذا؟ ويساوم ويسعى بين الاثنين، هذا يقول: أدفع ألفاً، وهذا يقول: لا، أنا ما يكفيني إلا ألفين، ولا يزال يتوسط حتى يوصلها إلى ألف وخمسمائة، هذا هو الرائش، وقلنا: الثلاثة يلحقهم هذا الإثم: هذا بدفعه إياها، وذاك بأكلها، وهذا بالسعي فيها.
واليهود ذموا لأكلهم السحت، والسحت هو الرشوة، أو الحرام، أو الباطل، والكل يرجع إلى مصب واحد، وعلى هذا يجب على كل مسلم أن يتجنب مسلك الرشوة.


حكم إعطاء الرشوة للضرورة؟
إذا كان هناك موقف اضطرار، فهل تدخل الضرورة في الرشوة أو لا تدخل؟ هناك من يقول: لا ضرورة في الرشوة أبداً، الراشي والمرتشي بأي حالة من الحالات كلاهما داخل في اللعن.
وهناك من يقول: ليس الراشي كالمرتشي، المرتشي داخل في اللعن مطلقاً، ولكن الراشي قد تأتيه ظروف يضطر إليها كما يضطر الجائع إلى أكل الميتة.
وقد سبق -يا إخوان- أن كتبت في هذا الموضوع بحثاً مطولاً، ونشر في مجلة الجامعة الإسلامية، ومما وقفت عليه أن ابن مسعود كان في الحبشة، وفي طريقه اعترضه قطاع الطريق، وأخذوه ورفيقاً معه، وأوثقوهما وباعوهما، فجاءا إلى الوالي ليخلصهم، يقول: ما وجدنا مخلصاً كالرشوة، دفع كل منا دينارين للوالي فأعتق سراحنا.
وفي المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله أن الراشي إذا اضطر لإحقاق الحق الذي سيبطل أو إنقاذ الحق الذي سيموت أو مات؛ فله أن يفعل ذلك، ويحرم على المرتشي أن يأخذ، ومثل بمثالين: لو أن رجلاً كان مع زوجه، وليس هناك إلا الله، وتحت سقف غرفة النوم قال: أنت طالق بالثلاثين.
ولا يوجد ورقة، يا ابن الحلال! خف الله! - ومن الغد ذهبت لأهلها، وأخبرتهم بالطلاق الموثق والمؤكد، وجاءهم يطلبها، فقالوا: أنت طلقتها! قال: لا، أبداً هي تكذب، أنا في عمري ما تكلمت بالطلاق، ولا عمري أطلقها أبداً.
تعال -يا ابن الحلال- أنت ما قلت: طالق بالثلاثين؟ أنا قلت هذا؟! ما خرجت مني كلمة.
فأهلها قالوا لها: أنت كذابة، أنت تبغي تشردي، اذهبي مع زوجك، فرجعت مع زوجها، ودخلت بيته وقد صمت أذناها بلفظ الثلاثين، فماذا تفعل في هذه الحالة؟ هل تمكنه منها وهي مطلقة بالثلاثين، فتكون قد أتت الزنا يقيناً؟ ماذا تفعل؟ هي مغلوب على أمرها.
يا ابن الحلال! خف الله أنت مطلق! قال: تريديني أكتب لك ورقة بالطلاق، وأسرحك إلى أهلك؟ أعطيني ثلاثين ألفاً! ورجعت المسألة إلى المساومة، فهذا الذي تدفعه المرأة لهذا الزوج المنكر يعتبر رشوة، وإذا كانت تستطيع أن تدفع فهل تدفع وتبعد عن طريق الزنا المتيقن في اعتقادها أو تستمر معه على طلاق الثلاثين؟! تدفع؛ لأنها مضطرة، وليس باختيارها، وهل له حق أن يأخذ هللة واحدة؟ ليس له حق، وعليه أن يقر بالحق، وليس له أن ينكر ذلك! والصورة الثانية: سيد كان مع عبده في سفر أو في خلوة أو في أي مجال، فخدمه خدمة طيبة وقال: أنت معتق لوجه الله، جزاك الله خيراً على ما عملت، وأنت عتيق لوجه الله، ومشيا ولما رجعا إلى البلاد تأسف وقال: كيف يضيع هذا العبد؟ فقال له: يا سيدي! أعطني ورقة بالعتق، فقال: عتق ماذا؟ - أنت قد عتقتني! قال له: أنت مجنون؟ لا عتق ولا شيء! هل يظل في الرق، وهو يعلم يقيناً أن سيده قد أعتقه أو يخلص نفسه من الرق الباطل الموجود حالياً؟ يخلص نفسه، وقال: إذا أردت أن أقر لك بالعتق فأعطني مالاً، فحينئذٍ يعطيه على أنها رشوة ليثبت حريته ويخرج من الرق، والسيد لا يحل له أن يأخذ المال، فهذا يعطي لإحقاق الحق، وذاك يأخذ بالباطل.


