شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1]
لقد أمر الشارع بالعدل بين الأولاد في العطية، وحرم المفاضلة فيها، واشترط أهل العلم في رجوع الوالد عن عطية ولده شروطاً معلومة، وهذه المسألة مستثناة من عموم النهي عن الرجوع في الهبة والعطية.


شرح حديث النعمان بن بشير في وجوب العدل بين الأولاد في العطية
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجعه) ، وفي لفظ: (فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم قال: (فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن) ] .
هذا الذي ساقه المؤلف من خبر النعمان بن بشير جزء من حديث طويل، وهو: أن أباه تزوج امرأة وهي أخت عبد الله بن رواحة، ثم طلبته أن يهب لولدها منه شيئاً يخصه به، قال: فمطلها سنة، وقيل: مطلها سنتين، ثم إنه أعطاه بستاناً نخيلاً، ثم بعد فترة ارتجعه، ثم رجعت وألحت عليه أن يمنح ولدها شيئاً من ماله، فمنحه هذا الغلام، فحينئذ خشيت أن يرجع في الغلام كما رجع في البستان، فقالت: لا أقبل - أي: لا أقبل هذا العطاء في الغلام - حتى تذهب وتشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتضمن عدم رجوعه فيه كما رجع سابقاً في البستان.
هكذا يذكر بعض العلماء؛ لأنه جاءت بعض الروايات أنه قال: (إن أبي قد منحني شيئاً من ماله) ، وبعض الروايات: (منحني غلاماً) ، فقالوا: يجمع بين هذا: أنها أولاً ألحت على زوجها فأعطاه بعد المماطلة بستاناً، ثم إنه رجع فيه، وهنا يأتي الكلام في الرجوع في الهبة، وسيأتي تفصيل ذلك في أحاديث متقدمة.


العطية لا يثبت تملكها إلا بالقبض
وهنا: اتفق العلماء على أن الهبة والصدقة والعطية لا يثبت تملكها لمن وهبت إليه أو منحها إلا بعد القبض.
وبعض العلماء يقول: الهبة تصح ويقع التمليك لها بمجرد العقد، وعند الحنابلة التفصيل بين المنقول من مكيل وموزون وحيوان، وبين الثابت من عقار وغيره، فقالوا: لا تثبت الهدية في المنقولات إلا بالقبض، وما عداها تثبت بالتخلية، وقالوا: إن الصغير يقبض عنه وليه؛ لأن الصغير ليس أهلاً للقبض، وكذلك القبول، قالوا: ويشترط في صحة الهبة قبول الموهوب إليه وقبض الهبة التي وهبت له.
واستدلوا في صحة الهدية بالقبض بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بأن أباها كان قد منحها جذاذ خمسين وسقاً، فلما لم تحزه، ومرض مرض الموت قال: (يا ابنتي! والله لا أحد أعز علي فقراً من بعدي منكِ، ولا أحد أحب إلي غنىً من بعدي منكِ، وكنت قد نحلتك جذاذ خمسين وسقاً ولو كنت حزتيه لملكتيه) ، وفي رواية: (ولو كنت حرثتيه لملكتيه) فعلى رواية: (حزتيه) يكون الفرض جذاذ خمسين وسقاً من تمر جاف بذاته، وعلى رواية: (حرثتيه) يكون قد منحها نخلاً يؤتي ثمرة مقدار خمسين وسقاً، وعلى كلا الحالتين لما لم تقبض ما منحته -سواء كان تمراً موثقاً أو نخلاً يأتي بهذا القدر من الأوسق- فإنها لا تملكه.
ثم قال: (وهو الآن مال وارث فاقتسموه أنت وأخواك وأختاك) ، أي: أسماء وبنت أخرى من امرأة كان تزوجها بالمدينة، وكان يسكن معها في السنح، قالت: (أي أختين يا أبي وليس لي إلا أخت واحدة؟ قال: ابنت زيد بن فلان، إنها حامل وأراها حامل بأنثى) فجاءت كما قال رضي الله عنه، فقالوا: لو لم يشترط القبض في الهدية والهبة لنفذت هبة أبي بكر لابنته عائشة، ولما لم تقبضها رجعت الهبة إلى مال الواهب وأصبح مال وارث.
فهنا بشير لما منح ولده أولاً البستان يقولون: الوالد لا يقبض عن ولده إلا إذا كان في النقدين، فإذا كانت الهبة من النقدين الذهب والفضة، قال مالك: لا يصح للوالد أن يقبض لولده هبة الذهب والفضة، ولو حتى عزلها وختمها وأبعدها عن ماله مميزة عنه، ولكن يشترط أن يخرجها من تحت يده، ويجعلها تحت يد رجل أمين تكون عنده؛ مخافة فيما بعد: فلو مات الواهب-والحال أنه كان قد وهب ولده جزءاً من المال وبقي المال تحت يده في صندوقه مع عموم ماله- لربما ادعى الورثة أنه مال أبيهم، وأنه في التركة، لكن عندما يخرجه إلى يد غيره لا يمكن أن يدعوا ذلك.
إذاً: لابد من اشتراط القبض في الهبة، والقبض كما يقال: إن كان مكيلاً أو موزوناً أو منقولاً فبنقله عن مكانه، وإن كان ثابتاً فبالتخلية بينه وبين الموهوب له.
وهنا عمرة بنت رواحة لما قالت: لا أقبل، سبب ذلك أنه كان قد سبق من زوجها أن منح ولدها النعمان ثم رجع في منحته، ويقولون: إنه وإن كان يقبض عن الصغير إلا أن للوالد أن يرتجع في هبته لولده، وليس هذا لغير الوالد من جد أو أخ أو عم أو غير ذلك.
واختلف في الأم هل لها أن ترجع في هبتها لولده؟ فالحنابلة عندهم رواية عن أحمد رحمه الله: أنها لها ذلك لقوله: (اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم) والأم والدة.
وعند المالكية أن الأم لا تملك حق الرجوع في الهبة؛ لأن الوالد له ولاية على الولد، وهذه ليست موجودة للأم عليه، وجاء النص: (أنت ومالك لأبيك) وهل تلحق الأم بذلك أم لا؟ قالوا: وإن لحقت به في الأخذ من مال ولدها لحاجتها، فلا تلحق به في حق استرجاعه مما أعطى ولده.


