إحكام
الأحكام شرح عمدة الأحكام ط مؤسسة الرسالة
كتاب الطهارة
مدخل
...
كتاب الطهارة.
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما
الأعمال بالنيات - وفي رواية: بالنية - وإنما
لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته
إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى
ما هاجر إليه" 1.
أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى
بن رياح - بكسر الراء المهملة بعدها ياء آخر
الحروف وبعدها حاء مهملة - ابن عبد الله بن
قرط بن رزاح - بفتح الراء المهملة بعدها زاي
معجمة وحاء مهملة - بن عدي بن كعب القرشي
العدوي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في كعب بن لؤي: "أسلم بمكة قديما وشهد المشاهد
كلها وولي الخلافة بعد أبي بكر الصديق وقتل
سنة ثلاث وعشرين من الهجرة في ذي الحجة لأربع
مضين وقيل لثلاث2.
ثم الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: أن المصنف رحمه الله بدأ به لتعلقه
بالطهارة وامتثل قول من قال من المتقدمين: إنه
ينبغي أن يبتدأ به في كل تصنيف ووقع موافقا
لما قاله.
الثاني: كلمة "إنما" للحصر على ما تقرر في
الأصول فإن ابن عباس رضي الله عنهما فهم الحصر
من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في
النسيئة" 3 وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا
الفضل ولم يعارض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق
على أنها للحصر ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم
في المذكور ونفيه عما عداه وهل نفيه عما عداه:
بمقتضى موضوع اللفظ أو هو من طريق المفهوم؟
فيه بحث.
الثالث: إذا ثبت أنها للحصر: فتارة تقتضي
الحصر المطلق وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ويفهم
ذلك بالقرائن والسياق كقوله تعالى: {إِنَّمَا
أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] وظاهر ذلك: الحصر
للرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والرسول
لا ينحصر في النذارة بل له أوصاف جميلة.
ـــــــ
1 البخاري "1" ومسلم "1907" ولفظه: "إنما
الأعمال بالنية...." .
2 راجع الإصابة "4/588" رقم "5740.
3 مسلم من حديث أسامة بن زيد في المساقاة
"1596" "102".
(1/11)
كثيرة كالبشارة
وغيرها ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصره في
النذارة لمن يؤمن ونفى كونه قادرا على إنزال
ما شاء الكفار من الآيات.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر
وإنكم تختصمون إلي" معناه: حصره في البشرية
بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم لا
بالنسبة إلى كل شيء فإن للرسول صلى الله عليه
وسلم أوصافا أخر كثيرة وكذلك قوله تعالى:
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ}
[محمد: 36] يقتضي - والله أعلم - الحصر
باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما هو في
نفس الأمر: فقد تكون سبيلا إلى الخيرات أو
يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على
الأقل فإذا وردت لفظة إنما فاعتبرها1 فإن دل
السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء
مخصوص: فقل به وإن لم يكن في شيء مخصوص: فاحمل
الحصر على الإطلاق ومن هذا: قوله صلى الله
عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والله
أعلم.
الرابع: ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب قد يطلق
عليه عمل ولكن الأسبق إلى الفهم: تخصيص العمل
بأفعال الجوارح وإن كان ما يتعلق بالقلوب فعلا
للقلوب أيضا ورأيت بعض المتأخرين من أهل
الخلاف خصص الأعمال بما لا يكون قولا وأخرج
الأقوال من ذلك وفي هذا عندي بعد وينبغي أن
يكون لفظ العمل يعم جميع أفعال الجوارح نعم
لوكان خصص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب فإنهم
استعملوها متقابلين فقالوا: الأفعال والأقوال
ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال
أيضا والله أعلم.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال
بالنيات" لا بد فيه من حذف مضاف فاختلف
الفقهاء في تقديره فالذين اشترطوا النية
قدروا: صحة الأعمال بالنيات أو ما يقاربه
والذين لم يشترطوها: قدروه كمال الأعمال
بالنيات أو ما يقاربه.
وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة
من الكمال فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم
للشيء: كان أقرب إلى خطوره بالبال عند إطلاق
اللفظ فكان الحمل عليه أولى.
وكذلك قد يقدرونه إنما اعتبار الأعمال بالنيات
وقد قرب ذلك بعضهم بنظائر من المثل كقولهم:
إنما الملك بالرجال أي قوامه ووجوده وإنما
الرجال بالمال وإنما المال بالرعية وإنما
الرعية بالعدل كل ذلك يراد به: أن قوام هذه
الأشياء بهذه الأمور.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل
امرئ ما نوى" يقتضي أن من نوى شيئا يحصل له
وكل ما لم ينوه لم يحصل له فيدخل تحت ذلك ما
لا ينحصر من المسائل ومن هذا عظموا هذا الحديث
فقال بعضهم: يدخل في حديث: "الأعمال بالنيات"
ثلثا العلم2 فكل مسألة خلافية.
ـــــــ
1 اعتبر: اختبر وامتحن المعجم الوسيط عبر.
2 قال النووي في شرح مسلم "1907" قال الشافعي
وآخرون هو ثلث الإسلام وقال الشافعي يدخل في
سبعين بابا من الفقه وقال آخرون هو ربع
الإسلام.
(1/12)
حصلت فيها نية
فلك أن تستدل بهذا على حصول المنوي وكل مسألة
خلافية لم تحصل فيها نية فلك أن تستدل بهذا
على عدم حصول ما وقع في النزاع: "وسيأتي ما
يقيد هذا الإطلاق" فإن جاء دليل من خارج يقتضي
أن المنوي لم يحصل أو أن غير المنوي يحصل وكان
راجحا: عمل به وخصص هذا العموم.
السابع: قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله" اسم الهجرة1 يقع على أمور الهجرة
الأولى: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة,
الهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة, الهجرة
الثالثة: هجرة القبائل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم لتعلم الشرائع ثم يرجعون إلى
المواطن ويعلمون قومهم, الهجرة الرابعة: هجرة
من أسلم من أهل مكة ليأتي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ثم يرجع إلى مكة الهجرة الخامسة:
هجرة ما نهى الله عنه.
ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن
السبب يقتضي: أن المراد بالحديث الهجرة من مكة
إلى المدينة لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة
إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما
هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس فسمي مهاجر أم
قيس ولهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر
ما تنوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية
ثم أتبع بالدنيا.
الثامن: المتقرر عند أهل العربية: أن الشرط
والجزاء والمبتدأ أو الخبر لا بد وأن يتغايرا
وههنا وقع الاتحاد في قوله: "فمن كانت هجرته
إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"
وجوابه: أن التقدير: فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما
وشرعا.
التاسع: شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في
تصنيف في أسباب الحديث كما صنف في أسباب
النزول للكتاب العزيز فوقفت من ذلك على شيء
يسير له وهذا الحديث - على ما قدمنا من
الحكاية عن مهاجر أم قيس - واقع على سبب يدخله
في هذا القبيل وتنضم إليه نظائر كثيرة لمن قصد
تتبعه.
العاشر: فرق بين قولنا من نوى شيئا لم يحصل له
غيره وبين قولنا من لم ينو الشيء لم يحصل له
والحديث محتمل للأمرين أعني قوله صلى الله
عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وآخره يشير
إلى المعنى الأول أعني قوله: "ومن كانت هجرته
إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى
ما هاجر إليه".
ـــــــ
1 قال النووي: الهجرة: الترك والمراد هنا: ترك
الوطن شرح مسلم "1907" وراجع النهاية هجر.
(1/13)
2 - عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا
أحدث حتى يتوضأ" 1.
أبو هريرة في اسمه اختلاف شديد وأشهره: عبد
الرحمن بن صخر أسلم عام خيبر سنة سبع من
الهجرة ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان من أحفظ الصحابة سكن المدينة وتوفي - قال
خليفة: سنة سبع وخمسين وقال الهيثم: سنة ثمان
وقال الواقدي سنة تسع وهو الأصح2 وهو ابن ثمان
وسبعين سنة والله أعلم.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدها: القبول وتفسير معناه قد استدل جماعة من
المتقدمين بانتفاء القبول على انتفاء الصحة
كما قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 3 أي من بلغت
سن المحيض.
والمقصود بهذا الحديث: الاستدلال على اشتراط
الطهارة من الحدث في صحة الصلاة ولا يتم ذلك
إلا بأن يكون انتفاء القبول دليلا على انتفاء
الصحة.
وقد حرك المتأخرون في هذا بحثا لأن انتفاء
القبول قد ورد في مواضع مع ثبوت الصحة كالعبد
إذا أبق لا تقبل له صلاة4 وكما ورد فيمن أتى
عرافا5 وفي شارب الخمر6.
فإذا أريد تقرير الدليل على انتفاء الصحة مع
انتفاء القبول فلا بد من تفسير معنى القبول
وقد فسر بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على
الشيء يقال: قبل فلان عذر فلان: إذا رتب على
عذره الغرض المطلوب منه وهو محو الجناية
والذنب.
فإذا ثبت ذلك فيقال مثلا في هذا المكان: الغرض
من الصلاة: وقوعها مجزئة بمطابقتها للأمر فإذا
حصل هذا الغرض: ثبت القبول على ما ذكر من
التفسير وإذا ثبت القبول على هذا التفسير:
ثبتت الصحة وإذا انتفى القبول على هذا
التفسير: انتفت الصحة.
ـــــــ
1 البخاري "6954" ومسلم "225" واللفظ للبخاري.
2 على الأصح من ثلاثين قولا والمعتمد في وفاته
قول خليفة فيما ذهب إليه ابن حجر الإصابة في
الكنى "10674.
3 الترمذي "377" وأبو داود "641" وابن ماجه
"655" من حديث عائشة وقال أبو عيسى حديث عائشة
حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم.
4 مسلم "70" من حديث جرير بن عبد الله.
5 مسلم "2230" من حديث صفية عن بعض أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم.
6 الترمذي من حديث عبد الله بن عمر في الأشربة
"1862" ولفظه: "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة
أربعين صباحا." وقال أبو عيسى هذا حديث حسن.
(1/14)
وربما قيل من
جهة بعض المتأخرين: إن القبول كون العبادة
بحيث يترتب الثواب والدرجات عليها والإجزاء
كونها مطابقة للأمر والمعنيان إذا تغايرا وكان
أحدهما أخص من الآخر: لم يلزم من نفي الأخص
نفي الأعم.
والقبول على هذا التفسير: أخص من الصحة فإن كل
مقبول صحيح وليس كل صحيح مقبولا وهذا - إن نفع
في تلك الأحاديث التي نفي عنها القبول مع بقاء
الصحة - فإنه يضر في الاستدلال بنفي القبول
على نفي الصحة كما حكينا عن الأقدمين.
اللهم إلا أن يقال: دل الدليل على كون القبول
من لوازم الصحة فإذا انتفى انتفت فيصح
الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة حينئذ
ويحتاج في تلك الأحاديث - التي نفي عنها
القبول مع بقاء الصحة - إلى تأويل أو تخريج
جواب على أنه يرد على من فسر القبول بكون
العبادة مثابا عليها أو مرضية أو ما أشبه ذلك
- إذا كان مقصوده بذلك: أن لا يلزم من نفي
القبول نفي الصحة: أن يقال: القواعد الشرعية
تقتضي: أن العبادة إذا أتى بها مطابقة للأمر
كانت سببا للثواب والدرجات والإجزاء والظواهر
في ذلك لا تنحصر.
الوجه الثاني: في تفسير معنى الحدث فقد يطلق
بإزاء معان ثلاثة.
أحدها: الخارج المخصوص الذي يذكره الفقهاء في
باب نواقض الوضوء يقولون: الأحداث كذا وكذا.
الثاني: نفس خروج ذلك الخارج.
الثالث: المنع المرتب على ذلك الخروج.
وبهذا المعنى يصح قولنا رفعت الحدث ونويت رفع
الحدث فإن كل واحد من الخارج والخروج قد وقع
وما وقع يستحيل رفعه بمعنى أن لا يكون واقعا.
وأما المنع المرتب على الخروج: فإن الشارع حكم
به ومد غايته إلى استعمال المكلف الطهور
فباستعماله يرتفع المنع فيصح قولنا رفعت الحدث
وارتفع الحدث أي ارتفع المنع الذي كان ممدودا
إلى استعمال المطهر.
وبهذا التحقيق يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع
الحدث لأنا لما بينا أن المرتفع: هو المنع من
الأمور المخصوصة وذلك المنع مرتفع بالتيمم
فالتيمم يرفع الحدث غاية ما في الباب: أن رفعه
للحدث مخصوص بوقت ما أو بحالة ما وهي عدم
الماء وليس ذلك ببدع فإن الأحكام قد تختلف
باختلاف محالها.
وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبا لكل صلاة
على ما حكوه ولا شك أنه كان.
(1/15)
رافعا للحدث في
وقت مخصوص وهو وقت الصلاة ولم يلزم من انتهائه
بانتهاء وقت الصلاة في ذلك الزمن: أن لا يكون
رافعا للحدث ثم نسخ ذلك الحكم عند الأكثرين
ونقل عن بعضهم أنه مستمر ولا نشك أنه لا يقول:
إن الوضوء لا يرفع الحدث.
نعم ههنا معنى رابع يدعيه كثير من الفقهاء وهو
أن الحدث وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء على
مقتضى الأوصاف الحسية وينزلون ذلك الحكمي
منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء فما نقول: إنه
يرفع الحدث - كالوضوء والغسل - يزيل ذلك الأمر
الحكمي فيزول المنع المرتب على ذلك الأمر
المقدر الحكمي وما نقول بأنه لا يرفع الحدث
فذلك المعنى المقدر القائم بالأعضاء حكما باق
لم يزل والمنع المرتب عليه زائل.
فبهذا الاعتبار نقول: إن التيمم لا يرفع الحدث
يمعنى أنه لم يزل ذلك الوصف الحكمي المقدر وإن
كان المنع زائلا.
وحاصل هذا: أنهم أبدوا للحدث معنى رابعا غير
ما ذكرناه من الثلاثة المعاني وجعلوه مقدرا
قائما بالأعضاء حكما كالأوصاف الحسية وهم
مطالبون بدليل شرعي يدل على إثبات هذا المعنى
الرابع الذي ادعوه مقدرا قائما بالأعضاء فإنه
منفي بالحقيقة والأصل موافقة الشرع لها ويبعد
أن يأتوا بدليل على ذلك.
وأقرب ما يذكر فيه: أن الماء مستعمل قد انتقل
إليه المانع كما يقال والمسألة متنازع فيها
فقد قال جماعة بطهورية الماء المستعمل ولو قيل
بعدم طهوريته أو بنجاسته: لم يلزم منه انتقال
مانع إليه فلا يتم الدليل والله أعلم.
الوجه الثالث: استعمل الفقهاء الحديث عاما
فيما يوجب الطهارة فإذا حمل الحديث عليه -
أعني قوله: "إذا أحدث" - جمع أنواع النواقض
على مقتضى هذا الاستعمال لكن أبو هريرة قد فسر
الحدث في بعض الأحاديث - لما سئل عنه - بأخص
من هذا الاصطلاح وهو الريح إما بصوت أو بغير
صوت فقيل له: يا أبا هريرة ما الحدث؟ فقال:
فساء أو ضراط1 ولعله قامت له قرائن حالية
اقتضت هذا التخصيص.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث على أن
الوضوء لا يجب لكل صلاة2 ووجه الاستدلال به:
أنه صلى الله عليه وسلم نفى القبول ممتدا إلى
غاية الوضوء وما بعد الغاية مخالفة لما قبلها
فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا
وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها
ثانيا.
ـــــــ
1 البخاري "135".
2 قال الحافظ في الفتح: استدل بالحديث على أن
الوضوء لا يجب لكل صلاة لأن القبول انتفى إلى
غاية الوضوء وما بعدها مخالف لما قبلها فاقتضى
ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا الحديث
"135".
(1/16)
3 - عن عبد
الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي
الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ويل 1 للأعقاب من النار" 2.
الحديث فيه دليل على وجوب تعميم الأعضاء
بالمطهر وأن ترك البعض منها غير مجزئ ونصه
إنما هو في الأعقاب وسبب التخصيص: أنه ورد على
سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى قوما
وأعقابهم تلوح والألف واللام يحتمل أن تكون
للعهد والمراد: الأعقاب التي رآها كذلك لم
يمسها الماء ويحتمل أن لا تخص بتلك الأعقاب
التي رآها كذلك وتكون الأعقاب التي صفتها هذه
الصفة أي التي لا تعمم بالمطهر ولا يجوز أن
تكون الألف واللام للعموم المطلق.
وقد ورد في بعض الروايات رآنا ونحن نمسح على
أرجلنا فقال: "ويل للأعقاب من النار" 3 فاستدل
به على أن مسح الأرجل غير مجزئ وهو عندي ليس
بجيد لأنه قد فسر في الرواية الأخرى أن
الأعقاب كانت تلوح لم يمسها الماء ولا شك أن
هذا موجب للوعيد بالاتفاق.
والذين استدلوا على أن المسح غير مجزئ إنما
اعتبروا لفظ هذه الرواية فقط وقد رتب فيها
الوعيد على مسمى المسح وليس فيها ترك بعض
العضو والصواب - إذا جمعت طرق الحديث -: أن
يستدل بعضها على بعض ويجمع ما يمكن جمعه فيه
يظهر المراد والله أعلم.
ويستدل بالحديث على أن العقب محل للتطهير
فيبطل قول من يكتفي بالتطهير فيما دون ذلك.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم
فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر ومن استجمر
فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه
قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا
يدري أين باتت يده" 4.
وفي لفظ لمسلم: "فليستنشق بمنخريه من الماء"
5.
وفي لفظ: "من توضأ فليستنشق" 6.
ـــــــ
1 قال ابن الأثير: الويل الحزن والهلاك
والمشقة من العذاب وكل من وقع في هلكة دعا
بالويل النهاية: ويل.
2 البخاري "60" ومسلم "240".
3 أبو داود "97" والترمذي "41" وابن ماجه "97"
من حديث عبد الله بن عمرو وقال أبو عيسى وفقه
هذا الحديث أنه لا يجوز المسح على القدمين إذا
لم يكن عليهما خفان أو جوربان.
4 البخاري "162" ومسلم "278" وهذا لفظ البخاري
عدا: "في الإناء ثلاثا".
5 مسلم "237" "21".
6 الدارقطني "272".
(1/17)
فيه مسائل:
الأولى: في هذه الرواية: "فليجعل في أنفه" ولم
يقل ماء وهو مبين في غيرها وتركه لدلالة
الكلام عليه.
الثانية: تمسك به من يرى وجوب الاستنشاق وهو
مذهب أحمد ومذهب الشافعي ومالك: عدم الوجوب
وحملا الأمر على الندب بدلالة ما جاء في
الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:
"توضأ كما أمرك الله" 1 فأحاله على الآية وليس
فيها ذكر الاستنشاق.
الثالثة: المعروف أن الاستنشاق جذب الماء إلى
الأنف2 والاستنثار دفعه للخروج ومن الناس من
جعل الاستنثار لفظا يدل على الاستنشاق الذي هو
الجذب وأخذه من النثرة وهي طرف الأنف3
والاستفعال منها يدخل تحته الجذب والدفع معا
والصحيح: هو الأول لأنه قد جمع بينهما في حديث
واحد يقتضي التغاير.
الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن
استجمر فليوتر" الظاهر: أن المراد به: استعمال
الأحجار في الاستطابة وإيتار فيها بالثلاث
واجب عند الشافعي فإن الواجب عنده - رحمه الله
- في الاستجمار أمران: أحدهما: إزالة العين
والثاني: استيفاء ثلاث مسحات وظاهر الأمر
الوجوب لكن هذا الحديث لا يدل على الإيثار
بالثلاث فيؤخذ من حديث آخر4.
وقد حمل بعض الناس الاستجمار على استعمال
البخور للتطيب فإنه يقال فيه: تجمر واستجمر
فبكون الأمر للندب على هذا والظاهر: هو الأول
أعني أن المراد: هو استعمال الأحجار.
الخامسة: ذهب بعضهم إلى وجوب غسل اليدين قبل
إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء عند
الاستيقاظ من النوم لظاهر الأمر ولا يفرق
هؤلاء بين نوم الليل والنهار لإطلاق قوله صلى
الله عليه وسلم: "إذا استيقظ من نومه".
وذهب أحمد إلى وجوب ذلك من نوم الليل دون نوم
النهار لقوله صلى الله عليه وسلم: "أين باتت
يده؟" والمبيت يكون بالليل.
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه الترمذي من حديث رفاعة بن
رافع "302" وأبو داود "861" وقال أبو عيسى
حديث رفاعة بن رافع حديث حسن.
2 مختار الصحاح نشق.
3 القاموس نثر.
4 هو ما أخرجه مسلم من حديث سليمان "262" قيل
له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء
حتى الخراءة؟ قال: فقال: أجل لقد نهانا أن
نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي
باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو
أن نستنجي برجيع أو بعظم.
(1/18)
وذهب غيرهم إلى
عدم الوجوب مطلقا وهو مذهب مالك والشافعي
والأمر محمول على الندب.
واستدل على ذلك بوجهين أحدهما: ما ذكرناه من
حديث الأعرابي والثاني: أن الأمر - وإن كان
ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظواهر
لقرينة ودليلة وقد دل الدليل وقامت القرينة
ههنا فإنه صلى الله عليه وسلم علل بأمر يقتضي
الشك وهو قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده؟"
والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوبا في
الحكم إذا كان الأصل المستصحب على خلافه
موجودا والأصل: الطهارة في اليد فلتستصحب.
وفيه احتراز عن مسألة الصيد.
السادسة: قيل: إن سبب هذا الأمر: أنهم كانوا
يستنجون بالأحجار فربما وقعت اليد على المحل
وهو عرق فتنجست فإذ وضعت في الماء نجسته لأن
الماء المذكور في الحديث: هو ما يكون في
الأواني التي يتوضأ منها والغالب عليها القلة
وقيل: إن الإنسان لا يخلو من حك بثرة1 في جسمه
أو مصادفة حيوان ذي دم فيقتله فيتعلق دمه
بيده2.
السابعة: الذين ذهبوا إلى أن الأمر للاستحباب:
استحبوا غسل اليد قبل إدخالها في الإناء في
ابتداء الوضوء مطلقان سواء قام من النوم أم لا
ولهم فيه مأخذان أحدهما: أن ذلك: وارد في صفة
وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعرض
لسبق نوم والثاني: أن المعنى الذي علل به في
الحديث - وهو جولان اليد موجود في حال اليقظة
فيعم الحكم لعموم علته.
الثامنة: فرق أصحاب الشافعي أو من فرق منهم
بين حال المستيقظ من النوم وغير المستيقظ
فقالوا في المستيقظ من النوم: يكره أن يغمس
يده في الإناء قبل غسلها ثلاثا وفي غير
المستيقظ من النوم: يستحب له غسلها قبل
إدخالها في الإناء.
وليعلم الفرق بين قولنا يستحب فعل كذا وبين
قولنا يكره تركه فلا تلازم بينهما: فقد يكون
الشيء مستحب الفعل ولا يكون مكروه الترك كصلاة
الضحى مثلا وكثير من النوافل.
فغسلها لغير المستيقظ من النوم قبل إدخالها
الإناء: من المستحبات وترك غسلها للمستيقظ من
النوم: من المكروهات وقد وردت صيغة النهي عن
إدخالها في الإناء قبل الغسل في حق المستيقظ
من النوم وذلك يقتضي الكراهة على أقل الدرجات
وهذه التفرقة هي الأظهر.
التاسعة: استنبط من هذا الحديث: الفرق بين
ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على
الماء ووجه ذلك: أنه قد نهى عن إدخالها في
الإناء قبل غسلها لاحتمال النجاسة وذلك.
ـــــــ
1 البثر حراج صغار مختار الصحاح بثر.
2 ولعل الأمر بغسل اليد أيضا إنما هو لأمر
معنوي فقد بين في حديث: "فإن أحدكم يبيت
الشيطان على يده" أفاد الشيخ شاكر.
(1/19)
يقتضي: أن ورود
النجاسة على الماء مؤثر فيه وأمر بغسلها
بإفراغ الماء عليها للتطهير وذلك يقتضي: أن
ملاقاتها للماء على هذا الوجه غير مفسد له
بمجرد الملاقاة وإلا لما حصل المقصود من
التطهير.
العاشرة: أستنبط منه: أن الماء القليل ينجس
بوقوع النجاسة فيه فإنه منع من إدخال اليد فيه
لاحتمال النجاسة وذلك دليل على أن تيقنها مؤثر
فيه وإلا لما اقتضى احتمال النجاسة المنع.
وفيه نظر عندي لأن مقتضى الحديث: أن ورود
النجاسة على الماء مؤثر فيه ومطلق التأثير أعم
من التأثير بالتنجيس.
ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين
فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة
فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثير فلا
يلزم منه ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس.
وقد يورد عليه: أن الكراهة ثابتة عند التوهم
فلا يكون أثر اليقين هو الكراهة.
ويجاب عنه: بأنه ثبت عند اليقين زيادة في رتبة
الكراهة والله أعلم.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في
الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" 1.
و لمسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو
جنب" 2.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: الماء الدائم هو الراكد3 وقوله: "الذي
لا يجري" تأكيدا لمعنى الدائم.
وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على
تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قلتين فإن
الصيغة صيغة عموم.
وأصحاب الشافعي: يخصون هذا العموم ويحملون
النهي على ما دون القلتين ويقولون بعدم تنجيس
القلتين - فما زاد - إلا بالتغير: مأخوذ من
حديث القلتين4 فيحمل هذا الحديث.
ـــــــ
1 البخاري "239" ومسلم "282" واللفظ للبخاري.
2 مسلم "283".
3 والساكن مختار الصحاح دوم.
4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان
الماء قلتين لم يحمل الخبث" وفي رواية "لم
ينجس" أخرجه أبو داود "63" "64" "65" والترمذي
"67" وابن ماجه "517" والنسائي "52".
(1/20)
العام في النهي
على ما دون القلتين جمعا بين الحديثين فإن
حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما
فوقهما وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي
ذكرناه والخاص مقدم على العام.
ولأحمد طريقة أخرى: وهي الفرق بين بول الآدمي
وما في معناه من عذرته المائعة وغير ذلك من
النجاسات.
فأما بول الآدمي وما في معناه: فينجس الماء
وإن كان أكثر من قلتين وأما غيره من النجاسات:
فتعتبر فيه القلتان وكأنه رأى الخبث المذكور
في حديث القلتين عام بالنسبة إلى الأنجاس وهذا
الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي فيقدم
الخاص على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة
في الماء الكثير ويخرج بول الآدمي وما في
معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين
بخصوصه فينجس الماء دون غيره من النجاسات
ويلحق بالبول المنصوص عليه: ما يعلم أنه في
معناه.
واعلم: أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن
ظاهره بالتخصيص أو التقييد لأن الاتفاق واقع
على أن الماء المستبحر الكثير جدا: لا تؤثر
فيه النجاسة والاتفاق واقع على أن الماء إذا
غيرته النجاسة: امتنع استعماله.