جواز إعطاء الظالم مالاً لكف شره أو تقليله
يذكرون في كتب الفقه لو أن ناظر وقف أو وصي أيتام ابتلي بظالم اعتدى على عين الوقف، وأخذ جزءاً منه، مثلاً جاره اعتدى على الحد، وأخذ جزءاً منه، حاول ناظر الوقف هنا وهناك في المحكمة أن يرجع الحق، وأبرز وثائق الإثبات لكن بدون فائدة، وجاء له هذا الظالم وقال: اسمع! تريد حقك؟ قال: نعم، قال: صالحني بمبلغ كذا، وأنا أرد لك الوقف، فيتفق العلماء أن للناظر أن يصالح هذا الظالم ببعض الوقف ليستخلص البعض، مثلاً: هو أخذ ألف متر، فيقول له: أترك لك مائتين متر، ويسامحه ويصالحه على مائتين متر، ويستنقذ الثمانمائة، وكذلك وصي اليتيم، وآكل مال اليتيم يأكل ناراً في بطنه، ومع ذلك إذا اغتصب ماله، ولم يستطع وصيه تخليصه إلا بجزء منه فله ذلك؛ لأنه عمل لمصلحة اليتيم باستنقاذ البعض بالبعض، وله أجر في ذلك، وذاك عليه وزرٌ فيما يأخذ.
إذاً: الرشوة من حيث هي محرمة، ملعون دافعها، وملعون آكلها، وملعون الواسطة بينهما، ولكن: إذا دعت الضرورة فنجد من العلماء من يقول: اللعن عام دون استثناء، فماذا يفعل صاحب الحق الضائع؟ قالوا: يصبر، لكن إلى متى؟ وهناك من يقول: يرتكب أخف الضررين، وينقذ البعض أو الأكثر بالأقل، والله تعالى أعلم.


خطورة الرشوة
لو أننا تصورنا مضرة الرشوة لكان الجميع يحاربها، وأكثر ما تكون الرشوة في المسائل التي لها علاقة بالحكومات، بالدوائر الحكومية، ومن أبرز صورها -والكل يعلمها- أن تأتي الدولة، وتطرح مشروع مباني، وتعمل مواصفات في القمة، بأحسن ما يمكن لو نفذت بحذافيرها، في الأبعاد والنسب، نسبة الإسمنت مع الرمل كذا، والحديد كذا، وو وبكل ما يمكن، وتجتهد، وتأتيها المظاريف مقفلة، تفتح المظاريف وترسو على زيد بن عبيد، وزيد بن عبيد وضع أقل عطاء، لكنه يريد أن يحصل على أعلى عطاء، فماذا يفعل؟ الجهة تأتي بمهندس مشرف، والمشرف هذا يمثل جهة المشروع، ويوقع له أو يعطيه سندات على كل خطوة خطوة، أولاً: الحفريات صالحة أو غير صالحة؟ وهكذا في مراحل البناء والتصليح، ويذكرون في ذلك النوادر والحكايات، فبعضهم سحب الحديد بعد التسليح! وبعضهم سحب كذا وكذا، وتقع أشياء لا يتصورها عقل، فيأتي المشرف وينظر إلى التسليح، فيجد الحديد ناقصاً عن المواصفة، فيقول له المقاول: خذ هذا المال واسكت، فيقول: صالح، ويأتي إلى الأبعاد وهكذا ويقول بعض المهندسين: لا ولن تجد مقاولاً يصدق، ولو في العتب حق الطاقة والباب، ينقص فيها الحديد، ينقص فيها الإسمنت، يفعل ويفعل.
