شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب البيوع - باب
الفرائض [1]
قسم الله تعالى المواريث بين أقارب الميت قسمة عادلة تناسب الأعباء التي
يتحملها الوارث، وتتوقف على مقدار القرابة من الميت، وقد جاء عن النبي صلى
الله عليه وسلم أحاديث تبين بعض أحكام الفرائض والعصبات، وقد شرحها العلماء
شرحاً منهجياً يساعد المسلم على فهم أحكام الميراث.
شرح حديث: (ألحقوا
الفرائض بأهلها)
قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ، متفق عليه] .
هذا الحديث مبدأ أساسي في علم الفرائض والمواريث، ولا يمكن أن يخلو باب من
أبواب المواريث عن هذا الحديث؛ إذ هو القاعدة الأساسية، وهو مشتمل على ثلاث
نقاط: الأولى: (ألحقوا) ، من الذي سيلحق: العامي أم المتعلم؟ المتعلم،
فطالب العلم هو الذي يلحق.
الثانية: الملحوق، وهو (الفرائض) .
الثالثة: هذه الفرائض التي نريد أن نلحقها هل يتعين معرفتها أو تلحق
جزافاً؟ يتعين معرفتها.
إذاً عندنا ملُحِق: وهو طالب العلم، وفرائض: يجب أن يعرفها الملحق مع أهلها
وأصحابها و (الفرائض) ، وهي جمع فريضة، (بأهلها) أي: بأصحابها المستحقين
لها كل بحسبه.
أنواع الفروض
وأقسامها
وهل الفرائض في الميراث محدودة ومحصورة أم مطلقة لكل جماعة؟ محصورة، وكما
في متن الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض
في نص الكتاب ستة لا فرض في الإرث سواها البتة إذاً: الفرائض في علم
الميراث ستة أنصبة لا سابع لها، ولا أحد يستطيع أن ينقص واحداً، والفروض في
كتاب الله هي حسب قاعدة تنازلية أو تصاعدية، إن أردت قاعدة تنازلية: تأخذ
الثلثين ونصفهما ونصف نصفهما، والنصف ونصفه ونصف نصفه، وإن أردت تصاعدياً
قلت: السدس، وضعفه، وضعف ضعفه.
والثمن، وضعفه، وضعف ضعفه فالتنازلية تكون: الثلثان، ونصف الثلثين ثلث،
ونصف الثلث السدس.
هذه ثلاثة جاءت عن طريق الفرض، وتأتي إلى النصف، ونصف النصف ربع، ونصف
الربع ثمن، فصارت ستة فروض، وهي الفروض الموجودة في علم الميراث، ويتعين
على كل مسلم معرفتها؛ لأنه في وقت من الأوقات سيكون وارثاً أو موروثاً،
فإذا كان وارثاً يعلم ما له، وإذا كان موروثاً علم ما عليه.
إذاً: الفرائض في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ست، وبعضهم يحاول
أن يضيف ثلث الباقي.
وثلث الباقي هذا تغطية أتوا بها على الأم وضحكوا عليها ومشت، وما خرجت عن
كلمة ثلث، سواء كان ثلث الباقي أو ثلث رأس المال كله، لا يوجد مسمى سبع،
ولا تسع، ولا عشر هذه هي مسميات الفرائض.
(ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) دع قوله: (رجل ذكر) ، فلا
يوجد رجل أنثى، والحديث يعطينا قاعدة في تقسيم هذه الفرائض، فالفرائض تلحق
بأهلها، والباقي لأولى رجل؛ لكن على أي أساس؟ عرفنا بأن الفرائض أنصبة
محدودة، لا يوجد فيها زيادة ولا نقص {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]
، إذاً كما قال صاحب الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما
قسما.
توريث العصبات مع
أصحاب الفروض
إذاً: (ألحقوا الفرائض بأهلها) خاص بالفروض الستة، والتعصيب: (فما بقي
فلأولى رجل ذكر) ، وعلى هذا يكون تقسيم الفرائض على قسمين؛ فإذا جاء الورثة
قيل لهم: أنتم من أي الأصناف؟ قالوا: نحن من أصحاب الفروض.
فيقال: فما هي فروضكم؟ فتحدد فروضهم ثم يقال: خذوا فروضكم، فإن استغرق فروض
الموجودين من الورثة تركة الميت أخرجنا العصبة.
وإن لم تستغرق الفروض كل التركة وبقي شيء، فإنا نعطي الباقي للعصبة.
ومثال ذلك: إذا وجدت بنت وبنت ابن فقط، قلنا: للبنت النصف، ولبنت الابن
السدس لأنها ليست كابنة الصلب، فتعطى السدس تكملة الثلثين، بقي من التركة
الثلث فأين نذهب به؟ إن وجدت عصبة فذلك الثلث لها، لقوله: (فما بقي فلأولى
رجل ذكر) .
توريث ذوي العصبات
إذا اجتمعوا
قوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فإذا وجد عدة أشخاص كلهم عصبة، فهل ينفرد
أحدهم أو تقسم عليهم، فالابن عصبة، وابن الابن عصبة، والأب عصبة وصاحب فرض،
والجد صاحب فرض وعصبة، والعم، وابن العم، والأخ، وابن الأخ؛ كل هؤلاء عصبة،
فلو وجد إخوة أشقاء ذكور في المسألة السابقة، فالبنت مع بنت الابن أخذتا
الثلثين، وبقي الثلث، فإن كان هناك إخوة أشقاء أو لأب متساوين في الدرجة
قسم عليهم، وإذا وجد أخ شقيق وأخ لأب، فإننا ننظر: فهما في الأخوة سواء،
ولكن في القوة ليسا سواء، فالأخ الشقيق أقوى من الأخ لأب، فيأخذ الثلث
الباقي دون الأخ الأب.
ويدخل أيضاً باب الحجب والتعصيب تحت هذا الحديث.
إذاً: هذا الحديث هو القاعدة الأساسية لعلم الفرائض، وما وجد منه فألحقوه
بأهلها الموجودين، وإذا لم يوجد صاحب فرض ووجد العصبة فالعصبة لهم ما أبقت
الفرائض، وإذا لم توجد فرائض فلهم جميع المال.
إذاً: هذا الحديث كما يشير العلماء بأنه الأصل والمبدأ في علم الفرائض
بقسميه: أصحاب الأنصبة المفروضة أو العصبة، والعصبة قد تتساوى في الجهة
وتتفاوت في القوة، فإذا كان إخوة أشقاء وإخوة لأب، وأعمام أشقاء وأعمام
لأب، فالجهة واحدة وهي الأخوة، لكن يختلفون في القوة فالأشقاء أقوى.
وقد تتفاوت الدرجة: كالأولاد وأولاد الأولاد، فأولاد الأولاد عصبة، لكن
الأولاد أقرب منهم، فيقدمون عليهم في العصوبة لقربهم من الميت وإن اتحدت
الجهة.
والجهات كما يقولون بنوة فأبوة فأخوة فعمومة، وعلى هذا فإن أقرب الجهات إلى
الميت هي البنوة، فإذا وجد ابن وعشرون أخ، فإن الابن يحجب الإخوة بكاملهم،
وولد الولد تابع في جهة الولد، فابن ابن وعشرون أخ شقيق يحجبهم، لأن الجهة
الأقرب للميت هي جهة البنوه، إذاً: ابن الابن يطرد العشرين الأخ الشقيق.
إذاً: جهات العصبة إذا تفاوتت قرباً وبعداً قدمنا الأقرب والأولى.
أولاد الأولاد في حالة عدم وجود الأولاد عصبة، وجهة البنوة تشملهم، وجهة
البنوة تشمل الابن وابن الابن مهما نزل، فابن عشرين بطن ابن، وإذا وجد فهو
أولى من الأخ الشقيق؛ لأن جهة البنوة مقدمة على جهة الأخوة، وكذا إن وجد أخ
شقيق وعشرون عم، أي الجهتين أقرب: الأخوة أو العمومة؟ الأخوة.
إذاً: الأخ الواحد يحجب الأعمام، فإذا وجد من كان من جهة قربى وآخر من بعدى
كانت القربى أحق.
وقفنا عند الجهة: هل الجهة متعادلة في القوة من حيث الصلة بالميت أو
متفاوتة؟ جهة البنوة ليس فيها تفاوت، فكلهم أبناؤه، لكن جهة الأخوة تتفاوت
قوة وضعفاً، فمن يدلي بالأب والأم معاً أقوى ممن يدلي بواحد منهما، أي:
بالأب وحده أو يدلي بالأم وحدها، ولضعف الأخ لأم جعل له فرض مقطوع، فإذا
وجدت جهة الأخوة نظرنا في هذه الجهة: هل كلهم متساوون في القوة بالإدلاء
إلى الميت أو متفاوتون، فإن كانوا متفاوتين في القوة قدمنا الأقوى.
وإذا اجتمع إخوة وأعمام، أي الجهتين أقرب؟ الإخوة.
معنى قوله: (فلأولى
رجل ذكر)
قوله: (فلأولى رجل ذكر) يخرج أولى أنثى، فبنت الابن هي وارثة، ولكن أنثى،
لو أعطينا أصحاب الفروض فروضهم، هل ما بقي نعطيه لبنت الابن؟ لا؛ لأنها
ليست برجل.
