إحكام
الأحكام شرح عمدة الأحكام ط مؤسسة الرسالة
كتاب الحدود
مدخل
...
كتاب الحدود.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قدم
ناس من عكل - أو عرينة - فاجتووا المدينة فأمر
لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن
يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما
صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم
واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث
في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر
بهم: فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت
أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون".
قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد
إيمانهم وحاربوا الله ورسوله أخرجه الجماعة1.
اجتويت البلاد: إذا كرهتها وإن كانت موافقة,
واستوبأتها: إذا لم توافقك.
استدل بالحديث على طهارة أبوال الإبل للإذن في
شربها والقائلون بنجاستها اعتذروا عن هذا:
بأنه للتداوي وهو جائز بجميع النجاسات إلا
بالخمر.
واعترض عليهم الأولون بأنها لو كانت محرمة
الشرب: لما جاز التداوي بها لأن الله لم يجعل
شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
وقد وقع في هذا الحديث التمثيل بهم واختلف
الناس في ذلك فقال بعضهم: هو منسوخ بالحدود
فعن قتادة: أنه قال: فحدثني محمد بن سيرين: أن
ذلك قبل أن تنزل الحدود وقال ابن شهاب - بعد
أن ذكر قصتهم - وذكروا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي
في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:
33] الآية والتي بعدها وروي محمد بن الفضل -
بإسناد صحيح منه إلى ابن سيرين - قال كان شأن
العرنيين قبل أن تنزل الحدود التي أنزل الله
عز وجل في المائدة من شأن المحاربين: أن
يقتلوا أو يصلبوا: فكان شأن العرنيين منسوخا
بالآية التي يصف فيها إقامة حدودهم.
وفي حديث أبي حمزة عن عبد الكريم - وسئل عن
أبوال الإبل؟ - فقال: حدثني سعيد بن جبير عن
المحاربين - فذكر الحديث - وفي آخره فما مثل
النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن
المثلة وقال: "لا تمثلوا بشيء".
ـــــــ
1 البخاري "233" مسلم "1671".
(1/439)
وفي رواية
إبراهيم بن عبد الرحمن عن محمد بن الفضل
الطبري بإسناد فيه موسى بن عبيدة الربذي -
بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي بقصتهم -
وفي آخره فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم
سمل الأعين فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
وروي ابن الجوزي في كتابه حديثا من رواية صالح
بن رستم عن كثير بن شنظير عن الحسن عن عمران
بن حصين قال ما قام فينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم خطيبا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن
المثلة وقال قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ
كل مثلة كانت في الإسلام قال ابن الجوزي:
وادعاء النسخ محتاج إلى تاريخ وقد قال بعض
العلماء: إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا
أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم
ثابت.
قلت: هنا تقصير لأن الحديث ورد فيه المثلة من
جهات عديدة وبأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص
في سمل الأعين فماذا يصنع بباقي ما جرى من
المثلة؟ فلا بد فيه من جواب عن هذا وقد رأيت
عن الزهري في قصة العرنيين: أنه ذكر أنهم
قتلوا يسارا مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم مثلوا به فلو ذكر ابن الجوزي هذا: كان
أقرب إلى مقصوده مما ذكره من سمل الأعين فقط
على أنه أيضا بعد ذلك: يبقى نظر في بعض ما حكي
في القصة.
وعكل: بضم العين المهملة وسكون الكاف وآخره
لام وعرينة: بضم العين المهملة وفتح الراء
المهملة وسكون آخر الحروف بعدها نون وقال
بعضهم: هم ناس من بني سليم وناس من بني بجيلة
وبني عرينة واللقاح: النوق ذوات اللبن.
2 - عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود
عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله
عنهما أنهما قالا: "إن رجلا من الأعراب أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله
فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - نعم فاقض
بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "قل" فقال: إن ابني كان عسيفا
على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت: أن على ابني
الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل
العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة
وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده
لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم: رد
عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا
أنيس - لرجل من أسلم - على امرأة هذا فإن
اعترفت فارجمها" فغدا عليها فاعترفت فأمر بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت"1.
العسيف: الأجير.
ـــــــ
1 البخاري "2725" ومسلم "1697 و1698".