لكن نقول: هذا نوع من التحامل، والخير في الأمة إلى يوم القيامة، وهناك من يبرئ ذمته، ويبرئ ساحته، لكن المشكلة في عملية الإشراف، والمشرف يرى النواقص بعينه، ويتغاضى عنها مقابل رشوة يأخذها.
وهذا المقابل لا يدري المسكين أنه يذهب بسببه ضحايا، ولعلكم سمعتم ببعض المشروعات في بعض الدول التي سقطت على من فيها؛ بسبب سوء التنفيذ، وسوء التنفيذ وقع بالاشتراك بين المقاول والمشرف، والمصيبة جاءت من المشرف، فإنه لا يخضع للمقاول إلا بالرشوة.
وكذلك إذا جئنا إلى خفر السواحل والحدود الذين يحرسون البلد من الممنوع، فتقدم إليهم الرشوة فيفتحون الباب على مصراعيه، وو وما نقدر نعدد الشيء الكثير، ولا نتهم أحداً بعينه، ولكن نقول: مضار الرشوة ليست قاصرة على الذي يدفع بأنه غرم بل تحصل أضرار من ورائها أضعافاً مضاعفة، وتكون النتيجة السيئة الحتمية على المواطن.
ولو أخذنا تصوير القرآن الكريم، لوجدنا أن الراشي أدنى الناس منزلة، وأقلهم مروءة، وكأنه -كما في التصوير الموجود في كتاب الله {وَتُدْلُوا بِهَا} [البقرة:188]- كان على علياء المروءة والكرامة مع الناس، فإذا به يتدلى إلى القاع، وإلى الحضيض، وإلى أدنى مستوى في المجتمع الذي يعيش فيه، ولهذا يصنعها بالدس، ويخشى أن تظهر، ويخشى أن يقال: والله! فلان هذا يرتشي، ويفعل ويفعل.
إذاً: يا إخوان! قضية الرشوة ما هي مجرد كون الإنسان يدفع شيئاً، أو مجرد إنسان يأخذ شيئاً، لا، انظروا إلى النتائج المترتبة عليها، فإنها تعود على المجتمع كله، مدرسة تسقط على الطلاب، مستشفى يسقط على من فيه، عمارة تسقط على سكانها، أليس هذا من جناية الرشوة؟ ولو جئنا إلى الطرق إلى المطارات إلى كذا إلى كذا وهكذا السلاح وعدم ضبطه أو التحرز من مبطلاته أو فساده، أشياء كثيرة ما يستطيع الإنسان أن يعددها، ولكن ننبه على خطر الرشوة في أي بلد، وكما أشرنا أن رئيس تلك الدولة الأوروبية يقول: الرشوة إذا تفشت في القضاء أفسدت البلد، وفعلاً إذا تفشت أفسدت، والله أسأل أن يعافينا وإياكم جميعاً إن شاء الله.


شرح حديث: (أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة ... )
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة قال: فكنت آخذ البعير ببعيرين إلى إبل الصدقة) رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات] .
تقدم التنبيه على هذا الحديث عند الكلام على حديث سمرة: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والعلماء قالوا: عارضه حديث ابن عمرو أنه كان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، يعني: ربا فضل وزيادة.
وكذلك حديث أبي رافع: (استسلف صلى الله عليه وسلم بكراً، فلما جاء صاحب البكر قال: أوفوه، قال أبو رافع: فبحثت فلم أجد بكراً في الإبل، وإنما وجدت رباعياً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعطه إياه، إن خيركم أحسنكم وفاءً) .
