تيسير العلام شرح عمدة الأحكام

كِتَابِ الحَجّ
الحج: لغة، القصد: وشرعاً: القصد إلى البيت الحرام، لأعمال مخصوصة، في زمن مخصوص.
وابتدأ المصنف بـ "الصلاة" لأنها أهم أركان الدين بعد الشهادتين.
وثَنَّى بـ "الزكاة" لأنها قرينتها في آيات القرآن الكريم.
وثلَّث بـ "الصيام"، لكونه يجب كل سنة، ويطيقه ويقوم به الجمهور من المسلمين.
وأخَّر "الحج"، لأنه لا يجب إلا مرة في العمر، ولا يجب إلا على القادرين، وهم أقل من العاجزين.
وقد ثبت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، فوجوبه معلوم من الدين بالضرورة.
وفرض سنة تسع من الهجرة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، سنة عشر، بعد أن طهَّر البيت من آثار الشرك.
أما فضله فقد وردت فيه النصوص الكثيرة الصحيحة ومنها "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (1) .
أما حِكَمُهُ وأسراره، فأكثر من أن تحصى، ولا يوفيها -بياناً- إلا التصانيف المستقلة في الأسفار المطولة.
وَلْنُلِمَّ بنُبْذَةٍ منها ليقف القارئ على قُلٍّ من كُثْرٍ من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة، فيرى أن له ديناً يهدف – بعباداته - إلى صلاح الدين والدنيا.
فهذا المؤتمر الإسلامي العظيم، وهذا الاجتماع الحاشد، فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية، ما يفوت الحصر والعدِّ.
أما الدينية، فما يقوم به الحاج من هذه العبادة الجليلة، التي تشتمل على أنواع من التذلل والخضوع، بين يدي الله تعالى.
فمنها تقحُّم الأسفار وإنفاق الأموال، والخروج من ملاذ الحياة، بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء، حاسر الرأس، وترك الطيب والنساء، وترك الترفُّه بأخذ الشعور والأظفار ثم التنقل
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.

(1/356)


بين هذه المشاعر.
كل هذا بقلوب خاشعة، وأعين دامعة، وألسنة مكبرة ملبية.
قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم، ناسين- في سبيل ذلك ـ الأهل والأوطان والأموال، والنفس والنفيس، فما ترى ثوابهم عند ربهم؟
أما الثقافية، فقد أمر الله بالسير في الأرض، للاستبصار والاعتبار.
ففيه من معرفة أحوال الناس، والاتصال بهم، والتعرف على شئون الوفود، التي تمثل أصقاع العالم كله، ما يزيد الإنسان بصيرة وعلماً، إذا تحاكَّ بعلمائهم، واتصل بنبهائهم، فيجد لكل علمٍ وفنٍ طائفة تمثله.
أما الاجتماعية والسياسية، فإن الحج مؤتمر عظيم، يضم وفوداً متنوعة العلوم، مختلفة الثقافات، متباينة الاتجاهات والنزعات، فإذا اجتمع كل حزب بحزبه، وكل طائفة بشبيهتها، ومثلوا "لجان الحكومة الواحدة" ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل، ورأوا ما الذي أخرهم، وما الذي يقدمهم، وما هي أسباب الفرقة بينهم، وما أسباب الائتلاف والاجتماع، وتوحيد الكلمة.
وبحثوا شئونهم الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، على أساس المحبة والوئام، وبروح الوحدة والالتئام.
أصبحوا يداً واحدة ضد عدوهم، وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم.
وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص، له مميزاته وأهدافه ومقاصده.
يسمع صوته ويصغى إلى كلمته، ويحسب له ألف حساب.
وبهذا يعود للمسلمين عزَّهم، ويرجع إليهم سؤددهم، ويبنون دولة إسلامية، دستورها كتاب الله وسنة رسوله، وشعارها العدل والمساواة، وهدفها الصالح العام، وغايتها الأمن والسلام.
حينئذٍ تتجه إليهم أنظار الدنيا، وتسلم الزمام إليهم، فيمسكونه بأيديهم، ويُقَوِّضُونَ مجالس بُنِيتْ على الظلم والبَغْي، ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان.
وبهذا يقر السلام، ويستتب الأمن، وتتجه المصانع التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب، إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع، وإخراج خيرات الأرض، فتحقق حكمة الله بخلقه، ويحل الخصب والرخاء، والأمن والسلام مكان الجدب والغلاء، والخوف والدماء.
ولكن لابد لكمال تحقق أعمال هذا "المؤتمر" من لغة موحدة، يتفاهمون بها.
وأولى اللغات بذلك "لغة القرآن".

(1/357)


كما أنه لابد من التنظيم، والتنسيق، والرعايا من الحاكمين.
وإذا علمت ثمرات هذه الاجتماعات الإسلامية، فهمت جيداً - أيها المسلم المؤمن - أن لك ديناً عظيماً، جليل القدر، يقصد منه - بعد عبادة الله - صلاح الكون واتساقه، لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة.
ولذا فإنه عُنِيَ بالاجتماعات عناية عظيمة، تحقيقاً للمقاصد الكريمة.
ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات.
وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع.
وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام.
وهذا موضوع خطير طويل، نكتفي منه بهذه الإشارة.
نسأل اللَه تعالى أن يُعْلِيَ كلمته، ويظهر دينه، وينصر أولياءه، ويذل
أعداءه. إنه قوي عزيز.

باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات. وهي زمانية ومكانية.
فالزمانية، أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والمكانية: ما ذكرت في هذين الحديثين.
وجعلت هذه المواقيت تعظيماً للبيت الحرام، وتكريماً، ليأتي إليه الحجاج والزوار من هذه الحدود، معظمين خاضعين خاشعين.
ولذا حرم ما حوله من الصيد، وقطع الشجر، لأن في ذلك استخفافاً بحرمته، وحطاً من كرامته.
والله سبحانه وتعالى، جعله مثابة للناس وأمناً، ورزق أهله من الثمرات، لعلهم يشكرون.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْن عَبَّاس رَضي الله عَنْهُمَا:
أنَ رَسُولَ الله وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينةِ "ذا الْحُلَيْفَةِ"، ولأهلِ الشام "الجُحْفَة" ولأهلِ
نَجْدٍ "قَرْنَ الْمَنَازِلِ"، ولأهل الْيَمَن "يَلَمْلَمَ" وقال: " هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَي عَلَيْهِنَ مِنْ
غَيْرِ أهْلِهِنَّ لِمَن أرَادَ الحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ وَمَنْ كَان دُوْنَ ذلِكَ فمِنْ حَيْثُ أنْشَأ، حَتَى أهْلُ مَكَّةَ
مِنْ مَكَّةَ".

(1/358)


الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"يُهِلُّ أهْلُ المدِيِنَةِ مِنْ "ذِي الْحُلَيْفَة" وأهْلُ الشام مِنَ"الجُحْفَةِ" وأهْلُ نجدٍ مِنْ
"قَرْن الْمَنَازِلِ".
قال عبد الله: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أهْلُ الْيَمَنِ
مِنْ يَلَمْلَم".
المواقيت المكانية:
ذو الحليفة: بضم الحاء وفتح اللام تصغير الحلفاء نبت معروف ينبت بتلك المنطقة. وتسمى الآن – آبار علي – ويكاد عمران المدينة المنورة – الآن - يصل إليها وتبلغ المسافة من ضفة وادي الحليفة إلى المسجد النبوي ثلاثة عشر كيلاً. ومن تلك الضفة إلى مكة المكرمة عن طريق- وادي الجموم – أربعمائة وثمانية وعشرين كيلاً والحليفة ميقات أهل المدينة ومن أتى عن طريقهم.
الجحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء بعدها هاء قرية بينها وبين البحر الأحمر عشرة أكيال. وهي الآن خراب ويحرم الناس من:
رابغ: مدينة كبيرة فيها الدوائر والمرافق والمدارس الحكومية وتبعد عن مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم- مائة وستة ثمانين كيلاً. ويحرم من رابغ أهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان وحكومات المغرب الأربع وبلدان أفريقيا وبعض المنطقة الشمالية في المملكة العربية السعودية.
يلملم: بفتح الياء المثناة التحتية فلام فميم فلام أخرى بعدها ميم أخرى ويقال ألملم - وسكان تلك المنطقة الآن يقولون لملم ولما سفلتت حكومتنا الطريق الآتي من ساحل المملكة العربية الجنوبي إلى مكة المكرمة والمار بوادي يلملم من غير مكان الإحرام القديم المسمى – السعدية - كنت أحد أعضاء لجنة شكلت لمعرفة مكان الإحرام مع الطريق الجديد فذهبنا إليه ومعنا أهل الخبرة والعارفون بالمسيات واجتمعنا بأعيان وكبار السن من سكان تلك المنطقة وسألناهم عن مسمى يلملم هل هو جبل أم واد فقالوا إن يلملم هو هذا الوادي الذي أمامكم وإننا لا نعرف جبلاً يسمى بهذا الاسم وإنما الاسم خاص بهذا الوادي، وسيوله تنزل من جبال السداة ثم تمده الأودية في جانبيه وهو يعظم حتى صار هذا الوادي الفحل الذي تشاهدونه وإن مجراه ممتد من الشرق إلى الغرب حتى يصب في البحر الأحمر عند مكان في الساحل يسمى- المجيرمة.

(1/359)


وإنه من سفوح جبال السداة حتى مصبه في البحر الأحمر يقدر بنحو مائة وخمسين كيلاً ونحن الاَن في السعدية في نحو نصف مجراه وبعد التجول في المنطقة والمشاهدة وتطبيق كلام العلماء وسؤال أهل الخبرة والسكان تقرر لدينا أن مسمى يلملم الوارد في الحديث الشريف ميقاتاً لأهل اليمن ومن أتى عن طريقهم هو كل هذا الوادي المعترض لجميع طرق اليمن الساحلي وساحل المملكة العربية السعودية وأن الاسم عليه من فروعه في سفوح جبال السداة إلى مصبه في البحر الأحمر وأنه لا يحل لمن أراد نسكاً ومرَّ به أن يتجاوزه بلا إحرام من أي جهة من جهاته وطريق من طرقه.
وقد كان الطريق يمر بالسعدية وهي قرية فيها بئر السعدية وفيها إمارة ومدرسة ومسجد قديم جدد الآن ينسب إلى معاذ بن جبل. والسعدية تبعد عن مكة المكرمة اثنين وتسعين كيلاً. أما الطريق الذي سفلتته حكومتنا فهو يقع عن السعدية غرباً بنحو عشرين كيلاً يمر على وادي يلملم وعند ممره إلى يلملم يكون وادي يلملم عن مكة مائة وعشرين كيلاً.
ونحن بينا للمسئولين جواز الإحرام من الطريق القديم والطريق الجديد وغيرهما مما يمر في هذا وذلك حج عام 1401هـ وأنا الآن اكتب هذه الأسطر في ربيع
ثاني من عام 1402هـ فلا أدري هل يعاد الطريق من السعدية حيث الممر الأول أو يبقى هذا الطريق الجديد ويعد على ضفة الوادي أمكنة للإحرام، ودورات مياه للمحرمين.
ويحرم من يلملم اليمن الساحلي وسواحل المملكة السعودية وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وغيرهم من حجاج جنوب آسيا والآَن أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات أو البواخر التي لا ترسو إلا على مواني جدة.
قرن المنازل: بفتح القاف وسكون الراء وقد يقال قرن الثعالب لوجود أربع روابي صغار تسكنها الثعالب وقد أزيلت إحدى تلك الروابي لتوسعة طريق مكة – الطائف، وبقي الآن منها ثلاث أما الثعالب فمع توسع العمران هربت عن المنطقة. والقرن هو الجبل الصغير.
وهذا الميقات اشتهر اسمه الآن بالسيل الكبير ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة ثمانية وسبعون كيلاً ومن المقاهي والأمكنة التي اعتاد الناس أن يحرموا منها خمسة وسبعون كيلاً - والسيل الكبير الآن قرية كبيرة فيها محكمة وإمارة وجميع الدوائر والمرافق والخدمات والمدارس المنوعة.
ويحرم من قرن المنازل- أهل نجد وحاج الشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم.
وادي محرم: هذا هو أعلى "قرن المنازل" وهو قرية عامرة فيها مدرسة وكان لا يحرم منه

(1/360)


إلا قلة حتى فتحت حكومتنا طريق الطائف - مكة المار بالهدا وجبل الكرى فصار محرماً هاماً مزدحماً فبنت فيه الحكومة مسجداً كبيراً جداً له طرقه المسفلتة الداخلة والخارجة ومواقف السيارات ومكان الراحة وأمكنة الاغتسال ودورات المياه بأحدث تصميم وبناء لهذا المحرم الهام.
وهو لا يعتبر ميقاتاً مستقلاً من حيث الاسم لأنه فرع قرن المنازل ويبعد عن مكة بخمسة وسبعين كيلاً. ولولا كثرة تعرجات جبل كرا لكان عن مكة نحو ستين كيلاً فقط.
ويحرم منه من يحرم من الميقات الذي في أسفله ويزيد بحجاج الطائف وحجاج جنوب المملكة الحجازي وحجاج اليمن الحجازي.
تكميل:
ذات عرق: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي بذلك لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير.
ويسمى الآن- الضريبة - قال ياقوت: الضريبة وادي حجازي يدفع سيله في - ذات عرق- والضريبة بفتح الضاد المعجمة بعدها راء مكسورة ثم ياء مثناة تحتية ثم باء موحدة تحتية ثم هاء واحدة الضراب وهى الجبال الصغار وهذا الميقات لم يرد في حديث الصحيحين ولكن ورد في بعض السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. وقد ضعف بعض أهل العلم هذا الحديث.
قال في فتح الباري. والذي في البخاري عن ابن عمر قال لما فتحت الكوفة والبصرة أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله حدَّ لأهل نجد قرناً وهو جور عن طريقنا قال: فانظروا حذوها في طريقكم فحدَّ لهم - ذات عرق - قال الشافعي: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق وإنما أجمع عليه الناس وهذا يدل على أن ذات عرق ليس منصوصاً عليه وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم وكذا وقع في المدونة لمالك.
وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنه منصوص وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه. وقد وقع في حديث عائشة
وحديث الحارس السهمي كلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي وهذا يدل على أن للحديث أصلاً فلعل من قال إنه غير منصوص عليه لم يبلغه أو رأى ضعف
الحديث اهـ ملخصاً من فتح الباري. قلت: وعلى كل فقد صح توقيته عن عمر رضي الله عنه فإن كان منصوصاً عليه وجهله فهو من موافقاته المعروفة وإن لم يكن نُصَّ عليه فقد قال

(1/361)


صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". وقد أجمع المسلمون على أنه أحد مواقيت الحج ولله الحمد.
وقد قمت بشهر محرم في عام 1402 هـ من مكة المكرمة إلى هذا الميقات ومعي الشريف: محمد بن فوزان الحارثي وهو من العارفين بتلك المنطقة ومن المطلعين على التاريخ وقصدي بحث طريق الحج من الضريبة إلى مكة على الإبل فوجدت الميقات المذكور شعباً بين هضاب طوله من الشرق إلى الغرب ثلاثة أكيال وعرضه من الجنوب إلى الشمال نصف كيلاً ويحده من جانبيه الشمالي والجنوبي هضابه ويحده من الشرق – ريع انخل- ويحده من الغرب وادي الضريبة الذي يصب في وادي مرّ ويعتبر هذا الميقات من الحجاز فلا هو من نجد ولا من تهامة ولكنه حجاز منخفض يكاد يكون حرة فليس فيه جبال عالية. ويقع عنه شرقاً بنحو عشرة أكيال وادي العقيق ثم يلي العقيق شرقاً ـ صحراء ركبة - الواسعة حيث تبتدئ بلاد نجد. ويحرم من العقيق- الشيعة - مخالفة لعمر رضي الله عنه الذي جعل ذات عرق ميقاتاً.
والمسافة من ميقات ذات عرق حتى مكة مائة كيلاً. وأشهر الأمكنة التي يمر بها الطريق- مكة الرقة - وفيها آثار وبِرْكَة عظيمة قديمة من آثار بني العباس ثمَّ وادي نخلة الشامية - ثم المضيق - ثم البرود ثم شرائع المجاهدية ثم العدل وهذا الميقات مهجور الآن فلا يحرم منه أحد لأن الطرق المسفلتة في نجد وفي الشرق لا تمر عليه وإنما تمر على الطائف والسيل الكبير ـ قرن المنازل.
ملاحظة: جميع مواقيت الإحرام أودية عظام ولذا فإن الاحتياط أن يحرم الحاج أو المعتمر من الضفة التي لا تلي مكة من الوادي لئلا يعتبر متجاوزاً للميقات.
فائدة:
جاء في قرار مجلس كبار العلماء رقم 5730 تاريخ 21/10/1399 هـ وهو ما خلاصته: بعث الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر إلى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رسالة تتضمن جواز جعل جدة ميقاتاً لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية. وقد أحيلت إلى المجلس فاستعرض تلك الفتوى وأصدر ما يلي: أن المجلس بعد دراسة الأمور التي وردت في الرسالة يرى أن المسوغات التي استند إليها مردودة بالنصوص الشرعية وإجماع سلف الأمة وأنه بعد الرجوع إلى الأدلة وما ذكر أهل العلم عن المواقيت المكانية ومناقشة الموضوع من جميع جوانبه فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
أولاً: أن الفتوى الصادرة من فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم

(1/362)


الشرعية والشئون الدينية بقطر الخاصة بجواز جعل جدة ميقاتاً لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية فتوى باطلة لعدم استنادها إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله وإجماع سلف الأمة ولم يسبقه إليها أحد من علماء المسلمين الذين يعتد بأقوالهم.
ثانياً: لا يجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية أو حاذى واحداً منها جواً أو بحراً أن يتجاوزه من غير إحرام كما تشهد لذلك الأدلة وكما قرره أهل العلم رحمهم الله تعالى هذا وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد. اهـ الخلاصة من القرار وبهذا انتهى بحثي عن المواقيت المكانية وهو بحث قل أن تجده في غير هذا الكتاب لأنه كتب عن مشاهدة وتطبيق وتحديد على الطبيعة ونسأل الله تعالى التوفيق والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المعنى الإجمالي:
لهذا البيت الحرام، التكريم، والتعظيم، والتقديس، والإجلال.
ومن ذلك أن جُعِل له حدود، لا يتجاوزها قاصده، بحج، أو عمرة إلا وقد أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع، وتقديس وإجلال، عبادة لله واحتراماً لهذا البيت المطهر.
ومن رحمة الله بخلقه، أنه لم يجعل لهم ميقاتاً واحداً في إحدى جهاته، بل جعل لكل جهة محرماً وميقاتاً، لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتاً ليس في طريقهم، حتى جعل ميقات مَنْ داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة، فلا يلزمهم الخروج إلى الحل كفعلهم بالعمرة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جعل هذه الأمكنة المذكورة مواقيت، لا يحل لمن أراد نسكاً تجاوزها بدون إحرام.
2- أن ميقات من دون المواقيت من مكانه الذي هو ساكن فيه.
3- أن ميقات أهل مكة منها، وهذا في الحج.
أما العمرة، فلا بد من الخروج إلى الحل وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة.
وقال المحب الطبري: "لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة".
وقصة عائشة مشهورة ثابتة فلا يقاومها مفهوم الحديث.
4- يدل قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" أن من أراد دخول مكة لغير حج أو عمرة، بل لتجارة أو زيارة قريب ونحوه، أنه لا يجب عليه الإحرام. ثم إن تجدد له عزم على الإحرام أحرم من حيث عزم على أداء النسك ولو داخل المواقيت أو من مكة في الحج.

(1/363)


وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، ويأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى.
رحمة من الله تعالى بخلقه، حيث جعل لكل جهة ميقاتاً يكون في طريق سالكه إلى مكة، سواء أكان من أهل تلك الجهة أم لا.
ولو جعل الميقات في جهة واحدة، لَشقَّ على من لم يأت منه مشقة كبيرة.
6- في تقدير النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت وتحديدها، معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته.
فقد حددها، ووقتها، وأهلها لم يسلموا، إشعاراً منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون، ويحجون، ويحرمون منها، وقد كان، ولله الحمد والمنة.
7- تعظيم هذا البيت وتقديسه، إذ جعل له هذا الحمى، الذي لا يتجاوزه من قصده بنسك، إلا وجاء منه معظماً، مكرماً، خاشعاً، خاضعاً، بهذه الهيئة الخاصة.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية الإحرام لمن أراد دخول الحرم، سواء أكان دخوله لنسك أم غيره.
وأجمعوا على وجوب الإحرام لمن أراد دخوله للنسك.
واختلفوا في وجوبه على من أراد الدخول لغير نسك، كدخوله لتجارة، أو سكن، أو غير ذلك.
فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: إلى وجوب الإحرام على من دخله، سواء أكان لنسك أم غيره، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم في مكة: "إنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ كَحُرمَتِهَا بِالأمْسِ".
واستدلوا بحديث ابن عباس عند البيهقي بلفظ: "لا يَدْخُلُ أحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِماً". قال ابن حجر: إسناده جيد.
وذهب الإمام الشافعي في المشهور عنه: إلى جواز الدخول بلا إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره ابن حزم في "المحلى" وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام "ابن تيمية"، وأبو الوفاء بن عقيل، قال ابن مفلح، في الفروع: وهي ظاهرة.
واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث: "ممن أراد الحج والعمرة".

(1/364)


وأجابوا عن الدليل الأول للموجبين بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام، وإنما هو في تحريم القتال في مكة.
وأجابوا عن حديث ابن عباس، بأنه موقوف من طريق البيهقي ولا يحتج به فيما عداها من الطرق. والموقوف ليس بحجة.
ولم يوجب الله الحج والعمرة إلا مرة واحدة في العمر، والأصل براءة الذمة إلا بدليل موجب.
فائدة:
ما ذكر من الخلاف، في حق غير المتردد إلى الحرم لجلب الحطب أو الفاكهة ونحوهما، أو له بستان في الحل يتردد عليه، أو له وظيفة أو عمل في مكة، وأهله في "جدة" أو بالعكس.
فهؤلاء ونحوهم، لا يجب عليهم الإحرام عند عامة العلماء، فيما اطَّلَعْتُ عليه من كلام فقهاء المذاهب، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من التحريم على كل داخل إلى مكة بغير إحرام. والعمل على خلافه.

