المتواري على
أبواب البخاري (4 -] كتاب الْوضُوء [)
(19 - (1) بَاب لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : لَا تقبل صَلَاة من أحدث حَتَّى
يتَوَضَّأ. قيل: مَا الْحَدث يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ:
فسَاء أَو ضراط.
قلت: - رَضِي الله عَنْك -! إِن قلت: لم ترْجم على
الْعُمُوم، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْمُحدث فِي
الصَّلَاة، وَلِهَذَا قَالَ: فسَاء أَو ضراط، لِأَنَّهُ
غَالب مَا يسْبق فِي الصَّلَاة، لَا الْبَوْل وَالْغَائِط؟
قلت: نبّه بذلك على التَّسْوِيَة بَين الْحَدث فِي
الصَّلَاة، وَالْحَدَث فِي غَيرهَا، لِئَلَّا يتخيل الْفرق
كَمَا فرق بَعضهم بَين أَن يشك فِي الْحَدث فِي الصَّلَاة
فيتمادى، ويلغي الشَّك، وَبَين شكّه فِي غير الصَّلَاة
فيتوضأ وَيعْتَبر الشَّك. وَالله أعلم.
(1/66)
(20 - (2) بَاب التمَاس الْوضُوء إِذا حانت
الصَّلَاة.)
وَقَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: حضرت الصُّبْح،
وَالْتمس المَاء فَلم يُوجد فَنزل التَّيَمُّم.
فِيهِ أنس: رَأَيْت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] ، وحانت صَلَاة الْعَصْر، فالتمس النَّاس الْوضُوء.
فَلم يجدوه فَأتى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِوضُوء فَوضع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي
ذَلِك الْإِنَاء يَده، وَأمر النَّاس أَن يتوضأوا مِنْهُ.
قَالَ، فَرَأَيْت المَاء يَنْبع من بَين أَصَابِعه حَتَّى
توضأوا من عِنْد آخِرهم.
قلت: رَضِي الله عَنْك - موقع التَّرْجَمَة من الْفِقْه،
التَّنْبِيه على أَن الْوضُوء لَا يجب قبل الْوَقْت.
(21 - (3) بَاب الرجل يوضيء صَاحبه)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: عَن أُسَامَة: أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] لما أَفَاضَ من عَرَفَة عدل إِلَى
(1/67)
الشّعب، فَقضى حَاجته. قَالَ أُسَامَة:
فَجعلت أصب عَلَيْهِ، وَيتَوَضَّأ. فَقلت: يَا رَسُول الله
أَتُصَلِّي؟ قَالَ: الْمصلى أمامك.
وَفِيه الْمُغيرَة: أَنه كَانَ مَعَ رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] فِي سفر، وَأَنه ذهب لحَاجَة لَهُ، وَأَن
الْمُغيرَة جعل يصب عَلَيْهِ وَهُوَ يتَوَضَّأ، فَغسل
وَجهه وَيَديه، وَمسح بِرَأْسِهِ، وَمسح على الْخُفَّيْنِ.
قلت: - رَضِي الله عَنْك -: قَاس البُخَارِيّ توضئة
الْغَيْر لَهُ على صبّه عَلَيْهِ، لاجتماعهما فِي معنى
الْإِعَانَة على أَدَاء الطَّاعَة. وَالله أعلم.
(22 - (4) بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس. أَمر جرير
بن عبد الله أَهله أَن يتوضأوا بِفضل سواكه)
فِيهِ أَبُو جُحَيْفَة: خرج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] بالهاجرة فَأتى بِوضُوء فَتَوَضَّأ فَجعل النَّاس
(1/68)
يَأْخُذُونَ من فضل وضوئِهِ، فيتمسحون
بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] بقدح فِيهِ مَاء، فَغسل يَدَيْهِ وَوَجهه، وَمَج
فِيهِ. ثمَّ قَالَ لَهما: اشربا مِنْهُ، وافرغا على
وجوهكما، ونحوركما ".