فمالك - رحمه الله - إذا حمل النهي على
الكراهة - لاعتقاده أن الماء لا ينجس بالتغير
- لا بد أن يخرج عنه صورة التغير بالنجاسة
أعني عن الحكم بالكراهية فإن الحكم ثم:
التحريم فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند
الكل.
فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا: خرج عنه
المستبحر الكثير جدا بالاجماع فيبقى ما عداه
على حكم النص فيدخل تحته ما زاد على القلتين.
ويقول أصحاب الشافعي: خرج الكثير المستبحر
بالإجماع الذي ذكرتموه وخرج القلتان فما زاد
بمقتضى حديث القلتين فيبقى ما نقص عن القلتين
داخلا تحت مقتضى الحديث.
ويقول من نصر قول أحمد المذكور: خرج ما
ذكرتموه وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص
إلا أن ما زاد على القلتين مقتضى حديث القلتين
فيه عام في الأنجاس فيخص ببول الآدمي.
ولمخالفهم أن يقول: قد علمنا جزما أن هذا
النهي إنما هو لمعنى في النجاسة وعدم التقرب
إلى الله بما خالطها وهذا المعنى يستوي فيه
سائر الأنجاس ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها
بالنسبة إلى هذا المعنى فإن المناسب لهذا
المعنى - أعني التنزه عن الأقذار - أن يكون ما
هو أشد استقذارا أوقع في هذا المعنى وأنسب له
وليس بول الآدمي بأقذر من سائر النجاسات بل قد
يساويه غيره أو يرجح عليه فلا يبقى لتخصيصه
دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى فيحمل.
(1/21)
الحديث على أن
ذكر البول ورد تنبيها على غيره مما يشاركه في
معناه من الاستقذار والوقوف على مجرد الظاهر
ههنا - مع وضوح المعنى وشموله لسائر النجاسات
- ظاهرية محضة.
وأما مالك رحمه الله تعالى: فإذا حمل النهي
على الكراهية يستمر حكم الحديث في القليل
والكثير غير المستثني بالاتفاق: "وهو
المستبحر" مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال
بعد تغير الماء بالبول فهذا يلتفت إلى حمل
اللفظ الواحد إلى معنيين مختلفين وهي مسألة
أصولية فإن جعلنا النهي للتحريم: كان استعماله
في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في
حقيقته ومجازه والأكثرون على منعه والله أعلم.
"وقد يقال على هذا: إن حالة التغير مأخوذة من
غير هذا اللفظ فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد
في معنيين مختلفين وهذا متجه إلا أنه يلزم منه
التخصيص في هذا الحديث والمخصص: الإجماع على
نجاسة المتغير".
الوجه الثاني: اعلم أن النهي عن الاغتسال لا
يخص الغسل بل التوضؤ في معناه وقد ورد مصرحا
به في بعض الروايات1: "لا يبولن أحدكم في
الماء الدائم ثم يتوضأ منه" ولو لم يرد لكان
معلوما قطعا لاستواء الوضوء والغسل في هذا
الحكم لفهم المعنى الذي ذكرناه وأن المقصود:
التنزه عن التقرب إلى الله سبحانه
بالمستقذرات.
الثالث: ورد في بعض الروايات: "ثم يغتسل منه"
وفي بعضها: "ثم يغتسل فيه" ومعناهما مختلف
يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر
بطريق الاستنباط ولو لم يرد فيه لفظة فيه
لاستويا لما ذكرنا.
الرابع: مما يعلم بطلانه قطعا: ما ذهبت إليه
الظاهرية الجامدة: من أن الحكم مخصوص بالبول
في الماء حتى لو بال في كوز وصبه في الماء: لم
يضر عندهم أو لو بال خارج الماء فجرى البول
إلى الماء: لم يضر عندهم أيضا والعلم القطعي
حاصل ببطلان قولهم لاستواء الأمرين في الحصول
في الماء وأن المقصود: اجتناب ما وقعت فيه
النجاسة من الماء وليس هذا من مجال الظنون بل
هو مقطوع به.
وأما الرواية الثانية: وهي قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو
جنب" فقد استدل به على مسألة المستعمل وأن
الاغتسال في الماء يفسده لأن النهى وارد ههنا
على مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده
وهي خروجه عن كونه أهلا للتطهير به: إما
لنجاسته أو لعدم طهوريته ومع هذا فلا بد فيه
من التخصيص فإن الماء الكثير - إما القلتان
فما زاد على مذهب الشافعي أو المستبحر على
مذهب أبي حنيفة - لا يؤثر فيه الاستعمال.
ـــــــ
1 ابن خزيمة في صحيحه "73" بزيادة "أو يشرب".
(1/22)
ومالك لما رأى
أن الماء المستعمل طهور غير أنه مكروه: يحمل
هذا النهي على الكراهة.
وقد يرجحه: أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص
بالتطهير والحديث عام في النهى فإذا حمل على
التحريم لمفسدة خروج الماء عن الطهورية: لم
يناسب ذلك لأن بعض مصالح الماء تبقى بعد كونه
خارجا عن الطهورية وإذا حمل على الكراهة: كانت
المفسدة عامة لأنه يستقذر بعد الاغتسال فيه
وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في
طهارة أو شرب فيستمر النهي بالنسبة إلى
المفاسد المتوقعة إلا أن فيه حمل اللفظ على
المجاز أعني حمل النهى على الكراهة فإنه حقيقة
في التحريم.
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في
إناء أحدكم فليغسله سبعا" 1 ولمسلم: "أولاهن
بالتراب" 2.
7 - وله في حديث عبد الله بن مغفل: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب
في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة
بالتراب" 3.
فيه مسائل:
الأولى: الأمر بالغسل ظاهر في تنجيس الإناء
وأقوى من هذا الحديث في الدلالة على ذلك:
الرواية الصحيحة وهي قوله صلى الله عليه وسلم:
"طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه لكلب: أن يغسل
سبعا" فإن لفظة: "طهور" تستعمل إما عن الحدث
أو عن الخبث ولاحدث على الإناء بالضرورة فتعين
الخبث.
وحمل مالك هذا الأمر على التعبد لاعتقاده
طهارة الماء والإناء وربما رجحه أصحابه بذكر
هذا العدد المخصوص وهو السبع لأنه لو كان
للنجاسة: لاكتفى بما دون السبع فإنه لا يكون
أغلظ من نجاسة العذرة4 وقد اكتفى فيها بما دون
السبع والحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار
الحكم بين كونه تعبدا أو معقول المعنى كان
حمله على كونه معقول المعنى أولى لندرة التعبد
بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى.
وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة
فممنوع عند القائل بنجاسته نعم ليس بأقذر من
نجاسة العذرة ولكن لا يتوقف التغليظ على زيادة
الاستقذار.
ـــــــ
1 البخاري "172" ومسلم "279" ولفظهما "سبع
مرات".
2 مسلم "279" "91".
3 مسلم "280" "93" ولفظه "في التراب" ولغ يلغ
ولغا وولوغا وأكثر ما يكون الولوغ في السباع
النهاية ولغ.
4 العذرة: الغائط.
(1/23)
وأيضا فإذا كان
أصل المعنى معقولا قلنا به وإذا وقع في
التفاصيل ما لم يعقل معناه في التفصيل لم ينقص
لأجله التأصيل ولذلك نظائر في الشريعة فلو لم
تظهر زيادة التغليظ في النجاسة لكنا نقتصر في
التعبد على العدد ونمشي في أصل المعنى على
معقولية المعنى1.
المسألة الثانية: إذا ظهر أن الأمر بالغسل
للنجاسة: فقد استدل بذلك على نجاسة عين الكلب
ولهم في ذلك طريقان:
أحدهما: أنه إذا ثبتت نجاسة فمه من نجاسة
لعابه فإنه جزء من فمه وفمه أشرف ما فيه فبقية
بدنه أولى.
الثاني: إذا كان لعابه نجسا - وهو عرق فمه -
ففمه نجس والعرق جزء متحلب من البدن فجميع
عرقه نجس فجميع بدنه نجس لما ذكرناه من أن
العرق جزء من البدن.
فتبين بهذا: أن الحديث إنما دل على النجاسة
فيما يتعلق بالفم وأن نجاسة بقية البدن بطريق
الاستنباط.
وفيه بحث وهو أن يقال: إن الحديث إنما دل على
نجاسة الإناء الولوغ وذلك قدر مشترك بين نجاسة
عين اللعاب وعين الفم أو تنجسهما باستعمال
النجاسة غالبا والدال على المشترك لا يدل على
أحد الخاصين فلا يدل الحديث على نجاسة عين
الفم أو عين اللعاب فلا تستقيم الدلالة على
نجاسة عين الكلب كله.
وقد يعترض على هذا بأن يقال: لو كانت العلة
تنجيس الفم أو اللعاب - كما أشرتم إليه - لزم
أحد أمرين وهو إما وقوع التخصيص في العموم أو
ثبوت الحكم بدون علته: لأنا إذا فرضنا تطهير
فم الكلب بماء كثير أو بأي وجه كان فولغ في
الإناء: فإما أن يثبت وجوب غسله أو لا فإن لم
يثبت وجب تخصيص العموم وإن ثبت لزم ثبوت الحكم
بدون علته وكلاهما على خلاف الأصل.
ـــــــ
1 قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في الإحكام
"1/75" قد ظهر من البحوث الطبية الحديثة: أن
وجه غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب هو: أن في
أمعاء الكلاب دودة شريطية صغيرة جدا طولها 4
مليمترات فإذا راث الكلب خرجت بويضاتها بكثرة
في الرؤث فيلصق كثير منها بالشعر الذي بالقرب
من دبره وعادة الكلب أن ينظف مخرجه بلسانه –
فيتلوث لسانه وفمه بها وتنتشر في بقية شعره
بواسطة لسانه أو غيره فإذا ولغ الكلب في إناء
أو قبله إنسان – كما يفعله الإفرنج ومقلدوهم –
علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء وسهل
وصولها إلى فمه في أثناء أكله أو شربه فتصل
إلى معدته وتخرج منها الأجنة فتثقب جدار
المعدة والأمعاء وتصل إلى أوعية الدم فتحدث
أمراضا كثيرة في المخ والقلب والرئة إلى غير
ذلك ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة
عسيرا جدا لأنه يحتاج إلى زمن طويل وبحث دقيق
بالآلة التي لا يعرف استعمالها إلا القليل من
الناس كان اعتبار الشارع إياه موبوءا والغسل
من ولوغه سبع مرات إنقاء للإناء بحيث لا يعلق
فيه شيء مما ذكرناه هو عين الحكمة والصواب
والله أعلم.
(1/24)
والذي يمكن أن
يجاب به عن هذا السؤال أن يقال: الحكم منوط
بالغالب وما ذكرتموه من الصور نادر لا يلتفت
إليه وهذا البحث إذا انتهى إلى هنا يقوي قول
من يرى أن الغسل لأجل قذارة الكلب.
المسألة الثالثة: الحديث نص في اعتبار السبع
في عدد الغسلات وهو حجة على أبي حنيفة في
قوله: يغسل ثلاثا.
المسألة الرابعة: في رواية ابن سيرين زيادة:
"التراب" وقال بها الشافعي وأصحاب الحديث
وليست في رواية مالك هذه الزيادة: فلم يقل بها
والزيادة من الثقة مقبولة وقال بها غيره.
المسألة الخامسة: اختلفت الروايات في غسلة
الترتيب ففي بعضها: "أولاهن" وفي بعضها:
"أخراهن" وفي بعضها: "إحداهن" والمقصود عند
الشافعي وأصحابه: حصول الترتيب في مرة من
المرات1 وقد يرجح كونه في الأولى: بأنه إذا
ترب أولا فعلى تقدير أن يلحق بعض المواضع
الطاهرة رشاش بعض الغسلات لا يحتاج إلى تتريبه
وإذا أخرت غسلة التتريب فلحق رشاش ما قبلها
بعض المواضع الطاهرة: احتيج إلى تتريبه فكانت
الأولى أرفق بالمكلف فكانت أولى.
المسألة السادسة: الرواية التي فيها: "و عفروه
الثامنة بالتراب" تقتضي زيادة مرة ثامنة ظاهرا
وبه قال الحسن البصري وقيل: لم يقل به غيره
ولعله المراد بذلك من المتقدمين2.
والحديث قوي فيه ومن لم يقل به: احتاج إلى
تأويله بوجه فيه استكراه.
المسألة السابعة: قوله صلى الله عليه وسلم:
"فاغسلوه سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب" قد
يدل لما قاله بعض أصحاب الشافعي: إنه لا يكتفي
بذر التراب على المحل بل لا بد أن يجعله في
الماء ويوصله إلى المحل.
ووجه الاستدلال: أنه جعل مرة التتريب داخله في
قسم مسمى الغسلات وذر التراب على المحل لا
يسمى غسلا وهذا ممكن وفيه احتمال لأنه إذا ذر
التراب على المحل وأتبعه بالماء يصح أن يقال:
غسل بالتراب ولا بد من مثل هذا في أمره صلى
الله عليه وسلم في غسل الميت بماء.
ـــــــ
1 قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم "1/463"
وفيها دليل على أن التقيد بالأولى وبغيرها ليس
على الاشتراط بل المراد إحداهن وأما رواية:
"وعفروه الثامنة بالتراب" فمذهبنا ومذهب
الجماهير أن المراد: اغسلوه سبعا واحدة منهن
بالتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسله
فسميت ثامنة لهذا والله أعلم.
2 قال به الإمام أحمد بن حنبل ففي المغني: وعن
أحمد أنه يجب غسلها ثمانيا إحداهن بالتراب روي
ذلك عن الحسن لحديث عبد الله بن المغفل.المغني
"1/64" قال الحافظ ابن حجر وبه قال أحمد بن
حنبل في رواية الكرماني عنه .والأخذ بحديث ابن
مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس
والزيادة من الثقة مقبولة فتح الباري "172".
(1/25)
وسدر عند من
يرى أن الماء المتغير بالطاهر غير طهور إن جرى
على ظاهر الحديث في الاكتفاء بغسلة واحدة
لأنها تحصل مسمى الغسل. وهذا جيد".
إلا أن قوله: "وعفروه" قد يشعر بالاكتفاء
بالتتريب بطريق ذر التراب على المحل فإن كان
خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرا لغة فقد ثبت
ما قالوه ولكن لفظة: "التعفير" حينئذ تنطلق
على ذر التراب على المحل وعلى إيصاله بالماء
إليه والحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة
إذ دل على خلطه بالماء وإيصاله إلى المحل به
فذلك أمر زائد على مطلق التعفير على التقدير
الذي ذكرناه من شمول اسم: "التعفير" للصورتين
معا أعني ذر التراب وإيصاله بالماء.
المسألة الثامنة: الحديث عام في جميع الكلاب
وفي مذهب مالك: قول بتخصيصه بالمنهي عن اتخاذه
والأقرب: العموم لأن الألف واللام إذا لم يقم
دليل على صرفها إلى المعهود المعين فالظاهر
كونها للعموم ومن يرى الخصوص قد يأخذه من
قرينة تصرف العموم عن ظاهرة فإنهم نهوا عن
اتخاذ الكلاب إلا لوجوه مخصوصة والأمر بالغسل
مع المخالطة عقوبة يناسبها الاختصاص بمن ارتكب
النهي في اتخاذ ما منع من اتخاذه وأما من اتخذ
ما أبيح له اتخاذه فإيجاب الغسل عليه مع
المخالطة عسر وحرج ولا يناسبه الإذن والإباحة
في الاتخاذ وهذا يتوقف على أن تكون هذه
القرينة موجودة عند النهي.
المسألة التاسعة: "الإناء" عام بالنسبة إلى كل
إناء والأمر بغسله للنجاسة إذا ثبت ذلك يقتضي
تنجيس ما فيه فيقتضي المنع من استعماله.
وفي مذهب مالك قول أن ذلك يختص بالماء وأن
الطعام الذي ولغ فيه الكلب لا يراق ولا يجتنب
وقد ورد الأمر بالإراقة مطلقا في بعض الروايات
الصحيحة1.
المسألة العاشرة: ظاهر الأمر الوجوب وفي مذهب
مالك قول: إنه للندب وكأنه لما اعتقد طهارة
الكلب - بالدليل الذي دله على ذلك - جعل ذلك
قرينة صارفة للأمر عن ظاهره من الوجوب إلى
الندب والأمر قد يصرف عن ظاهره بالدليل.
المسألة الحادية عشرة: قوله: "بالتراب" يقتضي
تعينه وفي مذهب الشافعي قول - أو وجه2 - إن
الصابون والأشنان والغسلة الثامنة تقوم مقام
التراب بناء على أن المقصود بالتراب: زيادة
التنظيف وأن الصابون والأشنان يقومان مقامه في
ذلك وهذا عندنا ضعيف لأن النص إذا ورد بشيء
معين واحتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز
إلغاء النص.
ـــــــ
1 هي رواية مسلم من حديث أبي هريرة "279"
ولفظه: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه
ثم ليغسله سبع مرار".
2 القول للإمام والوجه للأصحاب.
(1/26)
واطراح خصوص
المعين فيه والأمر بالتراب - وإن كان محتملا
لما ذكروه وهو زيادة التنظيف - فلا نجزم
بتعيين ذلك المعنى فإنه يزاحمه معنى آخر وهو
الجمع بين مطهرين أعني الماء والتراب وهذا
المعنى مفقود في الصابون والأشنان.
وأيضا فإن هذه المعاني المستنبطة إذا لم يكن
فيها سوى مجرد المناسبة فليست بذلك الأمر
القوي فإذا وقعت فيها الاحتمالات فالصواب
اتباع النص.
وأيضا فإن المعنى المستنبط إذا عاد على النص
بإبطال أو تخصيص: مردود عند جمع من الأصوليين.
8 - عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله
عنهما: أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على
يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل
يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم
غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم
مسح برأسه ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ثم قال:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو
وضوئي هذا وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم
صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم
من ذنبه" 1.
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف يجتمع مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في عبد مناف أسلم قديما وهاجر
الهجرتين وتزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وولي الخلافة بعد عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وقتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلون من ذي
الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ومولاه حمران
بن أبان بن خالد كان من سبي عين النمر ثم تحول
إلى البصرة احتج به الجماعة وكان كبيرا.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: الوَضوء بفتح الواو: اسم للماء وبضمها:
اسم للفعل على الأكثر2 وإذا كان بفتح الواو
اسما للماء - كما ذكرناه - فهل هو اسم لمطلق
الماء أو للماء بقيد كونه متوضئا به أو معدا
للوضوء به؟ فيه نظر يحتاج إلى كشف.
وينبني عليه فائدة فقهية وهو أنه في بعض
الأحاديث التي استدل بها على أن الماء
المستعمل طاهر: قول جابر: "فصب علي من وضوئه"3
فإنا إن جعلنا الوضوء إسما لمطلق الماء لم يكن
في.
ـــــــ
1 البخاري "164" ومسلم "226".
2 راجع القاموس وضأ.
3 البخاري "194" ومسلم "1616".
(1/27)
قوله: "فصب علي
من وضوئه" دليل على طهارةالماء المستعمل لأنه
يصير التقدير: فصب علي من مائه ولا يلزم أن
يكون ماؤه هو الذي استعمل في أعضائه لأنا
نتكلم على أن الوضوء اسم لمطلق الماء وإذا لم
يلزم ذلك: جاز أن يكون المراد بوضوئه: فضلة
مائه الذي توضأ ببعضه لا ما استعمله في أعضائه
فلا يبقى فيه دليل من جهة اللفظ على ما ذكر من
طهارة الماء المستعمل.
وإن جعلنا الوضوء بالفتح: الماء مقيدا
بالإضافة إلى الوضوء - بالضم - أعني استعماله
في الأعضاء أو إعداده لذلك: فها هنا يمكن أن
يقال: فيه دليل لأن وضوءه بالفتح متردد بين
مائه المعد للوضوء بالضم وبين مائه المستعمل
في الوضوء وحمله على الثاني أولى.
لأنه الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة واستعماله
بمعنى المعد مجاز والحمل على الحقيقة أو
الأقرب إلى الحقيقة أولى.
الثاني: قوله: "فأفرغ على يديه" فيه استحباب
غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء
الوضوء مطلقا والحديث الذي مضى يفيد استحبابه
عند القيام من النوم وقد ذكرنا الفرق بين
الحكمين وأن الحكم عند عدم القيام: الاستحباب
وعند القيام: الكراهية لإدخالهما في الإناء
قبل غسلهما.
الثالث: قوله: "على يديه" يؤخذ منه: الإفراغ
عليهما معا وقد تبين في رواية أخرى: "أنه أفرغ
بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما".
قوله: "غسلهما" قدر مشترك بين كونه غسلهما
مجموعتين أو مفترقتين والفقهاء اختلفوا أيهم
أفضل؟؟.
الرابع: قوله: "ثلاث مرات" مبين لما أهمل من
ذكر العدد في حديث أبي الزناد عن الأعرج عن
أبي هريرة المتقدم الذكر في قوله: "إذا استيقظ
أحدكم" من رواية مالك وغيره وقد ورد في حديث
أبي هريرة أيضا: ذكر العدد في الصحيح وقد ذكر
صاحب هذا الكتاب.
الخامس: قوله: "ثم تمضمض" مقتض للترتيب بين
غسل اليدين والمضمضة وأصل هذه اللفظة: مشعر
بالتحريك ومنه: مضمض النعاس في عينيه واستعملت
في هذه السنة - أعني: المضمضة في الوضوء -
لتحريك الماء في الفم.
وقال بعض الفقهاء: المضمضة: أن يجعل الماء في
فيه ثم يمجه - هذا أو معناه - فأدخل المج في
حقيقة المضمضة فعلى هذا: لو ابتلعه لم يكن
مؤديا للسنة وهذا الذي يكثر في أفعال
المتوضئين. أعني: الجعل والمج" ويمكن أن يكون
ذكر ذلك بناء على أن الأغلب والعادة لا أنه
يتوقف تأدي السنة على مجه والله أعلم.
السادس: قوله: "ثم غسل وجهه" دليل على الترتيب
بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق وتأخره
عنهما فيؤخذ منه الترتيب بين المفروض
والمسنون.
(1/28)
وقد قيل في
حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه
المفروض: إن صفات الماء ثلاث - أعني المعتبرة
في التطهير - لون يدرك بالبصر وطعم يدرك
بالذوق وريح يدرك بالشم فقدمت هاتان السنتان
ليختبر حال الماء قبل أداء الفرض به وبعض
الفقهاء رأى الترتيب بين المفروضات ولم يره
بين المفروض والمسنون كما بين المفروضات.
و الوجه مشتق من المواجهة1 وقد اعتبر الفقهاء
هذا الاشتقاق وبنوا عليه أحكاما.
وقوله: "ثلاثا" يفيد استحباب هذا العدد في كل
ما ذكر فيه.
السابع: قوله: "ويديه إلى المرفقين" المرفق
فيه وجهان أحدهما: بفتح الميم وكسر الفاء
والثاني: عكسه لغتان.
وقوله: "إلى المرفقين" ليس فيه إفصاح بكونه
أدخلهما في الغسل أو انتهى إليهما والفقهاء
اختلفوا في وجوب إدخالهما في الغسل فمذهب مالك
والشافعي: الوجوب وخالف زفر وغيره.
ومنشأ الاختلاف فيه: أن كلمة "إلى" المشهور
فيها: أنها لانتهاء الغاية وقد ترد بمعنى مع
فمن الناس من حملها على مشهورها فلم يوجب
إدخال المرفقين في الغسل ومنهم من حملها على
معنى "مع" فأوجب إدخالها.
وقال بعض الناس: يفرق بين أن تكون الغاية من
جنس ما قبلها أولا فإن كانت من الجنس دخلت كما
في آية الوضوء2 وإن كانت من غير الجنس لم تدخل
كما في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
وقال غيره: إنما دخل المرفقان ههنا لأن "إلى"
ههنا غاية للإخراج لا للإدخال فإن اسم اليد
ينطلق على العضو إلى المنكب فلو لم ترد هذه
الغاية لوجب غسل اليد إلى المنكب فلما دخلت:
أخرجت عن الغسل ما زاد على المرفق فانتهى
الإخراج إلى المرفق فدخل في الغسل.
وقال آخرون: لما تردد لفظ "إلى" بين أن تكون
للغاية وبين أن تكون بمعنى "مع" وجاء فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه أدار الماء على
مرفقيه كان ذلك بيانا للمجمل وأفعال الرسول
صلى الله عليه وسلم في بيان الواجب المجمل
محمولة على الوجوب وهذا عندنا ضعيف لأن "إلى"
حقيقة في انتهاء الغاية مجاز بمعنى "مع" ولا
إجمال في اللفظ بعد تبين حقيقته.
ـــــــ
1 انظر القاموس وجه.
2: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}
[المائدة: 6]
(1/29)
ويدل على أنها
حقيقة في انتهاء الغاية: كثرة نصوص أهل
العربية على ذلك ومن قال: أنها بمعنى مع فلم
ينص على أنها حقيقة في ذلك فيجوز يريد المجاز.
الثامن: قوله: "ثم مسح رأسه" ظاهره: استيعاب
الرأس بالمسح لأن اسم الرأس حقيقة في العضو
كله.
والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح
وليس في الحديث ما يدل على الوجوب لأنه في
آخره: إنما ذكر ترتيب ثواب مخصوص على هذه
الأفعال وليس يلزم من ذلك عدم الصحة عند عدم
كل جزء من تلك الأفعال فجاز أن يكون ذلك
الثواب مرتبا على إكمال مسح الرأس وإن لم يكن
واجبا إكماله كما يترتب على المضمضة
والاستنشاق وإن لم يكونا واجبين عند كثير من
الفقهاء أو الأكثرين منهم.
فإن سلك سالك ما قدمناه في المرفقين - من
ادعاء الإجمال في الآية وأن الفعل بيان له -
فليس بصحيح لأن الظاهر من الآية: مبين إما على
أن يكون المراد: مطلق المسح على ما يراه
الشافعي بناء على أن مقتضى الباء في الآية
التبعيض: "أو غير ذلك" أو على أن المراد: الكل
على ماقاله مالك بناء على أن اسم الرأس حقيقة
في الجملة وأن الباء لا تعارض ذلك وكيفما كان:
فلا إجمال.
التاسع: قوله: "ثم غسل كلتا رجليه" صريح في
الرد على الروافض في أن واجب الرجلين: المسح
وقد تبين هذا من حديث عثمان وجماعة وصفوا وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أحسن ما جاء في: حديث عمرو بن عبسة - بفتح
العين والباء - أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "ما منكم من أحد يقرب وضوءه" إلى أن
قال: "ثم يغسل رجليه كما أمره الله عز وجل"1
فمن هذا الحديث: انضم القول إلى الفعل وتبين
أن المأمور به: الغسل في الرجلين.
