المتواري على
أبواب البخاري (40 - كتاب الاستقراض والديون [وَالْحجر
والتقليس] )
(217 - (1) بَاب من اشْترى بِالدّينِ، وَلَيْسَ عِنْده
ثمنه أَو لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ.)
فِيهِ جَابر: غَدَوْت مَعَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- فَقَالَ: كَيفَ ترى بعيرك؟ أتبيعنيه؟
(1/266)
قلت: نعم. فَبِعْته إِيَّاه. فَلَمَّا قدم
الْمَدِينَة غَدَوْت إِلَيْهِ بالبعير. فَأَعْطَانِي ثمنه.
وَفِيه الْأَعْمَش: تَذَاكرنَا عِنْد إِبْرَاهِيم الرَّهْن
فِي السّلم. فَقَالَ حَدثنِي الْأسود عَن عَائِشَة أَن
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- اشْترى طَعَاما من
يهوديّ إِلَى أجل. وأرهنه درعاً من حَدِيد.
قلت: رَضِي الله عَنْك {فِي التَّرْجَمَة حيف. لِأَن
مضمونها جَوَاز الاستقراض وَالِانْتِفَاع بِالدّينِ لمن
لَا عِنْده وَفَاء. وَيدخل فِيهِ ذَلِك من لَا قدرَة لَهُ
على الْوَفَاء، وَإِذ لم يعرف البَائِع أَو الْمقْرض
حَاله، وَهَذَا تَدْلِيس. وَالَّذِي فِي الحَدِيث غير
هَذَا، لتحَقّق قدرته -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على
الْوَفَاء بِمَا عقد عَلَيْهِ.
(218 - (2) بَاب من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أداءها
أَو إتلافها)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أداءها أدّى الله
عَنهُ. وَمن أَخذهَا يُرِيد إتلافها أتْلفه الله.
قلت: رَضِي الله عَنْك} هَذِه التَّرْجَمَة تبيّن أَن
الِاسْتِدَانَة مقيّدة الْجَوَاز بِالْقُدْرَةِ على
التَّحْصِيل، لِأَنَّهُ إِذا علم من نَفسه الْعَجز، فقد
أَخذ لَا يُرِيد الْوَفَاء وَكَيف يُرِيد مَا هُوَ عَاجز
عَنهُ إلاّ تمنيّاً وَالتَّمَنِّي غير الْإِرَادَة.
(1/267)
(219 - (3) بَاب إِذا قضى دون حَقه، أَو
حلله فَهُوَ جَائِز)
فِيهِ جَابر: إِن أَبَاهُ قتل يَوْم أحد شَهِيدا وَعَلِيهِ
دين. فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاء فِي حُقُوقهم. فَأتيت
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَسَأَلَهُمْ أَن
يقبلُوا تمر حائطي ويحللوا أَبى فَأَبَوا. فَلم يعطهم
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- حائطي. وَقَالَ:
سنغدو عَلَيْك. فغدا علينا حِين أصبح، فَطَافَ فِي النّخل،
ودعا فِي ثَمَرهَا بِالْبركَةِ. فجددتها فقضيتهم. وبقى لنا
من ثَمَرهَا.
قلت: رَضِي الله عَنْك {خطأ الشَّارِح قَوْله: " أَو حلله
". وَقَالَ: هِيَ بِالْوَاو، وَإِن كَانَت النّسخ كلّها "
بِأَو ".
قلت: رَضِي الله عَنْك} وَالصَّوَاب مَا فِي النّسخ.
وَالْمَقْصُود " أَو حلله " من جَمِيعه. وَأخذ البُخَارِيّ
هَذَا من جَوَاز قَضَاء الْبَعْض والتحلل من الْبَعْض.
فَإِذا كَانَ لصَاحب الْحق أَن يهضم بعض حَقه فيطيب
للمديان. فَكَذَلِك الْجَمِيع.
