المتواري على أبواب البخاري

(2 -] كتاب الْإِيمَان [)

(1) بَاب الدّين يسر وَقَوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أحب الدّين إِلَى الله الحنيفية السمحة ".
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الدّين يسر وَلنْ يشاد الدّين أحد إِلَّا

(1/49)


غَلبه، فسدّدوا وقاربوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بالغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة ".
قَالَ - رَضِي الله عَنهُ -: إِن قَالَ قَائِل: أَيْن مَوضِع أحب الدّين إِلَى الله الحنيفية السمحة، من الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي الْبَاب؟
قيل لَهُ: إِن لفظ التَّرْجَمَة فِي الحَدِيث لم يُوَافق شَرط البُخَارِيّ، فَلَمَّا وَافقه حَدِيث الْبَاب بِمَعْنَاهُ، نبه عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة، يَعْنِي أَنه إِن فَاتَ صِحَة لَفظه، فَمَعْنَاه صَحِيح بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره مُسْندًا. ومقصوده من التَّرْجَمَة وحديثها التَّنْبِيه على أَن الدّين يَقع على الْأَعْمَال، لِأَن الَّذِي يَتَّصِف باليسر والشدة، إِنَّمَا هِيَ الْأَعْمَال دون التَّصْدِيق. وَقد فسّر الْأَعْمَال فِي الحَدِيث بالغدوة والروحة، وَشَيْء من الدلجة. وكنى بِهَذِهِ الفعلات عَن الْأَعْمَال فِي هَذِه الْأَوْقَات، كَقَوْلِه {أقِم الصلواة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل} [هود: 114] .
وَقَالَ: " شَيْء من الدلجة " وَلم يقل: " والدلجة " لثقل عمل اللَّيْل، فندب إِلَى حظّ مِنْهُ، وَإِن قلّ، أَو لِأَن الدلجة سير اللَّيْل كُله، وَلَيْسَ الْقيام المحثوث عَلَيْهِ مستوعباً لِليْل، وَإِنَّمَا هُوَ أَخذ مِنْهُ على اخْتلَافهمْ فِي الْقدر الْمَأْخُوذ، وَالله أعلم.

(1/50)


(3 - (2) بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء.)

فِيهِ أَبُو سعيد: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا أسلم الْمَرْء فَحسن إِسْلَامه، يكفر الله عَنهُ كلّ سَيِّئَة كَانَ زلفها، وَكَانَ بعد ذَلِك الْقصاص: الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، إِلَى سبع مائَة ضعف، والسيئة بِمِثْلِهَا إِلَّا أَن يتَجَاوَز الله عَنْهَا ".
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا أحسن أحدكُم إِسْلَامه، فَكل حَسَنَة يعملها كتبت لَهُ بِعشر أَمْثَالهَا، إِلَى سبع مائَة ضعف. وكل سَيِّئَة يعملها تكْتب لَهُ بِمِثْلِهَا ".
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ موقع هَذِه التَّرْجَمَة من زِيَادَة الْإِسْلَام ونقصانة؟
قيل: لما أثبت لِلْإِسْلَامِ صفة الْحسن، وَهِي زَائِدَة عَلَيْهِ، دلّ على اخْتِلَاف أَحْوَاله. وَإِنَّمَا تخْتَلف الْأَحْوَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإعمال، وَأما التَّوْحِيد فواحد.
(4 - (3) بَاب أحبّ الدّين إِلَى الله أَدْوَمه)

(1/51)


فِيهِ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] دخل عَلَيْهَا، وَعِنْدهَا امْرَأَة، قَالَ من هَذِه؟ قَالَت: فُلَانَة - تذكر من صلَاتهَا - قَالَ: " مَه عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، فوَاللَّه لَا يملّ الله حَتَّى تملوا ". وَكَانَ أحبّ الدّين إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحبه.
قَالَ: سيدنَا الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ: - إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ موقعها من زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه؟ .
قُلْنَا: لِأَن الَّذِي يَتَّصِف بالدوام وَالتّرْك، إِنَّمَا هُوَ الْعَمَل. وَأما الْإِيمَان فَلَو تَركه لكفر، دلّ على أَن الْعَمَل الدَّائِم هُوَ الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ أَنه أحبّ الدّين إِلَى الله عز وَجل، وَإِذا كَانَ هُوَ الدّين كَانَ هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} [آل عمرَان: 19] .
(5 - (4) بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانة)
وَقَوله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] . فَإِذا ترك شَيْئا من الْكَمَال فَهُوَ نَاقص.