العاشر: قوله: "ثلاثا" يدل على استحباب
التكرار في غسل الرجلين ثلاثا وبعض الفقهاء لا
يرى هذا العدد في الرجل كما في غيرها من
الأعضاء وقد ورد في بعض الروايات:2 "فغسل
رجليه حتى أنقاهما" ولم يذكر عددا فاستدل به
لهذا المذهب وأكد من جهة المعنى: بأن الرجل
لقربها من الأرض في المشي عليها يكثر فيها
الأوساخ والأدران فيحال الأمر فيها على مجرد
الإنقاء من غير اعتبار العدد والرواية التي
ذكر فيها العدد: زائدة على الرواية التي لم
يذكر فيها فالأخذ بها متعين والمعنى المذكور
لا ينافي اعتبار العدد فليعمل بما دل عليه لفظ
مثل.
ـــــــ
1 فطعة من حديث طويل رواه مسلم إسلام عمرو بن
عبسنة "832" وفيه "ما منكم رجل...".
2 مسلم "236" "وغسل.".
(1/30)
الحادي عشر:
قوله: "نحو وضوئي هذا" لفظة: "نحو" لا تطابق
لفظة مثل فإن لفظة مثل يقتضي ظاهرها المساواة
من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير
بين الحقيقتين بحيث يخرجهما عن الوحدة ولفظ
"نحو" لا تعطي ذلك ولعلها استعملت بمعنى المثل
مجازا أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا
مالا يقدح في المقصود يظهر في الفعل المخصوص:
أن فيه أشياء ملغاة عن الاعتبار في المقصود من
الفعل: فإذا تركت هذه الأشياء لم يكن الفعل
مماثلا حقيقة لذلك الفعل ولم يقدح تركها في
المقصود منه وهو رفع الحدث وترتب الثواب.
وإنما احتجنا إلى هذا وقلنا به لأن هذا الحديث
ذكر لبيان فعل يقتدى به ويحصل الثواب الموعود
عليه فلا بد أن يكون الوضوء المحكي المفعول
محصلا لهذا الغرض فلهذا قلنا: إما أن يكون
استعمل نحو في حقيقتها مع عدم فوات المقصود لا
بمعنى مثل أو يكون ترك ما علم قطعا أنه لا يخل
بالمقصود فاستعمل نحو في مثل مع عدم فوات
المقصود والله أعلم.
ويمكن أن يقال: إن الثواب يترتب على مقارنة
ذلك الفعل تسهيلا وتوسيعا على المخاطبين من
غير تضييق وتقيد بما ذكرناه أولا إلا أن الأول
أقرب إلى مقصود البيان.
الثاني عشر: هذا الثواب الموعود به يترتب على
مجموع أمرين أحدهما: الوضوء على النحو المذكور
والثاني صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده
في الحديث والمرتب على مجموع أمرين: لا يلزم
ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج.
وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء وعليهم
في ذلك هذا السؤال الذي ذكرناه.
ويجاب عنه: بأن كون الشيء جزءا مما يترتب عليه
الثواب العظيم: كاف في كونه ذا فضل فيحصل
المقصود من كون الحديث دالا على فضيلة الوضوء
ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص
وحصول مطلق الثواب فالثواب المخصوص: يترتب على
مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة
الموصوفة بالوصف المذكور ومطلق الثواب: قد
يحصل بما دون ذلك.
الثالث عشر: قوله: "لا يحدث فيهما نفسه" إشارة
إلى الخواطر والوساوس الواردة على النفس وهي
على قسمين أحدهما: ما يهجم هجما يتعذر دفعه عن
النفس والثاني: ما تسترسل معه النفس ويمكن
قطعه ودفعه فيمكن أن يحمل هذا الحديث على هذا
النوع الثاني فيخرج عنه النوع الأول لعسر
اعتباره ويشهد لذلك: لفظة: "يحدث نفسه" فإنه
يقتضي تكسبا منه وتفعلا لهذا الحديث ويمكن أن
يحمل على النوعين معا إلا أن العسر إنما يجب
دفعه عما يتعلق بالتكاليف.
(1/31)
والحديث إنما
يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص فمن حصل
له ذلك العلم: حصل له ذلك الثواب ومن لا فلا.
وليس ذلك من باب التكاليف حتى يلزم رفع العسر
عنه نعم لا بد وأن تكون تلك الحالة ممكنة
الحصول - أعني الوصف المرتب عليه الثواب
المخصوص - والأمر كذلك فإن المتجردين عن شواغل
الدنيا الذين غلب ذكر الله عز وجل على قلوبهم
وغمرها تحصل لهم تلك الحالة وقد حكى عن بعضهم
ذلك.
الرابع عشر: حديث النفس يعم الخواطر المتعلقة
بالدنيا والخواطر المتعلقة بالآخرة والحديث
محمول - والله أعلم - على ما يتعلق بالدنيا إذ
لا بد من حديث النفس فيما يتعلق بالآخرة
كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز
والمذكور من الدعوات والأذكار ولا نريد بما
يتعلق بأمر الآخرة: كل أمر محمود أو مندوب
إليه فإن كثيرا من ذلك لا يتعلق بأمر الصلاة
وإدخاله فيها أجنبي عنها وقد روى عن عمر رضي
الله عنه أنه قال إني لأجهز الجيش وأنا في
الصلاة1 أو كما قال وهذه قربة إلا أنها أجنبية
عن مقصود الصلاة.
الخامس عشر: قوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه"
ظاهرة العموم في جميع الذنوب وقد خصوا مثله
بالصغائر وقالوا: إن الكبائر إنما تكفر
بالتوبة وكأن المستند في ذلك: أنه ورد مقيدا
في مواضع كقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات
الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان:
كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" 2 فجعلوا
هذا القيد في هذه الأمور مقيدا للمطلق في
غيرها.
9 - عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال:
شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عن وضوء النبي صلى
الله عليه وسلم؟ فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكفأ على
يديه من التور فغسل يديه ثلاثا ثم أدخل يده في
التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث
غرفات ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل
يده في التور فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم
أدخل يده في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر
مرة واحدة ثم غسل رجليه3.
وفي رواية: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى
قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ
منه"4.
ـــــــ
1 البخاري معلقا في العمل في الصلاة باب تفكر
الرجل الشيء في الصلاة.
2 مسلم "233" "16".
3 البخاري "186" ومسلم "235" واللفظ للبخاري.
4 مسلم "235" "2".
(1/32)
وفي رواية:
"أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا
له ماء في تور من صفر"1.
التور: شبه الطست.
عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري
المازني المدني: ثقة روى له الجماعة: وكذلك
أبوه ثقة اتفقوا عليه.
فيه وجوه:
أحدها: عبد الله بن زيد هو زيد بن عاصم: وهو
غير زيد بن عبد ربه وهذا الحديث لعبد الله بن
زيد بن عاصم لا لعبد الله بن زيد بن عبد ربه
وحديث الأذان ورؤيته في المنام لعبد الله بن
زيد بن عبد ربه لا لعبد الله بن زيد بن عاصم
فليتنبه لذلك فإنه مما يقع فيه الاشبتاه
والغلط.
الثاني: قوله: "فدعا بتور" التور: بالتاء
المثناة: الطست والطست - بكسر الطاء وبفتحها
وبإسقاط التاء - لغات.
الثالث: فيه دليل على جواز الوضوء من آنية
الصفر2 والطهارة جائزة من الأواني الطاهرة
كلها إلا الذهب والفضة للحديث الصحيح الوارد
في النهي عن الأكل والشرب فيهما وقياس الوضوء
على ذلك.
الرابع: ما يتعلق بغسل اليدين قبل إدخالهما
الإناء: قد مر.
وقوله: "فمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات"
تعرض لكيفية المضمضة والاستنشاق بالنسبة إلى
الفصل والجمع وعدد الغرفات والفقهاء اختلفوا
في ذلك فمنهم من اختار الجمع ومنهم من اختار
الفصل.
والحديث يدل - والله أعلم - على أنه تمضمض
واستنشق من غرفة ثم فعل كذلك مرة أخرى ثم فعل
كذلك مرة أخرى وهو محتمل من حيث اللفظ غير ذلك
وهو أن يفاوت بين العدد في المضمضة والاستنشاق
مع اعتبار ثلاث غرفات إلا أنا لا نعلم قائلا
به مثال ذلك: أن يغرف غرفة فيتمضمض بها مرة
مثلا ثم يأخذ غرفة أخرى فيتمضمض بها مرتين ثم
يأخذ غرفة أخرى فيستنشق بها ثلاثا وغير ذلك.
من الصور التي تعطي هذا المعنى فيصدق على هذا
أنه: تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من ثلاث
غرفات.
الخامس: قوله: "ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا"
قد تقدم القول فيه.
وقوله: "ويديه إلى المرفقين مرتين" فيه دليل
على جواز التكرار ثلاثا في بعض الأعضاء.
ـــــــ
1 البخاري "197" ولفظ أبي داود "جاءنا" "98".
2 الصفر النحاس.
(1/33)
واثنتين في
بعضها وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
الوضوء مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا
وبعضه ثلاثا وبعضه مرتين وهو هذا الحديث.
السادس: قوله: "ثم أدخل يده في التور فمسح
رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة" فيه دليل
على التكرار في مسح الرأس مع التكرار في غيره
وهو مذهب مالك وأبو حنيفة وورد المسح في بعض
الروايات مطلقا وفي بعضها مقيدا بمرة واحدة.
وقوله: "فأقبل بهما وأدبر" اختلف الفقهاء في
كيفية الإقبال والإدبار على ثلاثة مذاهب
أحدها: أن يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه
ويذهب إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي
بدأ منه وهو مبدأ الشعر في حد الوجه وعلى هذا
يدل ظاهر قوله: "بدأ مقدم رأسه حتى ذهب بهما
إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي
بدأ منه" وهو مذهب مالك والشافعي.
إلا أنه ورد على هذا الإطلاق - أعني إطلاق
قوله فأقبل بهما وأدبر - إشكال من حيث إن هذه
الصيغة تقتضي أنه أدبر بهما وأقبل لأن ذهابه
إلى جهة القفا إدبار ورجوعه إلى جهة الوجه
إقبال.
فمن الناس من اعتقد أن هذه الصيغة المتقدمة
التي دل عليها ظاهر الحديث المفسر وهو قوله
بدأ بمقدم رأسه الخ.
وأجاب عن هذا السؤال بأن الواو لا تقتضي
الترتيب فالتقدير: أدبر وأقبل.
وعندي فيه جواب آخر وهو أن الإقبال والإدبار
من الأمور الإضافية أعني: أنه ينسب إلى ما
يقبل إليه ويدبر عنه فيمكنه حمله على هذا
ويحتمل أن يريد بالإقبال: الإقبال على الفعل
لا غير ويضعفه قوله: "وأدبر مرة واحدة".
ومن الناس من قال: يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى
جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر
قوله: "أقبل وأدبر" وينسب الإقبال: إلى مقدم
الوجه والإدبار: إلى ناحية المؤخر.
وهذا يعارضه الحديث المفسر لكيفية الإقبال
والإدبار وإن كان يؤيده ما ورد في حديث الربيع
أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمؤخر رأسه1 فقد
يحمل ذلك على حالة أو وقت ولا يعارض ذلك
الرواية الأخرى لما ذكرناه من التفسير.
ومن الناس من قال: يبدأ بالناصية ويذهب إلى
ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم
يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية.
وكأن هذا قد قصد المحافظة على قوله: "بدأ
بمقدم الرأس" مع المحافظة على ظاهر قوله
ـــــــ
1 أبو داود "126" والترمذي "33" وهذا لفظ
الترمذي.
(1/34)
"أقبل وأدبر"
فإنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه
وصدق أنه أقبل أيضا فإنه ذهب إلى ناحية الوجه
وهو القبل.
إلا أن قوله في الرواية المفسرة: "بدأ بمقدم
رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه" قد يعارض هذا
فإنه جعله بادئا بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى
قفاه وهذه الصفة التي قالها هذا القائل تقتضي
أنه بدأ بمقدم رأسه غير ذاهب إلى قفاه بل إلى
ناحية وجهه: وهو مقدم الرأس.
ويمكن أن يقول هذا القائل - الذي اختار الصفة
الأخيرة -: إن البداءة بمقدم الرأس ممتد إلى
غاية الذهاب إلى المؤخر وابتداء الذهاب من حيث
الرجوع من منابت الشعر من ناحية الوجه إلى
القفا والحديث إنما جعل البداءة بمقدم الرأس
ممتدا إلى غاية الذهاب إلى القفا لا إلى غاية
الوصول إلى القفا وفرق بين الذهاب إلى القفا
وبين الوصول إليه فإذا جعل هذا القائل الذهاب
إلى القفا من حيث الرجوع من مبتدأ الشعر من
ناحية الوجه إلى جهة القفا: صح أنه ابتدأ
بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى جهة
القفا.
وقد تقدم ما يتعلق بغسل الرجلين والعدد فيهما
أو عدم العدد.
والرواية الأخيرة: مصرحة بالوضوء من الصفر وهي
رواية عبد العزيز بن أبي سلمة وهي مصرحة
بالحقيقة في قوله: "تور من صفر" وفي الرواية
الأولى مجاز أعني قوله: "من تور من ماء" ويمكن
أن يحمل الحديث على: من إناء ماء وما أشبه
ذلك.
10 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في
تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله"1.
عائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله بنت أبي
بكر الصديق رضي الله عنه اسمه عبد الله بن
عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم
بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي
التيمي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في مرة بن كعب بن لؤي.
توفيت سنة سبع وخمسين وقيل ثمان وخمسين تزوجها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة
بسنتين وقيل بثلاث.
و التنعل: لبس النعل والترجل تسريح الشعر قال
الهروي: شعر مرجل أي مسرح وقال كراع شعر رجل
ورجل وقد رجله صاحبه: إذا سرحه ودهنه2.
ومعنى التيمن في التنعل: البداءة بالرجل
اليمنى ومعناه في الترجل: البداءة بالشق
الأيمن.
ـــــــ
1 البخاري "168" ومسلم "268" وهذا لفظ
البخاري.
2 مختار الصحاح رجل.
(1/35)
من الرأس في
تسريحه ودهنه وفي الطهور البداءة باليد اليمنى
والرجل اليمنى في الوضوء وبالشق الأيمن في
الغسل والبداءة باليمنى عند الشافعي من
المستحبات وإن كان يقول بوجوب الترتيب لأنهما
كالعضو الواحد حيث جمعا في لفظ القرآن الكريم
حيث قال عز وجل: {وَأَيْدِيَكُمْ},
{وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6].
وقولها وفي: "وفي شأنه كله" عام يخص فإن دخول
الخلاء والخروج من المسجد يبدأ فيهما باليسار
وكذلك ما يشابههما.
11 - عن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن
أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار
الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".
وفي لفظ لمسلم رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه
ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى
رفع إلى الساقين ثم قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي يدعون يوم
القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع
منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل" 1.
وفي لفظ لمسلم: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم
يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ
الوضوء".
الكلام على هذا الحديث من وجوه.
أحدها: قوله المجمر بضم الميم وسكون الجيم
وكسر الميم الثانية وصف به أبو نعيم بن عبد
الله لأنه كان يجمر المسجد2 أي يبخره.
الثاني: قوله: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا
محجلين" يحتمل غرا وجهين أحدهما: أن يكون
مفعولا ليدعون كأنه بمعنى يسمون غرا والثاني -
وهو الأقرب - أن يكون حالا كأنهم يدعون إلى
موقف الحساب أو الميزان أو غير ذلك مما يدعى
الناس إليه يوم القيامة وهم بهذه الصفة أي غرا
محجلين فيعدي "يدعون" في المعنى بالحرف كما
قال الله عز وجل: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ
اللَّهِ} [آل عمران: 23] ويجوز أن لا يتعدى
"يدعون" بحرف الجر ويكون "غرا" حالا أيضا
والغرة: في الوجه والتحجيل في اليدين
والرجلين.
الثالث: المروي المعروف في قوله صلى الله عليه
وسلم: "من آثار الوضوء" الضم في الوضوء ويجوز
أن يقال بالفتح أي من آثار الماء المستعمل في
الوضوء فإن الغرة والتحجيل: نشآ عن الفعل
بالماء فيجوز أن ينسب إلى كل منهما.
ـــــــ
1 البخاري "136" ومسلم "246" "35" وهذا لفظ
البخاري.
2 راجع القاموس جمر.
(1/36)
الرابع: قوله:
"فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" اقتصر
فيه على لفظ الغرة هنا دون التحجيل - وإن كان
الحديث يدل على طلب التحجيل أيضا - وكأن ذلك
من باب التغليب لأحد الشيئين على الآخر إذا
كانا بسبيل واحد وقد استعمل الفقهاء ذلك أيضا
وقالوا: يستحب تطويل الغرة وأرادوا: الغرة
والتحجيل.
وتطويل الغرة في الوجه: بغسل جزء من الرأس وفي
اليدين: بغسل بعض العضدين وفي الرجلين: بغسل
بعض الساقين وليس في الحديث تقييد ولا تحديد
لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين وقد
استعمل أبو هريرة الحديث على إطلاقه وظاهره في
طلب إطالة الغرة فغسل إلى قريب من المنكبين
ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا
كثر استعماله في الصحابة والتابعين رضي الله
عنهم فلذلك لم يقل به كثير من الفقهاء ورأيت
بعض الناس قد ذكر: أن حد ذلك: نصف العضد ونصف
الساق اهـ.
(1/37)
باب الاستطابة
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل الخلاء قال:
"اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" 1.
الخبث - بضم الخاء والباء - جمع خبيث
والخبائث: جميع خبيثة استعاذ من ذكران
الشياطين وإناثهم.
أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام
- فتح الحاء والراء المهملتين - أنصاري نجاري
خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وعمر
وولد له أولاد كثيرون يقال: ثمانون ثمانية
وسبعون ذكرا وابنتان وكانت وفاته بالبصرة سنة
ثلاث وتسعين وقيل: سنة خمس وتسعين وقيل: كانت
سنه يوم مات: مائة وسبع سنين.
وقال أنس: أخبرتني ابنتي أمنة: أنه دفن لصلبي
- إلى مقدم الحجاج البصرة - بضع وعشرون ومائة.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدهما: الاستطابة: إزالة الأذى عن المخرجين
بحجر وما يقوم مقامه مأخوذ من الطيب يقال:
استطاب الرجل فهو مستطيب وأطاب فهو مطيب.
الثاني: الخلاء بالمد في الأصل: هو المكان
الخالي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم كثر
تجوز به عن غير ذلك.
ـــــــ
1 البخاري "142" ومسلم "375" واللفظ للبخاري.
(1/37)
الثالث: قوله:
"إذا دخل" يحتمل أن يراد به: إذا أراد الدخول
كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ} [النحل: 98] ويحتمل أن يراد به
ابتداء الدخول وذكر الله مستحب في ابتداء قضاء
الحاجة فإن كان المحل الذي تقضى فيه الحاجة
غير معد لذلك - كالصحراء مثلا - جاز ذكر الله
في ذلك المكان وإن كان معدا لذلك - كالكنف1 -
ففي جواز الذكر فيه خلاف بين الفقهاء فمن كرهه
فهو محتاج إلى أن يؤول قوله: "إذا دخل" بمعنى
إذا أراد لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على
الكنف المبنية منها على المكان البراح2 أو
لأنه قد تبين في حديث آخر المراد حيث قال صلى
الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة فإذا
دخل أحدكم الخلاء فليقل" - الحديث3 وأما من
أجاز ذكر الله تعالى في هذا المكان: فلا يحتاج
إلى هذا التأويل ويحمل دخل على حقيقتها.
الرابع: الخبث بضم الخاء والباء جمع خبيث كما
ذكر المصنف وذكر الخطابي في أغاليط المحدثين
روايتهم له بإسكان الباء ولا ينبغي أن يعد هذا
غلطا لأن فعلا - بضم الفاء والعين - يخفف عينه
قياسا فلا يتعين أن يكون المراد بالخبث بسكون
الباء ما لا يناسب المعنى بل يجوز أن يكون -
وهو ساكن الباء - بمعناه وهو مضموم الباء نعم
من حمله وهو ساكن الباء على ما لا يناسب
المعنى فهو غلط في الحمل على هذا المعنى لا في
اللفظ.
الخامس: الحديث الذي ذكرناه من قوله صلى الله
عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة" أي للجان
والشياطين بيان لمناسبة هذا الدعاء المخصوص
لهذا المكان المخصوص.
2 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم
الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا
تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا".
قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد
بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز
وجل4.
الغائط: المطمئن من الأرض ينتابونه للحاجة
فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص
اسمه.
والمراحيض جمع المرحاض وهو المغتسل وهو أيضا
كناية عن موضع التخلي.
ـــــــ
1 جمع كنيف وهو المرحاض القاموس كنف.
2 البراح: المتسع من الأرض لا زرع بها ولا شجر
القاموس برح.
3 أحمد "19286" وأبو داود "6" وابن ماجة "296"
قال محققو مسند أحمد رجاله ثقات رجال الشيخين.
4 البخاري "943" مسلم "264" "59" واللفظ له.
(1/38)
الكلام عليه من
وجوه:
أحدهما: أبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد
بن كليب بن ثعلبة نجاري شهد بدرا ومات في زمن
يزيد بن معاوية وقال خليفة: مات في أرض الروم
سنة خمسين وذلك في زمن معاوية وقيل في سنة
اثنتين وخمسين بالقسطنطينية.
الثاني: قوله: "إذا أتيتم الخلاء" استعمل
الخلاء في قضاء الحاجة كيف كان لأن هذا الحكم
عام في جميع صور قضاء الحاجة وهو إشارة إلى ما
قدمناه من استعمال هذه الفظة مجازا.
الثالث: الحديث دليل على المنع من استقبال
القبلة واستدبارها والفقهاء اختلفوا في هذا
الحكم على مذاهب فمنهم من منع ذلك مطلقا على
مقتضى ظاهر الحديث ومنهم من أجازه مطلقا ورأى
أن هذا الحديث منسوخ وزعم أن ناسخه حديث مجاهد
عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن
يقبض بعام يستقبلها"1 وممن نقل عنه الترخيص في
ذلك مطلقا: عروة بن الزبير وربيعة بن عبد
الرحمن ومنهم من فرق بين الصحاري والبنيان
فمنع في الصحاري وأجاز في البنيان بناء على أن
ابن عمر روى الحديث الذي يأتي ذكره بعد هذا
الحديث في البنيان فجمع بين الأحاديث فحمل
حديث أبي أيوب - وما في معناه - على الصحاري
وحمل حديث ابن عمر على البنيان.
وقد روى الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال:
رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم
جلس يبول إليها فقلت أبا عبد الرحمن أليس قد
نهى عن هذا؟ فقال: بلى إنما نهى عن ذلك في
الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك
فلا بأس أخرجه أبو داود2.
و اعلم أن حمل حديث أبي أيوب على الصحاري
مخالف لما حمله عليه أبو أيوب من العموم فإنه
قال: فأتينا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل
القبلة فننحرف عنها فرأى النهي عاما.
الرابع: اختلفوا في علة هذا النهي من حيث
المعنى والظاهر أنه لإظهار الاحترام والتعظيم
للقبلة لأنه معنى مناسب ورد الحكم على وفقه
فيكون علة له وأقوى من هذا في الدلالة على هذا
التعليل: ما روي من حديث سلمة بن وهرام عن
سراقة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله
عز وجل ولايستقبل القبلة" 3 وهذا ظاهر.
ـــــــ
1 الترمذي "9" وأبو داود "13" وابن ماجه "325"
وقال أبو عيسى حديث جابر في هذا الباب حديث
حسن غريب.
2 أبو داود "11".
3 الدارقطني مرسلا عن طاوس "12".
(1/39)
قوي في التعليل
بما ذكرناه إلا أن هذا الحديث مرسل روى الربيع
عن الشافعي قال: حديث طاوس هذا مرسل وأهل
الحديث لا يثبتونه.
ومنهم من علل بأمر آخر فذكر عيسى بن أبي عيسى
قال: قلت للشعبي - هو بفتح الشين المعجمة
وسكون العين المهملة - عجبت لقول أبي هريرة
ونافع عن ابن عمر قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو
هريرة لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها وقال
نافع عن ابن عمر رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم ذهب مذهبا مواجه القبلة قال: أما قول أبي
هريرة: ففي الصحراء إن لله خلقا من عباده
يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم
وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن فإنه لا
قبلة لها وذكر الدارقطني: أن عيسى هذا ضعيف.
وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم
فيما إذا كان في الصحراء فاستتر بشيء هل يجوز
الاستقبال والاستدبار أم لا؟ فالتعليل باحترام
القبلة يقتضي المنع والتعليل برؤية المصلين
يقتضي الجواز.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم
الخلاء فلا تستقبلوا القبلة" الحديث يقتضي
أمرين: أحدهما: ممنوع منه والثاني: علة لذلك
المنع.
وقد تكلمنا عن العلة والكلام الآن على محل
العلة فالحديث دل على المنع من استقبالها
لغائط أو بول وهذه الحالة تتضمن أمرين:
أحدهما: خروج الخارج المستقذر والثاني: كشف
العورة فمن الناس من قال: المنع للخارج
لمناسبته لتعظيم القبلة عنه ومنهم من قال:
المنع لكشف العورة.
وينبني على هذا الخلاف: خلافهم في جواز الوطء
مستقبل القبلة مع كشف العورة فمن علل بالخارج
أباحه إذ لا خارج ومن علل بالعورة منعه.
السادس: الغائط في الأصل: هو المكان المطمئن
من الأرض كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم
استعمل في الخارج وغلب هذا الاستعمال على
الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية.
والحديث يقتضي أن اسم الغائط لا ينطلق على
البول لتفرقته بينهما وقد تكلموا في أن قوله
تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ} [المائدة: 6] هل يتناول الريح
مثلا أو البول أو لا؟ بناء على أنه يخصص لفظ
الغائط لما كانت العادة أ ن يقصد لأجله وهو
الخارج من الدبر ولم يكونوا يقصدون الغائط
للريح مثلا أو يقال: إنه مستعمل فيما كان يقع
عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل أو الدبر
كيف كان.
والسابع: قوله: "ولكن شرقوا أو غربوا" محمول
على محل يكون التشريق والتغريب فيه.
(1/40)
مخالفا
لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة التي هي
مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في
معناها من البلاد ولا يدخل تحته ما كانت
القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب.
الثامن: قول أبي أيوب فقدمنا الشام الخ فيه ما
قدمناه ثمة من حملة له على العموم بالنسبة إلى
البنيان والصحاري وفيه دليل على أن للعموم
صيغة عند العرب وأهل الشرع على خلاف ما ذهب
إليه بعض الأصوليين.
وهذا - أعني استعمال صيغة العموم - فرد من
الأفراد له نظائر لاتحصى وإنما نبهنا عليه على
سبيل ضرب المثل فمن أراد أن يقف على ذلك
فليتتبع نظائرها يجدها.
التاسع: أولع بعض أهل العصر - وما يقرب منه -
بأن قالوا: إن صيغة العموم إذا وردت على
الذوات - مثلا أو على الأفعال كانت عامة في
ذلك مطلقة في الزمان والمكان والأحوال
والمتعلقات ثم يقولون: المطلق يكفي في العمل
به صورة واحدة فلا يكون حجة فيما عداه وأكثروا
من هذا السؤال فيما لا يحصى من ألفاظ الكتاب
والسنة وصار ذلك ديدنا لهم في الجدال.
