شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب البيوع - باب الغصب [1]
لقد عظم الشرع الوعيد لمن اغتصب أرض غيره، حتى ولو كان الجزء المغتصب شبراً أو جزاءً من شبر، وللغصب مسائل وأحكام يذكرها العلماء في كتب الفقه.


شرح حديث: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً ... )
[وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) متفق عليه] .


شمول الحديث لكل أرض صغرت أو كبرت
قوله: (من اغتصب شبراً) وفي بعض الروايات: (شيئاً) ؛ لأن التقدير بالشبر في الأرض شيء ليس له أهمية، كما لو كان شبراً في ذرع قماش، أو شبراً في بيت مبني، عندها تكون قيمته كبيرة، فعندما تكون أرضاً في الخلاء ويكون الفارق شبر أو شبرين أو متر أو مترين فالمسألة هينة، ولكن أقل التقديرات عندهم الأصبع والشبر، فإذا كان الوعيد الشديد في الشبر فالذراع والباع من باب أولى، ولكون الشبر ليس له مفهوم، وقد جاءت الرواية الأخرى بـ: (من اغتصب شيئاً) ، ولو قدر إصبع؛ لأنه الغرض النهي عن الغصب بصرف النظر عن القليل والكثير الأرض فلاة متسعة، لكن كونك تغتصب من حق أخيك فهذه هي الجناية.
وهذا وعيد شديد ينبغي على جميع أهل البساتين والأراضي وأصحاب المخططات، الذين يتعاطون العقارات أن يحفظوا هذا الحديث؛ ليتحروا الحق فلا يتجاوزه، ومما يروى في ذلك: أن امرأة كانت جارة لـ سعد بن أبي وقاص، فجاءت واشكته إلى الأمير وادعت أنه اغتصب شيئاً من أرضها.
فقال: معاذ الله! أنا أغتصب من أرضها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتصب من الأرض شبراً طوقه من سبع أرضين) ، فزجرت عن ذلك، ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واجعل ميتتها في أرضها.
ففي آخر عمرها -عياذاً بالله- كف بصرها، ولما كانت تمشي في أرضها سقطت في بئر من آبارها وماتت فيها، ثم بعد ذلك جاءت السيول وكشفت عن الظفير الذي بينها وبين سعد، فإذا بالظفير بعيد عن أرض سعد، وإنما هي التي دخلت في أرض سعد، والظفير مدفون في أرضها هي.


ما يقع عليه الغصب
في هذا الحديث زجر ووعيد شديد لمن تجاوز حده، واستدل به الجمهور على إمكانية غصب العقار الثابت، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله فهو يقول: الغصب يكون في المنقولات فقط: بهيمة الأنعام، الأثاث، المطعومات، الملبوسات، الشيء الذي ينتقل من مكانه ويحوله الغاصب من مكان إلى مكان، أما العقار الثابت في محله فليس فيه غصب.
والجمهور يقولون: قوله: (شبراً من الأرض) يدل على أنه يريد الأرض وهي عقار وعقار ثابت (طوقه من سبع أرضين) .
إذاً: كل ممتلك يستولي عليه الغير بالقوة؛ فهذا يصدق عليه الغصب، وله أحكام في ضمانه، وعلى الغاصب ما يقع نتيجة لذلك من الشحناء والبغضاء والتقاطع بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ، فكيف يتولى هو الظلم بنفسه؟!


معنى التطويق في الحديث واختلاف العلماء في كيفيته
في هذا الحديث جانب من الجوانب حير العلماء، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (طوقه) والتطويق من الطوق، وهل الطوق هو الآلة التي تجعل في العنق كسلك أو سلسلة أو شيء من هذا مادي، أو أنه الطوق من الطاقة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَّوقُونَهُ} [البقرة:184] ؟ وهذا على قراءة عن علي رضي الله تعالى عنه في أمر الصوم.
أي: يفعلونه مع كلفة ومشقة إلى أقصى غاية الطاقة عندهم، والطاقة: القوة.
تقول: الطاقة الحرارية التي تدفع الآلة أو الجهاز أو الأشياء.
المشكلة عند (سبع أراضين) ، فبعضهم يقول: هذا على الحقيقة: أن هذا الشبر يكلف بحمله تراباً إلى المحشر، ثم يكون في عنقه كالطوق، وفي بعض الروايات الأخرى: (خسف به إلى منتهى سبع أراضين) وحينما يخسف به إلى أسفل يكون ما حوله من الأرض كالطوق في عنقه؛ لأنه مطوق لعنقه.


بحث في عدد طبقات الأرض
وهذا البحث من مباحث الجيولوجيا -كما يقولون- أو طبقات الأرض أو نوعيتها، وهل الأرضون سبع أو واحدة؟ والمشكلة قائمة من السابق، ويذكر بعض العلماء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه سئل عن سبع أرضين، فقال: (لو حدثتكم بها لكفرتم) .
أي: لا تستطيعون تصديق ذلك فتنكروه فتكفرون، ولكن الأثر ضعيف.
إن الله سبحانه وتعالى ذكر السماوات سبعاً بالعدد، فذكرها بلفظ مفرد وذكر السماء بلفظ الجمع، أما الأرض فلم تأت مجموعة في كتاب الله قط، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن الله سبحانه وتعالى جمع السماوات؛ لأن هذا الجمع سائغ، أما الأرض فجمعها شاذ، وكما يقول ابن مالك في الألفية: وأرضون شذ والسنون.
عندما تجمع الأرض وتقول: أرضون، هذا جمع شاذ، وكذلك، والسنون جمع شاذ، تقول: سنوات، سنين، أما سنون في حالة الرفع فهذا شاذ، والقرآن يتجنب الشاذ.
وقد شهدت مناظرة في هذا المسجد من شخص يدير معهداً في علوم ما مع والدنا الشيخ الأمين، وذلك حينما تعرض الشيخ لهذه القضية في الجمع والإفراد؛ فتجرأ وقال: يا شيخ! الناس ذهبت إلى الفضاء وإلى كذا وكذا في مراكب، ونحن الآن في جمع شاذ وجمع غير شاذ! فتضجر الشيخ قليلاً من هذا الكلام، واستأذنت الشيخ أن أتفاهم معه، وأذن للعشاء، وبعد العشاء كان هناك حديث طويل لا حاجة إلى إيراده في هذا الجمع الآن، لكن يهمنا أنهم كانوا ولا زالوا حتى الآن -وللأسف كل الأسف! - في هذه المسألة وفي هذا الحديث كتبهم من أغرب كتب التفسير، وعندما أقف على تفسير جديد محدث صاحبه له شهرته، وله قدرته في البلاغة واللغة، تزل قدمه في هذا الموضوع علماء الهيئة يقولون: إن السماء قبة زرقاء هوائية، وهو يعبر في تفسيره عن الكرة الهوائية، ويفسر السماوات السبع بالكواكب السيارة، وهو ما ذكره صاحبنا في قضيته مع الشيخ من حوالي عشرين سنة؛ لأنهم يتخيلون أن ليس هناك جرم سماء، وإنما الذي نراه من الزرقة من بعد المسافة، وأنها طبقات هوائية، وهذا المؤسف إذا كنا نسمعه من أشخاص درسوا الماديات على غير المسلمين، ثم تكلموا بها، فيمكن للعاقل أن يعذرهم، فهذا حدهم، ولكن عالم من علماء المسلمين، ويكتب التفسير من كذا جزء، ويقول عن السماء: الكرة الهوائية القائمة على الأثير، وكونها سبع إنما هي الكواكب السيارة السبعة! والله ذكر: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] ، فجاء العلماء وقالوا: الأرض مثلهن في ماذا؟ في ارتفاعها؟ لا.
في مساحتها؟ لا.
الأرض بالنسبة إلى السماء كنقطة حبر في قطعة ورقة مساحتها كيلو في كيلو، والسماء على الأرض كالقبة كما جاء في حديث ابن عباس، السماء الأولى على الأرض كالقبة، والثانية فوقها كالعقبة، وهكذا سبع سماوات، وسمك السماء في ذاتها مسيرة خمسمائة عام، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، أي: بقوة، وهذا لا يقال في الهواء، وفي حديث الإسراء حينما عرج جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا فطرق الباب، فقيل: من؟ قال: جبريل.
أمعك أحد؟ قال: معي محمد.
أو أرسل إليه؟ قال: بلى.
فيفتح الباب، هل هذا في هواء؟! نأتي إلى الأرض التي نحن نعيش فيها، فهناك من يقول: سبع أرضين كل واحدة منفصلة عن الثانية إلى سبع، وبين كل أرض وأرض فضاء، وذكروا أشياء وأخباراً، حتى أن البعض عزاها لمن سمع من الإسرائيليات، ومنهم من يقول: كل أرض فيها آدم كآدمكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وكعبة ككعبتكم، و.
و.
إلى شيء كثير جداً.
والتحقيق عندهم: أن عدد الأرضين سبع متلاصقة وليست منفصلة، وتجدون البحث في هذا عند قوله: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] ، فمن يقول: {كَانَتَا رَتْقًا} ، الرتق: المرتبط، والفك الفتح، والسماء كانت رتقاً مع الأرض ففصلت السماء على حدة والأرض على حدة، وبعضهم يقول: السماء كانت رتقاً ففتقها سبعاً، والأرض كانت رتقاً ففتقها سبعاً.
والآخرون يقولون: إن فتق السماء بإنزال المطر، وفتق الأرض بتشققها للنبات، كانت الأرض رتقاً صماً، فالله سبحانه وتعالى فتقها لإنبات النبات: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:27-28] ، إلى آخر الآيات الكريمة.
وبعض المحققين يقول: في هذا الحديث إشعار بأن الأرض على تقدير أنها سبع أرضين متلاصقة.
وبعضهم يقول: كقشر البصل كل واحدة فوق الثانية، وبعضهم يقول: إن الأرضين السبع هي القارات اليابسة مع الماء، ونسبة اليابس مع الماء مع الأرض الربع، وثلاثة الأرباع ماء، المحيطات وهو بحر واحد، وإن كانوا يسمونها البحر الأحمر، البحر الأبيض، المحيط الأطلسي، المحيط الأطلنطي، المحيط الهادئ، ولكن عند التحقيق فكلها بحر واحد: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] ، البحر واحد في الأرض، لكن تتغير الأسماء بموقعه.
والآن ماذا يقول السادة المشايخ بعد مجيء مراكب الفضاء، وبعد الدوران حول الأرض عدة مرات؟ هل هناك أرضين تحت الدورة هذه؟ وتعاقب الليل والنهار مع الشمس بحركة الأرض أو بحركة الشمس ليس لنا علاقة بهذه المعركة؛ فما تعامد مع الشمس فهو نهار، وما تعاقب دونها فهو ليل، فهل الأرضون السبع لها سماوات سبع ولها سبع شموس؟ أقول: إن هذه النقطة بالذات شغلت العلماء، وأوجدت تلك الأقوال والأفكار، ونحن نقول: يقول الله سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] ، وجاء الحديث: (ولم تدرك عقولنا كنهها) .
إذاً: ما لم يشهدنا كيف خلق الأرض، نقول: آمنا بالله، وبما جاء عن الله على مراد رسول الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، أما كونها سبع أرضين بعضها منطبق على بعض؛ فالذين درسوا قليلاً من الجغرافيا يعلمون أن جوف الأرض منصهر، وأن البراكين التي تظهر ما هي إلا من انصهار المعادن والأجرام التي في باطن الأرض وتتموج، وإذا وجدت ضعفاً في قشرة الأرض الخارجية خرج البركان حمماً يسيل مثل الماء.
إذاً: باطن الأرض الله أعلم به، ويكفي -كما يقولون- في أحاديث الوعيد أن تمرر كما جاءت، ولا يفصل فيها، وهذا اللفظ بذاته يكفي لزجر وإرعاب من تسول له نفسه بالاغتصاب.
والله تعالى أعلم.


