شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب البيوع - باب
المساقاة والإجارة [1]
من عقود المعاملات في الإسلام: عقد المساقاة والمزارعة، وهو عقد شبيه بعقد
القراض من جهة اشتراك طرفي العقد في عمل واحد: أحدهما بماله، والآخر بجهده.
والعمدة في ذلك: حديث مساقاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، حيث
عاملهم على سقايتها على أن الثمرة بينهما مناصفة، وكان يخرصها عليهم عبد
الله بن رواحة رضي الله عنه، على أن يلتزموا هم بكل ما من شأنه إصلاح النخل
من سقي وتأبير وقطع للجريد وإصلاح للقنوات وغير ذلك.
أحكام المساقاة
[عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل
خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ، متفق عليه.
وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا
بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) .
ولـ مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر
وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) .
وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض
بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع،
فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا،
فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) ، رواه مسلم.
وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض] .
بعد كتاب القراض يأتي المؤلف رحمه الله بكتاب المساقاة؛ لما بين القراض
والمساقاة من مشاكلة، وصورتهما تكاد أن تكون واحدة؛ لأن العامل في القراض
يأخذ رأس المال من صاحبه، ويعمل فيه على جزء من الربح، وفي المساقاة يأخذ
العامل من صاحب الغرس غرسه ويعمل فيه على جزء من الثمرة، فكلاهما مشاركة في
عمل، أحدهما برأس مال، والآخر بجهده، والربح أو النتيجة بينهما.
مشروعية المساقاة
والمزارعة وما تصح فيه
المساقاة كما ذكر المؤلف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: مأخوذة
من السقي.
قالوا: لأن أرض الحجاز ماؤها قليل، والسقي ضروري في زرعها، بخلاف أهل
الأمصار الأخرى، فقد تكون عندهم الأنهار والعيون، والمياه لديهم متوافرة،
فلا تحتاج إلى كلفة في السقي.
أما في الحجاز فإن المياه قليلة، وتحتاج الزراعة فيها إلى جهد في سقيها،
والسقي أهم كلفة الزراعة في الحجاز، فقد يعجز صاحب النخل أو الشجر أن يقوم
عليها بمئونتها حتى تأتي الثمرة، ويكون هناك شخص آخر لديه خبرة واستعداد،
فيقوم في هذا النخل أو غيره بالسقي وما يلزمه لإنتاج الثمرة على جزء مما
يأتي به الأصل.
إذاً: هناك مناسبة قوية بين القراض والمساقاة، فالقراض ربما صاحب المال لا
يحسن استثماره، ويكون هناك شخص يحسن الاستثمار وليس عنده رأس ماله،
فيتعاونان معاً ويتبادلان المنفعة، وكذلك صاحب الزرع أو الغرس قد لا يكون
قادراً على مواصلة العمل فيه، ويوجد شخص آخر لديه خبرة، ويستطيع أن يقوم
بالعمل فيه، فيتبادلان المنفعة.
والأصل في هذه المعاملة ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن
الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر) ، أو هم طلبوا منه أن يقرهم
عليها، والثمرة بينهما مناصفة.
وفقهاء الأمصار جميعاً يقرون هذا النوع من المعاملة على اختلاف في نوع
الشجر، فهناك من يقول: لا تكون المساقاة إلا في النخل.
وهذا قول ابن حزم، وهناك من يقول: المساقاة في كل شجر له ثمر، كما قال مالك
رحمه الله، كما في الكرْم والرمان والتين والفرسك -الخوخ- والمشمش،
والحنابلة يقولون: يصح في كل غرس ثابت الأصل له ثمر.
ويختلفون في الشجر الذي لا ثمر له، إلا إذا كان له وسيلة انتفاع من غير
الثمر كالورق، فمثلاً شجرة الحناء والتوت، فورق الحناء يستعمل خضاباً، وورق
التوت يستعمل غذاء لدود القز، وهكذا إذا كانت هناك فائدة يمكن أن يستفيد
منها العامل من جراء سقيه لهذا النوع من الشجر فلا بأس، أما ما لا ثمرة له
بالكلية فلا تصح المساقاة فيه؛ لأن المساقاة عمل على جزء من الثمرة التي
تحصل، فإذا كان الشجر لا ثمرة له؛ فحينئذ ليست هناك مساقاة.
فتح خيبر ومعاملة
الرسول لأهلها
يذكر العلماء في موضوع مساقاة خيبر: هل فتحت خيبر عنوة أم صلحاً؟ وهل كانت
ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه افتتحها عنوة واكتسبها، أو كانت
صلحاً بينه وبين أهلها؟ يطيل ابن عبد البر رحمه الله الكلام في هذه المسألة
في الاستذكار؛ لأن خيبر كانت حصوناً متعددة، فبعض الحصون فتحت عنوة
وبالقوة، وبعض الحصون نزل أهلها عنها حقناً لدمائهم.
إذاً: منها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحاً، ومما فتح عنوة حصن الكتيبة،
كان يقال عنه: فيه أربعون ألف عذق -أي: أربعون ألف نخلة- ولأنه فتح عنوة؛
فالرسول صلى الله عليه وسلم امتلكه، حتى قالوا: أهله أصبحوا عبيداً لرسول
الله، والأرض أصبحت ملكاً لرسول الله، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث
الخارص يخرص عليهم ليأخذ نصف الثمرة على ما صالحهم عليه أو ما أقرهم فيه.
وكان فتح خيبر عام سبعة من الهجرة بعد العودة من صلح الحديبية بليال -قيل:
عشرون ليلة- ولهذا قسم رسول صلى الله عليه وسلم خيبر -عند من يقول: قسمها-
على أهل الحديبية؛ لأن الله قد أعطاهم إياها في الطريق في العودة من
الحديبية {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا
فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] ، فقالوا: المغانم التي وعدهم الله
إياها هي فتح خيبر، وعلى كلٍ فكلُ من حضر الغزوة من الصبيان أو النساء أو
العبيد أو ممن ذهب في رفقة الجيش يسترزق فقد قسم له رسول الله.
حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ليال، ثم فتحها الله عليه، فلما فتح
الله عليه خيبر هنا بدت مدينة فيها أشجار، يكفي أن حصناً منها يتبعه أربعون
ألف عذق، فإذاً يحتاج إلى عمل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا
متفرغين للفلاحة، وإنما سيوفهم بأيديهم، ففطن اليهود لذلك وقالوا: يا محمد!
أبقنا فيها نعملها لك، فأنتم لستم أهل خبرة بالأرض وبطبيعتها وطريقة
استثمارها، ولو كانت لكم بها خبرة فليس عندكم الوقت الكافي لزراعتها، أما
المهاجرون جاءوا فليسوا أهل زراعة ولا نخيل، ولكن أهل تجارة وقتال، فأجابهم
النبي صلى الله عليه وسلم: (نقركم فيها -هذا اللفظ متفق عليه- على ما شئنا
- وفي رواية: على ما شاء الله-) ، ومشيئة رسول الله لا شك أنها من مشيئة
الله، فأقرهم عليها، ومكثوا فيها بقية وجود النبي صلى الله عليه وسلم من
سنة سبع وطيلة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفترة من خلافة عمر، حتى
أجلاهم عمر عنها سنة سبعة عشر، وكان سبب إجلائهم عنها ما كان قد صدر من
النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه: (لا
يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، وهذه كلمة إن قلت سياسية أو تشريعية
فمدلولها واسع جداً، نأتي إليها إن شاء الله بعد الكلام على المساقاة
والمزارعة.
حكم الأرض البياض في
المساقاة
لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أرضهم يقومون في غرسها
وزرعها، أقرهم على أصولها وبياضها.
الأصول: الأشجار المغروسة، والبياض: الأرض التي بين الأصول ليس فيها غرس.
وإعطاء الأصول على جزء من الثمر هو المساقاة؛ لأن العمل الرئيسي هو سقي هذه
الأصول، وإعطاء الأرض البيضاء التي لا غراس فيها على جزء مما يخرج منها
يسمى المزارعة؛ لأن الذي يأخذ الأرض البيضاء يزرع من جديد.
ومالك له مباحث في البياض مع الأصول؛ فإذا كانت الأرض فيها نخيل وأشجار
يساقى عليها، ويوجد بين هذه الأشجار أرض بيضاء، لمن ثمرة هذه الأرض إذا
ساقى صاحب الأصول عليها؟ يقول مالك رحمه الله: إذا كان البياض الثلث فأقل
فهو تابع للأصول، وللعامل أن يزرعها لنفسه، وإذا كان البياض أكثر من الثلث،
بأن كان الغرس الثلث والبياض الثلثين فهو لصاحب الأرض.
وهل يزارع المزارع عليها مع الأصول فتكون مساقاة في الأصول ومزارعة في
الأرض البيضاء، أم لا يكون ذلك؟ قال: على حسب الشرط، ما يتفق عليه صاحب
الأرض والداخل؛ أي: الذي سوف يعمل في المساقاة أو المزارعة يسمونه الداخل.
وإذا أعطاه الأرض البيضاء يعمل فيها مع الأصول، كلفة العمل في الأرض
البيضاء كالبذر والحرث وما تحتاجه على صاحب الأرض أو على العامل؟ الجمهور
على أنها على العامل.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله يجيزون المساقاة في كل شيء، وبعضهم يقتصر على
النخل فقط؛ قالوا: لأنه الذي جاء فيه الرخصة؛ لأن المساقاة خرجت عن القاعدة
العامة؛ لأن فيها غرر على العامل، ولا يدري ماذا سيحصل من تعبه طوال السنة،
لكن تسومح فيها لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، والإمام أبو حنيفة
رحمه الله منع المساقاة بالكلية، قال: لأنها نسخت بالمزابنة -المدافعة- كل
يدفع عن نفسه الغرر.
والجمهور يقولون: هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليهود قبلت
بالعمل فيها بجزء مما يخرج منها.
وخالفه أبو يوسف ومحمد، أما أبو حنيفة وزفر فيقولان: لا تصح المساقاة؛ لأن
فيها الغرر.
إذاً: نستطيع أن نقول بجواز المساقاة عند المذاهب الأربعة.
مشروعية الخرص ووقته
كان رسول صلى الله عليه وسلم يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص التمر على يهود
خيبر، وهل الخرص كان للمشاركة: نصف لليهود ونصف للمسلمين، أم أن الخرص كان
للزكاة؟ مالك يعارض في قسمة الثمرة على الشجر في المعاوضات، ويجيزها في
الزكاة، وكذلك أبو حنيفة لا يرى الخرص في الشجر، ويقول: إن هذا مبني على
التخمين وعدم اليقين، فلا حاجة إلى قسم الثمرة على الشجر، بل ينتظر بها إلى
الجذاذ وتقسم بالكيل، حتى لا يكون هناك غرر.
والجمهور يردون على من يمنع الخرص قائلين: إن الخرص وإن كان تقديراً فإنكم
تقرون التقدير في غير الخرص، مثل قيم المتلفات، فإذا أتلف إنسان شيئاً لآخر
وليس من المثليات: سيارة، أو بعيراً، ماذا سيلزم على المتلف فيما أتلف؟
يلزمه القيمة، وهل هناك مقياس يحددها؟ لا، فالمثليات في المكيل والموزون
يمكن أن يكون مقارباً للحقيقة، صاع تمر أو صاع بر، الصاع يحكم بين الاثنين،
أما لو كان بعيراً فلو جئت بمائة بعير لا تجد اثنين يتساويان في كل شيء،
ولهذا تجد المائة بعير تختلف قيمها لاختلاف هيكلها، لونها، بدانتها،
نحافتها.
إذاً: يرجع إلى التقدير، والتقدير من الخرص والاجتهاد، وإذا كنتم تقرونها
في بدل المتلفات فلم لا تقرونها في قسمة الشركات؟! ومن منع الخرص بين
الشركاء قال: إن ابن رواحة رضي الله عنه إنما كان يذهب ويخرص على اليهود
للزكاة -وهي حق للمساكين- وليس للقسمة بين رسول الله وبين اليهود، ولكن إذا
جئنا إلى أخبار ابن رواحة نجد أنه كان يخرص للقسمة، كما ذكر مالك رحمه الله
في الموطأ: أن ابن رواحة لما أتى اليهود ليخرص عليهم جمعوا له من حلي
نسائهم، وقالوا له: هذا لك أنت هدية، وخفف عنا في الخرص.
يعني: إن كان المجموع ألف وسق سيلزمنا خمسمائة، فاجعله ثمانمائة ويلزمنا
أربعمائة فقط، فهنا قال ابن رواحة كلمته المشهورة: والله يا إخوة الخنازير
لأنتم أبغض خلق الله إلي، وقد جئتكم من أحب خلق الله عندي، وما ذلك -يعني:
بغضي لكم وحبي لرسول الله- بحاملي أن أحيف بكم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] لا ترتكبوا الجرم
وتميلوا وتظلموا لا، بل اعدلوا: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ}
[المائدة:8] ، أي: العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ، فقالوا: يا
ابن رواحة! بهذا قامت السماوات والأرض.
(بهذا) يعني: بالعدل وعدم قبول الرشوة.
وفي بعض الروايات قال لهم: وإن هذا سحت لا نأكله، ثم قال لهم وأنصفهم بكلمة
الواثق من نفسه: إني خارص؛ فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم.
بمعنى: إني خارص؛ فإن قدرتُ قدراً معيناً إما أن تلتزموا بنصفه تؤدونه
لرسول الله، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا أضمن لكم نصفه أسلمه إليكم.
هل في هذا حيف؟ لا، كأن تقول: يا فلان! أنا أقسم وأنت تختار، أو اقسم أنت
وأنا أختار.
إذاً ما هناك حيف.
فلو أنه كان يخرص للزكاة ما الذي كان يحمله على هذا أو يحملهم هم على ذاك؟
إذاً: فإنما كان يخرص من باب القسمة، وبيان حق الطرفين، ولم ينتظروا جفاف
التمر وأن يأتي موعد الجذاذ ليكيلوه؟ قالوا: الخرص سواء في الزكاة أو
المساقاة فإنما هو عقد إرفاق بالعامل، وفي الزكاة حفظ لحق المساكين، لذ لا
يكون الخرص إلا بعد بدو صلاح الثمرة، ولو تركت حتى الجذاذ ربما العامل أو
صاحب النخل يسرف في الأكل أو الهدايا، وربما يبيع رطباً، ثم في النهاية نجد
أن الذي وصل إلى حد الجذاذ ربع الثمرة، أين صار حق المساكين؟ فإذا خرص عليه
بأن هذا البستان فيه مائة نخلة، والنخل يتفاوت كيلها ما بين كذا وكذا وسقاً
أو صاعاً، والمجموع كذا، وأنه يلزمه العشر أو نصف العشر، ويتركه بينه
وبينه، إن شاء أكله، وإن شاء جامل به، إن شاء باعه رطباً، يهمنا: أن يقدم
لنا العشر أو نصف العشر بحسب تقدير الخارص.
والرسول صلى الله عليه وسلم راعى مصلحة الزارع، قال: (اتركوا الربع أو
الثلث؛ لما يسقطه الريح، ولما تسقطه الطيور، وبما يرده الضيف ويكارم به،
وبما يأكل به العامل) فالرسول سامح أصحاب البساتين في هذه النواحي
الإنسانية أو في غير الطاقة، إذا كان الريح يسقط كل يوم مثلاً عشرة؛ ولأن
الطيور تأتي وتنقي وتختار أحسن ثمرة وتأخذ حظها منها وتتركها، ولأن الضيف
كذلك يأتي ينظر ونحن نقول له: والله هذا حق المساكين! لا، ولكن نكارم
ونعطيه، لا نقلل المروءة في الناس، وهكذا أولاده، يتطلعون إلى الثمر ونحن
نمنعهم حتى يأتي وقت الجذاذ من أجل الزكاة؟ لا، بل تخرص عليه، ويعرف ما يجب
في زكاتها، ثم يلتزم بذلك ويؤديه في النهاية.
إذاً: كان خرص عبد الله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر للقسمة وليس
للزكاة، فما دام الأمر كذلك، والرسول ترك النخل لأهل خيبر يعملونه، ثم يرسل
من يخرصه عليهم ويستوفي حقه، وثلاث سنوات في حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وسنتان في خلافة أبي بكر، ومدة من خلافة عمر رضي الله تعالى عنهم.