وهذا عندنا باطل بل الواجب: أن ما دل على
العموم في الذوات - مثلا - يكون دالا على ثبوت
الحكم في كل ذات تناولها اللفظ ولا تخرج عنها
ذات إلا بدليل يخصه فمن أخرج شيئا من تلك
الذوات فقد خالف مقتضى العموم.
نعم المطلق يكفي العمل به مرة كما قالوه ونحن
لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث
الإطلاق وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما
تقتضيه صيغة العموم في كل ذات فإن كان المطلق
مما لا يقتضي العمل به مرة واحدة مخالفة
لمقتضى صيغة العموم اكتفينا في العمل به مرة
واحدة وإن كان العمل به مما يخالف مقتضى صيغة
العموم قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته
لا من حيث إن المطلق يعم مثال ذلك: إذا قال:
من دخل داري فأعطه درهما فمقتضى الصيغة:
العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة.
فإن قال قائل: هو مطلق في الأزمان فأعمل به في
الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلا ولا
أعمل به في غير ذلك الوقت لأنه مطلق في الزمان
وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى
لعدم عموم المطلق.
قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات
دخلت الدار ومن جملتها: الذوات الداخلة في آخر
النهار فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما
دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات.
و هذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلنا فإن
أبا أيوب من أهل اللسان والشرع وقد استعمل
قوله: "لا تستقبلوا ولا تستدبروا" عاما في
الأماكن وهو مطلق فيها.
(1/41)
وعلى ما قال
هؤلاء المتأخرون: لا يلزم منه العموم وعلى ما
قلناه: يعم لأنه إذا أخرج عنه بعض الأماكن
خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال
والاستدبار.
العاشر: قوله: "ونستغفر الله" قيل: يراد به
ونستغفر الله لباني الكنف على هذه الصورة
الممنوعة عنده وإنما حملهم على هذا التأويل:
أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعا فلا يحتاج
إلى الاستغفار والأقرب: أنه استغفار لنفسه
ولعل ذلك لأنه استقبل واستدبر بسبب موافقته
لمقتضى البناء غلطا أو سهوا فيتذكر فينحرف
ويستغفر الله.
فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثما فلا
حاجة به إلى الاستغفار.
قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد
يفعلون مثل هذا بناء على نسبتهم التقصير إلى
أنفسهم في: "عدم" التحفظ ابتداء والله أعلم.
3 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما قال: "رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل
الشام مستدبر الكعبة"1.
وفي رواية: "مستقبلا بيت المقدس"2.
عبد الله بن عمر بن الخطاب تقدم نسبه في ذكر
أبيه رضي الله عنهما كنيته أبو عبد الرحمن أحد
أكابر الصحابة علما ودينا توفي سنة ثلاث
وسبعين وقيل سنة أربع وسبعين وقال مالك: بلغ
ابن عمر سبعا وثمانين سنة.
هذا الحديث يعارض حديث أبي أيوب المتقدم من
وجه وكذلك ما في معنى حديث أبي أيوب.
واختلف الناس في كيفية العمل به أو بالأول؟
على أقوال فمنهم من رأى أنه مانع لحديث المنع
واعتقد الإباحة مطلقا وكأنه رأى أن تخصيص حكمه
بالبنيان مطرح وأ خذ دلالته على الجواز مجردة
عن اعتبار خصوص كونه في البنيان لاعتقاده أنه
وصف ملغى لا اعتبار به ومنهم من رأى العمل
بالحديث الأول وما في معناه واعتقد هذا خاصا
بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من جمع بين
الحديثين فرأى حديث ابن عمر مخصوصا بالبنيان
فيخص به حديث أبي أيوب العام في البنيان وغيره
جمعا بين الدليلين ومنهم من توقف في المسألة.
ونحن ننبه ههنا على أمرين:
أحدهما: أن من قال بتخصيص هذا الفعل بالنبي
صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن رؤية هذا
الفعل كان.
ـــــــ
1 البخاري "148" ومسلم "266" "62" واللفظ له.
2 رواية مسلم "266" "61".
(1/42)
أمرا اتفاقيا
لم يقصده ابن عمر ولا الرسول صلى الله عليه
وسلم على هذه الحالة يتعرض لرؤية أحد فلو كان
يترتب على هذا الفعل حكم عام لبينه لهم
بإظهاره بالقول أو الدلالة على وجود الفعل فإن
الأحكام العامة للأمة لا بد من بيانها فلما لم
يقع ذلك - وكانت هذه الرؤية من ابن عمر على
طريق الاتفاق وعدم قصد الرسول صلى الله عليه
وسلم - دل ذلك على الخصوص به صلى الله عليه
وسلم وعدم العموم في حق الأمة وفيه بعد ذلك
بحث.
التنبيه الثاني: أن الحديث: إذا كان عام
الدلالة وعارضه غيره في بعض الصور وأردنا
التخصيص - فالواجب أن نقتصر في مخالفة مقتضى
العموم على مقدار الضرورة ويبقى الحديث العام
على مقتضى عمومه فيما يبقى من الصور إذ لا
معارض له فيما عدا تلك الصور المخصوصة التي
ورد فيها الدليل الخاص وحديث ابن عمر لم يدل
على جواز الاستقبال والاستدبار معا في البنيان
وإنما ورد في الاستدبار فقط فالمعارضة بينه
وبين حديث أبي أيوب إنما هي في الاستدبار
فيبقى الاستقبال لا معارض له فيه فينبغي أن
يعمل بمقتضى حديث أبي أيوب في المنع من
الاستقبال مطلقا لكنهم أجازوا الاستقبال
والاستدبار معا في البنيان وعليه هذا السؤال.
هذا لو كان في حديث أبي أيوب لفظ واحد يعم
الاستقبال والاستدبار فيخرج منه الاستدبار
ويبقى الاستقبال على ما قررناه آنفا.
ولكن ليس الأمر كذلك بل هما جملتان دلت
إحداهما على الاستقبال والأخرى على الاستدبار
تناول حديث ابن عمر إحداهما وهى عامة في محلها
وحديثه خاص ببعض صور عمومها والجملة الأخرى:
لم يتناولها حديث ابن عمر فهي باقية على
حالها.
و لعل قائلا يقول: أقيس الاستقبال في البنيان
- وإن كان مسكوتا عنه - علي الاستدبار الذي
ورد فيه الحديث.
فيقال له: أولا في هذا تقديم القياس علي مقتضى
اللفظ العام وفيه ما فيه على ما عرف في أصول
الفقه.
و ثانيا: إن شرط القياس مساواة الفرع للأصل أو
زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم ولا
تساوي ههنا فإن الاستقبال يزيد في القبح على
الاستدبار على ما يشهد به العرف ولهذا اعتبر
بعض العلماء هذا المعنى فمنع الاستقبال وأجاز
الاستدبار وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح
من الاستدبار: فلا يلزم من إلغاء المفسدة
الناقصة في القبح في حكم الجوار إلغاء المفسدة
الزائدة في القبح في حكم الجواز.
(1/43)
4 - عن أنس بن
مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله
صلي الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا
وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي
بالماء"1.
العنزة: الحربة الصغيرة وكأن حملها في ذلك
الوقت لاحتمال أن يتوضأ صلي الله عليه وسلم
ليصلي فتوضع بين يديه سترة كما ورد في حديث
آخر: "أنها كانت توضع بين يديه فيصلي إليها"2
والكلام على الخلاء قد تقدم.
ويحتمل أن يراد بها ههنا مجرد قضاء الحاجة على
ما ذكرناه أنه يستعمل في ذلك وهذا الذي يناسبه
المعنى الذي ذكرناه في حمل العنزة للصلاة فإن
السترة إنما تكون في البراح من الأرض حيث يخشى
المرور.
ويحتمل أن يراد به: المكان المعد لقضاء الحاجة
في البنيان وهذا لا يناسبه المعنى الذي ذكرناه
في حمل العنزة ويترجح الأول بأن خدمة الرجال
له صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مناسبة
للسفر فإن الحضر يناسبه خدمة أهل بيته من
نسائه ونحوهن.
ويؤخذ من هذا الحديث: استخدام الأحرار من
الناس إذا كانوا أتباعا وأرصدوا أنفسهم لذلك.
وفيه أيضا: جواز الاستعانة في مثل هذا ومقصوده
الأكبر: الاستنجاء بالماء ولا يختلف فيه غير
أنه قد روي عن سعيد بن المسيب لفظ يقتضي
تضعيفه للرجال فإنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟
فقال: إنما ذلك وضوء النساء وعن غيره من السلف
ما يشعر بذلك أيضا.
والسنة دلت على الاستنجاء بالماء كما في هذا
الحديث وغيره فهي أولى بالاتباع ولعل سعيدا -
رحمه الله - فهم من أحد غلوا في هذا الباب
بحيث يمنع الاستنجاء بالحجارة فقصد في مقابلته
أن يذكر هذا اللفظ لإزالة ذلك الغلو وبالغ
بإيراده إياه على هذه الصيغة.
وقد ذهب بعض الفقهاء من أصحاب مالك - وهو ابن
حبيب - إلى أن الاستنجاء بالحجارة إنما هو عند
عدم الماء وإذا ذهب إليه ذاهب فلا يبعد أن يقع
لغيرهم ممن في زمن سعيد وإنما استحب الاستنجاء
بالماء لإزالة العين والأثر معا فهو أبلغ في
النظافة.
ـــــــ
1 البخاري "152" ومسلم "271" "70" واللفظ له
وفي البخاري العنزة عصا عليه زج.
2 البخاري "494" ومسلم "501" "245".
(1/44)
5 - عن أبي
قتادة - الحارث بن ربعي - الأنصاري رضي الله
عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح
من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء" 1.
أبو قتادة: الحارث بن ربعي بن بلدمة بفتح
الباء وسكون اللام وفتح الدال ويقال بلدمة
بالضم فيهما ويقال: بلذمة بالذال المعجمة
المضمومة فارس النبي صلى الله غليه وسلم شهد
أحدا والخندق وما بعد ذلك مات بالمدينة سنة
أربع وخمسين وقيل: بالكوفة سنة ثمان وثلاثين
والأصح الأول اتفقوا على الإخراج له.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدهما: الحديث يقتضي النهي عن مس الذكر
باليمين في حالة البول ووردت رواية أخرى في
النهي عن مسه باليمين مطلقا من غير تقييد
بحالة البول فمن الناس من أخذ بهذا العام
المطلق وقد يسبق إلى الفهم: أن المطلق يحمل
على المقيد فيختص النهي بهذه الحالة وفيه بحث
لأن هذا الذي يقال يتجه في باب الأمر والإثبات
فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق أو العام في صورة
الإطلاق أو العموم مثلا: كان فيه إخلال باللفظ
الدال على المقيد وقد تناوله لفظ الأمر وذلك
غير جائز وأما في باب النهي: فإنا إذا جعلنا
الحكم للمقيد أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق مع
تناول النهي له وذلك غير سائغ.
هذا كله بعد مراعاة أمر من صناعة الحديث وهو
أن ينظر في الروايتين: هل هما حديث واحد أو
حديثان؟ ولك أيضا بعد النظر في دلائل المفهوم
وما يعمل به منه وما لا يعمل به وبعد أن تنظر
في تقديم المفهوم على ظاهر العموم - أعني
رواية الإطلاق والتقييد - فإن كانا حديثا
واحدا مخرجه واحد اختلف عليه الرواة فينبغي
حمل المطلق على المقيد لأنها تكون زيادة من
عدل في حديث واحد فتقبل وهذا الحديث المذكور
راجع إلى رواية يحيى بن أبي كثير عن عبد الله
بن قتادة عن أبيه.
الثاني: ظاهر النهي التحريم وعليه حمله
الظاهري وجمهور الفقهاء على الكراهة.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يتمسح
من الخلاء بيمينه" يتناول القبل والدبر وقد
اختلف أصحاب الشافعي في كيفية التمسح في القبل
إذا كان الحجر صغيرا ولا بد من إمساكه بإحدى
اليدين فمنهم من قال: يمسك الحجر باليمنى
والذكر باليسرى فتكون الحركة لليسرى واليمنى
قارة ومنهم من قال: يؤخذ الذكر باليمنى والحجر
باليسرى وتحرك اليسرى والأول أقرب إلى
المحافظة على الحديث.
ـــــــ
1 البخاري "153" ومسلم "267" واللفظ له.
(1/45)
الرابع: قوله
صلى الله عليه وسلم: "ولا يتنفس في الإناء"
يراد به إبانة الإناء عند إرادة التنفس لما في
التنفس من احتمال خروج شئ مستقذر للغير وفيه
إفساد لما في الإناء بالنسبة إلى الغير
لعيافته له وقد ورد في حديث آخر: "إبانة
الإناء للتنفس ثلاثا" وهو ههنا مطلق.
6 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال:
"إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما
أحدهما: فكان لا يستتر من البول وأما الآخر:
فكان يمشي بالنميمة", فأخذ جريدة رطبة فشقها
نصفين فغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول
الله لم فعلت هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما
لم ييبسا" 1.
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن
عبد مناف أبو العباس القرشي الهاشمي المكي أحد
أكابر الصحابة في العلم سمي بالحبر والبحر
لسعة علمه مات سنة ثمان وستين ويقال كان سنه
حينئذ اثنتين وسبعين سنة وبعضهم يروي سنه إحدى
- أو اثنتين - وسبعين سنة أعني في مبلغ سنه
وكان موته بالطائف.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدهما: تصريحه بإثبات عذاب القبر على ما هو
مذهب أهل السنة واشتهرت به الأخبار وفي إضافة
عذاب القبر إلى البول خصوصية تخصه دون سائر
المعاصي مع أن العذاب بسبب غيره أيضا إن أراد
الله عز وجل ذلك في حق بعض عباده وعلى هذا جاء
الحديث: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر
منه" 2 وكذا جاء أيضا: أن بعض من ذكر عنه أنه
ضمه القبر أو ضغطه فسئل أهله فذكروا أنه كان
منه تقصير في الطهور.
الثاني: قوله: "و ما يعذبان في كبير" يحتمل من
حيث اللفظ وجهين: والذي يحب أن يحمل عليه
منهما: أنهما لا يعذبان في كبير إزالته أو
دفعه أو الاحتراز عنه أي أنه سهل يسير على من
يريد التوقي منه ولا يريد بذلك أنه صغير من
الذنوب غير كبير منها لأنه قد ورد في الصحيح
من الحديث: "و إنه لكبير" 3 فيحمل قوله: "وإنه
لكبير" على كبر الذنب4 وقوله: "و ما يعذبان في
كبير" على سهولة الدفع والاحتراز.
الثالث: قوله: "أما أحدهما فكان لا يستتر من
بوله" هذه اللفظة - أعني: "يستتر" - قد اختلفت
فيها الرواية على وجوه وهذه اللفظة تحتمل
وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "216" و"6055" ومسلم "2028".
2 الدارقطني "1/127" من حديث أنس.
3 من رواية البخاري من حديث ابن عباس "6055".
4 رواية البخاري "216.
(1/46)
أحدهما: الحمل
على حقيقتها من الاستتار عن الأعين ويكون
العذاب على كشف العورة.
الثاني - وهو الأقرب -: أن يحمل على المجاز
ويكون المراد بالاستتار التنزه عن البول
والتوقي منه إما بعدم ملابسته أو بالاحتراز عن
مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة وعبر عن
التوقي بالاستتار مجازا.
ووجه العلاقة بينهما أن المستتر عن الشيء في
بعد عنه واحتجاب وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة
البول وإنما رجحنا المجاز - وإن كان الأصل
الحقيقة - لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان المراد أن العذاب على مجرد
كشف العورة كان ذلك سببا مستقلا أجنبيا عن
البول فإنه حيث حصل الكشف للعورة حصل العذاب
المرتب عليه وإن لم يكن ثمة بول فيبقى تأثير
البول بخصوصه مطرح الاعتبار والحديث يدل على
أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية
فالحمل على ما يقتضيه الحديث المصرح بهذه
الخصوصية أولى.
و أيضا فإن لفظة "من" لما أ ضيفت إلى البول -
وهي غالبا لابتداء الغاية حقيقة أو ما يرجع
إلى معنى ابتداء الغاية مجازا - تقتضي نسبة
الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول
بمعنى أن ابتداء سبب عذابه من البول وإذا
حملناه على كشف العورة زال هذا المعنى.
الوجه الثاني: أن بعض الروايات في هذه اللفظة
يشعر بأن المراد التنزه من البول وهي رواية
وكيع: "لايتوقى" وفي رواية بعضهم: "لا يستنزه"
فتحمل هذه الفظة على تلك ليتفق معنى
الروايتين.
الرابع: في الحديث دليل على عظم أمر النميمة1
وأنها سبب العذاب وهو محمول على النميمة
المحرمة فإن النميمة إذا اقتضى تركها مفسدة
تتعلق بالغير أو فعلها مصلحة يستضر الغير
بتركها لم تكن ممنوعة كما نقول في الغيبة إذا
كانت للنصيحة أو لدفع المفسدة لم تمنع.
ولو أن شخصا اطلع من آخر على قول يقتضي إيقاع
ضرر بإنسان فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن
ذلك الضرر لوجب ذكره له.
الخامس: قيل في أمر الجريدة التي شقها اثنتين
فوضعها على القبرين وقوله صلى الله عليه وسلم:
"لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" إلى أن النبات
يسبح دائما رطبا فإذا حصل التسبيح بحضرة الميت
حصلت له بركته فلهذا اختص بحالة الرطوبة.
السادس: أخذ بعض العلماء من هذا: أن الميت
ينتفع بقراءة القرآن على قبره من حيث إن.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود في
البر والصلة "2606" "ألا أنبئكم ما العضه؟ هي
النميمة القالة بين الناس" وأخرجه البخاري
"6056" ومسلم "105" من حديث حذيفة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة
نمام".
(1/47)
المعنى الذي
ذكرناه في التخفيف عن صاحبي القبرين هو تسبيح
النبات ما دام رطبا فقراءة القرآن من الإنسان
أولى بذلك والله أعلم بالصواب.
(1/48)
2 - باب
السواك.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 1.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: استدل بعض الأصوليين به على أن الأمر
للوجوب ووجه الاستدلال: أن كلمة "لولا" تدل
على انتفاء الشيء لوجود غيره فيدل على انتفاء
الأمر لوجود المشقة والمنتفي لأجل المشقة إنما
هو الوجوب لا الاستحباب فإن استحباب
السواك ثابت عند كل صلاة فيقتضي ذلك أن
الأمر للوجوب.
الثاني: السواك مستحب في حالات متعددة منها:
ما دل عليه هذا الحديث وهو القيام إلى الصلاة
والسر فيه: أنا مأمورون في كل حالة من أحوال
التقرب إلى الله عز وجل أن نكون في حالة كمال
ونظافة إظهارا لشرف العبادة وقد قيل إن ذلك
لأمر يتعلق بالملك وهو أنه يضع فاه على في
القارئ ويتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك
لأجل ذلك.
الثالث: قد يتعلق بالحديث مذهب من يرى أن
النبي صلى الله عليه وسلم له أن يحكم
بالاجتهاد ولا يتوقف حكمه على النص فإنه جعل
المشقة سببا لعدم أمره صلى الله عليه وسلم ولو
كان الحكم موقوفا على النص لكان سبب انتفاء
أمره صلى الله عليه وسلم عدم ورود النص به ولا
وجود المشقة وفيه احتمال للبحث والتأويل.
الرابع: الحديث بعمومه يدل على استحباب السواك
لكل صلاة فيدخل فيه استحباب ذلك في الصلاتين
الواقعتين بعد الزوال للصائم ويستدل به من يرى
ذلك ومن يخالف في ذلك يحتاج إلى دليل خاص بهذا
الوقت يخص به ذلك العموم وهو حديث الخلوف وفيه
بحث2.
2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من
الليل يشوص فاه بالسواك"3.
قال المؤلف رحمه الله يشوص معناه: يغسل يقال:
شاصه يشوصه وماصه يموصه إذا غسله.
ـــــــ
1 البخاري "887" ومسلم "252" واللفظ له.
2 أخرج البخاري "1894" ومسلم "1151" "163" عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "....لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من
ريح المسك....."
3 البخاري "245" ومسلم "255".
(1/48)
حذيفة بن
اليمان اسمه حسيل بن جابر وقيل: حذيفة بن
الحسيل بن اليمان أبو عبد الله العبسي معدود
في أهل الكوفة أحد أكابر الصحابة ومشاهيرهم
قال البخاري: مات بعد عثمان بن عفان بأربعين
يوما قال أبونصر: وذلك أول سنة ست وثلاثين
وقال الواقدي: حذيفة بن اليمان بن حسيل بن
جابر العبسي حليف بني عبد الأشهل وابن أختهم.
فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة
الأخرى وهي القيام من النوم وعلته: أن النوم
مقتض لتغير الفم والسواك هو آلة التنظيف للفم
فيسن عند مقتضي التغير.
وقوله: "يشوص" اختلفوا في تفسيره فقيل: يدلك
وقيل: يغسل وقيل: ينقي والأول: أقرب.
وقوله: "إذا قام من الليل" ظاهره: يقتضي تعليق
الحكم بمجرد القيام ويحتمل أن يراد: إذا قام
من الليل للصلاة فيعود إلى معنى الحديث الأول.
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عبد
الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على
النبي صلي الله عليه وسلم وأنا مسندته إلي
صدري ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده
رسول الله صلي الله عليه وسلم بصره فأخذت
السواك فقضمته فطيبته ثم دفعته إلى النبي صلي
الله عليه وسلم فاستن به فما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم استن استنانا أحسن منه فما
عدا أن فرغ رسول الله صلي الله عليه وسلم: رفع
يده ـ أو إصبعه ـ ثم قال: "في الرفيق الأعلى"
ـ ثلاثا ـ ثم قضى وكانت تقول: مات بين حاقنتي
وذاقنتي1.
وفي لفظ: "فرأيته ينظر إليه وعرفت: أنه يحب
السواك فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم"
هذا لفظ البخاري ولمسلم نحوه2.
4 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك
بسواك رطب, قال: وطرف السواك على لسانه وهو
يقول: "أع أع" والسواك في فيه كأنه يتهوع"3.
أبو موسى: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار -
ويقال: حضار - الأشعري معدود في أهل البصرة
أحد أكابر الصحابة ومشاهيرهم وذكر ابن أبي
شيبة: أنه مات سنة أربع وأربعين وهو ابن ثلاث
وستين سنة وقيل: مات سنة اثنتين وأربعين وقال
الواقدي: سنة اثنتين وخمسين.
ـــــــ
1 البخاري "4438".
2 البخاري "4449" ومسلم "2444" واللفظ
للبخاري.
3 البخاري "244" ومسلم "254" واللفظ للبخاري.
(1/49)
قوله في حديث
عائشة رضي الله عنها: "فأبده رسول الله صلى
الله عليه وسلم" يقال: أبددت فلانا البصر: إذا
طولته إليه وكأن أصله من معنى التبديد الذي هو
التفريق ويروي: أن عمر بن عبد العزيز لما
حضرته الوفاة قال: أجلسوني, فأجلسوه فقال: أنا
الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ولكن لا إله
إلا أنت ثم رفع رأسه فأبد النظر فقال: لأرى
حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض.
وقولها: "بين حاقنتي وذاقنتي" قيل الذاقنة
نقرة النحر وقيل: طرف الحلقوم وقيل: أعلى
البطن والحواقن أسافله وكأن المراد: ما يحقن
الطعام أي يجمعه ومنه المحقنة - بكسر الميم -
التي يحتقن بها ومن كلام العرب: لأجمعن بين
ذواقنك وحواقنك.
وفي الحديث الاستياك بالرطب وقد قال بعض
الفقهاء: إن الاخضر لغير الصائم أحسن وقال
بعضهم: يستحب أن يكون بيابس قد ندي بالماء.
وفيه إصلاح السواك وتهيئته لقول عائشة فقضمته
والقضم بالاسنان ومن طلب الاصلاح قول من قال:
يستحب أن يكون بيابس قد ندي بالماء لأن اليابس
أبلغ في الازالة وتنديته بالماء: لئلا يجرح
اللثة لشدة يبسه.
وفي الحديث: الاستياك بسواك الغير, وفيه:
العمل بما يفهم من الإشارة والحركات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرفيق الأعلى"
إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] وقد ذكر بعضهم: أن
قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] إشارة إلى ما في هذه
الآية وهي قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] فكأن هذه
تفسير لتلك وبلغني أنه صنف في ذلك كتاب يفسر
فيه القرآن بالقرآن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرفيق الأعلى"
يجوز أن يكون الأعلى من الصفات اللازمة التي
ليس لها مفهوم يخالف المنطوق كما في نحو قوله
تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً
آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:
117] وليس ثمة داع إلها آخر له به برهان وكذلك
قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
حَقٍّ} [آل عمران: 21] ولا يكون قتل النبيين
إلا بغير حق فكون الرفيق لم يطلق إلا على
الأعلى الذي اختص به الرفيق ويقوي هذا: ما ورد
في بعض الروايات: "وألحقني بالرفيق" ولم يصفه
بالأعلى وذلك دليل على أنه المراد بلفظة:
"الرفيق الأعلى".
ويحتمل أن يراد بالرفيق: ما يعم الأعلى وغيره
ثم ذلك على وجهين:
أحدهما: أن يختص الرفيقان معا بالمقربين
المرضيين ولا شك أن مراتبهم متفاوتة فيكون صلى
الله عليه وسلم طلب أن يكون في أعلى مراتب
الرفيق وأن كان الكل من السعداء المرضيين.
والثاني: أنه يطلق الرفيق بالمعنى الوضعي الذي
يعم كل رفيق ثم يخص منه الأعلى.
(1/50)
بالطلب وهو
مطلب المرضيين ويكون "الأعلى" بمعنى العالي
ويخرج عنه غيرهم وإن كان اسم "الرفيق" منطلقا
عليهم.
وأما حديث أبي موسى: ففيه أمران أحدهما:
الاستياك على اللسان واللفظ الذي أورده صاحب
الكتاب - وإن كان ليس بصريح في الاستياك على
اللسان - فقد ورد مصرحا به في بعض الروايات.
والعلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان
موجودة في اللسان بل هي أبلغ وأقوى لما يرتقي
إليه من أبخرة المعدة.
وقد ذكر الفقهاء: أنه يستحب الاستياك عرضا
وذلك في الأسنان وأما في اللسان: فقد ورد
منصوصا عليه في بعض الروايات: "الاستياك فيه
طولا"1.
الثاني: ترجم البخاري على هذا الحديث باستياك
الإمام بحضرة رعيته فقال باب الاستياك الإمام
بحضرة رعيته.
قال الشيخ الإمام الشارح تقي الدين رحمه الله:
والتراجم التي يترجم بها أصحاب التصانيف على
الأحاديث إشارة إلى المعاني المستنبطة منها:
على ثلاث مراتب منها: ما هو ظاهر في الدلالة
على المراد بعيد مستكره لا يتمشى إلا بتعسف
ومنها: ما هو ظاهر الدلالة على المراد إلا أن
فائدته قليلة لا تكاد تستحسن مثل ما ترجم باب
السواك عند رمي الجمار.