أحكام ومواعظ من بيت النبوة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا.
ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسور) رواه البخاري والترمذي، وسمى الضاربة عائشة رضي الله عنها، وزاد: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام، وإناء بإناء) ] .


حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه
وهنا زيادة بيان من واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا واجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل رسوله أباً وزوجاً ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويرهن، وكل ما هو من حاجات البشر كان يصنعه؛ ليكون أسوة للناس، ولاسيما في بيت النبوة الطاهر حينما تقع الحوادث، وتجري الأمور على سنن البشر كيف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعالجها؟ لقد شاهدنا من عظماء الرجال إذا كانت عنده ثلاث نسوة أو أربع يحتاج إلى إدارة معونة على سياسة تلك الأخرى، وهذا صلى الله عليه وسلم له تسع نسوة، مع الفارق في النوعية؛ لأن زوجات رسول الله أمهات المؤمنين لسن كبقية الناس، فهن يتميزن بحسن السمع والطاعة، وخالص الحب والوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبل ذلك أريد التنبيه على موضوع قد التبس على بعض الإخوة من قبل، ولعلاقته بالعقائد وآيات الصفات، وأحب أن يصحح أولئك الإخوة مفاهيمهم: حينما ذكرنا موضوع السماء، وأنها سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وإثبات أن السماء جرم من النصوص كقوله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، وقلنا: (بأيد) يعني: بقوة، ولكون اللفظ (أيد) يحتمل جمع يد ويحتمل القوة، فبعض الناس يظن أن ذلك جمع يد، وأنه من الصفات لا، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] وهل كان عليه السلام عنده مجموعة من الأيدي أو يدان فقط؟ اثنان فقط.
إذاً: الأيد: أي: القوة.
القاعدة: أن كل ما جاء في كتاب الله فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل على ما يريد، إنما يأتي مضافاً إليه، كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، فهذا يكون بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو من باب الصفات، ومجرى آيات الصفات على ما عليه سلف الأمة، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وليس هذا موضوع تحقيق ما يتعلق بالعقيدة، ولكنه تصحيح لمفاهيم بعض الإخوة الذي ظن بالاشتراك باللفظ بين جمع يد وبين القوة، فهي هنا: ((بنيناها بأيد)) بقوة، وهو المناسب أيضاً لبناء السماء، هذا الجرم العظيم، مسيرة خمسمائة عام سمكها، وسقف المسجد ربما كان سمكه خمسين سنتيمتر، أقل من المتر، وهذه مسيرة خمسمائة عام! أين موقع العقل في مثل هذا؟!


اهتمام السلف بالسيرة النبوية
إن دراسة حياة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في شخصه، في بيته، في مجلسه، في طعامه وشرابه ولباسه واجب على كل مسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكيف تتأسى بمن تجهل حياته وأحواله؟ إذاً: يتعين على كل مسلم أن يعلم كل الجوانب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقديماً قلت: إن شخصية رسول الله في ذاته من شعره إلى أظفاره، وحياته وسلوكه معجزة في ذاته، ولو لم تجرِ على يده المعجزات من تكثير الطعام، ونبع الماء من بين الأصابع، ومجيء الشجر إليه، ومناجاة البعير له.
إلخ، إذا لم تأت ولا آية من هذه الآيات لكانت شخصية رسول الله معجزة في ذاتها؛ لأنه بشر، نعرف أبويه ومتى ولد ونسبه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] ، قال ابن عباس: أي تعرفون مولده ونشأته وحياته.
ليس بغريب عليكم، وكان يذكر ابن فرحون -في كتاب له مخطوط إلى الآن في المسجد النبوي- في القرن السابع الهجري، قال: كان العلماء في المسجد النبوي إذا دخل شهر رمضان ترك كل إنسان الدروس، صاحب التفسير ترك تفسيره، صاحب الحديث ترك حديثه، صاحب الفقه تركه، صاحب اللغة الأدب، كل معلم في المسجد يترك المادة التي كان عليها ويدرس الجميع الشمائل النبوية.
يعني: الصفات الخلقية والخُلقية؛ حتى يتعلموا ويعرفوا من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.


غيرة عائشة رضي الله عنها وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لذلك
ذكرنا بعض الصور التي وقعت في بيته صلى الله عليه وسلم ومن نسائه معه، وكيف عالج ذلك، مع أنهن تحزبن عليه، ووقفن ضده، وليس ذلك -والله- حطاً من قدرهن ولا تنقصاً من ذواتهن، بل هو إعلاء لمكانتهن؛ لأنهن فعلن ذلك محبة فيه وحرصاً عليه، وبدوافع الغيرة، ونعلم جميعاً أن المرأة لا تغار على زوجها إلا من دافع الحب؛ فهو من صفات المدح لهن، وليس من صفات الذم، وقد بين لنا تلك الحياة وصورها ليتعلم الرجل ماذا فعل رسول الله، ويتعلمن النسوة كيف فعلن زوجات رسول الله، وهكذا تؤخذ الحياة العملية تطبيقاً من بيته صلى الله عليه وسلم.
أما الدافع الأساسي -كما أشرنا- وهو الغيرة، فإن مبدأ ذلك -أو الغيرة المبسطة، لا المؤامرة- جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات ليلة، تقول: والحجرات ليست فيها المصابيح -ظلام- إذا أطفأوا السراج وناموا لم يروا شيئاً، وكانت السرج بالزيت وفتيلة.
انظروا إلى القناديل التي كانت معلقة في المسجد، كان يوضع فيها الزيت وفتيل، وطرف الفتيل على حافة السراج ثم يشعل بالزيت.
تقول: فقمت أتحسس الحجرة فما وجدته، فتقدمت فوقع كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول: (سبوح، قدوس، رب الملائكة والروح) ، فقلت: والله إني لفي شأن وإنك لفي شأن.
لما وقع كفها على بطن قدمه قالت: لعله كان قد ذهب إلى بعض نسائه واغتسل هناك وجاء يصلي هنا، فلما قام من سجوده وقفت بجانبه، وأدخلت يدها في شعره -وكانت له جمة إلى منكبيه- لتتحسس أثر الغسل، كل ذلك والرسول ساكت، فلما انتهى التفت إليها وقال: (أخذتك غيرتك يا عائشة؟ -أعلمها ما هو الدافع- قالت -ويا لصدق ما قالت! وهو يبين المقدار الحقيقي للتأثر بالغيرة وإن كانت شديدة-: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟) .
وبعض الروايات: أنه جاء من الخارج فوضع ثيابه، ثم اضطجع، ثم سرعان ما قام.
تقول: وتظاهرت بالنوم.
فلما خرج أرسلت بريرة وراءه فأتتها وقالت لها: ذهب إلى أهل البقيع، تقول: فشددت عليّ ثيابي، وخفت أن يرجع من أهل البقيع إلى بعض زوجاته، ووقفت من بعيد، فلما رأته فرغ من السلام عليهم، وبدأ يتحرك عائداً جاءت راجعة، فشعر بها، فأسرع، تقول: فأسرع فأسرعت، إلى أن جئت البيت واضطجعت في فراشي، فلما دخل وضع يده على صدري، وقال: ما هذا يا عائشة؟! أأنت التي كنت أمامي؟ قالت: بلى يا رسول الله؟ قال: أظننت أن يحيف الله بك ورسوله؟ لا يا عائشة.
فهذه -كما أشرنا- أمور جبلية لا يمكن للمرأة أن تتخلى عنها، وكذلك الرجل، لكن فرق بين من يتحكم في دوافع النفس وانفعالاتها ويبين من يضعف أمام ذلك.
نأتي إلى موضوع القصعة والطعام وما ذكره البخاري، وأعتقد أنه لو جاء في غير صحيح البخاري لكنا وقفنا موقف التساؤل؛ لأنهن أمهات المؤمنين، ويقول الله عنهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] من كل دنس وشائبة، وسوء خلق، مما ينتقص من النساء، ولابد أن يكن كذلك؛ لأنهن فراش رسول الله، وكان الرجل يتحرى صديقه بالهدية عند بعض زوجاته، وكانوا يتحرون ليلة عائشة ويهدون إلى رسول الله فيها هداياهم.


موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في قضية التحريم
ذكر البخاري رحمه الله بأن زوجات رسول الله كن قسمين: عائشة وحفصة وسودة، وأم سلمة ومن معها، وكن بهذا التآمر يحتلن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور ربما كان يحبها، من ذلك: أنه كان صلى الله عليه وسلم من عادته إذا صلى العصر طاف على نسائه، وكانت حجر زوجاته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن مطيفات بالمسجد، ابتداءً من حجرة عائشة وحجرة حفصة التي كانت مقابلة لها.
والشباك الذي في واجهة جدار المسجد القبلي كان محله باب، وكان يقال له: (باب آل عمر) ؛ لأن حفصة كانت تسكن في مقابل حجرة عائشة، وكن إذا صعدن في الطابق الثاني يتناولن الهدايا من الشباك، فكان يبدأ من بيت آل عمر في الجنوب، ويطوف بالشرق، ثم يأتي إلى الشمال.
هكذا كانت حجرات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يطوف عليهن بعد العصر، فإذا مر بـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها استوقفته، وأتته بعسل، ومزجته بالماء وصنعت له شراباً، وكان يحب الحلوى والبارد، فيشرب العسل، فغرن من هذا، لماذا يخصها بالوقوف، ولماذا يشرب عندها العسل واستكثرن ذلك عليه، فبدأت مؤامرة حفصة وعائشة، كيف نمنعه من هذا الوقوف؟ وكيف نمنعه من هذا العسل الذي اختصت به زينب؟ فقلن فيما ببينهما: ليقل له من يأتيه قبل الأخرى أجد -كان ربما دنا وقبَّل- ريح مغافير، وهو نبات حلو الطعم كريه الرائحة، فيقول: لا.
أنا ما شربت هذا، أنا شربت عسلاً عند زينب، يمكن أن النحل رعى في ذاك النبات، فجاءت الرائحة في العسل، وكأنهن لا يعلمن شيئاً رضوان الله تعالى عليهن.
فلما جاء للأولى قالت له ذلك، ولما جاء للثانية قالت له ذلك، فحرمه على نفسه، ثم أصبح يمر على زينب كعابر سبيل كما يمر على غيرها، وفيما بعد عندما نجحت المؤامرة قلن فيما بينهن: والله لقد حرمناه من شيء كان يحبه.