بَابُ مَا يَلبسُه المحْرم من الثياب
ذكر المؤلف رحمه اللَه تعالى في هذا الباب أربعة أحاديث.
الأول والثاني: في بيان ما يلبسه المحرم من الثياب، وما يجتنبه.
والثالث: في بيان التلبية، وسأُفْرِدُهُ بباب.
والرابع: في بيان حكم سفر المرأة بلا محرم، وسأفرده بباب أيضاً، ليتبين من تعدد التراجم ما في الأحاديث من الأحكام.
والمؤلف أخذ الترجمة من السؤال، الذي في الحديث.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً قالَ: يَا رَسُولَ الله. مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ
مِنَ الثيابِ؟.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلا العَمَائِمِ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا
الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ إلا أحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْن فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ،
وَلا يَلْبَسْ مِنَ الثيابِ شيئاً مَسَّهُ زَعْفَران أوْ وَرْسٌ".
وللبخاري: " وَلا تَنْتَقِبُ الْمَرأةُ، وَلا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ".

(1/365)


الغريب:
السراويل: يذكر ويؤنث، وهو مفرد على صيغة الجمع، وجمعه السراويلات، وهي لفظة أعجمية عُربَتْ.
البرانس: جمع بُرْنس، ثوب رأسه منه، ملتزق به، لباس للنساك في صدر الإسلام. ويلبسه المغاربة الآن.
الخفاف: بكسر الخاء جمع "خف" بضم الخاء، وهو ما يلبس في الرجل، ويكون إلى نصف الساق.
أما الجوارب، فما غطى الكعبين، وحكمهما واحد، ويأتي إنشاء الله. مسه: أصابه.
ورس: بفتح الواو، وإسكان الراء، نبت أصفر، يصبغ به الثياب، وله. رائحة طيِّبة.
الزعفران: نبات بصلي معمر من الفصيلة السوسنية يصبغ به أيضا.
ولا تنتقب: الانتقاب: هو أن تُخَمِّر المرأة وجهها- أي تغطيه بالخمار- وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما.
القفازين: تثنية قُفَّاز وهو شيء يعمل لليدين، من خرق، أو جلود، أو غيرها. يقيها من البرد وغيره، على هيئة ما يجعله حاملو البزاة والصقور.
الكعبين: العظمان الناتئان عند مفصل الساق.
المعنى الإجمالي:
قد عرف الصحابة رضي الله عنهم أن للإحرام هيئة تخالف هيئة الإحلال. ولذا سأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء المباحة، التي يلبسها المحرم.
ولمّا كان من اللائق أن يكون السؤال عن الأشياء التي يجتنبها، لأنها معدودة قليلة وقد أعْطِي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم أجابه ببيان الأشياء التي يجتنبها المحرم ويبقى ما عداها على أصل الحل، وبهذا يحصل العلم الكثير.
فأخذ صلى الله عليه وسلم يَعُدُّ عليه ما يحرم على الرجل المحرم من اللباس منها بكل نوع منه، على ما شابهه من أفراده، فقال:
لا يلبس القميص، وكل ما فُصِّل وَخِيطَ على قدر البدن، ولا العمائم، والبرانس، وكل ما يغطى به الرأس، ملاصقاً له، ولا

(1/366)


السراويل، وكل ما غطي به ـ ولو عضواً- كالقفازين ونحوهما، مخيطاً أو مُحِيطاً، ولا الخفاف ونحوهما، مما يجعل بالرجلين ساترين للكعبين، من قطن أو صوف، أو جلد أو غير ذلك.
فمن لم يجد وقت إحرامه نعلين، فَلْيَلْبَسْ الخفين ولْيَقْطَعْهُما من أسفل الكعبيِن، ليكونا على هيئة النعلين.
ثم زاد صلى الله عليه وسلم فوائد لم تكن في السؤال، وإنما المقام يقتضيها. فَبيَّن ما يحرم على المحرم مطلقاً من ذكر وأنثى، فقال:
ولا يلبس شيئاً من الثياب، أو غيرها مَخِيطاً أو غير مخيط، إذا كان مطيباً بالزعفران أو الورس، منبهاً بذلك على اجتناب أنواع الطيب.
ثم بيَّن ما يجب على المرأة، من تحريم تغطية وجهها وإدخال كفيها فيما يسترهما، فقال:
"ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين".
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن السؤال ينبغي أن يكون متوجهاً إلى المقصود علمه.
2- أنه ينبغي للمسئول إذا رأى السؤال غير ملائم أن يعدله ويقيمه إلى المعنى المطلوب، ويضرب صفحاً عن السؤال، كقوله تعالى:} يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قل هِيَ مَوَاقِيْتَ لِلنَّاسِ والْحَجِّ. {
3- أن الأشياء التي يجتنبها المحرم من الملابس، قليلة معدودة.
وأما الأشياء المباحة فهي الكثيرة، التي تعرف بالجد لأنها على أصل الإباحة.
ولهذا المعنى صرف النبي صلى الله عليه وسلم، سؤال السائل عن ما يلبسه المحرم، إلى بيان ما لا يلبسه.
4- تحريم هذه الأشياء الملبوسة خاصة بالرجل.
وأمَّا المرأة، فيباح لها لبس المخيط وتغطية الرأس.
5- منها القميص: وَنَبَّه به على ما في معناه، من كل ما لبس على قدر البدن، مخيطاً أو محِيطاً.
6- ومنها "البرانس" و"العمائم" ونبه بهما على كل ما يُغَطَّى به الرأس أو بعضه، من مَخِيطٍ أو مُحِيطٍ، من معتاد ونادر. فيدخل القلانس، والطواقي ونحوهما.
7- ومنها "الْخُفَّان" وما في معناهما من كل ساتر للكعبين، من مخيط أو محيط، سواء كان من جلد، أو صوف، أو قطن، أو غيرها.
8- إذا لم يجد نعلين ونحوهما مما لا يستر الكعبين، فَليَتَرَخَّصْ بلبس الخفين ولكن لِيَقْطَعْهُمَا من أسفل الكعبين، ليكونا في معنى النعلين.

(1/367)


ويأتي في الحديث الذي بعد هذا، اختلاف العلماء في ذلك، وبيان الراجح منه، إن شاء الله. قال المجد بن تيمية واتفقوا على أن التحريم هنا على الرجل.
9- تحريم "الورس"، و"الزعفران" وما في معناهما من أنواع الطيب، لكل محرم من ذكر وأنثى.
10- تحريم تغطية المرأة وجهها، لأن إحرامها فيه. وتحريم لبس القفازين، على الذكر والأنثى.
11- هذه الفائدة والتي قبلها، لم تكن في سؤال السائل.
ولكن لما ظن النبي صلى الله عليه وسلم جهل السائل بها، بقرينة السؤال، زاده النبي صلى الله عليه وسلم لبيان العلم وقتَ الحاجة إليه، وعند مناسبته.
12- لهذا اللباس الخاص بالمحرم، حِكَمٌ وأسرار كثيرة.
منها: - أن يكون في حال خشوع وخضوع، بعيداً عن الترفُّه وزينة الدنيا، وليتذكر بهذا اللباس حال الموت، فيكون أقرب إلى المراقبة. قال ابن دقيق العيد: فيه تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها، وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشروطها وآدابها.
13- قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالسراويل والقميص على المخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى به الرأس، مخيطاً كان أو غيره، وبالخفاف على ما يستر الرجلين.
14- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس للمحرم أن يلبس شيئا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحاجة، والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه إذا لم يغط رأسه، فيلبس قدر الحاجة، فإذا استغنى عنه نزعه، وعليه أن يفدي إما بصيام ثلاثة أيام أو نسك شاة أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مدِّ برٍّ. ويجوز أن يفدي قبل فعل المحظور وبعده.
فائدة:
المراد بالنهي عن لبس المخيط والمحيط، هو اللبس المعتاد. أما ارتداؤه ونحوه، فلا بأس.

(1/368)


الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس رضيَ الله عَنْهُما قال:
سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَس خُفَّيْن.
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارَاً فَلْيَلْبَسْ سَراوِيلَ (للمحرم) .
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الحجيج بعرفات في حجة الوداع، ويبين أحكام المناسك.
وكان المسلمون في ذلك الوقت، في ضيق من الدنيا.
فَبَيَّن لهم أن من لا يجد نعلين يلبسهما في إحرامه، فليلبس بدلهما خفين ولو سترا الكعبين.
ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ولا يشقه، تخفيفاً من الشارع، ورخصةً من الله تعالى، الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الخطبةْ في عرفة لبيان أحكام الحج وآداب المناسك.
2- أنه ينبغي تذكير الناس في كل وقت بما يناسبهم.
3- أن من لم يجد نعلين، فليلبس الخفين.
ظاهره، بلا قطع لهما، ويأتي الخلاف فيه.
4- أن من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل.
ولا فدية مع لبس الخفين والسراويل في هذه الحال.
5- سماحة هذه الشريعة ويسرها، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
اختلاف العلماء، والتوفيق بين الحديثين:
اختلف العلماء. في حكم المحرم، الذي لا يجد نعلين ووجد خُفَّيْنِ.
فهل يجب عليه قطعهما من أسفل الكعبين؟ وإن لم يفعل أثم وفدى، أو أنه يباح له لبسهما بلا قطع وليس عليه فدية؟
فذهب الجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافي، والثوري وإسحاق: إلى الأول. مستدلين بحديث ابن عمر السابق. " فإن لم يجد نعلين فليقطعهما من أسفل الكعبين" لأنه أمر يقتضي الوجوب، فيحمل عليه حديث ابن عباس، على قاعدة "حمل المطلق على المقيد".
وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى الثاني، ويروى أيضاً عن عليٍّ، وقال به عطاء وعكرمة. مستدلين بحديث ابن عباس الذي معنا.

(1/369)


وأجابوا عن حديث ابن عمر بأجوبة، أحسنها أنه منسوخ بحديث ابن عباس، الذي خطب به في عرفات بينما حديث ابن عمر قاله في المدينة قبل حجة الوداع.
وأيدوا قولهم في النسخ بما يأتي:
1- أنه أطلق لبس الخفين بلا قطع بـ"عرفات"، على مشهد من أمم لم تحضر كلامه في المدينة، فليس عندهم علم من الحديث الأول ليحملوا هذا عليه، فما كان ليسكت عما يجهلون.
2- أن حديث ابن عباس في عرفات وهو وقت الحاجة، وتأخير البيان عنها ممتنع.
3- لم يذكر في حديث ابن عمر السراويل، وذكره في حديث ابن عباس ولم يأمر بفتقه مع أنه لا يوجد شيء يحمل عليه، مما دل على أنه أراد من الخفين والسراويل، مطلق اللبس بلا قطع ولا فتق.
4- أن القطع نسخ تخفيفاً وإصلاحاً عن الإفساد بإتلاف المال.
ونظائر هذه التخفيفات كثيرة في الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أولاً أمرهم بقطعهما ثم رخص لهم في لبسهما مطلقاً من غير قطع، وهذا هو الذي يجب حمل الحديث عليه. اهـ.

بَابُ التلبيَة
الحديث الأول
َعنْ عَبْدِ الله بْن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ تَلْبيَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم "لَبَّيْكَ
الّلهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لبًّيْكَ. إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ. لا شَرِيكَ لكَ".
قال: وَكَانَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ (1) فيها: لَبَّيْكَ. لّبَّيْكَ وَسَعْدَيكَ وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ
وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ.
الغريب:
لبيك: مصدر محذوف العامل، جاء على صيغة التثنية، ولم يقصد به التثنية وإنما قصد به التكثير.
_________
(1) زيادة (ابن عمر) ليست في البخاري، بل أخرجها مسلم خاصة كما نبه عليه ابن عبد الحق.

(1/370)


واختلفوا في معناه، لاختلافهم في مأخذه.
فهل هي الإجابة بعد الإجابة، أو الانقياد، أو الإقامة في المكان وملازمته أو الحب بعد الحب ... الخ. ولا منافاة بينها بل هي متلازمة لأنها تفيد معنى الإقبال على الشيء والتوجه إليه، فمعنى ألبّ بالمكان: أقام فيه ولزمه.
إن الحمد: بكسر الهمزة وفتحها، والكسر أجود وأشمل معنى، لأن الفتح معناه تعليل الإجابة بسبب الحمد والنعمة فقط، والكسر للاستئناف، فيفيد الإجابة المطلقة عن الأسباب. قال ثعلب: من كسر (الهمزة) كان معناه: الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال لبيك لهذا السبب.
سعديك، القول في تصريف لفظه، مثل القول في "لبيك" ومعناه مساعدة في طاعتك بعد مساعدة.
الرغباء: تقال بالمد والقصر، فإن مدت فُتِحَتِ الراء وإن قصرت ضُمَّتْ. وهما من الرغبة كالنعمى والنعماء من النعمة. وقيل: الرغباء: الضراعة والمسألة.
المعنى الإجمالي:
التلبية: شعار الحج وعنوان الطاعة والمحبة، والإقامة والاستجابة الدائمة إلى داعي الله تعالى.
وهي تحتوي على أفضل الذكر من التزام عبادة الله وإجابة دعوته، ومطاوعته في كل الأحوال مقترناً ذلك بمحبته، والخضوع والتذلُّل ببن يديه، ومن إفراده بالوحدانية المطلقة: عن كل شريك في إلهيته وربوبيته وسلطانه، كما تحتوي على إثبات كل المحامد له.
وبإثباتها تنتفي عنه النقائص مع إسناد النعم كلها إليه، دقيقها وجليلها، ظاهرها وباطنها، كما تحتوي على إثبات الملك المطلق.
فهو المتصرف القاهر الذي بقبضته كل شيء، ولا ينازعه أحد في ملكه، بل الجميع خاضع له، ذليل بين يديه.
وإثبات هذه الصفات العُلي، التي فيها الثناء على الله، وإثبات المحامد والوحدانية والتصرف، تفيد وصفه - جل وعلا - بها مفردة، كما أن اجتماعها يفيد معنى زائداً يليق بجلاله الذي هو أهله، وذلك كمال ناشئ عن اقتران صفة بصفة.
فكونه مالكاً، كمال، وكونه الحمد له، كمال. واجتماعهما، كمال زائد على الكمالين. فله الصفات العلي والمحامد الكاملة.
وإثبات هذه الصفات، يوجب للعبد إفراده بالعبادة والمحبة، والتوجه والإقبال، والخوف والرجاء، وغير ذلك من متعلقات العبد بربه ومولاه.

(1/371)


ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية التلبية في الحج والعمرة، وتأكدها فيه لأنها شعاره الخاص ويأتي الخلاف: هل هي واجبة أو مستحبة؟ إن شاء الله.
2- الأفضل أن تكون بهذه الصيغة فقط للاتِّباع، ولما تحتويه هذه الجمل من المعاني العظيمة، ولما فيها من صفات الله تعالى الجليلة. فإن زاد فلا بأس.
3- أن التلبية شعار الحج كالتكبير شعار الصلاة فيستحب الإكثار منها، لاسيما عند الانتقال من منسك إلى آخر، وارتفاع على نشز، أو هبوط في منخفض، أو التقاء الحجيج، أو فعل محظور. لأن فيها التذكير على الإقامة على طاعة الله والاستجابة لداعيه. قال شيخ الإسلام: لا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية فإنه حينئذ يشرع في التحلل.
4- تقدم في المعنى الإجمالي ما تحتويه التلبية من أنواع الذكر، من الإقامة على طاعته، وإثبات الوحدانية المطلقة له، وإثبات المحامد وإسناد النعم إليه،
والإقرار بملكه وقهره وسلطانه المطلق. فهي محتوية على توحيد الإلهية والربوبية، والأسماء والصفات.
5- مادامت التلبية شعار الحج، فينبغي رفع الصوت بها للرجال.
أما المرأة فتخفض صوتها خشية الفتنة بهذه العبادة الجليلة.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية التلبية في الحج، لأنها شعاره.
واختلفوا هل هي ركن، أو واجب، أو سنة؟.
فذهب إلى أنها سنة، الإمامان، الشافعي، وأحمد. ودليلهم أنها ذكر كسائر الأذكار، لا يجب بتركها شيء.
وذهب مالك وأصحابه، إلى أنها واجبة، يأثم تاركها، ويصح حجه، وعليه دم لتركه إياها.
وذهب أبو حنيفة، والثوري، وأهل الظاهر، وعطاء، وطاوس، وعكرمة إلى أنها رُكْن، لا يصح الحج بدونها.
ودليل هؤلاء، أنها شعار الحج، كما أن تكبيرة الإحرام، وتكبير الانتقالات، شعار الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخِلَّ بها، وكان يقول: " خذوا عني مناسككم"، وهى من أعظم المناسك،

(1/372)


وفي الحديث: "أتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أن آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعوا أَصْوَاتَهُمْ بالإهْلالِ" وهي التلبية. والأمر يقتضي الوجوب.
قلت: وهذا قول جيد، وحجته قوية، وقد التزمها – ولله الحمد - المسلمون جميعاً، فلا تجد محرماً إلا وهو يقولها في نسكه مرات، فمِنْ مُقِلٍ وَمُكثِرِ.
فائدة:
قال شيخ الإسلام ما خلاصته: النية في الحج والعمرة: لا خلاف بين المسلمين في أن الحج والعمرة لا يصحان بدونها. وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين هما: قصد العبادة وقصد المعبود، وهو الأصل الذي دل عليه قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وأما قصد العبادة فهو قصد عمل خاص يرضي به ربَّه من صيام أو حج أو غيرهما، وهذه النية التي تذكر في كتب الفقه المتأخرة، فالنية الأولى يتميز بها من يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا ويتميز بها المسلم من الكافر أما الثانية فهي تميز أنواع العبادات.
وقال رحمه الله: ولا يكون الرجل محرماً بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، ولا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، والتجرد من الثياب واجب في الإحرام وليس شرطاً فيه، فلو أحرم وعليه ثيابه صح ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق أئمة أهل العلم وعليه أن ينزع اللباس المحظور.

(1/373)


بَاب سَفر المَرأة بدُون محْرم
الحديث الأول
عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رَضيَ الله عَنْة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ
لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلةٍ إلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ".
وفي لفظ (1) للبخاري: "لا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلا مَعَ ذي مَحْرَم".
المعنى الإجمالي:
المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها.
ولا يغار عليها مثل محارمها، الذين يرون أن النَّيْلَ منها نَيْلٌ من شرفهم وعرضهم.
والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية، يكون معرضاً لفتن الشيطان ووساوسه.
لهذه المحاذير، التي هي وسيلة في وقوعٍ الفاحشة وانتهاك الأعراض، حرَّم الشارع على المرأة أن تسافر يوماً، أو يوماً وليلة، إلا ومعها ذو محرم، وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب، كأب، وابن، وأخ، وعم، وخال. أو والد زوجها أو ابنه وإن نزل. أو رضاع. كأبيها، وأخيها منه.
وناشدها الشارع في إيمانها بالله واليوم الآخر.
إن كانت تحافظ على هذا الإيمان وتنفذ مقتضياته، أن لا تسافر إلا مع ذي محرم.
اختلاف العلماء:
وهي تكفي عن الاستنباطات، لأنها تشتمل عليها:
هذه خلافات نجملها ولا نطيل بتفصيلها، لمخالفتها نص الحديث الصحيح.
فقد اختلفوا: هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم، إذا كانت ذات مال؟ أو أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة؟.
الصحيح: أنه لا يحل خروجها بدون محرم لأي سفر، فتكون معذورة غير مستطيعة.
واختلفوا في الكبيرة، التي لا تميل إليها النفس: هل تسافر بدون محرم، أو لابد من المحرم؟.
_________
(1) قوله: (وفي لفظ البخاري) .. إلخ يوهم انفراد البخاري به، وليس كذلك بل أخرجه مسلم أيضاً.

(1/374)


الصحيح الأخير. لأن الحديث عام في كل امرأة، ولا يخلو الأمر من محذور، فلكل ساقطة لاقطة.
واختلفوا هل يكفي أن تكون مع رفقة أمينة، أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا؟.
ظاهر الحديث أنه لابد من المحرم، لأن غيرة المحرم ونظره مفقودان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كانت المرأة من القواعد اللائي لم يحضن، وقد يئست من النكاح، ولا محرم لها فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي.
وقد أجمع المسلمون أنه لا يجوز السفر للمرأة بدون محرم، إلا على وجه تأمن فيه. ثمَّ ذكر كل منهم الأمر الذي اعتقده صائناً لها وحافظاً، من نسوة ثقات، أو رجال مأمونين، ومنعها أن تسافر بدون ذلك، فاشتراط ما اشترطه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق وأوجب وحكمته ظاهرة، فالذين خالفوا ظاهر الأحاديث، وأباحوا لها السفر حين تكون آمنة نظروا إلى المعنى المراد وقالوا: إنها مأمورة بالحج على وجه العموم بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سيلا) .
والذين أخذوا بظاهر حديث المنع من السفر قالوا: إن الحديث مخصص للآية وله نظائر كحديث الغازي الذي خرجت امرأته حاجة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يدع الجهاد ويحج مع امرأته، وغيره من الأحاديث.
واختلفوا في تحديد السفر، تبعاً لاختلاف الأحاديث.
فمنها "يوم" و" يومان" و"ثلاث ليال" و"ليلة"، و"بريد".
والأحوط أن يؤخذ بأقلها، لأنه لا ينافي ما فوقه، ويكون ما فوقه قضايا عين، حسب حال السائل. والله أعلم.

(1/375)


ظاهرة محزنة:
إذا قارنت حال المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة، والآداب العالية، والغيرة الكريمة، والشهامة النبيلة، والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب، وجدت كثيراً من المسلمين قد نبذوا دينهم وراءهم ظهرياً، ومرقوا منه، وصار التَّصَوُّنُ والحياء ضرباً من الرجعية والجمود.
أما الانحلال الخُلُقيُّ، وخلع رداء الحياء والعفاف، فهو التقدُّم والرُّقيُّ. فإنا لله وإنا إليه راجعون

بَاب الفِديَة
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْن مَعْقِلٍ، قال: جَلَسْتُ إلى كَعْب بْنِ عُجْرَةَ فَسَألتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ فقال: نَزَلَتْ
فِيَّ خَاصَّة، وَهِي لَكُمْ عَامَّة:
حُمِلْتُ إلى رَسُولِ الله وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلى وَجْهي فقال:
"مَا كُنْتُ أرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أرى - أو: مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أرَى: -
أتَجدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، أَوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِيْنَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ
نِصْفُ صَاعٍ.
وفي رواية: أمَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أوْ
يُهْدِي شَاةً، أوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أيامٍ.
لغريب:
نزلت فيَّ: يعني الآية وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضَاً أوْ به أذَىً مِنْ رَأسِه فَفِدْية مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ} .
حملت: بالبناء للمجهول.
ما كنت أُرَى: - بضم الهمزة، بمعنى "أظن".
ما أرى: - بفتح الهمزة، بمعنى "أشاهد".
الجَهد: بفتح الجيم "المشقة" وبضمها بمعنى "الوسع" و"الطاقة" والمراد ـ هنا – الأول.
الفَرَق: بفتح الفاء والراء، مكيال يسع ثلاثة آصع نبوية.
وتقدم في الزكاة تحرير الصاع النبوي ومكاييلنا الحاضرة والمقارنة بينهما.