وهذا القسم - أعني ما لا تظهر منه الفائدة -
يحسن إذا وجد معنى في ذلك المراد يقتضي تخصيصه
بالذكر فتارة يكون سببه الرد على مخالف في
المسألة لم تشهر مقالته مثل ما ترجم على أنه
يقال ما صلينا فإنه نقل عن بعضهم أنه كره ذلك
ورد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن
صليتها أو ما صليتها" وتارة يكون سببه الرد
على فعل شائع بين الناس لا أصل له فيذكر
الحديث للرد على من فعل ذلك الفعل كما اشتهر
بين الناس في هذا المكان: التحرز عن قولهم ما
صلينا إن لم يصح أن أحدا كرهه وتارة يكون
لمعنى يخص الواقعة لا يظهر لكثير من الناس في
بادئ الرأي مثل ما ترجم على هذا الحديث استياك
الإمام بحضرة رعيته فإن الاستياك من أفعال
البذلة.
ـــــــ
1 أخرجه أحمد من حديث أبي موسى قال: دخلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وهو
واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق فوصف
حماد كأنه يرفع سواكه قال حماد ووصفه لنا
غيلان قال: كن يستن طولا "4/417" وأخرجه
البخاري "244" ومسلم "254" "45" ولفظ البخاري
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يستن
بسواك بيده يقول: أع أع والسواك في فيه كأنه
يتهوع.
(1/51)
والمهنة
ويلازمه أيضا من إخراج البصاق وغيره لبعض
الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاؤه وتركه بحضرة
الرعية.
وقد اعتبر الفقهاء في مواضع كثيرة هذا المعنى
وهو الذي يسمونه بحفظ المروءة فأورد هذا
الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يطلب
إخفاؤه ويتركه الإمام بحضرة الرعايا إدخالا له
في باب العبادات والقربات والله أعلم.
(1/52)
3 -
باب المسح على
الخفين
1 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت
مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت
لأنزع خفيه فقال: "دعهما فأني أدخلتهما
طاهرتين" فمسح عليهما.1.
2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال:
"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبال وتوضأ
ومسح على خفيه"2 مختصر.
كلا الحديثين يدل على جواز المسح على الخفين
وقد تكثرت فيه الروايات ومن أشهرها: رواية
المغيرة ومن أصحها: رواية جرير بن عبد الله
البجلي - بفتح الباء والجيم معا - وكان أصحاب
عبد الله بن مسعود يعجبهم حديث جرير3 لأن
إسلامه كان بعد نزول المائدة.
ومعنى هذا الكلام: أن آية المائدة إن كانت
متقدمة على المسح على الخفين كاو جواز المسح
ثابتا من غير نسخ وإن كان مسح الخفين متقدما
كانت آية المائدة تقتضي خلاف ذلك فينسخ بها
المسح فلما تردد الحال توقفت الدلالة عند قوم
وشكوا في جواز المسح.
وقد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قد
علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح
على الخفين ولكن أقبل المائدة أم بعدها؟ إشارة
منه بهذا الاستفهام إلى ما ذكرناه فلما جاء
حديث جرير مبينا للمسح بعد نزول المائدة: زال
الإشكال.
وفي بعض الروايات: التصريح بأنه: "رأى النبي
صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين بعد نزول
المائدة" وهو أصرح من رواية من روى عن جرير
وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة؟4.
ـــــــ
1 البخاري "206" ومسلم "274" "79" واللفظ
للبخاري.
2 البخاري "224" "225" "226" ومسلم "273" بلفظ
قريب منه.
3 البخاري "387" ومسلم "272" ولفظه مسلم عن
همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه
فقيل تفعل هذا؟ فقال: نعم, رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه قال
الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث
لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
4 الترمذي "94" وأبو داود "154".
(1/52)
وقد اشتهر جواز
المسح على الخفين عند علماء الشريعة حتى عد
شعارا لأهل السنة وعد إنكاره شعارا لأهل
البدع.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة:
"دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" دليل على
اشتراط الطهارة في اللبس لجواز المسح حيث علل
عدم نزعهما بإدخالهما طاهرتين فيقتضي أن
إدخالهما غير طاهرتين مقتض للنزع.
وقد استدل به بعضهم على أن إكمال الطهارة
فيهما شرط حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف ثم
غسل الأخرى وأدخلها الخف: لم يجز المسح.
وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف - أعني في دلالته
على حكم هذه المسألة - فلا يمتنع أن يعبر بهذه
العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة بل
ربما يدعي أنه ظاهر في ذلك فإن الضمير في
قوله: "أدخلتهما" يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة
منهما.
نعم من روى: "فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" فقد
يتمسك برواية هذا القائل من حيث إن قوله:
"أدخلتهما" إذا اقتضى كل واحدة منهما فقوله:
"وهما طاهرتان" حال من كل واحدة منهما فيصير
التقدير: أدخلت كل واحدة في حال طهارتها وذلك
إنما يكون بكمال الطهارة.
وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه: قد
لا يتأتى في رواية من روى: "أدخلتهما طاهرتين"
وعلى كل حال فليس الاستدلال بذلك القوي جدا
لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معا اللهم
إلا أن يضم إلى هذا دليل يدل على أنه لا يحصل
الطهارة لإحداهما إلا بكمال الطهارة في جميع
الأعضاء فحينئذ يكون ذلك الدليل - مع هذا
الحديث - مستندا لقول القائلين بعدم الجواز
أعني أن يكون المجموع هو المستند فيكون هذا
الحديث دليلا على اشتراك طهارة كل واحدة منهما
ويكون ذلك الدليل دالا على أنها لا تطهر إلا
بكمال الطهارة.
ويحصل من هذا المجموع: حكم المسألة المذكورة
في عدم الجواز وفي حديث حذيفة: تصريح بجواز
المسح عن حدث البول وفي حديث صفوان بن عسال -
بالعين المهملة وتشديد السين - ما يقتضي جوازه
عن حدث الغائط وعن النوم أيضا ومنعه عن
الجنابة1.
ـــــــ
1 أخرج الترمذي من حديث صفوان بن عسال "96"
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا
إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفنا ثلاثة أيام
ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم
وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
(1/53)
باب المذي و غيره
...
4 - باب المذي وغيره.
1 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت
رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم لمكان ابنته مني فأمرت المقداد
بن الأسود فسأله فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" 1.
و للبخاري: "اغسل ذكرك وتوضأ" ولمسلم: "توضأ
وانضح فرجك" 2.
المذي: مفتوح الميم ساكن الذال المعجمة مخفف
الياء هذا هو المشهور فيه وقيل: فيه لغة أخرى:
وهي كسر الذال وتشديد الياء - هو الماء الذي
يخرج من الذكر عند الإنعاظ3.
وقول علي رضي الله عنه: "كنت رجلا مذاء" هي
صيغة مبالغة على زنة فعال من المذي يقال: مذى
يمذي وأمذى يمذي.
وفي الحديث فوائد:
أحدها: استعمال الأدب ومحاسن العادات في ترك
المواجهة بما يستحيى منه عرفا والحياء تغير
وانكسار يعرض للإنسان من تخوف ما يعاتب به أو
يذم عليه كذا قيل في تعريفه.
وقوله: "فاستحييت" هي اللغة الفصيحة وقد يقال:
استحيت.
وثانيها: وجوب الوضوء من المذي وأنه ناقض
للطهارة الصغرى.
وثالثها: عدم وجوب الغسل منه.
ورابعها: نجاسته من حيث إنه أمر بغسل الذكر
منه.
وخامسها: اختلفوا هل يغسل منه الذكر كله أو
محل النجاسة فقط؟.
فالجمهور على أنه يقتصر على محل النجاسة وعند
طائفة من المالكية: أنه يغسل منه الذكر كله
تمسكا بظاهر قوله: "يغسل ذكره" فإن اسم الذكر
حقيقة في العضو كله وبنوا على هذا فرعا وهو:
أنه هل يحتاج إلى نية في غسله؟ فذكروا قولين
من حيث إنا إذا أوجبنا غسل جميع الذكر: كان
ذلك تعبدا والطهارة التعبدية: تحتاج إلى نية
كالوضوء.
وإنما عدل الجمهور عن استعمال الحقيقة في
الذكر كله نظرا منهم إلى المعنى فإن الموجب
للغسل: إنما هو خروج الخارج وذلك يقتضي
الاقتصار على محله.
ـــــــ
1 البخاري "269" ومسلم "303" "17" ولفظ "مني"
ليس في الصحيحين.
2 مسلم "303" "19".
3 هو الانتشار يقال نعظ ذكره إذا قام القاموس
نعظ.
(1/54)
وسادسها: قد
يستدل به على أن صاحب سلس المذي يحب عليه
الوضوء منه من حيث إن عليا رضي الله عنه وصف
نفسه بأنه كان مذاء وهو الذي يكثر منه المذي
ومع ذلك أمر بالوضوء وهو استدلال ضعيف لأن
كثرته قد تكون على وجه الصحة لغلبة الشهوة
بحيث يمكن دفعه وقد تكون على وجه المرض
والاسترسال بحيث لا يمكن دفعه وليس في الحديث
بيان صفة هذا الخارج على أي الوجهين هو؟.
وسابعها: المشهور في الرواية: "يغسل ذكره" بضم
اللام على صيغة الإخبار وهو استعمال لصيغة
الإخبار بمعنى الأمر واستعمال صيغة الإخبار
بمعنى الأمر جائز مجازا لما يشتركان فيه من
معنى الإثبات للشيء.
ولو روى: يغسل ذكره - بجزم اللام على حذف
اللام الجازمة وإبقاء عملها - لجاز عند بعضهم
على ضعف ومنهم من منعه إلا لضرورة كقول
الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس
وثامنها: "وانضح فرجك" يراد به: الغسل هنا
لأنه المأمور به مبينا في الرواية الأخرى ولأن
غسل النجاسة المغلظة لا بد منه ولا يكتفي فيه
بالرش الذي هو دون الغسل والرواية: "وانضح"
بالحاء المهملة لا نعرف غيره ولو روي "انضخ"
بالخاء المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل فإن
النضح بالمعجمة - أكبر من النضح بالمهملة.
وتاسعها: قد يتمسك به - أو تمسك به - في قبول
خبر الواحد من حيث إن عليا رضي الله عنه أمر
المقداد بالسؤال ليقبل خبره والمراد بهذا: ذكر
صورة من الصور التي تدل على قبول خبر الواحد
وهي فرد من أفراد لا تحصى والحجة تقوم بجملتها
لا بفرد معين منها لأن إثبات ذلك بفرد معين:
إثبات للشيء بنفسه وهو محال وإنما تذكر صورة
مخصوصة للتنبيه على أمثالها لا للاكتفاء بها
فيلعلم ذلك فإنه مما انتقد على بعض العلماء
حيث استدل بآحاد وقيل: أثبت خبر الواحد
وجوابه: ما ذكرناه.
ومع هذا فالاستدلال عندي لا يتم بهذه الرواية
وأمثالها لجواز أن يكون المقداد سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن المذي بحضرة علي فسمع
علي الجواب فلا يكون من باب قبول خبر الواحد
وليس من ضرورة كونه يسأل عن المذي بحضرة علي:
أن يذكر أنه هو السائل نعم إن وجدت رواية
مصرحة بأن عليا أخذ هذا الحكم عن المقداد ففيه
الحجة.
وعاشرها: قد يؤخذ من قوله عليه السلام في بعض
الروايات: "توضأ وانضح فرجك" جواز تأخير
الاستنجاء عن الوضوء وقد صرح به بعضهم وقال في
قوله: "توضأ واغسل ذكرك" إن فيه دليلا عن أن
الاستنجاء يجوز وقوعه بعد الوضوء وأن الوضوء
لا يفسد.
(1/55)
بتأخير
الاستنجاء عنه وهذا يتوقف على القول بكون
الواو للترتيب وهو مذهب ضعيف وفي هذا التوقف
نظر وليعلم بأنه لا يفسد الوضوء بتأخير
الاستنجاء إذا كان الاستنجاء بحائل يمنع
انتقاض الطهارة.
وحادي عشرها: اختلفوا في أنه هل يجوز في المذي
الاقتصار على الأحجار؟ والصحيح: أنه لا يجوز
ودليله: أمره صلى الله عليه وسلم بغسل الذكر
منه فإن ظاهره يعين الغسل والمعين لا يقع
الامتثال إلا به.
ثاني عشرها: الفرج: هنا هو الذكر والصيغة لها
وضعان: لغوي وعرفي فأما اللغوي: فهو مأخوذ من
الانفراج فعلى هذا: يدخل فيه الدبر ويلزم منه
انتقاض الطهارة بمسه لدخوله تحت قوله: "من مس
فرجه فليتوضأ" 1 وأما العرفي: فالغالب
استعماله في القبل من الرجل والمرأة والشافعية
استدلوا في انتقاض الوضوء بمس الدبر بالحديث
وهو قوله: "من مس فرجه" فيحتمل أن يكون ذلك
لأنه لم يثبت في ذلك عند المستدل به عرف يخالف
الوضع ويحتمل أن يكون ذلك لأنه ممن يقدم الوضع
اللغوي على الاستعمال العرفي.
2 - عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد عاصم
المازني رضي الله عنه قال: شكي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم الرجل [الذي] يخيل إليه أنه
يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا ينصرف حتى يسمع
صوتا أو يجد ريحا" 2.
الشيء المشار إليه: هي الحركة التي يظن أنها
حدث والحديث أصل في إعمال الأصل وطرح الشك
وكأن العلماء متفقون على هذه القاعدة لكنهم
يختلفون في كيفية استعمالها مثاله: هذه
المسألة التي دل عليها الحديث و هي: من شك في
الحدث بعد سبق الطهارة فالشافعي أعمل الأصل
السابق وهو الطهارة وطرح الشك الطارئ وأجاز
الصلاة في هذه الحالة.
ومالك منع من الصلاة مع الشك في بقاء الطهارة
وكأنه أعمل الأصل الأول وهو ترتب الصلاة في
الذمة ورأى أن لا يزال إلا بطهارة متيقنة وهذا
الحديث ظاهر في إعمال الطهارة الأولى واطراح
الشك.
والقائلون بهذا اختلفوا فالشافعي اطرح الشك
مطلقا وبعض المالكية اطرح بشرط أن يكون في
الصلاة وهذا له وجه حسن فإن القاعدة: أن مورد
النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في
الحكم فالأصل يقتضي اعتباره وعدم اطراحه وهذا
الحديث يدل على اطراح الشك إذا وجد في الصلاة
وكونه موجودا في الصلاة: معنى يمكن أن يكون
ـــــــ
1 هذا لفظ أبي داود من حديث بسرة بنت صفوان
"181" وأخرجه الترمذي "82" وقال: هذا حديث حسن
صحيح.
2 البخاري "137" ومسلم "261".
(1/56)
معتبرا فإن
الدخول في الصلاة مانع من إبطالها على ما
اقتضاه استدلالهم في مثل هذا بقوله تعالى:
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]
فصارت صحة الصلاة أصلا سابقا على حالة الشك
مانعا من الإبطال ولا يلزم من إلغاء الشك مع
وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع
وصحة العمل ظاهرا: معنى يناسب عدم الالتفات
إلى لاشك يمكن اعتباره فلا ينبغي إلغاؤه.
ومن أصحاب مالك من قيد هذا الحكم - أعني اطراح
الشك - بقيد آخر وهو أن يكون الشك في سبب حاضر
كما جاء في الحديث حتى لو شك في تقدم الحدث
على وقته الحاضر لم تبح له الصلاة.
ومأخذ هذا: ما ذكرناه من أن مورد النص ينبغي
اعتبار أوصافه التي ينبغي اعتبارها ومورد
النص: اشتمل على هذا الوصف وهو كونه شك في سبب
حاضر فلا يلحق به ما ليس في معناه من الشك في
سبب متقدم إلا أن هذا القول أضعف قليلا من
الأول لأن صحة العمل ظاهرا وانعقاد الصلاة:
سبب مانع مناسب لاطراح الشك وأما كون السبب
ناجزا: فإما غير مناسب أو مناسب مناسبة ضعيفة.
والذي يمكن أن يقرر به قول هذا القائل: أن يرى
أن الأصل الأول - وهو ترتب الصلاة في ذمته -
معمول به فلا يخرج عنه إلا بما ورد فيه النص
وما بقي يعمل فيه بالأصل ولا يحتاج في المحل
الذي خرج عن الأصل بالنص إلى مناسبة كما في
صور كثيرة عمل فيها العلماء هذا العمل أعني
أنهم اقتصروا على مورد النص إذا خرج عن الأصل
أو القياس من غير اعتبار مناسبة وسببه: أن
إعمال النص في مورده لا بد منه والعمل بالأصل
أو القياس المطرد: مسترسل لا يخرج عنه إلا
بقدر الضرورة ولا ضرورة فيما زاد على مورد
النص ولا سبيل إلى إبطال النص في مورده سواء
كان مناسبا أو لا وهذا يحتاج معه إلى إلغاء
وصف كونه في صلاة ويمكن هذا القائل منع ذلك
بوجهين.
أحدهما: أن يكون هذا القائل نظر إلى ما في بعض
الروايات1 وهو أن يكون الشك لمن هو في المسجد
وكونه في المسجد: أعم من كونه في الصلاة فيؤخذ
من هذا: إلغاء ذلك القيد الذي اعتبره القائل
الآخر وهو كونه في الصلاة ويبقى كونه شاكا في
سبب ناجز إلا أن القائل الأول له أن يحمل كونه
في المسجد على كونه في الصلاة فإن الحضور في
المسجد يراد للصلاة فقد يلازمها فيعبر به عنها
وهذا - وإن كان مجازا - إلا أنه يقوى إذا
اعتبر الحديث.
ـــــــ
1 هي رواية أخرجها الترمذي من حديث أبي هريرة
"75" "إذا كان أحدكم في المسجد فوجد ريحا بين
أليتيه فلا يخرج حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وهو قول
العلماء: أن لا يجب عليه الوضوء إلا من حدث:
يسمع صوتا أو يجد ريحا.
(1/57)
الأول وكان
حديثا واحدا مخرجه من جهة واحدة فحينئذ يكون
ذلك الاختلاف اختلافا في عبارة الراوي بتفسير
أحد اللفظين بالآخر ويرجع إلى أن المراد: كونه
في الصلاة.
الثاني: - وهو أقوى من الأول - ما ورد في
الحديث: "إن الشيطان ينفخ بين أليتي الرجل" 1
وهذا المعنى يقتضي مناسبة السبب الحاضر لإلغاء
الشك.
وإنما أوردنا هذه المباحث ليتلمح الناظر مأخذ
العلماء في أقوالهم فيرى ما ينبغي ترجيحه
فيرجحه وما ينبغي إلغاؤه فيلغيه والشافعي رحمه
الله ألغى القيدين معا - أعني كونه في الصلاة
وكونه في سبب ناجز - واعتبر أصل الطهارة.
3 - عن أم قيس بنت محصن الأسدية: "أنها أتت
بان لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال في
ثوبه فدعا بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله"2.
4 - وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال على
ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه"3.
ولمسلم: "فأتبعه بوله ولم يغسله"4.
الكلام عليه: اختلف العلماء في بول الصبي الذي
لم يطعم الطعام في موضعين: أحدهما: في طهارته
أو نجاسته ولا تردد في قول الشافعي وأصحابه في
أنه نجس والقائلون بالنجاسة اختلفوا في
تطهيره: هل يتوقف على الغسل أم لا؟ فمذهب
الشافعي وأحمد: أنه لا يتوقف على الغسل بل
يكفي فيه الرش والنضح وذهب مالك وأبو حنيفة
إلى غسله كغيره والحديث ظاهر في الاكتفاء
بالنضح وعدم الغسل لا سيما مع قولها: "ولم
يغسله" والذين أوجبوا غسله: اتبعوا القياس على
سائر النجاسات وأولوا الحديث.
وقولها: "ولم يغسله" أي غسلا مبالغا فيه كغيره
وهو لمخالفته الظاهر محتاج إلى دليل يقاوم هذا
الظاهر.
ويبعده أيضا: ما ورد في بعض الأحاديث5 من
التفرقة بين بول الصبي والصبية فإن.
ـــــــ
1 انظر تلخيص الحبير "1/128" فإن فيه تحقيقا
مهما عن هذا الحديث.
2 البخاري "223" ومسلم "287".
3 البخاري "222" ومسلم "286".
4 مسلم "286" "101"
5 وذلك في رواية اخرجها الترمذي "610" عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الغلام
الرضيع "ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية"
قال قتادة وهذا ما لم يطعما غسلا جميعا قال
أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ورواية أبي داود
"377" "يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام ما
لم يطعم".
(1/58)
الموجبين للغسل
لا يفرقون بينهما ولما فرق في الحديث بين
النضح في الصبي والغسل في الصبية: كان ذلك
قويا في أن النضح غير الغسل إلا أن يحملوا ذلك
على قريب من تأويلهم الأول وهو إنما يفعل في
بول الصبية أبلغ مما يفعل في بول الصبي فسمي
الأبلغ غسلا والأخف نضحا.
واعتل بعضهم في هذا بأن بول الصبي يقع في محل
واحد وبول الصبي يقع منتشرا فيحتاج إلى صب
الماء في مواضع متعددة ما لا يحتاج إليه في
الصبي وربما حمل بعضهم لفظ النضح في بول الصبي
على الغسل وتأيد بما في الحديث من ذكر "مدينة
ينضح البحر بجوانبها" 1 وهذا ضعيف لوجهين.
أحدها: قولها: "ولم يغسل".
والثاني: التفرقة بين بول الصبي والصبية
والتأويل فيه عندهم ما ذكرناه.
وفسر بعض أصحاب الشافعي النضح أو الرش المذكور
في بول الصبي فقال: ومعنى الرش: أن يصب عليه
من الماء ما يغلبه بحيث لو كان بدل البول
نجاسة أخرى وعصر الثوب: كان يحكم بطهارته.
والصبي المذكور في الحديث محمول على الذكر وفي
مذهب الشافعي في الصبية خلاف والمذهب: وجوب
الغسل للحديث الفارق بين بول الصبي والصبية
وقد ذكر في معنى التفرقة بينهما وجوه:
منها: ما هو ركيك جدا لا يستحق أن يذكر ومنها:
ما هو قوي وأقوى ذلك ما قيل: إن النفوس أعلق
بالذكور منها بالإناث فيكثر حمل الذكور فيناسب
التخفيف بالاكتفاء بالنضح دفعا للعسر والحرج
بخلاف الإناث فإن هذا المعنى قليل فيهن فيجري
على القياس في غسل النجاسة.
وقد استدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن
الغسل لا بد فيه من أمر زائد على مجرد إيصال
الماء من جهة قولها: "ولم يغسله" مع كونه
أتبعه بماء.
5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء
أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس
فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى
بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من
ماء فأهريق عليه"2.
ـــــــ
1 روى الإمام أحمد "إني لأعلم أرضا يقال لها
عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من العرب لو
أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" "1/44"
وهذا إسناده ضعيف لانقطاعه أبو لبيد لم يدرك
عمر ولا أبا بكر ويشهد للمرفوع منه حديث أبي
برزة الأسلمي عند مسلم "لو أن أهل عمان أتيت
ما سبوك ولا ضربوك".
2 البخاري "220" ومسلم "284" واللفظ للبخاري
عدا "فأهريق" ففيه فهريق.
(1/59)
الأعرابي منسوب
إلى الأعراب وهم سكان البوادي ووقعت النسبة
إلى الجمع دون الواحد فقيل: لأنه جرى مجرى
القبيلة كأنمار أو لأنه لو نسب إلى الواحد وهو
"عرب" لقيل: عربي فيشتبه المعنى فإن العربي كل
من هو من ولد إسماعيل عليه السلام سواء كان
ساكنا بالبادية أو بالقرى وهذا غير المعنى
الأول.
وزجر الناس له من باب المبادرة إلى إنكار
المنكر عند من يعتقده منكرا.
وفيه تنزيه المسجد عن الأنجاس كلها ونهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن زجره: لأنه إذا قطع
عليه البول أدى إلى ضرر بنيته والمفسدة التي
حصلت ببوله قد وقعت فلا تضم إليها مفسدة أخرى
وهي ضرر بنيته.
وأيضا فإنه إذا زجر - مع جهله الذي ظهر منه -
قد يؤدي إلى تنجيس مكان آخر من المسجد بترشيش
البول بخلاف ما إذا ترك حتى يفرغ من البول فإن
الرشاش لا ينتشر وفي هذا الإبانة عن جميل
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ولطفه ورفقه
بالجاهل.
والذنوب بفتح المعجمة ههنا: هي الدلو الكبيرة
إذا كانت ملأى أو قريبا من ذلك ولا تسمى ذنوبا
إلى إذا كان فيها ماء والذنوب أيضا: النصيب1
قال الله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}
[الذريات: 59] ولعلقمة.
فحق لشاس من نداك نصيب
وفي الحديث: دليل على تطهير الأرض النجسة
بالمكاثرة بالماء وقد قال الفقهاء: يصب على
البول من الماء ما يغمره ولا يتجدد بشيء وقيل:
يستحب أن يكون سبعة أمثال البول.
واستدل بالحديث: أيضا على أنه يكتفى بإفاضة
الماء ولا يشترك نقل التراب من المكان بعد ذلك
خلافا لمن قال به.
ووجه الاستدلال بذلك: أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يرد عنه في هذا الحديث الأمر بنقل
التراب وظاهر ذلك: الاكتفاء بصب الماء فإنه لو
وجب لأمر به ولو أمر به لذكر وقد وردت في حديث
آخر2 ذكر الأمر بنقل التراب من حديث سفيان بن
عيينة ولكنه تكلم فيه.
وأيضا فلو كان نقل التراب واجبا في التطهير
لاكتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون
زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى
المقصود وهو تطهير الأرض.
ـــــــ
1 وجمعه إذا كان بمعنى النصيب: أذنبة وذنائب
وذناب القاموس ذنب.
2 هو رواية أبي داود "381" من حديث عبد الله
بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي صلى
الله عليه وسلم بهذه القصة قال فيه وقال يعني
النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما بال عليه
من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءا",
قال أبو داود: هو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي
صلى الله عليه وسلم.
(1/60)
6 - عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "الفطرة خمس: الختان
والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف
الإبط" 1.
قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي -
المعروف بالقزاز - في كتاب تفسير غريب صحيح
البخاري الفطرة تنصرف في كلام العرب على وجوب
أذكرها لترد هذا إلى أولاها به.
فأحدها: فطرة الخلق فطره: أنشأه والله فاطر
السموات والأرض أي خالقهما والفطرة الجبلة
التي خلق الله الناس عليها وجبلهم على فعلها
وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة" 2 قال
قوم من أهل اللغة: فطرة الله التي فطر الناس
عليها: أي خلقه لهم وقيل: معنى قوله: "على
الفطرة" أي على الإقرار بالله الذي كان أقر له
لما أخرجه من ظهر آدم والفطرة زكاة الفطر.