موقف أمهات المؤمنين من زواج النبي بأسماء بنت النعمان
نأتي إلى ما هو أخطر وهو زواجه من أسماء بنت النعمان -من كندة- وكان النعمان -وهو سيد قومه- وفد ضمن الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام تسع من الهجرة عام الوفود، حتى إن ابن كثير يقول: إن الذئاب قد أرسلت وفداً لها إلى رسول الله.
ويذكر في الخبر: بأنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فجاء ذئب يخطر من بعيد حتى دنا من القوم، فأقعى وحرك ذنبه ورأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا وافد الذئاب إليكم، ماذا تنزلون له من أغنامكم ويكون بينكم مسالمة، قالوا: والله ما نعطيه ولا شيء.
فقال: اذهب وهه! هه! يعني: اختلس ما استطعت) .
فعام الوفود كانت كل القبائل ترسل فيه وفودها، وهي: إما قبيلة لم تسلم فتعلن إسلامها كثقيف، التي جاءت في العام التاسع، ونزلوا في المسجد النبوي.
إلخ، وإما أن تبعث وفوداً تجدد العهد على الإسلام والتزامهم بذلك، فجاء وفد كندة وفيهم النعمان، وكانت ابنته -وصاحب الإصابة يذكر في قول أنها أخته- وكانت من أجمل نساء العرب وأشبهن، فزوجها رسول الله، ثم أرسل بها إليه، تقول حفصة وعائشة: فلما رأيناها قلنا فيما بيننا: لقد وضع يده في العرب، وسيصرفنه عنا، والله لن يراها رسول الله إلا وانصرف إليها، فقامت عائشة وخضبتها، وقامت حفصة ومشطتها وهيآها لرسول الله -انظر المقدمات! - ثم قلن لها: إذا أردت أن تكوني ذات حظوة عند رسول الله ويكرمكِ ويحبكِ إذا أقبل عليك فقولي له: أعوذ بالله منك -يا سبحان الله! - والمسكينة ظنت أن هذا يقربها عند رسول الله، فامتثلته بغية الوصول إلى رضا رسول الله، فأخذ بكمه على وجهه وقال: (لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك) فلما رجعت كانت تقول: سموها الشقية؛ لأنها حرمت ذاك الفضل العظيم.
هل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة سألها من أمرك بذلك، من علمك هذا؟ هل عتب على حفصة وعائشة فيما فعلنه؟ لا؛ لأنه أدرك أن الدافع لهذا هو الغيرة، والغيرة ناشئة عن الحب والحرص على رسول الله.
نأتي إلى موضوع قصعة الطعام، وتحري الناس الهدية وبالطعام ليلة عائشة مرضاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عند بعض زوجاته، فصنعت إحدى أمهات المؤمنين طعاماً، وقلنا وكان من أحسنهن في الطعام صفية وحفصة، وهي رضي الله تعالى عنها تقول: ما رأيت صناعاً للطعام كـ حفصة، ثم جاءت قصعة حفصة قبل قصعة عائشة، تقول: فصنعت له طعاماً، وصنعت حفصة طعاماً، فجاءت قصعة حفصة قبل قصعتي.
وهناك روايات متعددة، والتحقيق: أن القصة بذاتها تعددت مع حفصة، مع صفية، مع سودة.
أربع مرات.
فلما انكسرت القصعة أمسكها الرسول، وجمعها نصفين، وفي بعض الروايات (قال: كلوا، غارت أمكم) ، وفي بعضها: (وضع الطعام على النطع -السفرة الممدودة-) ، وقيل: كان من الحيس -يعني: ليس مرقاً يتدفق- ثم جاءت قصعة عائشة التي كانت متأخرة، فدفعها بما فيها من الطعام للرسول الذي جاء بالقصعة الأولى، وفي بعض الروايات: قالت عائشة لما جاءت وبيدها فهر وضربت القصعة فكسرتها فانتبهت، وأدركت ما فعلت، قالت: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: (قصعة بقصعة وطعام بطعام) .
ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تدارك الموقف بالحكمة والتأني، وهل أحد من الحاضرين أو الغائبين وقف على نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المواقف أنه عنف على إحدى زوجاته أو سبها؟ لا والله؛ لأنه أدرك الدوافع، وأن القضية قضية صافية، والقلوب طاهرة، ويكفي أن عائشة قالت في الحال: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟ لو أنها من النساء الأخريات ما عليها انكسرت أو لا، وتصر على موقفها، ما هذه فقد تذكرت وتراجعت واعترفت وطلبت الكفارة.


موقف النبي صلى الله عليه وسلم من طلب أزواجه زيادة النفقة عليهن
أحب أن أنبه على قضية أكبر من هذه: أعتقد أن كل إنسان، ويمكن لأول مرة يسمع أن زوجات رسول الله كن قد خاصمن رسول الله بسبب مطالبتهن بالنفقة، وشددن الطلب، فتركهن غضباناً، وخرج إلى المشربة وظاهر منهن شهراً، حتى بلغ الخبر إلى عمر محرفاً بأن زوجات رسول الله طلقن، وكان عمر له جار في العالية يتفقان على المناوبة في رعي البستان وفي النزول إلى المسجد النبوي، ينزل أحدهما إلى المسجد النبوي مع رسول الله حتى المساء، ويحفظ ما يسمع، ويرجع إلى صاحبه يمليه عليه، بينما صاحبه هناك يراعي مصلحة النخيل، ومن الغد من كان في النخيل ينزل إلى المسجد النبوي، وهكذا دواليك.
فجاءه -أي: جاء عمر صاحبُه- وبعد المغرب ينادي عليه بشدة: يا عمر يا عمر! قال: ما شأنك، أجاء الروم؟ لأنهم كانوا يتوقعون مجيء الروم، قال: لا، الأمر أشد.
قال: وما هو؟ قال: طلق رسول الله زوجاته.
ومن إحدى زوجاته حفصة بنت عمر، فأخذ رداءه وذهب؛ فوجد الدنيا واجمة، ثم جاء من الغد ودخل المسجد، فوجد الناس واجمين، فسأل: أطلق رسول الله زوجاته؟ فلم يرد عليه أحد، ثم دخل على حفصة، قال: أطلقكن رسول الله؟ فظلت تبكي وما ردت عليه، قال: أين رسول الله؟ فأشارت إلى المشربة، وكان على الحجرة حارس منعه من الدخول على رسول الله، قال: استأذن لي على رسول الله.
فرجع وقال: استأذنت فلم يتكلم.
فاشتد الأمر على عمر، فانتظر برهة ثم قال: اذهب فاستأذن لي على رسول الله.
ثم بعد فترة قال: قد أذن لك يا عمر فاصعد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماً، فقال: أطلقت زوجاتك يا رسول الله؟ قال: لا.
فكبر عمر -الله أكبر (ثلاث مرات) - يقول عمر: فعزمت في نفسي أن أقول شيئاً يضحك رسول الله، وهذا الواجب على الصديق الوفي حينما يجد صديقه في أزمة، يجب أن يفتح له باب الحديث، ويطرق القلب ليعرف الموضوع، يجب أن تكون له فعالية، كما لو جاء إلى المريض لا يكون كلٌ منهما ينظر في الآخر، يجب أن يكلمه عن العافية، عن الثواب، عن الأجر عند الله، عن الأمور التي تفسح فسحة الأمل في الحياة.
لما قال: ما طلقت.
قال: خيراً، وسكت، ثم قال: يا رسول الله! لو رأيت فلانة -يعني زوجته- وهي ناشبة في وتقول: أعطني، أعطني.
وما عندي ما أعطيها، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي يطلبنني النفقة فيما ليس عندي.
إذاً: فتح الباب، وانحلت العقدة، فنزل إلى ابنته يطعنها: أغرك من بنت أبي بكر أن تقول على رسول الله؟! والله لولا أنا لطلقك، أتطلبين من رسول الله من النفقة ما لا يملك؟! لا تسألي رسول الله شيئاً، ما أردت من المسألة والحاجة فاسأليني أنا، ولا تكلفي رسول الله شيئاً.
وهذا موقف الصهر العاقل، ولو يدفع من عنده ويتحمل من نفقات ابنته في بيت زوجها لتظل الحياة الزوجية كريمة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، وضاق الأمر بزوجها ستعود إلى بيت أبيها، وستكلفه أكثر من هذا، فيكون هناك غض النظر في البذل والجود، وهناك تصلح الأمور وتستقيم الحياة الزوجية.
فهذه ناحية، الناحية الثانية هي التي ساقها البخاري: تضايقن، وكلمن سودة أن تكلم رسول الله في أن يكلم الناس بأن يوزعوا الهدايا حيثما كانت، وحصلت المناقشة والعرض، وثلاث مرات وهن يلححن عليه، حتى قال: (لا تؤذيني في عائشة) ، ولما رأوا هذه الواسطة ما نفعت ذهبوا إلى فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، فكلمته، قال: (ألا تحبين ما أحب يا ابنتي؟ قالت: بلى.
قال: لا تؤذيني في عائشة) ، ثم جاءت زينب بنت جحش وفعلت ما فعلت، ولقيت ما لقيت، وانتهى الأمر بأنهن ما وصلن إلى شيء.


نصرة الله لنبيه ولو على أزواجه
زوجات رسول الله تقسمن فيما بينهن على رسول الله وحن حزبين، ثم جاء حزب ثالث -إن صح هذا التعبير مع التجوز- ينضم إلى رسول الله مناصرة له، اقرءوا إن شئتم قوله سبحانه: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ} [التحريم:4] انظروا إلى الأسلوب البلاغي! {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، لو كان في غير القرآن يمكن أن يقال: فإن الله مولاه، لكن يؤتى بضمير الشأن لتقوية الخطاب والبيان، وهو من تعلمون رب العزة {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] .
نحن قلنا تجوزاً: الحزب الثالث، أو الحزب الثاني مقابل أمهات المؤمنين هو الله وجبريل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة ظهيراً.
انظر إلى هذا التعداد: الله، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة، أمام تسع نسوة، وهل لدى النسوة من الفاعلية ما يحتاج إلى تجنيد كل هذا؟ وكان يستشهد ببيت واحد من شعرائهم، يقول: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن ولا يستغرب بعض الأشخاص أن يسمع أن زوجات رسول الله تحزبن عليه؛ لأن هذا من طبيعة النسوة، ومن دافع المحبة والغيرة، والله سبحانه وتعالى عاتبهن وحذرهن، وقبل كل شيء فتح لهن باب التوبة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] وهذه القضية بين حفصة وعائشة فيما أمر ما، فقد صغت وصفت وانتهت قلوبكما {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ.
} [التحريم:4] .