حكم العطية بين الزوجين
ثم يأتون إلى العطية بين الزوجين، فقالوا: إذا أعطى الزوج زوجته عطية فلا يحق له أن يرتجعها، والقبض والإذن في ذلك حاصل لأنهما معاً في البيت.
والمرأة إذا وهبت لزوجها هبة، قالوا: من حقها أن ترجع ومن حقها أن تمضي؛ لما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (النسوة يهبن رغبة ورهبة) رغبة: تستجلب محبة الزوج، ورهبة: من أن يوقع بها ما يسوءها، ومخافة أن يتزوج عليها، أو أن يسيء عشرتها، أو أن يقصر معها فيما يفعل مع زوجاته الأخريات.
قالوا: لها أن ترجع؛ لأنه يتوجه إليها الرغبة والرهبة.
إذاً: الهبة بين الزوجين: فالزوج إذا وهب لا يرجع في هبته، والزوجة إذا وهبت لها أن ترجع في هبتها؛ لأن عندها علة ليست موجودة عند الزوج، وهنا عمرة طلبت من زوجها أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحته زوجها لولدها.
يقول ابن حجر نقلاً عن بعض العلماء: هذا من شؤم التشدد والتنطع، فلو أنها قبلت عطاء زوجها لولدها لمضى الغلام في عطية الوالد، لكنها تعنتت وتشددت وطلبت أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟) هذا كما يقولون: وجوب الاستفصال من المفتي.
إذا استفتاك إنسان وكان الموقف فيه احتمالات بين جواز الأمر أو منعه، فعليك أن تستفصل، فهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟ قال: نعم، قال: أكل ولدك منحته ذلك؟ قال: لا.
قال: ارتجعه) .
وقال: (لا أشهد على جور) .
وقال: (أشهد عليه غيري) كل هذه الألفاظ جاءت.
والذين يقولون: ليس للوالد الرجوع بالكلية في أي حالة من الحالات أجابوا عن هذه الألفاظ وهذه الروايات في هذا الحديث بأجوبة: أما عن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري) يقول الشافعي: إن الرسول لم يعلمه بأن الهدية باطلة، ولكنه قال: أنا بصفتي رسولاً لا أشهد على مثلها، ويقولون: إنه كحاكم وقاض لا يكون شاهداً، وكما جاء عن عمر رضي الله عنه جاء رجل يحتكم إليه ويشتكي خصماً له، قال: ائتني بشهود، قال: أنت أحد الشهود، قال: أنا لا أكون شاهداً وقاضياً، إن أردتني شاهداً فتقاضى إلى غيري أشهد عنده، وإن أردتني قاضياً فأتني بشهود.
أي: أن الإنسان لا يكون في وقت واحد شاهداً وقاضياً.
وبعضهم يقول: في قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري، فإني لا أشهد على جور) يبدو والله أعلم لولا مجيء قوله: (لا أشهد على جور) ، وقوله: (أشهد عليه غيري) فيكون هناك توجيه لما هو الأفضل والأكمل؛ لأنه ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه، سأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: لا.
صلى، وإن قالوا: نعم.
قال: صلوا أنتم، وهنا امتناعه عن الصلاة على المدين لا يكون ذلك في الحكم على الميت، ولكن في حكم الدين الذي هو عليه، ويكون حثاً على أداء الديون قبل الوفاة، فإن توفي وعليه ديون فعلى ورثته المبادرة بسداد ديونه، وهذا أيضاً فيه مفاضلة كونه يصلي على هذا ولا يصلي على ذاك، فكذلك هنا يشهد على هذا أو لا يشهد على ذاك، ليس ما يشهد عليه في الصراحة والإباحة كالذي لا يشهد عليه.
إذاً: أقل مراتبه الكراهية.
أما لما جاء فقال له: (فإني لا أشهد على جور) والجور: الظلم، فهنا اشتد الأمر، والإجابة عليه ليست وافية، فإنهم قالوا: يكون للكراهية، ولكن الأسلوب من حيث هو يدل على النهي والنفي.
وهنا عطاء أحد الأولاد بعض المال، فهل هذا يصح أم لابد من التسوية بين الأبناء؟ سيأتي للمؤلف رحمه الله بعض النصوص في ذلك ويهمنا في حديث النعمان بن بشير أنه كان صغيراً؛ جاء في بعض الروايات ذكرها ابن عبد البر، قال: (فانطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله) وفي بعض الروايات: (يمشي بي) وجمعوا بأنه لصغره تارة يمشي وتارة يحمله كما يفعل الأب مع ولده الصغير، يحمله شيئاً ثم ينزله ويمشي معه شيئاً آخر، إذاً: أبوه كان قد استلم مكانه، وقبض الهبة من نفسه وهذا كما يقولون بالولاية.
ولو أن أجنبياً أهدى لطفل وأبوه موجود فأبوه يقبض عنه، أو كان يتيماً وله وصي فوصيه يقبض عنه؛ لأن الصغير دون البلوغ ليست له صلاحية القبض ولا القبول، فوليه يقبل الهدية ويقول: قبلتها لفلان، ويقبضها عنه ويحوزها لديه.
وتقدم الإشارة إلى كلام مالك رحمه الله تعالى بأن القبض يكون جائزاً إلا في النقدين، فلابد أن يعزل الهبة النقدية ويجعلها في يد أمين بعيدة عنه، مخافة أن يأتي الورثة فيما بعد ويقولون: هذا مال أبينا وهو تركة عنه.


شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) متفق عليه، وفي رواية للبخاري: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه) ] .
هذا الحديث أيضاً يتناوله العلماء باختلاف: (العائد في هبته كالكلب يأكل ثم يقيء ثم يعود يلعق من قيئه) هذه الصورة نجد أن بعض الناس يقول: يجوز أن يعود في هبته، طيب والكلب يعود؟ قال: الكلب ما عليه لا حلال ولا حرام، فإنه لما يقيء ثم يرجع ويلعق من قيئه ليس حراماً عليه.
إذاً: لا مانع أن يعود الإنسان مع التقبيح والكراهة.
والآخرون قالوا: لا، جاء اللفظ: (ليس لنا مثل السوء) فالرسول عندما يضرب المثل بكلب يقيء.
انظر الصورة! ليس بكلب يأكل ثم يترك ثم يعود لما كان يأكله، يعود لفريسته مرة أخرى، لا، وإنما يقيء، فكأن الذي وهب ما كانت هبته خالصة ولكن كأنها استخرجت منه بشدة، كالشخص الذي يقيء رغماً عن أنفه، فيكون حينئذ أخرجها بغير اختياره، أو أخذت منه كرهاً عليه، فحينئذ يتطلع إليها، وسيأتي في قضية فرس عمر رضي الله تعالى عنه: (لا تبتعه ولو بدرهم) .
وهنا الذي يعود في هبته عام في جميع أنواع الهبات، وفي كل من يهب شيئاً، حتى الواهب يهب ولده، فإذا رجع فيها شمله هذا الحديث.
والذين يجيزون عودة الأب في هبة الولد لأنه ملكه، قالوا: عودة الأب كحديث النعمان، قال النعمان: (فرجع أبي فارتجع تلك الصدقة) ، كان قد وهبه وأعطاه، فهذا مخصص لعموم من وهب، كأنه يقول: من وهب ثم رجع إلا الوالد إذا وهب لولده فرجع عن هبته فلا مانع.
والبعض يقول: لا، بشير لم يكن أمضى الهبة، بل كان عرض على عمرة أن يهب للنعمان غلاماً، وهي إلى الآن ما قبلت ولا أمضت الهبة، بل قالت: (لا أقبل حتى تشهد رسول الله) .
إذاً: عقد الهبة إلى الآن لم ينعقد، فكون بشير يرجع في هبته لولده غلاماً فإنه رجع قبل انعقاد عقد الهبة.
إذاً: فهذا الحديث يعم، وإنه ما كان قد أنفذ الهبة ولا كان قد قبضها باسم ولده؛ لأنه من حقه أن يقبض لولده الصغير، فقالوا: رجوعه ليس كالكلب يعود في قيئه؛ لأنه لم يكن قد أتم وأمضى الهبة بدليل أن زوجه عمرة قالت: لا أقبل.
إذاً ما تم القبول، هو أعطى وتولى القبض والقبول، قالت: (لا.
حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
إذاً: إلى الآن الهبة معلقة حتى يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك تخصيص للحديث، ويكون هذا الحديث عاماً في كل هبة والدا ًكان أو أخاً أو أختاً (فرجع في هبته) .
وبعضهم يقول: إنما هو في الصدقة التبرر والتطوع؛ لأن المتصدق أخرجها لوجه الله رغبة في الأجر عند الله، فلا ينبغي له أن يبطل نيته تلك وأن يفسخ عقده مع الله في تلك الصدقة، بخلاف الهبة للبشر، فإن له أن يعود فيها، ويكون الحديث على رأيهم خاص بمن تصدق بصدقة لفقير أو مسكين لوجه الله.
وتقدم لنا الفرق بين الهبة والصدقة؛ فإن الصدقة تعامل مع الله، ينتظر فيها ثواب الله، والهبة تعامل مع الإنسان ينتظر مثوبتها عند الإنسان بمجاملة أو مودة بمصانعة بتمهيد لصداقة لقضاء حاجة، هذه هي الهبة التي تدور في فلك الإنسان، من إنسان إلى آخر، ولكن الصدقة تخرج من فلك الإنسان إلى رب العزة فيتعامل مع الله.