(1/440)
قوله: "إلا
قضيت بيننا بكتاب الله" تنطلق هذه اللفظة على
القرآن خاصة وقد ينطلق كتاب الله على حكم الله
مطلقا والأولى: حمل هذه اللفظة على هذا لأنه
ذكر فيه التغريب وليس ذلك منصوصا في كتاب الله
إلا أن يؤخذ ذلك بواسطة أمر الله تعالى بطاعة
الرسول وأتباعه.
وفي قوله: "وائذن لي" حسن الأدب في المخاطبة
للأكابر.
وقوله: "كان عسيفا" أي أجيرا وقوله: "فافتديت
منه" أي من الرجم وفيه دليل على شرعية التغريب
مع الجلد والحنفية يخالفون فيه بناء على أن
التغريب ليس مذكورا في القرآن وأن الزيادة على
النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز
وغيرهم يخالفهم في تلك المقدمة وهي أن الزيادة
على النص نسخ والمسألة مقررة في علم الأصول.
وفي قوله: "فسألت أهل العلم" دليل على الرجوع
إلى العلماء عند اشتباه الأحكام والشك فيها
ودليل على الفتوى في زمن الرسول صلى الله عليه
وسلم ودليل على استصحاب الحال والحكم بالأصل
في استمرار الأحكام الثابتة وإن كان يمكن
زوالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
بالنسخ.
وقوله: "رد عليك" أي مردود أطلق المصدر على
اسم المفعول وفيه دليل على أن ما أخذ
بالمعارضة الفاسدة يجب رده ولا يملك وبه يتبين
ضعف عذر من اعتذر من أصحاب الشافعي عن بعض
العقود الفاسدة عنده: بأن المتعاوضين أذن كل
واحد منهما للآخر في التصرف في ملكه وجعل ذلك
سببا لجواز التصرف فإن ذلك الإذن ليس مطلقا
وإنما هو مبني على المعارضة الفاسدة.
وفي الحديث دليل على أن مايستعمل من الالفاظ
في محل الاستفتاء يسامح به في أقامة الحد
أوالتعزير فإن هذا الرجل الذي قذف المرأة
بالزنى ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم
لأمر حده بالقذف وأعرض عن ذلك إبتداءا.
وفيه تصريح بحكم الرجم وفيه استنابة الإمام في
إقامة الحدود ولعله يؤخذ منه: أن الإقرار مرة
واحدة يكفي في إقامة الحد فإنه رتب رجمها على
مجرد إعترافها ولم يقيده بعدد وقد يستدل به
على عدم الجمع بين الجلد والرجم فإنه لم يعرفه
أنيسا ولا أمره به.
3 - عن عبيد الله بن عقبة بن مسعود عن أبي
هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما
قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: "إن زنت
فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت
فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير".
قال ابن شهاب: ولا أدري: أبعد الثالثة أو
الرابعة؟1.
ـــــــ
1 البخاري "2154" ومسلم "1703" ولييس عند مسلم
قول ابن شهاب.
(1/441)
والضفير:
الحبل.
يستدل به على إقامة الحد على المماليك كإقامته
على الأحرار ودلالته على إقامة السيد الحد على
عبده محتملة وليست بالقوية.
وفيه بيان لحكم الأمة إذا لم تحصن والكتاب
العزيز تعرض لحكمها إذا أحصنت وجمهور العلماء:
إنه إذا لم تحصن تجلد الحد ونقل عن ابن عباس
في العبد والأمة أنه قال إذا لم يكونا مزوجين
فلا حد عليهما وإن كانا مزوجين فعليها نصف
الحد وهو خمسون قال بعضهم: وبه قال طاوس وأبو
عبيد وهذا مذهب من تمسك بمفهوم الكتاب العزيز
وهو قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
[النساء: 25] إلا أن مذهب الجمهور راجح لأن
هذا الحديث نص في إيجاب الجلد على من لم يحصن
فإذا تبين بحديث آخر: أنه الحد أو أخذ من
السياق: فهو مقدم على المفهوم.
والضفير الحبل المضفور فعيل بمعنى فعول.
وذكر بعضهم: أن قوله: "فليبعها ولو بضفير"
دليل على أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ولذلك
حط من القيمة قال: وفيه دليل على جواز بيع غير
المحجوز عليه مالا بما لا يتغابن به الناس.