بعد هذا هل نقول: إن المساقاة منسوخة؟! إن النسخ لا يكون إلا في عهد رسول
الله؛ لأن النسخ تشريع جديد، وليس بعد رسول الله وحي ولا تشريع، وليس لأحد
بعده أن ينسخ ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: المساقاة ثابتة، وهي على ما اتفق عليه صاحب المال والعامل.
حقوق العامل
وواجباته في عقد المساقاة
[عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل
خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ، متفق عليه.
وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف التمر،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا.
فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) .
ولـ مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر
وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) ] .
عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر عليها على شطر ما يخرج منها من
ثمر أو زرع، الزرع للأرض البيضاء بين الأصول، وقد تكون هناك أراض زراعية
ليس فيها من الغرس أي شيء، فيزرعونها على حدة، ويسقون النخل على حدة،
ويزرعون البياض بين النخل تبعاً للنخل، وكل ذلك عاملهم عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بجزء مما يخرج من الثمرة في الأصول، ومن الحبوب في الأرض
البيضاء.
الأصول التي تصح
فيها المساقاة
أي الأصول تصح فيها المساقاة؟ قيل: لا تصح إلا في النخل خاصة.
وقيل: في كل شجر له ثمر.
وكذلك الأرض البيضاء يزرعونها تبعاً للنخل والأشجار، أو على حدة، وإن كانت
البيضاء بين الأصول الثلث فأقل فهي تابعة للأصول، وإن كانت أكثر والغرس ثلث
فأقل فالأرض فهي تابع مستقل بذاتها.
وأي الزروع التي تصح فيها المزارعة؟ قيل: الحبوب: البر والشعير وما يتبعه.
وقيل: كل ما يزرع حتى الخضروات، حتى نص مالك على القثاء وما شاكلها فإنها
تدفع للعامل يعمل فيها بالمزارعة، ولكن في غير خيبر إذا دفع صاحب الأرض
الأرضَ لمن يعمل فيها زرعاً، قال: لا تكون مزارعة على جزء مما يخرج منها
إلا إذا كان صاحب الأرض قد حرث وبذر، وبدأ الزرع ينبت، وعجز صاحبه أن يوالي
العمل فيه للنهاية، فله أن يزارع عليه أحد العمل، أما أن يأتيه والأرض
بيضاء ويقول له: اعمل فيها على ما يخرج منها، فـ مالك يمنع من هذا، وغيره
يجزيه، والذي يمنع يقول: لأنه مجهول، ولا يدري ما الذي سيحصل عليه.
فيقال لهم: المساقاة على مجهول ولا يعلم ما الذي سيحصل عليه.
ما يجب على العامل
فعله في عقد المساقاة
ويتفقون على أن العامل ملزم بكل عمل من شأنه مصلحة الثمرة، فمثلاً: إذا كان
النخيل عليه جدار، فانثلم الجدار في مكان ما، فعلى العامل إصلاحه لا أن
يبني جداراً جديداً لم يكن موجوداً على الأرض؛ لأن هذا ملك لصاحب الشجر،
وليس لصاحب الشجر مصلحة دائمة بدوام هذا البناء الذي سيبنيه؛ لأنه إن ساقاه
سنة أو سنتين فبناء السور يظل عشرات السنين، فيكون صاحب الأرض استفاد من
العامل ما ليس له فيه حق.
وكذلك على العامل أن ينقي العين -القناة- كما كانت العين في أحد والخيف
-خيف السيد، خيف فلان- كانت من جبل أحد إلى الغابة، هذه كلها خيوف ماء يسيل
على وجه الأرض يقتسم أهل البساتين الماء بالوجبة على نظام عندهم في ذلك،
فإذا احتاج مجرى هذا الخيف إلى ترميم أو إصلاح، أو انصدع الجدار من الجانب،
أو نبت من الحشيش ما يسد الماء ويرده، فعلى العامل تنظيف ذلك، وليس عليه
إجراء عين جديدة، وليس عليه حفر بئر من جديد، ولكن عليه إصلاح البئر
القائمة.
لا مانع في ذلك كله.
وعلى العامل أن يحضر آلات السقي، إن كان بالسواني فبالسواني، وإن كان
بالمكائن -كما هو الآن- فالبمكائن، وإذا كان في البستان عمال أو عبيد أو
رقيق ملكاً لصاحبه، وأراد العامل أن يأخذ الرقيق مع الأصول، قالوا: إن كانت
النخيل كبيرة وتحتاج إلى مساعدة أخذ، وإن كانت صغيرة لا تحتاج إلا لشخصه هو
فليس له أن يأخذ.
الذي يهمنا: أن ما فيه مصلحة الثمرة فهي على العامل، فإذا كانت المساقاة
سنوات فعليه في أول السنة تأبير النخل، وقطع الجريد، وإصلاح الأحواض للنخلة
للماء وللشرب.
وغير ذلك، وكذلك الأشجار المثمرة: عليه تقليم شجر العنب؛ لأنه يحتاج إلى
تقليم ما يبس منه كل سنة، وكذلك أشجار الفاكهة الأخرى إذا احتاجت إلى تقليم
الزوائد فيها لينشط الجذع في تغذية الثمرة الجديدة.
ثم إذا جاء وقت الجذاذ فعلى العامل أن يجذ الثمرة، وينزلها البيدر حتى تجف،
ثم بعد ذلك يقتسمونها.
[وفي رواية لهما: فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر]
.
الرواية تدور بين كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أقرهم ابتداءً،
وبين أنهم هم الذين طلبوا منه أن يقرهم، وسواء كان ذلك ابتداء من الرسول
صلى الله عليه وسلم، أو استجابة لطلبهم، فالنتيجة واحدة، وهي: أنهم عاملوه
على جزء من الثمرة.
مدة عقد المساقاة
[فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا] .
ما هي هذه المشيئة؟ هل اليهود علموا متى تنتهي تلك المشيئة، أم أنه أجل
مجهول؟ مجهول؛ لأن اليهود لا يعلمون متى تكون مشيئته بإخراجهم، وهنا قالوا:
هل يتعين في المساقاة تعيين مدة العمل، أو تصح بغير تعيين؟ فمن قال: تصح
بغير تعيين أخذ دليله من هذه اللفظة: (ما شئنا) إذ ليس فيها تحديد زمن
معين، ولهذا مكثوا فيها إلى جزء من خلافة عمر، فمن الممكن أنهم كانوا
يتوقعون كل سنة إجلاءهم، فكان العمل على غير مدة معينة.
وهناك من يقول: لابد من تعيين المدة.
والواقع أننا لا نستطيع أن نتحكم على ما جاءنا من الروايات، ولا توجد رواية
-فيما أعلم- أن الرسول حدد لهم المدة: سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل.
ما يترتب على فسخ
عقد المساقاة
يتفق العلماء على أن صاحب الزرع إذا أعطى العامل غرسه ليعمل فيه فعمل، ثم
بدت الثمرة، ولما يحن وقت الخرص، وأبر النخل فقط، ثم جاء صاحب النخل وقال:
فسخت عقد العمل بيني وبينك.
فمن حقه ذلك، وكذلك من حق العامل أن يأتي في وقت معين ويقول: فسخت العقد
بيني وبينك.
في هذه الحالة إذا جاء الفسخ من جانب صاحب المال ماذا يكون للعامل فيما مضى
من عمله في هذه السنة؟ بدأ العامل العمل من بعد الجذاذ للثمرة التي مضت،
أي: من بداية سنة جديدة، فسقى النخل، وقطع الجريد، وأبر النخل ونظف القناة،
وأصلح السور.
إلخ، كل هذا عمله على أنه سوف يستمر إلى آخر السنة، فجاء صاحب النخل وقطع
عليه المشوار، فإذا جاء الفسخ من جانب صاحب النخيل فعليه أن يدفع أجرة
العامل فيما عمل من أول السنة من بعد الجذاذ الأخير إلى يوم أن ألغى عقده؛
لأنه يعمل على وجه شرعي، وصاحب المال هو الذي ألغى العقد، إذاً: يتحمل
مسئولية ذلك.
أما إذا جاء الإلغاء من جانب العامل فهو الذي أبطل حقه، ولا حق له في
المطالبة بما عمل، لا حق التأبير ولا قطع الجريد ولا تنظيف النهر ولا تصليح
الدولاب ولا ترميم السور كل ما عمله أسقط حقه فيه بتركه العمل اختياراً.
حدد المدة في المساقاة فيلتزم الطرفان بها، وإذا أراد أحد الطرفين أن يقطع
المدة فيلتزم بالمسئولية، أو كانت المساقاة بغير أجل مسمى فكل على طريقه،
فإن جاء صاحب المال وألغى العقد أو أوقف عمل العامل فيتحمل له بما يستحقه
كأجير، وإذا ألغى العامل العقد فيتحمل هو مسئولية الإلغاء، ولا يكون له عند
صاحب المال شيء؛ لأنه دخل معه على أن له في مقابل العمل جزءاً من الثمرة،
والثمرة لم تأت بعد، إذاً: ليس له حق في المطالبة بشيء.
والله أعلم.
ما يلزم العامل من
النفقة في عقد المساقاة
[ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر
وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها] .
هذه الرواية الأخيرة فيها زيادة: (على أن يعتملوها) ، أي: ما تحتاجه من
نفقات وكرى لعمل زائد الأرض البيضاء تحتاج إلى حراثة تحرث العين تحتاج إلى
آلة تنظف الدولاب الذي يعمل عليه تعطل ويحتاج إلى تصليح على من تكون نفقة
ما يحتاجه الغرس لمواصلة العمل؟ أهي على العامل أم على صاحب المال؟
فالرواية التي لـ مسلم: (أن يعتملوها من أموالهم) ، فإذا تعطل الدولاب
يصلحونه، وإذا انطمست العين يحفرونها، وإذا سقط الجدار يقومونه وإذا احتاجت
الأرض البيضاء إلى بذر يشترونه، إلى سماد يسمدونها، وإن احتاجت إلى عدة
أشخاص يؤبرونها، وهو وحده لا يستطيع أن يؤبر النخل، ولو بقي على عمله هو
فقط ربما فات بعض النخل وقت التأبير وفسد؛ لأن الكافور أول ما ينشق يجب أن
يؤبر، إذاً لابد من أيدٍ عاملة تتابع ذلك حتى لا يتفتح الكافور وتظل خمسة
إلى عشرة أيام ولم يوضع فيها شيء، كالمرأة إذا جاءتها البويضة ولم تجد
البويضة ما يلقحها فسدت وخرجت مع الدورة الشهرية، وهكذا طلع النخلة إذا لم
يجد التأبير في إبانه فسد ومضى في طريقه (شيص) .
إذاً: يعملونها من أموالهم، وأهم الأموال في عملها: البذر في الأرض
البيضاء، وكل ما من شأنه إصلاح النخل، يمكن أن يقطع جريد ألف نخلة لسنة
قادمة؛ لأن النخلة تزيد كل سنة دوراً من الجريد، وتنمو وهكذا، وفي علم
النبات الشجرة الكبيرة والدوحة العظيمة علماء النبات يعرفون عمرها بالدوائر
والحلقات التي في عين الجذع، لو قطعت الشجرة وجدت في بطنها دوائر، دائرة
خلف دائرة خلف دائرة، ويقولون: كل دائرة لها زمن معين من العمر، وكلما مضى
عليها زمن زادت دائرة جديدة، وهكذا يقيسون عمرها بتلك الدوائر، كذلك النخلة
يقيسون عمرها بطوابق الجريد التي تظهر فيها.
والناس يختلفون في قطع الجريد للنخيل، فبعضهم يقول: ما زاد على حملها.
وبعضهم يقول: لا تقطع من النخل جريدة إلا إذا يبست، وما دامت خضراء فهي
عامل من عوامل الجذب للماء من تخوم الأرض إلى أعلاها؛ لأن الجذع الذي على
وجه الأرض خشب ولا تستطيع أن تكسره بالفأس، وفي رأس النخلة تجد الجمار
تأكله بأسنانك، وتجد الماء، وتجد العسل في الرطبة، من أين جاء هذا؟ إنما
جاء من الماء الذي في الأرض، وما الذي رفعه وضخه إلى أعلى؟ ذلك الجريد،
وكذلك أوراق الشجر الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي (الكلوروفيل)
-كما يسمونه- تجذب الماء إلى أعلى مثل (الموتور) الذي يدفع الماء إلى أعلى
العمارة، ولهذا أرباب النخيل لا يقطعون الجريد الأخضر.
إلا أن بعض النخلات -كما يقولون:- يعتريها الجنون أو سن المراهقة، فيخففون
من رأسها بأخذ الجريد دور أو دورين لكي تخف قليلاً وتهدأ، ولهم أحوال كثيرة
في هذا، ويكتبون عن النخلة الشيء الذي يعجز الإنسان عن تصوره، يقولون: إنها
تفرح وتحزن وتخاف وتطرب، وكل ذلك يثبتونه للنخلة، وبعض النخلات إذا طال
الزمن وما أثمرت يأتون بالحطب حولها أو القش ويقولون: إذا لم تثمر نحرقها،
ويشعلون النار في القش، هم لا يؤذون النخلة بشيء، ويقولون: في السنة
القادمة تخاف وتثمر! هذه حالات الله أعلم بشأنها.
فعلى كل أرباب الخبرة كتبوا في النخيل والزراعة كتباً وأشياء عديدة،
وأثبتوا النظريات التي قالوها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتاب البيوع - باب
المساقاة والإجارة [2]
جعل الله الناس بعضهم لبعض سخرياً، ينتفع بعضهم من بعض، فشرع الله عز وجل
المؤاجرة على الأعمال، وجعل لها شروطاً على اختلاف أنواعها، ومن أنواع
الإجارة إجارة الأراضي، وقد جاء الإسلام فنهى عما فيها من الغرر الذي كان
قائماً، وأجاز ما فيها من منفعة حفظاً لحقوق الطرفين، وصيانة للود بين
المسلمين.
أحكام الإجارة
[وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض
بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع،
فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا،
فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) رواه مسلم.
وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض] .
تعريف الإجارة
انتقل المؤلف رحمه الله من بحث المساقاة والمزارعة إلى المؤاجرة، وهو القسم
الثاني من عنوان المصنف في هذا الباب، والمؤاجرة تأخذ حيزاً كبيراً في كتب
الفقه والموسوعات.
يعرفون الإجارة بأنها: بيع المنفعة، بخلاف البيع فهو: بيع العين، فأنت
تشتري الدار وتصبح ملكاً لك، تبيعها أو تهبها أو تؤاجرها أو تغلقها أو
تهدمها أو تبنيها أنت حر، أما في عقد استئجار عين الدار فأنت لا تملك العين
ولكن المنفعة، وما هي المنفعة التي تأتي من الدار؟ المنفعة التي ترجى من
الدار هو السكنى، ولذا يقولون: من استأجر عيناً لا يجوز له استعمالها في
غير ما وضعت له وإلا كان متعدياً مفرطاً، فلو استأجر داراً للسكنى، ثم
حوّلها مدرسة، فلصاحب الدار الحق في أن يلغي العقد؛ لأن مضرة المدرسة
بالأطفال أكثر من مضرة الساكن رجل هو زوجته وولدان أو ثلاثة مضرتهم على
البيت ليست كمائة طالب، هذا يكسر النوافذ أو يخرب أو يستهلك ماءً أو.
إلخ، وهكذا.
فإذا استأجرها للسكنى لا يحق له أن يستعملها مستودعات للتجارة؛ لأن
المستودعات يضع فيها بضائع ومنها المطعومات، فتنشأ فيها الفئران وتتربع
وتسمن وتحفر في الأرض وتخرب، أما إذا استأجرها لسكناه فله الحق في أن
يؤاجرها لمثله في استيفاء مثل المنفعة التي استأجر عليها.
أدلة مشروعية
الإجارة
الإجارة أمر ضروري يقتضيه الشرع والعقل: أما الشرع؛ فقد جاءت النصوص بذلك
في قضية نبي الله موسى {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ
مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ، ثم قال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ} [القصص:27] ، والسنة ليس فيها إلا حجة واحدة {فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ، وقبل موسى وتم العقد فقال:
{أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] ، وكذلك الظئر تستأجر لترضع
الطفل، وأم موسى استرجعت ولدها وصارت ترضعه وتأخذ أجرتها، وهكذا يقول صلى
الله عليه وسلم: (عملت في مكة على قراريط) ، وعمل لـ خديجة رضي الله تعالى
عنها في مالها.