(1/376)


المعنى الإجمالي:
رأى النب (1) ي صلى الله عليه وسلم "كعب بن عجرة" في الحديبية (2) وهو محرم.
وإذا القمل يتناثر على وجهه من المرض، والأوساخ المتسببة من المرض.
وكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فَرَقَّ لحاله وقال: ما كنت أظن أن المشقة بلغت منك هذا المبلغ، الذي أراه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية.
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجد أفضل ما يفدي به وهو الشاة؟.
فقال: لا، فقال: إذا لم تجد الشاة فأنت مخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر، أو غيره، ويكون ذلك كفارة عن حلق رأسه، الذي اضطر إليه في إحرامه، من أجل ما فيه من هوام، وفي الرواية الأخرى، خيَّره بين الثلاثة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز حلق الشعر للمحرم مع التضرر ببقائه، ويفدي.
2- تحريم أخذ الشعر للمحرم بلا ضرر، ولو فدى.
3- أن الأفضل في الفدية، ذبح شاة، وتقسيمها على الفقراء. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.
وفي الرواية الأخرى التخيير بين الثلاثة ويأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله.
4- كون السنة مفسرة، ومبينة للقرآن.
فإن "الصدقة " المذكورة في الآية مجملة، بيَّنها الحديث.
5- ظاهر الحديث أن نصف الصاع يخرج، سواء أكان من بر أم غيره.
وهو مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، وهو الصحيح، لظاهر الحديث.
أما المشهور من مذهب أحمد، فيجزئ مُدٌّ من بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره.
6- ظاهر النصوص، نزول الآية بعد فتوى النبي صلى الله عليه وسلم.
فتكون الآية مؤيدة للوحي الذي لا يتلى.
_________
(1) عبرت بلفظ "رأى" لأنه ورد في بعض ألفاظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به، وفي بعضها: أنه حمل إليه. والقضية واحدة.
(2) رد في بعض ألفاظ الحديث، أن ذلك في "الحديبية"

(1/377)


7- وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم.
8- وفيه تفقد الأمير والقائد أحوال رعيته.
9- ألحق العلماء بحلق الرأس تقليم الأظفار، والطيب، واللبس، بجامع الترفُّه في كل منها، وتسمى "فدية الأذى".
10- ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بكعب، وبعضها: أنه حمل إليه.
وجمع بينهما العلماء، بأنه مرَّ به أولاً ثم طلبه فحمل إليه.
11- يجوز الحلق قبل التكفير وبعده، ككفارة اليمين، تجوز قبل الحنث وبعده.
12- سبب نزول الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً…} الخ قضية كعب بن عجرة.
ولكنها عامة، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
تحقيق التخيير في الكفارة:
ظاهر الحديث الذي معنا يفيد تقديم الشاة، فإنْ لم يجدها، فهو مخير بين الصيام والإطعام.
أما الآية وبقية الروايات، فتفيد التخيير بين الثلاثة.
ومنها ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعله آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ ".
قال: نَعَمْ.
فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "احْلِقْ رَأسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَةَ مَسَاكِينَ، أوِ انْسُكْ شَاةً" فهذا وأمثاله، صريح في التخيير.
وقد جمع العلماء بينها، فقال ابن عبد البر: قدم الشاة، إشارةً إلى ترجيح الترتيب، لا إلى إيجابه.
قال النووي: قصد بسؤاله عن الشاة، أن يخبره إن كان عنده شاة، فهو مخير بين الثلاثة، لا أنه لا بجزيء مع وجودها غيرها.
وقال بعضهم: إنه أفتاه في الشاة اجتهاداً، وبعد ذلك نزلت الآية في التخيير بين الثلاثة.
ويؤيد هذا القول ما رواه مسلم عن عبد اللَه بن معقل، عن كعب قال: "أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية".
والأحاديث الواردة في هذا المعنى، وردت من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، ومن طريق عبد الله بن معقل، عن كعب أيضاً.

(1/378)


وما روي من طريق عبد الرحمن، موافق لمعنى الآية، من إفادة التخيير بين الثلاثة.
وما ورد من طريق عبد الله بن معقل، يفيد الترتيب.
لهذا فإن ابن حزم، حكم على رواية عبد الله بالاضطراب، وقال في طريق عبد الرحمن: "هذا أكمل الأحاديث وأبينها".
والذي أرى: أن ما ذهب إليه "أبو محمد" هو أحسن جمع، لأن القصة واحدة. فلا يمكن أن يقع فيها إلا صفة واحدة، فلا يمكن الجمع إلا بهذا؛ ولذا قال ابن حجر: وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك شاة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم".
ورواية مالك في الموطأ "أي ذلك فعلت أجزأ "والله أعلم.

بَابُ حرمَة مَكة
حرمة "مكة" المكرمة مستمدة من هذا البيت المعظم، الذي هو أول بيت وُضِعَ في الأرض لِيَؤمَّه الناس لعبادة الله تعالى كما قال تعِالى {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًىً لِلعَالَمِينَ} . وقد بناه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
ومازال معظماً مكرماً محجوجاً منذ بُنيَ حتى يفسد الزمان، ويذهب الإيمان.
فما دام الدين قائماً فقد جعله الله {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَاً} .
وقد عظمه العرب في جاهليتهم، وجاءوا إليه من أقطار الجزيرة ومن ورائها، فأكرمهم سدنته وخدامه من قريش ومن قبلهم.
وجاء الإسلام فزاد من تعظيمه وتقديسه - وقد حماه الله من كل مُعْتَدٍ، وأكبر دليل، قصة أصحاب الفيل المشهورة.
والمجاورة فيه من أفضل العبادات لمن رزق الاستقامة، لأن العمل عنده مضاعف إلى مائة ألف ضعف كما أنَّ المعاصي عنده وفيه، مغلظة لحرمة المكان.

(1/379)


رزقنا الله العمل الصالح المرضي وجهه الكريم، وجنَّبَنَا الزَّيْغَ والضلالَ والْمِحَنَ والفتن، ما ظهر منها وما بطن. آمين.
وتقدم في أول الكتاب شيء من حِكَمِ الحج وأسرارِه.
وكون الحج إلى هذا البيت له حِكَم ومناسبات أخرى، منها أن هذا البيت ومناسكه، هي آثار أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهي ذكريات، وأعياد إسلامية دينية.
ومنها أن هذه البقعة هي مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه، ومنها شَعَّ نور الإسلام.
فالمسلمون يجددون بها عهداً وهي عاصمتهم الأولى ومُتَوَجَّه وجوههم ومهوى أفئدتهم.
جمع الله المسلمين على التُّقَى ولَمَّ كلمتهم فيما يُعْلي دينهم، ويرفع شأنهم. آمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
الحديث الأول
عَنْ أبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرو الْخُزَاعِي الْعَدَوِي رَضيَ الله عَنْة:
أَنهُ قَالَ لِعَمْرِو بْن سَعِيدِ بْنِ الْعَاص – وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِيْ أُيُّهَا الأمِيرُ
أنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَالَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ
أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأبصَرَتْهُ عَينايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. أنَّهُ حَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ:
"إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله تعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ
لامْرِئ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً ولا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً. فَإنْ أحَدٌ
تَرَخَّصَ بِقِتَال رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُوْلُوا: إنَّ الله أذِن لِرسُولِهِ وَلَمْ يَأذَنْ
لَكُمْ، وإنِّمَا أذِنَ لِرَسُولِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرمَتِهَا بالأمْسِ.
فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
فقيل لأبي شريح: مَا قَالَ لَكَ عَمْروٌ؟ قَالَ: قَالَ أنَا أعْلَمُ بِذلِكَ مِنْكَ يَا أبَا شُرَيْح، إنَ الْحَرَمَ لا يُعِيْذُ عَاصِياً وَلا فَارَّاً بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرَبَةٍ.
الخربة: بالخاء المعجمة، والراء المهملة. قيل: الخيانة، وقيل: البلية. وقيل: التهمة.
وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:
والخارِبُ الِّلصُّ يُحِبُّ الخارِبا
الغريب:
ايذن لي: أصله "إأذن لي" بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

(1/380)


أن يسفك بها دماً: - بكسر الفاء وضمها - قال الهروي:
لا يستعمل السفك إلا في الدم
ساعة من نهار: هي ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر.
لا يعيذ: لا يجير ولا يعصم.
لا يعضد بها شجرة: هو مثل ضرب يضرب - بكسر الضاد ـ ومعناه يقطع.
المعنى الإجمالي:
لما أراد عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، أن يجهز جيشاً إلى مكة المكرمة وهو – يومئذ - أمير ليزيد بن معاوية على المدينة المنورة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، جاءه أبو شريح، خويلد بن عمرو الخزاعي، لينصحه عن ذلك.
ولكون المنصوح كبيراً في نفسه، تلطَّف أبو شريح معه في الخطاب، حكمة منه ورشداً، ليكون أدعى إلى قبول النصيحة وسلامة العاقبة، فاستأذنه ليلقي إليه نصيحة في شأن بعثه الذي هو ساعٍ فيه، وأخبره أنه متأكد من صحة هذا الحديث الذي سيلقيه عليه، وواثق من صدقه إذ قد سمعته أذناه ووعاه قلبه، وأبصرته عيناه حين تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له عمرو بن سعيد في الكلام.
فقال أبو شريح: إن النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة فتح مكة "حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض" فهي عريقة بالتعظيم والتقديس، ولم يحرمها الناس كتحريم الحمى المؤقت والمراعي والمياه، وإنما الله الذي تولَّى تحريمها، ليكون أعظم وأبلغ.
فإذا كان تحريمها قديماً ومن الله "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر - إن كان يحافظ على إيمانه - أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة.
فإن أحد ترخص بقتالي يوم الفتح، فقولوا: إنك لست كهيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أُذِنَ له ولم يُؤذن لك.
على أنه لم يحل القتال بها دائماً، وإنما هي ساعة من نهار، بقدر تلك الحاجة، وقد عادت حرمتها كما كانت، فليبلغ الشاهد الغائب.
لهذا بلغتك أيها الأمير، لكوني شاهداً هذا الكلام، صبيحة الفتح، وأنت لم تشهده.
فقال الناس لأبي شريح: بماذا أجابك عمرو؟ فقال: أجابني بقوله: " أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارًا بخربة"
وهذه محاولة منه باطلة، فإنه متوجه لقتال من هو أفضل منه وأولى بالخلافة.

(1/381)


وقد سلط عليه عبد الملك بن مروان، فقد قتله غدراً صبراً. وقد هزم جيشه وقتل أميره عليه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إفادة العلم وقت الحاجة إليه، وهي مناسباته، لأنه أبلغ.
2- نصح ولاة الأمور، وأن يكون ذلك بلطف ولين، لأنه أنجح في المقصود.
3- تأكيد الخبر بما يثبته ويؤيده، من بيان الطرق الوثيقة، التي وصل منها، لكونه سمعه بنفسه، أو تكرر عليه، أو شاهد الحادث، أو نقله عن ثقة، ونحو ذلك.
4- البداءة بالحمد والثناء على الله تعالى، في الخطب والمخاطبات، والرسائل وغيرها، من الكلام المهم.
5- تحريم الله لمكة منذ خلق السماوات والأرض، مما يدل على أنها لم تفضل لمناسبات مؤقتة. وإنما هي عريقة أصيلة في التعظيم والتقديس.
أما تحريم إبراهيم عليه السلام، فهو إظهار لتحريم الله.
6- أن الإيمان الصحيح هو الرادع عن محارم الله وتعدِّي حدوده.
7- تحريم سفك الدماء في مكة، وظاهره التحريم مطلقاً. ويأتي بحثه إن شاء الله تعالى في الحديث الذي بعد هذا.
8- تحريم قطع شجرها، ظاهره سواء أن يكون قد نبت بنفسه أو غرسه آدمي. ويأتي بحثه إن شاء الله، في الحديث الذي بعد هذا.
9- أنه لا يحل لأحد أن يترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقاتل في مكة.
10- أنها أبيحت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة، لم تبح قبلها، ولن تباح بعدها.
11- أن النبي فتح مكة عَنْوَةً لقوله" فإن أحد ترخص بقتال رسول الله".
12- وجوب تبليغ العلم لمن يعلمه، لاسيما عند الحاجة إليه. وهذا ما حمل أبا شريح على نصيحة عمرو بن سعيد.
13- قال ابن جرير: وفيه دليل على قبول خبر الواحد لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ.
تنبيه:
بحوث هذا الحديث الخلافية، أخرناها إلى الحديث الذي بعد هذا، لأن معنى الحديثين متقارب.

(1/382)


تنبيه آخر:
قال شيخ الإسلام: ولا يقطع شيء من شجر الحرم ولا من نباته، إلا الإزخر وما غرسه الناس أو زرعوه، فهو لهم.
ثم قال رحمه الله: وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام: كمسجد الصفا، وكمسجد المولد، وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة. وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة كجبل حراء فإنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة.
تنبيه ثالث:
حينما هم عمرو بن سعيد بمحاربة عبد الله بن الزبير بأمر من يزيد بن معاوية وجه إليه من المدينة جيشاً بقيادة عمرو بن الزبير ـ أخي عبد الله ـ وكانت بين الأخوين عداوة. فسار الجيش من المدينة، وحينما اقترب من مكة أخرج له عبد الله بن الزبير فرقتين من الجيش المرابط معه في مكة، فصارت الهزيمة على الجيش الأموي، وأسر عمرو بن الزبير، فحبسه أخوه وضربه بالسياط إلى أن مات.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رضيَ الله عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةََ.
"لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكِنْ جِهَاد وَنِيَّة. وَإذَا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُوا".
وقال يوم فتح مكة: " إنَّ هذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ
بحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحدٍ قَبْلِي، ولم يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ
نَهَار ـ وهي ساعتي هذه - فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا
يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، ولا يُخْتَلَى خَلاهُ"
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إلاَّ الإذْخِرَ فَإنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبيُوتِهِمْ، فَقَال: " إلاَّ الإذْخِرَ".
القين: الحدّاد.
الغريب:
استنفرتم فانفروا: "نفر" خرج بسرعة. يعني إذا طلب خروجكم للحرب بسرعة فاخرجوا كما طلب منكم.
لا يعضد شوكه: العضد: القطع.
لا ينفر صيده: لا يزعج من مكانه ويذعر.

(1/383)


لا يختلى خلاه: "الخلا" بالقصر هو الرطب من الكلأ واختلاؤه قطعه.
الإذخر: يجوز فيه الرفع بدلاً مما قبله، ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي.
واختار ابن مالك النصب، لكون الاستثناء وقع متراخياً عن المستثنى منه.
و"الإذخر" نبت أصله ماضٍ في الأرض، وقضبانه دقاق، ورائحته طيبة.
وهو كثير في أرض الحجاز، وكانوا يسقفون به، فيجعلونه تحت الطين، وفوق الخشب ليسد الخلل، فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور.
لقينهم: بفتح القاف وسكون الياء، بعدها نون: هو الحداد، وحاجته لها، ليوقد بها النار.
المعنى الإجمالي:
بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، ودعا أهلها إلى الإسلام، فآمن به قليل منم فآذاهم المشركون في مكة فوسَّع الله لهم بالهجرة منها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه أصحابه، وصارت الهجرة وَاجَبة منها، لأن المسلم لا يتمكن أن يظهر فيها إسلامه.
فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت بلدة إسلامية، انقطعت الهجرة منها، لأنه زال موجبها، وبقي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، ونصر دينه قائماً، إلي يوم القيامة، باللسان، والسلاح، والنية الصالحة، بإخلاص الأعمال لله تعالى.
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الجهاد، وجوب الخروج بسرعة ونشاط إذا استنفرهم وَلِيُّ الأمر للقتال.
ثم ذكر تحريم الله تعالى لمكة، أنه قديم بقدم خلق السماوات والأرض.
لأن الله هو الذي حرمها، ومن تلك المدة فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل فيها القتال تأسِّياً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
فقد أحلت له خاصة، ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها إليها مطلقاً إلى يوم القيامة.
ثم ذكر أن حرمة هذا البيت، شملت ما حوله من شجر، فلا يقطع، ومن صيد فلا يزعج وَيُنفَّر من مكانه، فما بالك بقتله؟ كما حرَّم لقطة الحرم إلا من أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.
فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم قطع النبات، قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فهم في حاجة إليه لتسقيف بيوتهم وسَدِّ خلل قبورهم، وَإيقاد نيرانهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر، فإنه مباح.

(1/384)


ما يؤخذ من الحديث:
1- انقطاع الهجرة من مكة إلى غيرها، لأنها ـ ولله الحمد- بلاد إسلامية.
أما الهجرة من غيرها، فهي باقية، من كل بلد لا يقيم الإنسان فيه دينه.
2- أن الجهاد باقٍ، واجب عند وجوده، ونيته عند عدمه.
وكذلك النية الصالحة، ركن أساسي في قبول الأعمال، وعليها المدار.
3- قوله "وإذا استنفرتم فانفروا" أي: إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ففيه وجوب النفر من المسلم إذا طلبه الإمام لقتال عدو، إما بتنفير عام، أو تعيين. فمن عَيَّنه الإمام، خرج.
4- تحريم القتال في مكة، فلا يحل لأحد إلى يوم القيامة.
5- أن حلها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من خصائصه، وأنها أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت منذ خلقت السماوات والأرض.
6- تحريم قطع الشوك في حَرَمِهَا، وتحريم قطع الشجر الذي ليس فيه شوك من باب أولى، وكذلك الكلأ.
7- تحريم تنفير صيده، وحبسه وقتله أشد حرمة بطريق الأولى. والصيد، هو الحيوان المأكول، المتوحش أصلاً.
8- تحريم أخذ اللقطة فيها، إلا لمن أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.
9- استثناء "الإذخر" من الكلأ، للحاجة الشديدة إليه. فيجوز أخذه رطباً أو يابساً.
10- أن بعض السُنَّة، تكون بفهم يلقيه الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى: {وأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَاسِ ما نُزِّل إلَيْهِمْ} .
11- أن الفصل اليسير الذي لا يُعَدُّ قاطعاً للكلام، لا يضر بين المستثنى والمستثنى منه.
12- أن مكة فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عَنْوَةً، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم وَكَلَئِهِ الْبَرِّيِّ الذي لم ينبته الآدمي.
كما أجمعوا على إباحة أخذ "الإذخر" وما أنبته الآدمي، من الزروع والبقول، أخذاً بالأحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها.
واختلفوا في قطع الشجر الذي أنبته الآدمي، فالجمهور على جواز قطعه، كالزرع الذي ينبته الآدمي.
وذهب الشافعية إلى تحريمه، أخذاً بعموم الحديث، ومال الشيخ "الموفق ابن قدامة" في "المغني" إلى هذا.

(1/385)


واختلفوا في جواز قتل من وجب عليه القتل فلجأ إلى الحرم.
فذهب إلى تحريمه جمهور التابعين، والإمام أبو حنيفة، وأصحابه من الفقهاء، والإمام أحمد، وبعض المحدِّثين وقالوا: يعالج حتى يخرج منه من وجب عليه حَدُّ القتل في غيره ثمَّ لجأ إليه.
وذهب مالك، والشافعي: إلى أنه يستوفى منه الْحَدُّ في الحرم.
ودليل مالك، والشافعي، ومن تبعهم، عمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، وقاسوه أيضاً على من أتى في الحرم بما يوجب القتل.
واستدل الأولون بمثل قوله تعالى: {ومَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَاً} ، {أوَ لَمُ نُمكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِنَاً} ونحوهما من الآيات، ولو لم يكن للتخصيص فائدة، لما ذكر.
وأجابوا عن أدلة المعارضين، بأنَّ العمومات لا تتناوله، لأن لفظها لا يدل عليه، لا بالوضع، ولا بالتضمن، فهو مطلق بالنسبة إليها.
ولو فرض تناولها له، لكانت مخصصة بالأدلة الواردة في وضع إقامة الحد فيه؟ لئلا يبطل موجبها.
أما قتل "ابن خطل" فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي عليه الصلاة والسلام.
وأما قياسه على من فعل ما يوجب القتل في الحرم، فلا يستقيم، لأن الجاني فيه هتك حرمته، وحرمة الله تعالى، فهما مفسدتان، ولو لم يقم الحد على الجناة فيه، لَعَمَّ الفساد، وعظم الشر في حرم الله.
بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه، فذنبه أخف كثيراً، وهو - بلجوئه إلى الحرم – كالتائب من الذنب، النادم على فعله، فلا يناسب حاجته.
قال ابن حجر في "فتح الباري" فأما القتل، فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل، ثم لجأ إلى الحرم.
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر.
قلت: نصر ابن حزم في "المحلى" أن القصاص وأنواع الحدود، لا تقام في الحرم مطلقاً.
وقال: من أتى فيه بما يوجب القتل والحد، فليُخْرَج، ثم يقام عليه.
ونقل عمومات عن بعض الصحابة، ظاهرها معه.

(1/386)


واختلفوا: هل فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة صلحاً أو عنوة؟.
ذهب الأكثرون من العلماء – ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه ـ إلى أنها عنوة.
وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحاً، واستدلوا على ذلك بأنها لو فتحت عَنْوَةً لقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كـ"خيبر" ولملك الغانمون دورها، وكانوا أحق بها من أهلها، ولو كانت عنوة لم يؤمِّن أهلها.
واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أحلها ليِ ساعة من نهار".
وبقوله: " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لك".
واستدلوا أيضاً، بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في حالة حرب وتعبئة.
فقد جعل للجيش ميمنة، وميسرةً، ومقدمة، ومؤخرة، وَقَلْباً، ودخلها، وعلى رأسه المغفر غير محرم، وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم، حتى قتل منهم جماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أترون أوباش قريش وأتباعهم، احصدوهم حصداً" حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم.
فقال: "من أغلق بابه فهو آمن" وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة.
وأجابوا عن أدلة المعارضين:
فأما كونه لم يقسِّم أرضها بين الغانمين، فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في الأرض العنوة التي يأخذونها، لا يقسمونها، وإنما يجعلونها فيئاً على المسلمين أولهم وآخرهم.
على أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهل مكة، فَأمَّنَهمْ، ومِنْ تأمينهم، ترك ما بأيديهم.
مع أن هناك خلافاً بين العلماء: هل تملك رباع مكة ودورها؟.
وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها. وقالوا: إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد.
وأما تأمينه أهلها، فبعد القتال مَنَّ عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى. وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان، فأجابهم لطفاً بهم ورحمة.