صبر أمهات المؤمنين وتعففهن
إن تلك الحياة التي مرت ببيت النبوة مع ما فيها من أحداث لها جانب آخر يحكي ما كن عليه أمهات المؤمنين من الصبر والتعفف والزهد في الدنيا، كما قالت أم المؤمنين: كان يمضي على بيت رسول الله الهلال والهلال والهلال -شهران بين ثلاثة أهلة- لا يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا} [الواقعة:71-73] ، تنضج طعامك، تصنع الشاي، وتصنع وتصنع على النار، أما هنا فلا يوجد، فما كان طعامكم يا أماه؟ قالت: الأسودان: التمر والماء.
ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فيرسل إلى أمهات المؤمنين واحدة تلو الأخرى: من كان عندها طعام فليأت بعشاء الضيف، فكل واحدة تعتذر: ليس عندي شيء، تسعة بيوت ليس عندهن عشاء للضيف! فيتوجه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: من يستضيف هذا هذه الليلة وله الجنة؟ أحضروا المقاييس، أحضروا الموازين، أنت تعلم بأن الثمن يعادل المثمن، هذا قيمته ألف ريال، ولو قلت: ألفي ريال فذلك يكون زائداً عن السلعة، ولو قلت: مائتي ريال تكون ناقصة عن السلعة، فعادة يكون الثمن معادلاً للمثمن، فأي ليلة هذه التي ثمنها الجنة؟! الآن أبسط واحد منها الآن بمقدوره أن يعشي عشرة أشخاص، لكن في ذلك الوقت تسعة بيوت لرسول الله ليس فيها عشاء الضيف، كيف كانت تلك الحياة؟ والشيء إذا قل أو انعدم لا يثامنه شيء.
إذاً: (فله الجنة) ؛ لقلة الطعام وندرته، وجاء في القصة: أن الذي ذهب به إلى بيته قال لزوجه: هل عندك من طعام لضيف رسول الله؟ قالت: لا والله إلا عشاء العيال.
قال لها: علليهم حتى يناموا دون عشاء، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأحرك يدي في القصعة تلتقي مع يد الضيف، أوهمه أني آكل معه، وما أنا بآكل، ولكن أوفر له الطعام.
انظروا إلى هذه الحيلة: أولاده ينامون جوعاً بلا عشاء، وكذلك الزوجة والزوج والطعام بين أيدهما، ولو كان بعيداً لقلنا: صابر، لكنه أمامه، ولا يرفع منه شيئاً إلى فيه.
إذاً: الطعام كان متوفراً.
هذا أحسنهم حالاً الذي رضي أن يأخذ الضيف ليضيفه تلك الليلة، وإذا به ليس عنده إلا عشاء عياله، فيحتال هو وأم العيال على توفير عشاء الضيف.
والله لا أريد أن أقول: إن له الجنة؛ لأنها لو كانت قليلة في هذا أو كثيرة فالرسول قال له: (وله الجنة) .
فلما غدا بضيف رسول الله في الصباح استقبلهما صلى الله عليه وسلم متبسماً وقال: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة) ، العملية تضحك فعلاً أن يحتالا لإشباع الضيف على جوع: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ، وليسوا كل الناس: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: بلى.
وهنا أحاديث الصفات، وكذلك الصحابي مر بها وقال: لا عدمنا خيراً من رب يضحك.
هذا تعليقه على صفة الضحك لله، أكثر من هذا لا يوجد، وهكذا كن في بيوت رسول الله تمضي عليهن الليالي وليس عندهن عشاء ضيف! إذاً: كانت تلك البيوت مساكن لهن، ومعاهد لما يجرى فيها من آيات الله والحكمة، وكن يعلمن الناس سواء مباشرة أو عن طريق النسوة، أو بواسطة الزوجات للأزواج، كما قالت أم المؤمنين عائشة للنسوة: مروا أزواجكن أن يستنجوا بالماء، فإني أستحيي منهم.
وهكذا -أيها الإخوة- علينا أن نجدد دراسة حالات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسبق أن كتبت مقدمة بحث في السيرة النبوية وأنها تنقسم إلى قسمين -في نظري-: سيرة ذاتية، وسيرة تبليغية، والسيرة الذاتية: هي ما كان يتعلق بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاته وبيته وفيما يخصه، والسيرة الرسالية: ما كان فيها تبليغ الرسالة للأمة.
والحمد لله رب العالمين.


كتاب البيوع - باب الغصب [2]
لقد حرم الإسلام الغصب وحذر منه، ورتب عليه الوعيد الشديد، وضمن لمن غصبت أرضه حقوقه، وجعل بين الغاصب والمغصوب حقه سبلاً وطرقاً للصلح، فحكم على من غرس بقلع غرسه، وعلى من زرع بأخذ نفقته.


حكم من زرع في أرض بدون إذن مالكها
قال المصنف رحمه الله: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، ويقال: إن البخاري ضعفه] .
بالتأمل فيما ساقه المؤلف رحمه الله في باب الغصب، وما تقدم في اغتصاب شبر أو شيء من الأرض، والتحذير والوعيد الشديد من الظلم والاغتصاب، وجاء بحديث القصعة، وبيان أن الغصب معه قيمة المتلفات، ولهذا يقول ابن رشد: البحث في الغصب من عدة جهات، منها: من جهة أن المغصوب إذا وجد بعينه رد إلى صاحبه بتمامه بلا خلاف، أما الطوارئ فبخلاف ذلك، والطوارئ: هي المتغيرات التي تحدث في المغصوب، بأن غصب غزلاً فنسجه، أو شاة فذبحها.
إلى غير ذلك مما يطرأ على المغصوب من زيادة أو نقص.
ثم جاء المؤلف رحمه الله بهذين الحديثين، ويمكن أن يقال: إن أحد الحديثين يغني عن الآخر، كحديث: (من غرس النخل حكم بالأرض لصاحبها، ولصاحب النخل أن يرفع نخله) ، ثم جاءت القضية العامة: (ليس لعرق ظالم حق) ، لكنه جاء بالحديث الذي قبله فيما يتعلق بالزرع، فكان أحد الحديثين يتعلق بالزرع، والآخر بالغرس.
وفرق بين الزرع والغرس: أن الزرع -كما يقولون- زراعة موسمية مؤقتة، وأقصى ما يكون مدته في الأرض ستة أشهر على حسب نوعية المزروع، وإن كان البعض قد يتجدد على جدات -وخاصة في الحجاز- إلى خمس سنوات، وهو نوع من البرسيم، وفي غير المدينة يسمى البرسيم الحجازي.
فالزرع مهما كان له أمد، فهو بخلاف الغرس فإنه يعمر طويلاً، فالحديث الأول: (من زرع في أرض قوم) ، ولم يقل: غرس، وللمغايرة بين الحديثين اختلف العلماء، ونحن نأخذ مدلول الحديثين كلاً على حدة، ثم نرجع بالنظر بين الحديثين، وخلاصة ما ذكره العلماء في هذه القضية المزدوجة.


حكم استخدام العين في غير ما أجرت له
(من زرع في أرض قوم) ، والقوم للجماعة، فمن زرع في أرض غيره، وهو لا يملكها أو هي مملوكة للآخرين، فما حكم هذا الزرع الذي زرعه في ملك غيره؟ هذه هي القضية الأولى، وقد حكم فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء) فلو استأذنهم: أعيروني الأرض أزرع فيها.
لا مانع، وإذا استأجر منفعة الأرض عين الأرض، كما يقول الفقهاء: عقد الإجارة عين على منفعة مضمونة، تستأجر الدار وتشتري الدار، فإذا اشتريتها ملكت عينها، ولك الانتفاع بها بما شئت من امتثالك بما تملك، لكن استأجرتها، فأنت اشتريت المنفعة التي يمكن أن تؤخذ من الدار.
وما المنفعة؟ كل بحسبه، إن كان هناك نص على عين المنفعة التي تستوفى فهي المعقود عليها، استأجرتها مدرسة، أو مستودعات، أو للسكنى، فعلى ما عقدت عليه، ولا يحق لك أن تستفيد من الدار بمنفعة أكثر مما استأجرتها من أجله استأجرتها لتسكن أنت فيها وعيالك، فلا يحق لك أن تجعلها مستودعات؛ لأن المستودعات تضر بالبنيان أكثر من السكنى؛ لأن فيها البضائع والمطعومات، وربما جاءت الفئران، ويكون الأخذ والرص الذي يهز الجدران، فلا يجوز ذلك.
وكذلك لا يجوز لك أن تجعلها مدرسة؛ لأن المدرسة تضم الأطفال، أو غير العابئين بالمسئوليات والقيم، فتكون مضرتها على البنيان أكثر من السكنى، أما إذا استأجرتها لمدرسة، ثم هونت من المدرسة وسكنت، فالسكنى أقل إرهاقاً على البنيان من المدرسة؛ فلا مانع، كما لو استأجرت سيارة لنقل الأحجار، ثم ما وجدت أحجاراً فنقلت أخشاباً أو برسيماً، وإذا ما وجدت برسيماً ركبت أنت، فكلما كان استيفاء المنفعة مقابل المعقود عليه كان أوفى بالعقد، وإن نقصت فلا مانع، أما إن زادت عن المعقود عليها فلا يحق لك ذلك.


ما يلزم به صاحب الأرض إن أذن بالزرع
إن زرع الأرض بإذن أصحابها، فهذا يكون منهم بمثابة التنازل عن حقهم بالاستفادة من الأرض، وإن سمحوا له بالاستفادة منها فلا يحق لهم بعد ذلك أن يعارضوا أو يطالبوا برفع الزرع؛ لأنه وضع بالعدالة وليس بالظلم، ووضع البذر وحرث وسقى ونبت بإذنهم ورضاهم، فلا يحق لهم بعد أن وصل الزرع إلى مرحلة ما قبل الحصاد أن يطالبوا برفعه، كمن أعار سفينة لإنسان أو أجّره إياها، وجاء في عرض البحر وقال: رجعت عن الإعارة، أعطني سفينتي، الإعارة عندك مؤقتة، ولصاحبها أن يطلبها حيث شاء، ولكن هل وسط البحر موضع تسليم؟ وأين أذهب بمن فيها؟! لا يحق له ذلك؛ لأنه أعارها وهو يعلم بأنه سيعبر بها النهر.
وكذلك الأرض إذا زرع فيها بإذن أهلها، ونبت الزرع، وقارب الحصاد لا يحق له أن يرجع في هذا الإذن؛ لأن فيه مضرة على الزارع وتغرير به، ويجب عليه أن ينتظر حتى يستحصد الزرع ويأخذ زرعه، ويقول له: خذ أرضك.
أما إذا كان زرع بغير إذنهم فتلك المنفعة التي يريد أن يأخذها من الأرض فالزرع ملك لأصحابها، ولم يأذنوا لك فيها: (ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وهم ما طابت أنفسهم بها، فجاءوا يطالبونه.
ولو أنه اغتصب الأرض -على رأي الجمهور بأن الغصب يدخل في العقار غير المتحرك، أي: في المملوك الثابت كالأرض والبنيان، خلافاً للأحناف؛ فإنهم لا يرون الغصب في الثوابت وإنما في المتحركات المتحولات- فإذا اغتصب الأرض واحتواها، فعلم بذلك أصحابها، فجاءوا والأرض على ما هي عليه، لم تدخلها الزيادة والنقصان.
كأن يأخذ من ترابها إلى جهات أخرى؛ فتصبح الأرض مجرد حفر أو منخفضة عن جاراتها، وتصبح في هذه الحالة غير صالحة للزراعة حتى تسوى، ويرد لها ما أخذ منها، فيكون هناك نقصان، فإذا أدرك صاحب الأرض أرضه تحت يد الغاصب كما هي ردت إليه بعينها بالإجماع، وليس لهم على الغاصب شيء، وليس للغاصب عندهم شيء، بقي الحق العام -كما يقال- فكونه يتعمد الاعتداء على مال الغير، هذه فوضى، فولي الأمر له أن يعزره على تعديه.
أما إذا جاء صاحب الأرض ووجد الزرع، فماذا يكون الحكم؟ هذا يقول: أرضي، والآخر يقول: زرعي.
ماذا نفعل معهما؟ الحديث صريح: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) .
نسأل الزراع: الزرع هذا كم عمره؟ ومتى يحصد؟ بعد ثلاثة أشهر.
إذاً: الزرع لم يأت بالحب في الوقت الحاضر، وجاء صاحب الأرض يطالب بأرضه، فيقال لصاحب الزرع: ليس لك من زرعك شيء؛ لأنك وضعت البذرة، وسقيت الماء فقط، والنبات الذي نبت نموه من الأرض، والأرض ملك لغيرك، فيكون الزرع ملك لغيرك، وما أنفقته حتى صار الزرع إلى هذا الحد فهو حقك، وضعت بذراً فيها بعشرة، وحرثتها بخمسة، وسقيتها ماءً بخمسة، نفقتك على الزرع وصلت إلى هذا الحد فلك هذه النفقة، هذا ظاهر هذا الحديث والله أعلم.