إنسان عنده أرض واسعة ولا يستطيع أن يزرعها، ماذا يفعل؟ يؤاجرها.
عنده مزرعة ولا يستطيع أن يقوم عليها؛ يساقي على شجرها، أو يؤاجرها كلها
وثمرها بينه وبين المستأجر.
أقسام الأجير عند
الفقهاء
قسم الفقهاء الأجير الذي يعمل للغير إلى قسمين: أجير عام لكل الناس، وأجير
خاص لهذا الشخص فقط؛ فالأجير العام: هو الذي يعمل لك ولغيرك على عين العمل
دون دخل للزمن فيه، مثل الخيّاط تستأجره على خياطة الثوب، والصائغ تستأجره
على صياغة الحلي، والنجار تستأجره على عمل الأبواب أو الدواليب، ويعمل
لغيرك بجانبك.
والأجير الخاص: هو الذي تستأجره وتملك مدة الإجارة، استأجرته يوماً أو
شهراً أو سنة على حسب الاتفاق، فمدته الزمانية ملك لك، إن نومته نام، وإن
شغلته اشتغل، تستغل وقته في العقد الذي آجرته عليه.
ثم يفصل الفقهاء أحكام كل نوع من الأجراء، فالأجير العام ضامن، وأول من
ضَمَّن الأجراء هو علي رضي الله تعالى عنه، فإذا أعطيته قماشاً ليخيط لك
ثياباً فالأصل أن القماش عنده أمانة؛ لأنه أجير يعمل فيه لحسابك، فإن تلف
هذا القماش أو ضاع أو انحرق، أو.
إلخ، فعلى حساب من؟! وكانت تضيع السلع على الناس، فـ علي ضمَّنهم ليحافظوا
على سلع الناس، ويؤدون الحقوق كما استلموها.
والأجير الخاص ليس بضامن لشيء إلا إذا تعدى؛ لأنه يعمل وأجرتك عليه لجهده
اليومي -زمنه- فإن تعدى أو فرط فهو ضامن بتعديه أو تفريطه، لكن إذا تلف على
يده شيء بدون قصد فلا ضمان عليه.
مثلاً: وضع الشاي في الكأس وهو حار فانكسر الكأس، هو لا يعلم بأن الحرارة
تسبب التمدد، والتمدد الداخلي يسبق التمدد الخارجي، فلا يتجاوبان معاً،
فتمدد الداخل يكسر الخارج، وهذه نظرية في الزجاج: إذا كان الزجاج سميكاً
-اثنين أو ثلاثة مليمترات- وكان بارداً، وصببت الحار فيه، فإن الحار يسبب
تمدداً في الزجاج، فالقسم الداخلي يتمدد بسرعة، لكن الحرارة لم تنفذ إلى
القسم الخارجي، فهو بطيء التمدد، ومن هنا يكسر من الداخل ليتيح فرصة
التمدد، ومن هنا نجد أن ثلاجة الشاي إذا صببت فيها الحار قل أن تنكسر،
لماذا؟ لأن التمدد الذي يحدث في الداخل حالاً يحدث في الخارج؛ لرقة سمك
الزجاجة، فهي رقيقة كالورقة، فإذا بدأ التمدد في الداخل تجاوب معه الخارج،
فليس هناك مضايقة وليس هناك انكسار.
المهم عندنا: أن الأجير الخاص إذا لم يتعمد إتلاف الشيء فلا ضمان عليه،
وهنا وردت في إيجار الأرض فقط، ولكن سيأتي بعد ذلك ما يوحي بعموم الأجير:
(ثلاثة أنا خصمهم ... ) .
شرط الأجير والعين
المؤجرة
في رأيي أن كل نساء كان في هذا الحديث، وكل اختلاف كان في هذا الباب قد
انقضى أثره، وذهب تأثيره، وانعقد الإجماع على ما عليه الناس اليوم في
الإجارة في الجملة، والمنع إنما يأتي لما فيه غرر على الأجير أو المستأجر،
وما سلم من الغرر في عقد الإجارة فهو ماضٍ، وسيأتي التنبيه على من الذي يصح
له أن يؤاجر نفسه، وفي أي شيء يكون عقد الإجارة.
ويشترطون في الأجير: أن يكون عاقلاً بالغاً، يملك أمر نفسه، بخلاف العبد
المملوك لسيده والصبي، فالعبد لا يملك أن يؤاجر نفسه إلا بإذن السيد،
والصغير ليس كامل الأهلية على أن يؤاجر نفسه.
ويشترطون لصحة العين المؤجرة: أن لا تكون المنفعة محرمة، فإذا كانت المنفعة
المستوفاة محرمة لا يصح هذا العقد، كمن أجر داره لتكون محلاً لشرب الخمر،
أو محلاً لممنوع أو محرم شرعاً، فلا يجوز ذلك، أو تستأجره على أن يعصر
الخمر، هذا العمل محرم، ولا يجوز له أن يعمله، ولو كان يعمله في بيته هو؛
لأن أصل العمل محرم، فكيف يباح له أن يستأجر من يعمله؟!
أحكام إجارة الأراضي
وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض
بالذهب والفضة فقال: لا بأس به] .
ورافع بن خديج فيما يخبر عن نفسه: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً -أو زرعاً أو
نخلاً- فكانت لهم الأراضي الواسعة والبساتين المتعددة، وكانوا يؤاجرون
ويستأجرون، فهو أدرى من غيره بهذه الأحكام؛ لأنه يخالط ويباشر ويعامل في ما
يتعلق بالموضوع وهو الإجارة؛ ولهذا وجه السؤال إليه، وما وجه لـ أبي هريرة؛
لأن أبا هريرة ما كان عنده من الأراضي والنخيل في بادئ الأمر ما يجعله يكون
لصيقاً بأحكامها، بخلاف ما كان فيما بعد من إمارته على البحرين، وكان له
بستان مكانه الآن على طريق الهجرة ما بين قباء ومسجد أبيار علي من جهة
الجبل.
شرط تعيين الأجرة
والمنفعة المطلوبة
قال: سألت رافع عن إجارة الأرض بالذهب والفضة -يعني: بالنقد-.
قال: لا بأس.
وهنا يتحقق الشرط عند الفقهاء، وهو شرط لصحة عقد الإجارة، وهو معرفة
المنفعة المطلوبة، وقيمة الأجرة المطلوبة في هذه المنفعة فتكون الأجرة
معروفة محددة بدينار أو بعشرة دراهم، أو بعشرين درهماً؛ فإذا كانت الأجرة
معلومة والمنفعة المطلوب استيفاؤها معلومة، فلا بأس بذلك.
وهنا أيضاً يقال لمن منعوا المساقاة: الذي يدفع الذهب والفضة في أرض بيضاء،
هل يعلم كم سيحصل له من زراعة الأرض؟ لا يعلم، فكيف صححتم عقد الإجارة
والمستأجر يدفع المال ولا يعلم ماذا سيحصل عليه؟ كما أن المساقاة عقد غرس
قائم، وبحكم العادة ومرور السنين نجد النخل كل سنة ينمو.
إذاً: عقد المساقاة أضمن من عقد الإجارة؛ لأن المساقاة في أقل الأحوال
الأصول موجودة، والثمار فرع عنها، بخلاف الأرض فهي أرض بيضاء؛ ستحرث ويوضع
فيها الحب ويدفن ويسقى الماء ثم على بركة الله، فصاحب النخل أضمن لأجرته من
صاحب الأرض البيضاء.
فأجاز رافع إجارة الأرض بالذهب والفضة، يعني النقد.
فلو جاء بسبيكة ذهب أو فضة لا ندري كم وزنها، ولا قيمتها لم يصح العقد؛
لأنه ربما يطرأ على العقد ما يوجب فسخه، وتصبح الأرض غير مستحقة أو يمنع
منها، فيأتي المؤجر ويمنع المستأجر من العمل ويفسخ العقد، مع أن الإجارة
عقد لازم، فماذا يكون الحل، نرجع للسبيكة فلا ندري كم وزنها، إذاً لابد من
معرفة أجرة الأرض.
ومثله لو قال: استأجرها بحفنة من الدراهم، أو بكيس من الدنانير، وهو لا
يعلم كم فيه، لم تصح الإجارة.
النهي عن الإجارة
على شيء من الزرع في أماكن معينة
[سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما
كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات،
وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع] .
رافع يقول: لا بأس بالذهب والفضة؛ لأنه شيء معلوم، وكلا الطرفين يمكنه أن
يرجع إليه، وإنما كانت الإجارة أو المؤاجرة المنهي عنها على عهد رسول الله
على ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وهي الحياض وما يليها من الزرع
الذي يكون على طرف الحوض بجوار الحد الترابي، هذا متوافرة فيه كمية الغذاء
والسماد للنبات، فإذا وجد كفايته من الماء يكون الزرع في تلك الجوانب
والأطراف أقوى وأكثر ثمرة مما هو في داخل الأحواض؛ لأن الذي في داخل
الأحواض يتزاحم بعضه مع بعض، والذي على أطراف الجداول يمر عليه الماء مدة
أطول مما هو في آخر الحوض، وأقبال الجداول أيضاً ما كان مما يلي الربيع
-على ما سيأتي- يأخذ من الماء أكثر مما هو في آخر الحوض.
فكانوا يكرون الأرض على شيء من الزرع في أماكن معينة، وبقية الأحواض تكون
للعامل، المستأجر يأخذ الأرض وأجرتها، ما سيحصله من داخل الحوض أو مما
سيحدده له المؤجر، فإذا كان الأمر كذلك يقول رافع: ربما صح هذا وهلك ذاك،
وربما هلك هذا وصح ذاك، فبعض النباتات لا تحتاج إلى كثرة في الماء، وكثرة
الماء قد تفسدها، ويكون داخل الحوض أحسن من خارجه أو طرفه، المهم قد يصيب
الزرع بعض الآفات.
فعقد الإجارة من أوسع أبواب الفقه، من حيث كيفية المؤاجرة، والعاقدان:
المؤجر والمستأجر، والعين المعقود عليها، والإجارة في الفقه: عقد على منفعة
العين، أو يقولون: بيع المنفعة أو منفعة الرقبة، فبيع المنفعة لا يتناول
الأصل أو العين، وتقدم بيان ذلك: بأن يوجد من يشتري الدار، وآخر يستأجرها،
فالذي اشتراها اشترى عينها: بناءها وأرضها وتخومها وهواءها، يتصرف فيها
تصرف الملاك، والذي استأجر المنفعة ليس له في عين البناء ولا لبنة، وليس له
في العين المؤجرة شيء قط، إنما يستوفي منفعته في الغرض الذي استأجر من
أجله.
استأجر سيارة للحمل والنقل، وبحسب أيضاً موضوعيتها، هناك سيارة لحمل
الثقيل، وسيارة لحمل الآدمي؛ فكل يستعمل أو يستوفى في منفعته التي جعل لها.
مشروعية مؤاجرة
الإنسان نفسه
عارض بعض الناس في جواز إيجار الإنسان نفسه، مع أن الكتاب والسنة جاءت
بتقرير جواز تأجير الإنسان نفسه، كما جاء في قصة نبي الله موسى عليه السلام
مع والد زوجته: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، وكما قال
صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى؛ آجر نفسه على عفة فرجه وإطعام فمه) ،
فهذه إجارة ثابتة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم.
قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها على قراريط لأهل مكة -أو:
قراريط بمكة-) .
والناس يختلفون في كلمة (قراريط) وهي جمع قيراط، والعرف السائد في مجتمعات
الناس: أن القيراط جزء من مجموع، وبعضهم يجعل هذا المجموع هو الأربعة
والعشرين؛ لأنه العدد الذي يمكن أن يؤخذ منه جميع الأسهم في الفرائض
الواردة في كتاب الله: ثمن وسدس وثلث ونصف وثلثين، كل هذه الكسور
الاعتيادية يمكن إخراجها من الأربعة والعشرين بدون كسر، فاتفقوا على هذا
حتى في الذهب وما يخلط معه من المعادن الأخرى، وهو -كما يقولون- الشبه، وهو
نوع من الصِفر يشبه الذهب، يقول: هذا عيار أربعة وعشرين، عيار واحد وعشرين،
فإذا كان عيار أربعة وعشرين يكون ذهباً خالصاً ليس فيه خلط، وذهب أربعة
وعشرين لا يصلح للصياغة؛ لأن الذهب في أصله لين، ولابد أن يضاف إليه معدن
آخر يعطيه نوع صلابة؛ ولهذا لصياغته يضاف إليه قيراطان من النحاس الصلب،
فتجد من يقول: عيار واحد وعشرين، يعني: الذهب الخالص في هذا الجرم من الحلي
واحد وعشرين قيراط، وباقي الأربعة والعشرين -ثلاثة قراريط- من النحاس، أو
عيار اثنين وعشرين، وهي أعلى نسبة في الصياغة.
فهنا بعض العلماء يقول: معنى (على قراريط) يعني: على نسبة معينة من
الدنانير أو الدراهم.
والبعض يقول: لا هذا ولا ذاك، القراريط اسم مكان في مكة.
ويجاب عن هذا بأن أهل مكة لا يعرفون بقعة فيها تسمى (قراريط) ، وقائل هذا
يقول: إن العرب لم تكن تعرف النسبة بالقيراط.
وأعتقد أن هذا القول فيه نظر.
فقد جاء الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه قال: من يعمل لي
من أول النهار إلى الظهر وله قيراط.
فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من الظهر إلى العصر وله قيراط.
فعملت النصارى، ثم قال لهذه الأمة: تعملون من بعد العصر إلى غروب الشمس
ولكم قيراطان.
فغضبت اليهود والنصارى، قالوا: كيف يكون عملنا أكثر وأجرنا أقل؟! قال: وهل
أنقصتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا.
قال: هذا فضلي أوتيه من أشاء) ، ولهذا قال العلماء: إن كل ما يحصل عليه
العبد من الأجر على عمل الطاعات هو فضل من الله ليس بكسبه بذاته.
وهذه حقيقة تحتاج إلى رجوع إلى الوراء والتأمل فيها قليلاً، أنت صمت.
بم صمت وذاك مريض لا قدرة له على الصيام؟ وأنت صليت.
بم صليت وغيرك منصرف عن الصلاة أو كسلان عنها؟ أنت حججت.
بم حججت وغيرك يملك الملايين ولم يحج؟ إذاً: صومك بطاقة الصحة فضل من الله،
والله الذي أعطاك الطاقة في بدنك لكي تستطيع أن تصوم، والله الذي منحك
الهدى والتوفيق لتؤدي الصلاة والقدرة عليها، والله الذي جعل لك استطاعة على
الحج بالمال والبدن.
فقوله هنا: (من يعمل لي) يبوب عليه البخاري رحمه الله: باب الأجرة على نصف
النهار، رداً على من يقول: لا تصح إجارة الإنسان إلا يوماً كاملاً، ولكن
هذا ليس بلازم، فقد تستأجر الإنسان الساعة والساعتين، ويوجد في بعض نظم
العمل الأجر بالساعة، وكما يقولون في الأعمال العادية (OVER
TIME) يعني: ساعات زيادة على العمل الرسمي، ويحاسب
عليها.
وجاء أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: (من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن
شيعها حتى تدفن فله قيراطان، ومن اقتنى كلباً غير كلب صيد أو ماشية نقص من
أجره كل يوم قيراط) .
إذاً: القيراط معروف كجزء من الأجر متداول عند الناس، والرسول يخاطب الناس
بما يعلمون، إذاً: (على قراريط) جمع قيراط، وهو الجزء من عدد معين، وتختلف
البلدان في هذا العدد من حيث هو، وعند المسلمين والعرب في حساب الفرائض هو
أربعة وعشرون.
وكما قالت ابنة شعيب: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، إذاً: الأجرة قديمة،
وهذا نبي من أنبياء الله يؤاجر نفسه.
وعلي رضي الله تعالى عنه لما جاء المدينة مر على تراب ومعه تبن مخلوط، ثم
مر عليهم في الغد فإذا هو على ما هو عليه، ومر عليه في الغد فإذا هو على ما
هو عليه، فسأل: لمن هذا التراب المخلوط بالتبن؟ قالوا: لفلانة، لم تجد من
يمتحُ لها الماء لتعجنه، فقال لها: أنا أمتح لك، كم تعطيني؟ قالت: على
الدلو تمرة.