(1/387)


بَابُ مَا يجُوز قَتْله
هذه الترجمة فيها بيان ما يجوز قتله، بعد ذكر تحريم القتل، وتنفير الصيد. فهي كالاستثناء مما قبلها، أو دفع ما يتوهم دخوله.
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتلْنَ فِي الحَرَم:
1:- الْغُرَابُ، 2:- والحِدَأَةُ، 3:- والعَقْرَبُ 4:- والفَأْرَة،: - وَالْكَلْبُ العَقُورُ".
ولمسلمٍ: " يُقْتَلُ خَمْسُ فَوَاسِقَ في الحِلِّ وَالُحَرَم (1) "
المعنى الإجمالي:
من الحيوان ما هو مؤذ بطبعه، فهذا يقتل في الحل، والحرم، والإحرام.
ومنها هذه المؤذيات الخمس، التي نبه بها الشارع على ما شابهها من الفواسق.
وهن، "الغراب" الذي يفسد الثمار، و"الحدأة" التي تخطف الثياب والحلي، و"العقرب" التي تلسع، و"الفأرة" التي تثقب وتخرب، و"الكلب العقور" الذي يعتدي على الناس.
فهذه خمسة أنواع من الحيوانات، وصفت بالفسق، وهو خروجها بطبعها عن سائر الحيوانات، بالتعدي والأذى.
ونبه بها معدودة، لاختلاف أذاها، فيلحق بها ماشاكلها في فسقها من سائر الحيوانات، فتقتل لأذيتها واعتدائها، فإن الحرم لا يجيرها والإحرام لا يعيذها.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل يتعدى القتل من هذه المذكورة إلى غيرها من الحيوانات أو لا؟.
فـ"أبو خيفة" يرى أن حكمها لا يتعداها إلى غيرها، وذلك أن حكمها عُلِّقَ بألقابها، واللقب لا يقتضي مفهوماً عند جمهور الأصوليين.
وذهب الجمهور إلى تعديتها إلى غيرها.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله يُعدَّى حكمها إلى
_________
(1) اعلم أن اللفظ الأول للبخاري، ولِـ"مسلم" مثله، إلا أنه قال: فواسق بدل "فاسق". وأما اللفظ الذي عزاه لـ"مسلم"، فليس فيه كذلك، وإنما لفظه "خمس فواسق، يقتلن في الحل والحرم".
وفي رواية لـ"مسلم"، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق، في الحل والحرم.
لعل المصنف أراده، لكن ليس هو لفظ النبي عليه السلام، وإنما هو لفظ الراوي.

(1/388)


غيرها.
فالشافعي يرى أنه كونهن مما لا يؤكل، فكل مالا يؤكل يجوز قتله بلا فدية.
وذهب الإمامان، مالك، وأحمد: إلى أن المعنى الجامع لهن ولغيرهن هو طبيعة الإيذاء.
وهذا قياس جيد، لأنه تعليل مفهوم من نص الشارع، وهو وصف الأصل بالفسق فإذا وجِدَ بالفرع، تم القياس، والحكم يدور مع علته، وجوداً وعدماً.
وأما تعديدها- مع أن الأذى واحد- فلينبه به الشارع على أنواعه ومفرداته الموجودة في كل نوع من هذه الفواسق ومثيلاتها.
تكميل:
الحيوانات على أربعة أقسام:
1- الحيوان المستأنس، كبهيمة الأنعام، والدجاج، يباح تذكيته في كل حال.
2- الحيوان الذي لا يؤكل وليس فيه أذى، فيكره قتله، وإن قتل فليس فيه فداء.
3- الحيوان المؤذي، كهذه المذكورة في الحديث وما في معناها، فيشرع قتلها في الحل، والإحرام، والحرم. وليس في قتلها شيء.
4- الحيوان الْبَرِّيُ المأكول؛ فهذا هو الصيد. في قتله في الحرم وفي الإحرام، الجزاء.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية قتل هذه الحيوانات المعدودة في الحديث، في الحل والحرم.
2- أن قتلها لما فيها من الفسق والأذى، فيلحق بها ما شابهها من الحيوان.
3- أن الأذى ليس نوعاً واحداً، فكل ما فيه مضرة على النفس أو المال أو غير ذلك، فهو الأذى الذي ليس لصاحبه حرمة، لذا نَبَّهَ على تعدد الأذى بتعديد هذه الحيوانات. والله هو الحكيم في خلقه، العدل في حكمه.

(1/389)


بَاب دُخول مَكةَ والبيت (1)
الحديث الأول
عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَةَ عَامَ
الْفَتْحِ وَعَلَى رَأسِهِ الْمِغفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأسْتَارِ الْكَعْبَةِ.
فقال: "اقْتُلُوهُ".
الغريب:
المغفر: بوزن مِنْبَر، زرد ينسج من حديد على قدر الرأس، وقاية له من وقع السيف.
"ابن خطل" بالخاء المعجمة والطاء المهملة المفتوحتين، اختلف في اسمه. قيل: هلال، وقيل غير ذلك، وقاتله أبو برزة الأسلمي.
المعنى الإجمالي:
كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش حروب كثيرة مما أوغر صدورهم.
فلما كان فتح مكة، دخلها صلى الله عليه وسلم في حالة حيطة وحذر، فوضع على رأسه المغفر.
وكان صلى الله عليه وسلم قد حض على أناس من المشركين أن يُقْتَلُوا، ولو وُجِدُوا في أستار الكعبة، وسمى منهم "ابن خطل" الذي أسلم، ثم قتل مسلماً وارتد عن الإسلام وذهب إلى الكفار، فجعل جواريه يغنين بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما وضعت الحرب أوزارها ذلك اليوم، وأمَّن أهل مكة، واستأمن منهم ووضع المغفر، وجد بعض الصحابة "ابن خطل" متعلقاً بأستار الكعبة، عائذاً بحرمتها من القتل، لما يعلم من سوء صنيعه، وقبح سابقته، فتحرجوا من قتله قبل مراجعة النبي صلى الله عليه. فلما راجعوه قال: اقتلوه، فقتل بين الحجر والمقام.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كون النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم، إذ دخل وعلى رأسه المغفر، وعليه أيضاً عمامة سوداء، كما في صحيح مسلم، فيجوز دخولها في مثل هذه الحال بلا إحرام.
2- تقديم الجهاد على النسك، لأن مصالح الأَوَل أعم وأنفع.
_________
(1) أصل ترجمة المؤلف. [باب دخول مكة وغيره] وجعلها شاملة لأحاديث الدخول وأحاديث آداب الطواف فتصرفت بإفراد حديثي دخول مكة، وحديث دخول البيت بهذه الترجمة، وجعلت لأحاديث الطواف ترجمة أخرى.

(1/390)


3- كون مكة فتحت عنوة، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، لا صلحاً كما هو مذهب الشافعي.
4- جواز فعل الأسباب المباحة الواقية، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله تعالى. 5- فيه جواز إقامة الحدود في الحرم ولو بالقتل، لأن قتل ابن خطل، كان بعد انتهاء القتال الذي أبيح في ساعة الدخول. والله أعلم.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ
مِنْ كَدَاء مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا التي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلى.
الغريب:
كداء: بفتح الكاف والمد، اسم للثنية، التي في أعلى مكة وهي (ريع الحجون) وتقول العامة: (الحجول) وهو تحريف.
الثنية السفلى: الثَّنِيَّة، هي الطريق بين الجبلين.
والمراد بها، الطريق الذي خرج من المحلة المسماة (حارة الباب) وتسمى الثنية الآن (ريع الرسام) . وتسمى الثنية السفلى: كُدى - بضم القاف وقصر الألف.
المعنى الإجمالي:
حِج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فبات ليلة دخوله بـ"ذي طوى"لأربع خَلوْنَ من ذي الحجة.
وفي الصباح دخل مكة من الثنية العليا، التي تأتي من بيت مقابر مكة، لأنه أسهل لدخوله، إذ أتى من المدينة.
فلما فرغ من مناسكه خرج من مكة إلى المدينة من أسفل مكة، وهي الطريق التي تأتي على "جرول".
ولعل في مخالفة الطريقين تكثيراً لمواضع العبادة، كما فعل صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى عرفة والإياب منها، ولصلاة العيد والنفل، في غير موضع الصلاة المكتوبة، لتشهد الأرض على عمله عليها يوم تحدث أخبارها. أو لكون مدخله ومخرجه مناسبين لمن جاء من المدينة، وذهب إليها. والله أعلم.

(1/391)


الحديث التاسع عشر بعد المائتين
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا:
دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ وَأسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالُ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ
فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا البَابَ كُنْتُ أوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلالاً فَسَألتُهُ: هَلْ
صَلَّى فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِييْنِ.
المعنى الإجمالي:
لما فتح الله تبارك وتعالى مكة، وطهر بيته من الأصنام والتماثيل والصُّوَرِ، دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة المشرفة، ومعه خادماه، بلال، وأسامة، وحاجب البيت، عثمان بن طلحة.
فأغلقوا عليهم الباب لئلا يتزاحم الناس عند دخول النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليروا كيف يتعبد، فيشغلوه عن مقصده في هذا الموطن، وهو مناجاة ربِّه وشكره على نعمه؛ فلما مكثوا فيها طويلاً، فتحوا الباب.
وكان عبد الله بن عمر حريصاً على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، والأمكنة التي يأتيها ولو لغير عبادة، ولذا فإنه كان أول داخل لما فتح الباب.
فسأل بلالاً: هل صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين.
وكانت الكعبة المشرفة – إذ ذاك – على ستة أعمدة، فجعل ثلاثة خلف ظهره، واثنين عن يمينه، وواحداً عن يساره، وجعل بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، فصلى ركعتين، ودعا في نواحيها الأربع.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب دخول الكعبة المشرفة، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها. وذكر ابن تيمية أن دخولها ليس فرضاً ولا سنة، ولكنه حسن.
2- أن دخولها ليس من مناسك الحج، وإنما هي فضيلة في ذاتها.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها في حجته، وإنما دخلها في عام الفتح.
وهذا هو التحقيق، في أنه لم يدخلها إلا مرة واحدة.
اختلاف العلماء:
الجمهور على جواز صلاة النافلة في الكعبة المشرفة وفوقها، إلا ما حكي عن ابن عباس.
وإنما الخلاف في جواز الفرض فيها. وفوق سطحها، ومثلها الحِجْر.

(1/392)


فذهب الإمام أحمد، ومالك في المشهور عنه إلى أنها لا تصح، مستدلين بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والمصلي فيها أو على سطحها، غير مستقبل لجهتها. وأما النافلة فمبناها على التخفيف. فتجوز فيها وعليها.
وبما روي عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع:
1- المزبلة 2- والمجزرة 3- والمقبرة 4- وقارعة الطريق.
5- والحمام 6- ومعاطن الإبل 7- وفوق ظهر بيت الله..
رواه الترمذي.
وذهب الإمامان، أبو حنيفة، والشافعي: إلى صحة الفريضة فيها وفوقها، وكذلك في الحِجْر. ودليلهم على ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وما ثبت في حق النفل، يثبت في حق الفرض بلا فرق إلا بدليل، ولا دليل.
ولو سلم استدلالهم بالآية، على عدم صحة الفرض، لكان دليلاً على عدم النافلة أيضا.
وأما حديث ابن عمر، فلو صح، لكان عاماً للفريضة والنافلة، ولكن ضعفه مخرجه، وهو الترمذي. وقال البخاري: فيه رجل متروك.
واستدلوا بحديث "جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وَطَهوُراً"، والكعبة المشرفة أولى الأرض بذلك. والله أعلم.

(1/393)


بَابُ الطَّواف وأدَبه (1)
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ رَضي الله عَنْهُ: أَنَّهُ جَاءَ إلى الحَجَرِ الأسْوَدِ وَقبَّلَهُ وَقَالَ: إنِّي لأعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا
تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أنِّي رَأَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قبَّلْتُك.
المعنى الإجمالي:
الأمكنة والأزمنة وغيرها من الأشياء، لا تكون مقدسة معظمة تعظيم عبادة الله لذاتها، وإنما يكون لها ذلك بشرع.
ولهذا جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الحجر الأسود وقبَّله بين الحجيج، الذين هم حديثو عهد بعبادة الأصنام وتعظيمها، وبيَّن أنه ما قَبَّلَ هذا الحجر وعظمه من تلقاء نفسه، أو لأن الحجر يحصل منه نفع أو مضرة، وإنما هي عبادة تلقاها من المشرع صلى الله عليه وسلم فقد رآه يُقبِّله فَقَبَّله، تأسِّياً واتِّباعاً، لا رأياً وابتداعاً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعيه تقبيل الحجر الأسود للطائفين عندما يحاذونه، إن أمكن بسهولة.
2- أن تقبيله ليس لنفعه أو ضرره، وإنما هو عبادة لله تعالى، تلقيناها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أن العبادات توقيفية، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.
ومعنى هذا أن العبادات لا تكون بالرأي والاستحسان، وإنما تتلقى عن المشرع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة، تؤخذ من كلام المحدَّث الملهم، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
4- تبيين ما يوهم العامة من مشاكل العلم، حتى لا يعتقدوا غير الصواب.
5- أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم من سنته المتبعة، فليس هناك خصوصية إلا بدليل
6- أنه إذا صح عن الشارع عبادة، عمل بها ولو لم تعلم حكمتها، على أن إذعان الناس وطاعتهم في القيام بها من الحكم المقصودة.
7- قال شيخ الإسلام: ويستحب للطائف أن يذكر الله تعالى ويدعوه بما يشرع من الأدعية والأذكار، وإن قرأ سراً فلا بأس. وليس للطواف
_________
(1) وضعت هذه الترجمة، لاشتمالها على أحاديث متفرقة في أحكام الطواف.

(1/394)


ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية. وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له. وكان صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بـ"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
وَأصْحَابُهُ مَكَّةَ، فقَالَ المشركون: إنِّهُ يَقْدِمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأمَرَهُمْ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثّلاثَةََ، وَأن يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ،
وَلَمْ يَمْنَعْهُم أنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كلَّهَا إلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.
الغريب:
وَهَنَتهم: بتخفيف الهاء، أي أضعفتهم.
يثرب: من أسماء المدينة النبوية في الجاهلية.
أن يرملوا: بضم الميم "الرَّمَل" هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا.
الأشواط: بفتح الهمزة، جمع شوط بفتح الشين، وهو الجرية الواحدة إلى الغاية. والمراد هنا، الطوفة حول الكعبة.
الإبقاء عليهم: بكسر الهمزة والمد، الرفق بهم، والشفقة عليهم.
المعنى الإجمالي:
جاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة إلى مكة معتمراً، ومعه كثير من أصحابه.
فخرج لقتاله وصده عن البيت كفار قريش، فحصل بينهم صلح، من مواده أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرجعون هذا العام، ويأتون في العام القابل معتمرين، ويقيمون في مكة ثلاثة أيام.
فجاءوا في السنة السابعة لعمرة القضاء.
فقال المشركون، بعضهم لبعض - تَشَفِّيَاً وشماتة ـ: إنه سيقدم عليكم قوم، وقد وهنتهم وأضعفتهم حُمَّى يثرب.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قالتهم، أراد أن يرد قولهم ويغيظهم.
فأمر أصحابه أن يسرعوا إلا فيما بين الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود فيمشوا، رفقاً بهم وشفقة عليهم، حين

(1/395)


يكونون بين الركنين لا يراهم المشركون، الذين تسلقوا جبل" قعيقعان (1) " لينظروا إلى المسلمين وهم يطوفون فغاظهم ذلك حتى قالا: إن هم إلا كالغزلان.
فكان هذا الرمل سنة متبعة في طواف القادم إلى مكة، تذكراً لواقع سلفنا الماضين، وتأسِّياً بهم في مواقفهم الحميدة، ومصابرتهم الشديدة، وما قاموا به من جليل الأعمال، لنصرة الدين، وإعلاء كلمة الله. رزقنا الله اتباعهم واقتفاء أثرهم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رملوا في الأشواط الثلاثة الأول ماعدا ما بين الركنين، فقد رخص لهم في تركه، إبقاء عليهم، وذلك في عمرة القضاء.
ويأتي استحبابه في كل الثلاثة وتحقيق البحث في الحديث الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
2- استحباب الرمل في كل طواف وقع بعد قدوم، سواء أكان لنسك أم لا ففي صحيح مسلم: "كان ذلك إذا طاف الطواف الأول".
3- إظهار القوة والجلد أمام أعداء الدين، إغاظة لهم، وتوهيناً لعزمهم، وفتَّاً في أعضادهم.
4- أن من الحكمة في الرمل الآن تذكر حال سلفنا الصالح، في كثير من مناسك الحج، كالسعي، وَرَمْي الجمار والهَدْي وغيرها.
5- الرمل مختص بالرجال دون النساء، لأنه مطلوب منهن الستر.
6- لو فات الرمل في الثلاثة الأول، فإنه لا يقضيه، لأن المطلوب في الأربعة الباقية، المشي. فلا يخلف هيئتهن، فتكون سنة فات محلها.
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ
يَقْدَمَ مَكَّة إذَا اسْتَلَمَ الرُكْنَ الأَسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ، يَخُبُّ ثَلاثَةَ أشْوَاطٍ".
الغريب:
يَخُبُّ- الخَبَب: نوع من الْعَدْوِ، وقيل، هو الرَّمَلُ، وعلى هذا فهما مترادفان.
_________
(1) هو الجبل الذي أصله "المروة" فلعلهم تسلقوا جانبه الغربي الشمالي فمن كان هناك، لا يرى الذي بين الركنين. اهـ الشارح.

(1/396)


المعنى الإجمالي:
كان ابن عمر رضي الله عنهما من الحريصين على تتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتها، والبحث عنها، ولذا فإنه يصف طواف النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكون بعد قدومه بأنه يرمل في الأشواط الثلاثة كلها بعد أن يستلم الحجر الأسود، الذي هو مبتدأ كل طواف، تذكراً لحالهم السابقة، يوم كانوا يفعلونه إغاظَةً للمشركين.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب الخبب، وهو الرمل، في الأشواط الثلاثة الأولِ كلها، في طواف القدوم.
2- المشي في الأربعة الباقية منها، ولو فاته بعض الرمل أو كله في الثلاثة الأول، لأنها سنة فات محلها. فالأربعة الأخيرة لا رمل فيها.
3- الخبب في الأشواط الثلاثة الأول كلها، هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد عمرة القضاء، فيكون ناسخاً للمشي بين الركنين في عمرة القضاء، لأنه متأخر، ولأن الضعف المانع من الرمل فيها، قد زال.
4- رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال سببه، لتذكر تلك الحال التي كانوا عليها.
فنحن نرمل إحياء لتلك الذكرى.
5- استلام الحجر الأسود في ابتداء كل طواف، وعند محاذاته في كل طوفة لمن سهل عليه ذلك، وتقدم مشروعية تقبيله.
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حَجةِ
الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنْ.
والمحجن: "عَصا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ".
الغريب:
المِحْجَن. بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم، عصاً محنية الرأس.
المعنى الإجمالي:
طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد تكاثر عليه الناس.

