المتواري على
أبواب البخاري (67 -[كتاب الْقُرْآن] )
(340 - (1) بَاب نزل الْقُرْآن بِلِسَان قُرَيْش وَالْعرب.
وَقَوله تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبيا} و {بِلِسَان
عَرَبِيّ مُبين} [الشُّعَرَاء: 195] .)
فِيهِ أنس: قَالَ: أَمر عُثْمَان زيد بن ثَابت، وَسعد بن
الْعَاصِ، وعبد الله بن الزبير، وَعبد الرَّحْمَن بن
الْحَارِث بن هِشَام أَن ينسخوها فِي الْمَصَاحِف.
وَقَالَ لَهُم: إِذا اختلفتم أَنْتُم وَزيد بن ثَابت فِي
عربيّة من عَرَبِيَّة الْقُرْآن فاكتبوها بِلِسَان
قُرَيْش.
قَالَ: الْقُرْآن انْزِلْ بلسانهم، فَفَعَلُوا.
فِيهِ يعلي بن أُميَّة: إِنَّه كَانَ يَقُول: لَيْتَني أرى
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- حِين ينزل عَلَيْهِ
الْوَحْي. فَلَمَّا كَانَ بالجعرّانة وَعَلِيهِ الثَّوْب
قد أظلّ عَلَيْهِ، وَمَعَهُ نَاس من أَصْحَابه، إِذْ
جَاءَهُ رجل متضمّخ بِطيب، فَقَالَ: يَا رَسُول الله!
كَيفَ ترى فِي
(1/387)
رجل أحرم فِي جبّة بعد مَا تضمخ بِطيب،
فَنظر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- سَاعَة،
فَجَاءَهُ الوحى فَأَشَارَ عمر إِلَى يعلى أَن تعال. فجَاء
يعلى، فَأدْخل رَأسه. فَإِذا هُوَ محمّر الْوَجْه يغطّ
كَذَلِك سَاعَة، ثمَّ سرّى عَنهُ، فَقَالَ: أَيْن الَّذِي
سَأَلَ عَن الْعمرَة آنِفا؟ الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك {حَدِيث يعلى أقعد بالترجمة
الْمُتَقَدّمَة الَّتِي ضمنهَا نزُول الْوَحْي مُطلقًا.
وَهَذِه خصّها بِالْقُرْآنِ. وَكَأَنَّهُ قصد التَّنْبِيه
على أَن الْقُرْآن والسنّة كليهمَا بوحى وَاحِد بِلِسَان
وَاحِد.
(341 - (2) بَاب نزُول السكينَة وَالْمَلَائِكَة عِنْد
الْقِرَاءَة)
فِيهِ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم: عَن أسيد بن حضير، بَينا
هُوَ يقْرَأ من اللَّيْل سُورَة الْبَقَرَة وفرسه مربوطة،
إِذْ جالت الْفرس فَسكت فسكنت. ثمَّ قَرَأَ فجالت
فَانْصَرف، وَكَانَ ابْنه يحي قَرِيبا مِنْهَا فأشفق أَن
تصيبه. فلمّا أصبح حدّث النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] . فَقَالَ: اقْرَأ يَا ابْن حضير، اقْرَأ يَا ابْن
حضير. قَالَ: فَأَشْفَقت يَا رَسُول الله} أَن تطَأ يحيى.
فَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء فَإِذا مثل الظلة، فِيهَا
أَمْثَال المصابيح فَخرجت حَتَّى لَا أَرَاهَا وَقَالَ:
وتدرى مَا ذَاك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَة
دنت لصوتك. وَلَو قَرَأت لأصبحت ينظر النَّاس إِلَيْهَا
لَا تتوارى مِنْهُم.
(1/388)
قلت: رَضِي الله عَنْك {ترْجم على نزُول
السكينَة وَالْمَلَائِكَة، وَلم يذكر فِي هَذَا الحَدِيث
إِلَّا الْمَلَائِكَة، لَكِن فِي حَدِيث الْبَراء فِي
سُورَة الْكَهْف تِلْكَ السكينَة نزلت. فلمّا أخبر عَن
نُزُولهَا عِنْد سَماع الْقُرْآن، نبّه البُخَارِيّ [على]
تلازمهما، وَفهم من الظلّة أَنَّهَا السكينَة. فَلهَذَا
سَاقهَا فِي التَّرْجَمَة. وَالله أعلم.