صورة الصلح بين المتنازعين على الأرض
في هذه المسألة الواردة في هذا الحديث وسع الفقهاء رحمهم الله التفصيل فيها، وقالوا: إذا لم يكن له من الزرع شيء فله النفقة، والزرع يرجع لصاحب الأرض فهل يلزم الزارع بأخذ النفقة فقط ويترك الزرع، وهل يلزم أصحاب الأرض بأن يدفعوا النفقة ويأخذوا الزرع؟ لو قالوا: لا نريد الزرع، ليأخذ زرعه، لن ندفع شيئاً ماذا يقال لهم؟ في هذه الحالة يخير أصحاب الأرض: في أن تحسب عليه الأرض بالإيجار إلى أن تستحصد، ويكون كالمستأجر من غيره، وبهذا نكون قد جمعنا بين المصلحتين: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ صاحب الزرع يأخذ زرعه، وصاحب الأرض يأخذ أجرة مثلها، فنكون ضمنا لصاحب الأرض حقه وفائدته من أرضه، وحفظنا على الغاصب زرعه، وقد دفع أجرة الأرض.
وابن حزم يشنع على الفقهاء في هذه القضية، ويقول: على هذا فكل من يريد أن يغصب أرضاً ما عليه إلا أن يذهب ويزرع فيها وسوف يدفع الأجرة ويأخذ الزرع، فهذا يمكن المعتدين من زيادة الاعتداء.
ولكن الفقهاء يقولون: يجب مراعاة المصلحة، فقولنا له: خذ زرعك وهو إلى الآن لم يستحصده، ماذا سيفعل به؟ سيعدمه، ويتلفه، وإتلاف المال لا يجوز، فإذا أمكن الاستفادة من هذا المال في المستقبل نحافظ عليه، وأنت يا صاحب الأرض لما فاتت عليك مصلحة أرضك، نضمنها لك بالأجرة.


قضاء رسول الله في الغارس بدون إذن
[وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: (قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، غرس أحدهما فيها نخلاً والأرض للآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخلة أن يخرج نخله، وقال: ليس لعرق ظالم حق) ] .
قبل الكلام على هذا الحديث ننظر ما يقوله العلماء في شأن اختلاف الناس في أحكام الأراضي، وخاصة الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن عمل أهل المدينة هو القدوة، وكما يذكر عن مالك أنه قال: إن العالم كله في الأراضي والمساقاة والمزارعة تبع لأهل المدينة؛ لأنهم كانوا يعملون فيما بينهم فيتفقون تارة ويختلفون أخرى، فإذا ما وقع خلاف بينهم كان مرده إلى رسول الله.
إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على الخلافات التي تقع في الأراضي، وليس هذا في قطر من أقطار الدنيا، وكل العالم يتتبع ويسأل: ماذا فعل رسول الله في مثل ذلك؟ ماذا قضى في ذلك؟ وما ينقل عن أهل المدينة في مثل هذه القضايا فهو نقل لأصل عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو أن هذان الرجلان في الشام أو مصر أو اليمن ووقع النزاع بينهم، فإنهم سيختصمون للعلماء الذين سوف يبحثون عما فعل وقضى به رسول الله في هذه المسألة، وسيرجعون إلى عمل أهل المدينة في هذه المسألة.
رجلان اختصما كل منهما خاصم الآخر، صاحب الأرض يخاصم في أرضه، وصاحب النخل يخاصم في نخله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شخص غرس نخلاً في أرض قوم، فجاء أصحاب الأرض يخاصمون في أرضهم ويطلبونها فقضى رسول الله بأن الأرض لصاحبها.


تولية الرسول للقضاة من أصحابه
النص هنا: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها) .
إذاً: الرسول تولى القضاء بين الأفراد، وهذا مصداق قول الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] .
ثم قد يولي قضاة في ما بعد عنه، كما وقع لـ معاذ رضي الله تعالى عنه حين بعثه إلى اليمن، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فكان معاذ قاضياً وأميراً وجابياً للزكاة والجزية، وكان هناك عمال أيضاً للزكوات في أقاليم اليمن، وكان معاذ هو المشرف عليهم، ويتنقل ما بين حضرموت إلى صنعاء، وأبو موسى في مكانه، ولذا سأله: (بم تقض يا معاذ؟ قال: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ -لأن كتاب الله نصوص محدودة- قال: بسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي) .
وهنا العلماء يزيدون بعد قول معاذ بم يقض القاضي؟ بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد هل يجتهد رأيه؟ لا؛ لأنه غير معاذ وقد تقدمه من أهل الحل والعقد، من هم أهل العلم وأدرى بالحكم، فينظر في أقضية أصحاب رسول الله، هل في هذه القضية نص عن صحابي، أو عن خليفة راشد؟ فـ معاذ يقف عند حد الكتاب والسنة، ثم يعطي لنفسه حق الاجتهاد، وغير معاذ ممن يأتي بعده أمامه جبال راسيات، فعليه أن يبحث في حكم النازلة في الكتاب، ثم السنة، ثم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فإذا وجد عنهم أقضية في قضيته أخذ بها، وإذا لم يجد اجتهد رأيه؛ لأنه لم يبق هناك من يرجع إليه.
قضى صلوات الله وسلامه عليه لصاحب الأرض بأرضه.
(وأمر صاحب النخل) ، والأمر والقضاء سيان؛ والقضاء ملزم أكثر من الأمر، (وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله) هذا الحد الأدنى في القضاء، ولكن لكل قضية ملابساتها وجوانبها، فلو أن صاحب الأرض قال: لا تتعب نفسك، ولا تقطع النخل وتخسره وتفسده، وبمقدار ما أنفقت عليه أعطيك نفقته واترك لي النخل، ولهذا قال: (أمر) ولم يقل: (قضى) ؛ لأن القضاء ملزم، والأمر قد يأتيه بعض عوارض فتصرفه.


كيفية الصلح بين المتنازعين
لو اتفق صاحب الأرض مع صاحب النخل أن يتركه له، وأحياناً يمكن الاستفادة من رفع النخلة من مكان إلى مكان آخر، والاستفادة منه كغرسه، وأحياناً لا، وجاءت الروايات في هذا الحديث: (وإني لرأيتها تضرب بالفئوس وإنها لنخل عم -يعني طويلة-) يعني: لا يوجد رافعة لتنقلها في أرض أخرى، ولا يمكن رفعها إلا بتكسيرها، فحينئذ تكسر، وهنا في أول الحديث: أن الرجل غرس في أرض قوم؛ فلو أنه حينما جاء يغرس بحث فلم يجد لها معالم، وهي أرض بيضاء صالحة للزراعة، ولا يوجد فيها آثار تملك، وظنها أرض بيضاء لا ملك لأحد عليها فغرس.
هل معنى الظلم والتعدي موجود أم أنه الخطأ؟ حتى ولا الخطأ؛ لأنه رأى أرضاً بيضاء ليس فيها معالم تملك، والفقهاء ينصون في باب إحياء الموات: أن من أحيا أرضاً ميتة ملكها، وإذا استمر في إحيائها عشر سنوات، ثم مات وجاء أولاده فلم يستطيعوا الاستمرار في الإحياء فتركوها حتى اندثرت معالم الإحياء، وعادت مواتاً كما كانت قبل أبيهم، فهل يجوز لأحد أن يعيد إحياءها لنفسه لأنها صارت مواتاً أو لا يجوز ذلك؟ النزاع في هذه المسألة موجود، وعند الحنابلة لا يجوز ذلك؛ لأنه سبق عليها ملك لغيره.
هنا: إذا علم أن الأرض لقوم وغرس فيها بغير إذنهم -كما جاء في الزرع- وجاء بالوديان معتمداً وحفر الفِقَر وغرس النخل وسقى وكبر النخل وأثمر، ثم جاء صاحب الأرض - مسافراً، مسكين، مريض.
- ولم يعلم، بخلاف ما إذا علم من أول وهلة، ورآه يحفر، ولم يسأله، وتركه حتى جاء بالودي وغرسه وسقاه، وترك الأمر حتى صارت نخلاً عُماً، وأصبحت تؤبر وتثمر، وجاء يقول: أعطني أرضي ولماذا سكت حتى غرم هذا كله، وانتظرت حتى أصلحها ثم قلت له: أعطني أرضي؟! ولهذا يقول الفقهاء: هل يمكن الانتفاع من هذا النخل وهذه حاله أم لا؟ جاء الحديث بأنه ما كان يمكن في ذلك الوقت؛ لأنه صار نخلاً طوالاً، ولا يمكن رفعه وحمله وسحبه إلى أرض أخرى لكي يغرس فيها، واللفظ الآخر: (رأيتها تضرب بالفئوس) معناها: تحطم؛ لماذا؟ أليس هذا من إتلاف المال؟ نعم، ولكن قبل إتلافها الأمر صدر والحكم مضى، ولكن الحق لا يتعدى صاحب الأرض وصاحب النخل؛ فإن اتفقا فقال صاحب الأرض: اشترِ الأرض، وتبقى لك الأرض مع النخل.
فلا مانع، وإذا قال صاحب النخل: اشترِ مني النخل، واتفقا لا مانع، لكن هو ليس بمشتريه، وقد صدر فيه أمر بأن ينزع، لكن إن كان من باب الإصلاح واتفقا على ذلك فلا مانع.
لكن يأتينا هنا الأمر برفع النخل، وهناك في الزرع: (له النفقة) ، وهنا لم يقدر له نفقة، بل النخل يقطع ويرفع بعينه، إذا كان النخل المثمر هذا يقطع ويتلف فهل نبحث له عن نفقة؟ لا؛ لأنه أنفق في شيء لا يملكه، والأصل فيه التعدي.


مناسبة تشبيه المغتصب بعرق الظالم
ثم قال: (ليس لعرق) هنا بعض العلماء يقول: يجب أن يختلف الحكم في اغتصاب الأرض بزرع، أو اغتصابها بغرس؛ لأن الزرع جعل فيه صلى الله عليه وسلم نفقة الزرع للغاصب، والنخل لم يجعل له فيه شيء، وأشاروا بأن الزرع مؤقت والغرس مستديم، وبعضهم يقول: إن قلنا: (ليس لعرقِ ظالم) .
إذاً: الظلم نسب لصاحب العرق، وإذا قلنا بالتنوين: (ليس لعرقٍ ظالم) أسندنا الظلم للعرق، وإسناد الظلم للعرق مجاز، فالأولى إسناده لصاحب العرق.
وإذا اجتث نخله؛ لأنه عرق ظالم، كانت الأرض صالحة لأنه يأتي بالحراث ويحرث ويبذر القمح، أو لتخطيط أشجار موالح، كانت وكانت.
يقول الفقهاء: إذا اجتث النخل عليه أن يجتث أصول الصنو في الأرض، ثم عليه أن يسوي الحفر التي نشأت عن قلع النخيل من أصله، ويسلم الأرض غير ناقصة المنفعة؛ لأنه إذا قطع النخلة من وجه الأرض كان الباقي تحت الأرض أكثر من الذي قطع من أعلى، ويعيق الزراعة والغرس، ويحتاج إلى مئونة وكلفة، لذا على صاحب العرق الظالم أن يرفع عرقه برفع جذور النخلة، ومن المعلوم أن جذور النخلة تمتد إلى عمق الأرض.
لا نقول له: اتبعها في باطن الأرض وأخرجها لا.
يقول علماء النبات: إن سطح الأرض هو الخط المنصف بين جذور الشجرة في باطن الأرض وبين جذعها وأغصانها، أي: أن النخلة لها جذور في باطن الأرض، لو اجتمعت لكانت مثل طول النخلة إلى رأسها، وكذلك جميع الأشجار، وأصحاب المزارع يعرفون ذلك، شجر الأثل إذا كان قريباً من البئر تمتد عروقه إلى قاع البئر، وربما أفسده، وهذه -كما يقولون- عملية توازن؛ لأن الشجرة ذات جرم كبير، وهذه السارية الموجودة عندنا الآن على سطح الأرض، هل جيء بعمود ووسد على سطح الأرض أم أن تحته قواعد عميقة يمكن أن تمسك هذه السارية، وتمسك ما يأتي فوقها؟ فكذلك عروق الشجرة، هي في باطن الأرض تعادل أعلى الشجرة حتى يمكن أن تصلبها، وإذا جاءت رياح عاتية ما الذي يمسك الشجرة ألا تذهب مع الرياح؟ إنها تلك العروق التي في بطن الأرض المتعادلة مع ظاهر الأرض من تلك الشجرة.
فلا نقول لصاحب النخل: تتبع كل عرق حتى ينتهي، لكن نقول: مجموع الصنو، وهو منتهى الشجرة ومجموع عروقها، ينتزعه، ثم بعد ذلك يسوي الأرض.