وفيما قاله في الأول نظر لجواز أن يكون
المقصود أن يبيعها وإن انحطت قيمتها إلى
الضفير فيكون ذلك إخبارا متعلقا بحال وجودي لا
إخبارا عن حكم شرعي ولا شك أن من عرف بتكرر
زنا الأمة انحطت قيمتها عنده.
وفيما قاله في الثاني نظر أيضا لجواز أن يكون
هذا العيب أوجب نقصان قيمتها عند الناس فيكون
بيعها بالنقصان بيعا بثمن المثل لا بيعا بما
لا يتغابن الناس به.
وفي الحديث دليل على أن المأمور به: هو الحد
المنوط بها دون ضرب التعزير والتأديب ونقل عن
أبي ثور: أن هذا الحديث إيجاد الحد وإيجاب
البيع أيضا وأن لا يمسكها إذا زنت أربعا.
وقد يقال أيضا: إن فيه إشارة إلى أن العقوبات
إذا لم تفد مقصودها من الزجر لم تفعل فإن كانت
واجبة كالحد فلترك الشرط في وجوبها على السيد
وهو الملك لأن أحد الأمرين لازم: إما ترك الحد
ولا سبيل إليه لوجوبه وإما إزالة شرط الوجوب
وهو الملك فتعين ولم يقل: اتركوها أو حدوها
كلما تكرر لأجل ما ذكرناه والله أعلم.
فيخرج عن هذا التعزيرات التي لا تفيد لأنها
ليست بواجبة الفعل فيمكن تركها.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "أتى
رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم
- وهو في المسجد - فناداه: يا رسول الله إني
زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه.
(1/442)
فقال: يا رسول
الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه
أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات:
دعاه رسول الله فقال: "أبك جنون؟" قال: لا
قال: "فهل أحصنت؟" قال: نعم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه".
قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن
سمع جابر بن عبد الله يقول: "كنت فيمن رجمه
فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب
فأدركناه بالحرة فرجمناه"1.
الرجل هو ماعز بن مالك روى قصته جابر بن سمرة
وعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وبريد بن
الحصيب الأسلمي.
ذهب الحنفية إلى أن تكرار الإقرار بالزنا
أربعا: شرط لوجوب إقامة الحد ورأوا أن النبي
صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث - إنما أخر
الحد إلى تمام الأربع لأنه لم يجب قبل ذلك
وقالوا: لو وجب بالإقرار مرة: لما أخر الرسول
صلى الله عليه وسلم الواجب وفي قول الراوي
فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله
الخ إشعار بأن الشهادة أربعا هي العلة في
الحكم.
ومذهب الشافعي ومالك ومن تبعهما: أن الإقرار
مرة واحدة موجب للحد قياسا على سائر الحقوق
فكأنهم لم يروا أن تأخير الحد إلى تمام
الإقرار أربعا لما ذكره الحنفية وكأنه من باب
الاستثبات والتحقيق لوجود السبب لأن مبنى الحد
على الاحتياط في تركه ودرئه بالشبهات.
وفي الحديث: دليل على سؤال الحاكم في الواقعة
عما يحتاج إليه في الحكم وذلك من الواجبات
كسؤاله عليه السلام عن الجنون ليتبين العقل
وعن الإحصان ليثبت الرجم ولم يكن بد من ذلك
فإن الحد متردد بين الجلد والرجم: ولا يمكن
الإقدام على أحدهما إلا بعد تبين سببه.
وقوله عليه السلام: "أبك جنون؟" ويمكن أن يسأل
عنه فيقال: إن إقرار المجنون غير معتبر فلو
كان مجنونا لم يفد قوله: إنه ليس به جنون فما
وجه الحكمة في سؤاله عن ذلك؟ بل سؤال غيره ممن
يعرفه هو المؤثر.
وجوابه: أنه قد ورد أنه سأله غيره عن ذلك وعلى
تقدير أن لا يكون وقع سؤال غيره فيمكن أن يكون
سؤاله ليتبين بمخاطبته ومراجعته تثبته وعقله
فيبني الأمر عليه لا على مجرد إقراره بعدم
الجنون.