فمتح لها ستة دلاء وأخذ ست تمرات.
إذاً: المؤاجرة على الأطيان والمساكن والحيوانات والآدمي جائزة.
حكم استئجار غير
المسلم
هنا مسألة يعقد لها البخاري باباً: استئجار المسلم لغير المسلم.
فهل يجوز للمسلم أن يستأجر مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً؟ يذكر ابن حجر أن
هناك من يمنع من هذا كلية، ولا يجوز التعامل معهم، ويذكر للجمهور القول
بالجواز، ويذكر عن مالك الجواز عند الحاجة، وما هي الحاجة؟ إذا لم يجد عنه
بديلاً مسلماً في عمل من الأعمال -كما يقولون- الفنية، أو التخصصات النادرة
فلا مانع، وساق قصة ابن أريقط الذي استأجره أبو بكر رضي الله تعالى عنه
للدلالة على طريق الهجرة، قال: استأجراه -الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر - وكان رجلاً خريتاً من بني دؤل مشركاً على دين قومه، وهنا شرف الكلمة،
وأمانة الأجير: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}
[القصص:26] ، فهذا مشرك على دين قومه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يريد أن ينتقل خفية من قومه، ومع ذلك يأتمنه؛ لما عرف عنه من الأمانة،
فأعطاه أبو بكر راحلتين، وواعداه الغار بعد ثلاثة أيام، فجاء على الموعد،
فدلهم على الطريق، ويختلف الناس بعد ذلك: هل أسلم أو لم يسلم؟ وابن حجر
يرجح أنه أسلم بعد هذا.
يهمنا أنه عند العقد كان مشركاً، ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة
الله تعالى علينا وعليه- في تفسير قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، يقول: التدبر في
آيات كتاب الله والعمل بها تقتضينا أن نأخذ بالصناعات وبالفنون وبالعلوم
ولو من غير المسلمين ما دام في ذلك خدمة لديننا، ولا تتعارض مع الدين في
شيء، وذكر الطبيب غير المسلم، والفنيين أو أرباب الصناعات أو غير ذلك مما
المسلمون بحاجة إليهم.
إذاً: الاستئجار يكون للعين من الجمادات: الدور والبساتين، وللحيوانات وما
استحدث الآن من السيارات والطيارات، والآن يوجد تاكسي طائرة في أوروبا
لأصاحب الأعمال يستأجرونها للتنقل عليها، البواخر.
إلى غير ذلك من وسائل النقل الحديثة، وكذلك إجارة الإنسان.
والبحث عندنا الآن فيما كانت الإجارة عليه، وهو: الأراضي.
والمدينة كانت زراعية، وكانت الإجارة فيها إما مساقاة أو مزارعة أو استئجار
البستان بكامله، وكذلك الأرض البيضاء يستأجرها الإنسان ليزرعها، كيف كنتم
تصنعون في مزارعكم يا رافع؟ قال: إما استئجارها بقدر معلوم من ذهب وفضة فلا
بأس: هذه قطعة أرض مائة في مائة متر، خمسين في خمسين، ألف في ألف، أستأجرها
منك بدينار، أو بعشرة، أو بمائة، لا بأس في ذلك، وهو الذي يعنيه الفقهاء
بقولهم: لابد من تعيين الأجرة لئلا يكون هناك نزاع فيما لو حصل فسخ للعقد،
أو حصل ما يوقف الاستفادة من الأرض، فيكون المستأجر له حق الرجوع على
المؤجر بحصته من الأجرة التي دفعها.
قال: أما بشيء معلوم ذهب وفضة فلا بأس.
إذاً: هذه قاعدة عامة عند جميع المسلمين، تستأجر بيتاً، بستاناً، أرضاً
بيضاء، آلة نقل أياً كانت بنقد معين فلا بأس.
إسناد الصحابة الحكم
للعهد النبوي
يقول رافع: (أما بالذهب والفضة فلا بأس، وإنما -أداة للحصر- كان الناس
يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكلمة (على عهد رسول الله)
، كأنه يسند ذلك إلى رسول الله، وهل رسول الله حضر العقود، والمزارع؟ لا،
إنما رافع يذكر الصورة الواقعة، ولماذا قال: (على عهد رسول الله) ؟ لأن
هناك قاعدة: ما كان الله سبحانه وتعالى ليقر الناس على خطأ ورسول الله
موجود، فكونه على عهد رسول الله يعني: أقره رسول الله، أو أقره الله في
حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مسنداً إلى رسول الله، فإسنادهم
الفعل لعهد رسول الله إشعار بأن الرسول وافق عليه، وقد تكون هناك أيضاً
أشياء هو لم يطلع عليها لكن تسند إليه؛ لأنه لو كان منكراً لنُبه عليه، كما
جاء في موضوع من خواص البيوت، وأعمق ما يكون اختفاءً قال: (كنا نعزل
والقرآن ينزل) والعزل شيء بين الرجل وامرأته، يعزل عنها الماء حتى لا تحمل
منه، فعملية العزل هذه من يحضرها؟ حتى الرجل لا يرى هذا بعينه، وإنما هي
عملية تلقائية بين الرجل والمرأة، قال: (والقرآن ينزل، فلو كان شيئاً ينهى
عنه لنهانا عنه القرآن) ، فعدم نهي القرآن لهم عن العزل اعتبروه تقريراً
لهذا الفعل.
ويأتي بعض العلماء يناقش: وهل علم رسول الله أو لم يعلم؟ ليس بلازم أن يعلم
مباشرة، المهم كونهم أقروا على ذلك والقرآن ينزل، وما قال: يا محمد! نبهم
ألا يفعلوا ذلك.
فاستدلوا على هذا العمل في هذا الوقت على جواز العزل، وأغفلوا النصوص
الأخرى؛ لأنه لما أخبر بأنهم يعزلون وكان هذا في بعض الغزوات، وذلك لما
طالت عليهم العزوبة، فقالوا: نطأ السبايا ونعزل، قال: (أو تفعلون! إنها
الموءودة الصغرى) ، وهذا نهي عن العزل، فقوله: (نعزل والقرآن ينزل) إنما هو
بالمضمون والمفهوم وباللازم، ولكن هنا بصحيح العبارة (أو تفعلون! إنها
الموءودة الصغرى) ، إذاً: أي الأمرين يقدم؟ احتمال أنه يعلم ولم ينههم عن
ذلك، أو كون القرآن ينزل ولم يأتِ نهي، أم التصريح منه صلى الله عليه وسلم
مشافهة: (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، والموءودة الصغرى لا يقرون
عليها؟ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] سواء كبرى كانت أو
صغرى.
منع الشرع من
المؤاجرة على جزء معين من الأرض
ذكر رافع صور الإجارة التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك
الصور العقل يأباها؛ لأنها غير عادلة وفيها غرر: كان الناس يؤاجرون على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول) .
يعني: يؤاجرون ويجعلون أجرة الأرض التي تزرع ما ينبت على الماذيانات وأقبال
الجداول، وما معنى هذا؟ قالوا: إذا طاب الزرع جاء المستأجر وحصد ما نبت على
الماذيانات وأقبال الجداول وجمعه وقدمه لصاحب الأرض أجرة على أرضه، ويبقى
للمستأجر عموم ما داخل الحوض.
إذاً الزراعة انقسمت إلى قسمين: قسم لصاحب الأرض، وقسم للمستأجر.
وهل القسمان متساويان في النبات؟ وهل هما متساويان في الإنتاج والثمرة؟ لا،
فيصح هذا ويهلك ذاك يصح ما على الماذيانات وأقبال الجداول، ويهلك ما بداخل
الحوض، لأنه يأته ماء كافٍ، وقد يكون العكس: يصح ما بداخل الحوض، ويهلك ما
على الماذيانات وأقبال الجداول لكثرة الماء، فالزرع في بعض الأحيان لا يقبل
كثرة الماء، ويحتاج إلى ماء بمقدار، وأنواع الزراعات كالذرة والشام مثلاً
إذا زرع بعلياً وطلع لابد أن يشرب على عدد إحدى وعشرين يوماً، أما إذا شرب
على تسعة عشر أو على اثنين وعشرين ما أفاد، بل لابد أن يشرب على إحدى
وعشرين يوماً من يوم أن زرعته ودفنته في التراب، ثم بعد ذلك على عدد معين
يسمونها السقية الثانية؟ إذاً: قد يصح هذا ويهلك ذاك، ويهلك هذا ويصح ذاك؛
فحينئذ حينما يقع الهلاك على الماذيانات ورءوس الجداول ماذا استفاد صاحب
الأرض، تكون المصلحة كلها للمستأجر، وإذا صح ما على الماذيانات وأقبال
الجداول وهلك ما في داخل الأحواض فأين أجر الأجير المسكين؟ لا شيء.
لكن حينما نقول: تزرع الأرض على جزء مما يخرج منها: ماذياناتها مع جداولها
مع حياضها، حصدنا الجميع دون استثناء وصفيناه، وكان العقد على ربع الثمرة
أو ثمن أو ثلث أو نصف الثمرة، إن صح شيء صح للجميع، وإن هلك شيء هلك على
حساب الجميع، وهكذا لا يكون في ذلك غرر ولا غبن.
[ (ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه) ] .
ولهذا زجر عن هذا النوع من الإجارة، فزجر عن إجارة الأرض على جزء معين محدد
مما ينبت في أجزاء من الأرض، لا على نسبة مشاعة في جميع الزرع، فلما فيه من
الغرر نهى عنه.
فائدة رواية الحديث
كاملاً
في بعض الروايات: (أن رافعاً أتى أهل قباء وقال: يا أهل قباء! لقد جئتكم من
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر كانت لكم فيه مصلحة، ولكن طاعة رسول
الله أولى، نهى عن المزارعة) ، وذكر هذا الأمر.
وجاء عن زيد بن ثابت قال: (رحم الله رافعاً، والله إني لأعلم بالحديث منه،
إنما جاء رجلان يختصمان في أرض استأجرها أحدهما من الآخر-وذكر الصورة،
فقال: أو تفعلون ذلك! فنهى عن الإجارة حينئذ) .
وهنا يقول الصنعاني: رافع اقتصر هنا على جزء من الحديث فأخل بالمقصود، لأنه
قال: نهى.
فهل نهى ابتداءً أو نهى لسبب المنازعة والخصومة؟ نهى لسبب النزاع والخصومة
في تلك الصورة التي لم يكن لهم إجارة إلا هي، وهنا التنبيه على أن طالب
العلم لا يأخذ جزءاً من الحديث ويترك الباقي، قد يكون في هذا الجزء ارتباط
وثيق قوي بأوله، وقد يكون أول الحديث علة لآخره، أو تمهيداً له، أو سبباً
فيه، فلابد من جمع أطراف الحديث كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا ينبغي
للمحدث أن يحدث بالحديث حتى يجمع أطرافه) .
ومن هنا كان التأليف في باب (أطراف الحديث) ، والبخاري رحمه الله قد يقطع
الحديث في مواطن متعددة، ولكن يأتي بالجملة من الحديث على قدر معنى الباب،
وقد يعيد الحديث بعينه ولفظه مراراً لعدة معانٍ فيه، وفي كل مرة يورد
الحديث لجزء منه، كما في حديث: (من عمل لي إلى الظهر) ، قال: باب من استأجر
إلى نصف النهار.
وساق الحديث، ثم عقب عليه: باب من عمل إلى العصر.
وساق عين الحديث الأول؛ لأن الحديث يشتمل عليهما.
يهمنا في هذا: أن طالب العلم عندما يحدث بجزء من حديث يتعين عليه أن يقف
على تمام الحديث؛ ليربط آخره بأوله.
معنى قوله: (فأما شيء معلوم ... )
[فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به] .
فنهى عن ذلك لأن هذا يفسد وهذا يصح، فهو غرر.
(أما شيء معلوم) ، وكلمة: (شيء) كما يقول علماء اللغة والمنطق: أعم
العمومات، لا يخرج منها شيء، حتى رب العزة، كما قال الله: {كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، فكلمة (شيء) أعم العمومات في اللغة.
(أما شيء معلوم) دينار ذهب درهم فضة فلوس نحاس طعام لباس.
أي شيء من هذا كله داخل في: (شيء معلوم) ، فعندما يأتي إنسان ويقول:
استأجرت منك الدار عشر سنوات بنخلي.
هذا شيء، فهو يملكه النخيل على أن يستأجر منه الدار عشر سنوات، أو استأجرت
منك الدار ببعير، بسيارة نوع كذا، تعال انظر واكشف عليها، بشاة.
إذاً: أقبال الجداول والماذيانات شيء ولكنه ليس معلوماً، وهنا نهى صلى الله
عليه وسلم عن الإجارة بالشيء غير المعلوم، أما شيء معلوم بعينه ومقداره صاع
من تمر أو بر، إلا عند مالك: فإذا كانت العين تستأجر لنوع من الطعام، فلا
يجوز -عنده- أن تكون الأجرة من عين هذا الطعام.
استأجرها ليزرعها ذرة، لا يصح -عند مالك - أن تكون الأجرة ذرة؛ لأن
المستأجر يكون قد اشترى ثمرة الزرع الذرة بقدر الأجر الذرة الذي دفعه،
فيكون ذرة بذرة مع النسيئة والتفاضل، أما إذا كان سيزرعها قمحاً، والأجرة
ذرة أو أرزاً فلا مانع.
إذاً: كلمة (شيء) من العمومات، فإذا وقعت الإجارة وليست خاصة هنا بالأرض
الزراعية فقط، بل كل عين مؤجرة إذا كانت الأجرة شيئاً معلوماً معيناً فلا
بأس، ولا يجوز أن يأتي ويقول: آجرني بعيرك غداً.
ويسكت عن الأجرة، بل لابد أن يعين.
وكذلك يزيد الفقهاء نوع العمل، وبعضهم يقول: تعيين العمل ليس بلازم والعرف
يحدد، فشعيب لما قال لموسى عليه السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ، قال: موافق.
هل عين له عين العمل الذي سيعمله؟ المدة عرفناها: ثمان أو عشر، لكن ما نوع
العمل؟ سيبني، سيحرث، سيرعى الغنم، سيتجر، ماذا يفعل؟ لم يبين له؛ لكن عرف
من الحال أنه لرعي الغنم، ويقوم بمهام شعيب التي كانت تقوم بها بناته،
فيكفيه المئونة في ما كانت تعمله بنات شعيب، وبنات شعيب ماذا كن يعملن؟ كن
يرعين الغنم: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] ،
فيأتي موسى يحل محلهما في رعي الغنم.
وقدمنا بأن الأجير على قسمين: أجير خاص لك زمنه، تشغله كيفما شئت في ما
يستطيعه ويعرفه، مرة جعلته يستقبل الطلبات من السوق، ينظف البيت، يساعد
البنائين في البنيان.
ما يستطيع فعله فلك فعله ولك الزمن، بخلاف الأجير العام، الآن يتعاقدون مع
الشغالات في البيوت هل يكتبون لها ماذا تعمل؟ تنظيفات أو مطبخ أو كذا؟
أبداً، عمل البيت معروف بالجملة عرفاً، لكنهم لا يكلفوها بأن تخيط؛ لأن
الخياطة عمل مستقل، ولا أن تصير ممرضة، فالتمريض عمل مستقل.
إذاً: هناك من يقول: تعين للعامل الذي استأجرته نوع العمل، كما تحدد له نوع
الأجرة.
وبعضهم يقول: تحديد العمل ليس بلازم، إنما يحدده العرف.
[وفيه بيان لما أجمل في.
] .
يقول المؤلف تعقيباً على الحديث: وفيه بيان لما أجمل من إطلاق النهي عن
كراء الأرض؛ لأن الأحاديث جاءت مطلقة تنهى عن كراء الأرض، وجاء هذا الحديث،
وهل نهى مطلقاً أو عن صورة معينة؟ عن صورة معينة، وأباحها في صورة معينة،
إذاً: الأحاديث الواردة المطلقة في النهي عن كراء الأراضي يخصصها هذا
الحديث، ويبين بأن عموم النهي ينصب على عقد الإجارة الذي فيه غرر وجهالة،
أما عقد الإجارة على شيء معلوم مضمون فلا بأس، فقد بين هذا الحديث ما أجمل
في الأحاديث التي جاءت بالنهي.
صورة المزارعة التي
نهى عنها الشارع
[وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة) ، رواه مسلم أيضاً] .