(1/397)


منهم: - من يريد النظر إلى صفة طوافه.
ومنهم: - من يريد النظر إلى شخصه الكريم، فازدحموا عليه.
ومن كمال رأفته بأمته ومساواته بينهم: أن ركب على بعير فأخذ يطوف عليه ليتساوى الناس في رؤيته، وكان معه عصاً محنية الرأس، فكان يستلم بها الركن ويقبل الحجر كما جاء في رواية مسلم لهذا الحديث.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز الطواف راكباً مع العذر لأن المشي أفضل، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة. قال ابن دقيق العيد: وهو أن الشيء قد يكون راجحاً بالنظر.
إلى محله، فإذا عارضه أمر آخر أرجح منه قدم على الأول من غير أن تزول فضيلة الأول. فإذا زال المعارض الراجح عاد الحكم الأول.
2- استحباب استلام الركن باليد إن أمكن، وإلا فَبِعَصَا ونحوها، بشرط ألا يؤذي به الناس.
3- جاء في مسلم زيادة "ويقبل المحجن" وأخرج مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "أنه استلم الحجر بيده ثم قبلها" قال في فتح الباري: وبهذا قال الجمهور إن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده وإذا لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء وقبل ذلك الشيء.
4- إظهار العالم أفعاله مع أقواله لتحصل به القدوة الكاملة والتعليم النافع.
5- قال ابن دقيق العيد: واستدل بالحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، من حيث إنه لا يؤمن بول البعير في أثناء الطواف في المسجد.
ولو كان نجساً، لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة، وقد منع - لتعظيم المساجد – ما هو أخف من هذا. والأصل الطهارة إلا بدليل، والدليل هنا أيد الأصل.
6- قال شيخ الإسلام: والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم ويأتي بعمرة مكية فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ولا رغَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/398)


الحديث الخامس
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا قال: لَمْ أَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ
الْبَيْتِ إلا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِييْنِ.
الغريب:
اليمانيين: نسبة إلى اليمن تغليباً، كالقمرين، للشمس، والقمر، والعمرين لأبي بكر وعمر، والأبوين للأب والأم.
والمراد بهما، الركن اليماني، والركن الشرقي، الذي فيه الحجر الأسود.
المعنى الإجمالي:
للبيت أربعة أركان، فللركن الشرقي منها فضيلتان:
1- كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام 2- وكون الحجر الأسود فيه.
والركن اليماني له فضيلة واحدة، وهو كونه على قواعد إبراهيم.
وليس للشامي والعراقي شيء من هذا، فإن تأسيسهما داخل عن أساس إبراهيم حيث أخرج الحجر من الكعبة من جهتهما.
ولهذا فإنه يشرع استلام الحجر الأسود وتقبيله، ويشرع استلام الركن اليماني بلا تقبيل.
ولا يشرع في حق الركنين الباقيين، استلام ولا تقبيل.
والشرع مبناه على الاتباع، لا على الإحداث والابتداع. ولله في شرعه حكم وأسرار.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب استلام الركنين اليمانيين.
والمستحب في حق الطائف، استلام وتقبيل الحجر الأسود إن أمكن بلا مشقة، فإن لم يمكن، استلمه فقط بيده، وَقَبَّلَ يَده، وإن لم يمكن استلمه بعَصاً ونحوها، وقبَّل ما استلمه به.
فإن آذى وشقَّ على نفسه أو غيره، أشار إليه ولم يُقَبِّل يده.
والركن اليماني إن تمكن من استلامه استلمه، وإن لم يتمكن لم يُشِرْ إليه لأنه لم يرد، والشرع في العبادات نقل وسماع.
قال شيخ الإسلام: أما الركن اليماني فلا يقبل على الصحيح. وأما سائر جوانب البيت والركنان الشاميان ومقام إبراهيم فلا يقبل ولا يتمسح به

(1/399)


باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أنه لا تقبل الحجرة النبوية ولا يتمسح بها لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق. فإذا كان هذا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقبر غيره أولى لا يقبل ولا يستلم، وأما الطواف بشيء من ذلك فهو من أعظم البدع المحرمة.
2- عدم مشروعية استلام غير الركنين اليمانيين من أركان الكعبة ولا غيرها من المقدسات، كمقام إبراهيم، وجبل الرحمة في "عرفة" والمشعر الحرام في "مزدلفة" وروضة النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وصخرة بيت المقدس وغيرها.
فإن الشرع يؤخذ عن الشارع بلا زيادة ولا غُلُوّ، ولا نقصان ولا جفاء.
ومن شرع عبادة لم يشرعها الله ورسوله، فقد كذَّب الله سبحانه في قوله {الْيَوْمَ أكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} واستدرك على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها".
وإننا لنرى من يُخِلُّ بصلاة الفرض، فيسلم مع الإمام أو قبله ليكون الأول في تقبيل الحجر الأسود. وكل هذا من آثار الجهل وقلة الناصحين والمرشدين.
فلقد انصرفنا إلى حب الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة، وتركنا أوامر الله تعالى وراء ظهورنا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1/400)


بَابُ التمتّع
الأنساك ثلاثة: 1- تمتع 2- وقران 3- وإفراد
أما التمتع فهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يفرغ منها، ويحرم بالحج في عامه.
وأما القران: فهو أن يحرم بهما جميعاً، أو يدخل الحج على العمرة، فتتداخل أفعالهما.
وأما الإفراد فهو أن يحرم بالحج مُفْرِداً له عن العمرة.
واختلف العلماء في أفضلها، ويأتي - إن شاء الله - في الأحاديث القادمة.
الحديث الأول
عَنْ أبي جَمْرة نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضَّبْعِيِّ، قال: سَألتُ ابْنَ عَبَّاس عَنِ الْمُتْعَةِ فَأمَرَنِي بِهَا.
وَسَألتُهُ عَنْ الْهَدْيِ، قال: فِيهِ جَزُورٌ أوْ بَقَرَةٌ، أوْ شَاةٌ، أوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ.
قَالَ: وَكَأنَّ أُنَاساً كَرِهُوهَا فَنِمْتُ، فَرَأيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إنْسَاناً يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ،
وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلةٌ.
فأتَيْتُ ابْنَ عَبَّاس، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: الله أَكْبَرُ، سُنَّة أَبِي القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.
الغريب:
الجزور: هو الذكر أو الأنثى من الإبل.
الشاة: هي الذكر أو الأنثى من الضأن أو المعزى.
شِرْك: أي مشاركة في ذبيحة من البقر أو الإبل.
المعنى الإجمالي:
كان العرب في الجاهلية، يَعُدُّونَ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ويقولون: إذا عفا (1) الأثر، وبرئ الدبر (2) وانسلخ صفر (3) حلت العمرة لمن اعتمر، حتى جاء الإسلام فأبطل هذه العقيدة بقوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
وألغاها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ اعتمر في أشهر الحج بعمرة مفردة، وجمع بينها وبين حجته، لأنه أحرم قارناً.
ومع هذا فقد بقيت بقية من تلك العقيدة في نفوس بعض المسلمين، من أهل الصدر الأول.
ولهذا سأل أبو حمزة ابن عباس عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فأمره بها، ثم سأله عن الهدي المقرون معها في الآية، فاخبره أنه جزور، وهي أفضله، ثمَّ بقرة، ثم شاة، أو سُبع البدنة أو البقرة مع من اشتركوا فيها للهدي أو الأضحية.
_________
(1) عفا: زال.
(2) الدبر: القروح التي تصيب جلد الدابة.
(3) صفر: هو الشهر المعروف.

(1/401)


فكأنَّ أحداً عارض أبا حمزة في تمتعه، فرأى هاتفاً يناديه في المنام "حج مبرور، ومتعه متقبلة".
فأتى ابْنَ عباس ليبشره بهذه الرؤيا الجميلة.
ولما كانت الرؤيا الصالحة جزءاً من أجزاء النبوة، فرح ابن عاس بها، واستبشر أن وفقه الله تعالى للصواب، فقال: الله أكبر هي سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز التمتع والإتيان بالعمرة في أشهر الحج، كما انعقد عليه الإجماع فيما بعد.
2- أن المراد بالهدي المذكور في قوله تعالى: {فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} البدنة أو البقرة، أو الشرك فيهما أو الشاة.
3- الاستئناس بالرؤيا فيما يقوم عليه الدليل الشرعي، تأييداً بها، لأنها عظيمة القدر في الشرع، وجزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. قال ابن دقيق العيد: هذا الاستئناس والترجيح لا ينافي الأصول.
4- الفرح بإصابة الحق، والاغتباط به، لأنه علامة التوفيق.
الحديث الثاني
عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّها قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، مَا شَأْنُ النَّاس حَلُّوا
مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟
فقال: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وقَلَّدْتُ هَدْيي، فلا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ".
المعنى الإجمالي:
أحرم النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة والحج، وساق الهدي وَلَبَّدَ رأسه بما يمسكه عن الانتشار، لأن إحرامه سيطول وأحرم بعض أصحابه كإحرامه، وبعضهم أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، وأكثرهم لم يسق الهدي، وبعضهم ساقه.
فلما وصلوا إلى مكة، وطافوا، وسعوا، أمر من لم يسق الهدي من المفردين والقارنين، أن يفسخوا حجهم ويجعلوها عمرة، ويتحللوا.
أما هو صلى الله عليه وسلم، ومن ساق الهدي منهم، فبقوا على إحرامهم ولم يحلوا.
فسألته زوجه "حفصة" لم حل الناس ولم تحل؟ قال: لأني لَبَّدْتُ رأسي، وَقلَّدْتُ هَدْيي وسُقْتُهُ، وهذا مانع لي من التحلل حتى يبلغ الهدي محله، وهو يوم انقضاء الحج يوم النحر.

(1/402)


ما يؤخذ من الحديث:
1- كون النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، كما تقدم تحقيقه.
2- مشروعية سَوْقِ الهدي من الأماكن البعيدة، وأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- مشروعية تقليد الهدي، وذلك بأن يوضع في رقابها قلائد من الأشياء التي لم يجر عادة بتقليدها بها، والحكمة في ذلك إعلامها لتحترم فلا يتعرض لها.
4- مشروعية تلبيد الشعر المرسل في الإحرام، كما هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يجعل في الشعر ما يمسكه من الانتفاش.
5- أن سوق الْهَدْي من الحل، يمنع المحرم من التحلل حتى ينحر هديه يوم النحر.
6- إذا لم يَسُق الْهَدْيَ، فَيُشرع له فسْخَ حجه إلى عمرة، ويحل منها، ثمَّ يحرم بالحج في وقته.
الحديث الثالث (1)
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عَنْهُ، قال: أُنْزِلَتْ آيةُ الْمُتْعَةِ في كِتَابِ الله فَفَعَلْنَاهَا مَعَ
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِحُرْمَتِهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ،
فَقالَ رَجُلٌ بِرأْيِهِ مَا شَاءَ.
قالَ البخاري: يُقَالُ: إنَّه عُمَرُ.
ولمسلم: نَزَلَتْ آيةُ الْمُتعَةِ - يعنِي متعةً الحج - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم،
ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ. ولهما بمعناه.
المعنى الإجمالي:
ذكر" عمران بن حصين" رضي الله عنه المتعة بالعمرة إلى الحج.
فقال: إنها شرعت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه.
وهذه هي الأصول العظام في الدلالة على الأحكام الشرعية.
فأما الكتاب، فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي} .
وأما السنة، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، وإقراره عليها.
وأما الإجماع، فقد فعلها بعضهم، مع علم من لم يفعلها وسكوته.
_________
(1) هذا الحديث حسب وضع المصنف وترتيبه هو رقم 228، ولكني قدمته إلى هنا لمناسبة الحديث الذي قبله، فكلاهما في مشروعية المتعة. اهـ الشارح.

(1/403)


وبعد هذا لم ينزِل ما ينسخها، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية لم تنسخ بعد هذا، فكيف يقول رجل برأيه وينهى عنها؟.
يشير بذلك إلى نَهْي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنها في أشهر الحج، اجتهاداً منه ليكثر زوار البيت في جميع العام، لأنهم إذا جاءوا بها مع الحج، لم يعودوا إليه في غير موسم الحج.
وكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أولى بالاتباع من قول كل أحد، مهما كان.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية التمتع وثبوته في الكتاب والسنة.
2- أنه قد توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وحكمها باقٍ لم ينسخ.
3- أنه لا يحل الأخذ برأي أحد يخالف ما ورد عن الله تعالى، أو عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
4- قوله: "لم ينزل قرآن يحرمها" دليل على ثبوت النسخ في الشريعة وأن القرآن ينسخ بالقرآن.
5- قوله: ولم ينه عنها دليل على جواز نسخ القرآن بالسنة.
ووجهته أنه لو لم يكن النسخ ممكناً، لما احتاج إلى الاحتراز في رفع حكم التمتع، الثابت بالقران، من نهي النبي صلى الله عليه وسلم.
6- قوله: "قال رجل برأيه ما شاء" فسره البخاري بعمر بن الخطاب. وروي أيضا عن عثمان ومعاوية رضي الله عنهم.
وقصدهم أن لا يقتصر الناس على زيارة البيت في أشهر الحج فقط، بل ليقصد في جميع العام.
ولكن كتاب الله تعالى وسنة رسوله مقدمان على كل اجتهاد. والله أعلم بأسرار شرعه.
والآن مع إجماع الناس على جواز التمتع وإتيانهم بالعمرة في أشهر الحج، لَم يَخْلُ البيت من الزوار في كل وقت.
نسأل الله تعالى أن يُعْلِيَ كلمته، وينشر دينه، ويقيم شعائره. آمين.
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي
حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِيْ الحُلَيْفَةَ، وَبَدَأَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أهَلَّ بِالْحَجِّ.
فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلُّ بالْعُمْرَةِ إلَى الْحجِّ.

(1/404)


فَكَانَ مِنَ النَّاس مَنْ تَمَتَّعَ، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ.
فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيُ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ للنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكمْ قَدْ أهْدَى فإنَّهُ
لا يُحِلُّ مِنْ شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أهْدَى فَلْيَطُفْ
بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيُحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ
هَدْيَاً، فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وسَبَعْةَ إِذا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ".
فَطَافَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِيْنَ قَدِمَ إلى مَكَّة وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، أَوَّلَ شيءٍ،
ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَة أشْوَاطٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَىَ أرْبَعة، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بالْبَيْت عِنْدَ
الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأتَى الصَّفَا، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا والمرْوَةِ سَبْعَةَ أشْواطٍ ثُمَّ لَمْ
يُحِلَّ مِن شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ.
وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كلِّ شَيء حَرُمَ عليه.
وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، مَنْ أهْدَى فَسَاق الهَدْيَ مِنَ النَّاس.
المعنى الإجمالي:
لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة "ميقات أهل المدينة" ليحج حجته التي ودع فيها البيت ومناسك الحج، وودع فيها الناس، وبلَّغهم برسالته وأشهدهم على ذلك، أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج، فكان قارناً. والقِرَانُ تمتع.
فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبعضهم أحرم بالنسكين جميعاً.
وبعضهم أحرم بالعمرة، ناوياً الحج بعد فراغه منها.
وبعضهم أفرد الحج فقط. فقد خيًرهم بين الأنساك الثلاثة.
وساق صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه الْهَدْيَ معهم من ذي الحليفة، وبعضهم لم يسقه.
فلما دَنَوْا من مكة حضَّ من لم يَسُق الهدي من المفردين والقارنين إلى فسخ الحج وجَعْلهَا عمرة.
فلما طافوا وسعوا، أكد عليهم أن يقصروا من شعورهم، وليتحللوا من عمرتهم ثم

(1/405)


يحرموا بالحج ويهدوا، لإتيانهم بنسكين بسفر واحد.
فمن لم يجد الهدي، فعليه صيام عشرة أيامٍ، ثلاثة في أيام الحج، يدخل وقتها بإحرامه بالعمرة، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة، استلم الركن، وطاف سبعة، خب ثلاثة، لكونه الطواف الذي بعد القدوم، ومشى أربعة، ثم صلى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم أتى إلى الصفا، فطاف بينه وبين المروة سبعا، يسعى بين العلمين، ويمشي فيما عداهما، ثم لم يحل من إحرامه حتى قضى حجه، ونحر هَدْيَه يوم النحر.
فلما خلص من حجه ورمى جمرة العقبة، ونحر هديه وحلق رأسه يوم النحر، وهذا هو التحلل الأول، أفاض في ضحوته إلى البيت، فطاف به، ثم حلَّ من كل شيء حرم عليه حتى النساء، وفعل مثله من ساق الهدي من أصحابه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعاً، وهو القران، ويأتي تحقيق الخلاف إن شاء الله تعالى.
2- مشروعية سوق الهدي من الحل، فهو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
3- جواز الأنساك الثلاثة: 1- التمتع 2- والقران 3- والإفراد، إذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها كلها، ويأتي الخلاف في بيان أفضلها.
4- مشروعية فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي، وتحلله، وبقاء من ساقه على إحرامه حتى ينتهي من حجه يوم النحر، فيحل. وقال شيخ الإسلام: وهكذا يقولون في كل متمتع ضاق عليه الوقت، فلم يتمكن من الطواف قبل الوقوف بعرفة فإنهم يأمرونه بإدخال الحج على العمرة ويصير قارناً.
ويأتي تحقيق الفسخ: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ إن شاء الله تعالى.
5- أن فسخ الحج لمن لم يسق الهدي، يكون ولو بعد طواف القدوم والسعي، وينقلبان للعمرة.
6- أن على من لم يجد الهدي، صيام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة بعد الرجوع إلى أهله.
فأما الثلاثة، فلا تصح قبل الإحرام بالعمرة بالإجماع، واتفقوا على مشروعيتها بعد الإحرام بالحج.

(1/406)


وهل يجزيء قبله أو لا؟ قولان.
ومذهبنا جوازه، لوجود سببه وهو الإحرام بالعمرة لأن موجب الفدية هنا هو الإتيان بالعمرة والحج في سفر واحد.
والصيام بعد الإحرام بالعمرة شبيه بإخراج كفارة اليمين بعد عقده وقبل الْحِنْث.
7- مشروعية طواف القدوم لغير المتمتع، الذي لم يسق الهدي، وهو سنة، لأنه تحية المسجد الحرام.
8- استلام الحجر الأسود في أول الطواف، وتقدم مشروعية ذلك، في كل طوافه، إن سهل.
9- الرمل في الثلاثة، من طواف القدوم، والمشي في الأربعة الباقية.
10- مشروعية ركعتي الطواف، عند مقام إبراهيم.
11- السعي بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم سبعاً، وهو أحد أركان الحج على الصحيح. ورجح الموفق ابن قدامة أنه واجب، وليس بركن.
12- المولاة بين الطواف والسعي مستحب، وقيل: شرط.
13- أن سائق الهدي يتحلل من حجه يوم النحر بعد الرمي، والنحر للتحلل الأول.
14- طواف الإفاضة هو الركن الأعظم للحج.
والسنة والأفضل، أن يكون يوم النحر، بعد الرَّمْي وَالنَّحرِ.
15- التحلل الكامل بعد طواف الإفاضة من كل شيء حرم عليه بإحرامه.
16- أن هذه الأفعال من النبي صلى الله عليه وسلم، تشريع لأمته.
فكل من أحرم كإحرامه، فعليه مثل ما عليه لحديث "خذوا عني مناسككم".
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء (1) : هل حج النبي صلى الله عليه وسلم مُفْرِداً، أو قارناً، أو معتمراً؟
فأما من يرى أنه حج مفرداً، فقد تمسك بأدلة.
منها- ما في الصحيحين عن عائشة: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهلَّ رسول الله
_________
(1) لخصت هذه الخلافات وأدلتها من كتاب "زاد المعاد" لابن القيم رحمه الله، وزدت فيها بعض التوضيحات.

(1/407)


بالحج". وتقسيمها صريح في أن إهلاله بالحج وحده ثم ساق "ابن القيم" أحاديث في الصحيحين وغيرهما كلها تدور على أنه حج "مفرداً" وأنه أهل "بالْحج" وأن حجه لم يكن عمرة.
وذهبت طائفة من العلماء: إلى أنه حج [متمتعاً] فحُجتُهم أنهم سمعوا [أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع] و [المتمتع] عندهم من أهل بعمرة مفردة في أشهر الحج، ناوياً الإحرام بعد الفراغ منها بالحج.
وما روي عن معاوية [أنه قصَّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص في العشر (1) ] .
وذهبت طائفة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج [قارناً] ، وهذا هو الصحيح الذي يسهل رد الأدلة الصحيحة إليه.
وقد ساق له "ابن القيم" من الأدلة ما يزيد على عشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك، كثير منها في الصحيحين أو أحدهما.
منها: - ما رواه مسلم من حديث ابن عمر "أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وما أخرجاه في الصحيحين عن حفصة: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم "ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هَدْيِي ولبَّدتُ رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج". وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولحللت معكم". وهذا صريح في أنه استمر في حجه "ولم يتحلل إلا يوم النحر"، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "سقت الهدي وقرنت".
وقد قال الإمام أحمد: لاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.
وشيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله من الذين يرون أنه حج قارناً،: ويوفق بين الروايات التي ظاهرها الاختلاف فيقول:
والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة، إلا باختلاف يسير، يقع مثله في غير ذلك.
فإن الصحابة ثبت عنهم "أنه تمتع" والتمتع عندهم، يتناول القران.
والذين روي عنهم "أنه أفرد" رُوِيَ عنهم أنه تمتع، ويريدون به إفراد أعمال الحج، بحيث لم يسافر للنسكين سفرين، ولم يطف لهما طوافين، وَلَم يَسْعَ لهما سعيين.
_________
(1) الحديث بهذا اللفظ مما أنكره الناس، والحديث الذي في البخاري عن معاوية لم يذكر فيه [في العشر] . اهـ. الشارح.

(1/408)


فيقال تمتع تَمَتُّعَ قران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النسكين.
وقد فسر التمتع المذكور في الآية، بما يشمل الأمرين، القران، والتمتع المعروف لدى الفقهاء بشرطه.
واختلفوا: أي الأنساك الثلاثة أفضل.
فالمشهور في مذهب الإمام أحمد، أن التمتع أفضل الثلاثة.
وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والمتعة أحب إِليَّ، وهو آخر الأمرين من رسول الله قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولحللت معكم".
فهو تأسف على فواته، وأكد على أصحابه أن يفسخوا حجهم إليه.
وممن اختار التمتع، ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وهو أحد قَوْلَي الشافعي.
وذهب الثوري، وأهل الرأي: إلى اختيار القران، لما في الصحيحين عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بهما جميعاً "لبيك عمرة وحجاً".
فهو نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان الله ليختار لنبيه، إلا أفضل الأنساك.
وهناك مسلك وسط، تجتمع فيه الأدلة، وهو أن التمتع أفضل لمن لم يسق الهدي، كالذين أكد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا حجهم إلى عمرة.
والقران أفضل في حق من ساق الهدي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول، رواية عن الإمام "أحمد".
قال "ابن القيم" رحمه الله: وهذه طريقة شيخنا. يعنى "ابن تيمية" رحمه الله. وقال: هي التي تليق بأصول أحمد.
أما مذهب مالك، وظاهر مذهب الشافعي، فالإفراد.
ودليلهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج" متفق عليه.
وتقدم أن معنى الإفراد في هذا الحديث وأمثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن، فدخلت أفعال العمرة في الحج، فقيل: مفرد، والحق أنه قارن، كما صحت بذلك الأحاديث.

(1/409)


بَابُ الهَدْي
الهدي: ما أُهدي إلى البيت الحرام من الإبل، والبقر، والغنم وغيرها.
ويراد بتقديمه إلى البيت، التوسعة والإحسان إلى جيرانه وزائريه، من الفقراء، والمساكين. وهو من أفضل القرب عند الله تعالى.
لأن الصدقة، والإنفاق من أفضل العبادات.
لاسيما إذا كان في البلد الحرام، وعلى المنقطعين لعبادة الله تعالى فيه، والمجاورين لبيته.
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا قَالَت: فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِي،
ثُمَّ أشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا - أو قَلَّدْتُهَا – ثمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ، وَأقَامَ بِالْمَدِينَةِ.
فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيءٌ كَانَ لَهُ حَلالاً.
الغريب:
القلائد: جمع قلادة، وهي ما يحاط به العنق، وتكون من الخيوط، والحديد.
والمراد هنا، قلائد الهدي، وتوضع على خلاف العادة.
وكانوا يجعلونها من القِرب، والنعال، وخيوط الصوف، ليعلم أنها هَدْيٌ فتحترم.
أشعرتها: الإشعار، معناه، الإعلام، والعبادات شعائر الله لأنها علامات طاعته.
والشعيرة: - هنا- ما يهدى إلى البيت من بهيمة الأنعام، فتُعَلَّمُ، وذلك بإزالة شعر أحد جانِبَيْ سنام البدنة أو البقرة، وكشطه حتى يسيل منه الدم، ليعلم الناس أنها مُهْدَاة إلى البيت فلا يتعرضوا لها.
فتلت: لويت.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظم البيت العتيق ويقدسه.
فكان إذا لم يصل إليه بنفسه، بعث إليه الهدي، تعظيماً له، وتوسعة على جيرانه.
وكان إذا بعث الْهَدْيَ أشعرها وقلَّدها، ليعلم الناس أنها هدي إلى البيت الحرام، فيحترموها، ولا يتعرضوا لها بسوء.
فذكرت عائشة رضي الله عنها – تأكيداً للخبر-: أنها كانت تفتل قلائدها.
وكان إذا بعث بها - وهو مقيم في المدينة - لا يجتنب الأشياء التي يجتنبها المحرم من النساء، والطيب، ولبس المخيط ونحو ذلك، بل يبقى محلاً لنفسه كل شيء كان حلالاً له.