وفي الحديث: دليل على تفويض الإمام الرجم إلى
غيره ولفظه يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يحضره فيؤخذ منه: عدم حضور الإمام الرجم
وإن كان الفقهاء قد استحيوا أن يبدأ الإمام
بالرجم إذا ثبت الزنا بالإقرار ويبدأ الشهود
به إذا ثبت بالبينة وكأن الإمام لما كان عليه
التثبت
ـــــــ
1 البخاري "5272" ومسلم "1691" "16".
(1/443)
والاحتياط قيل
له: ابدأ ليكون ذلك زاجرا عن التساهل في الحكم
بالحدود وداعيا إلى غاية التثبت وأما في
الشهود: فظاهر لأن قتله بقولهم.
وقوله: "فلما أذلفته الحجارة" أي بلغت منه
الجهد وقيل: عضته وأوجعنه وأوهنته وقوله هرب
فيه دليل على عدم الحفر له.
5 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه
قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكروا له: أن امرأة منهم ورجلا
زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا:
نفضحهم ويجلدون, قال عبد الله بن سلام: كذبتم
فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع
أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ماقبلها وما
بعدها فقال به عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرع
يده فإذا فيها آية الرجم فقال: صدق يا محمد
فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما
قال: فرأيت الرجل: يجنأ على المرأة يقيها
الحجارة"1.
قال رضي الله عنه: الذي وضع يده على آية
الرجم: هو عبد الله بن صوريا.
اختلف الفقهاء في أن الإسلام: هل هو شرط
الإحصان أم لا؟ فذهب الشافعي أنه ليس بشرط
فإذا حكم الحاكم على الذمي المحصن رجمه ومذهب
أبو حنيفة: أن الإسلام شرط في الإحصان واستدل
الشافعية بهذا الحديث ورجم النبي صلى الله
عليه وسلم اليهوديين واعتذر الحنفية عنه بأن
قالوا: رجمهما بحكم التوراة وأنه سألهم عن ذلك
وأن ذلك عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة وادعوا أن آية حد الزنا نزلت بعد ذلك
فكان ذلك الحديث منسوخا وهذا يحتاج إلى تحقيق
التاريخ أعني ادعاء النسخ.
وقوله: "فرأيت الرجل يجنأ عن المرأة", في
الرواية: يجنأ بفتح الياء وسكون الجيم وفتح
النون والهمزة: أي يميل ومنه الجنى قال
الشاعر:
وبدلتني بالشطاط الجنى ... وكنت كالصعدة تحت
السنان
وفي كلام بعضهم ما يشعر بأن اللفظة بالحاء
يقال: حنا الرجل يحنو إذا أكب على الشيء قال
الشاعر:
حنو العابدات على وسادي
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا - أو
قال: امرءا -
ـــــــ
1 البخاري "3635" ومسلم "1699".
(1/444)
اطلع عليك بغير
إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه: ما كان عليك
جناح" 1.
أخذ الشافعي وغيره بظاهر الحديث وأباه
المالكية وقالوا: لا يقصد عينه ولا غيرها
وقيل: يجب القود إن فعل وهذا مخالف للحديث.
ومما قيل في تعليل المنع: أن المعصية لا تدفع
بالمعصية وهذا ضعيف جدا لأنه يمنع كونه معصية
في هذه الحالة ويلحق ذلك بدفع الصائل وإن أريد
بكونها معصية: النظر إلى ذاتها مع قطع النظر
عن هذا السبب فهو صحيح لكنه لا يفيد.
وتصرف الفقهاء في هذا الحكم بأنواع من
التصرفات.
منها: أن يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقفا
في الشارع أو في خالص ملك المنظور إليه أو في
سكة منسدة الأسفل اختلفوا فيه والأشهر: أن لا
فرق ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال وفي
وجه الشافعية: أنه لا يقصد إلا عين من وقف في
ملك المنظور إليه.
ومنها: أنه هل يجوز رمي الناظر قبل النهي
والإنذار؟ فيه وجهان للشافعية.
أحدهما: لا على قياس الدفع في البداءة بالأهون
فالأهون.
والثاني: نعم وإطلاق الحديث مشعر بهذين
الأمرين معا أعني أنه لا فرق بين موقف هذا
الناظر وأنه لا يحتاج إلى الإنذار وورد في هذا
الحكم الثاني ما هو أقوى من هذا الإطلاق وهو:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختل الناظر
بالمدري"2.