فِيهِ أنس: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : يخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي قلبه وزن شعيرَة من خير، وَيخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي قلبه وزن بُرّة من خير، وَيخرج من النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي قلبه وزن ذرة من خير ".
وَفِيه عمر: إِن رجلا من الْيَهُود قَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ آيَة فِي كتابكُمْ لَو

(1/52)


علينا] معشر الْيَهُود [نزلت لاتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيداً. قَالَ أَي آيَة؟ قَالَ: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} [الْمَائِدَة: 3] وَذكر الحَدِيث ".
قَالَ سيدنَا الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -:
فِي الْآيَة تَصْرِيح بإكمال الدّين، وتصوّر إكماله يَقْتَضِي تصوّرّ نقصانه. وَلَا يحمل على التَّوْحِيد، لِأَنَّهُ كَانَ كَامِلا قبل نزُول هَذِه الْآيَة. وَأما الحَدِيث فَوجه دلَالَته أَنه فاوت بَين الْإِيمَان الْقَائِم بِالْقَلْبِ، وَلَو كَانَ هُوَ التَّصْدِيق خَاصَّة لَكَانَ وَاحِدًا.
(6 - (5) بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام)
وَقَوله: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلوةَ ويؤتُوا الزَّكاةَ وذَلك ديْنُ القَيّمَة} [البيّنة: 5] .
فِيهِ طَلْحَة بن عبيد الله: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من أهل نجد، ثَائِر الرَّأْس يسمع دوىُّ صَوته وَلَا يفقه مَا يَقُول، حَتَّى دنا فَإِذا هُوَ يسْأَل عَن الْإِسْلَام. فَقَالَ: خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَصِيَام رَمَضَان، وَالزَّكَاة. فَقَالَ: هَل علىّ غَيرهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَن تطوع. فَأَدْبَرَ الرجل يَقُول: وَالله لَا

(1/53)


أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص. قَالَ أَفْلح إِن صدق ".
قَالَ سيدنَا الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: مَوضِع الاستشهاد قَوْله: {وَذَلِكَ دين القيّمَة} . إِشَارَة إِلَى أَن الصَّلَاة وَالزَّكَاة، دلّ أَنَّهُمَا من الدّين، وَالدّين الْإِسْلَام.
(7 - (6) بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله وَهُوَ لَا يشْعر)
وَقَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: " مَا عرضت قولي على عَمَلي إِلَّا خشيت أَن أكون مُكَذبا ".
وَقَالَ ابْن أبي مليكَة: " أدْركْت ثَلَاثِينَ من أَصْحَاب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، كلهم يخَاف النِّفَاق على نَفسه، مَا مِنْهُم أحد يَقُول: إِنَّه على إِيمَان جِبْرِيل وَمِيكَائِيل ".
وَيذكر عَن الْحسن: " مَا خافه إِلَّا مُؤمن، وَمَا أَمنه إِلَّا مُنَافِق، وَمَا يحذر من الْإِصْرَار على التقاتل والعصيان من غير تَوْبَة، لقَوْله عز وَجل: {وَلم يصرُّوْا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} [آل عمرَان: 135] .
فِيهِ زبيد: " سَأَلت أَبَا وَائِل عَن المرجئة فَقَالَ حَدثنِي عبد الله أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]] قَالَ: " سباب الْمُسلم فسوق، وقتاله كفر ".
وَفِيه عبَادَة: أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [، خرج يخبر بليلة الْقدر فتلاحى رجلَانِ

(1/54)