وأولى الوجوه بما ذكرنا: أن تكون الفطرة ما
جبل الله الخلق عليه وجبل طباعهم على فعله وهي
كارهة ما في جسده مما هو ليس من زينته.
وقد قال غير القزاز: الفطرة هي السنة.
واعلم أن قوله في هذه الرواية: "الفطرة خمس"
وقد ورد في رواية أخرى: "خمس من الفطرة" 3
وبين اللفظتين تفاوت ظاهر فإن الأول ظاهره
الحصر كما يقال: العالم في البلد زيد إلا أن
الحصر في مثل هذا: تارة يكون حقيقيا وتارة
يكون مجازيا والحقيقي مثاله ما ذكرناه من
قولنا: العالم في البلد زيد إذا لم يكن فيها
غيره ومن المجاز: "الدين النصيحة" 4 كأنه بولغ
في النصيحة إلى أن جعل الدين إياها وإن كان في
الدين خصال أخرى غيرها وإذا ثبت في الرواية
الأخرى عدم الحصر - أعني قوله عليه السلام:
"خمس من الفطرة" - وجب إزالة هذه الرواية عن
ظاهرها المقتضي للحصر وقد ورد في بعض الروايات
الصحيحة أيضا:
"عشر من الفطرة" 5 وذلك أصرح في عدم الحصر
وأنص على ذلك.
و "الختان" ما ينتهي إليه القطع من الصبي
والجارية يقال: ختن الصبي يختنه ويختنه - بكسر
التاء وضمها - ختنا بإسكان التاء6.
ـــــــ
1 البخاري "5891" ومسلم "257" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1385" ومسلم "2258" من حديث أبي
هريرة.
3 البخاري "5889" ومسلم "257".
4 مسلم "55" من حديث تميم الداري.
5 مسلم "261" من حديث عائشة والترمذي "2757"
وأبو داود "53".
6 راجع القاموس ختن.
(1/61)
و "الاستحداد"
استفعال من الحديد وهو إزالة شعر العانة
بالحديد فأما إزالته بغير ذلك كالنتف
وبالنورة: فهو محصل للمقصود لكن السنة وهو
الأول: الذي دل عليه لفظ الحديث: فإن
الاستحداد استفعال بالحديد.
و "قص الشارب" مطلق ينطلق على إحفائه وعلى ما
دون ذلك واستحب بعض العلماء إزالة ما زاد على
الشفة وفسروا به قوله صلى الله عليه وسلم:
"وأحفوا الشوارب" 1 وقوم يرون إنهاكها وزوال
شعرها ويفسرون به الإحفاء فإن اللفظ يدل على
الاستقصاء ومنه: إحفاء المسألة وقد ورد في بعض
الروايات: "أنهكوا الشوارب" 2 والأصل في قص
الشوارب وإحفائها وجهان أحدهما: مخالفة زي
الأعاجم وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح
حيث قال: "خالفوا المجوس" 3 والثاني: أن
زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في
النظافة وأنزه من وضر الطعام.
و "تقليم الأظافر" قطع ما طال عن اللحم منها
يقال: قلم أظفاره تقليما والمعروف فيه:
التشديد كما قلنا والقلامة ما يقطع من الظفر
وفي ذلك معنيان أحدهما: تحسين الهيئة والزينة
وإزالة القباحة من طول الأظفار والثاني: أنه
أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل
الوجوه لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع
من وصول الماء إلى البشرة وهذا على قسمين:
أحدهما: أن لا يخرج طولها عن العادة خروجا
بينا وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل
الطهارة الشرعية على أكمل الوجوب فإنه إذا لم
يخرج طولها عن العادة يعفى عما يتعلق بها من
يسير الوسخ وأما إذا زاد على المعتاد: فما
يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة
وقد ورد في بعض الأحاديث: الإشارة إلى هذا
المعنى.
و "نتف الآباط" إزالة ما نبت عليها من الشعر
بهذا الوجه أعني النتف وقد يقوم مقامه ما يؤدي
إلى المقصود إلا أن استعمال ما دلت عليه السنة
أولى.
وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة
وإزالة شعر الإبط فذكر في الأول الاستحداد وفي
الثاني النتف وذلك مما يدل على رعاية هاتين
الهيئتين في محلهما ولعل السبب فيه: أن الشعر
بحلقه يقوى أصله ويغلظ جرمه ولهذا يصف الأطباء
تكرار حلق الشعر.
ـــــــ
1 البخاري "5892" من حديث ابن عمر ومسلم "259"
ولفظ مسلم: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى".
2 لفظ البخاري "5893" "أنهكوا الشوارب وأعفوا
اللحى" ومسلم "260" "جزوا الشوارب....".
3 لفظ الشيخين: "خالفوا المشركين" البخاري
"5892" ومسلم "260" "54" ولفظ أحمد في مسنده
"8785" "...وخالفوا المجوس".
(1/62)
في المواضع
التي يراد قوته فيها والإبط إذا قوي فيه الشعر
وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية
لمن يقاربها فناسب أن يسن فيه النتف المضعف
لأصله المقلل للرائحة الكريهة وأما العانة:
فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في
الإبط فزال المعنى المقتضي للنتف رجح إلى
الاستحداد لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير
معارض.
وقد اختلف العلماء في حكم الختان فمنهم من
أوجبه وهو الشافعي ومنهم جعله سنة وهو مالك
وأكثر أصحابه: "هذا في الرجال وأما في النساء:
فهو مكرمة على ما قالوا".
ومن فسر الفطرة بالسنة فقد تعلق بهذا اللفظ في
كونه غير واجب لوجهين أحدهما: أن السنة تذكر
في مقابلة الواجب والثاني: أن قرائنه مستحبات.
والاعتراض على الأول: أن كون السنة في مقابلة
الواجب وضع اصطلاحي لأهل الفقه والوضع اللغوي
غيره وهو الطريقة ولم يثبت استمرار استعماله
في هذا المعنى في كلام صاحب الشرع صلوات الله
عليه وإذا لم يثبت استمراره في كلامه صلى الله
عليه وسلم لم يتعين حمل لفظه عليه.
والطريقة التي يستعملها الخلافيون من أهل
عصرنا وما قاربه أن يقال: إذا ثبت استعماله في
هذا المعنى فيدعى أنه كان مستعملا قبل ذلك
لأنه لوكان الوضع غيره فيما سبق لزم أن يكون
قد تغير إلى هذا الوضع والأصل عدم تغيره.
وهذا كلام طريف وتصرف غريب قد يتبادر إلى
إنكاره ويقال: الأصل استمرار الواقع في الزمن
الماضي إلى هذا الزمان أما أن يقال: الأصل
انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمن
الماضي: فلا لكن جوابه ما تقدم.
وهو أن يقال: هذا الوضع ثابت فإن كان هو الذي
وقع في الزمان الماضي فهو المطلوب وإن لم يكن
ن فالواقع في الزمان الماضي غيره حينئذ وقد
تغير والأصل عدم التغير لما وقع في الزمن
الماضي فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال
في الزمن الماضي وهذا - وإن كان طريفا كما
ذكرناه - إلا أنه طريق جدل لا جلد والجدلي في
طرائق التحقيق: سالك على محجة مضيق وإنما تضعف
هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ظنا وأما
إذا استوى الأمران فلا بأس به.
وأما الاستدلال بالاقتران: فهو ضعيف إلا أنه
في هذا المكان قوي لأن لفظة الفطرة لفظة واحدة
استعملت في هذه الأشياء الخمسة فلو افترقت في
الحكم - أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء
لإفادة الوجوب وفي بعضها لإفادة الندب - لزم
استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي
ذلك ما عرف في علم الأصول وإنما تضعف دلالة
الاقتران ضعفا إذا استقلت الجمل في الكلام ولم
يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين كما
جاء في الحديث:
(1/63)
"لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من
الجنابة" 1 حيث استدل به بعض الفقهاء على أن
اغتسال الجنب في الماء يفسده لكونه مقرونا
بالنهي عن البول فيه والله أعلم.
ـــــــ
1 تقدم الحديث وهذا لفظ أبي داود من حديث أبي
هريرة "70".
(1/64)
5 -
باب الجنابة.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو
جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت,
فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟, قال: كنب جنبا
فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة, فقال:
"سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس" 1.
الجنابة دالة على معنى البعد ومنه قوله تعالى:
{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وعن
الشافعي أنه قال: إنما سمي جنبا من المخالطة
ومن كلام العرب: أجنب الرجل إذا خالط امرأته.
قال بعضهم: وكأن هذا ضد للمعنى الأول كأنه من
القرب منها وهذا لا يلزم فإن مخالطتها مؤدية
إلى الجنابة التي معناها البعد على ما قدمناه.
وقول أبي هريرة: "فانخنست منه" الانخناس:
الانقباض والرجوع وما قارب ذلك من المعنى
يقال: خنس لازما ومتعديا فمن اللازم: ما جاء
في الحديث في ذكر الشيطان: "فإذا ذكر الله
خنس" 2 ومن المتعدي: ما جاء في الحديث: "وخنس
إبهامه" 3 أي قبضها وقيل: إنه يقال أخنسه في
المتعدي ذكره صاحب مجمع البحرين.
وقد روي في هذه اللفظة: "فانبجست منه" بالجيم
من الانبجاس وهو الاندفاع أي اندفعت عنه
ويؤيده قوله في حديث آخر: "فانسللت منه"4 وروي
في هذه اللفظة أيضا: "فانبخست منه" من البخس
وهو النقص وقد استبعدت هذه الرواية ووجهت -
على بعدها - بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن
مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو
مصاحبته مع اعتقاده نجاسة نفسه هذا أو معناه.
ـــــــ
1 البخاري "283" ومسلم "371".
2 البيهقي في شعب الإيمان "1/403" ولفظه: "إن
شيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله
خنس وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس".
3 ولفظه عن ابن عمر "إن الشهر هكذا وهكذا",
وخنس الإبهام في الثالث البخاري 1908" ومسلم
"1080" "16".
4 البخاري "285" دون لفظة "منه".
(1/64)
وقوله: "كنت
جنبا" أي كنت ذا جنابة وهذه اللفظة تقع على
الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ
واحد قال الله تعالى في الجمع: {وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]
وقال بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إني
كنت جنبا1 وقد يقال: جنبان وجنبون وأجناب.
وقوله: "فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة"
يقتضي استحباب الطهارة في ملابسة الأمور
العظيمة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رد
ذلك لأن الطهارة لم تزل بقول: "إن المؤمن لا
ينجس" لا ردا لما دل عليه لفظ أبي هريرة من
استحباب الطهارة لملا بسته صلى الله عليه وسلم
وفي هذا نظر.
وقوله: "سبحان الله" تعجب من اعتقاد أبي هريرة
التنجس بالجنابة.
وقوله: "إن المؤمن لا ينجس" يقال: نجس ونجس
ينجس - بالفتح والضم -2.
وقد استدل بالحديث على طهارة الميت من بني آدم
وهي مسألة مختلف فيها والحديث دل على أن
المؤمن لا ينجس فمنهم من خص هذه الفضيلة
بالمؤمن والمشهور التعميم وبعض الظاهرية: يرى
أن المشرك نجس في حال حياته أخذا بظاهر قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]
ويقال للشيء: إنه نجس بمعنى أن عينه نجسة
ويقال فيه: إنه نجس بمعنى أنه متنجس بإصابة
النجاسة له ويجب أن يحمل على المعنى الأول وهو
أن عينه لا تصير نجسة لأنه يمكن أن يتنجس
بإصابة النجاسة فلا ينفي ذلك.
وقد اختلف الفقهاء في أن الثوب إذا أصابته
نجاسة: هل يكون نجسا أم لا؟ فمنهم من ذهب إلى
أنه نجس وأن اتصال النجس بالطاهر موجب لنجاسة
الطاهر ومنهم من ذهب إلى أن الثوب طاهر في
نفسه وإنما يمتنع استصحابه في الصلاة بمجاورة
النجاسة.
فلهذا القائل أن يقول: دل الحديث على أن
المؤمن لا ينجس ومقتضاه: أن بدنه لا يتصف
بالنجاسة وهذا يدخل تحته حالة ملابسة النجاسة
له فيكون طاهرا وإذا ثبت ذلك في البدن ثبت في
الثوب لأنه لا قائل بالفرق.
أو يقول: البدن إذا أصابته النجاسة: من مواضع
النزاع وقد دل الحديث على أنه غير نجس وعلى ما
قدمناه - من أن الواجب حمله على نجاسة العين -
يحصل الجواب عن هذا الكلام.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس "65" وأبو
داود "68" ولفظ الترمذي اغتسل بعض أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم في جفنة فأراد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت: يا
رسول الله إني كنت جنبا فقال: "إن الماء لا
يجنب" وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
2 من الباب الثاني والخامس القاموس نجس.
(1/65)
وقد يدعي أن
يقولنا الشيء نجس حقيقة في نجاسة العين فيبقى
ظاهر الحديث دالا عن أن عين المؤمن لا تنجس
فتخرج عنه حالة النجس التي هي محل الخلاف.
2 - عن عائشة رضي الله عنها قال: "كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل
يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل
بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض
عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده1.
3 - وكانت تقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى
الله عليه وسلم من إناء واحد نغترف منه
جميعا"2.
الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها من وجوه:
أحدها: قولها: "كان إذا اغتسل من الجنابة"
يحتمل أن يكون من باب التعبير بالفعل عن إرادة
الفعل كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ويحتمل
أن يكون قولها: "اغتسل" بمعنى شرع في الفعل
فإنه يقال: فعل إذا شرع وفعل إذا فرغ فإذا
حملنا اغتسل على شرع صح ذلك لأنه يمكن أن يكون
الشروع وقتا للبداءة بغسل اليدين وهذا بخلاف
قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] فإنه لا
يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقتا
للاستعاذة.
الوجه الثاني: يقال كان يفعل كذا بمعنى أنه
تكرر منه فعله وكان عادته كما يقال: كان فلان
يقري الضيف و"كان رسول الله صلى الله عليه
أجود الناس بالخير"3 وقد يستعمل كان لإفادة
مجرد الفعل ووقوع الفعل دون الدلالة على
التكرار والأول: أكثر في الاستعمال وعليه
ينبغي حمل الحديث وقول عائشة: "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل".
الوجه الثالث: قد تطلق الجنابة على المعنى
الحكمي الذي ينشأ عن التقاء الختانين أو
الإنزال وقولها: "من الجنابة" في من معنى
السببية مجازا عن ابتداء الغاية من حيث إن
السبب مصدر للمسبب ومنشأ له.
الوجه الرابع: قولها: "غسل يديه" هذا الغسل
قبل إدخال اليدين الإناء وقد تبين ذلك مصرحا
في رواية سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن
أبيه عن عائشة4.
ـــــــ
1 البخاري "272" ومسلم "316".
2 البخاري "273" ومسلم "321" "43" و"45"
واللفظ للبخاري دون قوله "نغترف" ففي البخاري
"نغرف".
3 جزء من حديث رواه البخاري "6" ومسلم "2308"
من حديث ابن عباس.
4 وهي رواية مسلم "316".
(1/66)
الوجه الخامس:
قولها: "وتوضأ وضوءه للصلاة" يقتضي استحباب
تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل
ولا شك في ذلك نعم يقع البحث في أن هذا الغسل
لأعضاء الوضوء: هل هو وضوء حقيقة؟ فيكتفي به
عن غسل هذه الأعضاء للجنابة فإن موجب
الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد أو
يقال: إن غسل هذه الأعضاء إنما هو عن الجنابة
وإنما قدمت على بقية الجسد تكريما لها وتشريفا
ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى
تحت الكبرى.
فقد يقول قائل قولها: "وضوءه للصلاة" مصدر
مشبه به تقديره: وضوءا مثل وضوءه للصلاة فيلزم
من ذلك: أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة
عن الجنابة لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء
حقيقة لكان قد توضأ عن الوضوء للصلاة فلا يصح
التشبيه لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به
فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير وكان
التشبيه في الصورة الظاهرة.
وجوابه - بعد تسليم كونه مصدرا مشبها به - من
وجهين أحدهما: أن يكون شبه الوضوء الواقع في
ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل
الجنابة والوضوء - بقيد كونه في غسل الجنابة -
مغاير للوضوء بقيد كونه خارجا عن غسل الجنابة
فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه ولا
يلزم منه عدم كونه وضوءا للصلاة حقيقة.
الثاني: لما كان وضوء الصلاة له صورة معنوية
ذهنية شبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك
المعلوم في الذهن كأنه يقال: أوقع في الخارج
ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة.
الوجه السادس: قولها: "ثم يخلل بيديه شعره"
التخليل ههنا: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء
الشعر ورأيت في كلام بعضهم: إشارة إلى أن
التخليل هل يكون بنقل الماء أو بإدخال الأصابع
مبلولة بغير نقل الماء؟ و أشار به إلى ترجيح
نقل الماء لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في
كتاب مسلم: "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في
أصول الشعر"1 فقال هذا القائل: نقل الماء
لتخليل الشعر: هو رد على من يقول: يخلل
بأصابعه مبلولة بغير نقل الماء قال: وذكر
النسائي في السنن ما يبين هذا فقال باب تخليل
الجنب رأسه2 وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها
فيه فقالت فيه: "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يشرب رأسه ثم يحثي عليه ثلاثا" قال:
فهاذا بين في التخليل بالماء انتهى كلامه.
وفي الحديث: دليل على أن التخليل يكون بمجموع
الأصابع العشر لا بالخمس.
الوجه السابع: قولها: "حتى إذا ظن" يمكن أن
يكون الظن ههنا بمعنى العلم ويمكن أن
ـــــــ
1 مسلم "316" "35".
2 النسائي في الصغري "249".
(1/67)
يكون ههنا على
ظاهره من رجحان أحد الطرفين مع احتمال الآخر
ولولا قولها بعد ذلك: "أفاض عليه الماء ثلاث
مرات" لترجح أن يكون بمعنى العلم فإنه حينئذ
يكون مكتفى به أي بري البشرة وإذا كان مكتفى
به في الغسل ترجح اليقين لتيسر الوصول إليه في
الخروج عن الواجب على أنه قد يكتفي بالظن في
هذا الباب فيجوز حمله على ظاهره مطلقا.
وقولها: "أروى" مأخوذ من الري الذي هو خلاف
الطش وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء يقال:
رويت من الماء - بالكسر - أروى ريا وريا وروى
وأرويته أنا فروي1.
وقولها: "بشرته" البشرة: ظاهر جلد الإنسان
والمراد بإرواء البشرة: إيصال الماء إلى جميع
الجلد ولا يصل إلى جميع جلده إلا وقد ابتلت
أصول الشعر أو كله.
وقولها: "أفاض الماء" إفاضة الماء على الشيء:
إفراغه عليه يقال: فاض الماء: إذا جرى وفاض
الدمع: إذا سال.
وقولها: "على سائر جسده" أي بقيته فإنها ذكرت
الرأس أولا والأصل في سائر أن يستعمل بمعنى
البقية وقالوا: هو مأخوذ من السؤر قال
الشنفرى:
إذا احتملوا رأسي وفي رأس أكثري ... وغودر عند
الملتقى ثم سائري
أي بقيتي وقد أنكر في أوهام الخواص: جعلها
بمعنى الجميع وفي كتاب الصحاح: ما يقتضي
تجويزه.
الوجه الثامن: في الحديث دليل على جواز اغتسال
المرأة والرجل من إناء واحد وقد أخذ منه جواز
اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة فإنهما إذا
اعتقبا اغتراف الماء: كان اغتراف الرجل في بعض
الاغترافات متأخرا عن اغتراف المرأة فيكون
تطهيرا بفضلها.
ولا يقال: إن قولها: "نغترف منه جميعا" يقتضي
المساواة في وقت الاغتراف لأنا نقول: هذا
اللفظ يصح إطلاقه - أعني: "نغترف منه جميعا" -
على ما إذا تعاقبا الاغتراف ولا يدل على
اغترافهما في وقت واحد.
وللمخالف أن يقول: أحمله على شروعهما جميعا
فإن اللفظ محتمل له وليس فيه عموم فإذا قلت به
من وجه اكتفى بذلك والله أعلم.
4 - عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها - زوج
النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "وضعت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة
فأكفأ بيمينه على يساره مرتين - أو ثلاثا - ثم
غسل فرجه ثم ضرب يده بالإرض أو الحائط مرتين -
أو ثلاثا - ثم تمضمض.
ـــــــ
1 انظر أساس البلاغة روي.
(1/68)
واستنشق وغسل
وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل
جسده ثم تنحى فغسل رجليه فأتيته بخرقة فلم
يردها فجعل ينفض الماء بيده"1.
الكلام على حديث ميمونة من وجوه:
أحدها: قد تقدم لنا أن الوضوء بفتح الواو وهل
هو اسم لمطلق الماء أو للماء مضافا إلى
الوضوء؟ وقد يؤخذ من هذا اللفظ: أنه اسم لمطلق
الماء فإنها لم تضفه إلى الوضوء بل إلى
الجنابة.
الثاني: قولها فأكفأ أي قلب يقال: كفأت
الإناء: إذا قلبته - ثلاثيا - وأكفأته أيضا
رباعيا وقال القاضي عياض في المشارق: وأنكر
بعضهم أن يكون بمعنى قلب و إنما يقال في قلبت:
كفأت ثلاثيا وأما أكفأت فبمعنى: أملت وهو مذهب
الكسائي.
الثالث: البداءة بغسل الفرج لإزالة ما علق به
من أذى وينبغي أن يغسل في الابتداء عن الجنابة
لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى وقد يقع ذلك بعد
غسل الأعضاء للوضوء.
فيحتاج إلى إعادة غسلها فلو اقتصر على غسلة
واحدة لإزالة النجاسة وللغسل عن الجنابة فهل
يكتفي بذلك أم لا بد من غسلتين: مرة للنجاسة
ومرة للطهارة عن الحدث؟.
فيه خلاف لأصحاب الشافعي ولم يرد في الحديث
إلا مطلق الغسل من غير ذكر تكرار فقد يؤخذ منه
الاكتفاء بغسلة واحدة من حيث إن الأصل عدم
غسله ثانيا.
وضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط:
لإزالة ما لعله علق باليد من الرائحة زيادة في
التنظيف.
الرابع: إذا بقيت رائحة النجاسة بعد الاستقصاء
في الإزالة: لم يضر على مذهب بعض الفقهاء وفي
مذهب الشافعي خلاف وقد يؤخذ العفو عنه من هذا
الحديث ووجهه أن ضربه صلى الله عليه وسلم
بالأرض أو الحائط لا بد وأن يكون لفائدة ولا
جائز أن يكون لإزالة العين لأنه لا تحصل
الطهارة مع بقاء العين اتفاقا وإذا كانت اليد
نجسة ببقاء العين فيها فعند انفصالها ينجس
المحل بها وكذلك لا يكون للطعم لأن بقاء الطعم
دليل على بقاء العين و لا يكون لإزالة اللون
لأن الجنابة بالإنزال أو المجامعة لا تقتضي
لونا يلصق باليد وإن اتفق فنادر جدا فبقي أن
يكون لإزالة الرائحة ولا يجوز أن يكون لإزالة
رائحة تجب إزالتها لأن اليد قد انفصلت عن
المحل على أنه قد طهر ولو بقي ما تتعين إزالته
من الرائحة لم يكن المحل طاهرا لأنه عند
الانفصال تكون اليد نجسة وقد لابست المحل
مبتلا فيلزم من ذلك: أن يكون بعض الرائحة
معفوا عنه ويكون الضرب على الأرض لطلب الأكمل
فيما لا تجب إزالته.
ـــــــ
1 البخاري "274" ومسلم "317" واللفظ للبخاري.
(1/69)
ويحتمل أن
يقال: فصل اليد عن المحل بناء على ظن طهارته
بزوال رائحته والضرب على الأرض لإزالة احتمال
في بقاء الرائحة مع الاكتفاء بالظن في زوالها.
والذي يقوي الاحتمال الأول: ما ورد في الحديث
الصحيح كونه صلى الله عليه وسلم: "دلكها دلكا
شديدا"1 والدلك الشديد لا يناسبه هذا الاحتمال
الضعيف.
الخامس: قولها: "ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه
وذراعيه" دليل على مشروعية هذه الأفعال في
الغسل واختلف الفقهاء في حكم المضمضة
والاستنشاق في الغسل: واختلف الفقهاء في حكم
المضمضة والاستنشاق في الغسل: فأوجبها أبو
حنيفة ونفى الوجوب مالك والشافعي ولا دلالة في
الحديث على الوجوب إلا أن يقال: إن مطلق
أفعاله صلى الله عليه وسلم للوجوب غير أن
المختار أن الفعل لا يدل على الوجوب إلا إذا
كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب والأمر
بالتطهير من الجنابة ليس من قبيل المجملات.
السادس: قولها: "ثم أفاض على رأسه الماء"
ظاهره: يقتضي أنه لم يمسح رأسه صلى الله عليه
وسلم كما يفعل في الوضوء وقد اختلف أصحاب مالك
على القول بتأخير غسل الرجلين كما في حديث
ميمونة هذا: هل يمسح الرأس أم لا؟.
السابع: قولها: "ثم تنحى فغسل رجليه" يقتضي
تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء وقد اختاره
بعض العلماء وهو أبو حنيفة وبعضهم اختار إكمال
الوضوء على ظاهر حديث عائشة المتقدم وهو
الشافعي وفرق بعضهم بين أن يكون الموضع وسخا
أو لا فإن كان وسخا أخر غسل الرجلين ليكون
غسلهما مرة واحدة فلا يقع إسراف في الماء وإن
كان نظيفا قدم وهو في كتب مذهب مالك له أو
لبعض أصحابه.
الثامن: إذا قلنا: إن غسل الأعضاء في ابتداء
الغسل وضوء حقيقة فقد يؤخذ من هذا: جواز
التفريق اليسير في الطهارة.
التاسع: أخذ من رده صلى الله عليه وسلم
الخرقة: أنه لا يستحب تنشيف الأعضاء من ماء
الطهارة واختلفوا: هل يكره؟ والذين أجازوا
التنشيف استدلوا بكونه صلى الله عليه وسلم جعل
ينفض الماء فلو كره التنشيف لكره النفض فإنه
إزالة وأما رد المنديل: فواقعه حال يتطرق
إليها الاحتمال فيجوز أن يكون لا لكراهة
التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك
والله أعلم.
العاشر: ذكر بعض الفقهاء في صفة الوضوء: أن لا
ينفض أعضاءه وهذا الحديث دليل على جواز نفض
الماء عن الأعضاء في الغسل والوضوء مثله وما
استدل به على كراهة النفض - وهو ما ورد:
"لاتنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان"2 -
حديث ضعيف لا يقاوم هذا الصحيح والله أعلم.
ـــــــ
1 مسلم "317".
2 ابن أبي حاتم في العلل "1/36".
(1/70)
5 - عن عبد
الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال:
"نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد" 1.