شرح حديث: (لا يحل لمسلم يعطي العطية ثم يرجع فيها ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم] .
لا يصح لأحد أن يعطي العطية، نحن قلنا: العطية والهدية والهبة والنحلة كلها أسماء لمسمى واحد، ولا يختلف ذلك إلا مع الصدقة؛ لأن الصدقة تعامل مع الله، يرجو فيها ثواب الله، ولهذا يخفيها ولا يريد أن يطلع عليها أحد، بخلاف الهبة فإنه قد يرائي فيها ويظهر المصانعة مع الآخرين.
ولا يحق لإنسان أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، كالحديث الأول ثم قال: (إلا) وهذا نص بالاستثناء، فهو يستثني نصاً صريحاً: (إلا الوالد إذا أعطى ولده له أن يرتجع) ، يرتجع لأي شيء؟ هل يرتجع عن أصل الهدية ويقف عنها ويلغيها، أم يرتجع ليسوي بين هذا الشخص وبين بقية إخوته؟ قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ بشير: (اتقوا الله وسووا بين أولادكم) يقول العلماء: إما أن يعطي بقية الأولاد كما أعطى هذا الولد، وإن كان لا يوجد عنده ما يكفي لعطاء جميع الأولاد كهذا الولد ارتجع مما أعطاه لهذا الولد وكمل به ما معه ليعم العطاء لجميع الأولاد.
إذاً: الوالد قد يضطر إلى الرجوع فيما أعطى الولد؛ لتتم التسوية في عطاء الأولاد، وماعدا الوالد لا حق له في ذلك حتى الجد والأم ليس لهم الرجوع في العطية.


شروط الرجوع في عطية الولد
تقدمت الإشارة إلى أنه إذا لم يكن هناك أولاد، وكان عطاء من الوالد لولده الواحد، فإن رجوعه فيما أعطى الولد يشترط له بعض الشروط: أن تكون العين باقية في ملك الولد، ولو أن الولد وهبها أو باعها، أو عبداً أعتقه، أو جارية أولدها، فإنه في هذه الحالات لا يملك إرجاعها؛ لأنها انتقلت من ملك الولد إلى ملك الغير، وكذلك الجارية: إذا وهب ابنه جارية فاستمتع بها وحملت منه أصبحت أم ولد، وأم الولد لا يملك سيدها أن ينقل ملكها إلى غيره؛ لأنها تعتق عند موته.
وجاء الخلاف عند الحنابلة، ونص المغني شكل، ونص كشاف القناع شكل آخر، فالمغني يقول: مالم تتعلق بالعطاء رغبة الآخرين، وأشرنا إلى هذا المعنى بأنه لما أعطى ولده العطاء رغب الناس في التعامل مع الولد؛ لأنه أصبح له مال، خطب زُوج، والفتاة تخطب من أجل ما أعطاها أبوها: (تنكح لمالها) فإذا ما تزوج الولد، وتعامل مع الناس فداينوه، وتزوجت الفتاة، فإذا بالوالد يأتي فيرجع فيما أعطى ولده، كأنه أضر بالآخرين.
الطرف الثالث الذي وجد: وهو من داين الولد من أجل عطية أبيه، ومن زوج الولد من أجل عطية أبيه، ومن تزوج البنت من أجل عطية أبيها، هؤلاء يتضررون إذا رجع الوالد في عطائه لولده، والأصل: (لا ضرر ولا ضرار) .
هذا الوجه يذكره ابن قدامة في المغني قولاً واحداً، وكشاف القناع يذكر الروايتين: ولو تعلقت به رغبة الآخرين، بهذا النص.
ولو رهنه ينتظر الوالد حتى يفك الرهن؛ لأن الرهن لا ينقل ملكية العين عن مالكها، فهو حدث يمنع التصرف في المال، والراهن بنفسه لا يحق له أن يبيع الرهن، ولا يحق له أن يعتقه إن كان عبداً أو أمة؛ لأنه متعلق بالدين الذي في ذمته، فهو رهن لوفاء الدين، فإذا باعه انتفى مقصود الرهن، فإذا كان الولد قد رهن ما أعطاه أبوه في دين عليه.
قال في الكشاف في الرواية الأخرى: ينتظر الوالد فك الرهن ثم يرتجع المرهون، ولكن المغني قدم عدم الرجوع قولاً واحداً.
ثم من شروط رجوع الوالد: أن لا يزيد العطاء في يد الولد، والزيادة تنقسم إلى قسمين: زيادة منفصلة وزيادة متصلة، فالزيادة المنفصلة كأن وهبه ناقة ثم لقحت الناقة فأنتجت وأصبح لها فصيل، وأراد الأب أن يرتجعها، قالوا: له أن يرتجع الأصل والنماء للولد؛ لأنه نماء وقع في ملكه.
أما الزيادة المتصلة التي لا يمكن فصلها، بأن كانت الناقة عجفاء، فعلفها حتى سمنت، أو كان الغلام جاهلاً عامياً فعلمه القراءة والكتابة، أو علمه صنعة، فهذه زيادة متصلة بالشخص لا يمكن فصلها عنه كفصل النتاج عن الناقة؛ فحينئذ لا يحق للأب أن يرتجع هذه الهبة؛ لأن الولد صارت له شراكة في هذه العين بقدر الزيادة التي زادت واتصلت.
كذلك من شروط رجوع الوالد في حق ولده: ألا تكون العين قد تلفت، أما إذا كانت نقصت بأن كان سميناً ثم هزل عنده فهو بالخيار؛ لأنه رضي بهذا النقص، فله أن يرتجع هبته إن أحب، وهذا كله تفصيل في رجوع الوالد فيما أعطاه لولده.
أما تملك الوالد من مال الولد ابتداء فيزاد فيه شرط آخر: وهو ألا يأخذ مال الولد هذا ليعطيه للولد ذاك؛ فالحديث بين أنه فيما أخذه لنفسه: (أنت ومالك لأبيك) ما قال: لأخيك، فإذا أخذ الوالد من مال ولده ودفعه لولد آخر فيكون قد أعطى مال الولد لأخيه وهذا لا يصح له.