هذا تأييد لما تقدم من أن إجارة الأرض -على الشرط المتقدم- بشيء معلوم
مضمون لا بأس به.
أما قوله: (نهى عن المزارعة) ، فهذا مما تقدم الكلام عليه، وحمل هذا على
أنهم كانوا في أول الأمر يزارعون ما لا يستطيعون القيام بزرعه، فيقولون؛
جمعاً بين المزارعة في خيبر والمساقاة: كان المراد بذاك النهي الإرفاق: (من
كانت عنده أرض فليَزرعها أو يُزرعها غيره) ، لديك أرض زائدة عنك، وعاجز عن
زراعتها، أعطها لغيرك يزرعها، وكان ذلك في بادئ الأمر عند مجيء المهاجرين
إلى المدينة، فكان فيه حث على مشاركة المهاجرين لمن عنده أرض عاجز عن
زراعتها يقول له: أعطها له يزرعها، من باب المواساة، ثم بعد ذلك لما وسع
الله على المسلمين أصبحت المزارعة والمؤاجرة والمساقاة سواء.
كتاب البيوع - باب
المساقاة والإجارة [3]
ما زال هذا الشرع تبدو جوانب كماله وصلاحيته في كل زمان ومكان، ومن تلك
الجوانب ما جاء في الحجامة، فهي وإن كانت مسألة طبية محضة إلا أن لها فوائد
أقرها الطب الحديث، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم الحجام
وأعطاه أجرته وزيادة، فهو وإن كان حجاماً إلا أن حقه يجب أن يؤدى إليه
كاملاً غير منقوص، فقد حذر الشرع من مغبة أكل حقوق الأجراء، حيث جعلهم
المولى جل وعلا خصوماً له يوم القيامة، وجعلهم هم ومن أعطى بالله ثم غدر،
ومن باع حراً وأكل ثمنه في مرتبة واحدة؛ لاستوائهم في جرم الاعتداء على
حقوق الآخرين.
أحكام الحجامة
[وعن ابن عباس قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى الذي حجمه
أجره، ولو كان حراماً لم يعطه) ، رواه البخاري.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسب
الحجام خبيث) ، رواه مسلم] .
مشروعية الحجامة
وخبث كسبها
يلاحظ في هذا الترتيب بين الحديث الأول: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم
وأعطى الذي حجمه أجره) إلى هنا الكلام سليم جداً، أما التعقيب عليه: (فلو
كان شيئاً حراماً لم يعطه) ما الذي أتى بشبهة الحرام هنا؟ قوله: (كسب
الحجام خبيث) أيهما كان أولى بالتقديم: (كسب الحجام خبيث) ثم يأتي ويرد
عليه (بأن الرسول احتجم وأعطى الحجام أجرة، ولو كان حراماً لم يعطه) ؟
الأولى: (كسب الحجام ... ) ؛ لأنه يعطي الحكم على كسبه بأنه خبيث، ثم يرد
هذا الفهم عندنا بأن الخبث ليس معناه الحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى
الحجام أجره، ولكن المؤلف غاير في الإيراد.
سبب كون كسب الحجام
خبيثاً
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث) ، وهل خبث المال يدل على
حرمته، أو يدل على استقذاره؟ ليس حراماً لأن المنافقين كانوا يتصدقون،
وكانوا يتيممون الخبيث من أموالهم ينفقونه، فما جعل الرسول صلى الله عليه
وسلم المال الخبيث الذي يعطى لأهل الصفة حراماً، بل كان حلالاً يأكلونه،
لكن عاب على المنافقين أن أحدهم يتيمم النوع الخبيث من التمر ويأتي به
ويعلقه لأهل الصفة، بينما كان كرام الناس والمؤمن بالأجر وبالعوض عند الله
يأتي بأحسن أنواع التمور أو الرطب أو غير ذلك ينفقه عليهم، والمنافقون
يعتبرون هذه غرامة، فلا يأتي بالجيد.
إذاً: معنى قوله: (كسب الحجام خبيث) أي: غير مستطاب، يقول العلماء: لا
ينبغي لحر كريم أن يعمل بهذه المهنة، وبعضهم قال: خبثه بسبب ما يتعاطى من
الدم، والدم نجس، حيث كان الحجام يعمل بالقرن، فحين ينخلع القرن بطابق منه،
يخرمه ويجعله على محل التشريط ويشفط بفمه ليبتز الدم، فلربما زاد في الشفط
فغلبه الدم ووصل إلى حلقه دون قصد، فمن هنا كان الخبث، فلما كان الأمر
كذلك، وجاء حجام وسأل، قال: (ماذا أفعل فيما أعطى؟ قال: أطعمه الدواب أو
أطعمه العبيد) ، فهنا قالوا: سيطعم الدواب حراماً، أو يطعم العبيد الحرام،
وهو مكلف بأن يطعمهم من الحلال! إذاً: كسب الحجام خبيث لما فيه من دناءة
بالنسبة لبعض الناس.
ثم يأتي الحديث الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم.
وهذا أولاً يثبت مشروعية الحجامة، ثم أعطى الحجام أجره، بل هناك زيادة في
حديث بني بياضة: (أنه استوصاهم به خيراً، ثم أرسل إليهم أن زوجوه) ، فقد
أكرم الحجام بأجره وبالوصاية به، فليس هناك أي إهانة له أو ابتذال.
الحجامة من الناحية
الطبية
هنا بحث العلماء من جانب الطب في الحجامة، وجميع العلماء في السابق كان
الطب النبوي معلوماً عندهم، وأعرف شيخاً جاء من باكستان لتدريس صحيح
البخاري، وكان يحفظه عن ظهر قلب، وسأله البعض عن حديث في البخاري، قال:
بهذا اللفظ الذي تذكره لا أعرفه، ولكنه فيه بلفظ كذا، فصحح له اللفظ، وكان
طبيباً، وكان له مطب عربي في باكستان، فكان العلماء سابقاً أطباء، والحجامة
من الطب النبوي، وكانت معروفة عند العرب، لكن يذكر ابن القيم رحمه الله في
مبحث الحجامة ما ينبغي لكل إنسان أن يقرأه قبل أن يقدم عليها.
أولاً: هناك سن قبله لا تجوز الحجامة، وهو عين الموجود في الطب الحديث
اليوم، بنك الدم لا يأخذ من شخص دون السابعة عشر من عمره، ولا يأخذ أيضاً
من شخص جاوز الستين من عمره، وما بين هذين يمكن أن يأخذ بنك الدم دماً
يحتفظ به عنده.
ويشترط في من يؤخذ منه أن يكون ما بين المرة والمرة فترة لا تقل عن ستة
أشهر.
ويذكر ابن القيم تنظيماً آخر في موضوع الحجامة: فهو يمنعها في يوم من
الأسبوع لعله يوم الأربعاء أو غيره، ويحث عليها في الصيف؛ لحديث: (لا يتبوغ
بكم الدم) ، والحجامة هي الفصد، وتعني أخذ الدم من الجلد بعد تشريطه
تشريطاً خفيفاً جداً، ثم يؤتى بآلة ماصة، أو عن طريق تفريغ الهواء أو
الشفط، فيبتز الدم من الجلد، أو بالفصد من العرق مباشرة كما يعمل في أخذ
الدم من صحيح إلى مريض، عندما توضع الإبرة في العرق، والدم يخرج سائلاً
متدفقاً إلى الوعاء، فهذا فصد: أخذ الدم من العرق مباشرة، والحجامة: أخذ
الدم من الجلد بطريق الشفط أو بتفريغ الهواء وغيره.
وهناك -كما يقال- الكاسات الجافة التي توضع لأخذ الرطوبة، كطريقة الحجامة
سواء، ولكن ليس هناك تشريط، ولا خروج دم ولكن امتصاص الرطوبة من وراء الجلد
من الجسم، وهذا يستعمل في علاج الرطوبة كالروماتيزم ونحوها.
وهنا احتجم صلى الله عليه وسلم، وذكر: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته
الحجامة) ، أي: أن الحجامة أهم ما تكون في الأدوية، وبحثها طبياً على حدة،
والذي يهمنا هنا: أن ما قيل عن أجره: خبيث قد دفعه له، ولن يدفع صلى الله
عليه وسلم شيئاً خبيثاً لإنسان.
وبعضهم يقول: خبث أجر الحجام لأنه مؤاجرة على عمل مجهول، فلا يدري كم سيأخذ
من الدم، ولا كم سيستغرق من الزمن، ولا ندري ولا ندري.
إلى غير ذلك.
وعندهم: كل داء في البدن له موضع معين للحجامة، فقد يحجم عن الضرس في
القفا، وعن الصداع في الجانب، وعن كذا في الظهر، وكل هذه أمور طبية تكلم
عنها ابن القيم رحمه الله باستفاضة.
إذاً: الأعمال التي قد يتمنع عنها بعض الناس أجرها فيه ما فيه، ومن هنا كان
العرب يأنفون من الأعمال التي فيها دناءة، ولا تجد إنساناً حراً -مثلاً-
عربياً يعمل بكنس الشوارع، ولو جاع، بل قد يحمل نفسه فوق طاقتها ويبني في
الشمس في الحجر والطين ولا يعمل المهن التي فيها نوع امتهان للعامل، وهذه
من عادات الشعوب، بعض الشعوب ليس عندهم أي نوع من العمل عيب، ولكن العيب في
مد اليد، أو الأكل بغير وجه مشروع: السرقة، السلب، النهب.
أما العرب فيقطعون الطريق ويسرقون ولا يعملون الأعمال -في نظرهم- الممتهنة.
وهذا فيه نظر.
شرح حديث: (ثلاثة
أنا خصمهم يوم القيامة)
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال
الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع
حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ، رواه
مسلم] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث بمناسبة الصنف الثالث، وهو ما
يتعلق بالأجير وأجره، وهذا الحديث وأمثاله من الأحاديث القدسية، وللعلماء
مبحث في التفريق بين الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية، وبين الأحاديث
القدسية وبين القرآن الكريم.
سند القرآن الكريم
الحديث القدسي يأتينا عن رسول الله، فهو الذي ينقل لنا قول الله، والقرآن
كلام الله؛ فالحديث القدسي والقرآن يشتركان في النسبة إلى الله تعالى، فما
الفرق بين القرآن وهو كلام الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ،
وبين الحديث القدسي والرسول يقول: قال الله؟ أما الفرق بين القرآن والحديث
القدسي؛ فإنه من حيث السند، ولفظه وطريقة وصوله إلينا: فالقرآن -كما يقول
العلماء- قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو مختلف في ظنيه أو قطعيه، هناك
الاشتراك اللفظي وهناك الاشتراك المعنوي، وهناك الناسخ والمنسوخ.
إلى غير ذلك.
فالقرآن له طرق وحي ثابتة: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا الذي كان يحدث لرسول
الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتيه الوحي، ويكون في إغفاءة كالإغماء.
إذاً: القرآن قطعي الثبوت عن الله؛ لأن الله قد بين سند القرآن في قوله
تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] ((إنه لقول)) (إنه) ضمير الشأن راجع للقرآن،
((رسول)) الرسول معناها المرسل، والمرسول معناها يحمل رسالة، رسول حمل
رسالة، من الذي أرسل الرسول الكريم؟ الله ((ذي قوة)) ، وما الذي نحن
نستفيده من قوته، ونحن إنما نريد إبلاغ الرسالة؟ فهو ليس عامل بريد مسكين
ضعيف يأتي على الدراجة ويقدم لك الرسالة، فعامل البريد ربما هجم عليه أناس
وأخذوا منه الشنطة ويدفعون إليه شنطة مزيفة ويذهب يوزعها على الناس مزيفة،
لكن هذا الرسول قوي، لا يستطيع أحد أن يدنو منه ويغير عليه شيء مما أرسل
به: (إنه لقول رسول كريم) أولاً: كريم هو بنفسه كريم، ثم (ذي قوة عند ذي
العرش مكين) ، متمكن من أداء واجبه.
والرسالة أرسلت لصاحبكم: (وما صاحبكم بمجنون) ، عاقل وافر العقل، لا يمكن
أن يغير شيئاً مما أرسل إليه.
ثم هذا الرسول وإن كان ملكاً لكن قد انكشف أمره لرسول الله، ورآه على حالته
الملائكية؟ في الأفق المبين: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ *
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:23-24] ، إذاً: تعرف رسول
الله على جبريل الذي يأتيه بالرسالة، وهو قوي مطاع في عالم السماء، قوي على
رسالته، هذا سند القرآن الكريم.
سند الحديث القدسي
سند الحديث القدسي ليس كالقرآن، فقد يكون من النوع الذي يكون فيه (نفث في
روعي) ، كما جاء: (نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل قوتها) ، والنفث
في الروع إحساس، وقد يشترك فيه عامة الناس ممن اصطفاه الله وصفت روحه؛
كقضية الرجل الذي كان مع الرهط ونزلوا على حي وطلبوا القرى، قالوا: اذهبوا،
فقد أتيتم من عند هذا الصابئ فليس لكم عندنا شيء، فجلسوا، فسلط الله عقرباً
على سيد الحي، فذهبوا يبحثون يمنة ويسرة عمن يداويه من لدغة العقرب فما
وجدوا أحداً، ثم قالوا: هلا ذهبتم إلى هؤلاء النفر.
فأتوهم: هل فيكم من راق؛ فإن سيد الحي لدغ.
قال: لا، طلبنا منكم القرى فامتنعتم، لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً
-أجراً- فآجروه على قطيع من الغنم، يقول: فأخذت أقرأ عليه وأنفث، فقام كأنه
نشط من عقال، قالوا: ماذا قرأت عليه؟ قال: فاتحة الكتاب (سبع مرات) ، وجاء
يسوق الغنم لأصحابه، قالوا: نقسم.
قال: لا، حتى نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله: هل لنا حق في
أخذ هذه الغنم أم لا؟ وهل نأخذ أجراً على قراءة القرآن؟ فلما جاءوا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي)
، الحاسة السادسة كما يقولون، أحسست في نفسي وشعوري، هذا الإحساس وهذا
الشعور هو اليقين ونور الإيمان، كما في الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه
يرى بنور الله) ، فالله سبحانه وتعالى ألهمه ووجهه بأن يقرأ عليه الفاتحة.
إذاً: الحديث القدسي قد يكون شيء ينفث في الروع، وجاء لرسول الله، فكيف وصل
إلينا من رسول الله؟ عن فلان عن فلان عن فلان، ومن فلان وفلان وفلان؟ بخلاف
القرآن: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] ، وحينما يأتي إلى صاحبهم يقول: هلموا يا
كتبة الوحي واكتبوا، فحينما ينزل القرآن على رسول الله بهذا السند القوي
المتين حالاً يسطر، فحفظ القرآن بذلك، وأما الحديث القدسي فما كانوا
يكتبونه، ونحتاج إلى أن ننظر من الذي نقله لنا؛ هذا الحديث أبو هريرة، ومن
الذي قبله؟ فهنا الحديث القدسي يتوقف على السند، فقد يكون السند قوياً
صحيحاً مهماً، وقد يكون قابلاً للنظر والبحث.
القرآن قطعي الثبوت، ومن أنكر حرفاً واحداً منه كفر، والحديث القدسي لو
أنكره إنسان بكامله وقال: هذا السند لا يثبت عندي، وإن كان قدسياً.
يقال له: نبحث في السند، فإن توصلنا إلى صحة السند التزم به، وإذا لم نتوصل
إليه كان إنكاره وجحوده إياه صحيحاً.
فهذا فرق بينهم.
أما من حيث الموضوع: فقد أمرنا الله أن نتعبد بكتابه تلاوة وعملاً
وتطبيقاً.
أما الحديث القدسي فما تعبدنا الله بقراءته، ولو قرأت ألف حديث قدسي فإنه
لا يساوي: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ؛ لأن القرآن نزل
للتعبد، ولا تصح الصلاة بالحديث القدسي وإن كان فيه (قال الله) ، وتصح
الصلاة بالقرآن.
هذا جوهر الفرق ما بين القرآن والحديث القدسي.