وهكذا لو وجد أبناء الأخ مع بنات الأخ، فالجهة واحدة وهي جهة الأخوة، وبنت
الأخ تساوي ابن الأخ في الدرجة مستوية، ولكنها ليست رجلاً ذكراً، فلا تدخل
في الأولوية فيما بقي بعد أصحاب الفرائض.
والمناقشة الطويلة التي تجدونها في المطولات وخاصة فتح الباري وغيره لقوله:
(أولى رجل ذكر) يقولون: ما حاجة كلمة: (ذكر) ، مع (رجل) ؟ لأنه إن كان
(ذكر) نعتاً لرجل، فماذا زادتنا وماذا أعطتنا من فائدة؟ يقول صاحب سبل
السلام: وقد تكلموا فيها، وذكر بعض كلامهم، ولكن بفائدة قليلة، وابن حجر في
فتح الباري يورد آراءً عديدة، ثم يفند بعضها ويترك بعضها بلا تفنيد، وأنا
في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لا حاجة لهذا كله، وليس هناك إشكال في وصف
الرجل بكونه ذكراً، فكلمة (الذكر) ليست نعتاً لرجل، ولكنه وصف كاشف لعلة
استحقاق الرجل لما بقي.
ولو مات عن زوجة وولد، فالزوجة لها الثمن والسبعة الأثمان للولد، فيأتي
قائل ويقول: لماذا يأخذ الولد سبعة أثمان، ولماذا لا يزاد في نصيب الزوجة
قليلاً؟ فيقال له: لأنه ذكر.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، لِمَ لم
يقل: للولد؟ السياق (في أولادكم) والمادة معنا ولد، ولماذا لم يقل: (يوصيكم
لله في أولادكم للولد مثل حظ البنتين) ، لو تأملنا أساليب اللغة العربية
لوجدنا هذا الوصف مستعملاً في القرآن الكريم، فهنا أبرز الرجل بصفة الذكورة
لأنها مناط الحكم والمسئولية، وأبرز البنت بوصف الأنثى: {يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}
[النساء:11] .
ومن حيث البلاغة والإعجاز والمعنى في غير كلام الله نقول: هما متساويان،
ولكن نحن في كلام الله لا نستطيع أن نتحكم أو نعترض، لكن في أداء المعنى
يوجد التساوي.
إذاً: أبرز معنى الذكورة في الرجل؛ لأنه ميزه على البنت، ونقص البنت بوصف
الأنوثة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
والأنثى نقصت هنا في ماذا؟ قال: لأن الذكر يبحث له عن أنثى، والأنثى يأتيها
ذكر يأخذها، فالذكر تحمل مسئولية أنثى تعيش بجانبه، وعليه نفقتها وصداقها،
والأنثى محجبة مكرمة معززة في بيت أبيها، فيأتي الذكر ويدفع صداقها
ويأخذها، فما غرمت درهماً واحداً، فنصيب الذكر وزع على الإناث، ونصيب
الأنثى توفر لها كاملاً.
إذاً: وصف الرجل بكونه ذكراً نعت للرجل وبيان لحقيقته، فنصف العاقل وربع
المجنون يعرف بأن الرجل ذكر، ولكن لماذا تبرز وصف الذكورة؟ ونحن نجد نظير
ذلك في كتاب الله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}
[الكهف:5] ، وهل ستخرج الكلمة من غير الفم؛ من العين أو من الأذن؟ لا، لكن
أبرز موطن خروجها لأنها كلمة جوفاء لا قيمة لها، وما تجاوزت في مدلولها غير
الفم، فهي ليست عن عقل أو عن تفكير، أو عن تردد الفكر والاستذكار، أو تأمل
حقائق الواقع، إنما هي كلمة طائشة، كما أنك تأتي لغرسه على وجه الأرض
فترفعها بإصبعيك فتقلعها، لكن الشجرة المتمكنة عروقها من تخوم الأرض لا
تستطيع أن تنتزعها.
إذاً: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، ونحن
نعرف بأن الكلمة لن تخرج إلا من الأفواه، فلماذا ذكر الأفواه مع أن الكلمة
ومدلولها ولازمها أنها من الأفواه؟ ليبين أنها لا أصل لها تعتمد عليه.
كذلك: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، معلوم أن
الطائر في الجو لن يطير بأرجله بل سيطير بجناحيه، فلماذا أبرز جناحيه؟
ليبين -والله تعالى أعلم- أن هذا الطائر مهما حلق في الجو فليس ذلك بقوة
الجناحين {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ}
[الملك:19] ، والحدأة خاصة تمد جناحيها وتتقلب يميناً ويساراً وتحوم دون أن
تحرك جناحها مرة، وهل امتداد الجناح عنده القوة في أن يمسكها إلى هذا الحد؟
لا، ولذلك قال: (ويقبضن) قد نقول: حينما تمد جناحيها تعلقت بالجناحين في
الهواء؛ لأن حركة الطيران قبض وانتشار، فحينما تقبض جناحيها من الذي
يمسكها؟ ولماذا لا تسقط؟ إنه يريد أن يبين أن الجناحين عبارة عن وسيلة وأخذ
بسبب، وحقيقة طيرانها بقدرة الله سبحانه.
وبعضهم يقول: وصف الرجل بالذكورة لبيان القوة، وهناك من يقول: ذلك احتياط
من أن يذهب الذهن إلى امرأة كما قالوا: (مزقتم ثياب فتاة الحي والرجلة) .
قد تطلق كلمة (الرجلة) على الأنثى، ولكن هذا نادر وشاذ، والعرب لا تعتمد
عليه.
فجاء الوصف بالذكورية ليبين موجب العلة والحكم، ومناط الحكم في هذه القضية
كما جاء هناك {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فهو
يبين موجب استحقاق تمييز الرجل عن المرأة بذكورته، وأنه بذكوريته سيصبح
أباً وجداً وينفق على عياله.
أحكام الميراث بين
المسلمين وغيرهم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) متفق عليه]
.
هذا مما يتفق عليه الجمهور، إلا في صورة تستثنى، الكفار معروفون في ذلك
الوقت، لكن هناك طوائف أخرى لم تدخل في دين سماوي كالبوذية وأمثالهم.
وهل هناك توارث بين الصابئة واليهود والنصارى؟ وإذا قيل: لا يرث الكافر
المسلم أو المسلم الكافر.
فما حكم الكفار فيما بينهم؟ فالحكم ظاهر بين المسلم وبين كل من اليهود
والنصارى والمشركين الوثنيين، ولكن اليهودي والنصراني، كلاهما كافر،
واختلفت ملتاهما: هذه يهودية وهذه نصرانية، ولذا فحديث: (لا توارث بين أهل
ملتين) يجمع الجميع.
هناك ناحية ربما استثناها الحنابلة ومن وافقهم، وهي حينما يموت الوالد وله
أولاد، منهم المسلم ومنهم الكافر، على مقتضى هذا الحديث أن الميراث كله
لأولاده المسلمين، فلو أن الولد الكافر أسلم بعد موت أبيه قبل قسمة التركة،
استحق الميراث، مع أنه كان في لحظة موت أبيه كافراً.
قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين
فافهم فليس الشك كاليقين فهو عند موت مورثه لا يستحق الميراث.
التركة موجودة ولم يقتسمها الأولاد المسلمون، وهو قد أسلم؛ فهل نتجاوز عن
الفترة التي سبقت ونورثه مع إخوته أو نقول: أنت لم تكن عند موت المورث
مستحقاً للميراث؟ من نظر إلى تأليف القلوب، ومساعدة الآخرين على الإسلام في
مثل هذه الحالة -أي: قبل أن تقسم التركة- قالوا: نشركه مع إخوانه بإسلامه،
ونتجاوز عن فترة ما بين موته وإسلامه، ونجعله كأنه أسلم في حياة أبيه.
نحن في باب الميراث نكتفي بهذا، وهذا الذي يهمنا في هذا العلم، ولكن لا
توجد زاوية من الزوايا نقف عليها: هذا ولده، وذاك ابن عمه، فلما كان ولده
كافراً لا يرثه، وابن ابن ابن ابن عم لأب لكنه مسلم يأتي ويرث؛ لماذا؟ من
الحكم الإلهية أن تقوم الأمة الإسلامية على مبدأ غير الدم والعصب، والرحم
والنسب، ولكن على الأخوة الإسلامية، ولهذا كان أول عمل عمله النبي صلى الله
عليه وسلم مع الناس لما قدم المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ومن العجب! أنني قرأت أنه كان هناك ثلاثة أبناء عمومة للنبي صلى الله عليه
وسلم، أبناء المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولما قدموا وهاجروا آخى الرسول صلى
الله عليه وسلم بين كل واحد منهم وواحد من الأنصار فهؤلاء ثلاثة إخوة جاءوا
جميعاً، فلماذا لا يؤاخي فيما بينهم؟ لأن أخوة النسب موجودة، وستكون عبارة
عن تحصيل حاصل، وهو يريد توثيق الروابط بوصف الإيمان؛ ولنعلم أن رابطة
الإيمان أقوى من رابطة النسب والدم.
ومن هنا كان المسلم أحق بالمسلم ولو كان بعيد النسب عنه، والكافر بعيد عن
نسبه الأساسي بسبب الكفر، ومثال ذلك أيضاً: مصعب بن عمير في عودته من بدر
وجد أخاه أسيراً في أيدي بعض الأنصار، فقال لهم: شدوا وثاقه؛ فإن أمه ذات
مال لعلها تفديه منكم بمال.