(1/410)


ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب بعث الهدي إلى البيت الحرام من البلاد البعيدة ولو لم يصحبها المُهْدِي، لأن الإهداء إلى البيت صدقة على مساكين الحرم، وتعظيم للبيت، وتقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء في طاعته.
2- استحباب إشعار الهدي وتقليده، بالقرب، والنعال، ولحاء الشجر، مما هو خلاف عادة الناس، ليعرفوه فيحترموه.
3- أن المُهْدِي لا يكون محرماً ببعث الهدي، لأن الإحرام هو نية النسك.
4- أن المُهْدِي لا يحرم عليه أيضا ما يحرم على المحرم من محظورات الإحرام. قال ابن المنذر: قال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً، ولا يجب عليه شيء. وقال بعض العلماء: وإلى ذلك ذهب فقهاء الأمصار.
5- جواز التوكيل في سوقها إلى الحرم، وذبحها وتفريقها.
6- أن الشرع يكون حيث المصلحة المحضة، أو المصلحة الراجحة. فإن إشعار الإبل والبقر المهداة، فيه تعذيب لها.
ولكن مصلحة إشعارها، لتعظيمها، وإظهار طاعة الله في إهدائها، راجح على هذه المفسدة اليسيرة.
7- أن الأفضل بعثها مقلدة، من أمكنتها، لا تقليدها عند الإحرام، لتكون محترمة على من تمر به في طريقها، وليحصل التنافس في أنواع هذه القرب المتعدِّي نفعها.
الحديث الثاني
عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا قَالَت: أهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً غنَما ً (1) .
المعنى الإجمالي:
أكثر ما كان يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت، الإبل، لكونها أعظم نفعاً، وأكثر أجراً.
وذكرت عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم، أهدى مرةً غنماً.
والإهداء من بهيمة الأنعام ومن غيرها، جائز، ولكن
_________
(1) هذا اللفظ للبخاري ورواه "مسلم" كذلك، وزاد "إلى البيت فقلدها".

(1/411)


الأنعام فيها إظهار شعائر الله تعالى، وإراقة الدماء في مرضاته، فهو عبادتان، صدقة، وسفك دم لوجهه الكريم، بعد أن كان يسفك للأصنام والطواغيت.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز إهداء الغنم إلى البيت الشريف.
2- أن الأكثر من هديه صلى الله عليه وسلم أفضل الهدايا والأموال عند العرب، وهي الإبل.
الحديث الثالث
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَأىَ رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً،
قال: "ارْكَبْهَا" قال: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قال: "ارْكبْهَا" فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم.
وفي لفظ: "قَالَ فِي الثَّانِيَةِ أوِ الثَّالِثَةِ: "ارْكبْهَا، وَيْلَكَ"، أو "وَيْحَكَ".
الغريب:
بدنة: بفتح الباء والدال، تطلق على الإبل، والبقر، لعظم أبدانها وضخامتها.
والمراد هنا، الناقة المهداة إلى البيت، ليستقيم الجواب.
ويلك: من الويل، وهو الهلاك.
وهي كلمة تستعمل للتغليظ على المخاطب، بدون قصد معناها، وإنما تجرى على ألسنة العرب في الخطاب، لمن وقع في مصيبة فغضب عليه.
ويحك: كلمة يؤتى بها للرحمة، والرثاء لحال المخاطب الواقع في مصيبة.
[ويل] و [ويح] ، مصدران، يقدر فاعلهما دائماً.
المعنى الإجمالي:
ما أهدي إلى البيت لا ينتفع منه بشيء مع عدم الحاجة إليه، لأنه أخرج لوجه الله، فلا يرجع إليه.
فإن كان ثَمَّ حاجة إلى ركوبه، أو حلبه، فلا بأس، مادام ذلك لا يضره.
ولهذا لما رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يسوق بدنة، هو في حاجة إلى ركوبها، رخص له في ذلك، وأمره به.
ولكون الهدي معظماً عندهم، لا يتعرض له، قال: إنها بدنة مهداة إلى البيت فقال: اركبها وإن كانت مهداة إلى البيت.
فعاوده الثانية والثالثة، فقال: اركبها، مغلظاً له الخطاب.

(1/412)


ما يؤخذ من الحديث:
1- تعظيم العرب لِلْهَدْيِ، واحترامه في قلوبهم. ثم جاء الإسلام فزاد من احترامه.
2- جواز ركوبه وحَلْبِه مع الحاجة إلى ذلك، بما لا يضره.
وهذا أعدل المذاهب، وفيه تجتمع الأدلة.
3- إنما قيدناه (بالحاجة وعدم الضرر) لما روى مسلم عن جابر قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً".
4- أخذ من هذا الحديث البخاري رحمه الله تعالى، جواز انتفاع الواقف بوقفه.
الحديث الرابع
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضيَ الله عَنْهُ قَال: أمَرَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى
بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا، وأَجِلَّتِهَا، وأَنْ لا أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئاً، وَقَالَ:
"نَحْنُ نُعطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا".
الغريب:
بُذنه: جمع بدنة وتقدم تعريفها وضبطها و"البدن" بالجمع، فيها لغتان، 1- ضم الباء والدال. 2- وضم الباء، وسكون الدال.
أجلتها: المفرد "جُلٌّ" بضم الجيم، وجمعه "جِلال" بكسرها و"أجلة" جمع الجمع.
و"الجل"هو ما يطرح على ظهر البعير، من كساء ونحوه.
أن لا يعطي الجزار منها شيئا: أي من لحمها عوضاً عن جزارته والجزارة أطراف البعير، كالرأس واليدين والرجلين ثم نقلت إلى ما يأخذه الجزار من الأجرة لأنه كان يأخذ تلك الأطراف عن أجرته.
المعنى الإجمالي:
قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع ومعه هديه وقدم على بن أبى طالب رضي الله عنه من اليمن، ومعه هَدْيٌ.
فكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فنحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة،

(1/413)


وأمر علياً أن يقوم على نحر الباقي، وأن يتصدق بلحمها.
ولكونها قدمت لله تعالى، فلم يحب صلى الله عليه وسلم استرجاع شيءٍ منها.
ولذا أمره بالتصدق بلحمها، وجلودها وأجلتها.
وبما أنها صدقة للفقراء والمساكين، فليس لمهديها حق التصرف بها، أو بشيء منها على طريقة المعاوضة.
فقد نهاه أن يعطي جازرها منها، معاوضة له على عمله.
وإنما وعده أن يعطيه أجرته من غير لحمها، وجلودها، وأجلتها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية الهدي، وأنه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
2- الأفضل كونه كثيراً، عظيم النفع.
فقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة.
3- أن يتصدق بها، وبما يتبعها، من جلود وأجلة.
وله أن يأكل من هدي التطوع والتمتع والقران الثلث فأقل.
4- أن لا يعطي جازرها شيئاً منها، على وجه المعاوضة، بل يتصدق عليه ويهدي إليه منها. قال ابن دقيق العيد: والذي يخشى منه في هذا أن تقع المسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه الجازر من اللحم، فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر. قال البغوي: أما إذا أعطي أجرته كاملة، ثم تصدق عليه - إذا كان فقيراً - فلا بأس.
5- جواز التوكيل في ذبحها والتصدق بها.
الحديث الخامس
عَنْ زَيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ قَدْ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتهُ يَنْحَرُهَا فقال:
ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً، سُنَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
المعنى الإجمالي:
السنة في البقر والغنم وغيرهما – ماعدا الإبل - ذبحها من الحلق مضجعة على جانبها الأيسر، ومستقبلة القبلة.
وأما الإبل، فالسنة نحرها في لبتها، قائمة معقولة يدها اليسرى، لأن في هذا راحة لها، بسرعة إزهاق روحها.
ولذا لمَّا مَرَّ عبد الله بن عمر، على رجل يريد نحر بدنة مناخة، قال: ابعثها قياماً،

(1/414)


مقيدة، فهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نهج أدب القرآن في نحرها بقوله (فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهُا) يعنِي، سقطت، والسقوط لا يكون إلا من قيام.
ما يؤخذ من الحديث:
1- سنة النبي صلى الله عليه وسلم نَحْرُ الإبل قائمة مقيدة لأنه من إحسان الذبحة، والرفق بالحيوان. وتشير إلى ذلك الآية الكريمة التي سبق ذكرها. وقد أخرج البخاري عن ابن عباس: "صوافَّ قياماً".
قال سفيان بن عيينة: الصواف – بالتشديد - جمع "صافة" أي مصطفة في قيامها.
2- كراهة ذبحها باركة، لأن فيه تطويلاً في إزهاق روحها.
3- عادة الناس الآن نحرها باركة معقولة، فإذا كانوا غير قادرين على نحرها قائمة، ويخشى من عدم التمكن من إحسان ذبحها وتطعينها بما يعذبها ولا يريحها، فالأحسن أن تكون باركة حسب القدرة والمستطاع.
4- رحمة الله تعالى ورأفته بخلقه، حتى في حال إزهاق أرواحه.
وبمثل هذه الأحكام الرحيمة، والحنان العظيم، يعلم أنه دين عطف وشفقة، لا دين وحشية وعسف
فمن ينبئ الذين رَمَوْه بذلك، وهم يقتلون أبرياء بني آدم في عُقْرِ دارهم، لعلهم يفقهون؟.

(1/415)


بَابُ الغسْل لِلمُحرم
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ حُنَيْنِ: أنَّ عَبْدَ الله بْن عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخرَمَةَ
اخْتَلَفا بِالأبْوَاء
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ.
قَالَ: فَأرْسَلَنٍي ابْنُ عَبَّاسِ إلَى أَبِي أيّوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرْنَيْنِ وَهُوَ
يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هذَا؟.
فَقُلْتُ: أَنَا عَبْد الله بْنُ حُنَيْنُ أرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلَكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله
صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَه وَهُوَ مُحْرِمٌ؟.
فَوَضَعَ أَبُو أيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثّوْبِ فَطَأطَأهُ حَتَّى بَدَا لِيَ رَأْسُهُ.
ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: أُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسهِ ثُمَّ حَرَّك رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقبَلَ
بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُم قَالَ: هكَذَا رَأْيْتُه صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.
وفي رواية: فَقَالَ الْمِسْوَر لابْنِ عَبَّاسٍ: لا أُمَارِيكَ بَعْدَهَا أبَدَاً.
القرنان: العمودان اللذان تشد فيهما الخشبة، التي تعلق عليها بكرة البئر.
الغريب:
الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة ممدوداً، موضع بين مكة والمدينة. يقع شرقي قرية مستورة بنحو ثلاثة كيلو مترات. وسيل الأبواء ومستورة واحد. وما تزال الأبواء معروفة بهذا الاسم حتى الآن.
القرنان: بفتح القاف تثنية قرن وهما الخشبتان القائمتان على رأس البر وتمد بينهما خشبة تعلق عليها البكرة أو يجر عليها المستقي الحبل إذا لم يوجد بكرة وتسمى هاتان الخشبتان في نجد الآن "القامة".
طأطأه: أي طامنه يعني الثوب ليرى الرسول رأسه من ورائه.
أماريك: أجادلك.
المعنى الإجمالي:
اختلف عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم، في جواز غسل المحرم رأسه.
فذهب المسور إلى المنع، خشية سقوط الشعر من أثر الغسل، ولأن في الغسل ترفُّهاً وينبغي للمحرم أن يكون أشعث أغبر.
وذهب ابن عباس إلى الجواز، استصحاباً للأصل، وهو الإباحة، إلا بدليل "وهذا هو الفقه".
فأرسلا عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهم في طريق مكة ليسأله فوجده عبد الله بن حنين – من تسهيل الله وتبيينه الأحكام لخلقه - يغتسل عند فم البئر،

(1/416)


ومستتراً بثوب وهو محرم.
فسلم عليه وأخبره أنه رسول ابن عباس ليسأله: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم.
فمن حسن تعليم أبي أيوب رضي الله عنه، واجتهاده في تقرير العلم، أرخى الثوب وأبرز رأسه، وأمر إنساناً عنده أن يصب الماء على رأسه، فصبه عليه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر.
وقال لعبد الله بن حنين: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل.
فلما جاء الرسول وأخبرهما بتصويب ما رآه عبد الله بن عباس - وكان رائدهم الحق، وبغيتهم الصواب -، رجعٍ المسور رضي الله عنه، واعترف بالفضل لصاحبه، فقال: لا أماريك أبداً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز غسل المحرم رأسه، ويستوي فيه أن يكون ترفهاً أو تنظفاً أو تبرداً أو عن جنابة.
2- جواز إمرار اليد على شعر الرأس بالغسل إذا لم ينتف شعراً، ويسقطه.
3- في الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها، والرجوع إلى من يظن عنده العلم بها.
4- قبول خبر الواحد في المسائل الدينية. وأن العمل به سائغ شائع عند الصحابة.
5- الرجوع إلى النصوص الشرعية عند الاختلاف، وترك الاجتهاد والقياس عندها.
6- جواز السلام على المتطهر في وضوء أو غسل، ومحادثته عند الحاجة.
7- استحباب التستر وقت الغسل، فإن خاف من ينظر إليه وجب.
8- جواز الاستعانة في الطهارة بالغير.
9- سؤال ابن عباس أبا أيوب، يفيد أن عنده علماً نقلياً عن غسل المحرم، وأن أبا أيوب يعرف ذلك، فقد سأله عن كيفية الغسل، لا عن أصله.
10- قال شيخٍ الإسلام: ويستحب الغسل للإحرام، ولو كانت (المحرمة) نفساء أو حائضاً. وإن احتاج (المحرم) إلى التنظيف كتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك، فعل ذلك.

(1/417)


وهذا ليس من خصائص الإحرام، ولكنه مشروع بحسب الحاجة، وهكذا يشرع للجمعة والعيد على هذا الوجه.
قلت: والغسل الذي تجادل فيه ابن عباس والمسور ليس الغسل من أجل الإحرام، وإنما هو الغسل أثناء الإحرام، وهو الذي فعله أبو أيوب.

بَابُ فَسخ الحَج إلى العمْرة
الحديث الأول
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قالَ: أَهَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ بالحَجِّ وَلَيْس مَعَ
أحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ.
وَقَدِمَ عَلِيٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَال: أهَلَلْتُ بما أهَلَّ بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمرَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أن يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيَطُوفُوا ثمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إلاَّ مَنْ كانَ
مَعَهُ الْهدْيُ.
فَقالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى "مِنىً" وَذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ؟
فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا استَدْبَرْتُ مَا
أهْدَيْت، وَلَوْلا أَنَّ مَعِي الْهدْيَ لأحَلَلْتُ ". وَحَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ
أنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قالت: يَا رَسُولَ الله تنْطَلِقونَ بِحجَّةٍ
وَعُمْرةٍ وَأنْطَلِقُ بِحَجِّ! ‍‍ فَأمَرَ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنِ أبِى بَكْرٍ بِأن يَخْرُجَ مَعَهَا إلى التَنْعِيمِ،
فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ.
المعنى الإجمالي:
يصف "جابر بن عبد الله" رضيَ الله عنهما حجة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وأصحابه أهلُّوا بالحج، ولم يَسُقِ الْهَدْيَ إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله. وكان على بن أبي طالب في اليمن، فقدم، ومن فقهه أحرم وعلَّق إحرامه بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما قدموا مكة، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا إحرامهم من الحج إلى العمرة، ويكون طوافهم وسعيهم للعمرة، ثم يقصروا ويُحِلُّوا التحلل الكامل. هذا في حق من لم يسق الهدي.
أما من ساقه - ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم فبقوا - بعد طوافهم وسعيهم - على إحرامهم.
فقال الذين أُمِرُوا بفسخ حجهم إلى عمرة - متعجبين ومستعظمين -: كيف ننطلق إلى "مِنى" مُهِلين بالحج، ونحن حديثو عهد بجماع نسائنا؟.
فبلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مقَالَتَهم واستعظام ذلك في

(1/418)


نفوسهم، فطمأن أنفسهم بما هو الحق وقال:
لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سُقْتُ الهَدْىَ الذي منعني من التحلل، ولأحللت معكم. فرضيت أنفسهم واطمأنت قلوبهم.
وحاضت عائشة قُرْبَ دخولهم مكة، فصارت قارنة، لاًن حيضها منعها من الطواف بالبيت، وفعلت المناسك كلها غير الطواف والسعي.
فلما طهرت وطافت بالبيت طواف حجها، صار في نفسها شيء، إذ كان أغلب الصحابة – ومنهم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ـ قد فعلوا أعمال العمرة وحدها وأعمال الحج. وهي قد دخلت عمرتها في حجها.
فقالت: يا رسول الله، تنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟.
فطيَّب خاطرها، وأمر أخاها عبد الرحمن أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم ومعه الهدي، فهو أفضل وأكمل.
2- أن ترك سوق الهدي جائز، لأن أكثر الصحابة لم يسقه.
ويأتي تَمَنِّيهِ صلى الله عليه وسلم عدم سَوْقِهِ الهدي، وتوجيه ذلك إن شاء الله تعالى.
3- فقه علي رضي الله عنه، فإنه حين لم يعرف أيّ الأنساك أفضل، علَّقه بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.
4- جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير.
5- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يفسخوا حجهم إلى عمرة.
فإذا فرغوا من أعمال العمرة حلُّوا، ليحرموا بالحج فيقتضي الأمر فعل ما فعلوه ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه، إن شاء الله تعالى.
6- أن من ساق الهدي، منعه ذلك من الإحلال، وبقي على إحرامه، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم.
7- جواز المبالغة في الكلام، لاستيضاح الحقائق، وتبيين الأمور.
8- تَمنِّي النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم يسق الهدي، وأنه فسخ حجه إلى عمرة منها، وأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم.
9- جواز تمني الأمور الفائتة إذا كانت من مصالح الدين، لأنه رغبة في الخير، وندم عليه. فهو من أنواع التوبة.
10- جواز فعل المناسك للحائض، ماعدا الطواف بالبيت، فممنوع. إما لاشتراط الطهارة في الطواف، وإما خشية تلويث المسجد.
11- أن السعي من شرطه أن يقع بعد طواف نسك. ولذا لم يصح من الحائض السعي،

(1/419)


لا لاشتراط الطهارة فيه، ولكن لأنه لابد أن يقع بعد طواف نسك وهو معدوم في حق الحائض.
12- جواز الإتيان بالعمرة من أدنى الحل بعد الحج ولا تسنُّ لأنه لم يقع من الصحابة إلا هذه المرة من عائشة. ولم ينقل عن عائشة أنها فعلتها بعد ذلك.
ولو كانت العمرة المشروعة، لما تركوها وهم في مكة، سهلة عليهم، ميسرة لهم.
13- أن الإحرام بالعمرة لابد أن يكون من خارج الحرم، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ولم يخالف إلا قلة بخلاف الحج، فإنه من مكة لمن هو فيها.
والفرق بين الحج والعمرة، أن العمرة جميع أعمالها في الحرم، فيخرج للحل للجمع فيها بين الحل والحرم.
وأما الحج فبعض أعماله في الحرم، وبعضها في الحل، وهو الوقوف بعرفة.
14- قوله: "أهل بالحج" ظاهره أنه مُفرِد.
وتقدم الجمع بين روايات ما يوهم الإفراد أو التمتع، وأن الصحيح أنه قارن.
اختلاف العلماء، في فسخ الحج إلى عمرة:
أجمع العلماء على أن الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، قد فسخوا حجهم إلى عمرة، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا: هل هذا الفسخ لمن بعدهم أيضاً، أم لهم خاصة في تلك الواقعة؟.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء إلى أن هذا الفسخ خاص بالصحابة في تلك السنة، ولا يتعدَّاهم إلى غيرهم.
وذهب الإمام أحمد، وأهل الحديث، والظاهرية. ومن الصحابة ابن عباس وأبو موسى الأشعري: ـ إلى الفسخ.
استدل الأولون بما رواه أبو داود عن "أبي ذر" كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: "لم يكن ذلك إلا للركب، الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولـ"مسلم" عن "أبي ذر" كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وبما رواه الخمسة عن الحارث بن بلال، عن أبيه بلال بن الحارث قال: قلت يا رسول الله: فسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة.

(1/420)


فعند الجمهور أن حديث بلال ناسخ لأحاديث الفسخ، فهو للصحابة خاصة في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية، من تحريم العمرة في أشهر الحج، ويؤيد ذلك الأثر السابق عن أبي ذر رضي الله عنه.
واستدل الآخرون على فسخ الحج بأحاديث صحيحة جيدة قربت من حَدِّ التواتر عن بضعة عشر من الصحابة.
منها حديث جابر، وسراقة بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وعَلِيًّ، وابن عباس، وأنس، وابن عمر، والربيع بن سبرة، والبراء بن عازب، وأبي موسى، وعائشة، وفاطمة، وحفصة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
كل هؤلاء رَوَوْا أحاديث كثيرة ـ وبعضها في الصحيحين – تنص على فسخ الحج إلى العمرة.
ولهذا، لما قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، كل شيء منك حسن جميل، إلا خصلة واحدة. فقال: وما هي؟.
قال: تقول بفسخ الحج.
فقال الإمام أحمد: كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً، كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك؟
وقد أورد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، منها حديثين:
1- حديث جابر، الذي نحن نتكلم عليه الآن
2- وحديث ابن عباس؛ سيأتي، ونورد معهما
حديثين من تلك الأحاديث المتكاثرة.
الأول: ما رواه "مسلم" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً.
فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية، وَرُحْنَا إلى "منى" أهللنا بالحج".
والثاني: ما رواه "مسلم" و"ابن ماجه" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: "خرجنا محرمين، فقال رسول الله: من كان معه هَدْيٌ فَلْيُقِمْ على إحرامه، ومن لم يكن معه هديٌ، فليحلل، فلم يكن معي هدي، فحللت. وكان مع الزبير هدي، فلم يحلل".
وهذه أحاديث عامة للصحابة ولمن بعدهم، إلى الأبد.
فإن الأحكام الشرعية، لا تكون لجيل دون جيل، ولا لطائفة دون أخرى.
فمن ادّعى الخصوصية، فعليه الدليل.