شرح حديث: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها، فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده، فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده، فقال: رضيت؟ قال: نعم) رواه أحمد وصححه ابن حبان] .
قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) .
الهدية بالثواب في حكم البيع، إن رضي المهدي لما عوض عنها مضت وإلا ارتجعها، ولهذا الأعرابي لما أعطى لرسول الله، قال له: رضيت؟ قال: لا، قال: زيدوه، لأن البيع عن تراض، وهذا ما رضي.
وقالوا: إن الهبة للثواب جائزة عند الجميع إلا من رسول الله، لا يحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب هبة ينتظر ثوابها؛ لأنه في غنى عن الخلق، ولا يطمع في زيادة من أحد؛ لأن هذا ليس من مكارم الأخلاق، أما أن يقبل ويثيب هو فهذه مكارم أخلاق.
والعادة أن الواهب مع الموهوب له ثلاث حالات: إما أن يكون مساوياً له، يعني: وهب لنظير مساوياً له، أو يكون دونه وأقل منه، أو يكون وهب لمن هو أعلى وأغنى منه، وكل هذا جائز في الهبة، فإذا كان قد وهب لمساويه، إن كان يقول: هذه هبة ثواب تعينت، وعلى الموهوب له أن يثيبه عليها وإلا ارتجع هبته، وإذا لم يسم ثواباً فهي هبة للمودة وليست للثواب؛ فالقرائن هي التي تبين ذلك.
وإن كان قد وهب لمن هو دونه، فليس من المعقول أن يهب لشخص أقل منه مالاً وجاهاً وينتظر منه أن يثيبه ويعطيه.
لكن إذا وهب لمن هو أعلى منه: يأتي إنسان لأمير من الأمراء أو تاجر من التجار أو ولي أمر أو كذا أو كذا ويهدي إليه أعواداً من الأراك، السواك موجود ومتوفر، لكن هل هو أراد أن يهاديه ليتودد إليه أو يصانعه من أجل الثواب عند الله؟ لا.
إنما تطلع لما يثيبه عليه من أهدي إليه، وجرت العادة أن من كان أعلى من المهدي لا يعاوضه مثل قيمتها وإلا ما الفائدة؟ سيذهب بها عند الآخرين.
العادة من مكارم الأخلاق أن ذوي اليسار إذا أهدى إليه إنسان فقير أن يضاعف له قيمة الهدية؛ لأن هذا هو المقصود، ولما جاء الأعرابي وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، قال: أعطوه، فأعطوه ثلاثاً، قال: رضيت؟ قال: لا، قال: زيدوه، ثم أعطوه ثلاثة أخرى، قال: رضيت؟ قال: لا، قال: أعطوه، فزادوه ثلاثة أخرى، فأصبح عددها تسعة، قال: رضيت؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت ألا أقبل هدية ثواب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي) لماذا؟ لأنهم لا يعاملونه مثل هذه المعاملة.
إذاً: الهدية للثواب حكمها حكم البيع، وتفصيل ذلك: إنسان جاء وأهدى سيارة لمن هو أعلى منه بقصد المثوبة، فجاء وأعطاه سيارة أو وناقة، الذي أخذ السيارة جاء ليشغلها فإذا بها عيب، هل يلزمه أخذها بعيبها أم له حق الرد للعيب الموجود؟ له حق الرد؛ لأنه دفع قيمتها، فهبة الثواب يجري فيها أحكام البيع، كذلك الذي وهب السيارة وجد العطل الذي مع سيارته غير صالح، له حق أن يرجع ويرده، ويقول: أنت أعطيتني شيئاً غير صالح وعليه أن يعوضه عن هذه السيارة.
ويقولون: المعاوضة في هبة الثواب أقل حد فيها القيمة، ولكن يقولون: ليست من عادة ذوي المروءة أن يعامل المهدي الأقل كمعاملة السوق، يريد قيمتها، ما هي الفائدة إذاً؟ كونه يتعنى أن يهدي إليك بالذات ويعطيك هذه الهدية، هو يريد أكثر منها، لكن يقولون: لا يجوز أن يثيبه عليها أقل من قيمتها، والشافعي رحمه الله في الجديد عنه قال: لا تصح هبة مثوبة؛ لأنها معاوضة على مجهول، والذي يهدي لا يعلم ماذا سيعطيه المهدى إليه، فكان هناك مبايعة على غير بيع؛ ولذا نفى الشافعي رحمه الله الهبة للثواب، وقال: هذا بيع فيه جهالة في الثمن، فلا تصح، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له)
يقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له) متفق عليه، ولـ مسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه) وفي لفظ: (إنما العمرى التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) ولـ أبي داود والنسائي: (لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقد شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لورثته) ] .
بعدما أتى المؤلف بإجمال مواضيع الهبة والعطية والنحلة على ما تقدم في تفصيلها، وحكم الرجوع فيها، والتسوية بين الأبناء، جاء بأحكام العمرى، وقبل أن نخرج إلى العمرى، تذكرون أن سائلاً بالأمس سأل: هل يجب على الوالد أن يساوي بين أولاده بالنفقة أم لا؟ موضوع المساواة بين الأبناء إنما هو في العطاء، (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟) أعطيتهم مثل هذا، أما النفقة فليست عطاء.
النفقة أداء واجب، وأداء الواجب يكون بقدر ما يؤدى به هذا الواجب، إذا كان عنده ولد طالب في الجامعة، وعنده ولد طالب في الابتدائي، هذا الطالب الذي في الابتدائي هل يحتاج من النفقة والمصاريف ولوازم الدراسة بقدر ما يحتاج طالب الجامعة؟ لا يحتاج.
فهل نقول: نعطي الصغير بقدر ما نعطي الكبير لأجل المساواة؟ لا، فالمساواة هنا إيفاء كل ذي حق حقه، فلا يقصر مع الطالب الجامعي لكثرة نفقته، ولا يغدق على الطالب الابتدائي لقلة مئونته، بل يعطيه، اليوم بدأت الدراسة، يريد حقيبة، يريد دفاتر، يريد كتباً، يريد مسطرة، هذه الأشياء يحضرها له، لكن طالب الجامعة يريد مواصلات، وربما احتاج إلى سكنى، وإلى ملابس فطلباته أكثر وأوفر، وكذلك البنات: البنت الصغيرة في سنة أولى والبنت الكبيرة في الجامعة، فكل من الأولاد له حق، وحقه إعطاؤه ما يفي مطالبه، فلا يقصر مع الكبير ولا يسرف مع الصغير؛ لأن الصغير في طريقه إلى ما وصل إليه الكبير، وسيأخذ كما أخذ الكبير.
بقي هنا مسألة وإن لم يأت السؤال فيها فهي تفرض نفسها، فيما إذا كان للوالد خمسة أولاد: ثلاثة ذكور وبنتان، فزوج من الأولاد ولدين وبقي ولد، وزوج من البنات بنتاً وبقيت بنت، اللذان زوجهما أبوهما بقي الثالث، هل من حقه أن يفرد هذا الولد الثالث بشيء يساعده على الزواج كما زوج الولدين؟ وهل يعطي البنت التي لم تتزوج ما يساعدها في زواجها كما زوج الأولى؟ تقدمت القاعدة العامة: هل يجوز للوالد أن يفاضل بين أولاده لوصف قائم؟ جاءت النصوص عند الحنابلة أيضاً بأن الوالد له أن يفاضل بين أولاده خاصة لوصف قائم بأحدهم، وأشرنا إلى ذلك سابقاً بأن كان ذا عائلة أو كان مريضاً زمناً لا يقوى على العمل بأن كان متفرغاً لطلب العلم، فللوالد أن يميزه عن بعض إخوانه في العطاء، إذا أعطى إخوانه عشرة يعطي واحداً من هؤلاء عشريناً.
ثم هناك من يقول: التسوية في الحالة العادية، لو أعطى الولد عطاءً زائداً ثم أراد أن يسوي بين الآخرين، على أي قياس؟ فبعضهم يقول: على قياس قسمة التركة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، والبعض يقول: لا، هذا كميراث حق الله، وهذا عطاء من الوالد، فالبنت والولد في ذلك سواء، وجاء حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا وسووا، ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء على الرجال) والآخرون يضعفون هذا الأثر ويقولون: الولد أحق بالمفاضلة من البنت؛ لأن الولد سيلحقه غرم في الزواج فسيدفع صداقاً للزوجة، وسينفق عليها وعلى أولاده منها، أما أخته -أي: البنت- فلا تطالب بشيء من ذلك، تأخذ حصتها من الميراث وتتزوج وتأخذ صداقاً، وتجد من ينفق عليها، ولا تكلف بشيء من ذلك.
إذاً: قسمة الميراث راعت حق الولد أو الذكر لما يتبعه من تبعات في الحياة.
إذاً: لو كان أحد الأولاد به صفة يحتاج بها إلى مفاضلة فإنه لا مانع في ذلك، وإن كانت الرواية الأخرى في الكشاف عند الحنابلة: مهما كان وصفه لا يفاضل به، ولكن الحاجة تعطى، حتى ذكر لو أنه زوج ابنته فجهزها فأعطاها عليه أن يعطي أولاده مثلما أعطاها، وهذا ذاهب للعروس ليس لنا دخل فيه، ولكن يعطيها لكونها انتقلت من بيته إلى بيت آخر، لكونها تبتعد عنه، فلابد أن يسوي بهذا العطاء بقية إخوانها، وبالله تعالى التوفيق.


كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [2]
لقد نهى الشرع عن الرجوع في الهبة أو الهدية أو الصدقة؛ لأنها ليست من الصفات المحمودة، ولما يترتب على إنفاذ الهدية أو الهبة من مصالح محمودة، فهي تزرع المحبة والمودة وتسل السخيمة والبغضاء من النفوس.


شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن عمر قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم) الحديث متفق عليه] .
هذا الحديث أعتقد أنه كان ترتيبه الطبيعي مع أحاديث الباب قبل قضية العمرى والرقبى، ولكن له علاقة بالعمرى والرقبى التي كانت موجودة في استرجاعها، فـ عمر رضي الله عنه يقول: (حملت على فرس في سبيل الله) بمعنى: أنه وجد إنساناً رغب في الجهاد، ولم يجد ما يبلغه أو ما يركبه فيساعده على القتال، فأعطاه فرساً من عنده يحمله عليه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً} [التوبة:92] ما عندهم شيء يوصلهم، ونعلم قلة الظهر في السابق في غزوة بدر كان الثلاثة والأربعة يتعاقبون على بعير واحد، فلو كانت متوفرة لكان كل واحد ببعيره، فالمسافة ما يقارب مائة وخمسين كيلو، فـ عمر رضي الله عنه فعل ذلك من باب الجهاد في سبيل الله بالنفس وبالمال، ثم نظر إلى فرسه عند من كان حمله عليه، (فأضاعه) ، وكلمة الضياع تطلق على التلاشي، تقول: ضاع الكتاب ضاع القلم ضاع الدفتر يعني: ليس عندك، فيكون في يدك وتقول: ضاع، يقولون: (ضاع) تصرف إلى معنى: أهمله كأنه ضيعه، أي: قلّت الاستفادة منه بسبب إهماله، والفرس يضيّع؟ نعم، مئونة الفرس للجهاد في سبيل الله مئونة شاقة، كما قالت أسماء رضي الله عنها عندما لحقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من طريق الغابة، وهي تحمل النوى على رأسها، فلما عرفها أشفق عليها وأناخ راحلته ليردفها خلفه، تقول: تذكرت غيرة الزبير، فاستحييت وامتنعت، فأخذ مني قفة النوى وحملها عني، ثم قالت: والله ما أرهقني إلا فرس الزبير.
خدمته وعلفه وسقيه، والآن نجد بعض الهواة للخيل يجعلون له خادماً وسايساً ومنظفاً.
يعني: يمكن ثلاثة أشخاص يخدمون الفرس، وهذا للعناية به، والفرس حساس نظيف، يحب النظافة والأناقة والطرب، فيحتاج إلى خدمة، فإذا ما قصر صاحبه فيه أضاعه، والفرس لا يألف المكان غير النظيف، ولا يألف على طول المدة دون أن يغتسل ويغسل، وهكذا كما يقولون: أرقى النباتات النخلة، وأرقى الحيوانات الفرس، فهو أرقى الحيوانات وأذكاها.
نأتي إلى قول عمر: (فأضاعه) لا شك أن عمر لديه الإمكانيات لعلف الفرس ولخدمته، ولما يتناسب مع مهمته، فلما حمل عليه شخصاً الأصل أنه فقير لا يجد ما يركب عليه، إذا أعطي فرساً أصيلة مخدومة ليس بإمكانياته أن يوفيها حقها.
إذاً: ضاعت فعز على عمر أن يرى فرسه المدلل، أو يرى فرسه المخدوم المعلوف المتميز مهملاً مضيعاً ولا يؤدي مهمته، والعرب كانت تعنى بالخيل قبيل المعارك بالتضمير.
أي: يضمرها، كما عندنا في السباق: (سابق بين الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحفياء، وبين الخيل غير المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق) فالمضمرة شيء وغير المضمرة شيء آخر، وتضمير الخيل: هو أن يعطى العلف متى ما شاء، دائماً يأكل حتى يشبع ببطر، ثم قبل المعركة يؤخذ هذا الفرس ويجلل بالثياب المتينة الصوف، ثم يوضع في غرفة قليلة التهوية؛ ليعرق بلباسه عليه وضيق الغرفة، فيخرج من ضخامة بدنه السيولة، كما يقولون: الماء من داخل الجسم في العرق الذي يخرج ويفرزه، فيحتفظ بقوة عضلاته، ويتخلى عن فضلات جسمه فيما يخرج من أملاح ومياه في العرق.
فهذه خيل مضمرة.
يعني: صارت ضامرة بعدما كانت سمينة متينة.
أي: صارت نحيفة مع الاحتفاظ بقوتها، فأهل الخيل يعتنون بها إلى حد بعيد، حتى في بعض ضواحي الشرقية، عندهم للفرس الحرة سجل تاريخ، كشهادة ميلاد الإنسان، متى ولدت؟ ومتى لقحت؟ ومن الذي لقحها؟ خيل من عند مِن؟ وأمها من؟ وهكذا يؤرخون للفرس تأريخهم للولد، بل الأولاد في البادية ليس عندهم شهادة ميلاد، لكن يحفظون تاريخ ميلاد أولادهم، أما الفرس فيكتبون؛ حتى إذا أرادوا بيعها ينتقل معها سجلها.
وهكذا عناية العرب بالخيل، فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يتدارك فرسه الذي يعرف أصالته، ولكن هذه الخصيصة التي أكرم بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم مدرسة لنا ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحكام في الصغيرة والكبيرة، هذا عمر يريد أن يشتري فرساً، وما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟ قال: لا.
لابد أن أذهب فأسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أني كنت قد حملت عليها في سبيل الله، هل في شرائي إياها بعد ذلك فيه شيء؟ وهذه النعمة الكبرى التي امتن الله بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قضية النعمان وأمه وأبيه بشير بن سعد في المنحة، قالت: لا.