(342 - (3) بَاب فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: مثل الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الأترجة
طعمها طيب وريحها طيّب. وَالَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن
كالتمرة طعمها طيب وَلَا ريح لَهَا. وَمثل الْفَاجِر
الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الريحانة رِيحهَا طيّب
وطعمها مرّ. وَمثل الْفَاجِر الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن
كَمثل الْحِنْطَة طعمها مرّ وَلَا ريح لَهَا.
وَفِيه عمر: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-:
إِنَّمَا أجلكم فِيمَا خلا من الْأُمَم، كَمَا بَين صَلَاة
الْعَصْر ومغرب الشَّمْس. ومثلكم وَمثل الْيَهُود
وَالنَّصَارَى كَمثل رجل اسْتعْمل عمّالاً، فَقَالَ: من
يعْمل لي من نصف النَّهَار إِلَى الْعَصْر على قِيرَاط.
فَعمِلت النَّصَارَى. ثمَّ أَنْتُم تَعْمَلُونَ من
الْعَصْر إِلَى الْمغرب بقيراطين قيراطين. قَالُوا -
الْيَهُود -: نَحن أَكثر عملا وأقلّ عَطاء. قَالَ: هَل
ظلمتكم من حقكم؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِك فضلي أوتيه
من أَشَاء.
قلت: رضى الله عَنْك} وَجه مُطَابقَة الْحَدِيثين
للتَّرْجَمَة أَنه وصف حَامِل الْقُرْآن وَالْعَامِل
بالكمال، وَهُوَ اجْتِمَاع المنظر والمخبر. وَلم يثبت
هَذَا الْكَمَال لحامل غَيره من الْكتب، فَكيف بالْكلَام.
(1/389)
(343 - (4) بَاب من لم يتغنّ بِالْقُرْآنِ.
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك
الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} [العنكبوت: 51] .)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- لم يَأْذَن الله لشَيْء مَا أذن لنبيّ
أَن يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ صَاحب لَهُ: يُرِيد
يجْهر بِهِ.
وَقَالَ مرّة: مَا أذن لنبيَ أَن يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ.
قَالَ سُفْيَان: تَفْسِيره يسْتَغْنى بِهِ.
وَذكر فِي كتاب الِاعْتِصَام حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: لَيْسَ منا
من لم يتغنّ بِالْقُرْآنِ.
وَزَاد غَيره: يجْهر بِهِ. ذكره فِي بَاب قَوْله تَعَالَى:
{وأسروا قَوْلكُم أَو أجهروا بِهِ} . [الْمَائِدَة: 13] .
قلت: رَضِي الله عَنْك! يفهم من تَرْجَمَة البُخَارِيّ أَن
يحمل التغنى على الِاسْتِغْنَاء لَا على الْغناء
بِكَوْنِهِ أتبع الحَدِيث بِالْآيَةِ. ومضمونها
الْإِنْكَار على من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ عَن غَيره من
الْكتب السالفة وَمن المعجزات الَّتِي كَانُوا يقترحونها،
وَهُوَ مُوَافق لتأويل ابْن عُيَيْنَة. وَلَكِن ابْن
عُيَيْنَة حمله على الِاسْتِغْنَاء الَّذِي هُوَ ضد
الْفقر. وَالْبُخَارِيّ يحملهُ على الِاسْتِغْنَاء الَّذِي
هُوَ أعمّ من هَذَا، وَهُوَ الِاكْتِفَاء.
(1/390)
مُطلقًا ويندرج فِي ذَلِك عدم الافتقار
إِلَى الِاسْتِظْهَار والاستغناء بِالْحَقِّ لِأَن فِيهِ
من المواعظ والآيات والزواجر مَا نزع صَاحبه عَن حوائج
الدُّنْيَا وَأَهْلهَا.
وَأطَال ابْن بطال فِي نقل الردّ على من فسّره بالاستغناء،
وَإِن ذَلِك مُخَالفَة للغة. وقدح فِي الْآثَار الَّتِي
اسْتشْهد بهَا المفسّر لِابْنِ عُيَيْنَة.
وَعِنْدِي أَن التَّفْسِير صَحِيح لُغَة، يدلّ عَلَيْهِ
قَوْله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-، فِي الْخَيل: " وَرجل
ربطها تغّنيا وَتَعَفُّفًا ".