الفرق بين الحديث
القدسي والحديث النبوي
الحديث القدسي يأتينا عن طريق السنة النبوية وإن كان مسنداً إلى رب
العالمين سبحانه، فيأخذ طريق السنة في إثباتها وتشريعها، وهذا الحديث الذي
معنا ما ذكره لنا رسول الله عن الله إلا للتشريع، ويأخذ طريق السنة: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، سواء أتانا به من عنده أم
مسنداً إلى ربه؟ وإذا كان عن رسول الله مسنداً إلى ربه يكون أقوى وأعظم
وأضخم؛ فهنا هذا الحديث من النوع الذي يسميه العلماء: الأحاديث القدسية،
ووزارة الأوقاف كانت قد جمعت معظم الأحاديث القدسية، وطبعتها في كتاب ضخم
بأسانيدها وأوضاعها، وكثير من العلماء حاول أن يجمعها، ولكن هذا جمع لجنة
مكتملة مجتمعة فيكون أقرب إلى الصواب إن شاء الله.
إثبات خصومة الله
لأناس على الحقيقة
[يقول أبو هريرة: قال رسول الله: قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم
القيامة] .
هل المراد ثلاثة أشخاص بالعدد في الأمة كلها، أو ثلاثة أصناف؟ ثلاثة أصناف،
إذ كل من اتصف بصفة من تلك الثلاث فهو واحد منهم.
(أنا خصمهم يوم القيامة) الله أكبر! مَن مِن الخلق إنس أو جن أو مَلك يقدر
على أن ينصب الخصومة بينه وبين الله؟ كما جاء في الربا: {فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ، من يستطيع أن يقف في
أرض المعركة حرباً مع الله ورسوله؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (نصرت
بالرعب مسيرة شهر) وتأتي أنت في المعركة تقف أمام رسول الله ورب العالمين؟!
وكما يقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة خصم كل ظالم، وهو
يحكم بالعدل ويحاسب الناس على أعمالهم بالعدالة، لكن تلك خصومة خاصة، واحذر
ثم احذر أن تفتح مفتاح عقلك وتقول: كيف يكون خصماً؟ وهل الناس أعداء له؟ هل
هم خصومه؟ الخصومة سببها كذا وكذا، وتدخل عقلك في إثبات خصومته وكيف تكون؟
قل لها: لا، صفات المولى لا تخضع إلى قوى العقول، صفات الله فوق مستوى
الكيف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]
، يكفينا الهيكل والتركيب العام: (أنا خصمهم يوم القيامة) ؛ فليأت أصحاب
الخصوم والذين يكونون خصماء ويحكم الله بينهم.
من أعطى بالله ثم
غدر
[ (رجل أعطى بي ثم غدر) ] .
رجل كان أو امرأة، وقال: (رجل) للتغليب، وربما لأن الرجال في العادة هم
أكثر الذين يغدرون، وكانت العرب تتمدح بالغدر ونقض العهد، ويقولون: إن الذي
لا ينقض العهد ولا يغدر بعدوه ضعيف، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، ويتمدحون
بالغدر، ففي قول الشاعر: قُبيلة لا يغفرن بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
لما سمع عمر هذا، وقالوا: الشاعر هجانا وقال فينا كذا.
قال: والله إنه لنعم الحال! الظلم ظلمات يوم القيامة، فإذا كانت هذه
القبيلة لا تظلم الناس حبة خردل فجزاهم الله خيراً، بل قال أكثر من هذا:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل قال: كفى بالأمر
ضياعاً أن تأكل الكلاب لحومهم، ما عليكم أنتم؟! قالوا: لا، بل قال آخر: وما
سمي العجلان إلا لقوله: خذ القعب أيها العبد واحلب واعجل فقال: خادم القوم
سيدهم.
انظر إلى فطنة عمر! وعمر كان سفير قريش عند القبائل في التهنئة والتعزية.
بعض الناس يقول: عمر لا يفهم الكلام.
مجنون من قال هذا! عمر يقول: (إذا جاءتك كلمة عن صديق لها خمسون محملاً في
الشر، ومحمل واحد في الخير، فاحملها على محمل الخير) .
والشناقطة يقولون: من باع صديقه بخمسين زلة فقد باعه بيعة رخيصة.
يصبر عليه حتى يكملها مائة! نحن الواحد منا إذا أخطأ صديقه أو زل بشيء مرة
أو مرتين قلنا: هذا ليس فيه خير، ونقاطعه وينتهي الأمر.
وهذا لا ينبغي.
هتلر في الحرب الأخيرة لما أراد أن يقاتل الأسبان قالوا له: بيننا وبينهم
معاهدة.
قال: هي حبر على ورق.
يعمل بها في السلم، أما الحرب فلا توجد عنده معاهدات.
والذي يحمله على هذا؟ ما كان لديه من قوة.
فهنا المولى سبحانه وتعالى خصم لثلاثة؛ أولهم: (رجل أعطى بي) أعطى ماذا؟
قالوا: أعطى العهد، أعاهدك بالله على كذا، فائتمنه لعهد الله.
(فغدر) : هذا الغادر هل غدر بصاحبه أو بالعهد الذي أعطاه؟ غدر بصاحب العهد،
رجل أعطاك عهده وقبلته منه، وعاملك على ذلك، فأنت غدرته، كأنك لا تبالي
بعهدي، ولا بحقي وأنا المنتقم الجبار! وحينما يكون يوم القيامة، ويأتي
الطرفان، من الخصم في قضية نقض العهد؟ الله، ومن هنا -أيها الإخوة- وإن كنا
في أحكام الفقه، لكن لابد من بيان جانب العقائد في مثل هذه الأحاديث، نقرأ
في العقائد: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، نحن نتكاثر هذه، والشرك ظلم
عظيم! ابن مسعود يقول: (لأن أحلف بالله كاذباً أهون علي من أن أحلف بغير
الله صادقاً) .
لأن الحلف بالله كذباً معصية وقد أتوب منها وأستغفر وأتوقف والله يرحمني،
لكنه بغير الله شرك.
وكيف يكون الحلف بغير الله شركاً؟ هذه مهمة لطالب العلم، فهي ليست مجرد
عبارات تسطر لا، أين نقطة الشرك هنا؟ نحن نعلم أنه إذا رفعت القضية إلى
القاضي، وأنكر المدعى عليه، طالب القاضي المدعي بالبينة.
وهذه هي العدالة، فيأتي المدعي فيقول: هذا صديقي، وأنا ائتمنته، وما ظننت
أنه سوف يخونني أو ينكرني، حتى أنني ما رضيت أن آخذ عليه سنداً ولا أشهد
عليه شهوداً، بيني وبينه وبين الله.
فحينئذ المدعي خلو اليدين، فهل تنتهي القضية على هذا؟ لا، ماذا يقول
المدعي؟ يقول: حلفه يمين الله أن دعواي كاذبة، وأني ما أعطيته، فيقول له:
تحلف يمين الله أنك ما أخذت منه المبلغ الذي يطالبك به فيقول: نعم، أحلف.
فلسفة اليمين هنا: المدعي خلو اليدين من بينة يقيمها على خصمه، ورجع إلى
الله، واستشهد بمن لا تخفى عليه خافية، وقال: يا شيخ! شاهدي الوحيد المطلع
على ذلك هو الله، فليحلف لي بالله أنه لم يأخذ مني.
فحينما يتوجه المدعى عليه ويقول: والله! لم آخذ منه شيئاً.
معنى هذا: أنت يا أيها المدعي عجزت عن شهود من الخلق، وجئت بشاهد واحد هو
الخالق المطلع على حقيقة الأمر، وحلف بالله أنه لم يأخذ منك شيئاً هنا حكم
القاضي ببراءة المدعى عليه وصرف النظر عن دعوى المدعي لعجزه عن الإثبات،
وحلف المدعى عليه اليمين.
هذا جهد القاضي، ولكن حقيقة القضاء هل تنتهي هنا أم يعاد النظر فيها يوم
القيامة؟ يعاد النظر فيها يوم القيامة.
وهنا كيف كان الحلف بغير الله شركاً؟ لأن الحلف بالله والله وحده هو الذي
يعلم الحقيقة، والله وحده هو الذي يعاقب الكاذب ويقدر على ذلك، لكن لو حلفت
بجبريل وميكائيل وإسرافيل وجميع الملائكة وجميع الرسل هل يعلمون الغيب في
هذه القضية؟ هل يعلمون حقيقة الدعوى؟ لا؛ فكأنك حينما تحلف بغير الله جئت
بغير الله محل الله، وادعيت أنه يعلم الغيب في القضية.
والأمر الآخر: يوم القيامة: هل هؤلاء يستطيعون أن يعاقبوا الكاذب؟ لا
يملكون ذلك: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}
[غافر:16] ؛ فأنت بحلفك هذا أنزلتهم منزلة الله في عقوبة الكاذب، إذاً
أشركت مرتين: في إعطائك المحلوف به علم الغيب، وفي إعطائك إياه حق الانتقام
وأخذ الحق لك وهو لا يملك ذلك.
من باع حراً فأكل ثمنه
[ (ورجل باع حراً فأكل ثمنه) ] .
قوله: (رجل) هنا إنما هي وصف طردي، وقد يكون أيضاً امرأة؛ لأن التكليف
واحد.
وكيف يبيع حراً؟ هل يستطيع إنسان أن يأتي على أحد الجالسين ويقول: أنا
بعتك؟! يمكن، ويصدق هذا في أحد أمرين: إما بطريق الكتمان والغدر.
وإما بطريق السلب والنهب بالقوة.
أما طريق الغدر: فيكون بينه وبين العبد أنه أعتقه لوجه الله.
فصار حراً، ثم يندم ويقول: أنا لماذا أعتقه؟ لماذا لا أبيعه وآخذ ثمنه
خيراً لي؟ فبعد أن تقرر العتق وصار حراً وليس عند العبد شهود إثبات، هل
تعرفون عبدي فلان؟ قالوا: نعم.
قال: أريد أن أبيعه؟ العبد يقول: أنا حر، أنت أعتقتني.
يقول: كذاب.
فباعه وأكله ثمنه.
أو يظهر قطاع الطريق على أناس يمشون، ثم يأخذونهم ويختطفونهم ويبيعونهم،
وكان يقع هذا في بعض البلدان: يحتالون على الشخص حتى يدخلونه في بيت
ويقيدونه، وفي الليل يخرجون به ويذهبون إلى جهات أخرى يبيعونه فيها.
زيد بن حارثة من أين جاء؟ خرجت به أمه تزاور أخواله إلى الطائف، فخرج عليهم
قطاع الطريق وأخذوه، وأنزلوه إلى مكة وباعوه، ووصل إلى خديجة بالثمن،
فوهبته لرسول الله يخدمه، وكان أبوه يبكي طوال الليل والنهار ويسأل ويبحث،
ثم قيل له: إن ابنك في مكة عند بني هاشم.
فجاء وأتى بأخيه معه، وأتى بالمال، واستقصى حتى عرف أنه عند محمد بن عبد
الله -قبل البعثة- فقال: يا محمد! سمعت أنك الوفي الأمين، وأنك وأنك.
وأن ابني عندك، وقد جئت بفدائه، فاقبل منا الفداء.
قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه وأخيره بيني وبينكم، إن
اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني على
أهله.
قالوا: أنصفتنا.
قال: إذا كان بعد العصر فقوموا في المسجد واطلبوا طلبكم، فجاء زيد وقال:
والله لا أختار عليك أحداً أبداً.
فقال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على السيادة والحرية؟ قال:
وكيف لا! والله مذ صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم
أفعله: لم لم تفعله.
يعني: وجدت عنده من الرحمة والرفق وحسن المعاشرة ما لم أجده عندك أنت.
فحينما قال ذلك أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به حول الكعبة
وقال: زيد ابني.
وصار يقال له: زيد ابن محمد، حتى جاء القرآن وفصل القضية: {مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] حتى ولا نسائكم
{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ،
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:5] .
ثم جاءت القضية الثانية: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] الزواج بالإجبار، بتكليف من الله، لم؟ هل
تنقصه نساء أو زوجات؟ لا، لكنه زواج للتشريع لا لإرضاء الخاطر وإشباع
الرغبة كما يقول السفهاء.
وفي قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}
[الأحزاب:37] ، ويأتي هناك سياق القضية بمقدماتها وبأدلتها: {مَا جَعَلَ
اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] ، هذه قضية
تشريعية، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا
جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}
[الأحزاب:4] ، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}
[المجادلة:2] {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ،
تأتي المقدمة بالواقع، لا يوجد واحد عنده قال.
وإن كان بعض الصحابة كان يقال له: (أبو قلبين) ؛ لأنه كان جريئاً، لكن خلقة
لا يوجد.
وكذلك ما جعل الله الزوجة أماً، أمك واحدة التي ولدتك، فيأتي بقضيتين
طبيعيتين مسلمتين ليبني عليها، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ؛ لأن الشخص له أب واحد، كيف تكون أنت أبوه
وذاك أبوه؟ كما لم يكن للرجل قلبين لا يكون له أبوين، وكذلك لا يكون له
أمين.
البلاغة اللغوية في
قوله: (وأكل ثمنه)
من البلاغة والنوادر في الأسلوب العربي البليغ عند قوله: (باع حراً ... )
أنه لم يقل: وقبض ثمنه، وأخذ ثمنه، مع أن كل هذا يؤدي المعنى، ولكن قال:
(فأكل) ، وما خصوص الأكل؟ لماذا لم يقل: ولبس أو وركب؟ يشتري بعيراً أو
ناقة أو لباساً لا؛ لأن الأكل من أخص خصائص الإنسان، وإذا لم يأكل يموت،
ولكأن الحديث يشير إلى أن عملية بيع الحر ولو كانت لأشد ما يكون في الناس
من مخمصة ليأكل حتى لا يموت، لكن أيضاً أنا خصمه، لست خصمه حينما يبيعه
للترفيه، أو يبيعه للتمول وتخزين المال فقط، بل خصمه ولو باعه وهو في أشد
الحاجة لأن يأكل حتى لا يموت، يعني وهو في حالة الاضطرار أنا أيضاً خصمه.
بيع الحر عند العرب
قديماً
بيع الحر يقال: إنه كان موجوداً عند بعض القبائل: كان يباع أبناء الرجل في
الدين عليه إذا عجز عن سداده، وهو موجود في القانون اليوناني والروماني:
إذا بيعت المزرعة بيع معها الغلمان، وإذا استدان الرجل وعجز عن سداد الدين
بيع هو أو أولاده في سداد الدين، وكان في بعض القبائل كذلك.
وقد يحتال بعض الناس فيما بينهم على أن يبيع أحدهما الآخر، ويأخذون الثمن،
ثم يهرب العبد، وجاء في بعض الأسفار عن نعيم، وكان مضحكاً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكان صهيب مسئولاً عن الغذاء والتموين، فذهب وقال له:
أعطني؛ أنا جائع.
قال: اصبر حتى يأتي الجميع.
قال: أعطني.
فقال له: لا.
قال: فتوعده، فعندما نزلوا بمنزلة ومرت قافلة من التجار ونزلوا قريباً
منهم، أتاهم وقال: لدي عبد أتعبني، وكلما بعته هرب على المشتري ويقول: أنا
حر أنا حر! ويفسد علي البيعة، وأريد أن أبيعه هذا المرة آخر بيعة، هل
تريدون شراءه ولا تسمعون كلامه، وتقيدونه وتريحوني منه.
قالوا: قبلنا، بكم؟ قال: بنصف القيمة.
فباعه وقال لهم: أنا سأريكم إياه من بعيد، وخذوا معكم الحبل، فإذا أتيتموه
سيقول لكم: أنا حر أنا حر.
فاصنعوا به ما شئتم، ولو هرب أو رجع فلن أرد لكم الثمن.
فذهبوا ومعهم الحبل، وقيدوه فصاح: أنا لست عبداً أنا حر.
قالوا: نحن نعلم هذا! وأبو بكر رضي الله تعالى عنه كان غائباً، ثم جاء
يسأل: أين فلان؟ قالوا: باعه فلان.
قال: كيف بعته؟ قال: أطلب منه الأكل فلا يعطني.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتسامح معه لأنه كان يتفكه به، فسأله: بكم
بعته؟ قال: بعته بكذا.
قال: أعطني المال، فأخذ منه المال وذهب إلى هؤلاء النفر فقال لهم: هذا
الرجل الذي باعه لكم إنما هو عيار يمزح، وهذا هو أخونا وهو صاحب رسول الله.
فتركوه ومضى به.
(ورجل باع حراً) لماذا يكون الله خصمه؟ لماذا لا يكون الشخص بنفسه ويطالب
بحقه؟ لأن العبودية حكم من الله، والحرية حق الله أعطاه للعباد، ولا تأتي
العبودية إلا في أرض المعركة عقب قتال المشركين للمسلمين، فيؤخذ باسم
الدين.