فنظر إليه وقال: أهذه وصيتك بي يا أخي؟ قال: لست أخاً لي، هؤلاء إخواني أما
أنت فلا.
هو أخوه من أم وأب، وهؤلاء من الأنصار بعيدون كل البعد عنه، لكن الإسلام
قرب البعيد، والكفر أبعد القريب، وعلى هذا كان لا توارث بين المسلمين
والكفار ليوجد العزلة لتتميز الأمة الإسلامية عمن عداها؛ لتكون بذاتها ذات
كيان خالص إسلامي، ولهذا نهى أن يساكن المسلم غير المسلمين ويخالطهم إلا
للضرورة، حتى قال: (لا يتراءى نار كل منهما للآخر) .
ولما سئل في حديث أبي ثعلبة الخشني: (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في
آنيتهم -وفي رواية: وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر-؟ قال: لا، إلا ألا
تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها) ، فقوله: (لا) ، لئلا يكون هناك
تبادل الإعارة، يعقب ذلك التعاطف والتواد والهدايا فتخلط العادات بالسنة.
إذاً: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، ويتبع ذلك أنه لا توارث
بين ملتين؛ فاليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكلاهما
لا يرث البوذي وأمثاله.
والله تعالى أعلم.
قضاء النبي في البنت
مع ابنة الابن والأخت
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (في بنت وبنت ابن
وأخت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس
تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت) ، رواه البخاري] .
في هذه المسألة ثلاثة مناهج: منهج أهل الحديث، أو منهاج الرحبية، أو منهج
الفقهاء، وأيسرها وأوضحها عند طالب العلم منهج الرحبية، وقد تقدم بحمد الله
المرور عليها فيما قبل، ولكن نحن الآن سنأخذ ما يورده المؤلف، والرحبية
أشرطة مسجلة في مكتبة الحرم.
فمنهج الرحبية هو الإتيان بالفروض متتابعة: إذا قلنا بأن النصف هو الفرض،
فإننا ننظر من الذي يرث النصف؛ ثم نأتي بالورثة من الرجال، والوارثات من
النساء، ويحدد بحيث لا تستطيع أن تدخل واحداً أو تخرج آخر، لأنهم عدد محصور
محدود، والمؤلف هنا جاءنا بمسائل فردية وصورة وقعت.
هذه صورة يسوقها لنا بهذا الشكل، وتقدم بحثها في غير هذا الموضع، ابن مسعود
يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أُتي بمسألة فرضية: بنت، وبنت ابن،
وأخت.
هنا لم يذكر لنا أي أنواع الأخوات كانت، نحن نعرف جهة الأخوة، ولكن نعلم
بأن جهة الأخوة تتفاوت، هل هي أخت شقيقة، أو لأب، أو لأم؟ لكن التقسيم
يدلنا على أنها ليست لأم، إما شقيقة أو أخت لأب، فالرسول صلى الله عليه
وسلم أعطى البنت نصف التركة، وأعطى بنت الابن السدس مع البنت، وإذا ضممنا
السدس إلى النصف كان الثلثين، والباقي أعطاه للأخت، إذاً هذه الأخت ليست
لأم؛ لأن الأخت لأم نصيبها السدس، وهذا ثلث، فهو ضعف ما تستحقه التي لأم،
إذاً: هي إما شقيقة وإما لأب.
وكون بنت الابن تأخذ السدس؛ لأن البنات إذا كانتا اثنتين فأكثر يكون لهن
الثلثان، فإذا وجد ثلاث بنات وبنت ابن سيكون البنات لهن الثلثان، وبنت
الابن لا شيء لها؛ لاستغراق البنات للثلثين.
وهذا فيه تنصيص على أن الأخت مع البنت عاصبة لها: والأخوات إن تكن بنات فهن
معهن معصبات الأخوات إن كن بنات، أي: إذا وجد بنات للميت وأخوات، فالبنات
من أصحاب الفروض، والأخوات ينتقلن من الفروض إلى التعصيب مع الغير -مع
البنات- فيأخذن ما بقي.
لو كانت بنت صلبية وأخت شقيقة فللبنت النصف، وبقي النصف للأخت الشقيقة
تعصيباً؛ لأنها عصبة مع البنت، فإذا وجد بنات وأخذن الثلثين فإن الباقي
للشقائق، ولو وجد مع البنات أم وزوجة، فالأم تأخذ السدس، والزوجة الثمن
والبنات الثلثين، وما بقي من التركة فهو للأخت.
وأنصح الإخوة مرة أخرى أن يرجعوا إلى كتب الفرائض التي اختصت بهذا الفن،
والأصل في هذا الرحبية وأمثالها، والشروح القديمة عليها ميسرة وسهلة،
ويستطيع أن يتعاون مع بعض إخوانه الذين درسوها سابقاً، أو الذين يستطيعون
أن يحللوا ألفاظ الكتاب ويستفيدون منه؛ لأن الفرائض في كتب الحديث لا تكفي،
إنما هي أصول كما أشرنا: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)
، إذ كل مباحث الفرائض جاءت في هذا الحديث، لكن ما كل العقول تستطيع أن
تستوعبها أو تستنتجها، فيجد في كتب الفرائض الشرح المبسط لهذا الباب.
اختلاف العلماء في
كون الكفر ملة واحدة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين) رواه أحمد والأربعة إلا
الترمذي، وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة، وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ] .
تقدم في الحديث السابق: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ،
وهذا فيه نوع من الإجمال، وكان حري بالمؤلف أن يأتي بهذا الحديث بجواره،
ولكنه جاءنا بحديث بيان ميراث البنت وبنت الابن والأخت معهما، وهنا: (لا
يتوارث أهل ملتين) ، الملة: هي المعتقد والدين، وإذا نظرنا إلى ملتين وجئنا
إلى كلام العلماء: هل الكفر كله ملة واحدة أو ملل شتى.
إن كان الكفر كله ملة واحدة؛ فهذا بمعنى الحديث الأول: (لا يرث المسلم
الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ، أياً كان نوع كفره، وإذا كان الكفر مللاً
شتى فيكون هناك جانبان: علاقة المسلم بغيره، وعلاقة أصحاب الملل بعضهم
ببعض.
وهنا نجد من العلماء من يقول: الكفر كله ملة واحدة.
وهناك من يقول: الكفر ملل.
ويستدل كل بما لديه.
ومن أدلة كون الكفر مللاً شتى أن هناك اليهود والنصارى، وكل منهما يحارب
الأخرى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ
وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] ،
فكل منهما يحارب الأخرى في ملتها وعقيدتها.
مالك رحمه الله يقول: الكفر ثلاث ملل: يهودية، ونصرانية بنص الكتاب (وقالت
اليهود) (وقالت النصارى) وما عدا اليهود والنصارى يجتمعون تحت مسمى ملة
واحدة، فالمجوس والصابئة وعبدة الأوثان.
كل هؤلاء عند مالك ملة واحدة.
وهناك من يقول: كل مسمى من هذه المسميات ملة مستقلة.
وهناك من يقول: كل هذه الأصناف ملة واحدة.
وعلى هذا فالمسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني، ولا أجناس الملل الأخرى،
وعند مالك: اليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكل منهما
لا يرث الملل الأخرى من الصابئة والمجوس وعبدة النجوم.
إلخ.
إذاً: (لا يتوارث أهل ملتين) ، أي: مختلفتين في المعتقد والمنهج، والبعض
يقول: إن المجوس ملة مستقلة، وكان لها كتاب ثم نسخ، والذي يهمنا الخلاف في
ميراث المسلم من غيره، سواء كان غير الإسلام ملة واحدة فلا ميراث أو مللاً
شتى أيضاً فلا ميراث بينها وبين المسلمين، أما هم فيما بينهم فسيرجع إلى
التفصيل المتقدم، إن قلنا: بملل شتى فلا يهودي يرث نصرانياً، ولا نصراني
يرث يهودياً، ولا واحد منهما يرث مجوسياً ولا بوذياً ولا وثنياً.
ميراث الجد مع
الإخوة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال:
لك السدس.
فلما ولى دعاه، فقال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه، فقال: إن السدس الآخر
طعمة) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن
عمران، وقيل: إنه لم يسمع منه] .
هذا شروع أو بيان لما جاء في ميراث الجد، والجد -كما قال بعض السلف- لا
حياه الله ولا بياه، أي: اضطربت الروايات في حقه، فهناك من يجعله كالوالد
سواء لقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ، وقوله:
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، فقالوا: الجد من جهة الأب
كالأب، ويجمعون على أن الجد من جهة الأم لا مدخل له في الميراث، وكل جد من
أدلى إلى الميت بواسطة أنثى فلا ميراث له، والجد الصحيح عندهم: هو الذي
أدلى إلى الميت بمحض طريق الذكورة أبوه، أبو أبيه، أبو أبي أبيه، أبو أبي
أبي.
أبيه، فهؤلاء كلهم جدود للميت، وكلهم له حق في الميراث ما لم يكن هناك من
يحجبه، فهذا الجد الذي جاء وقال: (إن ابن ابني) هو جد لأب، والجد لأم لا
يخطر على بالنا، إلا إن كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام لهم منهج مستقل.