وَلَا خلاف لُغَة أَنه مصدر " تغني "، ثمَّ لَا إِشْكَال
بعد أَن تغنى بهَا. وَهَذَا بِمَعْنى اسْتغنى بهَا وتعفف.
وَلم أَقف على هَذَا الاستشهاد لغيري. وَالله الْمُوفق.
(344 - (5) بَاب اغتباط صَاحب الْقُرْآن.)
فِيهِ ابْن عمر: سَمِعت النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- يَقُول: لَا حسد إِلَّا على اثْنَيْنِ: رجلّ
آتَاهُ الله الْكتاب، فَقَامَ بِهِ آنَاء اللَّيْل
وَالنَّهَار. وَرجل آتَاهُ الله مَالا فَهُوَ يتَصَدَّق
بِهِ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار.
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : " لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَيْنِ: رجل علّمه الله
الْقُرْآن فَهُوَ يَتْلُو آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار،
فَسَمعهُ جارٌ لَهُ، فَقَالَ: لَيْتَني أُوتيت مثل مَا
أُوتى، فَعمِلت مثل مَا يعْمل. وَرجل آتَاهُ الله مَالا
فَهُوَ يهلكه فِي الْحق.
(1/391)
فَقَالَ رجل: لَيْتَني أُوتيت مثل مَا
أُوتى فلَان فَعمِلت مثل مَا يعْمل.
قلت: رضى الله عَنْك {بينّ بالترجمة أَن الْحَسَد
الْمَذْكُور فِي الحَدِيث هُوَ الِاغْتِبَاط. وَقد فسّره
فِي الحَدِيث بتمنّى الْمُمَاثلَة فِي الْخَيْر، لَا
بتمنّي سلب الْخَيْر عَن الْغَيْر وجرّه إِلَيْهِ.
(345 - (6) بَاب خَيركُمْ من تعلّم الْقُرْآن وعلّمه)
فِيهِ عُثْمَان: عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
قَالَ: خَيركُمْ من تعلّم الْقُرْآن وعلّمه.
وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: وَذَلِكَ الَّذِي أقعدني
مقعدي هَذَا.
وَقَالَ مرّة: " إِن أفضلكم من تعلّم الْقُرْآن وعلمّه ".
وَفِيه سهل بن سعد: إِن امْرَأَة أَتَت النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]-، وَقَالَت: إِنَّهَا قد وهبت
نَفسهَا لله عزّ وجلّ وَلِرَسُولِهِ - الحَدِيث -. فَقَالَ
[رجل] : زوّجنيها - إِلَى قَوْله - زوّجتكها بِمَا مَعَك
من الْقُرْآن.
قلت: رضى الله عَنْك} مُطَابقَة الْأَحَادِيث للتَّرْجَمَة
بيّنة إِلَّا حَدِيث سهل.
(1/392)
وظنّ ابْن بطال أَن وَجه مطابقته أَنه
زوّجه الْمَرْأَة لحُرْمَة الْقرَاءَات، وَلَيْسَ كَذَلِك.
بل معنى قَوْله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: " زوّجتكها
بِمَا مَعَك من الْقُرْآن " بِأَن تعلّمها مَا مَعَك من
الْقُرْآن، فَهُوَ من قبيل التَّزْوِيج على الْمَنَافِع
الَّتِي يجوز عقد الْإِجَارَة عَلَيْهَا. وعَلى هَذَا حمله
الْأَئِمَّة. وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ - رَحمَه
الله -، فَأدْخلهُ فِي بَاب تَعْلِيم الْقُرْآن. وَالله
أعلم.
وَقد ظهر بِهَذَا الحَدِيث فضل الْقُرْآن على صَاحبه فِي
الدّين وَالدُّنْيَا، يَنْفَعهُ فِي دينه بِمَا فِيهِ من
المواعظ والآيات، وينفعه فِي دُنْيَاهُ، لِأَنَّهُ قَامَ
لَهُ مقَام المَال الَّذِي يتوصّل بِهِ إِلَى النِّكَاح
وَغَيره من الْمَقَاصِد.
(346 - (7) بَاب تَعْلِيم الصّبيان الْقُرْآن.)