وأشرنا إلى تفسير الشافعي لبيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو أن يكون كلا الطرفين نسيئة وغائباً، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن حديث سمرة نسخ الحديثين الآخرين، وذكرنا أن سند الحديث فيه مقال، وأنه مرسل، وهذا جزء مما تقدم الكلام عليه هناك، ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلف عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز الجيش، مثل وزير الدفاع، أو وزير المالية، أمره أن يجهز الجيش، وسيجهزه من إبل الصدقة، مما يوجد للمسلمين، فإن لم يوجد تصرف، إذاً: تسند الأمور إلى من يقوم بها، وهذا مما ذكره صاحب كتاب: التراتيب الإدارية في الحكومة الإسلامية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر من يتولى أمر الصدقة، ومن يتولى أمر الجيوش، ومن يتولى أمر العدالة، ومن يتولى الحراسة، وهكذا، ويكون هناك بداية تخطيط لدولة قائمة، فهذا عبد الله بن عمرو يأمره صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من الناس، ويقولون: ولي الأمر له عند الشدة والحاجة -وخاصة عند الحروب- أن يأخذ من الأثرياء قرضاً أو هبة، فإذا وجدت حالة شدة، مثل أن يدهم العدو البلد، أو علم ولي الأمر أن جيش العدو مقبل وليس عنده في صندوقه أو بيت المال أو وزارة المالية ما يجهز ما يقابل به هذا الجيش؛ فله أن يفرض على الأغنياء من أموالهم ما يجهز به الجيش الذي يدافع عن البلد؛ لأنه يدافع عنهم أنفسهم، ومن هنا: فهناك من يأخذ ذلك قرضة، وهناك من يأخذ ذلك مصادرة؛ لأنه حماية للبلد، وحماية لأمن الدولة، وكما يقولون: الأمن القومي، أمن الدولة، وقد نص الفقهاء على أن لولي أمر المسلمين ذلك، ولكن يجب أن يكون ذلك مع حفظ الحقوق، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز الجيش، فلما نفدت الإبل أمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا يدل على أنه لا ربا في الحيوان، وهناك نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يثبت أن ربا النسيئة يقع في الحيوان، ومالك فرق وقال: إذا كان الحيوان بجنسه فربا، وإذا كان بغير جنسه فلا، فمثلاً: لو اشترى فرساً ببعير، أو اشترى بعيرين بفرس، اختلف الجنس فلا مانع أن يكون نسيئة، والجمهور على ما قدمنا في هذا الحديث، وهو دليل على أنه لا ربا في الحيوان، لا ربا الفضل؛ لأنه يأخذ الواحد باثنين، ولا ربا النسيئة؛ لأنه يدفعها من إبل الصدقة حينما يأتي المصدق في آخر العام بالإبل، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (نهى رسول الله عن المزابنة)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيبٍ كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله) متفق عليه] .
(نهى صلى الله عليه وسلم عن المزابنة) ، والمزابنة من الزبن، وهو الدفع، ومنه الزبانية عافانا الله وإياكم، ثم فسرها ابن عمر وقال: والمزابنة -أي: في العرف الشرعي- أن تبيع ثمرة النخل على نخلها بخرصها تمراً، فمائة نخلة فيها رطب، لو أنها تركت كم يجيء منها من التمر، يجيء منها خمسة أوسق، فيقول: أكيل لك الآن خمسة أوسق، وخل بيني وبين الثمرة.
وهكذا الكرم، وإن كان هناك من يكره تسمية العنب كرماً، فهذا العنب لو ترك حتى صار زبيباً، كم يأتي منه من قنطار؟ قال: يأتي عشرة قناطير، فيقول: أقدمها إليك الآن عشرة قناطير زبيباً، وخل بيني وبين شجر العنب، ثم أبيعه عنباً، أو أعصره، أو أتركه حتى يصير زبيباً، أنا حر فيه.
وهكذا حقل للقمح أو للشعير، يقول: كم يحصل منه لو تركناه حتى يجف الحب ويشتد، ثم يحصد ويداس ويصفى؟ قال: يحصل منه خمسون إردباً، قال: أدفع لك الآن هذا القدر، وخل بيني وبينه، وأنا سأحصده يوم الحصاد.
وسواء حصلت في ثمر النخل مقدار ما دفعت لك كيلاً أو أقل أو أزيد، فالزائد لي والناقص علي، وكذلك في العنب، سواء حصل من الزبيب بقدر ما أعطيتك زبيباً أو أقل أو أكثر، وكذلك الحب.
وكل يزبن الغبن عن نفسه، فصاحب النخل يحسب أنه حصل على كيل معلوم أحسن من الذي على الشجر، وصاحب التمر الذي كاله يظن أنه سيحصل مما على الشجر أحسن مما دفعه، ويزبن النقص عن نفسه، وهكذا كل ثمرة بجنسها، أما إذا كان بغير الجنس، مثلاً: اشتريت ثمرة البستان بالذهب والفضة، أو اشتريتها بالقمح، أو بالأرز فلا مانع؛ لأن الأرز بالتمر يجوز فيه الزيادة، ولكن بقي عندنا التسليم، ولا ربا نسيئة إذا اختلفت الأجناس والعلة، إذا كان بالنقد تساوي هذه الثمرة خمسة آلاف أو ستة آلاف، فيقول: تفضل هذا النقد، وأخذ الثمرة التي على رءوس النخيل، وعالجها، وهو ما يرزقه الله، وكذلك العنب، وكذلك الحب.