فَرفعت.
قَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: انْتقل من الرَّد على الْقَدَرِيَّة إِلَى
الرَّد على المرجئة، وهما ضدان: الْقَدَرِيَّة تكفّر بالذنب، والمرجئة تهدر الذَّنب بِالْكُلِّيَّةِ. وَالَّذِي سَاقه فِي التَّرْجَمَة صَحِيح فِي الردّ عَلَيْهِم.
(8 - (7) بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ والحسبة وَلكُل امْرِئ مَا نوى)
فَدخل فِيهِ الْإِيمَان، وَالْوُضُوء، وَالصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَالْحج، وَالْأَحْكَام. وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَقل كل يعْمل على شاكلته} [الْإِسْرَاء: 84] على نِيَّته.]
وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة ".

(1/55)


فِيهِ عمر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَلكُل امْرِئ مَا نوى، فَمن كَانَ هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله، وَمن كَانَت هجرته لدُنْيَا يُصِيبهَا، أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا، فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ.
وَفِيه أَبُو مَسْعُود: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا أنْفق الرجل على أَهله - وَهُوَ يحتسبها - فَهُوَ لَهُ صَدَقَة.
وَفِيه سعد: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله إِلَّا أجرت بهَا حَتَّى مَا تجْعَل فِي فى امْرَأَتك.
وَقَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: المرجئة تزْعم أَن الْمُعْتَبر الْإِيمَان بِاللِّسَانِ، وَلَا حَظّ للقلب فِيهِ، فردّ عَلَيْهِم بِاعْتِبَار نِيَّة الْقلب فِي الْأَعْمَال مُطلقًا فَدخل الْإِيمَان وَغَيره من الْعِبَادَات.
(9 - (8) بَاب] قَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [: الدّين النَّصِيحَة لله، وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين،] وعامتهم [)

وَقَوله عز وَجل: {إِذا نصحوا لله وَرَسُوله} [التَّوْبَة: 91] .
فِيهِ جرير: بَايَعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على إقَام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، والنصح لكل مُسلم.
وَفِيه: أَن جَرِيرًا قَامَ يَوْم مَاتَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: عَلَيْكُم باتقاء الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَالْوَقار، والسكينة، حَتَّى يأتيكم

(1/56)


أَمِير. فَإِنَّمَا يأتيكم الْآن. ثمَّ قَالَ: استعفوا لأميركم، فَإِنَّهُ كَانَ يحب الْعَفو. ثمَّ قَالَ: أما بعد! فَإِنِّي أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقلت لَهُ: أُبَايِعك على الْإِسْلَام، فَشرط] علىّ [، " والنصح لكل مُسلم ". وربّ] هَذِه البنية [إِنِّي نَاصح، ثمَّ اسْتغْفر وَنزل.
قَالَ الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: جَاءَ حَدِيث بِلَفْظ التَّرْجَمَة " الدّين النَّصِيحَة "، وَلم يدْخلهُ البُخَارِيّ إِنَّمَا أَدخل مَعْنَاهُ فِي الحَدِيث الَّذِي أوردهُ.
وَوجه الْمُطَابقَة أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بايعهم على الْإِسْلَام وعَلى النَّصِيحَة، كَمَا بايعهم على الْإِسْلَام دلّ أَنَّهَا مُعْتَبرَة بعد الْإِسْلَام، خلافًا للمرجئة، إِذْ لَا تعْتَبر عِنْدهم سوى الْإِسْلَام، وَلَا يضّر الْإِخْلَال بِمَا عداهُ.
وَظن الشَّارِح أَن مَقْصُود البُخَارِيّ الرَّد على من زعم أَن الْإِسْلَام التَّوْحِيد، وَلَا يدْخل فِيهِ الْأَعْمَال، وهم الْقَدَرِيَّة، وَهُوَ ظَاهر فِي الْعَكْس، لِأَنَّهُ لما بَايعه على الْإِسْلَام، قَالَ لَهُ: " وعَلى النَّصِيحَة ". فَلَو دخلت فِي الْإِسْلَام لما اسْتَأْنف لَهَا بيعَة. وَالله أعلم.