وضوء الجنب قبل النوم: مأمور به والشافعي حمله
على الاستحباب وفي مذهب مالك قولان أحدهما:
الوجوب وقد ورد بصيغة الأمر في بعض الأحاديث
الصحيحة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "توضأ
واغسل ذكرك ثم نم" 2 لما سأله عمر إنه تصيبه
الجنابة من الليل وليس في هذا الحديث الذي
ذكره المصنف متمسك للوجوب فإنه وقف إباحة
الرقاد على الوضوء فإن هذا الأمر في قوله عليه
الصلاة والسلام: "فليرقد", ليس للوجوب ولا
للاستحباب فإن النوم من حيث هو نوم لا يتعلق
به وجوب ولا استحباب فإذا هو للإباحة فتتوقف
الإباحة ههنا على الوضوء وذلك هو المطلوب.
والذين قالوا: إن الأمر ههنا على الوجوب
اختلفوا في علة هذا الحكم فقيل: علته أن يبيت
على إحدى الطهارتين خشية الموت في المنام
وقيل: علته أن ينشط إلى الغسل إذا نال الماء
أعضاءه وبنوا على هاتين العلتين: أن الحائض
إذا أرادت النوم هل تأمر بالوضوء؟ فمقتضى
التعليل المبيت على إحدى الطهارتين: أن تتوضأ
الحائض لأن المعنى موجود فيها ومقتضى التعليل
بحصول النشاط: أن لا تؤمر به الحائض لأنها لو
نشطت لم يمكنها رفع حدثها بالغسل وقد نص
الشافعي على أنه ليس ذلك على الحائض فيحتمل أن
يكون راعى هذه العلة فنفى الحكم لانتفائها
ويحتمل أ ن يكون لم يراعها ونفى الحكم لأنه
رأى أن أمر الجنب به تعبد ولا يقاس عليه غيره
أو رأى علة أخرى غير ما ذكرناه والله أعلم.
6 - عن أم سلمة رضي الله عنها - زوج النبي صلى
الله عليه وسلم - قالت: "جاءت أم سليم - امرأة
أبي طلحة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من
الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا
رأت الماء" 3.
الكلام عليه من وجوه 4:
أحدها: قولها: إن الله لا يستحيي من الحق هذا
تمهيد لبسط عذرها في ذكرها ما يستحيي النساء
من ذكره وهو أصل فيما يصنعه الكتاب والأدباء
في ابتداء مكاتباتهم ومخاطباتهم من التمهيدات
لما يأتون به بعد ذلك والذي يحسنه في مثل هذا:
أن الذي يعتذر به إذا كان متقدما.
ـــــــ
1 البخاري "287" ومسلم "306" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "290".
3 البخاري "130" ومسلم "313" واللفظ له.
4 ترجم المصنف رحمه الله تعالى لأم سلمة في
آخر الحديث على خلال عادته.
(1/71)
على المعتذر
منه أدركته النفس صافية من العتب وإذا تأخر
العذر استثقلت النفس المعتذر منه فتأثرت بقبحه
ثم يأتي العذر رافعا وعلى الأول يأتي دافعا.
الثاني: تكلموا في تأويل قولها: "إن الله لا
يستحي من الحق" ولعل قائلا يقول: إنما يحتاج
إلى تأويل الحياء إذا كان الكلام مثبتا كما
جاء: "إن الله حيي كريم" 1 وأما في النفي:
فالمستحيلات على الله تنفى ولا يشترط في النفي
أن يكون المنفي ممكنا.
وجوابه ألم يرد النفي على الاستحياء مطلقا بل
ورد على الاستحياء من الحق فبطريق المفهوم:
يقتضي أن يستحيي من غير الحق فيعود بطريق
المفهوم إلى جانب الإثبات.
الثالث: قيل في معناه لا يأمر بالحياء فيه ولا
يبيحه أولا يمتنع ن ذكره وأصل الحياء الامتناع
أو ما يقاربه من معنى الانقباض وقيل: معناه أن
سنة الله وشرعه أن لا يستحي من الحق.
وأقول: أما تأويله على أن لا يمتنع من ذكره
فقريب لأن المستحيي ممتنع من فعل ما يستحيي
منه فالامتناع من لوازم الحياء فيطلق الحياء
على الامتناع إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم
وأما قولهم إن الله لا يأمر ولا يبيحه فيمكن
في توجيهه أن يقال: يصح التعبير بالحياء عن
الأمر بالحياء لأن الأمر بالحياء متعلق
بالحياء فيصح إطلاق الحياء على الأمر به على
سبيل إطلاق المتعلق على المتعلق به وإذا صح
إطلاق الحياء على الأمر بالحياء فيصح إطلاق
عدم الحياء من الشيء على عدم الأمر به.
وهذه الوجوه من التأويلات تذكر لبيان ما
يحتمله اللفظ من المعاني ليخرج ظاهره عن
النصوصية لا على أنه يجزم بإرادة متعين منها
إلا أن يقوم على ذلك دليل.
وأما قولهم معناه إن سنة الله وشرعه أن الله
لا يستحيي من الحق فليس فيه تحرير بالغ فإنه
إما أن يسند فعل الاستحياء إلى الله تعالى أو
لا ويجعله فعلا لما لم يسم فاعله فإن أسند إلى
الله تعالى فالسؤال باق بحاله وغاية ما في
الباب: أنه زاد قوله سنة الله وشرعه وهذا لا
يخلص من السؤال وإن بنوا الفعل لما لم يسم
فاعله فكيف يفسر فعلا بني للفاعل والمعنيان
متباينان والإشكال إنما ورد على بنائه
للفاعل؟.
الوجه الرابع: الأقرب أن يجعل في الكلام حذف
تقديره: إن الله لا يمتنع من ذكر الحق والحق
ههنا خلاف الباطل ويكون المقصود من الكلام: أن
يقتدي بفعل الله تعالى في ذلك وبذكر هذا الحق
الذي دعت إليه الحاجة إليه من السؤال عن
احتلام المرأة.
ـــــــ
1 الترمذي "3556" وأبو داود "1488" وابن ماجه
"3865" وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب
وتمامه "..... يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه
أن يردهما صفرا خائبتين".
(1/72)
الوجه الخامس:
الاحتلام في الوضع: افتعال من الحلم - بضم
الحاء وسكون اللام - وهو ما يراه النائم في
نومه يقال منه حلم - بفتح اللام - واحتلم
واحتلمت به واحتلمته وأما في الاستعمال والعرف
العام: فإنه قد يخص هذا الوضع اللغوي ببعض ما
يراه النائم وهو ما يصحبه إنزال الماء فلو رأى
غير ذلك لصح أن يقال له احتلم وضعا ولم يصح
عرفا.
الوجه السادس: قولها: "هي" تأكيد وتحقيق ولو
أسقطت من الكلام لتم أصل المعنى.
السابع: الحديث دليل على وجوب الغسل بإنزال
المرأة الماء ويكون الدليل على وجوبه على
الرجل قوله: "إنما الماء من الماء" 1 ويحتمل
أن تكون أم سليم لم تسمع قوله صلى الله عليه
وسلم "إنما الماء من الماء" وسألت عن حال
المرأة لمسيس حاجتها إلى ذلك ويحتمل أن تكون
سمعته ولكنها سألت عن حال المرأة لقيام مانع
فيها يوهم خروجها عن ذلك العموم وهي ندرة نزول
الماء منها.
الثامن: فيه دليل على أن إنزال الماء في حالة
النوم موجب للغسل كإنزاله في حالة اليقظة.
التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت
الماء" قد يرد به على من يزعم أن ماء المرأة
لا يبرز وإنما يعرف إنزالها بشهوتها بقوله:
"إذا رأت الماء".
العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت
الماء" يحتمل أن يكون مراعاة للوضع اللغوي في
قولها احتلمت فإنا قد بينا أن الاحتلام رؤية
المنام كيف كان وضعا فلما سألت: "هل على
المرأة غسل إذا هي احتلمت؟" وكانت لفظة احتلمت
عامة: خصص الحكم بما إذا رأت الماء أما لو
حملنا لفظة احتلمت على المعنى العرفي: كان
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء"
كالتأكيد والتحقيق لما سبق من دلالة اللفظ
الأول عليه ويحتمل أن يكون الإنزال الذي يحصل
به الاحتلام عرفا على قسمين: تارة يوجد معه
البروز إلى الظاهر وتارة لا فيكون قوله صلى
الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء" مخصصا للحكم
بحالة البروز إلى الظاهر ويكون فائدة زائدة
ليست لمجرد التأكيد إلا أن ظاهر كلام من أشرنا
إليه من الفقهاء: يقتضي وجوب الغسل بالإنزال
إذا عرفته بالشهوة ولا يوقفه على البروز إلى
الظاهر فإن صح ذلك فتكون الرؤية بمعنى العلم
هنا أي إذا علمت نزول الماء والله أعلم.
وأم سلمة المذكورة في الحديث زوج النبي صلى
الله عليه وسلم اسمها هند بنت أمية المعروف
بزاد الركب وأم سليم بنت ملحان - بكسر الميم
وسكون اللام وحاء مهملة - يقال لها: الغميصاء
والرميصاء أيضا اسمها سهلة وقيل رميلة أو رملة
وقيل: رميثة وقيل: مليكة.
ـــــــ
1 مسلم "343" من حديث أبي سعيد الخدري.
(1/73)
7 - عن عائشة
رضي الله عنها قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى
الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه"1.
وفي لفظ لمسلم: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه"2.
اختلف العلماء في طهارة المني ونجاسته فقال
الشافعي وأحمد بطهارته وقال مالك وأبو حنيفة
بنجاسته.
والذين قالوا بنجاسته: اختلفوا في كيفية
إزالته فقال مالك: يغسل رطبه ويابسه وقال أبو
حنيفة يغسل رطبه ويفرك يابسه أما مالك: فعمل
بالقياس في الحكمين أعني نجاسته وإزالته
بالماء.
أما نجاسته: فوجه القياس فيه من وجوه أحدها:
أن الفضلات المستحيلة إلى الاستقذار في مقر
تجتمع فيه: نجسة والمني منها فليكن نجسا
وثانيها: أن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة
والمني منها أي من الأحداث الموجبة للطهارة
وثالثها: أنه يجري في مجرى البول فينجس.
وأما في كيفية إزالته: فلأن النجاسة لا تزال
إلا بالماء إلا ما عفي عنه من آثار بعضها
والفرد ملحق بالأعم الأغلب.
وأما أبو حنيفة: فإنه اتبع الحديث في فرك
اليابس والقياس في غسل الرطب ولم ير الاكتفاء
بالفرك دليلا على الطهارة وشبهه بعض أصحابه
بما جاء في الحديث من دلك النعل من الأذى وهو
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وطئ أحدكم
الأذى بخفه أو بنعله فطهورهما التراب" رواه
الطحاوي من حديث أبي هريرة3 فإن الاكتفاء
بالدلك فيه لا يدل على طهارة الأذى.
وأما الشافعي: فاتبع الحديث في فرك اليابس
ورآه دليلا على الطهارة فإنه لو كان نجسا لما
اكتفى فيه إلا بالغسل قياسا على سائر النجاسات
فلو اكتفى بالفرك - مع كونه نجسا - لزم خلاف
القياس والأصل: عدم ذلك.
وهذا الحديث يخالف ظاهره ما ذهب إليه مالك وقد
اعتذر عنه بأن حمل على الفرك بالماء وفيه بعد
لأنه ثبت في بعض الروايات4 في هذا الحديث عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد رأيتني
وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يابسا بظفري" وهذا تصريح بيبسه وأيضا في.
ـــــــ
1 البخاري "229" ومسلم "289" "108" واللفظ
للبخاري.
2 مسلم "288" "105".
3 الطحاوي في شرح معاني الآثار "1/51".
4 مسلم "290".
(1/74)
رواية يحيى بن
سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني
من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان
يابسا وأغسله أو أمسحه إذا كان رطبا" شك
الراوي وهذا التقابل بين الفرك والغسل: يقتضي
اختلافهما.
والذي قرب التأويل المذكور - عند من قال به -
ما في بعض الروايات عن عائشة: أنها قالت
لضيفها الذي غسل الثوب إنما يجزيك - إن رأيته
- أن تغسل مكانه وإن لم تره نضحت حوله فلقد
رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه
وسلم1 فحصرت الإجزاء في الغسل لما رآه وحكمت
بالنضح لما لم يره وهذا حكم النجاسات.
فلو كان هذا الفرك المذكور من غير ماء: ناقض
آخر الحديث أوله الذي يقتضي حصر الإجزاء في
الغسل ويقتضي إجراء حكم سائر النجاسات عليه في
النضح إلا أن دلالة قولها لأحكه يابسا بظفري
أصرح وأنص على عدم الماء مما ذكر من القرائن
من كونه مفروكا بالماء.
والحديث واحد اختلفت طرقه وأعني بالقرائن:
النضح لما لم يره وقولها: إنما كان يجزيك.
ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الأحاديث التي
اقتصر فيها على ذكر الفرك قال: هذا لا يدل إلا
على الفرك من الثوب وليس فيه دلالة على أنه
الثوب الذي يصلي فيه فيحمل على ثوب النوم
ويحمل الحديث الآخر الذي ذكره المصنف - وهو
قولها: "فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في
ثوبه" - على ثوب الصلاة.
ولا يقال: إذا حملتم الفرك إلى غير ثوب الصلاة
فأي فائدة في ذكر ذلك؟ لأنا نقول: فائدته بيان
جواز لبس الثوب النجس في غير حالة الصلاة.
وهذه الطريقة قد تتمشى لو لم تأت روايات صحيحة
بقولها: "ثم يصلي فيه" وفي بعضها: "فيصلي فيه"
وأخذ بعضهم من كون الفاء للتعقيب: أنه يعقب
الصلاة بالفرك ويقتضي ذلك عدم الغسل قبل
الدخول في الصلاة إلا أنه قد ورد بالواو وبثم
أيضا في هذا الحديث واحدا فالألفاظ مختلفة
والمقول منها واحد فتقف الدلالة بالفاء إلا
لمرجح لها وإن كانت الرواية بالفاء حديثا
مفردا فيتجه ما قاله.
واعلم أن احتمال غسله بعد الفرك واقع لكن
الأصل عدمه فيتعارض النظر بين اتباع هذا الأصل
وبين اتباع القياس ومخالفة هذا الأصل فما ترجح
منهما عمل به لا سيما إن انضمت قرائن في لفظ
الحديث تنفي هذا الاحتمال فإذا ذاك يتقوى
العمل به وينظر إلى الراجح بعد تلك القرائن أو
من القياس.
ـــــــ
1 مسلم "288" "105".
(1/75)
وقد استعمل في
هذا الحديث لفظ الجنابة بإزاء المني وقد ذكرنا
أنه يستعمل بإزاء المنع والحكم الشرعي المرتب
على خروج الخارج والله أعلم.
8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها
الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل" 1 وفي لفظ:
"وإن لم ينزل" 2.
الشعب جمع شعبة وهي الطائفة من الشيء والقطعة
منه واختلفوا في المراد بالشعب الأربع فقيل:
يداها ورجلاها أو رجلاها وفخذاها أو فخذاها
وإسكتاها أو نواحي الفرج الأربع وفسر الشعب
بالنواحي وكأنه تحويم على طلب الحقيقة الموجبة
للغسل والأقرب عندي: أن يكون المراد: اليدين
والرجلين أو الرجلين والفخذين ويكون الجماع
مكنيا عنه بذلك ويكتفي بما ذكر عن التصريح
وإنما رجحنا هذا: لأنه أقرب إلى الحقيقة إذ هو
حقيقة في الجلوس بينهما وأما إذا حمل على
نواحي الفرج: فلا جلوس بينها حقيقة وقد يكتفي
بالكناية عن التصريح لا يسما في أمثال هذه
الأماكن التي يستحيي من التصريح بذكرها.
وأيضا فقد نقل عن بعضهم أنه قال الجهد من
أسماء النكاح ذكر ذلك عن الخطابي وعلى هذا فلا
يحتاج إلى أن يجعل قوله: "جلس بين شعبها
الأربع" كناية عن الجماع فإنه صرح به بعد ذلك.
وقوله في الحديث: "ثم جهدها" بفتح الجيم
والهاء: أي بلغ مشقتها يقال منه: جهده وأجهده
أي بلغ مشقته وهذا أيضا لا يراد حقيقته وإنما
المقصود منه: وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل
وهذه كلها كنايات يكتفى بفهم المعنى عن
التصريح.
وقوله: "بين شعبها الأربع" كناية عن المرأة
وإن لم يجر لها ذكر اكتفاء بفهم المعنى من
السياق كما في قوله عز وجل: {حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ} [صّ: 32] والحكم عند جمهور
الأمة على مقتضى هذا الحديث في وجوب الغسل
بالتقاء الختانين من غير إنزال وخالف في ذلك
داود وبعض أصحابه الظاهرية وخالفه بعض
الظاهرية ووافق الجماعة ومستند الظاهرية: قوله
صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء"
وقد جاء في الحديث: "إنما كان الماء من الماء
رخصة في أول الإسلام ثم نسخ" ذكره الترمذي3.
9 - عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب رضي الله عنهم: "أنه.
ـــــــ
1 البخاري "291" ومسلم "248" "87".
2 في مسلم وفي حديث مطر: وإن لم ينزل.
3 الترمذي "110" و"111" موقوفا على أبي بن كعب
وآخره ثم نهى عنها وقال أبو عيسى هذا حديث حسن
صحيح وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام
ثم نسخ بعد ذلك.
(1/76)
كان هو وأبوه
عند جابر بن عبد الله وعنده قوم فسألوه عن
الغسل؟ فقال: صاع يكفيك, فقال رجل: ما يكفيني,
فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرا
وخيرا منك - يريد رسول الله صلى الله عليه
وسلم - ثم أمنا في ثوب"1.
وفي لفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يفرغ الماء على رأسه ثلاثا"2.
قال رضي الله عنه: الرجل الذي قال ما يكفيني
هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه أبوه: محمد بن الحنفية.
الواجب في الغسل: ما يسمى غسلا وذلك بإفاضة
الماء على العضو وسيلانه عليه فمتى حصل ذلك
تأدى الواجب وذلك يختلف باختلاف الناس فلا
يقدر الماء الذي يغتسل به أويتوضأ به وبقدر
معلوم قال الشافعي: وقد يرفق بالقليل فيكفي
ويخرق بالكثير فلا يكفي واستحب أن لا ينقص في
الغسل من صاع ولا في الوضوء من مد.
وهذا الحديث: أحد ما يستدل به على الاغتسال
بالصاع وليس ذلك على سبيل التحديد وقد دلت
الأحاديث على مقادير مختلفة وذلك - والله أعلم
- لاختلاف الأوقات أو الحالات وهو دليل على ما
قلناه ومن عدم التحديد.
والصاع: أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه
وسلم والمد رطل وثلث بالبغدادي وأبو حنيفة
يخالف في هذا المقدار ولما جاء صاحبه أبو يوسف
إلى المدينة وتناظر مع مالك في هذه المسألة
استدل عليه مالك بصيعان أولاد المهاجرين
والأنصار الذين أخذوها عن آبائهم فرجع أبو
يوسف إلى قول مالك.
ـــــــ
1 البخاري "252" ومسلم "329" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "255".
(1/77)
6 -
باب التيمم.
1 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم
يصل في القوم؟ فقال: "يا فلان ما منعك أن تصلي
في القوم؟" فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة
ولا ماء, فقال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" 1.
عمران بن حصين بن عبيد خزاعي أبو نجيد بضم
النون وفتح الجيم بعدها ياء من فقهاء الصحابة
وفضلائهم صح أن الملائكة كانت تسلم عليه وقيل
كان يراهم مات سنة اثنتين وخمسين في خلافة
معاوية.
ـــــــ
1 البخاري مطولا "344" ومسلم "682" مطولا أيضا
واللفظ للبخاري.
(1/77)
والكلام على
هذا الحديث من وجوه:
أحدها: المعتزل المنفرد عن القوم المتنحي عنهم
يقال: اعتزل وانعزل وتعزل بمعنى واحد واعتزاله
عن القوم استعمال للأدب والسنة في ترك جلوس
الإنسان عند المصلين إذا لم يصل معهم وقد قال
صلى الله عليه وسلم لمن رآه جالسا في المسجد
والناس يصلون: "ما منعك أن تصلي في القوم؟ وقد
روي مع الناس "ألست برجل مسلم؟" وهذا إنكار
لهذه الصورة.
الثاني: قوله: "ما منعك أن تصلي في القوم؟" 1
وقد روي: "مع القوم؟", والمعنى متقارب وإن
اختلف أصل اللفظين فإن في للظرفية فكأنه جعل
اجتماع القوم ظرفا خرج منه هذا الرجل ومع
للمصاحبة كأنه قال: ما منعك أن تصحبهم في
فعلهم؟
الثالث: قوله: "أصابتني جنابة ولا ماء" يحتمل
من حيث اللفظ وجهين أحدهما: أن لا يكون عالما
بمشروعية التيمم والثاني: أن يكون اعتقد أن
الجنب لا يتيمم وهذا أرجح من الأول فإن
مشروعية التيمم كانت سابقة على زمن إسلام
عمران راوي الحديث فإنه أسلم عام خيبر
ومشروعية التيمم كانت قبل ذلك في غزوة
المريسيع وهي واقعة مشهورة والظاهرة علم الرجل
بها لشهرتها فإذا حملناه على كون الرجل اعتقد
أن الجنب لا يتيمم كما ذكر عن عمر وابن مسعود
كان دليلا على أن هذا الرجل ومن شك في تيمم
الجنب حملوا الملامسة المذكورة في الآية أعني
قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
[المائدة: 6] على غير الجماع لأنهم لو حملوها
عليه لكان تيمم الجنب مأخوذا من الآية فلم يقع
لهم شك في تيمم الجنب وهذا الظهور الذي ادعي
إن لم يكن إسلام هذا الرجل واقعا عند نزول
الآية وهذا إنما يكون في مدة تقتضي العادة
بلوغها إلى عمله.
الرابع: قوله: "و لا ماء" أي موجود أو عندي أو
أجده أو ما أشبه ذلك وفي حذفه بسط لعذره لما
فيه من عموم النفي كأنه نفي وجود الماء
بالكلية بحيث لو وجد بسبب أو سعي أو غير ذلك:
لحصله فإذا نفى وجوده مطلقا كان أبلغ في النفي
وأعذر له.
و قد أنكر بعض المتكلمين على النحاة تقديرهم
في قولنا لا إله إلا الله لا إله لنا أو في
الوجود وقال إن نفي الحقيقة مطلقة أعم من
نفيها مقيدة فإنها إذا نفيت مقيدة دلت على سلب
الماهية مع القيد وإذا نفيت غير مقيدة كان
نفيا للحقيقة وإذا انتفت الحقيقة انتفت مع كل
قيد أما إذا نفيت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم
نفيها مع قيد آخر هذا أو معناه.
الخامس: الحديث دل بصريحه على أن للجنب أن
يتيمم ولم يختلف فيه الفقهاء إلا أنه.
ـــــــ
1 هي رواية البخاري "344".
(1/78)
روي عن عمر
وابن مسعود أنهما منعا تيمم الجنب وقيل إن بعض
التابعين وافقهما وقيل رجعا عن ذلك
وكأن سبب التردد ما أشرنا إليه من حمل
الملامسة على غير الجماع مع عدم وجود دليل
عندهم على جوازه والله أعلم.
2 - عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال:
بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة
فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما
تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
فذكرت ذلك له فقال: "إنما يكفيك أن تقول بيديك
هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح
الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه1.
عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة أبو
اليقظان العنسي بنون بعد المهملة أحد السابقين
من المهاجرين وممن عذب في ذات الله تعالى قتل
- بلا خلاف - بصفين مع علي رضي الله عنهما سنة
سبع وثلاثين.
والكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: يقال أجنب الرجل وجنب بالضم وجنب
بالفتح وقد مر.
الثاني: قوله: "فتمرغت في الصعيد كما تمرغ
الدابة" كأنه استعمال لقياس لا بد فيه من تقدم
العلم بمشروعية التيمم وكأنه لما رأى أن
الوضوء خاص ببعض الأعضاء وكان بدله - وهو
التيمم - خاصا وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعم
جميع البدن عاما لجميع البدن.
قال أبو محمد بن حزم الظاهري: في هذا الحديث
إبطال القياس لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من
التيمم للجنابة: حكمه حكم الغسل للجنابة إذ هو
بدل منه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذلك وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط.
والجواب عما قال: أن الحديث دل على بطلان هذا
القياس الخاص ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان
العام والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس ثم في
هذا القياس شيء آخر وهو أن الأصل - الذي هو
الوضوء - قد ألغى فيه مساواة البدل له فإن
التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء فصار مساواة
البدل للأصل ملغى في محل النص وذلك لا يقتضي
المساواة في الفرع.
بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلا على
صحة أصل القياس فإن قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما كان يكفي كذا وكذا" يدل على أنه لو كان
فعله لكفاه وذلك دليل على صحة قولنا: لو كان.
ـــــــ
1 البخاري "347" ومسلم "368" واللفظ له.
(1/79)
فعله لكان
مصيبا ولو كان فعله لكان قائسا للتيمم للجنابة
على التيمم للوضوء على تقدير أن يكون اللمس
المذكور في الآية ليس هو الجماع لأنه لو كان
عند عمار هو الجماع: لكان حكم التيمم مبينا في
الآية فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرغ فإذن فعله
ذلك يتضمن اعتقاد كونه ليس عاملا بالنص بل
بالقياس وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه
كان يكفيه التيمم على المذكورة مع ما بينا من
كونه: لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده لا
بالنص.
الثالث: في قوله: "أن تقول بيديك هكذا"
استعمال القول في معنى الفعل وقد قالوا: إن
العرب استعملت القول في كل فعل.
الرابع: قوله: "ثم ضرب الأرض بيديه ضربة
واحدة" دليل لمن قال بالاكتفاء بضربة واحدة
للوجه واليدين وإليه يرجع حقيقة مذهب مالك
فإنه قال: يعيد في الوقت إذا فعل ذلك والإعادة
في الوقت دليل على إجزاء الفعل إذا وقع ظاهرا.
ومذهب الشافعي: أنه لا بد من ضربتين: ضربة
للوجه وضربة لليدين لحديث ورد فيه: "التيمم
ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين" 1 إلا أنه
لا يقاوم هذا الحديث في الصحة ولا يعارض مثله
بمثله.
الخامس: قوله: "ثم مسح الشمال على اليمين
وظاهر كفيه ووجهه" قدم في اللفظ مسح اليدين
على مسح الوجه لكن بحرف الواو وهي لا تقتضي
الترتيب هذا في هذه الرواية وفي غيرها: "ثم
مسح بوجهه" بلفظة ثم وهي تقتضي الترتيب فاستدل
بذلك على أن ترتيب اليدين على الوجه في الوضوء
ليس بواجب لأنه ثبت ذلك في التيمم ثبت في
الوضوء إذا لا قائل بالفرق.