إذاً: المزابنة بيع الثمرة قبل نضجها بخرصها يابساً من جنسها، الرطب على النخل بالتمر، والعنب بالزبيب، والحب في الحقول بالكيل من طعام من جنسه، والله تعالى أعلم.


شرح حديث النهي عن اشتراء الرطب بالتمر
قال رحمه الله: [وعن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر، فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم] .
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، يعني: كيلاً بكيل أو وزناً بوزن، فسأل صلى الله عليه وسلم ليلفت الأنظار، وإلا فلا يخفى الجواب على رسول الله فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) وهل يوجد أحد يجهل هذا؟! لا، حتى أطفال أصحاب البساتين يعرفون هذا؛ لأن الرطب يحمل كمية من الرطوبة، فإذا يبس نقص؛ لأنه تتبخر تلك الرطوبات، ويبقى الأصل فيخف، وينقص الرطب عما هو عليه.
فقالوا: نعم ينقص، فنهاهم عن ذلك؛ لأن التمر لن ينقص، ولكن الرطب سينقص، فنكون في النهاية بعنا تمراً بتمر مع التفاضل، وكذلك العنب بالزبيب، وجميع الربويات أخضرها بيابسها، فنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر وزناً متساوياً أو كيلاً متساوياً لعلة الربا، وهي نقص الرطب عن مثله تمراً، والتمر لن ينقص؛ لأن النقص قد تجاوزه، والرطب سينقص فيدخل على صاحب التمر نقص في الثمن، والله تعالى أعلم.


شرح حديث النهى عن بيع الكالئ بالكالئ
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني: الدين بالدين) رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف] .
سواء إسناده ضعيف أو إسناده قوي، هذا متلقى عند الأمة بالقبول، وهو إجماع واتفاق على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين، الكالئ هو الدين، وصورة ذلك: لك عند زيد ألف ريال، وحل الأجل؛ لأن قبل الأجل ليس لك المطالبة، فإذا حل الأجل وجئت تطالبه، ولم تجد عنده سداداً، فعلم بذلك إنسان وقال: أنا أشتري منك ما كان لك عند فلان، إن قدرنا أن لك عنده ألف ريال، أو أن لك عنده إردباً من التمر، أو أن لك عنده قنطاراً من كذا، وجاء إنسان وقال: أنا أشتريه، فقال: بكم تشتري الألف ريال؟ قال: بثمانمائة، وبعد شهرين مثلاً: يكون له عند فلان ألف، وأنت تريد أن تأخذ ثمانمائة، وليس هناك استلام ولا قبض، وبقينا في الدين كما كنا فيه، أو لك عنده قنطار أو إردب من التمر، فقال: أنا أشتريه منك بألفين ريال، فقال: هات الألفين، قال: لا، بعد أسبوعين أو بعد شهر، فرجعنا أيضاً إلى الدين كما كان أولاً.
فكل ما كان بهذه الحالة: بأن يشتري دينك الذي عند فلان بثمن مؤجل ديناً عليه هذا لا يصح، والسبب أو العلة في هذا أننا لم نحصل على نتيجة فعلية، وما خرجنا عن نطاق الدين، ولا زال البائع دائناً لم يقبض حقه، بل جاء وارتبط بمدينٍ آخر، ولم يحصل الوفاء من هذا ولا من ذاك؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين.
ولو أنه قال: قنطارك التمر الذي عند فلان أنا أشتريه بألف ريال بعد شهرين، فهذا لا يجوز، لك تمر عند فلان، وأنا أشتري التمر الذي لك عنده بألفين ريال بعد شهرين، لا يجوز هذا؛ لأن الألفين ما سلمها، ولو أنه جاءه وقال: أريد منك إردبين من التمر بألفي ريال بعد سنة، فهل يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأنه بيع وشراء في عقد واحد، والثمن مؤجل، والناس يتعاملون بالدين دائماً، فليس هنا دين بدين، لكن الممنوع دين بدين مؤجل، وهو النقد، وأكدنا سابقاً بأن الأثمان لا تدخل في ربا النسيئة؛ لأنها قيم المبيعات.