وَفِيه مَحْمُود بن الرّبيع: إِن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] مجّ فِي وَجهه - وَهُوَ غُلَام - من
بئرهم.
وَفِيه الْمسور: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
كَانَ إِذا تَوَضَّأ يقتتلون على وضوئِهِ.
وَفِيه السَّائِب: ذهبت بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِي [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله إِن
ابْن أُخْتِي وَقع، فَمسح رَأْسِي، ودعا لي بِالْبركَةِ،
ثمَّ تَوَضَّأ فَشَرِبت من وضوئِهِ. الحَدِيث.
قلت: - رَضِي الله عَنْك -! إِن قيل: ترْجم على
اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء ثمَّ ذكر حَدِيث السِّوَاك
والمجة فَمَا وَجهه؟
قلت: مَقْصُوده: الردّ على من زعم أَن المَاء
الْمُسْتَعْمل فِي الْوضُوء لَا يتَطَهَّر بِهِ، لِأَنَّهُ
مَاء الْخَطَايَا، فَبين أَن ذَلِك لَو كَانَ صَحِيحا
وَأَن الْخَطَايَا تحدث فِي عين المَاء شَيْئا يُنَافِي
الِاسْتِعْمَال لَكَانَ نجسا، لِأَن النَّجس المبعد،
والخطايا يجب إبعادها شرعا. وَمَعَ ذَلِك فَيجوز
اسْتِعْمَاله لغير الطَّهَارَة، كالتبرك والتعوذ وَنَحْوه.
هَذَا إِن احْتَجُّوا بِأَنَّهُ مَاء الْخَطَايَا.
(1/69)
وَإِن احْتَجُّوا بِأَنَّهُ مُضَاف فَهُوَ
مُضَاف إِلَى طَاهِر لم يتَغَيَّر بِهِ، لِأَنَّهُ الرِّيق
الَّذِي يخالطه عِنْد الْمَضْمَضَة مثلا، طَاهِر بِدَلِيل
حَدِيث السِّوَاك والمجة. وَكَذَلِكَ مَاء لَعَلَّه يخالطه
من غبرات الْأَعْضَاء بطرِيق الأولى لِأَنَّهَا موهومة لَا
مُحَققَة. وَالله أعلم.
(23 - (5) بَاب الْوضُوء من النّوم، وَمن لم ير من النعسة
والنعستين، والخفقة وضُوءًا)
فِيهِ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: إِن رَسُول الله
قَالَ: إِذا نعس أحدكُم، وَهُوَ يُصَلِّي، فليرقد حَتَّى
يذهب عَنهُ النّوم، فَإِن أحدكُم إِذا صلى - وَهُوَ ناعس -
لَا يدْرِي لَعَلَّه يسْتَغْفر فيسبَّ نَفسه.
وَفِيه أنس: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
قَالَ: إِذا نعس أحدكُم فِي الصَّلَاة، فلينم حَتَّى يعلم
مَا يَقُول.
قَالَ سيدنَا الْفَقِيه - وَفقه الله -: إِن قلت: كَيفَ
مخرج التَّرْجَمَة من الحَدِيث، ومضمونها أَن لَا
يتَوَضَّأ من النعاس الْخَفِيف، ومضمون الحَدِيث النَّهْي
عَن الصَّلَاة مَعَ النعاس؟ .
قلت: إِمَّا أَن يكون يلقاها من مَفْهُوم تَعْلِيل
النَّهْي عَن الصَّلَاة حِينَئِذٍ، بذهاب الْعقل
الْمُؤَدِّي إِلَى أَن يعكس الْأَمر، يُرِيد أَن يَدْعُو
فيسبّ نَفسه، دلّ أَنه لم يبلغ هَذَا الْمبلغ صلى بِهِ.