ومنها: أنه لو تسمع إنسان فهل يلحق السمع
بالنظر؟ اختلفوا فيه.
وفي الحديث إشعار: إنه إنما يقصد العين بشيء
خفيف كمدي وبندق وحصاة لقوله: "فحذفته" قال
الفقهاء: أما إذا زرق بالنشاب أو رماه بحجر
يقتله فقتله فهذا قتل يتعلق بالقصاص أو الدية.
ومما تصرف فيه الفقهاء: في أن هذا الناظر إذا
كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز
قصد قينه لأن له في النظر شبهة وقيل: لا يكفي
أن يكون له في الدار محرم إنما يمنع قصد عينه
إذا لم يكن فيها إلا محارمه.
ومنها: أنه إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها
فله الرمي إن كان مكشوف العورة ولا ضمان وإلا
فوجهان أظهرهما: أنه لا يجوز رميه.
ومنها: أن الحرم إذا كان في الدار مستترات أو
في بيت ففي وجه: لا يجوز قصد عينه لأنه لا
يطلع على شيء قال بعض الفقهاء: الأظهر الجواز
لإطلاق الأخبار ولأنه لا تنضبط أوقات الستر
والتكشف فالاحتياط حسم الباب.
ـــــــ
1 البخاري "6902" ومسلم "2158" "44".
2 البخاري "6900" عن أنس رضي الله عنه أن رجلا
اطلع من حجر في بعض حجر النبي صلى الله عليه
وسلم فقام إليه بمشقص أو بمشاقص وجعل يختله
ليطعنه.
(1/445)
ومنها: أن ذلك
إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار فإن كان
بابه مفتوحا أو ثم كوة واسعة أو ثلمة مفتوحة
فنظر: فإن كان مجتازا لم يجز قصده.
وإن توقف وتعمد فقيل: لا يجوز قصده لتفريط
صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة وقيل:
يجوز لتعديه بالنظر.
وأجري هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح نفسه أو
نظر المؤذن من المأذنة لكن الأظهر عندهم ههنا:
جواز الرمي لأنه لا تقصير من صاحب الدار.
واعلم أن ما كان من هذه التصرفات الفقهية
داخلا تحت إطلاق الأخبار فإنه قد يؤخذ منها
وما لا فبعضه مأخوذ من فهم المعنى المقصود
بالحديث وبعضه مأخوذ بالقياس وهو قليل فيما
ذكرناه.
(1/446)
1 -
باب حد السرقة.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته -
وفي لفظ: ثمنه - ثلاثة دراهم"1.
اختلف الفقهاء في النصاب في السرقة أصلا وقدرا
أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب وشذ
الظاهرية فلم يعتبروه ولم يفرقوا القليل
والكثير وقالوا بالقطع فيهما ونقل في ذلك وجه
في مذهب الشافعي.
والاستدلال بهذا الحديث على اعتبار النصاب
ضعيف فإنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا
المقدار فعلا: عدم القطع فيما دونه نطقا.
وأما المقدار: فإن الشافعي يرى أن النصاب ربع
دينار لحديث عائشة الآتي يقوم ماعدا الذهب
بالذهب وأبو حنيفة يقول: إن النصاب عشرة دراهم
ويقوم ما عدا الفضة بالفضة ومالك يرى: أن
النصاب ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم
وكلاهما أصل ويقوم ما عداهما بالدرهم وكلا
الحديثين يدل على خلاف مذهب أبي حنيفة.
وأما هذا الحديث: فإن الشافعي بين أنه لا
يخالف حديث عائشة وأن الدينار كان اثني عشرة
درهما وربعه ثلاثة دراهم أعني صرفه ولهذا قومت
الدية باثني عشر ألفا من الورق وألف دينار من
الذهب.
وهذا الحديث يستدل به لمذهب مالك في أن الفضة
أصل في التقويم فإن المسروق كان غير الذهب
والفضة وقوم بالفضة دون الذهب: دل على أنها
أصل في التقويم وإلا كان الرجوع
ـــــــ
1 البخاري "6795" ومسلم "1686" "6".