(220 - (4) بَاب إِذا قاصّه أَو جازفه فِي دين فَهُوَ
جَائِز تمر بِتَمْر أَو غَيره)
فِيهِ جَابر: إِن أَبَاهُ توفىّ وَترك عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ
وسْقا لرجل من الْيَهُود
(1/268)
فاستنظره جَابر، فَأبى أَن ينظره. فَكلم
جَابر رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ليشفع لَهُ
إِلَيْهِ فَجَاءَهُ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
وكلم الْيَهُودِيّ ليَأْخُذ تمر نخله بِالَّذِي لَهُ
فَأبى. فَدخل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النّخل
فَمشى فِيهَا، ثمَّ قَالَ لجَابِر: جدّ لَهُ فأوف الَّذِي
لَهُ فجدّه بَعْدَمَا رَجَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] فأوفى لَهُ ثَلَاثِينَ وسْقا. فضلت لَهُ سَبْعَة
عشر وسْقا. فجَاء جَابر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- ليخبره بِمَا كَانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي الْعَصْر،
فَلَمَّا انْصَرف أخبرهُ بِالْفَضْلِ. قَالَ أخبر ذَلِك
ابْن الْخطاب، فَقَالَ عمر: علمت حِين مَشى فِيهَا
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ليباركن فِيهَا.
قلت: رَضِي الله عَنْك! وَجه دُخُوله فِي الْفِقْه
التَّنْبِيه على أَنه يغْتَفر فِي الْقَضَاء مَا لَا
يغْتَفر فِي الْمُعَارضَة لِأَن بيع الْمَجْهُول بالمعلوم
من جنسه مزابنة وَإِن كَانَ فِي التَّمْر وَغَيره فمزابنة
وَربا. وَالنَّبِيّ -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قضى صَاحب
دين جَابر مَجْهُولا عَن تمر الْحَائِط فِي أوساق معيّنة،
لِأَنَّهُ قَضَاء. وَأَيْضًا فالتفاوت مُتَحَقق وَهُوَ
يدْفع الْمُزَابَنَة خَاصَّة.
(221 - (5) بَاب إِذا وجد مَاله مُفلس فِي [البيع]
وَالْقَرْض والوديعة فَهُوَ أَحَق بِهِ)
وَقَالَ الْحسن: إِذا أفلس وتبيّن لم يجز عتقه وَلَا
بَيْعه
(1/269)
وَلَا شِرَاؤُهُ. وَقَالَ ابْن الْمسيب:
قضى عُثْمَان قَالَ: من اقْتضى من حقّه قبل أَن يفلس،
فَهُوَ لَهُ. وَمن عرف مَاله بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ.
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه عِنْد رجل قد
أفلس، فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره.
قلت: رَضِي الله عَنْك! أَدخل البُخَارِيّ القروض والوديعة
مَعَ البيع: إِمَّا لِأَن الحَدِيث مطلقٌ، وَإِمَّا
لِأَنَّهُ ردّ فِي البيع. وَالْحكم فِي الْقَرْض أَو
الْوَدِيعَة أولى. أما الْوَدِيعَة فَملك رَبهَا لم
ينْتَقل. وَأما الْقَرْض فانتقال ملكه عَنهُ مَعْرُوف.
وَهُوَ أَضْعَف من تمْلِيك الْمُعَاوضَة فَإذْ أبطل
التَّفْلِيس ملك الْمُعَاوضَة القوى بِشَرْطِهِ فالضعيف
أولى.
(222 - (6) بَاب من بَاعَ مَال الْمُفلس أَو المعدم
فَقَسمهُ بَين الْغُرَمَاء أَو أعطَاهُ حَتَّى ينْفق على
نَفسه)
فِيهِ جَابر: أعتق رجل منا غُلَاما لَهُ عَن دبر. فَقَالَ
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : من يَشْتَرِيهِ
فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله فَأخذ ثمنه فَدفعهُ
إِلَيْهِ.
(1/270)
[قلت: رَضِي الله عَنْك!] احْتمل عِنْد
البُخَارِيّ دفع الثّمن إِلَيْهِ أَن يكون بَاعه عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ لم يكن يملك سواهُ. فَلَمَّا أحجف بِنَفسِهِ
تولى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بَيْعه
بِنَفسِهِ، لأجل تعلق حق التَّدْبِير. والحقوق إِذا أبطلت
احْتِيجَ فِي فَسخهَا إِلَى الحكم. فعلى هَذَا
التَّأْوِيل، يكون دفع الثّمن إِلَيْهِ حَتَّى يُنْفِقهُ
على نَفسه.
وَاحْتمل عِنْده أَن يكون بَاعه عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مديان.
وَمَال الْمديَان يقسم بَين الْغُرَمَاء. وَيكون سلمه
إِلَيْهِ ليقسمه بَين غُرَمَائه. وَلِهَذَا ترْجم على
التَّقْدِيرَيْنِ. وَالشَّارِح بعيد عَن هَذَا كُله.