قال: (إن ابن ابني مات، فماذا لي من ميراثه) ، هنا القضية الواقعية بالفعل
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لك السدس.
ثم ولى فدعاه، قال: لك سدس آخر.
فلما أخذ السدس الآخر ولى فدعاه، قال: السدس الآخر طعمة) يعني: ليس بفرض،
وهنا الحكمة في التعليم وعدم اللبس؛ لأنه لو قال: لك الثلث -وهو مجموع
السدسين- لربما ظن الجد أن فرضه من ولد ولده الثلث، ولكن الحال ليس كذلك،
فالجد له السدس فرضاً، والباقي تعصيباً، فنجد من هذا حكمة النبي صلى الله
عليه وسلم في التعليم والإرشاد، وعدم إيجاد اللبس على السائل، فأعطاه حقاً
أولاً بالفريضة حتى ولى وانفصل بهذا الحق وانقطعت علاقته، فدعاه، وقال: لك
سدس آخر، فأخذه وذهب، ثم دعاه وقال: السدس الثاني هذا ليس كالأول، الأول
فريضة والثاني طعمة.
على هذا التفصيل يأتي الكلام في الجد، وكما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد
أقوال كثيرة، من أراد التفصيل فيها رجع إلى كتب المواريث.
ومما ذكر عن ميراث الجد في عهد الصحابة ما يقال: إن عمر رضي الله تعالى عنه
مر بـ عثمان وهو جالس في الطريق، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فأخذ في
نفسه، وأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر! سل عثمان ما لي
أسلم عليه فلا يرد علي السلام؟! دخلنا في الخصومة، ودخلنا في الظنيات
والتقديرات، ونبني على الحبة قبة، فلم ينته عمر من كلامه إلا ودخل عثمان
فقال: السلام عليكم.
فقال له أبو بكر: ما لك يا عثمان لا ترد السلام على عمر؟ وهذا هو الموقف
الصحيح؛ أن نسأله ما عنده؟ قال: ومتى سلمت يا عمر؟ قال: حينما كنت جالساً
في المكان الفلاني.
قال: والله ما شعرت به ماراً ولا سمعته حين سلم.
إذاً: قد كان عنده عذر، هناك فتش عمر عما يشغل بال أخيه عثمان عنه؛ لأن مثل
هذه الحالة لا تكون إلا في إنسان لا يشعر بمن حوله، وهذه قد تحدث.
قال عمر: فيم كنت تفكر؟ قال: كنت أفكر في ميراث الجد، وكنت أقول: ليتنا
سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطانا فيه علماً شافياً، فقال عمر:
والله ما أخرجني من بيتي الآن إلا قضية الجد.
إذاً عمر كان في بيته يفكر في الجد، وعثمان كان مشغول البال في الجد، إذاً:
الجد شغلهم؛ لأنه لم يأت فيه نص صريح في حكمه في الميراث.
هذا الحديث على ما في سنده، إلا أنه لا بأس به، وهو يعطينا: أن الجد له
حالتان -هذا مبدئياً-: حالة يرث بالفرض فله السدس، فلو أن الفروض استغرقت
جميع التركة وعالت وفيها جد، فإننا نعطيه السدس ليأخذ حقه فرضاً، وتارة يرث
بالتعصيب، كهذا السدس الثاني الذي هو طعمة، فإذا أخذ أصحاب الفروض فروضهم،
وبقي شيء زيادة عن السدس أخذه تعصيباً.
أي أنه إذا بقي السدس أخذه فرضاً، وإذا بقي أقل من السدس يفرض له السدس
ويكمل له وتعول المسألة من أجله.
والفقهاء رحمهم الله لما اختلفوا في الجد منهم من قال: الجد أب.
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والمعمول به حتى الآن، فيحجب الإخوة،
وغير الأحناف يقولون: الجد والإخوة يرثون جميعاً لكونهم معه سواء في مدى
قرب الجد والإخوة من الميت.
كم بين الجد والميت من واسطة؟ واحد وهو الأب، وكم بين الأخ لأب وبين الميت؟
واحد وهو الأب، إذاً قرب الجد من الميت كقرب الأخ من الميت، فقالوا: الجد
يقاسم الإخوة.
وإذا لم تبق الفروض شيئاً ماذا يفعل؟ قالوا: إذا لم تبق الفروض شيئاً للجد
فيفرض له السدس، وتعول له المسألة، ويسقط الإخوة.
الخلاصة: الجد مع غير الإخوة له ثلاث حالات، فيرث: إما فرضاً وإما تعصيباً،
وإما فرضاً وتعصيباً معاً كهذا الحديث.
فإذا وجد الإخوة فهو بالأحظ من ثلاث حالات؛ الحالة الأولى: يفرض له السدس
إن لم تبق الفروض شيئاً، فبدلاً من أن نقول: هو عاصب، والعاصب ليس له شيء.
نقول: يدخل الجد في خط أصحاب الفروض، فنفرض له السدس.
وإذا كانت الفروض أخذت نصف التركة، وبقي النصف، فهنا الباقي يقتسمه الجد مع
الإخوة بحسب الأحض من ثلاث حالات: إما أن يأخذ ثلث الباقي إذا كان ثلث
الباقي أحظ له من سدس الجميع، أو يقاسم الإخوة كواحد منهم، أو يأخذ سدس
المال إذا كان أحظ له من المقاسمة وثلث الباقي.
هذا مذهب الجمهور على أنه مع الإخوة يخير، ويعامل بما هو الأحظ من أمور
ثلاثة كما تقدم ولو كانوا خمسة إخوة وهو السادس فأيهما أحسن: أن يأخذ ثلث
الباقي أو يقاسم ويأخذ سدس الباقي؟ إذا قاسم سيكون نصيبه واحداً من ستة مما
أبقت الفروض، وإذا قال: لا أريد مقاسمة وآخذ ثلث الباقي فهو أحسن له، وإذا
كان الباقي سدس المال، كأن تكون الفروض استغرقت التركة وما بقي إلا السدس
فهل يأتي الإخوة ويقاسمونه في هذا السدس؟ لا، بل يقال: هذا السدس فرضه وليس
للإخوة شيء.
ونرجع ونقول كما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد
الاستيعاب والتوسع فليرجع إلى كتب الفن.
وأحسن ما بين أيدينا من الكتب كتاب العذب الفائض، وهو من الكتب القديمة،
أما الكتب الجديدة فهي -كما يقال- قطرة من بحر، لن يأتوا بشيء من صناديقهم،
ولكن أخذوا من تلك الموسوعات القديمة الموجودة عن سلف الأمة.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب البيوع - باب
الفرائض [2]
اتفق الفقهاء على توريث أصحاب الفروض، إلا أنهم اختلفوا في توريث الجدة على
ثلاثة أقوال، ثم اختلفوا في ميراث الخال، وكذلك ميراث القاتل عمداً، وكذلك
ميراث الحمل، وما يتخرج عليه من مسائل عصرية كأطفال الأنابيب، وللعلماء
تفصيلات وأدلة يبينون فيها سبب اختيارهم لما رجحوه من الأقوال.
ميراث الجدات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنهما:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إن لم يكن دونها أم) رواه
أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، وقواه ابن عدي] .
من مشاكل الميراث ميراث الجدة، والجدة هي أم الأم أو أم الأب، يقولون: إن
الجدة جاءت لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقالت: أعطني ميراثي في قضية
الجد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس وتساءل العلماء: من كان مع الجد
حتى أعطي السدس؟ وعمر رضي الله تعالى عنه لما أتاه سائل في الجد قال: من
عنده علم فليأتنا؟ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن رجلاً أتى النبي
فأعطاه السدس، ثم دعاه فأعطاه السدس طعمة.
فقال عمر: مع من ورثه؟ قال: لا أدري.
قال: لا حياك ولا بياك، ما أغنيت شيئاً.
العلماء يتساءلون مَن مِن الورثة أصحاب الفروض الذين يبقى بعدهم الثلث حتى
يحصل الجد على سدسين؟ فقالوا: المتوقع في هذا: أن يكون الميت ترك بنتين،
فالبنتان لهما الثلثان، فبقي الثلث فأخذه الجد فرضاً وطعمة، أو ترك بنتاً
وبنت ابن، فالبنت لها النصف، وبنت الابن لها السدس تكملة الثلثين، وبقي
الثلث بعدهما للجد فرضاً وطعمة، هذا تتمة لمن كان مع الجد حينما أعطاه
الرسول صلى الله عليه وسلم ما أعطاه فيما تقدم.
هنا الجدة أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم السدس، هل الجدة من ذوي الفرائض
في كتاب الله؟ ليست مذكورة، إذاً: هذا عطاء من النبي صلى الله عليه وسلم
للجدة، بشرط ألا تكون الأم موجودة، فالرسول إنما أعطى الجدة سدس الأم،
إذاً: أصل السدس الذي تأخذه الجدة هو للأم، فإذا لم توجد الأم انتقل إلى
أمها، وعلى هذا كان عطاء من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومبحث العلماء في الجدة والجدات من جهتين: جهة الجهات التي ترث منها الجدة
والجدات، وجهة توريث المجتمعات من الجدات.
فـ مالك رحمه الله يورث من جهتين: أم الأم وأم الأب فقط.
وأحمد رحمه الله يزيد جدة ثالثة، وهي: أم أب الأب، يعني جدة الأب.
وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يورثان كل جدات وجدن متساويات قال في
الرحبية: وإن تساوى نسب الجدات وكن وارثات فالسدس بينهن بالسوية.
وكن كلهن وارثات، أي: ولا توجد واحدة محجوبة بمن قبلها.
وعلى هذا: فإن السدس ميراث الجدة إن انفردت من جهة الأم أو من جهة الأب إن
لم توجد الأم.
ومالك يورث اثنتين، وأحمد يزيد واحدة، والشافعي وأبو حنيفة: يورثان كل من
وجد من الجدات متساويات سواء كن أربعاً أو خمساً أو أكثر أو أقل.
ولنعلم بأن الجدة لا تكون من جهة الأم إلا واحدة: أم الأم، وأم أم الأم،
وهكذا، فخط الأم هذا كله جدة واحدة، لكن أم أب الأم ساقطة؛ لأنها أدلت إلى
الوارث بذكر وهو أب الأم، إذاً الجدة الوارثة من جهة الأم لا توجد إلا من
طريق واحد.
ومن جهة الأب عند مالك أم الأب، وهي أم الأب الأدنى وأمهاتها، وسلسلتها
تتعادل مع أم الأم.
ويزيد أحمد أم أب الأب يعني: جدة أبي الميت أم أبي أبيه، وأمهاتها، وإذا
توسعنا أكثر من هذا فأم أبي أبي الأب لا تدخل عند أحمد ولا عند مالك، ولكن
تدخل عند الشافعي وأبي حنيفة.
لم تكن الأم موجودة؛ لأن الأم تحجب الجدة لأن الأصل لها، سواء كانت من جدة
من جهة الأب أو الأم.
ومتى يتساوى ثلاث جدات أو أربع أو خمس؟ هذه مشكلة، ولا عمر نوح عليه
السلام! إذا قلنا: أم الأم وأم الأب متساويات وقريبات، فيمكن أن توجد هذه
الجدة وتلك معاً، لكن إذا صعدنا درجة أم أم الأم وأم أم الأب فهن متساويات،
في الدرجة التي تأتي عند أحمد: أم الجد، فصار بينها وبين الميت الأب والجد
وصارت هي في الدرجة الثالثة، فإذا تساوى الجدات الثلاث في الدرجة، فعند
أحمد الثلاث يرثن، وعند مالك لا يرث إلا اثنتان، وعند الشافعي وأبو حنيفة
ترث ولو كانت أم أبي أبي أبي الأب، وجدة جدة جدة جد الجد، ولن يعيشوا إلى
هذا الوقت! وهذه مسألة نظرية، وفي اعتقادي أنها ما وقعت ولن تقع، إذا قلنا:
الجدة في الطبقة الخامسة، فبينها وبين المائة شيء يسير، ستعيش إلى ذلك
الوقت، وهل هذا كما يقولون: من التصوير الفقهي، والمسائل المفترضة؛ لأنه
متمش مع القاعدة الفقهية في الميراث؟ هنا ناحية بعد هذا (وكن كلهن وارثات)
، إذا وجدت أم الأم، وأم أم الأم، فهناك قربى وبعدى، فأم الأم هي القريبة،
أما أم أمها فبعيدة، إذاً: السدس يكون للقريبة، فكل من كانت أقرب للميت
سواء من جهة واحدة أو من جهات أخرى، فإن القربى المنفردة في طريقها تحجب
البعدى على التحقيق، وإذا كان الطريق متعدداً، وعندنا أم أم أم أم أم أم،
يعني: جدة رقم ستة للأم، وعندنا جدة رقم سبعة للأب، تفاوت القرب والبعد،
فالذي يرث منهما القربى، ولو عكسنا وجعلنا السادسة من جهة الأب، والسابعة
من جهة الأم، فهناك من يقول: القربى تحجب البعدى ولو كانت البعدى من جهة
الأم، فالجدة رقم ستة من جهة الأب تحجب الجدة رقم سبعة من جهة الأم، وهذا
قول للإمام أبي حنيفة رحمه الله.
والآخرون يقولون: إذا كان أصل السدس للأم، فجدة الأم هي الأصل، فإن بعدت
ووجد معها أقرب منها من جهة الأب، فإن قوة الأصل في كون السدس للجدة للأم
يدنيها؛ لأنها هي الأصل، فتشارك الجدة من الأب وإن كانت التي لأم بعدى،
فتنزل وتشارك التي لأب وإن كانت التي لأب قربى؛ لأن الأصل مع التي لأم،
فيقوي ضعف بعدها.
وإذا كان العكس: القربى للأم، والبعدي للأب؟ فالتي للأب لا تنزل وتشارك
التي لأم، بل تسقط؛ لأن التي لأم جمعت قوتين: قوة القرب وقوة الأصالة.
فاختصت عند قربها بالسدس، ولعل في هذا القدر كفاية من جهة الجدات.
اختلاف العلماء في
ميراث الخال
قال المصنف رحمه الله: [وعن المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (الخال وارث من لا وارث له) أخرجه أحمد والأربعة سوى
الترمذي، وحسنه أبو زرعة الرازي، وصححه الحاكم وابن حبان] .
الخال أخو الأم، والعم أخو الأب، فهذا العم -أخو الأب- وارث، والخال -أخو
الأم- أيضاً لابد أن يرث، والعجيب: أن الجمهور لا يقولون بهذا، يقولون:
الخال ليس بوارث، لأنه إن كان وارثاً بفرض فأين فرضه، وإن كان بتعصيب فهناك
حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وإذا ورثتم الخال
فلماذا لا تورثون الخالة، والعمة مع العم؟ إذاً: أوقفوا العمل بهذا الحديث
إلا بعض من هو خارج عن المذاهب الأربعة، ونحن لا نستطيع أن نتتبع هذه
الشواذ، إلا أن المعروف عن طوائف من الشيعة أنهم يورثون الخال، ويجعلون له
ميراثاً لا على الحديث فقط، فقوله: (الخال وارث من لا وارث له) معناه: إذا
وجد وراثٌ للميت مع وجود الخال فإن الخال لا شيء له؛ لأن الرسول صلى الله
عليه وسلم يقول: (الخال وارث من لا وارث له) .
قال بعضهم: الخال هنا بمعنى بيت المال.
وهذه بعيدة جداً، وردوا عليهم وقالوا: لو كان يريد ذلك لقال: (أنا وارث من
لا وارث له) .
يهمنا في قضية الخال: أن الجمهور تركوا العمل بهذا الحديث للحديث المتقدم:
(ألحقوا الفرائض بأهلها) ، وليس الخال صاحب فرض لا في الثمن ولا الربع ولا
النصف ولا الثلثين ولا الثلث ولا السدس، إذاً: ليس له فرض.
قوله: (من لا وارث له) ، ما حكم العصبة؟ إذا وجد أصحاب الفرائض ما هو موقف
الخال، والشيعة لما ورثوه أنزلوه منزلة الأم كما ينص الحلي في كتابه
الشرائع: لو مات عن خال وعم، فللخال الثلث، وللعم الثلثان؛ لأنه لو وجدت
الأم مع العم يكون لها الثلث؛ لعدم الفرع الوارث ولعدم وجود جمع من الإخوة،
فلها الثلث، قالوا: فيأتي الخال وينزل منزلتها، ويأخذ حقها.
إذا: هذا الحديث لم يعمل به الجمهور لمعارضته لما هو أقوى منه، ولمخالفته
لمدلول قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، وما بقي فلأولى رجل ذكر) .
بقي أن يقال: الخال والخالة والعمة من ذوي الأرحام، وبنت البنت وابن البنت،
وكل الأقرباء الذين لا ميراث لهم فهم من ذوي الأرحام، والخلاف في توريث ذوي
الأرحام موجود عند الفقهاء، فمنهم من يورث، ومنهم من يقول: بيت المال أولى
منهم إن انتظم، أي: إن كان موجوداً ويتقبل ميراث من ليس له وارث، ويتولى
الإنفاق على مصالح المسلمين.
ولاية رسول الله على
المؤمنين
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال: كتب عمر
إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله
ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له) رواه أحمد والأربعة
سوى أبي داود، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان] .
هذا الخبر عن عمر رضي الله عنه يؤيد الخبر الذي قبله، إذاً: عمر يرى ميراث
الخال، لكن على أي حالة؟ وما نصيبه في الميراث؟ لا ندري ما نعطيه، وليس
عندنا فيه شيء.
قوله: (الله ورسوله مولى من لا مولى له) .
هذه واضحة بأن من مات ولا وارث له ولا مولى له يواليه، والمولى هنا عام
لغةً، وليس المولى الخاص بالعبد الذي أعتقه ومولاه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ولي من لا ولي له، والقاضي ولي من لا ولي له
نيابة عن ولي الأمر، فإذا كانت امرأة وليس لها عاصب أو ولي أمر يزوجها
فالقاضي وليها يزوجها، وهكذا ولي الأمر له هذه الولاية، ولذا تجدون الفقهاء
يقولون في بعض القضايا: هل حكم فيها الرسول بالولاية أو بالتشريع؟! فهنا
الولاية عامة، وقد جاء ما يوضح هذا في أول الإسلام؛ فقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا قدمت إليه جنازة للصلاة عليها سأل: هل عليه دين؟ إن قالوا:
نعم.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: لا.