(1/446)
إلى الذهب -
الذي هو الأصل - أولى وأوجب عند من يرى
التقويم به والحنفية في مثل هذا الحديث وفيمن
روى في حديث عائشة: "القطع في ربع دينار
فصاعدا" يقولون - أو من قال منهم - في التأويل
ما معناه: إن التقويم أمر ظني تخميني فيجوز أن
تكون قيمته عند عائشة ربع دينار أو ثلاثة
دراهم ويكون عند غيرها أكثر وقد ضعف غيرهم هذا
التأويل وشنعه عليهم بما معناه: إن عائشة لم
تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا
عن تحقيق لعظم أمر القطع.
والمجن بكسر الميم وفتح الجيم: الترس مفعل من
معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وما
يقارب ذلك ومنه الجن وكسرت ميمه لأنه آلة في
الاجتنان كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره قال
الشاعر:
فكان مجني دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص:
كاعبان ومعصر
والقيمة والثمن: مختلفان في الحقيقة وتعتبر
القيمة وما ورد في بعض الروايات من ذكر الثمن
فلعله لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في
ظن الراوي أو باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت
القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر
إلا القيمة.
2 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقطع اليد في
ربع دينار فصاعدا" 1.
هذا الحدي اعتماد الشافعي رحمه الله في مقدار
النصاب وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله
عليه وسلم فعلا وقولا وهذه الرواية قول وهو
أقوى في الاستدلال من الفعل لأنه لا يلزم من
القطع في مقدار معين - اتفق أن السارق الذي
قطع سرقه أن لا يقطع من سرق ما دونه وأما
القول الذي يدل على اعتبار مقدار معين في
القطع: فإنه يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه
في إباحة القطع فإنه لو اعتبر في ذلك لم يجز
القطع فيما دونه وأيضا: فرواية الفعل يدخل
فيها ما ذكرناه من التأويل المستضعف في أن
التقويم أمر ظني إلى آخره.
واعلم أن هذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب
أبي حنيفة فإنه يقتضي صريحه: القطع في هذا
المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به وأما
دلالته على الظاهر: فليس من حيث النطق بل من
حيث المفهوم وهو داخل في مفهوم العدد ومرتبته
أقوى من مرتبة مفهوم اللقب.
3 - عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن
المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن
يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال: "أتشفع في
حد من حدود الله؟" ثم قام فاختطب.
ـــــــ
1 البخاري "6791" ومسلم "1684".
(1/447)
فقال: "إنما
أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا
عليه الحد وأيم الله: لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطعت يدها" 1.
وفي لفظ: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"2.
قد أطلق في هذا الحديث على هذه المرأة لفظة
السرقة ولا إشكال فيه وإنما الإشكال في
الرواية الثانية وهو إطلاق جحد العارية على
المرأة وليس في لفظ هذا الحديث ما يدل على أن
المعبر عنه امرأة واحدة ولكن في عبارة المصنف
ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا رواية
وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي: أنهما حديث
واحد.
اختلف فيه: هل كانت هذه المرأة المذكورة سارقة
أو جاحدة؟ وعن أحمد: أنه أوجب القطع في صورة
جحود العارية عملا بتلك الرواية فإذا أخذ
بطريق صناعي - أعني في صنعة الحديث - ضعفت
الدلالة على مسألة الجحود قليلا فإنه يكون
اختلافا في واقعة واحدة فلا يثبت الحكم المرتب
على الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى في
هذا الحديث أنها كانت جاحدة على رواية من روى
أنها كانت سارقة.
وأظهر بعض الشافعية النكير والتعجب ممن أول
حديث عائشة في القطع في ربع دينار - الذي روي
فعلا - بأن اعتمد على رواية من رواه قولا فإنه
كان مخرج الحديث مختلفا فالأمر كما قال فإن
أحد الحديثين حينئذ يدل على القطع فعلا في هذا
المقدار والثاني: يدل عليه قولا ولا يتأتى فيه
تأويل احتمال الغلط في التقويم وإن كان مخرج
الحديث واحدا ففيه من الكلام ما أشرنا إليه
الآن إلا أنه ههنا قوي لأنه لا يجوز للراوي
إذا كان سمعه لرواية الفعل: أن يغيره إلى
رواية القول فيظهر من هذا: أنهما حديثان
مختلفان اللفظ وإن كان مخرجهما واحدا.