فَتَأَمّله.
(41 -[الْخُصُومَات] )
(223 - (1) بَاب من ردّ أَمر السَّفِيه والضعيف الْعقل
وَإِن لم يكن حجر عَلَيْهِ الإِمَام)
وَيذكر عَن جَابر أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- ردّ على الْمُتَصَدّق قبل النَّهْي ثمَّ نَهَاهُ
وَقَالَ مَالك: إِذا كَانَ لرجل على رجل مَال وَله عبد لَا
شَيْء لَهُ غَيره. فَأعْتقهُ لم يجز عتقه.
(1/271)
وَمن بَاعَ على الضَّعِيف وَنَحْوه دفع
إِلَيْهِ ثمنه وَأمره بالإصلاح وَالْقِيَام بِشَأْنِهِ
فَإِن أفسد بعد مَنعه، لِأَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- نهى عَن إِضَاعَة المَال. وَقَالَ للَّذي يخدع فِي
البيع: إِذا بَايَعت فَقل: " لَا خلابة " وَلم يَأْخُذ
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَاله.
فِيهِ ابْن عمر: كَانَ رجل يخدع فِي البيع، فَقَالَ لَهُ
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: إِذا بَايَعت فَقل:
" لَا خلابة ". فَكَانَ يَقُول.
وَفِيه جَابر: إِن رجلا أعتق عبدا لَيْسَ لَهُ مَال غَيره،
فردّه النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فابتاعه
مِنْهُ نعيم بن النحّام.
قلت: رَضِي الله عَنْك! هَذِه التَّرْجَمَة وَمَا سَاقه
مَعهَا من محاسنه اللطيفة. وَذَلِكَ أَن الْعلمَاء
اخْتلفُوا فِي سَفِيه الْحَال قبل الحكم هَل ترد عقوده؟
اخْتلف قَول مَالك فِي ذَلِك، فَاخْتَارَ البُخَارِيّ
ردّها، وَاسْتدلَّ بِحَدِيث الْمُدبر. وَذكر قَول مَالك
فِي ردّ عتق الْمديَان قبل الْحجر إِذا أحَاط الدّين
بِمَالِه. وَيلْزم مَالِكًا رد أَفعَال سَفِيه الْحَال
لِأَن الْحجر فِي السَّفِيه والمديان مطرد. ثمَّ فهم
البُخَارِيّ أَنه يرد عَلَيْهِ حَدِيث حبّان فَإِن
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- اطلع على أَنه يخدع.
وأمضى أَفعاله الْمَاضِيَة والمستقبلية فنبه على أَن
الَّذِي تُرِيدُ أَفعاله هُوَ الظَّاهِر السَّفه، الْبَين
الإضاعة، كإضاعة صَاحب الْمُدبر. وَالتَّفْصِيل بَين
الظَّاهِر السَّفه والخفي السَّفه أحد أَقْوَال مَالك
أَيْضا. وَأَن المخدوع فِي الْبيُوع يُمكنهُ الِاحْتِرَاز
وَقد نبهه رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ثمَّ
فهم أَنه يرد عَلَيْهِ كَون النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- أعْطى صَاحب الْمُدبر ثمنه وَلَو كَانَ مَنعه لأجل
السَّفه لما سلّم إِلَيْهِ الثّمن. فنبه على أَنه إِنَّمَا
أعطَاهُ بعد أَن علمه طَرِيق الرشد، وَأمره بالإصلاح
وَالْقِيَام بِشَأْنِهِ. وَمَا كَانَ السَّفه حِينَئِذٍ
فسقاً. وَإِنَّمَا نَشأ من الْغَفْلَة وَعدم البصيرة
بمواقع الْمصَالح فَلَمَّا بَينهَا لَهُ كَفاهُ ذَلِك.
وَلَو ظهر للنَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- من حَاله
بعد ذَلِك، أَنه لم يتَنَبَّه وَلم يرشد لمَنعه
التَّصَرُّف مُطلقًا، وَحجر عَلَيْهِ حجرا مطّرداً. وَقد
أغْنى البُخَارِيّ الشَّارِح بإشاراته على
(1/272)
التطويلات الْبَعِيدَة، عَن مَقْصُود صَاحب الْجَامِع.
فتأملها. |