كيفية نظر القاضي للخصومات
هنا -يا إخوان- مسألة: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرقِ ظالم حق) عممه الفقهاء في كل ظلم، فلو أنه جاء إلى أرض إنسان، وله أرض بجوارها في مخطط واحد، وجاء هذا ليبني، فتجاوز عن حده إلى أرض الجار بمتر، وبنى، فإن البنيان الذي قام على أرض الجار بزحف المتر عرق ظالم، ويحمل عليه وإن لم يكن هناك عروق، وإن كان مبانٍ فهناك قواعد، حتى وإن كان بنياناً عادياً؛ فكل عمل وقع في ملك الغير له دوام وثبوت أطلقوا عليه عرق ظالم.
ولكن هل هذا الحديث يمكن أن يطبق في كل صغيرة وكبيرة؟ قال لي والدنا الشيخ الأمين حينما كلفت بالقضاء وجئت أستشيره ماذا أفعل؟ قال: أوصيك بتقوى الله والتأني والتريث في فهم القضية، فلكل قضية ملابساتها، ولا يوجد قضية مثل الثانية، ثم تبين لي فيما بعد أن القضايا تدخل المحكمة كما يدخل الأشخاص، لا يوجد اثنان متفقان، حتى التوأم فيهم بعض المخالفات في الشكل، فكذلك القضايا، كل قضية تدخل المحكمة ففيها بعض المغايرة عن أختها ولو كانت من نوعها، هذه قضية سرقة، وهذه قضية سرقة، خمس قضايا سرقة لا يمكن أن تكون القضايا الخمس متفقة في كل الملابسات.
ومن واقع العمل: نجد أن هناك بعض الأمور قد يتمسك فيها بعض الأشخاص بهذا الحديث وهي من التوافه، كما وقع من إنسان اشترى قطعة أرض من مخطط، ثم تقدم إلى الأمانة، وعملت الذرعة والتطبيق وأعطي الرخصة وحفر وبنى إلى أربعة أدوار، ثم بعد خمس سنوات من بداية البناية جاء الجار، وقال: إن صاحب العمارة تجاوز علي بخمسة عشر سنتيمتراً، وأنا أطلب هدم العمارة وإرجاعه عن حقي وتسليم أرضي كاملة.
بعد خمس سنوات وهو ساكت! ولما رأيته قلت له: هذا البيت من يسكن فيه؟ قال: أنا، قلت: ألم تره عندما حفر القواعد ورفع الأعمدة، حتى بنيت أربعة أدوار ثم تأتي وتقول: هذا حقي؟! هو يريد أن يشهر بهذا النص سلاحاً قوياً، ولكن هل يتحقق موضوع الغصب والظلم في هذه القضية؟ ثم قال المدعى عليه: والله أنا لا أعرف ذرعة، ولا أعرف أن هذه من حق غيري، أنا عندي صك فيه ذرعة محددة، وتقدمت لطلب رخصة، والأمانة جاءت بمهندس، والمهندس ذرع المخطط، ووضع للمقاول علامات، وأنا ليس لي دخل في هذا ولا أعرف هذا.
فلو طبقنا فعلاً هذا النص هل تحقق الظلم من صاحب العمارة، أم أن هذا من باب الخطأ، أو ما يسمى بالتجاوز الذي يمكن أن يعفى عنه أو يغتفر؟ هنا خمسة عشر سنتيمتراً في قطعة ضلعها ثلاثون متراً، ماذا يكون هذا؟ مسألة: رأيته يحفر ما سألت، رفع الأعمدة ما سألت، سقف الدور الأول ما سألت، لماذا سألت الآن، من الذي أدراك بأنه اغتصب من أرضك؟ قال: قال لي الناس، قال الناس ليس بصحيح، أتت الهيئة وذرعوا أرض العمارة، فما وجدوا أي تجاوز.
قال: كان هناك سور وتعداه.
تعال احفر جنب جدارك ونرى السور، فأتوا حفروا فما وجدوا شيئاً، ما ثبت الظلم هنا.
فقال: لا.
(ليس لعرق ظالم حق) ، أين تحقيق الظلم الذي وقع من هذا الشخص؟! أخيراً: طلبناً تقدير هذا الذي يدعيه، وإن كان غير ثابت عندنا، لكن من باب مصالحة، وقلنا: هذا حقك أربعمائة ريال.
قال: لا أريد.
ورفعت للتمييز وصُدق الحكم، وأتينا قلنا له: خذ حقك.
قال: لا أريده.
فحولناه إلى بيت المال، وبعد أربعة أو خمسة أشهر جاء وقال: أعطني حقي.
قلت له: حقك عند بيت المال، اذهب وارفع دعوى عليه وخذ حقك منه.
إذاً: تطبيق النصوص لابد أن يراعى فيه المبادئ الأساسية.
فقوله: (غرس في أرض قوم) يعني: عمداً؛ لأنه يعلم أنها أرض قوم، فإذا لم يكن هناك العمد، ولم يكن هناك تعريف الغصب بالقوة والقهر، فتطبيق النص ليس متأتياً.


احتياط القاضي في القضايا المالية والتعويضات
إن مما هو جار على ألسنة الكثيرين: ما يقع من النزاع بين الزوجين، وتطلب الزوجة المخالعة، وقد عرضت عليّ قضية كان الوكيل فيها من طلبة العلم الأخيار، والموكل عنها أيضاً من أسرة أبو طالب علم من الأخيار، فعرض الخلع، فقال وكيل الزوجة: نعطيه ما دفع، وهذه عند الناس جارية.
متى كان الزواج؟ قالوا: منذ اثنتي عشرة سنة.
لابد أن يوجد هناك رأي خاص، وهل ما دفعه من اثني عشرة سنة هو بعينه اليوم في القيمة الشرائية، ثم جلست في لجنة وفيها من قادة وأخيار أهل المدينة، أربعة أشخاص، وجاء في هذه القضية، فقال رجل منهم: والدي تزوج أمي بريال، فجاءت المناسبة: لو أرادت أن تخالع بعد أن صرت أنت رجلاً كبيراً تدفع ريال؟! فقلت له: إن القيمة الشرائية تختلف من اثني عشرة سنة إلى اليوم.
قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته) ؟ هذا المعنى الملتحق في أذهان طلبة العلم، نعم قال ذلك، ولكن هل الحديقة في عينها كالنقد بالريال؟ لا، من عشرين سنة كان الريال الفضة مستعمل، ثم جاءت الريالات الورق، وكان الريال الورق محبب ومقدم عند الناس على الفضة، وكان من أراد الحج والسفر جاء بمائة ريال فضة ومعها ريالين للصراف ليأخذ ورقة بمائة ريال، حتى تكون خفيفة في الحمل، الآن الريال الفضة صار سلعة وهدايا عند الزواج، فتغيرت الأوضاع.
فقلت: يا فلان! أنت تعلم أن القيمة الشرائية للمال تختلف بحسب الزمن، ولكن الحديقة هي بعينها، إن ارتفعت الأسعار ارتفعت معها، وإن نزلت الأسعار نزلت معها، فهي بعينها لم تنقص ولم تزدد، فإذا كان الصداق حديقة نعم تردين الحديقة عليه، لكن إذا كانت نقداً، والنقد في ذلك الوقت يختلف عما هو عليه الآن إذاً: القيمة الشرائية للصداق الذي دفعه الرجل من اثني عشرة سنة تعادل القيمة الشرائية لنفس المبلغ الآن بنصف القيمة، فيكون خاسراً لو أنه أخذ ما دفع.
إذاً: هذه النصوص بعمومها يجب أن تؤخذ بالموازنة، وبملابساتها، ويراعى حديث: (لا ضرر ولا ضرار) .


مبحث فيما يطرأ على العين المغصوبة
لقد فرع الفقهاء رحمهم الله على مسألة النخل -ولا يزال في كل ما يمكن أن يقال فيه: إنه غصب وطرأت عليه الطوارئ- مسألة ما يطرأ على المغصوب كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: البحث في أصل الغصب وعين المغصوبة، والبحث في الطوارئ التي تطرأ على المغصوب.
مثلاً: إنسان اغتصب سيارة، ثم مكثت عنده شهراً، ثم رأى إطاراتها قديمة، فذهب وغير لها الإطارات الأربعة، وجاء صاحبها يطلبها، هذه السيارة حصل فيها زيادة.
إذاً: هناك طوارئ، ولنقل: لم يغير الإطارات ولكن أحد الإطارات تلف وتركه مركوناً بجانب الباب، فجاء صاحبها يطلبها.
فهل بقيت على ما كانت عليه وقت الغصب أو نقصت؟ نقصت.
إذاً: ينظر في هذه العين مع نقصها.
وهناك من يقول: إذا حصلت هناك زيادة بفعل الغاصب دون مادة يضيفها؛ فلا شيء له في فعله، ويردها كما هي، وإذا حصل هناك نقص فهو ضامن لهذا النقص في تلك العين التي اغتصبها؛ لأنه مكلف بأن يردها كما هي.
وتقدير هذا النقص يكون بحسب قيمتها يوم أن اغتصبها أو يوم أن يردها؟ نجد هناك الخلاف: من يراعي أصل السلعة يوم اغتصابها؛ قال: يرد قيمة الناقص يوم اغتصبها، والنقص؟ كأن يكون اغتصبها قبل ستة أشهر، والنقص حصل بالأمس، فيقدر هذا النقص من يوم اغتصبها.
والآخرون يقولون: يقدر حين يردها؛ لأنها تحت يده إلى أن تؤخذ منه.
وهذا الخلاف موجود حتى في بعض المذاهب فيما بينهم، كما هو منصوص عند بعض المالكية، والباب -كما يقال- فروعه متعددة، وما وجدت تفريعات أكثر منها في المغني لـ ابن قدامة، وكشاف القناع للحنابلة أيضاً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


كتاب البيوع - باب الغصب [3]
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته التي خطبها يوم الحج الأكبر أبرز معالم الإسلام وأصوله التي اشتملت عليه؛ إذ بها تقوم حياة الأمم وتستقيم، وكان من ضمن تلك الأصول: تذكيره للناس بحرمة أكل أموالهم بينهم بالباطل، وأكدّ عظمة تلك الحرمة بجعلها كحرمة البلد الحرام في الشهر واليوم الحرام.


شرح حديث: (إن أموالكم عليكم حرام ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: (إن أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه] .