صلى عليه، ثم بعد أن فتح الله الفتوح، وصار عند المسلمين المال قال: (من
ترك غنماً فغنمه لورثته، ومن ترك غرماً فغرمه علي) ، وكلمة: (علي) ، يعني:
علي ولي الأمر، وولي الأمر لا يدفع من عنده شخصياً، ولكن من بيت مال
المسلمين.
وهذا تحقيق -كما يقال- لكفالة الإسلام للمعدمين، وهذا له طرقه، ويكون
التصرف مع بيت مال المسلمين عن طريق الحاكم، حتى لا ينتحل كل إنسان
استحقاقاً بأي وجه من الوجوه فينفد مال المسلمين ويأخذ ومن لا يستحق الأخذ.
وعلى هذا إذا انتظم بيت مال المسلمين، وكان فرد من أفراد الأمة الإسلامية
عليه حقوق نظر فيها: إن كانت هذه الحقوق ثابتة بوجه شرعي، ولحقته من جانب
مشروع؛ تولى وليه وهو صاحب الأمر من بيت مال المسلمين أمر دينه وقضاه، وإن
كان غير ذلك فالله تعالى أعلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] .
بمعنى أعم: يقضي صلى الله عليه وسلم في أمر المسلمين بما يراه بالولاية،
فيحجر على السفيه ويحفظ ماله، ويطالب بحقه إذا لم يكن له قدرة على
المطالبة، فلو قتل أبو قاصر صغير من الذي يتولى حقوق هذا الطفل في المطالبة
وحفظ حقوقه؟ ولي أمر المسلمين، إما بنفسه أو يقيم عليه قيماً أو وصياً
يتولى ذلك، فإن كان يستحق الدية طالب بها وحفظها حتى يكبر ويرشد، وإن كان
يستحق دماً قصاصاً، فهناك من يقول: بنظر الولي ينفذ، وهناك من يقول:
المطالبة بالدم من حق صاحب الدم العاصب، فينتظر بهذا الصغير حتى يبلغ ويرشد
ويطالب بالقصاص، فيعطى طلبه.
المرأة التي لا ولي لها، يزوجها الوالي بالولاية، القاصر المعتوه يقيم عليه
قيماً نيابة عنه يرعى شئونه ومصالحه، وعلى هذا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] ؛ لأن ولاية رسول الله على المسلمين
ولاية جازمة ومنفذة وقائمة، وهو أولى بهم من أنفسهم.
ميراث الحمل
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (إذا استهل المولود ورث) ، رواه أبو داود، وصححه ابن حبان] .
هذا الحديث فيما يتعلق بصحة ميراث الحمل إذا وُلد، ويتفرع عليه بعض المسائل
في الرق وأم الولد.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا استهل) الاستهلال والإهلال والتهليل مأخوذ
من الهلال، أصل وضع الكلمة للهلال حينما يظهر في أول الشهر؛ لأن الناس
يترقبونه، فإذا رآه أحدهم هلل، أي: رفع صوته وقال: هذا الهلال.
ثم استعملت الكلمة بعد ذلك في كل تهليل، أي: في كل رفع الصوت، وتستعمل من
باب النحت التهليل قول القائل: لا إله إلا الله.
كما قيل: التسبيح من قول القائل: سبحان الله.
الحوقلة من قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله.
واستهلال الصبي إنما هو ظهور الصوت بالبكاء والصراخ عند ولادته؛ لأن هذه
الحالة هي أصدق علامة على حياتها؛ لأن الميراث لا يكون إلا للحي، فإذا لم
يستهل ولم يصرخ ولم تثبت حياته فلا ميراث له، والأصل في باب الحمل في
الميراث أنه واسع؛ وذلك أن الميت إذا مات وترك ورثة أحياء، وترك زوجه
حاملاً، هذا الحمل إن ثبت وجوده في الرحم كائناً حياً فهو من أهل الورثة،
ويستحق الميراث باستهلاله صارخاً.
أما إذا جاء وقت الولادة فنزل ميتاً فلا ميراث له، وإن كان الأصل فيه عند
موت مورثه الحياة، لكنه لما جاء إلى الدنيا جاء إليها ميتاً، والميت لا يرث
شيئاً.
اختلاف الفقهاء في
التوريث التقديري وتوقيف القسمة عند وجود حمل
والفرضيون حينما يعملون المسألة الفرضية التي فيها الحمل ينقسمون إلى
قسمين: هناك من يوقف التركة فلا يقسم منها شيئاً، ويقول: ننتظر حتى يأتي
الحمل لننظر أهو ذكر أم أنثى أو توأم ذكور أو إناث، أو ذكر وأنثى؟ هذا على
أقل التقدير في التوأم، وقد يكون التوأم أربعة وخمسة وستة وسبعة، وقد سمعت
قصص كثيرة في الآونة الأخيرة عن المرأة التي ولدت سبعة في المستشفى، وكانوا
يأخذونهم واحداً واحداً للتطعيم أو للتطهير أوكذا، وكانت نائمة، فاستيقظت
فوجدت ستة، فصرخت فأفزعت المستشفى كله، قالوا: ما بك؟ قالت: أين السابع؟
قالوا: هل يكفيك الستة؟ قالت: واحد مثل الستة.
والقصة التي يذكرها الشافعي رحمه الله: عن المرأة التي ألقت كيساً في صنعاء
فظنته ديدان، فألقته في الشمس، فجاءهم الدفء فتحركوا فإذا هم أولاد صغار،
أربعون طفلاً في كيس، وأخبار تذكر ويذكرها السلف، سواء كانت الحقيقة أو
قريباً من الحقيقة، لقد لامسنا أو شاهدنا أو سمعنا وقرأنا عن الستة
والسبعة، فماذا يفعل قاسم التركة في نصيب الحمل؟ الشافعي رحمه الله ليس
عنده ميراث بالتقدير، فيوقف التركة حتى يتبين الوارث: فالخنثى المشكل يوقف
التركة حتى نعرف هل هو ذكر أو أنثى، وفي الغرقى والهدمى نوقف التركة حتى
نعرف من الأسبق، وفي الحمل نوقف حتى يأتي ونتبين كم هو.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله يعملون بالتقدير، فمثلاً تركة فيها خنثى مشكل،
فيقولون: نقدر المسألة مرتين، مرة على أنه ذكر، ومرة على أنه أنثى، ثم نعطي
الورثة الأقل من أنصبتهم في التقديرين، ونحفظ له الأكثر، فإذا جاء على أكثر
التقدير أخذه، وإذا جاء أقل من التقدير رددناه على بقية الورثة، وكذلك
الحمل، إلا أنهم في الحمل يقدرون المسألة خمس مرات، ويعمل له خمسة جداول
لتقسيم تركة، ويؤتى بالجامعة للمسائل الخمس، ويعرف جزء السهم، ويعطى
الموجودون الأقل من حصتهم في الجداول الخمسة، ويوقف الباقي لحساب الحمل.
يشترط في توريث
الحمل وجوده عند موت مورثه
يشترط في الحمل أن يكون عند موت مورثه موجوداً بالفعل، وكيف نعرف؟ ما عندنا
أشعة، قالوا: نعمل بالحساب.
فإذا جاء بعد موت مورثه لأقل من ستة أشهر عرفنا أنه استوفى كامل الستة
موجوداً في رحم أمه قبل موت مورثه؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فلو أنه
ولد بعد مورثه بخمسة أشهر، فهو موجود في الرحم، إذاً: ثبت وجوده في الرحم
عند موت مورثه.
فإذا مات المورث واعتدت الزوجة للوفاة، وبعد ستة أشهر قالت: أحس بحمل.
فننتظر حتى كمال تسعة أشهر حسب العادة عشرة أشهر، سنة وسنتين وثلاث، ماذا
تقولين؟ قالت: الحمل موجود، أنا أحس به.
إلى أربع سنوات، فإذا جاء لأربع سنوات فأقل بأسبوع واحد قلنا: هو من الميت،
واستكمل الأسبوع الناقص في حياة مورثه، هذا ما لم تتزوج.
فعلى كل: الفقهاء والفرضيون لهم حساب في إثبات الحمل عند موت مورثه.
وفي إثبات حياته ليستحق ما جعل له.
علامات حياة الحمل
عند الولادة
وكون الاستهلال هو علامة على الحياة هو العلامة الفارقة الأولى الواضحة
التي يفهمها الجميع.
الفقهاء يزيدون على ذلك ما يسمى: بتحقيق المناط، وهو كل علامة تحقق أن
المولود ولد حياً، فلو نزل ساكتاً وما صاح ولا شيء، لكنه أعطي الثدي
فامتصه، فهل هو حي أو ميت؟ حي.
وضعناه في إناء فيه ماء، فإذا به يغطس بيديه ورجليه، فهل هو حي أو ميت؟ حي؛
لكن -كما يقول الفقهاء- لا حركة المضغوط، لو أنه حينما نزل من أمه تحركت يد
أو رجل وسكن بعد ذلك، فهل تلك الحركة التي حصلت عند الولادة تدل على
الحياة؟ قالوا: لا؛ لأنه كان مضغوطاً في الرحم، وخرج من مكان ضيق، واليد
والرجل إذا كانت مضغوطة إذا ذهب عنها الضغط حصلت لهما حركة؛ فهذه حركة
المضغوط.