اذهب وأشهد عليه رسول الله، وهكذا كانوا يدخلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشورة في الاستئذان في الفتوى، وكان بين ظهرانيهم يجيبهم عن كل ما سألوه عنه، وتجمع ذلك كله وانتقل إلينا تشريعاً للأمة، وأصبح كل من منح ولده دون بقية الأولاد هو بعينه بشير، وأصبح كل من تصدق بشيء ثم رآه مضيعاً وأراد أن يشتريه هو عمر بن الخطاب في فرسه، وتصبح هذه قواعد عامة وتشريعات للأمة في تلك الأحداث الصغيرة.
لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال له؟ قال: (لا.
تبتعه) وباع وابتاع وشرى واشترى، كلها ألفاظ تأتي بمعنى البيع والشراء.
(باع) بمعنى: أعطى السلعة، ابتاع بمعنى: أخذها، شرى كذلك، واشترى، كلاهما بمعنى الإعطاء والأخذ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] أي: باعوه.
اشتراه: يعني: أخذه، (لا تأخذه لا تشتره لا تسترده وإن أعطاكه بدرهم) ، وما هذا يا رسول الله؟ هل هناك من يبيع فرساً بدرهم؟ ممكن هذا؟ عمر عظم في نفسه ضياع فرسه الذي يعرف أصالته فنفسه متعلقة به.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أعطاكه بدرهم) أي: ولو باعك إياه بأقل الأثمان، ليحط من تعلق عمر به، فيقابل شدة تعلق عمر بفرسه بقلة الثمن الذي يمكن أن يبيعه به صاحبه، وهذا أسلوب نبوي كريم يقابل المبالغة بنظيرها، (لا يفل الحديد إلا الحديد) .
وهنا لعل إنساناً يكون عنده فضول ويتساءل: هو ما قال له: أعطني الفرس الذي أعطيتك إياه فضيعته، وإنما قال: أشتريه، وذاك الذي أعطي الفرس وضيعه من حقه أن يبيعه في السوق لأي إنسان؛ لأنه ملكه، فإذا كان من حقه أن يبيعه، ومن حق أي إنسان أن يشتريه، فما الذي يمنع عمر وهو صاحبه الأول بأن يكون هو المشتري إذا جئنا إلى المعادلة العقلية؟ نجد أنه لا فرق بين عمر في كونه يشتريه ممن هو في يده وبين غيره؛ لأنه بيع وشراء، قالوا: لا، هناك فرق؛ كون عمر هو الذي أعطى هذا الشخص وحمله عليه، سيجد صاحب الفرس الجديد أن لـ عمر عليه فضل، فعندما يقول صاحب الفرس الذي بيده: بمائة، فيقول عمر: لا، بخمسين، ماذا يقول الذي بيده الفرس؟ يماكس مع عمر، أما لسان حال عمر: أنا ما برحت أعطيتك إياه، فيضطر عند البيع أن يجامل عمر، وأن يتنازل عن بعض حقه، وهذا ليس من الإنصاف، لكن لو جاء إنسان آخر وقال: بتسعة وتسعين، قال: لا.
فله الحق في ذلك؛ لأن الذي يسوم ليس له علاقة في هذه العين التي تباع.
الشيء الثاني وهو الأهم: أن هذا الشخص لو باع الفرس لزيد، وأراد عمر أن يشتريه من زيد قيل له: لا.
لأن الأصل أنه منك، والمعنى الأساسي في هذا الموضوع: ما الذي جعل عمر يتأسف على ضياع الفرس؟ ارتباطه به في الماضي.
إذاً: حينما حمل عليه، هل انقطعت علاقته حساً ومعنى ورغبة ورهبة عن الفرس أم حمله وعينه تتطلع فيه؟ حمله وكل ما مر به نظر إليه، حمل عليه وكلما تذكره تذكر ماضيه.
إذاً: تعلق نفس عمر بالفرس، وهذا يشير كونه تصدق به؛ لأن المتصدق يتصدق لوجه الله، فينبغي أن يخرج الصدقة من يده ومن قلبه وماله، ولا تكون لها أي علاقة بالمتصدق، فيكون أخرجها من ملكه، وفكره، وحسبانه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقطع على عمر خط الرجعة في أن يفكر أنه كان له فرس لتمضي الهبة لوجه الله خالصة، ويجب أن تنقطع العلائق كلها من هذه الصدقة التي تصدق بها لوجه الله، وبقية الحديث هو الذي جاء فيه: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب) إلى آخر الحديث.
وهنا يسأل بعض العلماء يقول: (العائد) وهل عمر عاد في هبته أم اشتراها؟ اشتراها، ونتيجة الشراء، فإنه لو اشترى الفرس سيكون عاد إليه بأي وسيلة، حتى لو جاء يهديه إليك هدية لا تقبلها؛ لأنه خرج من ذمتك ويدك، اللهم إلا الأمور التي ليست عن طلب ولا عن رغبة، وجرت عادة الناس فيها، كما يذكرون في باب الزكاة والصدقات، جاء رمضان وجاء وقت زكاة الفطرة وأخرجت زكاة فطرتك لجارك، ثم جئت يوم العيد تزور جارك، فقدم لك حسب العادة وحسب ما يقدم للآخرين (الدلة) والتمر، فجئت أنت وصب لك القهوة وقدم إليك التمر، فإذا به تمر زكاتك الذي أعطيته بالأمس، هل تأكل منه بحكم الضيافة أو تقول: لا، العائد في هبته؟ تأكل منه، وهل عندما تأكل منه يكون هذا عود في صدقتك أم قبول إكرام جارك إليك، سواء كان بتمرك أم بتمر غيرك، فحينئذ لا تكون عائداً في صدقتك.


شرح حديث: (تهادوا تحابوا)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن] .
الأدب المفرد هو للبخاري، وهو من أنفس الكتب في الآداب، يورد أحاديث بر الوالدين وحكم الجوار، والرفق بالضعيف، وأشياء كثيرة في الآداب والأخلاق، كما فعل مالك رحمه الله في الكتاب الجامع في آخر الموطأ، وهكذا بعض العلماء إذا انتهى من تأليفه في باب الفقه والأحكام -حلال وحرام- يأتي بمجموعة من الآداب والذكر، حتى في كتابنا هذا بلوغ المرام، في آخره يأتي باب الذكر والدعاء، ليرقق النفس ويهذبها، ويربط الإنسان بربه في دعائه وفي حاجته، وكذلك البخاري رحمه الله جعل هذا الكتاب في مكارم الأخلاق والآداب، الذي هو الأدب المفرد.