مجمل خطبة الوداع في الحج
هذا جزء من حديث طويل، ومن خطبة بليغة جامعة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد اشتملت في مجموعها على مهام تعاليم الإسلام؛ فتناول صلى الله عليه وسلم الحث على التمسك بالكتاب والسنة، وحذر من الفرقة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، ثم تناول المرأة بحقوقها، وأنها عوان بأيديكم، واستوصوا بها خيراً.
ولم يقل: أوصيكم بها خيراً، بل قال: استوصوا؛ لأنه لو قال: (أوصيكم) تكون وصية واحدة من مصدر واحد، وهو كاف؛ لأنها وصية رسول الله، ولكن قال: (استوصوا) ؛ لتستمر الوصية على مدى الأجيال، كل يوصي الآخر بالمرأة، والعوان: الخدم، (استحللتموهن بكلمة الله) ، ليس بالصداق، ولا بالمغالاة في المهور، ولا بالأثاث ومتاع الدنيا، ولكن بكلمة الله: زوجتك قبلت.
ثم تناول صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام، ثم جاء إلى هذه الجملة، وهي من جوامع الكلم، وجعل لها مقدمة، وهذا من بلاغة الأسلوب النبوي حتى يسترعي الانتباه، ويوحي بخطر ما سيأتي بعده، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى.
وقال: أي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر الله المحرم -أي: الأشهر الحرم-؟ قلنا: بلى.
قال: أي بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى) كل هذه المقدمات تثير تعظيم حرمات الله، اليوم الحرام، الحج الأكبر، الشهر الحرام: ذو الحجة، في البلد الحرام: مكة المكرمة، ثم قال: (ألا -وهي أداة تنبيه تسترعي انتباه الغافل، وقد أثار فيهم الشعور من قبل بالحرمات الثلاث- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .
لو تأملنا هذا التحريم بالربط مع هذه المحرمات الثلاث لو جدناه كما يقوله الرياضيون: تحريم أس ثلاثة.
يعني: تكرار التحريم ثلاث مرات، والمتأمل في ذلك يجد أن أمن الدنيا وأمانها في سائر العالم لا في بلد دون بلد، ولا قطر دون قطر، ولا مع دين دون دين، جميع أنحاء العالم لا يمكن أن تستقر فيها حياة، ولا يستتب فيها أمن إلا إذا أمنت هذه الأمور الثلاثة؛ لأن البلد الذي لا يأمن فيه الناس على دمائهم قلق مضطرب، ونحن نشاهد ونسمع في بعض البلاد التي تزعزعها السياسة، وتثيرها الأحداث كيف يعيشون، لا يأمن الإنسان على نفسه في بيته ولا الطريق ولا الأسواق، ولا يدري متى يصاب، وهكذا الأعراض تنتهك بدون مبالاة، والأموال تنتهب علانية وتغتصب قسراً، ولا يستطيع أحد أن يرد تلك المظالم، بل أصبحت أموال الدول تغتصب الدولة تغتصب في ممتلكاتها وإنتاجها وذخائرها وموردها الخام، وقد تغتصب عياناً، أو من وراء الستار.


حقوق الإنسان من منظور إسلامي
الأصوليون يقولون: إن جميع الأديان، وجميع نظم العالم اتفقت على ضرورة حفظ الضروريات الخمس التي لا قوام لمجتمع بدونها: الأديان، والأبدان، والأنساب، والأعراض، والأموال، وبعضهم يجعلها ستاً بإضافة العقول، والبعض يعد الأنساب والأعراض اثنين، وبعضهم يجعلها واحدة تلك الأمور الست مشتملة ضمناً في مسميات خطبة الوداع، دماؤكم هي حفظ الأبدان، أعراضكم، ويدخل تحتها الأنساب؛ لأن الأنساب لا تتدنس ولا تختلط إلا بعد انتهاك الأعراض، فإذا صينت الأعراض صينت الأجساد، وبقي العقل والدين؛ فالخطاب مع أهل الدين؛ لأنهم في الحج، ومن احترم ذلك احترم الدين، وكذلك العقل؛ لأنه يخاطب العقلاء.
وعلى هذا: فتلك الجملة في هذه الخطبة تعتبر أماناً وضماناً للمجتمعات بأسرها، وإذا أردنا أن نوسع في مدلول هذه المسميات: (دماءكم) سواء كان باعتداء أو خطأ، أو في النفس أو الأعضاء، كل ذلك محرم، وقد حمى الله الدماء، وجعل في الاعتداء عليها القصاص {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] ، ثم جعل الجروح قصاص، ثم سد باب الاعتداء، ووضع الحواجز دون سفك الدماء؛ لعدم الاستهزاء والسخرية، والسباب، والدخول في المناقشات الحادة حتى لا تصل إلى سفك الدماء، وتأملوا ذلك في سورة الحجرات.
والأموال حرمها الله سبحانه وتعالى: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وطيب النفس إما بعوض وإما بهبة، أما بغير ذلك فليس هناك طيب نفس، وما جاء في الصداق: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإذا لم يطبن؟ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] ثم يبين: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] ؛ فهو حق ثبت بالإفضاء، فإن طابت نفس المرأة بصداقها ولو قناطير مقنطرة فـ: {هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإن لم تطب نفسها ولو بدرهم فلا يجوز أخذه، وهذا تنبيه للذين يؤذون النساء ويسيئون عشرتهن لتفتدي منه بالمال، فهذا أخذ ماله بغير رضاها، والتعدي على حقوقها واضطرارها للافتداء منه.
وكذلك لو ذهبنا إلى الأسواق ونظرنا فيما يتعلق بالغش والتدليس، وبتطفيف الكيل والوزن، وبكل أمور المبيعات والوصول إلى أموال الناس بغير حق، فهي داخلة في هذا ضمناً، ثم لما حرم الله المال ما حرمه إلا بحق، وجعل في سرقته القطع، وفي اغتصابه التعزير، وفرق بين الاختلاس والاغتصاب والسرقة، بفوارق مذكورة في كتب الفقه.
فالسرقة: أخذ المال بالخفية من حرزه.
والاختلاس: أن يخون المؤتمن على ما اؤتمن عليه.
والغصب: أخذ المال قهراً بدون حق.
فهذه كلها طرق حرمها الله ليسلم المال لصاحبه.
ثم في التحايل عليه، وطرق الغش فيه، والرشوة قال الله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة:188] ، أو العموم في أول السياق: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله: (بالباطل) راجعة إلى أموالكم بينكم، إلى مال الشخص في ذاته بأن ينفق ماله في باطل محرم: مخدرات، مضرات، سرف وتلف، وأموال أخيه إليه، و (أموالكم) تعم الطرفين: الشخص في ذاته في إنفاقه فيما حرم الله، والآخر في أخذه بدون رضاه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، بخلاف الذي لا يعلم بأن ذلك خطأ، أو جاء سهواً، فلما نبه عليه رد المال إلى أهله.


حفظ الإسلام للأنساب
نجد أن جميع الحقوق في الإسلام قد صينت، وأما الأنساب فقد حرم الله الزنا؛ لأن به اختلاط النسل، وجعل فيه الحد الجلد أو الرجم، وجعل له حمى كما جعل للمال حمى تحريم الاختلاس والغش والتدليس، وفي الزنا حرم الخلوة بالأجنبية، وسفر المرأة بغير محرم معها، والنظرة تلو النظرة، وحرم كل ما لا يجوز للإنسان فعله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور:30] ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} [النور:31] ، فكل ذلك حرمه حماية للأنساب، وسداً لباب الشيطان.
بل قد سد الشرع كل منافذ القلب، فالعين والأذن والأنف كلها منافذ توصل إلى القلب، فالعين بالنظر: (لك الأولى وعليك الثانية) ، والأذن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ} [الأحزاب:32] ، وبالأنف: (لا تخرج المرأة من بيتها متعطرة) ، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه مرت به امرأة فشم ريح العطر منها، فقال: يا هذه! ارجعي فاغتسلي غسل الجنابة فإنك زانية.
وأين الزنا؟ الحديث الآخر يبين ذلك؛ لأن الزنا نسبي، (فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والأنف.
والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وكذلك السمع: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] ، كن يلبسن الخلاخل في الرجل، فإذا ضربت الأرض برجلها تصادم الخلخالان -من الفضة مجوفان- وأحدثا صوتاً يسترعي الانتباه، وهكذا كل ما يلفت النظر إلى المرأة: لباسها، زينتها، لا تبدي زينتها فتسترعي الأنظار إليها.
إذاً: حفظ الأنساب، وجعل في التعدي بالزنا الحد، وجعل له حمى حتى لا يصل الاثنان إلى ما حرم الله.
وكذلك الأعراض: وهو السباب، والقذف بالمحرمات.
كل ذلك صيانة للمجتمع، فإذا ما سلّم المجتمع الإنساني ولا أقول الإسلامي بل الإنساني لأن لهذا لكل الإنسانية حفظ له دينه.


حفظ الإسلام للدين والمال والأسرة
ويقول علماء الاجتماع: الدين ضرورة اجتماعية، يمكن أن تجد مدينة بلا ملعب ولا ملهى ولا مسبح، ولكن لا تجد مدينة بدون معبد -على عبادتهم صالحة أو طالحة- لأن الداخل لابد من إعماره وإلا كان خواءً، فيملأ الداخل بعبادة.
كيف تكون؟ هذا أمر مختلف فيه، وكما قيل سابقاً: الشرق الأوسط فيه خلاء لابد من شغله -أي: خلاء سياسي- وكذلك الداخل في الإنسان خواء ما لم يشغله بتعبد، وأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام وهي حجارة وهم من ينحتونها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر:3] .
إذاً: أمر بحفظ الأديان والأبدان وعدم الاعتداء عليها، وهذه مشاكل العالم كله، وقد عجزت هيئة الأمم، ومجلس الأمن، والجامعة العربية، وهيئة الإسعاف والإغاثة وكل تلك الدوائر والمؤسسات عن كف وحقن الدماء في تلك البلاد التي تسفك فيها الدماء ونحن نسمع ذلك ليل نهار، سواء كان بين مسلمين وغير مسلمين، أو شحناء وعصبية قبلية كما يوجد الآن في بعض دول أفريقيا، فلو حفظت الدماء، وأمن الناس، واستقرت الحياة، ليسعدوا بالأمنين {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] .
وكذلك الأموال؛ لأن الإنسان يسعى لكسب المال، وهذه غريزة، وهذا دفع للشيوعية كما كانت؛ لأنه لولا المال وحق تملكه والميراث من بعده ما سعى إنسان لجمع أكثر من قسط يومه؛ ولكن يجمعه لمستقبله ولذريته ولما شاء الله، وهكذا الأنساب، لو ضاعت ضاعت المجتمعات، وكما كان يوجد في (نظام الكبتس) ، وهو معسكرات أو مستوطنات يجتمع فيها الأخلاط من رجال ونساء، ليس عليهم كسب للعيش، يطعمون ويسخرون في عمل الدولة، وعليه أن يعمل حيث ما وجه الرجل أو المرأة، ويضمن له طعامه وشرابه، والرجال مع النساء سواء، وما جاء من الذرية يعيش في تلك الحياة، وينشأ على ذلك الحال، ولا يعلم من أبوه ولا من أمه! وهكذا ضاعت المجتمعات.
إن النظام غير الأسري نظام منهار؛ لأن كل فرد بذاته، ولو أخذنا منهم جيشاً وواجهوا العدو فكل إنسان يراعي حياة نفسه، أما المجتمع الأسري الذي يعيش على الأسرة، والترابط وذوي الأرحام؛ فإننا إذا أخذنا جيشاً من هذا المجتمع وقف أمام العدو.
إن هذا النظام الأسري لا ينظر إلى شخصه ونفسه، بل ينظر إلى أمه وخالته وعمته وأبيه وعمه، ويكون سداً منيعاً أمام من وراءه من ذوي رحمه وقرابته، فالمجتمع الأسري مترابط كالبنيان يحمي بعضه بعضاً، والمجتمع غير الأسري لا حياة له لعلكم سمعتم سابقاً في أول قيام إسرائيل، من المجيء بالفرق الأجنبية المستأجرة من هذا النوع، ليس لها أسر، وكانوا يربطون في المصفحات بالسلاسل؛ لأنهم إذا واجهوا العدو شردوا، فليس عندهم من يدافعون عنه، والقضية ليست قضيتهم إنما هي قضية غيرهم، فلا يبيع حياته بأجرة يأخذها.
هكذا نجد الفرق بين المجتمع الذي يحافظ على أنسابه، ويقوم على كيان الأسرة، وبين المجتمع الذي لا نظام للأسرة فيه ويكونون كقطعان الغنم، أو كالسمك في الماء، لا يلوي فرد على فرد، ولا أحد على أحد.
إذاً: تحريم الأنساب هو قاعدة البناء للمجتمع الإنساني الصحيح، وهكذا الأعراض؛ لأن من حفظ عرضه وحفظ كيانه، ووجد نفسه طاهراً نقياً حافظ على ذلك الطهر.
ومناسبة هذا الحديث الذي من أجلها جاء به المؤلف قوله: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) ، ومناسبته لباب الغصب إنما هو لذكره تحريم المال والعرض؛ لأن العرض يغتصب، والمرأة إذا اغتصبت لا حد عليها؛ لأنها مكرهة، وهكذا الرجل إن صح ذلك كما يقول ابن تيمية رحمه الله.
وهكذا -أيها الإخوة- نجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة يجمع أطراف الإسلام وتعاليمه كلها في تلك الخطبة، وأنا أسميها: (مجمل الإسلام) ، فلو أن إنساناً تأمل كل ما جاء فيها لعلم قدرها، وهي ولم تجمع حتى اليوم، ولو أن طلاب علم -ليس بطالب علم- تعاونوا على جمع جملها وفقراتها من كتب السنة والتاريخ لخرجوا لنا بدستور ومنهج قويم من السنة النبوية، يعتبر الإجمال لكل تفصيلات التشريع منذ ثلاث وعشرين سنة، فكل باب من أبواب الإسلام تطرق له النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة العقائد، والعشرة في البيوت، والضرب في الأسواق، حفظ الكيان الإنساني في نسبه وعرضه.
إلى غير ذلك.
وإذا كان مدلول هذا الحديث ومناسبته لباب الغصب فإننا بهذه المناسبة نرجع قليلاً إلى تلك الخطبة ومثارها، حيث قال صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة مطلقاً: (خذوا عني) ، وجاء مقيداً: (خذوا عني مناسككم) فالأول أعم؛ (خذوا عني) كل شيء مما يقوله، ويفعله، ويقرره، خذوا عنه في شأن الحج مناسككم، خذوا عنه في شأن المرأة، والمال، والبيع والشراء، والمعاهدات، والمجتمعات، خذوا عنه كل شيء رأيتموه سواء كان سماعاً أو رؤية أو تقريراً.
ثم الجملة التي جاءت مع هذه المقدمات: (خذوا عني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وفعلاً فإنه ما حج بعدها، ولا أدرك الحج، ولا عُمِّر طويلاً، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.