لو أخذت هذا الثياب وضغطته بقوة ثم تركته فإنه سيتحرك، هل هذه حركة حياة أو
حركة المضغوط؟ فإذا تحرك حركة تثبت حياته فالحمد لله، أما حركة المضغوط
فلا.
ما تحرك، ولا مص الثدي، ولا صاح، لكن عطس، فالعطاس يدل على حياة، وهكذا بما
يسمى تحقيق المناط في أنه نزل حياً.
لو مات بعد عشر دقائق أو خمس دقائق، فإذاً: هذا موت جديد حادث يثبت له
ميراثه، وينتقل عنه إلى من يرثه من إخوانه وأمه.
إلى آخره.
فهنا: متى يستحق الحمل ميراثه، سواء أوقفنا قسمة التركة أو قسمنا الأقل على
الحاضرين حتى لا يتضرروا، والذي أوقفناه لحسابه موجود، إن جاء ما يثبت
حياته قلنا: تفضل هذا حقك إن كان يستحقه كله أو بعضه على حسب التقديرات،
فهذا الحديث يدل على إثبات الحياة للوارث قبل موت مورثه أو إثبات وجوده.
وهنا أم الولد إذا كان الأصل فيها الرق، متى تتحرر في حياته أو بعد مماته؟
نقطة الصفر التي يموت فيها سيدها هي نقطة الصفر التي تتحرر فيها، إذاً: لم
تجتمع مع سيدها في الحياة بحرية؛ لأن الحرية جاءتها بوفاة سيدها، إذاً: لا
ترث؛ لأنها لم تشارك سيدها في الحياة بالحرية ولو لحظة.
توريث أطفال
الأنابيب
نحن عندنا مشاكل اليوم: طفل الأنابيب، كيف نثبت حياته عند موت مورثه ونثبت
له حكم الحياة في النهاية؟ مهما كانت ظروفه وأوضاعه؛ لأنهم -على ما سمعنا
من المختصين- يأخذون البويضة من الزوجة، ويأخذون الماء من الزوج، ويلقحون
البويضة بماء زوجها، ثم يضعونها في أنبوب فيه سائل يتعادل مع حرارة الرحم،
أو أن الزوجة بعد أن تلقح البويضة في رحمها -أو أنبوب فالوب كما يسمونه-
وثبت تلقيح البويضة في داخل رحم الأم، لكن الأم لا يستطيع رحمها أن يواصل
بالحمل وحينها تسقط، فيلجئون إلى إخراج البويضة الملقحة من المرأة،
ويضعونها في جهاز يسمونه الأنبوب أو غير ذلك، فيواصل نموه داخل هذا الوعاء،
فهو من الناحية القانونية والعرفية والشرعية ابن لهذين الزوجين، بخلاف ما
يقع في بعض الجرائم حيث تلقح بويضات بعض النسوة بماء غير الزوج، فإذا كانت
البويضة قد لقحت في حياة الزوج، وأخذت في النمو إلى أن تشكل هيئة إنسان، لا
إن كان دماً جامداً مضغة أو علقة، بل ظهر فيه تخطيط الإنسان تأكيداً؛ لأن
النمو مستمر في حياة الجنين، فإذا ظهر في خلقة الإنسان فإنه حينئذ ثبتت
حياته في الأنبوب حين حياة أبيه، بعد هذا مات أبوه والجنين في الأنبوب حي
على هيئة الإنسان، أي: ظهر فيه تخطيط الإنسان، وجزمنا بأنه طفل ماض في نموه
إلى حالة الولادة.
إذاً: جاء الشرط الأول وهو ثبوت حياة الجنين في حال حياة أبيه، فأخذ طفل
الأنبوب في طريقه إلى أن استكمل ستة وثلاثين أسبوعاً -التسعة الأشهر- فأخرج
من الأنبوب إنساناً يصيح ويطلب الثدي، فإذا جاء مولود مكتمل، فحينئذ له
ميراثه؛ لأنه ثبتت حياته عند استكمال مدة التلقيح أو الحضانة في هذا
الجهاز.
أحكام قتل الوارث
لمورثه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ليس للقاتل من الميراث شيء) رواه النسائي
والدارقطني، وقواه ابن عبد البر، وأعله النسائي، والصواب: وقفه على عمرو] .
يقولون في هذه القضية: إن القاتل يعامل بنقيض قصده؛ لأن غالب حالات قتل
الوارث مورثه استعجالاً للميراث، ويلحق به قتل الموصي لمن أوصى إليه، كأن
أوصى رجل لإنسان بعد موته ببيت، فطالت حياة الموصي، والموصى إليه ينتظر
وفاته ليأخذ البيت، فلما استطال المدة قتله ليأخذ البيت، فمادام أن قصده
بالقتل الحصول على الوصية فليحرم عليه أخذها.
ولا يرث من قتل من أجل الميراث لماذا؟ لأنه يعلم إذا قتل أنه لا يرث، فهو
حريص على الميراث، إذاً سيحافظ عليه، ويبعد كل تهمة أو شبهة عنه في قتله
حتى يصح له الميراث؛ لأنه حريص عليه، وكذلك الموصى إليه يبعد كل البعد عن
قتل الموصي حتى تسلم له الوصية، فالمعاملة بنقيض القصد في القاتل وفي
الموصي.
ولكن الفقهاء فصلوا في القتل، فقالوا: هو عمد، وخطأ، وشبه عمد، وشبه خطأ،
فالعمد وشبهه يتفق الجمهور على أنه لا يرث؛ لأنه متعمد، إلا إذا كان
متعمداً بحق بأن كان له عليه قصاص لابن عمه، بأن كان قد قتل أباه فجاء وهو
العاصب فقتل قاتل أبيه والحال أنه عاصبه، فالأئمة الثلاثة يقولون: يرث؛
لأنه لم يقتل متعمداً من أجل ميراث، لكن قتله بحق ألا وهو القصاص.
والشافعي يقول: لا يرث، ولو كان قتله بحق.
الخطأ الشافعي يقول: إذا شارك في قتل الخطأ ولو بالشهادة عليه التي تثبت
القصاص فلا ميراث له، ولو كان قاضياً وحكم بمقتضى البينة بقتله، وكان
القاضي وارثاً لهذا فلا يرث منه مع أنه نفذ حكم الله بالقصاص! قال: لأنه
شارك؛ فيحرم من الميراث سداً للباب بالكلية.
وما عدا الشافعي رحمه الله فإن مالكاً يقول: القاتل خطأ يرث من رأس المال
قبل القتل، ولا يرث من الدية.
والخلاف في هذا موجود عند الأئمة رحمهم الله، والقصد فيه حرمان القاتل من
الميراث لئلا يتعجل قتل مورثه من أجل أن يأخذ الميراث، ونظير ذلك من تزوج
امرأة في عدتها، وهو يعلم أنها لا زالت في العدة، فإنه يفرق بينهما إلى
الأبد، ولا يتزوجها بعد ذلك قط، حتى ولو تزوجت بعده برجل آخر؛ لأنه تعجل
زواجها قبل انقضاء العدة؛ فيعامل بنقيض قصده، أي: حرصك عليها ضيعها منك،
وكان الواجب الانتظار حتى تنتهي العدة وتصبح خاطباً من الخطاب، أو أن تحصل
لك وعداً، أما أن تتزوجها وأنت تعلم فهذا يمنع منها إلى الأبد.
وهل يقام عليه الحد؟ منهم من يدرأ عنه الحد لشبهة العقد، ومنهم من يقول:
يستحق الحد ويقام عليه.
أحكام ميراث الولاء
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من
كان) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وصححه ابن المديني، وابن عبد
البر] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب) رواه الحاكم من طريق
الشافعي، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، وصححه ابن حبان وأعله البيهقي] .
هذان الحديثان يكمل بعضهما بعضاً، الأول: (ما أحرز الولد فهو لعصبته من
كان) وأين أصحاب الفروض؟ قالوا: هذا ليس له دخل في الفروض، هذا جزء من
الحديث الذي بعده، هذا فيما يتعلق بغير المال والميراث، مثل الحقوق العامة،
والشفعة، ورد العيب، وبالأخص هنا في باب الميراث، فلعصبته ما كانوا.
الذي يختص بالعصبة في الميراث، ولا يدخل فيه صاحب فرض هو الولاء، فالولاء
لحمة لا يوهب ولا يورث، إذاً ما أحرز الوالد والولد في الولاء فهو لعصبته
من كان، ولا دخل لأصحاب الفروض في الولاء، والولاء لحمة كلحمة النسب لا
يوهب ولا يورث ولا يباع، لا ينقل بعوض، ولا يتحكم فيه وارث.
وقوله في الحديث الأول: (لعصبته من كان) ، فيه قضية يذكرها الفرضيون،
وأثناء الطلب أتعبتنا جداً، ولا ميراث لعصبة عصبة المعتق إلا إذا كانا عصبة
للمعتق، وهو محل هذا الحديث.
يمثل له الفرضيون بصورتين: صورة يتحقق فيها عصبة المعتق، وصورة تنتفي فيها
عصبة المعتق.