الهدية سبب في زرع المودة
وفي هذا الحديث: (تهادوا تحابوا) الهدية من حيث هي سلاح المودة، ومراسيل التعاطف والتقارب والتآلف، وأعتقد أن كلنا يعلم ما فعلت بلقيس مع نبينا سليمان: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35] جماعتها يقولون: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33] فنحن مستعدون! قالت: لا، هذا السلاح للمعركة، في وقت الشدة، ولكن الهدية سلاح الحرب الباردة، وسلاح التعاطف والمودة -نجس النبض- وكانت الأمم قديماً في العادات والتقاليد، إذا أرادت أسرة أن تناسب أسرة أخرى وتخطب منها قبل ما تتقدم بالخطبة ويعتذرون بالدراسة، لكنها أعذار جحا كما يقال، ويتعللون بعلل! كانوا قبل ما يقدمون على ذلك ويرسلون المراسيل لخطبة الفتاة يرسلون أولاً بهدية إليهم، يقول الكاتب: ولو حزمة ثوم، فهي مجرد هدية، وهم يعلمون أنه ما في هدايا فيما بينهم، فإن قبلوا هديتهم ولو على قلتها معناها تفضلوا أهلاً وسهلاً، فيتقدمون للخطبة، وإذا ردوها وقالوا: نحن عندنا ما نحتاج معناه: كونوا بعيداً لا تقتربوا.
فكانت الهدية هي عنوان التقارب.


الهدية إلى الكافر وقبولها منه
الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الرسل بالكتب، وجاء حاطب إلى المقوقس بالإسكندرية رحب به وحصل معه محادثة لطيفة، من ضمن ما كلمه، قال: ألست تقول أن محمداً رسول الله وهو في عنايته وكذا وكذا؟ قال: بلى، قال: كيف يكون حبيب الله ورسول الله ويتركه لأهل مكة يخرجونه هارباً ليلاً؟ يعني: لماذا لم يحمه ولم يدافع عنه؟ قال له: أيها الملك! ألست تؤمن بالنصرانية؟ قال: بلى، قال: ألست تقول بأن عيسى ابن الله؟ قال: بلى، قال: كيف أن أباه تركه لليهود يصلبونه ولم يدافع عنه؟ فقال: حكيم جاء من عند حكيم، وهذه الأجوبة المسكتة، والعامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً.
فـ المقوقس أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وحللٍ للبس، وخفاف، وشيئاً من الطيب، وبغلة، وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا تجد الفقهاء يعتنون بمسألة: الإهداء إلى ومن الكافر: أتهدي إلى الكافر؟ نعم، أتقبل هدية الكافر؟ نعم.
وقد جاء في الإهداء إلى الكافر: عمر رضي الله عنه لما رأى حلة تباع وأعجبته وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اشترها لتلبسها للوفود، فنظر فيها وردها ثم قال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) يعني: قماشها فيه شيء من الحرير، ثم بعد فترة أرسل رسول الله إلى عمر حلة من نفس ذلك القماش، فجاء عمر يجري، فيقول: قلت يا رسول الله: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) وترسل لي بها! معناه: أنا لا خلاق لي، قال: لا يا عمر، أنت أخطأت في المقدمات، ليس معنى إرسالي إياها إليك لتلبسها، ولكن لتتملكها، وألبسها من شئت، فأرسل بها إلى أخيه بمكة وهو على دين قومه.
وهكذا في بعض سفراته صلى الله عليه وسلم، نزل منزلاً وجاء أعرابي يسوق غنماً، فقال له صلى الله عليه وسلم: هدية أم بيعاً؟ قال: لا.
بل بيع، فاشترى منه شاة، وسأل أصحابه من عنده طعام، وكذا وكذا، وصنعوا طعاماً وأكلوا جميعاً وبقي الباقي في القصعة.
يهمنا قبول الهدية من المشرك والإهداء إليه ما لم يكن حربياً؛ لعموم قوله سبحانه: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] وخاصة إذا كان ذا رحم فلا مانع.
فالهدية من قديم موجودة متداولة بين الملوك وبين الأشخاص العاديين، وهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم مهمة الهدية بين الناس، وإذا تأملنا جميع التشريعات في الإسلام كالعبادات والتبرعات نجد أن لكل عمل مهمة، مثل الفيتمينات، كل فيتمين له غرض خاص , كذلك هنا الصلاة تنهى عن الفحشاء، والزكاة تطهر وتزكي العبد والمال، والصيام يزيد من التقوى، والحج فيه منافع لهم، وكل هذه العبادات فيها منافع للأمة، وكذلك الهدية.
وعلمنا بأن قانون الحياة معاوضة، والهدية عوضها إما أن ينتظر مصانعةً، والرسول بين لنا فقال: (تهادوا تحابوا) فالهدية تورث المحبة؛ وجبلت النفوس على حب من يحسن إليها، والهدية من الإحسان، وهذا جزء من حديث: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) ثم بين صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .
والهدية -كما يقولون- تكون بمناسبة وبغير مناسبة، والعامة يقولون: الهدية على قدر مهديها، غترة تلبسها، زميلك في الدراسة سافر في العطلة، وعندما أتى أهدى لك غترة، أو مدير الجامعة سر بنشاطك، وأعجب باستقامتك ومثاليتك في الطلاب، فقدم إليك غترة، فهل غترة زميلك التي جاء بها كغترة مدير الجامعة؟ هي هي! نفس القيمة والمقاس! لكن هذه حق مدير الجامعة! هذه والله أنا ما اشتريتها، بل أهداها لي مدير الجامعة!! إذاً: على قدر مهديها؛ لأنه عندما تذكرك في غيبتك وفكر في أن يهدي إليك.
إذاً: أنت حاضر في خاطره، ما غبت عنه، ذكرك بالخير في الغيبة.
إذاً: هذا يورث المحبة (تهادوا تحابو) .


شرح حديث: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة) رواه البزار بإسناد ضعيف] .
الهدية تسل السخيمة، والضغينة كلها وحر في الصدر، حقد حسد كراهية نفرة، موجودة بين إنسان وإنسان، فإذا فوجئت بهدية من شخص تكرهه وفي صدرك منه شيء، فوجئت به يقدم لك عود الأراك، ويقول: تفضل هذا سواك جديد، تجد أن هذا العود اليابس الذي تنظف فيه فاك له أثر في نفسك، يخفف من غليان الصدر وحقده، فإذا به غداً يعطيك قارورة عطر، والله هذه مسحت الماضي وعطرت المكان، وهكذا كلما تداول الناس الهدايا فيما بينهم كانت أدعى لسلامة الصدر، والبادئ هو الأكرم.


شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه] .
: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) الفرسن: ما بين الظلفين، والبعض يقول: رجل الغنمة، والآن هي تباع في السوق الواحدة بريالين أو بريال لكنها مستوية كاملة، فإذا كنت تريدين الإهداء إلى جارتك وما عندك شيء إلا فرسن شاة فلا تحتقرينه، وفي بعض الروايات: (ولو ظلفأً محرقاً) الذي هو مقدم الشاة تحرقه من أجل الصوف الذي فيه أو الظلف الغروي الموجود على الحافر ينزل ويبقى اللحم، وهذه من محقرات الأمور، يبين صلى الله عليه وسلم أن على الجارة أن لا تحتقر شيئاً تقدمه لجارتها.
معناه: أنت أيها الإنسان! إذا أردت أن تهدي لا تحتقر ما عندك، وقدم ما بيدك فإن الكل صغيراً كان أو كبيراً داخل في جنس الهدية.
ونحن نعلم قصة عائشة في حبة العنب، مرت امرأة مسكينة وهي تأكل حبات عنب، فأعطتها حبة، فأخذتها وظلت تطالع فيها تتعجب من الموازين المادية، فقالت: أتعجبين من هذا! كم فيها من ذرة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] وكذلك التمرة التي شقتها الأم وأعطتها لطفلتيها، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) لا أحد يتصدق بتمرة إلا إذا كان ما عنده شيء.
إذاً: لا يحتقر الإنسان شيئاً يقدمه لصديقه، وبالتالي لا يحتقرن الصديق شيئاً أهدي إليه من صديقه، طالت غيبته ثم جاء على عود أراك، فلا تنظر إلى هذا العود، بل انظر إلى الدوافع، حينما أتى إلى بائع الأراك واشترى باسمك أليست هذه تكفيك؟! كونه عود صغير أو كبير، هذا شيء آخر.
إذاً: لا تحقرن جارة لجارتها، ولا جارة من جارتها، ولذا جاء في الحديث: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) تطبخين دجاجة أو وصلة لحم املئي القدر ووزعي على الجيران مرقاً.
على كل: كلما كانت الحياة مبسطة كانت أمورها بسيطة، وكنا نحن من قبل نقدم صحناً أو صحنين ويأكل الإنسان ويشبع والحمد لله، واليوم الحمد لله من أصناف الطعام لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، الموالح أصناف والحمضيات أصناف، والخضروات أصناف، وكل هذا، أصبح الإنسان يقدم فخذاً من حيوان أو شاة أو غيرها، ويستقلها! ولكن حينما كانوا يبحثون عن التمرة فلا يجدونها، لو أهدي لأحدهم فرسن شاة لفرح به، وليس المقصود فرسن الشاة بعينه، ولكنه ضرب المثل فلا تحتقر من المعروف شيئاً بأن تقدمه لأخيك.
يقولون: إن بعض الأمراء أرسل إلى بعض التجار لكي يستلف منه مبلغاً، فذهب إليه الرسول، فقال: نعم، لنذهب إلى البيت فهذا التاجر المطلوب منه مشى ووجد جلدة شاة مرمية في الأرض على طريقه، فأخذها ونتف منها الصوف وهو ماشٍ ثم أخذ الجلد في جيبه، فجعل يغزل هذا الصوف الذي نتفه حتى صنع منه خيطاً طويلاً ووضعه في جيبه، والرسول يتعجب، هذا الذي بعثني إليه الأمير بكذا كذا دينار وهو يلتقط هذه الأشياء في الطريق؟! فلما وصلا البيت قال: أمعك كيس؟ قال: بلى، قال: هاته، فنظر فإذا الكيس مخروق، فأخذ تلك الجلدة ووضعها على هذا الخرق، وأخذ ذلك الصوف الذي غزله وأتى بالمسلة وخيطها، فعجبت حينئذ كيف جمع المال، استفاد منها.
فهكذا الإنسان لا يحتقر الشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد شاة ميمونة يجرونها قال: (هلا انتفعتم بإهابها) فلابد من الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه.
وفي خلافة عمر رضي الله عنه أقام مأدبة للناس في المسجد بطعام من عنده، وأثناء تناولهم للطعام، جاء مرسول من كردستان أو كذا، فجاء وقال: أين أمير المؤمنين عمر؟ قالوا: هذا هو، جاءه فسأله عن البلاد، قال: أرضهم وعرة وليست بسهلة، ماؤها وشل، وعدوها بطل، قال: أنا أسألك أم تسجع لي؟ قال: أخبرني عنها، قال له بأن الله فتحها على المسلمين وأرسلوني بصفاياها إليك - الصفي والمرباع يكون لرئيس القبيلة أو لقائد الجيش، أو له أن يصطفي من عموم الغنيمة ما طاب له دون القسمة، فأرسلوا له ببعض التحف من الغنائم، فقال: أمسكه معك، وبعد العصر نلتقي، ثم قال له: اجلس كل مع الناس، قال: أكلت، ووالله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما أمامهم، ثم قال: هلم إلى البيت، فذهب ونادى زوجه أن تأتيه بغدائه، ما كان أكل مع الناس، فجاءته بطعام، فقال له: اجلس فكل، فقال: والله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما قدم إليك.
ماذا نقول في هذا المستوى؟ إنسان مسافر، والزاد الذي في المزودة للسفر أفضل من الطعام الذي يقدم في بيت أمير المؤمنين، وهو صانع مأدبة للناس في المسجد.
إذاً: تفاوت في الحياة في هذه الأمور، قد تجعل في النظرة للهدية فوارق، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مدعاة لعدم تقدير الهدية، ولا يكون مدعاة لردها لحقارتها، بل يجب أن تكون النفس عالية، والنظر إلى مهديها وظروف الإهداء، وأن يكون لها وقع عند صاحبها.
ويذكر مالك في الموطأ: أنه كانت امرأة في ذي الحليفة، كل يوم أربعاء تأخذ السُلت وتطبخه في قدر وتأتي بالشعير وتخبزه لطلبة العلم.
يقول: كنا نعد لذلك اليوم، تعد لماذا؟ أهي وليمة الملك؟ السُلت أقل من الشعير، وخبز من الشعير، يوضع عليه قليل من هذا السلت، ويقول: كنا نعد لهذا اليوم، ولكنهم كانوا راضين بحياتهم ومقتنعين.
فهذه بعض نماذج وأمثلة لما كان عليه بعض السلف، وفي بعض الحالات لعلنا نخفف من هذا التغالي والتنافس في أنواع الموائد والأطعمة، ونسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، وأن يديمها لنا، إنه سميع مجيب!


شرح حديث: (من وهب هبة فهو أحق بها ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وهب هبة فهو أحق بها مالم يثب عليها) رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله] .


الهدية المقرونة بالعوض والثواب
هذه هبة الثواب: (من وهب هبة) عامة في كل ما تقدم (ما لم يثب) خصصت نوع الهبة (فهو أحق بها مالم يثب عليها) .
إذا قدمها لمن هو أعلى منه وينتظر منه المثوبة عليها، فإذا خاب ظنه ما أعطاه شيئاً، يقول: أرجعها وهو أحق بها؛ لأنه قدمها كسلعة تثمن وكسلعة يعوض عليها أكثر من قيمتها، وهذا هو مبدؤه، وعلى هذا دفعها برضاه، فإذا لم يحصل على الثواب، تكون أخذت منه بغير طيب نفس، والإسلام حرم مال الأخ على أخيه إلا بطيب نفس.
(والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله) .
إما من كلام عمر أو من قوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك من باب التشريع، وعمر ممن أمرنا أن نأخذ عنهم رضوان الله تعالى عليه.
وبالله تعالى التوفيق.