من استأجر أجيراً ولم يعطه أجره
[ (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ] .
دائماً وأبداً الأجير في حالة ضعف مع المستأجر، فهو يأتي ويعمل مستوثقاً من
المستأجر في دفع الأجرة، فعمل وانتهى وقت العمل واستوفى المستأجر العمل،
أعطني الأجرة.
قال: ليس الآن ليس الآن ليس الآن إلى أن تذهب الأجرة، استوفى حقه في العمل
ولم يعطه أجره، فهذا المسكين الضعيف ماذا يصنع؟ هو أجير، والعادة فيه أنه
ضعيف، فأنت استغللت ضعف قوته وشخصيته، وهو استعان عليك بالله، فتكون
الخصومة بينك وبين الله سبحانه وتعالى في حق هذا الأجير.
ونذكر هنا القصة المشهورة في النفر الثلاثة من بني إسرائيل الذين آواهم
المبيت إلى الغار، ونزلت عليهم الصخرة وسدت فم الغار، قالوا: الآن لا أحد
يعلم بنا -لم يكن هناك لاسلكي ولا (البيجر) ولا اتصالات، أنتم الآن في
قبركم أحياء، لا يعلم بكم إلا الله، ولن ينجيكم منه إلا الله -هنا الشدة
تمحص الحق- وليس لنا إلا أن نستشفع الله، ونتوسل إليه بصالح أعمالنا أن
يكشف عنا.
والقصة طويلة فواحد توسل ببر الوالدين، وواحد توسل بالتعفف عن الزنا، وقال
الثالث: (اللهم إنه كان لي أجير، فأعطيته أجره صاعاً من شعير فاستقله وذهب
وتركه، فأخذته وبعته، واشتريت عناقاً ونميته له حتى صار مالاً في الوادي،
فجاءني بعد زمن وقال: أتعرفني؟ قلت: نعم، أنت الأجير فلان.
قال: أعطني أجري.
قال: قلت: اذهب إلى الوادي وانظر ما فيه من بهيمة الأنعام فخذه، فهو أجرك.
قال: أتهزأ بي لأني مسكين؟! قال: لا -والله- إنه أجرك نميته لك حتى صار
كذلك.
فذهب فأخذ جميع ما وجد، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج
عنا ما نحن فيه، فانكشفت عنهم الصخرة جزءاً) ، وهكذا مع كل واحد توسل بصالح
عمله تنكشف الصخرة جزءاً حتى انكشفت وخرجوا يمشون على وجه الأرض.
فهذا هو حسن معاملة الأجير، والله سبحانه وتعالى جعل لذلك معلماً: (تعرف
إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، تنزاح الصخرة بذاتها، هم الثلاثة لم
يقدروا على زعزعتها، لكن انزاحت لما توجهوا إلى الله بصالح أعمالهم.
إذاً: هؤلاء الثلاثة لهم حقهم، وواجب على الإنسان أن يعنى به، وإذا ما فرط
فيه كان الله خصمه يوم القيامة.
نسأل الله السلامة والعافية.
كتاب البيوع - باب
المساقاة والإجارة [4]
كثيراً ما اختلف أهل العلم وخاضوا معترك مسائل إهداء القربات للموتى،
ولكنهم أجمعوا على وصول الأعمال المالية، واختلفوا اختلافاً شديداً في وصول
الأعمال البدنية خصوصاً إذا كانت بالأجرة، كما أنهم اختلفوا في أخذ الأجرة
على تعليم القرآن الكريم، وكاد أن يستقر رأيهم على جواز ذلك.
وفي جانب الإجارة أيضاً حث الشرع على سرعة تسليم الأجرة للأجير، وأن يعلمه
عن نوعية العمل المراد منه أن يقوم به، وأن يحدد له أجره اللائق بمثله.
حكم أخذ الأجرة على
القرآن ونحوه من القرب
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن
أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، أخرجه البخاري] .
يعنون علماء الحديث والفقهاء على هذا الحديث بعنوان (باب الأجرة على
القُرَب) أي: الأعمال التي أساسها التقرب إلى الله، ويبحثون تحت هذا الحديث
الأجرة لتعليم القرآن، قراءة القرآن، إمامة الصلاة، القضاء، الإفتاء، وكل
ما الأصل فيه أنه قربة لله.
والبحث في هذا يتناول تلك الجوانب على أنها أعمال ينبغي أن يقوم بها صاحبها
قربة لله، فقارئ القرآن لنفسه يقرأ لله، ويقرئ غيره ويعلمه لله، الإمام يؤم
الناس في الصلاة لله، المعلم يعلم الناس لله، القاضي يقضي والمفتي يفتي لله
إلى غير ذلك من الأعمال التي فيها قربة إلى الله باحتسابه الأجر عند الله،
فهل تجوز الأجرة على هذه الأعمال التي يقصد صاحبها أجراً وثواباً من الله؟
أي: هل يأخذ أجراً من الله ومن الناس؟ قيل: يأخذ أحد الأجرين: إن اختار
الأجر من الناس فلا أجر له عند الله، وإن اختار الأجر من الله فلا أجر له
عند الناس، هذا مبدأ البحث، ووجهة نظري الاختلاف في هذه القضية، وأعظم
مسألة فيها هو ما يتعلق بالقرآن.
(إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) أجراً في أي شيء في كتاب الله؟ في
قراءته، يستأجر إنسان شخصاً يقرأ القرآن ويعطيه أجرة على قراءته كالذين
يستأجرون للقراءة على الموتى، أو: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)
في تعليمكم الناس كتاب الله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وهنا يأتي
البحث.
حكم إهداء ثواب
القراءة للميت
يمكن أن نقول: إن ما يتعلق بالأجرة على القرآن فيه جوانب جائزة بالإجماع،
وجوانب ممنوعة بالإجماع، وما بين ذلك وذلك محل البحث: فقراءة القرآن بأجرة
للغير من أجل موتاه.
هذه لا أصل لها، وقالوا: كيف يهب ثواباً لا يملكه أو لم يحصل عليه؛ لأنه
استبدل به الأجرة ممن استأجره، ومن قرأ القرآن على أجرة من أحد فليس له
ثواب عند الله، إذاً: ماذا سيهب لميت هذا المستأجر، وليس عنده شيء؟! أما
كون هذا الإنسان يقرأ بنفسه ويهب إلى موتاه، فهذا فيه الجمهور على الجواز،
وما خالف في ذلك إلا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها والشافعي رحمه
الله، ودليلهم: (أو ولد صالح يدعو له) ، ومن الدعاء له قراءة القرآن، وقد
بحث الإمام ابن تيمية هذه المسألة في ما يقرب من عشرين صفحة، وأتى بدلائل
شرعية وعقلية، وقال: أنت حينما تصلي الصلاة لك وعد من الله بالأجر عليها،
وأنت عندما تدعو الله: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني.
هذه المغفرة وهذه الرحمة حق لله أنت سألتها، فيعطيك إياها بدون عوض بمجرد
ما سألته، وكذلك لما تقرأ القرآن يكون لك على هذه القراءة أجر عند الله،
فتقول: يا رب! أنا قرأت، ووعدني رسولك الكريم بأن لي على كل حرف عشر حسنات،
وأنا أطلب منك أن تجعل حسناتي من قراءتي هذه لوالدي لولدي لأخي لصاحبي
فلان.
فهنا يقول ابن تيمية رحمه الله: إذا كان الله يعطيك ما لا تملك، كقولك:
اللهم اغفر لفلان، اللهم ارحم فلاناً، فمغفرة الله لفلان ليست ملكاً لك،
فهو يستجيب لك ويعطيها لفلان، فما بالك إذا كانت القراءة ولك بكل حرف عشر
حسنات تسجل لك في كتابك وصحيفتك، فتقول: يا رب! أنا أريد تجعلها في صحيفة
فلان، قال: فهذا من باب أولى.
حكم إهداء ثواب
القربات المالية
ثم إذا نظرنا في ما يتعلق بعمل الغير، نجد إجماع المسلمين على أن الميت
يستفيد من عمل غيره المادي؛ فإذا مات وعليه دين وسددته استفاد به، وإذا
تصدقت عنه بشيء كان أجر الصدقة له، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في خصوص خديجة رضي الله تعالى عنها: كان صلى الله عليه وسلم يذبح
الشاة على اسم خديجة، ويفرقها على صويحباتها، حتى غارت عائشة، وقالت: (كل
شيء خديجة خديجة!) .
وكذلك كانوا في أول الأمر: من مات وقدموه للنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي
عليه سأل: أعليه دين؟ إن قالوا: نعم.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: لا، صلى عليه، حتى أُتي برجل، قالوا: عليه ديناران، قال: صلوا
عليه.
فقام علي، وقيل المقداد -أو هما قصتان متعددتان- وقال: يا رسول الله! صل
عليه ودينه علي.
وفي رواية: أن علياً رضي الله تعالى عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
(أهما في ذمتك يا علي، وبرئت منهما ذمة الميت؟ قال: بلى يا رسول الله.
فصلى عليه) ، فهنا سداد دين عن ميت من الغير جائز ويصله الأجر، وأجمعوا على
أن جميع الحقوق المالية لو قام بها إنسان عن ميت أجزأه كما لو قام بها عن
حي: إنسان مدين ومسجون في دينه، وذهبت ودفعت الدين الذي عليه؛ فإنه يطلق،
ومثله كذلك من يطالب بنفقة لأهله فأنفقت عليه.
المهم: أن القربات المالية يجوز إهداء ثوابها بالإجماع.
حكم إهداء ثواب
القربات البدنية
الصوم والصلاة عبادة بدنية، والحج يجمع بين الأمرين، فجاء في الصوم: (من
مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وهذا متفق عليه إلا عند المالكية، فهم
يقدرون معنى (صام) يعني: أطعم؛ لأن الإطعام بدل الصوم، وهذا بعيد عن صريح
عبارة النص.
نجد في حج البيت: (إن أمي ماتت ولم تحج، أينفعها أن أحج عنها؟ قال: أرأيتِ
لو أن على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى.
قال: كذلك دين الله أحق) ،ومن ضمن أعمال الحج ركعتي الطواف، وهي صلاة.
حينما تقدم الجنازة: الصلاة على الرجل يرحمكم الله.
فكل الموجودين يقومون ولا يعلمون من الذي يصلون عليه، إنما دعوا للميت
الحاضر، هذه الصلاة وهذه الأدعية تنفعه أو لا تنفعه؟ قطعاً تنفعه؛ لأنها
إذا لم تكن تنفعه كانت عبثاً، ولماذا نصلي إذا كانت لا تنفعه؟ فشرعت صلاة
الجنازة من الأحياء للأموات.
كذلك -بالإجماع- الدعاء للغير: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وكما يقولون في
زيارة المقابر: من مر على مقبرة فدعا للأموات قسمت عليهم الجوائز، فيقولون:
ما هذا؟ فيقال لهم: مر بكم فلان فدعا لكم.
إذاً: من الأعمال البدنية الدعاء، صلاة الجنازة، الصيام، الحج، وما اختلفوا
في شيء من هذا كله إلا في قراءة القرآن.
حكم أخذ الأجرة على
تعليم القرآن
قراءة القرآن للتعليم أو ليهبها إلى غيره: إن كان من نفسه فلا بأس.
أما أن يستأجر غيره ويعطيه أجراً من أجل أن يقرأ ويهب فلا يجوز.
وهذا الحديث سيق لبيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكن القصة في
غير التعليم، القصة: أن نفراً من الصحابة نزلوا ليلاً في طريقهم بحي من
أحياء العرب كانوا على شركهم، والعرب معروف أنهم يقرون الضيف، فاستضافوهم
فامتنعوا من الضيافة، فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله على سيد الحي
عقرباً فلدغته، فأخذوا يطلبون له العلاج بكل ما يعرفون فلم ينفعه شيء، فقال
قائلهم: اذهبوا إلى هؤلاء الرهط الذين جاءوا من عند هذا -وذكروا النبي صلى
الله عليه وسلم- لعلكم تجدون عندهم رقية، فأتوهم، فقالوا: هل فيكم من راقٍ؛
فإن سيد الحي قد لدغ؟ فقال رجل منهم: نعم، أنا راقٍ.
قالوا: هلم وارق سيد الحي.
فقال: قد طلبناكم القرى فأبيتم، فلا أرقيه لكم حتى تجعلوا لي جعلاً.
والجعل: هو الأجر المقطوع، مثال ذلك: من نسخ لي صحيفة كذا فله ريال، من بنى
لي جداراً فله ألف ريال، أجر مقطوع على هذا العمل.
فقاطعوه على عشرين إلى ثلاثين رأساً من الغنم، قال: فذهبت، فأخذت أقرأ
وأنفث عليه، فقام وكأنه نشط من عقال، فجئت بالغنم أسوقها لأصحابي، قالوا:
هلم نقتسم.
قال: لا، حتى نرجع إلى المدينة ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تجوز
لنا هذه الأغنام أو لا؟ فأمسكوا عن القسمة، ولما رجعوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أقره على ذلك، وقال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في
روعي) ، وهذا -كما أشرنا إليه- نوع من الإحساس الصادق؛ (فتبسم صلى الله
عليه وسلم وقال: اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم) ، وهل كان حاضراً معهم؟
لا، هو له الحق في كل ما يكتسبه المسلم عن طريق الدين؛ لأن الفاتحة أتتهم
عن رسول الله؛ فالحق الأساسي فيها لرسول الله، ولكن يقولون: هذا زيادة
توثيق لهم وطمأنينة لأنفسهم؛ لأنهم تورعوا أن يقتسموها قبل أن يعلموا
الحكم؛ فأراد أن يزيل آثار هذا الشك بأن يشاركهم في قسمتها، فشاركوه.
فهنا لما اقتسموا وقال للرجل: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ،
يعني: الجعل الذي أخذته أجراً على ما فعلت بالفاتحة أحق الأجر.
وفي بعض الروايات: (لئن أكل الناس برقى باطل فقد أكلتم برقيا حق) ، هنا
القصة قصة رقيا من لدغة عقرب، وهي تدخل في باب الطب، وباب تعليم القراءة،
وباب قراءة القرآن للأجر؛ فقوله: (أحق ما أخذتم عليه أجراً) مطلق، لم يقل:
في تعليمه قراءته في التطبب به، والمؤلف اقتصر في الباب على رواية البخاري
مع وجود نصوص عديدة في هذا الموضوع؛ لأن البخاري يميل إلى جواز أخذ الأجرة
على التعليم، ونسبة ذلك عند البخاري لماذا؟ قال: هذا اللديغ استفاد من
الراقي أم لا؟ نعم، كأنه نشط من عقال، فيقول استنتاجاً من هذا: حينما يتعلم
إنسان القرآن يكون قد استفاد، فحصلت الفائدة للمتعلم نظير ما حصلت الفائدة
للديغ الذي تعافى من لدغة العقرب، فإن صحت الأجرة على منفعة المريض بالشفاء
فلا مانع من أن تصح الأجرة على من استفاد بالتعليم.
وأعتقد أن هذا قياس واضح وقوي جداً.
أدلة المانعين
والمجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن
الناس تنقسم في هذه المسألة إلى قسمين: أم المؤمنين عائشة والشافعي يمنعون
من ذلك، وهو قول لـ أبي حنيفة رحمه الله، والجمهور يجيزونه، المانعون بماذا
يستدلون؟ والمجيزون بماذا يستدلون؟ أولاً: المجيزون من أقوى أدلتهم هذا
الحديث؛ لأنه أقرهم على إفادة الغير بالفاتحة، وأخذوا الجعل وشاركهم في
قسمتها، وأيضاً يستدلون بقضية المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي إليك.
فشخص بصره وصوبه فيها، ثم سكت، فجلست المرأة تنتظر، فقام رجل وفهم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم لا توجد عنده تلك الرغبة ولا ذاك الحماس في هذه
المرأة، فقام وقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك فيها رغبة، قال: ما
عندك من شيء تصدقها إياه؟ قال: ما عندي شيء.
قال: لابد أن تأخذ بالأسباب وتسعى، ذهب ورجع قال: ما وجدت شيئاً.
قال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، اذهب واقطع سلكاً واثنيه واجعله في
إصبعك، فذهب ورجع فقال: ما وجدت شيئاً.