وذكر صاحب العذب الفائض في بعض فروعها يقول: غلط فيها من القضاة (ت) والتاء
في حساب حروف الجمل أربعمائة (أبجد هوز) أربعمائة قاض غلطوا فيها، عصبة
عصبة المعتق: رجل تزوج بامرأة من قبيلة تميم، والمرأة ليس لها عاصب في
قبيلتها وقد أنجبت ولداً، وأعتقت عبداً، ثم توفيت فولاء العبد الذي أعتقته
لابنها؛ لأنه عاصبها وأقرب عصبة لها، وإذا كان هذا الولد بعد أن حاز الولاء
إليه توفي، وترك عمه أو ابن عمه وهم عصبة له، لكن هل هم عصبة للمرأة؟ لا،
وعندئذ إذا حاز الولد الولاء بعصبته لأمه فعصبة عصبة المعتقة لا يرثون
الولاء؛ لأنهم ليسوا عصبة للمعتقة الأساسية.
نعيد القضية بطريقة أخرى: مصري تزوج سودانية، فكان لهما ولد، والسودانية
أعتقت عبداً، ثم ماتت عن ولاء العبد وعندها ولدها، فولاء من أعتقت لولدها
من زوجها المصري.
فإذا مات الولد وفي حوزته الولاء الذي ورثه عن أمه، ويوجد عم للولد -مصري
بلا شك- وابن عم عمه، فعمه وابن عمه عصبة له يرثان عنه المال، لكن هل يرثان
عنه الولاء بالعصبة؟ لا، لماذا؟ لأنهما ليسا عصبة للسودانية.
مثال حينما يكون عصبة عصبة الميت عصبة للمعتق: امرأة تزوجت بابن عمها، هناك
صلة؛ فالأسرة واحدة والجد واحد، وهذه المرأة أعتقت عبداً، وكان لها ولاؤه،
ثم جاءت بولد حاز الولاء عن أمه، ثم مات الولد، وورثته أخته أو بنته أو عمه
ممن هم عصبة له، أما ميراث المال فمستحق، وكذا العم عاصب في المال أيضاً.
بقي الولاء.
فعم الولد هل هو عاصب للمرأة التي أعتقت أم لا؟ عاصب؛ لأنها متزوجة بابن
عمها، وعم الولد ابن عمها أيضاً، فهو عاصب لها في الأصل، إذاً: يحق له أن
يرث الولاء.
هذا معنى قوله: (ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان) .
أما الحديث الآخر: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، لا يوهب) ، ولا
يورث.
إلخ.
هنا مسألة: فالولاء وصف معنوي يستحقه المعتق على من أعتقه؛ لأنه بمثابة من
أخرجه من العدم إلى الحياة، كان ميتاً معنوياً، تحت حكم سيده لا يتولى
المناصب الشرعية كالقضاء والولايات وغيرها، فلما أعتق صار كبقية الأحرار في
حقوقهم الخاصة، فإذا مات المعتَق فولاؤه للمعتِق، ماذا ينفعه هذا الولاء
للمعتق؟ يرث به ميراث العصبة، ولكن متى؟ قالوا: درجات انتقال التركة إلى
الغير تبدأ بالفروض لقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) ، فأول شيء نعطي أصحاب
الفروض فروضهم.
المرتبة الثانية: العصبة لقوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) .
فإذا بقيت سهام ولم يوجد عاصب نرد على الورثة بنسبة ميراثهم، وهو نظام ما
يسمى بنظام الرد، أو أننا ندخل ذوي الأرحام بعد العصبة النسبية، وهم
يختلفون أيهما يقدم: الرد، أم إدخال ذوي الرحم ليأخذوا الباقي على نظام
توريث ذوي الرحم بالتنزيل أو القرابة، ثم بعد ذلك العصبة بالسبب، والعصبة
بالسبب هي الولاء، فالولاء هو آخر من يأتي إلى الميراث.
مسألة: عتق إنسان عبداً، وأصبح له الولاء عليه، فبالولاء إذا مات العبد
وكان له أولاد أو ذوي فروض أعطينا ورثة العبد مما يملك على الترتيب السابق:
ذوي الفروض، ثم العصبات، ثم الرد أو ذوي الرحم، ثم المعتق بالولاء.
مسألة: أعتق عبداً ومات السيد قبل العبد، ولم يكن للسيد من يرثه، أو عنده
أصحاب فروض، فما بقي بعد الفروض هل العبد الأدنى -يسمى العبد الأدنى أو
الولاء الأدنى والولاء الأعلى، أو المولى الأدنى أو المولى الأعلى- يرث
سيده؟ لا يرث، ويصير حقه إلى بيت المال، فأيها أقرب وأولى بالمنفعة: هذا
العبد الذي كان يخدم طوال عمره في حياة سيده، أو بيت المال الذي كل إنسان
يأخذ منه خمسه؟ هو أقرب.
ويذكرون عن عثمان رضي الله عنه -ورواية عن أحمد - أن الولاء يورث به من
الطرفين كالزوجية، أي كما أن كلاً من الزوجين يرث الآخر، فهو سبب مزدوج.
ولكن الجمهور على أن الولاء لطرف واحد، وهو للمولى الأعلى يرث بولائه
عتيقه.
والله تعالى أعلم.
تخصصات الصحابة في
العلوم الشرعية
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد بن ثابت) أخرجه أحمد والأربعة سوى
أبي داود، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وأعل بالإرسال] .
لو جئنا إلى العرف الحاضر في الدراسة كان لدينا ثانوية عامة، وقد يكون فيها
نوع تخصص: أدبي، علمي، إذا جئنا إلى شهادة البكالوريوس وجدنا الكليات
المتعددة ما بين طب وهندسة وزراعة وميكانيكا وأشياء ومتعددة، ثم بعد
البكالوريوس تأتي شهادة الماجستير، ثم بعد هذا يختار بحثاً آخر في
الدكتوراه، وبهذا بلغ القمة في منهج الدراسة النظامي، وهو في حياته العملية
يستفيد من تجاربه ربما أكثر من دراسته، فإذا جئنا الآن إلى الطب بصفة عامة،
تخرج من كلية الطب، انصرف إلى الماجستير، ما موضوعه؟ اختار جهازاً في
الجسم، وتخصص فيه بشهادة ماجستير، نفس القسم الذي اختاره فيه جزئيات، فعمل
شهادة دكتوراه في جزئية من تلك الجزئيات؛ مثلاً: جراح، تخرج بكالوريوس
جراحة، ثم في الجراحة هناك جراحة المخ، والعظام، والغضروف.
إلخ، فتخصص في نوع من أنواع الجراحة، حينما نعمل (كونسلت) طبي على مريض في
عملية جراحية، هل نأتي بطبيب العيون والأسنان والجلد ليكتبوا تقريراً على
هذا المريض؟ أم نأتي بالمختصين في موضوعه الجراحي المطلوب؟ نأتي بالمختصين،
ولا دخل لطبيب الأسنان ولا العيون ولا لطب الجلديات ولا المسالك البولية في
عملية جراحية للمخ مثلاً؛ لأن المختصين في هذه المادة أعرف، ويتعاونون فيما
بينهم.
إذا كان الشخص مريضاً بالقلب ومر عليه طبيب أسنان وأعطى تقريراً عنه، هل
يسمع منه؟ ليس له دخل في هذا، نعم يحترم ولكن لا يعمل به في شيء، فإذا جاء
المتخصص في القلب اعتبرنا قوله.
وهكذا أيها الإخوة كان التخصص العلمي موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم،
فقوله: (أفرضكم) ، أصبح زيد هنا من خاصة العلماء، فإذا كان جميع العلماء من
سلف الأمة وخلفها يعرفون الفرائض، يدرسونها، ويقسمون التركات، والقضاة
يحكمون فيها، ولكن عند النزاع في مسألة لا نأخذ فيها رأي شخص عادي حتى لو
كان أبا بكر وعمر، ولكن رأي زيد؛ لأن الرسول خصه بأنه أفرض -أفعل تفضيل-
وما استثنى أبا بكر ولا عمر، فعلى هذا: إذا اختلف السلف أو الخلف في قضية
فرضية وظهر رأي لـ زيد، كان هذا ترجيحاً لهذه المسألة.
وجاء عن ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فإذا تنازعوا في
تأويل آية، وكان لـ ابن عباس رأي فيها كان رأي ابن عباس مقدماً على غيره.
(أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، إذا اختلفوا في مسألة أحلال أم
حرام، وكان هناك رأي لـ معاذ كان رأي معاذ هو الأرجح، وكذلك (أمين هذه
الأمة أبو عبيدة) .
وعلى هذا: فالجمهور يعتبرون رأي زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مرجحاً في
مسائل الخلاف في موضوع الفرائض.
والله سبحانه وتعالى أعلم، ونوصي الإخوة -مرة أخرى- بالعناية بالفرائض؛
لأنها كما قيل فيها في الصحيح: (أول علم يفقد في الأرض) .
والفرائض قسمان: هذا القسم الذي درسناه فقه الفرائض، بقي: الحساب في
الفرائض، والحساب كما يقولون رياضة عقلية لا تخطئ، والعقل هو الذي يخطئ
فيها، فبأي طريقة أو منهج استطعت أن توصل حق كل ذي حق اتخذها، سواء كان
بالنسب الأربع عند الفرضيين: تداخل، توافق، تباين، تماثل، أو بالحساب
العصري الحديث العوامل الأربعة، أو بالجبر -كما يقولون- أو بأي صفة استطعت
أن تقسم التركة على أهلها.
وبالله تعالى التوفيق.
|