وفي الحديث: دليل على امتناع الشفاعة في الحد
بعد بلوغه السلطان وفيه تعظيم أمر المحاباة
للأشراف في حقوق الله تعالى.
ولفظة إنما ههنا دالة على الحصر والظاهر: أنه
ليس للحصر المطلق مع احتمال ذلك فإن بني
إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك
فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب
المحاباة في حدود الله فلا ينحصر ذلك في هذا
الحد المخصوص.
وقد يستدل بقوله عليه السلام: "وأيم الله لو
أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" على أن ما
خرج هذا المخرج من الكلام الذي يقتضي تعليق
القول بتقدير أمر آخر: لا يمنع وقد شدد جماعة
في مثل هذا ومراتبه في القبح مختلفة.
ـــــــ
1 البخاري "3475" ومسلم "1688".
2 مسلم "1688" "10".
(1/448)
2 -
باب حد الخمر.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر
فجلده بجريدة نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر
فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن
عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر"1.
لا خلاف في الحد على شرب الخمر واختلفوا في
مقداره فمذهب الشافعي: أنه أربعون واتفق
أصحابه: أنه لا يزيد على الثمانين وفي الزيادة
على الأربعين إلى الثمانين: خلاف والأظهر:
الجواز ولو رأى الإمام أن يحده بالنعال وأطراف
الثياب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جاز
ومنهم من منع ذلك تعليلا بعسر الضبط وظاهر
قوله: "فجلده بجريدة نحو أربعين" أن هذا العدد
هو القدر الذي ضرب به وقد وقع في رواية الزهري
عن عبد الرحمن بن أزهر: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "اضربوه" فضربوه بالأيدي
والنعال وأطراف الثياب2 وفي الحديث: "قال:
فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك الضرب؟ فقومه
أربعين فضرب أبو بكر في الخمر أربعين" ففسره
بعض الناس وقال: أي قدر الضرب الذي ضربه
بالأيدي والنعال وأطراف الثياب: فكان مقدار
أربعين ضربة لا أنها عددا أربعون بالثياب
والنعال والأيدي إنما قايس مقدار ما ضربه ذلك
الشارب فكان: مقدار أربعين عصا فلذلك قال
فقومه أي جعل قيمته أربعين وهذا عندي خلاف
الظاهر ويبعده: قوله إن النبي صلى الله عليه
وسلم جلد في الخمر أربعين فإنه لا ينطلق إلا
على عدد كثير من الضرب بالأيدي والنعال وتسليط
التأويل على لفظة قومه أنها بمعنى قدر ما وقع
فكان أربعين: أقرب من تسليط هذا صدق قولنا جلد
أربعين حقيقة.
وقوله فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون
ويروى بالنصب أخف الحدود ثمانين أي اجعله وما
يقارب ذلك.
وفيه دليل على المشاورة في الأحكام والقول
فيها بالاجتهاد وقيل: إن الذي أشار بالثمانين:
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه3 وقد يستدل
به من يرى الحكم بالقياس أو الاستحسان.
وقوله فلما كان عمر يجوز أن يكون على حذف مضاف
أي فلما كان زمن ولاية عمر وما يقارب ذلك
ومذهب مالك: أن حد الخمر: ثمانون على ما وقع
في زمن عمر.
ـــــــ
1 البخاري "6773" ومسلم "1706" واللفظ له.
2 أبو داود "4489" من حديث عبد الرحمن بن
أزهر.
3 أخرجه مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن
الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له
علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا
شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما
قال فجلد عمر في الخمر ثمانين الموطأ "2/528".
(1/449)
2 - عن أبي
بردة - هانئ بن نيار - البلوي رضي الله عنه:
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا حد من حدود الله"
1.
فيه مسألتان:
إحداهما: إثبات التعزير في المعاصي التي لا حد
فيها لما يقتضيه من جواز العشرة فما دونها.