إرهاصات وفاته عليه الصلاة والسلام
إن انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت له إرهاصات، وكان فيها تنبيهات كما جاءت إرهاصات عام مولده صلى الله عليه وسلم، فكان لمولده إرهاصات أشارت إلى مجيئه، ولوفاته إرهاصات أشارت إلى قرب أجله وانتقاله.
نعلم جميعاً أن هناك من يجعل من إرهاصات المولد هلاك جيش أبرهة بطير أبابيل، كما قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ} [قريش:1-2] ، أي: فعل ذلك من أجل قريش، وقالوا: إرهاصاً بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك انصداع إيوان كسرى وسقوط شرفاته، وجفاف بحيرة ساوة.
ومن العجب -أيها الإخوة- حينما جئنا إلى المدائن، وإلى الإيوان رأيناه مبنىاً في ارتفاع فوق الثلاثين متراً تقريباً، وعرضه ثلاثون متراً، وعمقه أربعون متراً، وسقفه عقود كالقبة، ليس بخشب ولا مسلح! فقلت: أين الصدع؟ فإذا به فوق الجدار في الوسط بين الأرض والسقف جدار الإيوان عرضه من أسفله أربعة أمتار، وينتهي في أعلاه على بعد النظر في العين حوالي نصف المتر، والصدع آخذ شكل -كما يقال-: (سنبوسك) من أعلى ينتهي بصفر، ومن أسفل ينتهي بصفر، ومن الوسط انفراج حوالي ما بين المترين أو الثلاثة في نظر العين، فقالوا: هذا هو الانصداع من ذاك التاريخ إلى اليوم.
فسألت: أين القبلة؟ فكان معنا الملحق الثقافي، وبحضور الشيخ ابن صالح رحمه الله، قال: ما شأنك في هذا؟ قلت: لي حاجة.
قالوا: هنا.
إلى جهة الصدع، قلت: الله أكبر! قال: ماذا؟ قلت: على اتجاه الكعبة مباشرة، لكأن أشعة جاءت من مكة إلى الأيوان فصدعته، ما صدع من الشرق ولا من الغرب، والصدع إلى مسامتة مكة تماماً، ما صدع من يمين ولا يسار، ولكنه مقابل لها، وهذا يؤيد صدق الخبر.
ومن العلامات التي وجدت عند مولده صلى الله عليه وسلم: أن الشياطين حبست عن السماء.
وكذلك عند انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كانت هناك إرهاصات أو علامات، صريحة الدلالة على النقل، ولكن ربما كان في دلالتها بعض الكنايات، أوائل ذلك: قبل حجة الوداع في سفره صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وذهب يقضي حاجته ويتوضأ، فتأخر على القوم، فقالوا: أمره عنده، ونحن أمرنا بالصلاة في وقتها، ونخشى إن انتظرنا أكثر ربما يخرج الوقت، وقدموا رجلاً يصلي بهم وهو ابن عوف، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه المغيرة بن شعبة، فهم المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم رسول الله؛ لأنه من حقه، فهو الإمام الراتب، فأشار إليه رسول أن دعه، وصف في الصف خلف إمامهم، وكان قد سبق بركعة، فصلى مع الجماعة ركعة، ثم أتم صلاته بعد سلام الإمام، فلما نظر الناس ما وقع لرسول الله حدث عندهم شيء، فقال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن صلى وراء رجل من أمته) .
إذاً: الدلالة هنا دلالة عظمى، يدركها حتى الصغار.
إذاً: جاء النبي إلى أمة أعرابية حفاة عراة جهلة، يأكل قويهم ضعيفهم، فساسهم سياسة الإبل الصعاب حتى سخرهم الله وقادهم إليه، وانتقلوا من البداوة إلى الحضارة، ومن التبعية إلى الإمامة، وأصبح الواحد منهم صالحاً لأن يكون إماماً وقدوة يقتدى به.
تربية ناجحة، وتخريج ناجح، وأصبحت الأمة الإسلامية بجميع أفرادها صالحين للإمامة وللقدوة، ولهذا سادوا العالم، ونشروا الإسلام، وانطلقوا بالدعوة شرقاً وغرباً حتى امتلأ العالم كله بتلاميذ رسول الله، وممن اقتدى يعلمون الناس الخير، فهذا إرهاص بأنه تمت مهمته، ونجح في رسالته، وأخرج هذه الأجيال.
من ذلك أيضاً: ما كان في حجة الوداع: لما نزل عليه قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1-3] ، عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى شيوخ قريش يستكثرون مجيء ابن عباس في مجلسهم أراد أن يبين لهم فضله وهو غلام، فسألهم ذات يوم: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ؟ قالوا: هذه بشرى من الله لرسوله بالنصرة والفتح ودخول الإنسان في الإسلام بلا قتال، وابن عباس لم يتكلم، فالتفت إليه عمر وقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟ قال: والله لقد نعت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا.
قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إن الله أرسله بالرسالة لكي يبلغها، وقد بلغها للناس، وأصبح الناس يدخلون في الدين الذي جاء به أفواجاً بغير قتال.
إذاً: مهمته قد انتهت وقد فرغ منها، ولم يبق له إلا أن يتهيأ ويتزود لملاقاة ربه ليلقى.
فقال عمر: وأنا أرى ذلك.
كذلك قال: أحضروا المنبر.
فصعد فخطب الناس بعد صلاة الظهر، ولم ينزل حتى أذن العصر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن المغرب، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن العشاء، فقال قائل: (والله ما ترك لنا شيئاً ولا طائراً يطير بجناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه خبراً، حفظ من حفظ ونسي من نسي) .
وعن العرباض بن سارية، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: زدنا يا رسول الله لكأنها موعظة مودع) ، نعم موعظة مودع، أدركوا ذلك، وقال وهو على المنبر: (عبد خيره الله فيما بينه والدنيا، فاختار ما عند الله) ، فبكى أبو بكر في أصل المنبر، قال: قلنا: ما بال هذا الشيخ! ما الذي يبكيك؟ وما شأنه في ذلك؟ أبو بكر رضي الله تعالى عنه عرف من العبد الذي خُير، وقد جاء صريحاً في مرض وفاته صلوات الله وسلامه عليه، لما ألحوا عليه أن يكتب لهم، قالوا: (دعوني فما عند الله خير لي منكم) .
بعد هذه العلامات والإرهاصات جاء مرضه صلى الله عليه وسلم وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) هنا جاء الاستخلاف.
ثم لما قال: (ائتوني بقلم وقرطاس أكتب لكم.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: قلت في نفسي: خفت أن أذهب فيفوتني، قلت: قل يا رسول الله فإني حاضر -يعني: أحفظ ما تقول عن الكتابة، مخافة أن أذهب فيفوتني ما تريد أن تقول- فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم!) ، إلى نحو ذلك، ما خرج من الدنيا صلوات الله وسلامه عليه بغتة، ولكن أعطى تعليمات وإشارات ليتهيأ الناس لذلك الحدث العظيم، كما جاء: (من أصيب في مصيبة فليتذكر مصيبته في) ، وعن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاستنارت وأنار منها كل شيء، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظلمت المدينة وأظلم منها كل شيء) .
ويقول ابن مسعود: (والله لقد أنكرنا قلوبنا ولما نقبر رسول الله بعد) .
كانوا في حياته في إشعاع، أنوار، هداية، وبعد وفاته تغيرت القلوب.
ثم في وصيته ما ترك الناس همجاً، ما ترك الدنيا بعد هذه التوجيهات إلا وقد رسم لهم منهج السعادة والحياة الكريمة، وإبقاءً على دعوة الإسلام وامتدادها إلى ما شاء الله: (تركت فيكم -أي: بعدي- ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) .
وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية تسير على محورين متقابلين، كل منهما يبين الآخر، ويفصل مجمله: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالسعيد من رزقه الله فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله، وإقام حياته على مقتضاهما، ولقد جرب العالم منذ ذاك التاريخ حينما يقام كتاب الله، ويعمل بسنة رسول الله حين كانت الأمة الإسلامية هي أسعد الأمم في العالم، حينما كانت دول الغرب -كما قيل- قناصين في البحر، أو صيادين للأسماك، أو بادية في صحرائهم وغير ذلك، كان العرب سادة وقادة، وأخذ الغرب عن المسلمين -دون أن يعلموا- ذخائر العلم وردوها عليهم.
وهكذا نحن في هذا العصر وبعد قرن ونصف يجد العالم كله أن التجربة الإسلامية هي الحقة، الدولة التي قامت على كتاب الله وعلى سنة رسول الله على ما في أهلها من قصور، لكنها أمثل العالم أمناً واستقراراً وطمأنينة وإخاءً، فعلى هذا كان صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع حينما قال هذا الحديث النبوي الشريف: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وإني لأتمنى وأرجو من الإخوة طلبة العلم أن يتعاون الخمسة أو العشرة على النظر في كتب السنة والمسانيد ليجمعوا كل ما قيل في تلك الخطبة، ثم ينسقوها لنا، ويقدموها لنا منهجاً وبرنامجاً.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.