(1/70)
وَإِمَّا أَن يكون تلقّاها من كَونه إِذا
بَدَأَ بِهِ النعاس - وَهُوَ فِي النَّافِلَة - اقْتصر على
إتْمَام مَا هُوَ فِيهِ، وَلم يسْتَأْنف أُخْرَى، فتماديه
على مَا كَانَ فِيهِ يدلّ على أَن النعاس الْيَسِير لَا
يُنَافِي الصَّلَاة. وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي الحَدِيث بل
يحْتَمل قطع الصَّلَاة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيحْتَمل
النَّهْي عَن اسْتِئْنَاف شَيْء آخر وَالْأول أظهر.
(24 - (6) بَاب الْوضُوء من غير حدث)
فِيهِ أنس: كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
يتَوَضَّأ عِنْد كل صَلَاة. قلت: كَيفَ كُنْتُم
تَصْنَعُونَ؟ قَالَ:
يجزيء أَحَدنَا الْوضُوء مَا لم يحدث.
وَفِيه سُوَيْد بن النُّعْمَان: إِن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] صلى الْعَصْر يَوْم حنين، ثمَّ صلى
الْمغرب، وَلم يتَوَضَّأ.
قلت: - رَضِي الله عَنْك - سَاق حَدِيث سُوَيْد عقيب
الحَدِيث الأوّل، لينبّه على أَن النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يَأْخُذ بالأفضل فِي تَجْدِيد
الْوضُوء من غير حدث، لَا أَنه وَاجِب عَلَيْهِ بِدَلِيل
حَدِيث سُوَيْد.
(25 - (7) بَاب مَا يَقع من النَّجَاسَات فِي السّمن
وَالْمَاء)
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا بَأْس بِالْمَاءِ مَا لم
يُغَيِّرهُ لون، أَو طعم، أَو ريح.
(1/71)
وَقَالَ حَمَّاد: لَا بَأْس بريش الْميتَة.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: فِي عِظَام الْمَوْتَى نَحْو الْفِيل
وَغَيره: أدْركْت نَاسا من سلف الْعلمَاء يمتشطون بهَا،
ويدهنون فِيهَا، وَلَا يرَوْنَ بهَا بَأْسا.
وَقَالَ ابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم: لَا بَأْس بِتِجَارَة
العاج.
فِيهِ مَيْمُونَة: إِن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] سُئِلَ عَن فَأْرَة سَقَطت فِي سمن، فَقَالَ:
ألقوها وَمَا حولهَا، وكلوا سمنكم.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] كل كلم يكلمهُ الْمُسلم فِي سَبِيل الله،
يكون يَوْم الْقِيَامَة كهيئتها، إِذْ طعنت، تفجر دَمًا:
اللَّوْن لون الدَّم، وَالْعرْف عرف الْمسك.
قلت: - رَضِي الله عَنْك - مَقْصُوده فِي التَّرْجَمَة أَن
الْمُعْتَبر فِي النَّجَاسَات الصِّفَات، فَلَمَّا كَانَ
ريش الْميتَة لَا يتَغَيَّر بتغيرها، لِأَنَّهُ لَا تحله
الْحَيَاة طهر، وَكَذَلِكَ الْعِظَام، وَكَذَلِكَ المَاء
إِذا خالطه نَجَاسَة وَلم يتَغَيَّر، وَكَذَلِكَ السّمن
الْبعيد
(1/72)
عَن موقع الْفَأْرَة إِذا لم يتَغَيَّر.
وَوجه الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث دم الشُّهَدَاء أَنه لمّا
تَغَيَّرت صفته إِلَى صفة طَاهِر وَهُوَ الْمسك، بَطل حكم
النَّجَاسَة فِيهِ، على أَن الْقِيَامَة لَيست دَار
أَعمال، وَلَا أَحْكَام. وَإِنَّمَا لما عظم الدَّم
لحيلولة صفته إِلَى صفة مَا هُوَ مستطاب مُعظم فِي
الْعَادة، علمنَا أَن الْمُعْتَبر الصِّفَات، لَا الذوات.
وَالله أعلم.