السادس: قوله: "وظاهر كفيه" يقتضي الاكتفاء
بمسح الكفين في التيمم وهو مذهب أحمد ومذهب
الشافعي وأبي حنيفة: أن التيمم إلى المرفقين
وفي حديث أبي الجهيم: "أن النبي صلى الله عليه
وسلم تيمم على الجدار فمسح بوجهه ويديه"2
فتنازعوا في أن مطلق لفظ اليد هل يدل على
الكفين أو على الذراعين أو على جملة العضو إلى
الإبط؟ فادعى قوم: أنه يحمل على الكفين عند
الإطلاق كما في قوله عز وجل: {فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقد ورد في بعض
روايات حديث أبي الجهيم: "أنه صلى الله عليه
وسلم مسح وجهه وذراعيه"3 والذي في الصحيح:
"ويديه".
3 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم
يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب
مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا
ـــــــ
1 الدارقطني "1/180" والحاكم في المستدرك
"1/179".
2 البخاري "337" ومسلم 369".
3 الدارقطني "1/177".
(1/80)
وطهورا فأيما
رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي
الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة
وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى
الناس عامة" 1.
جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بفتح
الحاء المهملة وبعدها راء مهملة - الأنصاري
السلمي - بفتح السين واللام - منسوب إلى بني
سلمة - بكسر اللام - يكنى أبا عبد الله توفي
سنة إحدى وستين من الهجرة وهو ابن إحدى
وتسعين.
والكلام على حديثه من وجوه:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا"
تعديد للفضائل التي خص بها دون سائر الأنبياء
عليهم السلام وظاهره: يقتضي أن كل واحدة من
هذه الخمس لم تكن لأحد قبله.
ولا يعترض على هذا بأن نوحا عليه السلام - بعد
خروجه من الفلك - كان مبعوثا إلى أهل الأرض
لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان
مرسلا إليهم لأن هذا العموم في الرسالة لم يكن
في أصل البعثة وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث
وهو انحصار الناس في الموجودين لهلاك سائر
الناس وأما نبينا صلى الله عليه وسلم: فعموم
رسالته في أصل بعثته.
وأيضا فعموم الرسالة: يوجب قبولها عموما في
الأصل والفروع وأما التوحيد وتمحيص العبادة
لله عز وجل: فيجوز أن يكون عاما في حق بعض
الأنبياء وإن كان التزام فروع شرعه ليس عاما,
فإن من الأنبياء المتقدمين عليهم السلام من
قاتل غير قومه على الشرك وعبادة غير الله
تعالى فلو لم يكن التوحيد لازما لهم بشرعه أو
شرع غيره: لم يقاتلوا ولم يقتلوا إلا على
طريقة المعتزلة القائلين بالحسن والقبح
العقليين. ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد
عامة لكن على ألسنة أنبياء متعددة فثبت
التكليف به لسائر الخلق وإن لم تعم الدعوة به
بالنسبة إلى نبي واحد.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت
بالرعب" الرعب2: هو الوجل والخوف لتوقع نزول
محظور والخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث:
مقيدة بهذا القدر من الزمان ويفهم منه أمران:
أحدهما: أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في
أقل من هذه المسافة والثاني: أنه لم يوجد
لغيره في أكثر منها فإنه مذكور في سياق
الفضائل والخصائص ويناسبه: أن تذكر الغاية
فيه.
وأيضا فإنه لو وجد لغيره في أكثر من هذه
المسافة لحصل الاشتراك في الرعب في هذه
المسافة وذلك ينفي الخصوصية بها.
ـــــــ
1 البخاري "335" ومسلم "521" كلاهما بلفظ:
الغنائم أما المغاين فمن لفظ مسلم "523" وأوله
"فضلت بست...."
2 الرعب بالضم وبضمتين القاموس رعب.
(1/81)
الثالث: قوله
صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدا"
المسجد: موضع السجود في الأصل ثم يطلق في
العرف على المكان المبني للصلاة التي السجود
منها وعلى هذا: فيمكن أن يجمل المسجد ههنا على
الوضع اللغوي أي جعلت لي الأرض كلها مسجدا
أعني موضع السجود أي لا يختص السجود منها
بموضع دون غيره ويمكن أن تجعل مجازا عن المكان
المبني للصلاة لأنه لما جازت الصلاة جميعها
كانت كالمسجد في ذلك فإطلاق اسمه عليها من
مجاز التشبيه والذي يقرب هذا التأويل: أن
الظاهر أنه إنما أريد: أنها مواضع للصلاة
بجملتها ولا للسجود فقط منها لأنه لم ينقل: أن
الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون
موضع.
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "طهورا"
استدل به على أمور.
أحدها: أن الطهور هو المطهر لغيره ووجه
الدليل: أنه ذكر خصوصيته بكونها طهورا أي
مطهرا ولو كان الطهور هو الطاهر: لم تثبت
الخصوصية فإن في طهارة الأرض عامة في حق كل
الأمم.
الأمر الثاني: استدل به من جوز التيمم بجميع
أجزاء الأرض لعموم قوله: "جعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا" والذين خصوا التيمم بالتراب: استدلوا
بما جاء في الحديث الآخر1: "وجعلت تربتها لنا
طهورا" وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام
وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه منها: منع كون التربة
مرادفة للتراب وادعى أن تربة كل مكان: ما فيه
من تراب أو غيره مما يقاربه.
ومنها: أنه مفهوم لقب أعني تعليق الحكم
بالتربة ومفهوم اللقب: ضعيف عند أرباب الأصول
وقالوا: لم يقل به إلا الدقاق.
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن في الحديث قرينة
زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة وهو
الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا وجعل
ترتبها طهورا على ما في ذلك الحديث.
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على
الافتراق في الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر
نسقا كما في الحديث الذي ذكره المصنف.
ومنها: أن الحديث المذكور الذي خصت فيه التربة
بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به لكان
الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية
أجزاء الأرض أعني قوله صلى الله عليه وسلم:
"مسجدا
ـــــــ
1 من رواية مسلم "522" من حديث حذيفة.
(1/82)
وطهورا" فإذا
تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي
عدم طهوريته ودلالة المنطوق الذي يقتضي
طهوريته فالمنطوق مقدم على المفهوم.
وقد قالوا: إن المفهوم يخصص العموم فتمتنع هذه
الأولوية إذا سلم المفهوم هنا وقد أشار بعضهم
إلى خلاف هذه القاعدة أعني تخصيص العموم
بالمفهوم ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في
معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض
بينه وبين العموم في محله.
الأمر الثالث: أخذ منه بعض المالكية: أن لفظة
طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ولا الخبث
وقال: إن الصعيد قد يسمى طهور وليس عن حدث ولا
عن خبث لان التيمم لا يرفع الحدث هذا أو معناه
وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة
فم الكلب لقوله صلى الله عليه وسلم: "طهور
إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبعا"
1 فقالوا طهور يستعمل إما عن حدث أو خبث ولا
حدث على الإناء فيتعين أن يكون عن خبث.
فمنع هذا المجيب المالكي الحصر وقال: إن لفظة
طهور تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب
إذا لا يرفع الحدث كما قلنا فيكون قوله: "طهور
إناء أحدكم" مستعملا في إباحة استعماله أعني
الإناء كما في التيمم.
وفي هذا عندي نظر فإن التيمم - وإن قلنا: إنه
لا يرفع الحدث - لكنه عن حدث أي الموجب لفعله
حدث وفرق بين قولنا إنه عن حدث وبين قولنا إنه
لا يرفع الحدث وربما تقدم هذا أو بعضه.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "فأيما رجل
من أمتي أدركته لا صلاة فليصل" مما يستدل به
على عموم التيمم بأجزاء الأرض لأن قوله صلى
الله عليه وسلم: "أيما رجل" صيغة عموم فيدخل
تحته من لم يجد تراب ووجد غيره من أجزاء الأرض
ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا
يخص به هذا العموم أو يقول: دل الحديث على أنه
يصلي وأنا أقول بذلك فمن لم يجد ماء ولا
ترابا: صلى على حسب حاله فأقول بموجب الحديث
إلا أنه قد جاء في رواية أخرى: "فعنده طهوره
ومسجده" والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها
بعضا.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأحلت لي
الغنائم" يحتمل أن يراد به: جواز أن يتصرف
فيها كيف شاء ويقسمها كما أراد كما في قوله عز
وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ
الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:
1] ويحتمل أ يراد به: لم يحل منها شيء لغيره
وأمته وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك
ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها وفي بعض
الأحاديث: "وأحل لنا الخمس" أو كما قال أخرجه
ابن حبان - بكسر الحاء وبعدها باء موحدة - في
صحيحه.
ـــــــ
1 مسلم "279" من حديث أبي هريرة.
(1/83)
السابع: قوله
صلى الله عليه وسلم: "وأعطيت الشفاعة" قد ترد
الألف واللام للعهد كما في قوله تعالى:
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]
وترد للعموم نحو قوله صلى الله عليه وسلم:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" 1 وترد لتعريف
الحقيقة كقولهم: الرجل خير من المرأة والفرس
خير من الحمار.
إذا ثبت هذا فنقول: الأقرب أنها في قوله صلى
الله عليه وسلم: "وأعطيت الشفاعة" للعهد وهو
ما بينه صلى الله عليه وسلم من شفاعته العظمة
وهي شفاعته في إراحة الناس من طول القيام
بتعجيل حسابهم وهي شفاعة مختصة به صلى الله
عليه وسلم ولا خلاف فيها ولا ينكرها المعتزلة
والشفاعات الأخروية خمس إحداها: هذه وقد ذكرنا
اختصاص الرسول بها وعدم الخلاف فيها وثانيتها:
الشفاعة في إدخال قوم الجنة من دون حساب2 وهذه
قد وردت أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا
أعلم الاختصاص فيها ولا عدم الاختصاص
وثالثتها: قوم قد استوجبوا النار فيشفع في عدم
دخولهم لها وهذه أيضا قد تكون غير مختصة
ورابعتها: قوم دخلوا النار فيشفع في خروجهم
منها وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص لما صح في
الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة وقد ورد
أيضا: "الإخوان من المؤمنين يشفعون" 3
وخامستها: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة
الدرجات لأهلها وهذه أيضا لا تنكرها المعتزلة.
فتلخص من هذا: أن من الشفاعة منها ما علم
الاختصاص به ومنها: ما علم عدم الاختصاص به
ومنها: ما يحتمل الأمرين فلا تكون الألف
واللام للعموم فإن كان النبي صلى الله عليه
وسلم قد تقدم منه إعلام الصحابة بالشفاعة
الكبرى المختص بها هو التي صدرنا بها الأقسام
الخمسة فلتكن الألف واللام للعهد وإن كان لم
يتقدم ذلك على هذا الحديث فلتجعل الألف واللام
لتعريف الحقيقة وتنزل على تلك الشفاعة لأنه
كالمطلق حينئذ فيكفي تنزيله على فرد.
وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف إذ
ليس في الحديث إلا قوله: "وأعطيت الشفاعة" وكل
هذه الأقسام التي ذكرتها: قد أعطيها صلى الله
عليه وسلم فليحمل اللفظ على العموم.
لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي
اختص بها صلى الله عليه وسلم فلفظها - وإن كان
مطلقا - إلا أن ما سبق في صدر الكلام: يدل على
الخصوصية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لم
يعطهن أحد قبلي".
وأما قوله: "وكان النبي يبعث إلى قومه" فقد
تقدم الكلام عليه في صدر الحديث والله أعلم.
ـــــــ
1 أخرجه بهذا اللفظ أحمد بسند حسن "6692"
"6797" "6970" وأبو داود "2751".
2 مسلم في حديث طويل "194".
3 البخاري من حديث طويل "7439" وفيه "فيشفع
النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول
الجبار....." مسلم "183" ولفظه من حديث طويل
"فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع
المؤمنون".
(1/84)
7 -
باب الحيض
1 - عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي
حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "لا
إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي
كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" 1.
وفي رواية: "وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة:
فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك
الدم وصلي" 2.
الكلام على هذا الحديث عليه من وجوه:
أحدها: يقال: حاضت المرأة وتحيضت تحيض حيضا
ومحاضا ومحيضا - إذا سال الدم منها في نوبة
معلومة وإذا استمر من غير نوبة قيل: استحيضت
فيه مستحاضة ونقل الهروي عن ابن عرفة أنه قال:
المحيض والحيض: اجتماع الدم إلى ذلك المكان
ومنه سمى الحوض حوضا لاجتماع الماء فيه.
قال الفارسي في مجمعه - بعدما نقل ما ذكرناه -
وهذا زلل ظاهر لأن الحوض من ذوات الواو يقال:
حضت أحوض أي اتخذت حوضا واستحوض الماء: إذا
اجتمع وسميت الحائض حائضا عند سيلان الدم منها
لا عند اجتماع الدم في رحمها وكذلك المستحاضة
تسمى بذلك عند استمرار السيلان بها فإذا أخذ
الحيض من الحوض خطأ لفظا ومعنى فلست أدري كيف
وقع؟
وما ذكره من جهة المعنى: فليس بالقاطع لأن تلك
الحالة ليس يمتنع أن يطلق عليها لفظ الاجتماع
لا سيما في بعض الأحوال.
الثاني: أبو حبيش بضم الحاء المهملة بعدها باء
ثانية الحروف مفتوحة ثم ياء آخر الحروف ساكنة
ثم شين معجمة وهو أبو حبيش المطلب بن أسد بن
عبد العزى ووقع في أكثر نسخ مسلم عبد المطلب
وذلك غلط عندهم والصواب المطلب كما ذكرنا.
الثالث: قولها: "استحاض" قد تقدم معنى
الاستحاضة فيقال منه: استحيضت المرأة مبينا
للمفعول ولم يبن هذا الفعل للفاعل كما في
قولهم نفست المرأة ونتجت الناقة وأصل الكلمة:
من الحيض والزوائد التي لحقتها للمبالغة كما
يقال: قر في المكان ثم يزاد للمبالغة فيقال:
استقر ويقال: أعشب المكان ثم يبالغ فيه فيقال:
اعشوشب وكثيرا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى.
ـــــــ
1 البخاري "325" "662" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "306" و"320".
(1/85)
الرابع:
الطهارة تطلق بإزاء النظافة وهو الوضع اللغوي
وتطلق بإزاء استعمال المطهر فيقال: الوضوء
طهارة صغرى والغسل طهارة كبرى وتطلق ويراد
بها: الحكم الشرعي المرتب على استعمال المطهر
فيقال لمن ارتفع عنه مانع الحدث: هو على طهارة
ولمن لم يرتفع عنه المانع: هو على غير طهارة.
فإذا ثبت هذان فنقول: قولها: "فلا أطهر" يحمل
على الوضع اللغوي وكنت باللفظة عن عدم النظافة
الدم لأن النساء لم يكن يستعملن المطهر في ذلك
الوقت ولا هي أيضا عالمة بالحكم الشرعي فإنها
جاءت تسأل عنه فتعين حمله على الوضع اللغوي ثم
حقيقته: استمرار الدم وعليه حمله بعضهم ويمكن
حمله على المبالغة ومجاز كلام العرب لكثرة
تواليه وقرب بعضه من بعض.
الخامس: قولها: "أفأدع الصلاة؟" سؤال عن
استمرار حكم الحيض في حالة دوام الدم وإزالته
وهو كلام من قرر عنده: أن الحائض ممنوعة من
الصلاة.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إنما
ذلك عرق" فيه دليل على أن الصلاة لا يتركها من
غلبه الدم من جرح أو انبثاق1 عرق كما فعل عمر
رضي الله عنه حيث صلى وجرحه يثعب2 دما3.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق"
ظاهره: انبثاق الدم من عرق وقد جاء في الحديث:
"عرق وانفجر" ويحتمل أن يكون من مجاز التشبيه
إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادة الدم وخروجه
من مجاري الحيض المعتادة.
السابع: في الحديث دليل على أن الحائض تترك
الصلاة من غير قضاء وهو كالإجماع من الخلف
والسلف في تركها وعدم وجوب القضاء ولم يخالف
في عدم وجوب القضاء إلا الخوارج نعم استحب بعض
السلف للحائض إذا دخل وقت الصلاة: أن تتوضأ
وتستقبل القبلة وتذكر الله عز وجل وأنكره
بعضهم.
الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: "قدر الأيام
التي كنت تحيضين فيها" رد إلى أيام العادة.
و المستحاضة إما مبتدأة وإما معتادة وكل منهما
إما مميزة أو غير مميزة فهذه أربعة والحديث قد
دل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة لقوله
صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة قدر الأيام
التي كنت تحيضين فيها" وهذا يقتضي أنها كانت
لها أيام تحيض فيها وليس في هذا اللفظ الذي في
هذه الرواية ما يدل على أنها كانت مميزة أو
غير مميزة فإن ثبت في هذا الحديث رواية أخرى
تدل على.
ـــــــ
1 انبثق انفجر القاموس بثق.
2 ثعب الماء والدم إذا سال القاموس ثعب.
3 موطأ مالك "1/60".
(1/86)
التمييز ليس
لها معارض فذاك وإن لم يثبت فقد يستدل بهذه
الرواية من يرى الرد إلى أيام العادة سواء
كانت مميزة أو غير مميزة وهو اختيار أبي حنيفة
وأحد قولي الشافعي.
والتمسك به ينبني على قاعدة أصولية وهي ما
يقال إن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع
قيام الاحتمال ينزل منزلة عموم المقال ومثلوه
بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روي لفيروز وقد
أسلم على أختين "اختر أيتهما شئت" 1 ولم
يستفصله هل وقع العقد عليها مرتبا أو متقارنا؟
وكذا نقول ههنا لما سألت هذه المرأة عن حكمها
في الاستحاضة ولم يستفصلها رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن كونها مميزة أو غير مميزة كان
دليلا على أن هذا الحكم عام في المميزة وغيرها
كما قالوا في حديث فيروز الذي اعترض به ثم يرد
ههنا أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يجوز أن يكون عالما حال الواقعة كيف وقعت
فأجاب على ما علم وكذا يقال هنا: يجوز أن يكون
علم حال الواقعة في التمييز أو عدمه.
وقوله في رواية: "و ليس بالحيضة فإذا أقبلت
الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي
عنك الدم وصلي" اختار بعضهم في قوله: "وليس
بالحيضة" كسر الحاء أي الحالة المألوفة
المعتادة والحيضة بالفتح المرة من الحيض2.
وقوله: "فإذا أقبلت" تعليق الحكم بالإقبال
والإدبار فلا بد أن يكون معلوما لها بعلامة
تعرفها فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز
فإقبالها بدء الدم الأسود وإدبارها إدبار ما
هو بصفة الحيض وإن كانت معتادة وردت إلى
العادة فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة
وإدبارها انقضاء أيام العادة.
وقد ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذه ما
يقتضي الرد إلى التمييز وقالوا: إن حديثها في
المميزة وحمل قوله: "فإذا أقبلت الحيضة" على
الحيضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد
وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز: الرواية
التي فيها: "دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك
فأمسكي عن الصلاة" 3.
وأما الرد إلى العادة: فقد ذكرناها في الرواية
الأولى التي ذكرها المصنف وقد يشير إليه في
هذه الرواية قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا
ذهب قدرها" فالأشبه أنه يريد قدر أيامها.
وصحف بعض الطلبة هذه اللفظة فقال فإذا ذهب
قذرها بالذال المعجمة المفتوحة وإنما هو
بالمهملة الساكنة أي قدر وقتها والله أعلم.
ـــــــ
1 هذا لفظ الترمذي "1129" ولفظ أبي داود
"2243" "طلق..." وقال أبو عيسى هذا حديث حسن
غريب.
2 وبالكسر الاسم القاموس حيض.
3 أبو داود "286" والنسائي "362" "363".
(1/87)
وقوله: "فاغسلي
عنك الدم وصلي" مشكل في ظاهره لأنه لم يذكر
الغسل ولا بد بعد انقضاء الحيض من الغسل.
وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار:
انقضاء أيام الحيض والاغتسال وجعل قوله:
"فاغسلي عنك الدم" محمولا على دم يأتي بعد
الغسل.
والجواب الصحيح: أن هذه الرواية - وإن لم يذكر
فيها الغسل - فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة
فقال فيها: "واغسلي" 1.
وفي الحديث دليل على نجاسة دم الحيض.
2 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن أم حبيبة
استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ذلك؟ فأمرها أن تغتسل قالت:
فكانت تغتسل لكل صلاة"2.
أم حبيبة هذه: ابنة جحش بن رآب الأسدي أخت
زينت بنت جحش وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف
ويقال فيها: أم حبيب وأهل السير يقولون: إن
المستحاضة حمنة قال أبو عمر ابن عبد البر:
والصحيح عند المحدثين: أنهما كانتا مستحاضتين
جميعا ووقع في نسخ من هذا الكتاب: "فأمرها
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن
تغتسل لكل صلاة" وليس في الصحيحين ولا أحدهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل
لكل صلاة وإنما في الصحيح3: "فأمرها أن تغتسل
فكانت تغتسل لكل صلاة" وفي كتاب مسلم4 عن
الليث لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة
وإنما هو شيء فعلته هي.
وذهب قوم إلى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة وقد
ورد الأمر بالغسل لكل صلاة في رواية ابن اسحاق
خارج الصحيح5.
والذين لم يوجبوا الغسل لكل صلاة حملوا ذلك
على مستحاضة ناسية للوقت والعدد يجوز في مثلها
أن ينقطع الدم عنها في وقت كل صلاة.
واستدل بعضهم على أنه لم لا يلزمها الغسل لك
لصلاة بقوله في الحديث المتقدم: "اغتسلي وصلي"
نم حيث إنه يأمر بتكراره لكل صلاة ولو وجب
لأمر به.
ـــــــ
1 لفظ البخاري "ثم اغتسلي" "325".
2 البخاري "327" ومسلم "334" "64" واللفظ
للبخاري.
3 هي رواية الباب.
4 مسلم "334" "63".
5 هي رواية أبي داود "292 و293".
(1/88)
واستدل أيضا
بتلك الرواية على من يقول1: إن المستحاضة تجمع
بين صلاتين بغسل واحد وتغتسل للصبح وحده ووجه
الدليل: ما ذكره.
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أغتسل
أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء
واحد كلانا جنب2.
4 - وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض3.
5 - وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا
حائض"4.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: هو أن اغتسال الرجل والمرأة في إناء
واحد جائز وقد مر الكلام فيه.
الثاني: جواز مباشرة الحائض فوق الإزار
لقولها: "فأتزر فيباشرني" واختلف الفقهاء فيما
تحت الإزار وليس في هذا الحديث تصريح بمنع ولا
جواز وإنما فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم
والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب على المختار.
الثالث: فيه جواز استخدام الرجل امرأته فيما
خف من الشغل واقتضته العادة.
الرابع: فيه جواز مباشرة الحائض بمثل هذا
الفعل من الطاهر فإن بدنها غير نجس إذا لم
يلاق نجاسة.
الخامس: فيه أن المعتكف إذا أخرج رأسه من
المسجد لم يفسد اعتكافه وقد يقاس عليه غيره من
الأعضاء إذا لم يخرج جميع بدنه من المسجد وقد
يستدل به على أن من حلف أن لا يخرج من بيت أو
من غيره فخرج ببعض بدنه لم يحدث ووجه
الاستدلال أن الحديث دل على أن خروج بعض البدن
لا يكون كخروج كله فيما يعتبر فيه الكون في
المكان المعين وإذا لم يكن خروج بعضه كخروج
كله لم يحنث بذلك فإن اليمين إنما تعلقت
بخروجه وحقيقته في الكل أعني كل البدن.
6 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ
القرآن وأنا حائض"5.
في مثل ما تقدم من طهارة بدن الحائض وما
يلابسها مما لم تلحقه نجاسة وجواز ملابستها
أيضا كما قلناه.
ـــــــ
1 وهوقول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد
وفرقه وروي عن علي وابن عباس أيضا مثل ذلك
راجع الاستذكار "3: 229 – 231" والتمهيد "16:
91".
2 البخاري "229" ومسلم "321" "45".
3 البخاري "300" ومسلم "293" "1".
4 البخاري "301" ومسلم "297" "6".
5 البخاري "297" و"7549" ومسلم "301".
(1/89)
وفيه إشارة إلى
أن الحائض لا تقرأ القرآن لأن قولها: "فيقرأ
القرآن" إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة
ما يوهم منعه ولو كانت قراءة القرآن للحائض
جائزة لكان هذا الوهم منتفيا أعني توهم امتناع
قراءة القرآن في حجر الحائض ومذهب الشافعي
الصحيح امتناع قراءة الحائض للقرآن ومشهور
مذهب أصحاب مالك: جوازه.
7 - عن معاذة قالت: "سألت عائشة رضي الله عنها
فقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي
الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست
بحرورية ولكني أسأل فقالت: كان يصيبنا ذلك
فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"1.
معاذة بنت عبد الله العدوية امرأة صلة بن أشيم
بصرية أخرج لها الشيخان في صحيحيهما.
و الحروري من ينسب إلى حرواء وهو موضع بظاهر
الكوفة اجتمع فيه أوائل الخوارج ثم كثر
استعماله حتى استعمل في كل خارجي ومنه قول
عائشة لمعاذة: "أحرورية أنت؟" أي أخارجية
وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض
تقضي الصلاة وإنما ذكرت ذلك أيضا لأن معاذة
أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرد بل
صيغتها قد تشعر بتعجب أو إنكار فقالت لها
عائشة: "أحرورية أنت" فأجابتها بأن قالت لا
ولكني أسأل أي أسأل سؤالا مجردا عن الإنكار
والتعجب بل لطلب مجرد العلم بالحكم فأجابتها
عائشة بالنص ولم تتعرض للمعنى لأنه أبلغ وأقوى
في الردع عن مذهب الخوارج وأقطع لمن يعارض
بخلاف المعاني المناسبة فإنها عرضة للمعارضة.
والذي ذكره العلماء من المعنى في ذلك أن
الصلاة تتكرر فإيجاب قضائها مفض إلى حرج ومشقة
فعفى عنه بخلاف الصوم فإنه غير متكرر فلا يفضي
قضاؤه إلى حرج وقد اكتفت عائشة رضي الله عنها
في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يؤمر
به فيحمل ذلك على وجهين.
أحدهما: أن تكون أخذت إسقاط القضاء من سقوط
الأداء ويكون مجرد سقوط الأداء دليلا على سقوط
القضاء إلا أن يوجد معارض وهو الأمر بالقضاء
كما في الصوم.
و الثاني: - وهو الأقرب - أن يكون السبب في
ذلك أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم فإن
الحيض يتكرر فلو وجب قضاء الصلاة فيه لوجب
بيانه وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب لا سيما
وقد اقترن بذلك قرينة أخرى وهي الأمر بقضاء
الصوم وتخصيص الحكم به وفي الحديث دليل لما
يقوله الأصوليون من أن قول الصحابي كنا نؤمر
وننهى في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وإلا لم تقم الحجة به.
ـــــــ
1 البخاري "321" ومسلم "335" "69" واللفظ له
وفي البخاري عن معاذ أن امرأة سألت عائشة.
(1/90)
|