(1/421)


وكيف ولما سأل سراقة بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفسخ "هل هي للصحابة خاصة؟ " فقال: "بل للأمة عامَّة؟ ".
وقد وردت هذه الأحاديث في واقعة متأخرة، لم يأت بعدها ما ينسخها. ومن ادَّعى النسخ، فعليه الدليل.
بل ورد ما يبعد دعوى النسخ، حين قيل للنبي صلى الله عليه وسلم "عمرتنا هذه: لعامنا هذا أم للأبد؟ " فقال: "لا. بل لأبد الأبد، ودخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
أما دعوى الجمهور النسخ، بحديث بلال بن الحارث، فبعيد كل البعد.
لأن الإمام أحمد قال في حديثه: حديث بلال بن الحارث عندي، ليس بثبت، ولا أقول به. وأحد رواة سنده الحارث بن بلال لا يعرف.
وقال أيضاً: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال؟ إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون ما يرون من الفسخ: أين يقع الحارث بن بلال منهم؟!
وأما أثر أبي ذر، فهو رَأيٌ له، وقد خالفه غيره فيه، فلا يكون حجة، لاسيما مع معارضته للأحاديث الصحاح.
وممن اختار الفسخ، شيخ الإسلام "ابن تيمية" قدس الله روحه، وتلميذه "ابن القيم".
وقد أطال "ابن القيم" البحث في الموضوع في كتابه [زاد المعاد] وبيَّن حجج الطرفين، ونصر الفسخ نصراً مؤزراً مبيناً، وردَّ غيره، وفنَّد أدلته بطريقته المقنعة، وعارضته القوية.
ثم اختلف القائلون بالفسخ: أهو للوجوب أم للاستحباب؟
فذهب الإمام أحمد: إلى استحباب الفسخ. قال شيخ الإسلام: أهل مكة وبنو هاشم وعلماء الحديث يستحبونها، فاستحبها علماء سنته، وأهل سنته، وأهل بلدته التي بقربها المناسك وهؤلاء أخص الناس به.
ولعل قصر الإمام "أحمد" لأحاديث الأمر بالفسخ مع التغليظ فيه على الاستحباب، حمله على عدم مبادرة الصحابة إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم.
وذهب ابن عباس في المفهوم من كلامه: إلى أنه فرض من لم يَسُقْ هدي التمتع، حيث قال: " من جاء مُهلاًّ بالحج، فإن الطواف باليت يغيره إلى عمرة، شاء أم أبى".
وذهب "ابن حزم" إلى ما ذهب إليه ابن عباس، حيث يقول في كتابه المحلى:
ومن أراد الحج، فإنه إذا جاء إلى الميقات، فإن كان لا هدي معه، ففرض عليه أن يحرم بعمرة

(1/422)


مفردة ولابد، ولا يجوز له غير ذلك.
فإن أحرم بحج أو بقران حج وعمرة، ففرض عليه أن يفسخ إهلاله ذلك، بعمرة يحل إذا أتمها، لا يجزئه غير ذلك.
وذهب ابن القيم إلى هذا الرأي حيث قال في كتابه زاد المعاد بعد أن ساق حديث البراء بن عازب، ونحن نشهد الله علينا، أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة، تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لأمره.
فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه، دون مَنْ بعده، بل أجرى الله سبحانه وتعالى على لسان سراقة أن يسأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب: بأن ذلك كائن لأبد الأبد.
فما ندري ما تقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد، الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه.
فهؤلاء، لما رأوا تكاثر الأحاديث في الأمر به، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله، لم يقنعوا إلا بالقول بوجوبه وفريضته.
وحديث البراء المشار إليه هو ما أخرجه ابن ماجه، والإمام أحمد وصححه، عن البراء بن عازب قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة".
قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج، كيف نجعلها عمرة.
قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه القول فغضب.
ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان، فرأت الغضب في وجهه فقالت: "من أغضبك أغضبه الله؟ ".
قال: "ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يُتَّبعُ".
فهذا وأمثاله، متمسك من أوجبوا الفسخ.
الحديث الثاني
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضِي الله عَنْهُمَا قالَ: قدِمْنَا مَعَ سُولِ الله صلى الله عليه وسلم
وَنَحْنُ نَقُولُ " لَبَّيْكَ بالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً.
المعنى الإجمالي:
يقول جابر: قدمنا في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهلِّين بالحج ومُلبِّينَ به، لأن

(1/423)


بعضهم أفرد الحج، وبعضهم قرن، وكأنه مُفْرِد وسكت عن المتمتعين، وفيهم قسم متمتع.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة متمتعاً بها إلى الحج.
وهذا الحديث، أحد أدلة من يرون فسخ الحج إلى عمرة.
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَال: قَدِمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَأصحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ الله أيُّ الْحِلِّ؟ قال: "الحِلُّ كُلُّهُ".
المعنى الإجمالي:
يذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا مكة في حجة الوداع، صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، وكان بعضهم محرماً بالحج، ومنهم القارن بين الحج والعمرة.
فأمر من لم يَسُقِ الْهَدْيَ من هاتين الطائفتين بأن يحلوا من حجهم، ويجعلوا إحرامهم بالعمرة.
فكبُر عليهم ذلك ورأوا أنه عظيم أن يتحللوا التحلل الكامل، الذي يبيح الجماع، ثم يحرمون بالحج، ولذا سألوه فقالوا: يا رسول الله: أي الحل؟ فقال صلى الله عليه وسلم الحل كله، فيباح لكم ما حرم عليكم قبل الإحرام فامتثلوا رضي الله عنهم
وهذا من أدلة القائلين بالفسخ أيضاً.
الحديث الرابع
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّيَيْرِ قال: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَنَا جَالِس: كَيْفَ كانَ رَسُولُ الله صلى الله
عليه وسلم يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟
فقال: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
العنق: انبساط السير، و"النص" فوق ذلك.
الغريب:
العنق والنص: " العنق" بفتح العين والنون. و"النص" بفتح النون وتشديد الصاد. وهما ضربان من السير، والنص أسرعهما.
الفجوة: بفتح الفاء، المكان المتسع.

(1/424)


المعنى الإجمالي:
كان أسامة بن زيد رضى الله عنهما رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة.
فكان أعلم الناس بسير النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن صفته فقال:
كان يسير العنق، وهو انبساط السير ويسره في زحمة الناس، لئلا يؤذي به، وليكون بعد انصرافه من هذا الموقف العظيم وإقباله على المشعر الحرام
خاشعاً خاضعاً، عليه السكينة والوقار، راجياً قبول عمله، شاكراً على نعمه التي من أجلها عزَّ الإسلام، وذلَّ الشرك. فإذا وجد فرجة ليس فيها أحد من الناس حرك دابته، فأسرع قليلاً، وخشوعه وخضوعه لا يفارقانه صلى الله عليه وسلم في كل حركة وسكون.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كون أسامة بن زيد رديف النبي صلى الله عليه وسلم، من دفع عرفة إلى مزدلفة، فهو أعلم الناس بسيره.
2- كان سيره صلى الله عليه وسلم انبساطاً لا تباطُؤَ فيه، ولا خفة ولا سرعة، فيؤذي بهما، ويذهب معهما خشوعه.
3- إذا وجد فجوة ليس فيها أحد، حرك دابته مع ما هو فيه من الخشوع والخضوع لله تعالى، ومراقبته الله، وتعظيمه لمناسكه ومشاعره.
4- أن ما عليه الناس اليوم من الطيش، والخفة، والسرعة، والسباق على السيارات مناف للسنة، وهيبة الحج، وسكينته ووقاره.
ويحدث من جراء هذه السرعة ما ينافي الشرع من المبادرة بالخروج من حدود عرفة قبل الغروب، فيحصل التشبه بالمشركين، ويحصل أضرار تلحق الراكبين ومراكبهم، ويحصل من الشجار والنزاع ما ينافي آداب الحج. إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على هذه العجلة، التي في غير موضعها.

(1/425)


باب حكم تقديم الرمي (1)
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله (2)
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضَي الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه
وسلم وَقَفَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلونَهُ.
فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أشْعُرْ، فحَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، قالَ: اذْبَحْ ولا حَرَجَ. وَقَالَ الآخَرُ: لَمْ
أشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِي، فقال: "اِرْمِ، ولا حَرَجَ".
فَمَا سئلَ- يَوْمَئِذٍ - عَنْ شيءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلا حَرَجَ".
المعنى الإجمالي:
اليوم العاشر من ذي الحجة هو يوم النحر ويوم الحج الأكبر، وهو من أفضل الأيام وأسعدها، لما يقع فيه من الأعمال الجليلة، لاسيما من الحاج الذي يؤدي فيه أربع عبادات جليلات وهن:
1- الرمي 2- والنحر 3- والحلق أو التقصير 4- والطواف بالبيت العتيق.
والمشروع أن يأتي بهن على هذا الترتيب، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وإتيانا بأعمال المناسك على النسق اللائق.
فيبدأ برمي جمرة العقبة، لأن رميها تحية "منى"، ثم ينحر هديه، مبادرةً بإراقة الدماء، لما فيه من الخضوع والطاعة، ولما فيه من نفع الفقراء والمساكين، ومشاركتهم الناس في فرحهم عيدهم.
ثم يحلق، أو يقصر ابتداء بالتحلل من الإحرام، وتأهباً بالزينة والهيئة الحسنهَ للطواف بالبيت.
هذا ما يشرع للحاج، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعده: "خذوا عني مناسككم".
ولكن الشارع رحيم عليم.
فإذا قدم أحد بعض هذه اْلأعمال على بعض، جهلاً بالحكم أو نسياناً، فلا يلحقه شيء من إثم أو جزاء.
_________
(1) من هنا إلى [باب المحرم يأكل من صيد الحلال] فيه سبعة أحاديث، كل واحد منها يدل على مسألة من مناسك الحج، ليس لها تعلق بالأخرى إلا حديثي طواف الزيارة والوداع. ولذا فإني وضعت لها ستة أبواب تبين موضع الفائدة منها- اهـ. شارح.
(2) وقع في بعض نسخ [العمدة] ، أن راوي هذا الحديث هو [عبد الله بن عمر الخطاب] والحق أنه كما وضعناه [عبد الله بن عمرو بن العاص] كما نبه على دلك الحافظ في فتح الباري اهـ. شارح.

(1/426)


ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه.
فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج.
وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج.
قال الراوي: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" سماحة في هذا الدين ويسراً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وقوف العالم في أيام المناسك لإفتاء الناس وإرشادهم في أمر حجهم.
2- جواز تقديم كل من الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، والإفاضة بعضها على بعض من الناسي والجاهل.
ويأتي الخلاف في العامد إن شاء الله.
3- بدء يوم النحر برمي جمرة العقبة. ومن حكمة الرمي طرد الشيطان، فهو شبيه بتقديم الاستعاذة في الصلاة، وهذه مقارنة عنت لي ولم أر أحداً من العلماء قد ذكرها. وربما قالها أحدهم ولم أطلع على ذلك. فإذا كانت صوابا فهي من الله، وإذا كانت خطأ فهي مني.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية ترتيب الرمي والنحر والحلق أو التقصير والإفاضة هكذا، كما رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.
فيبدأ بالرمي، ثم ينحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم الإفاضة إلى البيت.
واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض بالنسبة للعامد.
فذهب الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه: إلى جواز ذلك مستدلين بما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح. قال: "اذبح ولا حرج" وقال آخر: ذبحت قبل أن ارمي. قال: "ارمي ولا حرج".
وهذا أحد طرق الحديث الذي معنا في الباب، وفي بعض طرقه "فما سئل عن شئ قُدِّم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج".

(1/427)


قال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ، لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه في الحج.
كما لو ترك الرمي ونحوه، فإنه لم يأثم بتركه ناسياً أو جاهلاً، ولكن تجب عليه الإعادة.
وما ذهب إليه الإمامان، الشافعي، وأحمد، هو مذهب الجمهور من التابعين والسلف، وفقهاء الحديث لما تقدم من الأدلة وغيرها.
وذهب بعض العلماء: إلى أن رفع الإثم يكون بحال النسيان والجهل، لقول السائل في الحديث: "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحال ويبقى العامد على أصل وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج لحديث "خذوا عني مناسككم" هذا هو الخلاف المتقدم في الإثم وعدمه.
أما الإجزاء فقد قال الشيخ "ابن قدامة" في كتابه "المغني": "ولا نعلم خلافاً بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الإجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها" ا. هـ.
واختلفوا في وجوب الدم على من قدم المؤخر من هذه المناسك الأربعة.
فذهب الجمهور من السلف، وفقهاء الحديث، ومنهم الإمامان الشافعي وأحمد، وعطاء، وإسحاق: إلى عدم وجوب الدم من العامد وغيره، بناء على جواز الفعل وسقوط الإثم، ولقوله صلى الله عليه وسلم للسائل "لا حرج" فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معاً، لأن اسم الضيق يشملهما.
ووجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجباً حينئذ لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة، وتأخيره عنها لا يجوز.
وذهب بعض العلماء - ومنهم سعيد بن جبير وقتادة - إلى وجوب الدم على العامد بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه} .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها وقال: خذوا عني مناسككم، وهو رواية عن الإمام أحمد.
فقد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح. فقال: إن كان جاهلاً، فليس عليه دم، فأما مع التعمد، فلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال "لم أشعر".
وقال ابن دقيق العيد - بعد أن نقل كلام الإمام أحمد: وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي، دون العامد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج بقوله: "خذوا عني مناسككم".

(1/428)


وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه، إنما قرنت بقول السائل: "لم أشعر" فيخصص الحكم بهذه الحال وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج. ا. هـ.
قال الصنعاني: هذا حسن إلا أن إيجاب الدم لم ينهض دليله. وقال أيضاً: اعلم أن إيجاب الدم في هذه الأفعال والتروك في الحج، لم يأت به نص نبوي، وإنما روي عن ابن عباس، ولم يثبت عنه: أن من قدم شيئاً على شئ فعليه دم. وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وأصحاب الرأي. وقال الصنعانى أيضاً: والعجب إطباق المفرعين على إيجاب الدم في محلات كثيرة، والدليل كلام ابن عباس، وعلى أنه لم يثبت عنه.

باب كيف ترمى جمرة العقبة
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الرحْمَنِ بْنِ يَزِيِدَ النَّخَعِي أنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَآهُ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَجَعَل البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، و"مِنىً" عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: هذَا مَقَامُ الَّذِي
أُنْزلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم.
المعنى الإجمالي:
رمي الجمار في يوم النحر وأيام التشريق عبادة جليلة، فيها معنى الخضوع لله تعالى، وامتثال أوامره والاقتداء بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، واستعادة ذكريات قصته الرائعة مع ابنه في صدق الإيمان وطاعة الرحمن حين عرض له الشيطان محاولاً وسوسته عن طاعة ربه فحصبه في تلك المواقف، بقلب المؤمن وعزيمة الصابر ونفس الراضي بقضاء ربه.
فنحن نرمى الشيطان متمثلاً في تلك المواقف إحياء للذكرى وإرغاماً للشيطان الذي يحاول صدنا عن عبادة ربنا.
وأول ما يبدأ به الحاج يوم النحر هو رمي الجمرة الكبرى لتكون فاتحة أعمال ذلك اليوم الجليلة.

(1/429)


فيقف منها موقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث الكعبة المشرفة عن يساره ومني عن يمينه واستقبلها ورماها بسبع حصيات يكبر مع كل واحدة كما وقف ابن مسعود رضي الله عنه هكذا وأقسم أن هذا هو مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، صلى الله عليه وسلم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية رمي جمرة العقبة (1) وحدها يوم النحر.
2- أن يرميها بسبع حصيات، واحدة بعد أخرى، ولا يجزئ رميها دفعة واحدة، وهو مفهوم من الحديث.
3- يجوز رميها من أي مكان بإجماع العلماء.
ولكن الأفضل أن يجعل البيت عن يساره و"منى" عن يمينه، ويستقبلها.
4- أن هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن مسعود سورة البقرة، لأن فيها كثيراً من أحكام الحج.
5- جواز إضافة السورة إلى البقرة، خلافاً لمن منع ذلك.
فابن مسعود أعلم الناس بالقرآن.
6- تسمية هذه المواقف بـ"الجمرات" لا ما يفوه به جهال العامة من تسميتها بـ"الشيطان الكبير" أو" الشيطان الصغير".
فهذا حرام، لأن هذه مشاعر مقدسة محترمة، تعبدنا الله تعالى برميها، والذكر عندها.
وأعظم من ذلك ما يسبونها به من ألفاظ قبيحة منكرة، وما يأتون عندها مما ينافي الخشوع والخضوع والوقار، من رميها بأحجار كبيرة، أو رصاص، أو نعال.
كل هذا حرام مناف للشرع، لما فيه من الغلو والجفاء، ومخالفة الشارع.
_________
(1) العقبة التي تنسب إليها الجمرة، أزيلت في عام 1377 هـ لقصد توسعة شوارع "منى" وأظنه بعد استشارة بعض قضاة مكة- اهـ. شارح.

(1/430)


باب فضل الحلق وجواز التقصير
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال:
"اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قالوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُول الله؟ قال: "الَّلهُمَّ ارْحَم
الْمحَلِّقِينَ. قالوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الَّلهُمَّ ارْحَمِ المُحلِّقِينَ، قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ
يَا رَسُولَ الله قال: "وَالمُقَصِّرِينَ".
المعنى الإجمالي:
الحلق والتقصير من مناسك الحج والعمرة الجليلة.
والحلق أفضل من التقصير لأنه أبلغ في التعبد، والتذلل لله تعالى، باستئصال شعر الرأس في طاعة الله تعالى.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالرحمة ثلاثاً (1) .
والحاضرون يذكرونه بالمقصرين فيعرض عنهم، وفي الثالثة أو الرابعة أدخل المقصرين معهم في الدعاء، مما يدل على أن الحلق في حق الرجال هو الأفضل.
هذا ما لم يكن في عمرة التمتع، ويضيق الوقت بحيث لا ينبت الشعر لحلق الحج، فليقصر، فهو في حقه أفضل.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية الحلق أو التقصير. والصحيح أنَّ أحدهما واجب للحج والعمرة.
2- فضل الحلق على التقصير في حق الرجال، وهو مجمع عليه.
وهذا ما لم يكن في عمرة متمتعاً بها إلى الحج، ويضيق الوقت، بحيث لا ينبت قبل حلق الحج، فحينئذ يكون التقصير أولى.
3- المراد بالحلق استئصال شعر الرأس بأي شي، والتقصير الأخذ من أطرافه، بقدر أنملة.
4- المشروع، هو الاكتفاء بالحلق أو التقصير، لا الإتيان بهما جميعاً.
5- استدل بتفضيل الحلق على التقصير، بأنهما نسكان من مناسك الحج، وليسا لاستباحة المحظور فقط. وإلا لما فضل أحدهما على الآخر.
وهذا هو الأصحّ من قولي العلماء، وهو ما ذهب إِليه الجمهور، وهو مذهب الأئمة الأربعة
_________
(1) روى البخاري ومسلم بإحدى طرق هذا الحديث: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاَ، وفي الرابعة قال: "والمقصرين" اهـ ـ شارح.

(1/431)


6- الذي يفهم من الحلق في هذا الحديث، هو أخذ جميع شعر الرأس.
وهو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وهو مذهب الإمامين، مالك، وأحمد.

باب طواف الإفاضة والوداع
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فأراد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنَّهَا حَائِضٌ، فقالَ: " أحَابِسَتُنَا هِي؟ " فقالوا: يَا رَسُولَ الله، إنَّهَا قَدْ أفَاضَتْ يَوْمَ النَحْرِ. قال "اخْرُجُوا".
وفي لفظ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "عَقْرَى حَلْقَى، أَطافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قيل: نَعَمْ. قال "فَانْفِرِي".
الغريب:
أفضنا يوم النحر: فاض الماء، سال. وسمي طواف الزيارة بطواف الإفاضة لزحف الناس ودفعهم بكثرة في بطاح مكة، إلى البيت الحرام.
أحابستنا: الاستفهام للإنكار والإشفاق مما يتوقع.
عقري حلقي: بفتح الأول منهما وسكون الثاني، والقصر بغير تنونين. هكذا يرويه الأكثرون بوزن غضبى لأنه جاء على المؤنث. والمعروف في اللغة التنوين مثل سقياً ورعياً هكذا قال سيبويه وأبو عبيد. ومعناه الدعاء علها بالعقر وهو مثل الجرح في جسدها. والدعاء عليها بوجع الحلق أيضاً. وخرج الزمخشري معناه على أنهما صفتان للمرأة المشؤومة أي أنها تعقر قومها وتستأصلهم ويحتمل أن يكونا مصدرين مثل الشكوى. ولم يقصد منهما حقيقة الدعاء وإنما هما لفظان يجريان على لسان العرب، كـ"تربت يداك" و" ثكلتك أمك".
فانفري: بكسر الفاء وضمها، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن "انْفِرُوا خفافاً وَثِقَالاً" ومعناه: اخرجي.

(1/432)


المعنى الإجمالي:
ذكرت عائشة رضي الله عنها: أنهم حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
فلما قضوا مناسكهم أفاضوا ليطوفوا بالبيت العتيق، ومعهم زوجه صفية رضي الله عنها.
فلما كان ليلة النفر، حاضت "صفية" فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد منها ما يريد الرجل من أهله، فأخبرته عائشة أنها حاضت.
فظن صلى الله عليه وسلم أنه أدركها الحيض فلم تطف طواف الإفاضة.
لأن هذا الطواف ركن لا يتم الحج بدونه، قال صلى الله عليه وسلم:
أحابستنا هي هنا حتى تنتهي حيضتهاْ وتطوف لحجها؟.
فأخبروه أنها قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها.
فقال: فلتنفر، إذ لم يبق عليها إلا طواف الوداع، وهي معذورة في تركه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يسقط بحال.
2- أن على أمير الحج ورئيس الرفقة ونحوهما انتظار من حاضت حتى ينتهي حيضها، وتطوف طواف الحج.
3- أن طواف الوداع غير واجب على الحائض، وأنها تخرج، وليس عليها فداء، لتركها الطواف.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: أُمِر النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إلاَّ أَنَّهُ خففَ عَنِ الْمَرأةِ الْحَائِض.
المعنى الإجمالي:
لهذا البيت الشريف تعظيم وتكريم، فهو رمز لعبادة الله والخضوع والخشوع بين يديه فكان له في الصدور مهابة، وفِى القلوب إجلال وتعلق، ومودة.
ولذا شرع للقادم عليه أن يحييه بالطواف به قبل كل عبادة، لأن الطواف ميزته، ولدى السفر أن يكون آخر عهده به ليتفرغ لتلك الساعة الرهيبة، التي تتقطع فيها القلوب، وتذرف فيها الدموعٍ، عند مفارقة هذا البيت الذي تهفو إليه الأفئدة وتحن للقرب منه القلوب شوقاً إلى رحابه المقدسة، ومشاعره المعظمة، حيث تنزلت وحلَّت البركات، وهبطت الرحمات، وشعَّت الأنوار.
وهذا الطواف الأخير، وتلك الوقفة الحزينة بين الركن والباب في حق كل راحل من مقام هذا البيت، سواء كان حاجَّا أو غيره. إلا المرأة الحائض، فلكونها تلوث المسجد بدخولها سقط عنها الطواف بلا فداء.