انظر إلى أي مدى وصلت الحالة، وهو يريد أن يتزوج! قال: هل معك شيء من
القرآن؟ -هذه العملة الصعبة التي تمشي في كل مكان وزمان- قال: بلى.
لسور سماها، وقبل هذا لما سأله عن أي شيء يعطيها إياه، قال: أعطيها ردائي
هذا.
قال: إن أعطيتها رداءك جلست ولا رداء لك، اذهب فالتمس، وأخيراً قال له:
(زوجتكها على ما معك من كتاب الله) وفي الرواية الأخرى: (زوجتكها؛ فاذهب
فعلمها ما عندك من كتاب الله) .
ويرد المانعون على قوله: (زوجتك على ما معك) ، بأنه يعني بهذا: أنه إكراماً
لك لما معك من القرآن زوجتك، يعني: زوجتك إياها بدون صداق مكارمة لك وجائزة
على ما تحفظ من القرآن، وهي ماذا يكون لها؟ وأما الرواية الأخرى: (فعلمها)
، فهي رواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم جعل صداقها تعليمها ما عنده
من كتاب الله، فقالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى التعليم صداقاً
للمرأة، وتزوجها الرجل بما عنده من كتاب الله أن يعلمه إياها.
وفي بعض الروايات: (قم فعلمها ما معك من كتاب الله) .
فالمجيزون استدلوا بحديث الرقية بجامع الانتفاع، وبحديث المرأة بجعل
التعليم صداقاً لها.
أما المانعون فعارضوا في حديث الرقية وقالوا: الجعل ليس على القراءة ولكن
على العلاج، ومن هنا جازت الرقية بكتاب الله أو بأحاديث رسول الله، أو
بالأدعية المأثورة، وهو ما يسمونه بالطب الروحاني، يعني: عن طريق الروح:
يقرأ، يدعو، يرقي بكتاب أو سنة أو دعاء مأثور، وهذا مجمع عليه.
ومالك في الموطأ أطال في هذا الباب، وذكر عدة نماذج في هذا الموضوع.
واستدلوا أيضاً بما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: (كنت أعلم
رجلاً من أهل الصفة الكتاب والقرآن -الكتاب: يعني الكتابة، الإملاء والخط
والحروف، والقرآن: أحفظه إياه- فأعطاني قوساً، فتقلدته وقلت: ليس مالاً
أتموله، وإنما قوس أرمي به في سبيل الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
وأخبرته فقال: إن شئت أن ترمي به في النار فخذه) ، وهذا أقوى ما استدل به
أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور قالوا: هو قوس وليس مالاً، والرجل بحسن
النية، قال: أرمي به في سبيل الله، ومع هذا القصد الحسن ما أباح له رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه، حتى قالوا: في الطعام، جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن رجلاً كبر في سنه، قال: وكنت أتردد
عليه وآكل عنده من الطعام ما لم أجده في أهل المدينة قاطبة، فقال له صلى
الله عليه وسلم: (إن كانوا يصنعون الطعام لأنفسهم وتأكل معهم فلا بأس، أما
إن كانوا يصنعونه من أجلك فلا) ؛ لأنهم كانوا يجعلونه أجراً له على
تعليمهم، فقالوا: هذا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآخرون يردون على هذا أيضاً على رجل يقول: عن عمي: أنه أتى النبي صلى
الله عليه وسلم، فلما كان راجعاً -أي: إلى أهله- مر بقوم فيهم مجنون مربوط
بالحديد، قالوا: سمعنا أن صاحبكم جاء بخير -يعنون النبي صلى الله عليه
وسلم- فهل عندك من هذا الخير ما تعالج به هذا المجنون؟ قال: بلى.
قال: فقرأت عليه الفاتحة ثلاثة أيام، كل يوم مرتان، فقام من مرضه وانقلب
معافى، فأعطوه مائتي شاة - لا عشرين كسيد الحي- يقول: فرجعت وسقتها معي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (خذها، لئن أكل الناس برقى الباطل؛
فقد أكلت برقيا حق) ، وهي رقيا الفاتحة.
نخلص من هذا كله: أنه انقضى الخلاف سابقاً، وكاد أن ينعقد الإجماع على جواز
أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
قول آخر في أخذ
الأجرة على تعليم القرآن
هناك من يتوسط في المسألة ويقول: لا ينبغي لمعلم القرآن أن يشارط على
الأجر، أعلمك جزء عم وتعطيني كذا بل يعلمه، وما أتاه من غير مسألة أخذه،
ولكن نحن الآن نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذا كان عندنا
أبناؤنا، وعندنا معلمو قرآن، وقلنا لمعلمي القرآن: علموا أولادنا ولا أجر
لكم أنتم تريدون أن تعلموا أولادكم، وأنا أريد أن أطعم أولادي، فأنا أريد
أن أسعى وأعمل لأولادي، وأولادكم ليسوا بأولى من أولادي.
له حق في هذا أم أنه ملزم أن يترك أولاده يضيعون ويذهب يعلم أولادهم؟! ليس
بملزم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فإذا انقطع لأولادهم يعلمهم،
فله حق عليهم في إطعام أولاده، أنا أديت واجباً لأولادكم فعليكم أن تؤدوا
واجباً لأولادي، وما الواجب الذي سيؤدونه غير الأجرة التي سيدفعونها؟
قالوا: إذاً هناك تبادل منفعة، وهناك تعليم الأولاد واجب، وما لا يتم هذا
الواجب إلا به فهو واجب.
إذاً: إطعام أولاد معلم القرآن واجب، فهو يؤدي الواجب من عنده لأولادكم،
وأنتم تؤدون الواجب من عندكم لأولاده.
ثم قال العلماء: هذا كان في السابق لما كان الناس يقدرون ويتعاونون، لكن
الآن لو قلنا هذا لا ندري من الذي سيدفع ومن الذي لن يدفع، فإذا جاءت
الدولة وجعلت أجراً للمعلمين من بيت مال المسلمين، أو من صندوق الدولة إذا
لم يكن هناك بيت مال منتظم، والدولة تأخذ ضرائب من الأفراد على المصالح
العامة: المستشفيات، المدارس، تعبيد الطرق، مد الجسور على الأنهار،
المحاكم، إذاً: الذي تعطيه الدولة لا لبس فيه، ويدخل في هذا بقية المناصب
كما قلنا: الإمام يلتزم للناس بخمس صلوات، القاضي يلتزم للناس بوقت معين
ينظر فيه في قضاياهم، المفتي كذلك ينظر في أمور الناس ويفتيهم، وأصبحت جميع
أعمال القرب مبنية على ذلك.
وعلى هذا: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، لا مانع أن يأخذ على تعليمه
الأجر، ولا يمنع أن يحتسب عمله لله، كما جاء في حق الحج: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:198] ، يحج
ويتاجر، وتجارته لا تمنع حجه، ولكن هناك فرق: بين من ذهب ليتاجر والحج على
الرف، ومن ذهب ليحج والتجارة وسيلة؛ فلا مانع في ذلك، كما قالوا في الذي
يأخذ الأجر ليحج عن غيره، يحج بأجر أو لا؟ قالوا: إن أخذ ليحج فلا مانع،
وإن حج ليأخذ فلا.
ما الفرق بينهم؟ الأول: يريد أن يحج عن الغير، لكن ليست عنده استطاعة ليذهب
ويحج، فأخذ منك ما يوصله إلى الحج، فهذا جزاه الله خيراً، وله مثل أجره،
لكن من ليست عنده رغبة في الحج ولا نية فيه، ولكن سمع من يقول: أريد من يحج
بدلاً عني.
قال: أنا أحج، ولكن أعطني.
فهذا حج ليأخذ، فهذا أخذه فيه نظر.
والله تعالى أعلم.
حث الشرع على
المبادرة بحقوق الأجراء
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ، رواه ابن ماجه.
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي، وجابر عند
الطبراني، وكلها ضعاف] .
كلها ضعاف ولكن ضعيفان يغلبان قوياً، إذا تعددت روايات الحديث الضعيفة يشد
بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، وهنا مشى الحديث على مقتضى العقل، بمعنى:
أنه ما خرج عن الأصل (أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) والمراد من هذا:
سرعة دفع الأجرة، وإلا فقد يجف عرقه وهو في محل العمل ويأتيني إلى البيت
ليأخذ حقه، أو يأتي من الغد، الغرض في الإطار العام للحديث إنما هو الحث
على المبادرة بدفع الأجرة للعامل، والإشارة هنا: (قبل أن يجف عرقه) ، إشعار
بأن الأجير بذل جهداً حتى عرق جبينه وجسمه، والعرق هذا يأتي عن مجهود؛ فلا
ينبغي أن تستفيد وتأخذ جهده الذي أضناه عرقاً، ثم تتركه الذي بذل هذا الجهد
يريد أن يتعشى، فقد ضيع ما عنده في معدته من طعام فيحتاج إلى الأكل، وحقه
عندك؛ فلا ينبغي أن يبيت طاوياً جوعاً وحقه في يدك، ليس إنصافاً أن تستوفي
حقك ولا توفه حقه، وهذه هي العدالة.
أما الذين يماطلون في أجور العمال، ومن يحتال على من استقدمه، ويؤخر راتبه
إلى أن يضطر إلى مد يده، أو يتركه في السوق وجد عملاً أو لم يجد، وقد يزيد
الطين بلة بأن يفرض عليه إتاوة شهرية، وهل أنا وجدت عملاً! أعطني عملاً لكي
أعمل وخذ الذي تريد.
يقول: هذا ليس من شأني، اذهب أنت وابحث.
هذا من الظلم بمكان، وهذا ينبغي أن ينظر فيه، ويلزم كفيله الذي استقدمه
بنفقته وأجرته، وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء هذه المسألة، ونصوا على أن
ما يأخذه الكفيل سحت، لماذا يأكل من عرق الآخر؟ اتركه يعمل ويأخذ أجره على
عمله، وإن كنت تحتاجه دعه يعمل عندك.
الذي يهمنا في هذا: أن بعض المؤسسات تستقدم عمالاً لدوائر حكومية -لا حاجة
إلى تسميتها- ثم يؤخرون أجورهم الشهرين والثلاثة والستة أشهر، من أين سيأكل
هذا العامل؟ ينبغي أن يعلم الجميع أنه سيحتال في المؤسسة التي يعمل فيها
ليحصل على طعامه إما برشوة، أو باختلاس، أو بسرقة، أو بغش.
بأي شيء، ما دام صاحب المؤسسة منعه الأجر، وفمه ليس مغلقاً، والمعدة ليست
مسدودة، لابد أن يمضغ شيئاً، من أين يأتي به؟ يرجع إلى صاحب العمل في
مؤسسته.
إذاً: ينبغي مراعاة هذا الموضوع، وهذا الحديث يقضي على كل من استقدم
إنساناً أو تعاقد مع إنسان أو آجر إنساناً في أي عمل كان فاستوفى عمله أنه
لابد أن يوفيه أجره.
وهنا ناحية شرعية في باب الفقه والعقود عند قوله: (أعط الأجير أجره -متى؟ -
قبل أن يجف عرقه) ، وعرقه يأتي قبل العمل أو بعده؟ إذاً: الأجير يستحق أجره
بعد أن يوفي العمل، استأجرته يبني لك بيتاً ينشر لك خشباً يفعل لك ما تريد،
ليس له الحق أن يقول: أعطني أجرتي أولاً.
لا؛ لأني لم أستوفِ العمل، وما يضمن لي أنك لا تهرب وتترك عملي، وتأخذ
فلوسك وتذهب؟ لكن تبقى الأجرة عند المستأجر، ويستحقها الأجير بعد إتمام
عمله، فإذا أتم عمله ووفاه هناك يستحق أن يقول: أعطني.
وقدمنا قضية النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم واحد صاحب
أجير، قدم له أجره صاعاً من شعير فتنقصه وذهب مغضباً، ثم بعد مدة جاء يطلب
أجره، فوجد صاع الشعير وادياً من الغنم والإبل والبقر، قال: اذهب لذاك
الوادي فما وجدته فخذه فهو أجرك.
كان يحسب أنه كيس شعير أو شيء من هذا، فإذا به يجده حقاً، فرجع وقال له:
أتهزأ بي لأني فقير! قال: لقد نميت لك أجرك من يوم أن ذهبت عنك فتناسل
وتكاثر، فهذا أجرك.
فأخذه، وقال في الحديث: (فأخذه ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك
ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت عنهم الصخرة) ، كل واحد من
الثلاثة يدعو وتنفرج عنهم الصخرة قليلاً حتى استطاعوا أن يخرجوا.
فهكذا حرصه على أجر الأجير ولو غضب وترك أجره وذهب، لا أقول له: مع
السلامة.
ثم يقول له: ليس لك عندي أي شيء، أعطيتك وما رضيت لا، ليست هذه مروءة، إنما
عليه أن يحتفظ بأجر الأجير ويدفعه إليه، وإن نماه إليه كان فضلاً منه؛ لأن
هذا الذي نمَّى صاع الشعير حتى أصبح وادياً من النعم كان من حقه أن يكون
شريكاً له على سبيل المضاربة؛ لأنه أخذ مال الأجير الذي هو أجره وعمل فيه
ونماه، وشركة المضاربة هي: أن يأخذ إنسان مالاً من إنسان وينميه على النصف
من الربح، لكن هذا تعفف ولم يأخذ منه شيئاً، ودفع إليه كامل الأجر بنمائه.
والله تعالى أعلم.
حكم الاستئجار بدون
تحديد الأجرة أو العمل
[وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من
استأجر أجيراً فليسمِ له أجرته) ، رواه عبد الرزاق، وفيه انقطاع، ووصله
البيهقي من طريق أبي حنيفة] .
هذا الحديث وإن كان فيه انقطاع فهو يصدق الواقع: (من استأجر أجيراً فليسم
له أجرته) ، وهو معنى قول الفقهاء: لابد من معرفة الأجر ونوع العمل.
تعال اشتغل عندي اليوم.
قد يظن أنه سينقل لبناً أو يكسر خشباً، وتقول له: ارفع هذا الرمل إلى
السطوح وانزل.
والصعود إلى السطوح مرة واحدة يقدر بعمل أربعة أضعاف على الآخر، أو يحمله
حجارة: انقل هذه الحجارة إلى المكان الفلاني، والحجر يحتاج إلى نفرين
ليأخذوه، فيتكلف فيه، فيظن العمل سهلاً وإذا به صعب، فكذلك الأجرة، كم
الأجرة؟ لا عليك، اعمل الآن هذا لا ينبغي.
وإن كان بعض العلماء يقول: يجوز استئجار الأجير بدون تحديد الأجرة على
العمل، يقولون: فالأجرة يرجع فيها إلى العرف، كم عرف الناس أجرة العامل في
اليوم؟ في السابق كانت عشرة ريالات للمعلم وللصبي أو العامل خمسة ريالات،
المعلم البنا الذي يبني عشرة ريالات، وكانت تصرف في البيت عشرة أيام، لها
قيمة، وقيمة النقد في العالم ليس في رصيده في البنك الدولي العام، ولكن في
القيمة الشرائية في بلده، وكان القرص الخبز بقرشين، الآن بكم؟ صار بسبعة
قروش، الريال بعشرين قرشاً، أين القرشين من سبعة؟! فقيمة الريال فيه كانت
أُقة حمل الجمل بريال واحد.
ومن النكت مع بعض إخواننا الشناقطة: جزار ينادي يقول: يا جملٌ بريالٌ.
هل سمعتم بهذه الصيغة؟! المنادى ما يضم.
قال له: يا أخي! ما هذا اللحن، قل: بريالٍ، الباء تجر.
قال: إليك عني.
قال: النحو كسرته.
قال: لا شأن لي بنحوك، أنا أعمل بنحوي، أخشى أن يظن الزبون لما أقول:
بريالٍ أني أقول: بريالين! فإعطاء الأجير حقه في وقته، وكما في الحديث:
(قبل أن يجف عرقه) ، ويتعين في الأجير أن يبين له أجره، وكذلك عمله.
والذين قالوا: ليس بشرط، قالوا: إن عدم تعيين الأجرة يحددها العرف.
وعدم تحديد العمل استدلوا له بقصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى
أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، أؤجرك على ماذا؟ ما بين
له نوع العمل الذي يستأجره فيه، قال: وما الذي سيكون عندي من عمل؟ المتبادر
إلى الذهن هو رعي الغنم بدل البنات، فقالوا: العرف يحدد هذا.
والله تعالى أعلم.
|