المسألة الثانية: اختلفوا في مقدار التعزير
والمنقول عن مالك: أنه لا يتقدر بهذا القدر
ويجيز في العقوبات فوق هذا وفوق الحدود على
قدر الجريمة وصاحبها وأن ذلك موكول إلى اجتهاد
الإمام وظاهر مذهب الشافعي: أنه لا يبلغ
بالتعزير إلى الحدود وعلى هذا: ففي المعتبر
وجهان:
أحدهما: أدنى الحدود في حق المعزر فلا يزاد في
تعزير الحر على تسع وثلاثين ضربة ليكون دون حد
الشرب ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطا.
والثاني: أنه يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق
فلا يزاد في تعزير الحر أيضا على تسعة عشر
سوطا أيضا.
وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار بحد الأحرار فيجوز
أن يزاد تعزير العبد على عشرين.
وذهب غير واحد إلى ظاهر الحديث وهو أنه لا
يزاد في التعزير على عشرة وإليه ذهب الشافعية
صاحب التقريب وذكر بعض المصنفين منهم: أن
الأظهر: أنه لا يجوز الزيادة على العشر.
واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر
عنه فقال بعض مصنفي الشافعية: إنه منسوخ بعمل
الصحابة بخلافه وهذا ضعيف جدا لأنه يتعذر عليه
إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل
بعضهم أو فتواه لا يدل على النسخ والمنقول في
ذلك: فعل عمر رضي الله عنه أنه ضرب صبيغا أكثر
من الحد أو مائة وصبيغ هذا - بفتح الصاد
المهملة وكسر ثاني الحروف وأخره غين معجمة -
وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على
أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم
لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهذا في
غاية الضعف أيضا لأنه ترك للعموم بغير دليل
شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا
تستقل بإثبات التخصيص.
قال هذا المالكي: وتأولوه أيضا على أن المراد
بقوله: "في حد من حدود الله" أي حق من حقوقه
وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها لأن
المحرمات كلها من حدود الله.
ـــــــ
1 البخاري "6848" ومسلم "1708".
(1/450)
وبلغني عن بعض
أهل العصر: أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد
بهذه المقدمات أمر اصطلاحي فقهي وأن عرف الشرع
في أول الإسلام: لم يكن كذلك أو يحتمل أن لا
يكون كذلك - هذا وكما قال - فلا يخرج عنه إلا
التأديبات التي ليست عن محرم شرعي.
وهذا - أولا - خروج في لفظة الحد عن العرف
فيها وما ذكره هذا العصري: يوجب النقل والأصل
عدمه.
وثانيا: أنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل
حق من حقوق الله: أن يزاد لم يبق لنا شيء يختص
المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط إذ ما عدا
المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة: ليس
إلا ما ليس بمحرم واصل التعزير فيه ممنوع فلا
يبقى لخصوص منع الزيادة منى وهذا أوردناه على
ما قاله المالكي في إطلاقه لحقوق الله وقد
يتعذر عنه بما أشرنا إليه من أنه لا يخرج عنه
إلا التأديبات على ما ليس بمحرم ومع هذا
فيحتاج إلى إخراجها عن كونها من حقوق الله.
وثالثا: - على أصل الكلام وما قاله العصري
فيما نقل عنه - ما تقدم في الحديث قبله من
حديث عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فإنه يقطع
دابر هذا الوهم ويدل على أن مصطلحهم في
الحدود: إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها
الفقهاء اسم الحد فإن ما عدا ذلك لا ينتهي إلى
مقدار أربعين فهو ثمانون وإنما المنتهي إليه:
هي الحدود المقدرات.
وقد ذهب أشهب من المالكية إلى ظاهر هذا الحديث
كما ذهب إليه صاحب التقريب من الشافعية
والحديث متعرض للمنع من الزيادة على العشرة
ويبقى ما دونها لا نعرض للمنع فيه.
وليس التخيير فيه ولا في شيء مما يفوض إلى
الولاة: تخيير تشه بل لا بد عليهم من
الاجتهاد.
وعن بعض المالكية: أن مؤدب الصبيان لا يزيد
على ثلاثة فإن زاد اقتص منه وهذا تحديد يبعد
إقامة الدليل المتين عليه ولعله يأخذه من
الثلاث: اعتبرت في مواضع وهو أول حد الكثرة
وفي ذلك ضعف.
والذي ذكره المصنف - من أن أبا بردة: هو هانئ
بن نيار - مختلف فيه فقد قيل: إنه رجل من
الأنصار.
(1/451)
|