(1/433)


ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب طواف الوداع في حق كل مسافر من مكة، سواء كان حاجَّاً أم غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وطواف الوداع ليس من تمام الحج، ولكن كل من خرج مِن مكة عليه أن يودع، ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت.
2- أن الحائض ليس عليها طواف للوداع، ولا دم بتركه.
3- أن طواف الوداع يكون آخر شئون المسافر، لأن هذا معنى الوداع، ومثل شراء بعض الأشياء في طريقه إلى السفر، أو انتظار الرفقة، أو نحو ذلك من التأخر اليسير، لا يضر.
اختلاف العلماء:
ذهب مالك إلى استحباب طواف الوداع دون وجوبه على كل أحد لسقوطه عن الحائض. ولو كان واجباً لما سقط بحال.
وذهب الجمهور- ومنهم الأئمة الثلاثة - إلى وجوبه على غير الحائض. لظاهر الأمر به. قال ابن المنذر: قال عامة فقهاء الأمصار: ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع.

(1/434)


باب وجوب المبيت بمنى (1)
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: اسْتأذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم أنْ يَبِيْتَ بِمكَةَ لَيَالِي "مِنَىً" مِنْ أَجْلِ سِقَايَتهِ، فًأذِنَ لَهُ.
الغريب:
سقايته: المراد بها سقاية الحجيج؛ فخدمة الحجاج، والبيت مقسمة بين قريش.
فكان لعبد مناف، السقاية.
فكانوا قبل حفر زمزم يأتون بالماء بالقرب ونحوها، فلما حفرها عبد المطلب،
أخذ يسقي الحاج منها، فوصلت بالوراثة إلى ابنه العباس، فأقَّره النبي صلى الله عليه وسلم عليها.
المعنى الإجمالي:
المبيت بـ"منى" ليالي التشريق، أحد واجبات الحج التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن الإقامة بـ"منى" تلك الليالي والأيام، من المرابطة على طاعة الله تعالى، في تلك الفجاج المباركة.
ولما كانت سقاية الحجيج من القُرَبِ المفضلة، لأنها خدمة لحجاج ببيته وأضيافه؟ رخص لعمه العباس ـ لكونه قائماً عليها – بترك المبيت بـ"منى" ليقوم بِسَقْي الحجاج، مما دلَّ على أن غيره، ممن لا يعمل مثل عمله، ليس له هذه الرخصة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب المبيت بـ"منى" ليالي أيام التشريق.
2- المراد بالمبيت، الإقامة بـ"منى" أكثر الليل.
3- الرخصة في ترك المبيت لسقاة الحاج، وألحقوا بهم الرعاة.
وبعضهم ألحق أيضاً أصحاب الحاجات الضرورية، كمن له مال يخاف ضياعه، أو مريض ليس عنده من يمرضه.
4- ما كان عليه أهل مكة في جاهليتهم من إكرام الحجاج والقيام بخدمتهم
وتسهيل
_________
(1) لم يراع المصنف - رحمه الله تعالى - في ترتب هذه الأحاديث طريق الفقهاء، ولا أعمال المناسك. فجعل - بعد الوداع - المبيت بـ"منى" وجمع الصلاة في مزدلفة. وجزاء الصيد.
ولم يتبين لي وجه المناسبة من هذا الترتيب- اهـ- شارح.

(1/435)


أمورهم. ويعتبرون هذا من المفاخر الجليلة فجاء الإسلام فزاد من
إكرامهم فعسى أن نحتذي هذه الآداب ونقدم لضيوف الرحمن ما يكون في الدنيا
ذكراً حسناً، وللآخرة ذخراً طيباً.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل المبيت واجب، أو مستحب؟.
فذهب الجمهور – ومنهم الأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد - إلى الوجوب.
ووجهه أن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم العباس بترك المبيت للسقاية، دليل على عدم الرخصة لغيره، ممن لا يعمل مثل عمله.
والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات فيها وقال: " خذوا عني مناسككم".
وذهب أبو حنيفة، والحسن: إلى أنه مستحب.
واختلفوا في وجوب الدم في تركه وهو مبنيٌّ على الخلاف السابق.
فمن أوجبه، أوجب الدم بتركه، ومن استحبه، لم يوجبه.

باب جمع المغرب والعشاء في مزدلفة
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: قال: جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ
الْمَغرِب وَالْعِشَاءِ، بـ"جَمْعٍ" لِكُلٌ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا إقَامَة، وَلَمْ يُسَبِّحْ بينهُمَا وَلا عَلَى
أثر وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (1) .
الغريب:
"جمع" بفتح الجيم، وسكون الميم. هي "مزدلفة" سميت جمعاً لاجتماع الناس فيها ليلة يوم النحر.
و"الازدلاف" التقرب، فسميت "مزدلفة" أيضاً، لأن الحاج يتزلفون فيها من "عرفة" إلى "منى" وتسمى "المشعر الحرام" لأنها في داخل حدود الحرم لتقابل تسمية عرفة بالمشعر الحلال، لأنها خارج الحرم.
لم يسبح بينهما: يراد بالتسبيح – هنا - صلاة النافلة، كما جاء في بعض الأحاديث
_________
(1) هدا لفظ البخاري بزيادة وإسقاط، فأما الزيادة فهي لفظ "كل" بعد قوله "أثر".
وأما الإسقاط، فهو من قوله "لكل" واحدة منها ـ ومسلم ذكره ألفاظ.

(1/436)


تسمية صلاة الضحى بـ" سبحة الضحى" لاشتمال الصلاة على التسبيح من تسمية الكل باسم البعض.
المعنى الإجمالي:
لما غربت الشمس منٍ يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف يشاهد فيها انصرف منها إلى "مزدلفة"، ولم يُصَلِّ المغرب.
فلما وصل إلى "مزدلفة" إذا بوقت العشاء قد دخل، فصلَّى بها المغرب والعشاء، جمع تأخير، بإقامة لكل صلاة، ولم يُصَلِّ نافلة بينهما، تحقيقاً لمعنى الجمع ولا بعدهما، ليأخذ حظه من الراحة، استعداداً لأذكار تلك الليلة، ومناسك غدٍ، من الوقوف عند المشعر الحرام، والدفع إلى "منى" وأعمال ذلك اليوم.
فإن أداء تلك المناسك في وقتها، أفضل من نوافل العبادات التي ستدرك في غير هذا الوقت.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية جمع التأخير بين المغرب والعشاء في "مزدلفة" في ليلتها.
2- الحكمة في هذا - والله أعلم - التخفيف والتيسير على الحاج، فهم في مشقة من التنقل، والقيام بمناسكهم.
3- فيؤخذ منه يسر الشريعة وسهولتها، رحمةً من الشارع، الذي علم قدرة الناس وطاقتهم وما يلائمها.
4- أن يقام لكل صلاة من المغرب والعشاء، إقامة واحدة.
5- لم يذكر في هذا الحديث، الأذان لهما، وقد صح من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم "جمع بينهما بأذان وإقامتين" ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
6- أنه لا يشرع التنفل بين المجموعتين ولا بعدهما، فهو من باب التيسير والتخفيف، والاستعداد للمناسك بنشاط، لأن هذه المناسك، ليس لها وقت تشرع فيه إلا هذا، فينبغي التفرغ لها، والاعتناء بها قبل فواتها.
7- قال شيخ الإسلام: والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر فيصلي بها الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جداً قبل طلوع الشمس، فإن كان في الضعفة كالنساء والصبيان فإنه يتعجل في مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر.

(1/437)


اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في سبب الجمع بين المغرب والعشاء في "مزدلفة".
فبعضهم يرى أنه لعذر السفر، وهم الشافعية والحنابلة.
وعلى هذا، فلا يباح لمن لا يباح له الجمع، كأهل مكة.
والحنفية والمالكية، يرون أنه لعذر النسك. وهؤلاء يستحبونه لكل أحدٍ سواء كان مسافراً لنسكه أم لا.
والأولى، اتباع السنة، وهو الجمع لكل حاج، سواء أكان لهذا أم لغيره.
على أنه تقدم لنا أن الصحيح أن السفر لا يقدر بمدة ولا مسافة، وإنما هو كل سفر حُمِلَ له الزاد والمزاد فهو سفر.
ولا شك أن الحاج – سواء أكان آفاقيَّاً، أم مكياً - متحمل في حجه ما يتحمله المسافر من المتاعب والمشاق.
واختلفوا في الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين.
فذهب بعضهم- ومنهم سفيان - إلى أنهما تصليان جميعاً، بإقامة واحدة.
وذهب بعضهم - ومنهم مالك - إلى أنهما تصليان بأذانين وإقامتين.
وذهب بعضهم- ومنهم إسحاق- إلى أنهما تصليان بإقامتين فقط.
والصحيح ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما، من أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين.
وحجتهم في ذلك ما ذكره جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل، الذي وصف به حجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها لأنه حرص على معرفة أحواله، وتتبع أقواله وأفعاله، فحفظ من هذه الحجة ما لم يحفظ غيره.
أما سبب اختلاف العلماء في الأذان والإقامة، فهو تعدد الروايات.
فقد صح عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين بالمزدلفة بإقامة واحدة".
وروي عن ابن عمر ثلاث روايات، إحداهن: - أنه جمع بينهما فقط، وهي حديث الباب الذي معنا.
والثانية: - أنه جمع بينهما بإقامة واحدة لهما.
والثالثة: - أنه صلاهما بلا أذان ولا إقامة.
وكلها روايات صحيحة الإسناد، وبعضها في الصحيحين، وبعضها في السنن.
بما أن القضية واحدة فلا يمكن حمل كل رواية على حال، ولا يمكن النسخ ولا الجمع بين الروايات.
فالأحسن الأخذ بما تقدم من رواية جابر الذي نقل حجته صلى الله عليه وسلم بلا اضطراب.
وتُعَدُّ باقي الروايات مضطربة المتون، فتطرح. وهذا رأي "ابن القيم" رحمه الله تعالى.

(1/438)


باب المحرم يأكل من صيد الحلال
الحديث الأول
عَنْ أبي قَتَادَةَ الأنْصَارِي رَضي الله عَنْهُ: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ
حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْر
حَتَّى نَلْتَقِي. فَأخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انصَرَفُوا أحْرَمُوا كُلُّهُم إلاَّ أبَا قَتَادَةَ لمْ يُحْرِمْ.
فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأوْاِ حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أبو قتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أتَاناً،
فنَزَلْنَا وَأكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أنَأكُلُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُون؟!.
فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لحْمِهَا، فَأدْرَكَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَألنَاهُ عَنْ ذلِكَ.
فَقَالَ: "مِنْكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أوْ أشَاَرَ إلَيْهَا؟ ".
قَالُوا: لا. قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فكُلوا مَا بَقِيَ مِنْ لحْمِهَا".
وفي رواية " هَلْ مَعَكُم منْهُ شَيءٌ؟ " فقلتُ: نَعَمْ. فَنَاوَلتُهُ الْعَضُدَ، فَأكَلَ مِنْهَا، أو
"فَأكَلَهَا".
الغريب:
خرج حاجاً: من المعتمد أن ذلك في "عمرة الحديبية" فأطلق على العمرة الجج، وهو جائز.
فإن الحج – لغة القصد، والمعتمر قاصد البيت.
حُمر وحش: نوع من الصيد على صفة الحمار الأهلي، ومفردها حمار.
ونسبت إلى الوحش، لتوحشها، وعدم استئناسها.
أتاناً: هي الأنثى من الحمر.
المعنى الإجمالي:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، يريد العمرة.
وقبل أن يصل إلى محرم المدينة، القريب منها، وهو "ذو الحليفة" بلغه أنَّ عَدُوُّاً أتى من قِبَل ساحل البحر يريده، فأمر طائفة من أصحابه - فيهم أبو قتادة - أن يأخذوا ذات اليمين، على طريق الساحل، ليصدوه، فساروا نحوه.
فلما انصرفوا لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم في ميعاده، أحرموا إلا أبا قتادة فلم يحرم (1) .
_________
(1) اختلف في السبب الذي من أجله لم يحرم" أبو قتادة". مثل أصحابه.
والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه ليكون ردءاً له دون عدوه وعيناً يستطلع له أخبار الأعداء، كان يظن أنه لا يتمكن من دخول مكة، فلم يحرم.
وفي أثناء تجواله وحله يستطلع أخبار العدو أحرم أصحابه - ا. هـ شارح.

(1/439)


وفي أثناء سيرهم، أبصروا حمر وحش، وتمنوا بأنفسهم لو أبصرها أبو قتادة لأنه حلال.
فلما رآها حمل عليهاْ فعقر منها أتاناً، فأكلوا من لحمها.
ثم وقع عندهم شك في جواز أكلهم منها وهم محرمون، فحملوا ما بقي من لحمها حتى لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فسألوه عن ذلك فاستفسر منهم: هل أمره أحد منهم، أو أعانه بدلالة، أو إشارة؟ قالوا: لم يحصل شيء من ذلك.
فَطَمْأَن قلوبهم بأنها حلال، إذ أمرهم بأكل ما بقي منها، وأكل هو صلى الله عليه وسلم منها.
الحديث الثاني
عَن الصَّعْبِ بْنٍ جَثامَةَ الَّلَيْثِيِّ رَضيَ الله عَنْهُ أنَّهُ أَهْدَى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
حِمَاراً وَحْشِيَّاً وَهُوَ بِالأبْوَاءِ - أوْبـ "ودَّان " – فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأى مَا في وَجْهِهِ قَالَ:
"إنَا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلا أَنَّا حُرُم".

(1/440)


وفي لفظ لـ"مسلم": رِجلَ حِمَار. وفي لفظ "شِقَ حِمَار" وفي لفظ: "عَجُزَ حِمَارٍ".
قال المصنف: وجه هذا الحديث: أنه ظنّ أنه صِيدَ لأجله، والمحرم لا يأكل ما صِيدَ لأجله.
الغريب:
الصعب: بفتح الصاد المهملة، وسكون العين المهملة.
جثامة: بفتح الجيم والميم، وتشديد الثاء المثلثة.
الأبواء، ودان: تقدم ضبط الأبواء، وأنه المكان المعروف بـ"مستورة (1) ".
وأما "ودان" فموضع قريب منه، وهو بفتح الواو، وتثقيل الدال المهملة، بعدها ألف ونون.
لم نرده: استعمل بفتح الدال، ويجوز ضمها.
إنا حرم: بكسر الهمزة وفتحها.
فالكسر، على أنها ابتدائية لاستئناف الكلام.
والفتح، على حذف لام التعليل.
والأصل: "إنا لم نرده عليك إلا لأننا حرم".
"وحرم" بضم الحاء، والراء المهملتين، أي محرمون.
المعنى الإجمالي:
لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وبلغ إما الأبواء أو ودان، وأحدهما قريب من الثاني، أهدى إليه "الصعب بن جثامة" حماراً وحشياً.
وكان من عادته الكريمة، وتواضعه المعروف، قبول الهدية، مهما قلَّتْ، ومن أيِّ أحد.
وقد رده عليه لأنه ظن أنه صاده لأجله، وهو أولى من تورَّع عن المشتبه، وما صاده الحلال للمحرم، فإنه لا يحل له.
وأخبره بسبب ردِّه عليه، وهو أنهم محرمون، والمحرمون لا يأكلون مما صيد لهم، لئلا يقع في نفسه شيء من ردِّ هديته.
ما يؤخذ من الحديث:
1- قبوله صلى الله عليه وسلم الهدية، جبراً لقلوب أصحابها.
2- رد الهدية إذا وُجد مانع من قبولها، وإخبار المُهْدِي بسبب الرد لتطمئن نفسه، وتزول وساوسه.
3- تحريم صيد الحلال على المحرم، إذا كان قد صيد من أجله.
_________
(1) تقدم التحقيق عن أهل تلك الجهة أن الأبواء يقع عن مستورة شرقاً بنحو ثلاثة كيلوات ـ ا. هـ الشارح

(1/441)


اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في أكل الصيد المصيد للمحرم.
فمذهب أبي حنيفة، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، جواز أكل المحرم
لما صاده الحلال من الصيد، سواء أصاده لأجله أم لا.
وهو مرويٌّ عن جملة من الصحابة، منم عمر بن الخطاب، والزير، وأبو هريرة.
وحجة هؤلاء، حديث أبي قتادة المذكور في هذا الباب.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، وأقر رفقة أبي قتادة على أكلهم قبل أن يأتوا إليه، وأمرهم بالأكل منه أيضاً.
وذهب طائفة إلى تحريم لحم الصيد على المحرم مطلقاً، سواء صيد لأجله أم لم يصد لأجله..
ومن هؤلاء، على بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، ومَرْوِيٌّ عن طاوس، وسفيان الثوري.
وحجة هؤلاء عموم قوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَادُمْتُمْ حُرُمَاً} .
وحديث "الصعب بن جثامة" الذي معنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رده وعلَّل الرد بمجرد الإحرام.
وذهب جمهور العلماء - ومنهم الأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد،. وإسحاق وأبو ثور- إلى التوسط بين القولين.
فما صاده الحلال لأجل المحرم، حرم على المحرم، وما لم يصده لأجله، حل له. وقد صح هذا التفصيل، عن عثمان بن عفان.
وأراد بهذا التفصيل، الجمع بين حديث أبي قتادة، وحديث الصعب بن جثامة، لأن كليهما صحيح، لا يمكن رده.
ومما يؤيد هذا الرأي، ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم، مالم تصيدوه أو يُصَدْ لكم".
وبهذا تجتمع الأدلة، وإعمالها أحسن من إهمال بعضها مع صحتها.
وهو جمع مستقيم، ليس فيه تكلُّف أو تعسُّف.

(1/442)


قد يستبعد أن يصيد أبو قتادة الحمار الوحشي لأجله وحده، دون رفقته، وهو إشكال في موضعه.
والذي يزيل هذا الإشكال هو أن نفهم أن الصيد عند العرب هواية محببة لديهم، وظرف يتعشقه ملوكهم وكبارهم.
فلا يبعد أن أبا قتادة، لما رأى حمر الوحش، شاقه طرادها قبل أن يفكر في أنه سيصيدها ليأكل لحمها هو وأصحابه.
أدب الزيارة
المسافر إلى المدينة المنورة لقصد العبادة يشرع له أن يقصد بسفره إليها زيارة المسجد النبوي الشريف، وعبادة الله تعالى فيه لأنه المسجد الثاني في الفضل ومضاعفة العبادة، والدليل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان.
هذا هو القصد المسنون شرعاً، وليس زيارة قبره الشريف، لأنه نص في الحديث الذي رواه البخاري على أن الزيارة للمسجد، وذلك في قوله: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام. ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" وقد روى مسلم هذا الحديث أيضاً. وليس النهي عن شد الرحل إلى قبره الشريف استخفافاً بحقه صلى الله عليه وسلم، فإن محبته مقدمة على محبة كل شئ بعد الله.
ولكنه امتثال لأمره، وقد قال الله تعالى في حقه: {ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا} .
فإذا وصل الزائر إلى المسجد النبوي الشريف استحب له عند الدخول أن يقدم رجله اليمنى، ويقول: " بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم يصلي ركعتين، والأفضل أن يكونا في الروضة الشريفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" ويزور بعد الصلاة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيقف تجاه القبر مما يلي وجهة الكريم بأدب وخفض صوت ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". وذلك لما جاء في سنن أبي داو د عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من

(1/443)


أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" ولا بأس أن يزيد في السلام بقوله: "السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وإمام المتقين، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عن أمتك خير الجزاء " ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
ثم يمضي الزائر إلى يمينه، قليلاً فيسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ثم إلى يمينه أيضاً، فيسلم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه. ثم يتوجه إلى القبلة ويدعو الله بما أحب، ولكن الأفضل أن يدعو بالأدعية الشرعية المأثورة، وأن يقدم من الدعاء ما فيه نصر دين الله وإعلاء كلمته، ويدعو لنفسه ولوالديه، ولمشايخه وأقاربه والمسلمين عامة. ويدعوا الله أن يشفع به محمداً صلى الله عليه وسلم وبوالديه وذريته وأقاربه ومن له حق عليه من المسلمين.
وإذا أراد العودة من المدينة المنورة فعل وقال مثلما تقدم. وتستحب زيارة البقيع والدعاء فيه للموتى بالدعاء المأثور، وهو خاص بالرجال. وكذلك تستحب زيارة مسجد قباء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره، ويحسن الذهاب إلى أحد لمشاهدة مكان المعركة والدعاء للشهداء والترضي عنهم، ومنهم حمزة بن عبد المطب رضي الله عنه.
أشياء يجب على الزائر اجتنابها
بما أن الزائر قد جاء إلى المدينة المنورة لغاية دينية ـ وهي العبادة – فعليه أن يلتزم باتباع ما شرعه الله ورسوله، وذلك باجتناب ما نهيا عنه. ومن ذلك: -
1- الابتعاد عن التفوه بمطالب توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والله وحده هو القادر عليها، كتفريج الكربات وإبراء المرضى وزيادة الرزق وغير ذلك. أما الشفاعة فتكون بدعاء الله أن يشفع به نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. فإن طلب مالا يقدر عليه إلا الله من غيره لشرك وضلال.
2- الاتجاه وقت الدعاء إلى القبلة لا إلى القبر الشريف، فإن ذلك أقرب للإجابة.

(1/444)


3- عدم الطواف والتمسح بالقبر الشريف، فقد أجمع العلماء الأئمة وسلف الأمة على أن الطواف بغير الكعبة لا يجوز بحال. وأنه لا يتمسح إلا بالركن اليماني والحجر الأسود من الكعبة المشرفة.
4-عدم الإكثار من التردد على القبر الشريف للسلام والزيارةَ، فإن الإكثار غير مشروع، لأنه لم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم ولا من مذهب السلف الصالح. ويكفي المسلم أن يصلي ويسلم على الرسول في أي مكان كان، لأن الصلاة والسلام يبلغانه ولو كان فاعل ذلك في أقصى المعمورة.
5- ألا يقف الزائر عند القبر أو بعيدا عنه وقد اتخذ هيئة الوقوف في الصلاة جاعلاً يديه على صدره، مسبلاً عينيه، ومرخياً حاجبيه، والرسول عليه الصلاة والسلام أهل للاحترام ولكن بغير هذه الوقفة التي هي من خصائص الوقوف بين يدي الله تعالى.
6- يكره عنده رفع الصوت بالسلام والترحم والدعاء، فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} .

(1/445)