(26 - (8) بَاب لَا يَبُول فِي المَاء الدَّائِم)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ سَمِعت رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " نَحن الْآخرُونَ
السَّابِقُونَ " وبإسناده قَالَ: " لَا يبولن أحدكُم فِي
المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي، ثمَّ يغْتَسل فِيهِ
".
قلت: - رَضِي الله عَنْك - إِن قلت كَيفَ طابق قَوْله: -
نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ " مَقْصُود التَّرْجَمَة؟
وَهل ذَلِك لما قيل: إِن هماماً رَاوِيه روى جملَة
أَحَادِيث عَن أبي هُرَيْرَة، استفتحها لَهُ أَبُو
هُرَيْرَة بِحَدِيث: " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ "
فَصَارَ همام مهما حدث عَن أبي هُرَيْرَة ذكر الْجُمْلَة
من أَولهَا وَاتبعهُ البُخَارِيّ فِي ذَلِك، أَو تظهر
مُطَابقَة معنوية؟ .
قلت: تمكن الْمُطَابقَة، وتحقيقها: أَن السِّرّ فِي
اجْتِمَاع التَّأَخُّر فِي الْوُجُود، والسبق فِي الْبَعْث
لهَذِهِ الْأمة أَن الدُّنْيَا مثلهَا لِلْمُؤمنِ مثل
السجْن. وَقد أَدخل الله
(1/73)
فِيهِ الْأَوَّلين وَالْآخرُونَ على
تَرْتِيب. فَمُقْتَضى ذَلِك أَن الآخر فِي الدُّخُول أوّل
فِي الْخُرُوج، كالوعاء إِذا ملأته بأَشْيَاء وضع بَعْضهَا
فَوق بعض، ثمَّ استخرجتها، فَإِنَّمَا يخرج أَولا مَا
أدخلته آخرا. فَهَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَون هَذِه الْأمة
آخرا فِي الْوُجُود الأول، أوّلاً فِي الْوُجُود
الثَّانِي. وَلها فِي ذَلِك من المصحلة: قلَّة بَقَائِهَا
فِي سجن الدُّنْيَا، وَفِي أطباق البلى بِمَا خصها الله
بِهِ من قصر الْأَعْمَار، وَمن السَّبق إِلَى الْمعَاد.
فَإِذا فهمت هَذِه الْحَقِيقَة تصور الفطن مَعْنَاهَا
عَاما، فَكيف يَلِيق بلبيب أَن يعمد إِلَى أَن يتَطَهَّر
من النَّجَاسَة، وَمِمَّا هُوَ أيسر مِنْهَا، من الغبرات
والقترات، فيبول فِي مَاء راكد ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ.
فأوّل مَا يلاقيه بَوْله الَّذِي عزم على التَّطْهِير
مِنْهُ، فَهُوَ عكس للحقائق وإخلال بالمقاصد، لَا يتعاطاه
أريب وَلَا يَفْعَله لَبِيب. وَالله أعلم؟ وَالْحق وَاحِد،
وَإِن تبَاعد مَا بَين طرقه.
وَسَيَأْتِي للْبُخَارِيّ ذكر حَدِيث: " نَحن الأخرون
السَّابِقُونَ " فِي قَوْله: " الإِمَام جنَّة يتقى بِهِ
وَيُقَاتل من وَرَائه ". أَي هُوَ أول فِي إِسْنَاد الهمم
والعزائم إِلَى وجوده. وَهُوَ آخر فِي صُورَة وُقُوفه،
فَلَا يَنْبَغِي لأجناده إِذا قَاتلُوا بَين يَدَيْهِ، أَن
يَظُنُّوا أَنهم حموه، بل هُوَ حماهم، وصان بتدبيره حماهم،
فَهُوَ وَإِن كَانَ خلف الصَّفّ، إِلَّا أَنه فِي
الْحَقِيقَة جنَّة أما الصَّفّ وَحقّ للْإِمَام أَن يكون
مَحَله فِي الْحَقِيقَة الْأَمَام. وَالله أعلم.
(1/74)
|