فِيهِ ابْن جُبَير: قَالَ: إِن الَّذِي تَدعُونَهُ الْمفصل
هُوَ الْمُحكم.
[وَقَالَ:] قَالَ ابْن عَبَّاس: توفىّ رَسُول الله -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَأَنا ابْن عشر سِنِين. وَقد
قَرَأت الْمُحكم. قيل لَهُ: وَمَا الْمُحكم؟ قَالَ
الْمفصل.
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِنَّمَا ذكر قَول ابْن جُبَير
تَوْطِئَة لتفسير ابْن عَبَّاس الْمُحكم بالمفصل، وَأَنه
تعلّمه وَهُوَ صبىّ.
(1/393)
وَلَو اسْتشْهد بِمثل " غطّوا أست قارئكم
"، وَكَانَ طفْلا لم يلْتَزم ستر عَوْرَته بعد، لَكَانَ
أقعد بتعليم الصّبيان.
(347 - (8) بَاب نِسْيَان الْقُرْآن، وَهل يَقُول: نسيت
آيَة كَذَا وَكَذَا. وَقَوله تَعَالَى:: {ونقرئك فَلَا
تنسى} [الْأَعْلَى: 6] .
فِيهِ عَائِشَة - رضى الله عَنْهَا - قَالَت: سمع النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- رجلا يقْرَأ فِي الْمَسْجِد،
فَقَالَ: يرحمه الله، لقد أذكرني آيه كَذَا وَكَذَا
أسقطتهن فِي سُورَة كَذَا.
فِيهِ عبد الله: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: مَا لأَحَدهم يَقُول: نسيت آيَة كَيْت وَكَيْت،
بل هُوَ نسّى.
قلت: رضى الله عَنْك! ترْجم على نِسْيَان الْقُرْآن، فأضاف
النسْيَان إِلَيْهِ، وَذكر الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهرهَا
التَّعَارُض. فَقَوله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أسقطتهن
من سُورَة كَذَا، يدّل على الْجَوَاز لِأَن الْإِسْقَاط
نِسْيَان، وَقد أَضَافَهُ إِلَى نَفسه على أَنه الْفَاعِل،
وَإِلَى الْقُرْآن على أَنه الْمُتَعَلّق.
وَقَوله: مَا لأَحَدهم يَقُول: نسيت آيَة كَذَا، إنكاراً
لهَذَا الْإِطْلَاق، فأفهم أَن محمل الْمَنْع غير محمل
الْإِذْن. فَالَّذِي منع أَن يُوهم بِإِطْلَاقِهِ أَنه ترك
شَيْئا من كتاب الله، لِأَن " نسى " مُشْتَرك بَين " سَهَا
" وَبَين " ترك " قصدا. فَمَا كَانَ موهماً
(1/394)
منع من إِطْلَاقه. فَأَما قَوْله: " أذكرني
آيه أسقطتها "، فَهُوَ صَرِيح فِي السَّهْو بِقَرِينَة
قَوْله: " لقد أذكرني فَزَالَ الْوَهم فَجَاز الْإِطْلَاق.
وظنّ الشَّارِح أَن النهى عَن قَوْله: " نسيت " من قبيل
الزام إِضَافَة الْأَفْعَال إِلَى الله لِأَنَّهُ
خَالِقهَا حَقِيقَة، وإضافتها إِلَى الْغَيْر مجَاز.
وَهَذَا وهم مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَا طرد
فِي كل فعل، ولعارض قَوْله: " أسقطتهن " ثمَّ هُوَ خلاف
الْإِجْمَاع فِي جَوَاز إِضَافَة أَفعَال الْعباد
إِلَيْهِم مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ مخلوقة لله، فَلَيْسَ
إِلَّا مَا قدّمته. وَالله أعلم.
وَلِهَذَا خلص الْوَهم بقوله: " هُوَ نسى " لِأَن هَذَا
لَا يُوهم التّرْك من نَفسه عمدا، فَتَأَمّله.
(348 - (9) بَاب الترتيل فِي الْقُرْآن.)
8 - (ورتل الْقُرْآن ترتيلاً} [المزمل: 4] وَقَوله
تَعَالَى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث
ونزلناه تَنْزِيلا} [الْإِسْرَاء: 106] . وَمَا يهذّ كهذّ
الشّعْر.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فرقناه: فصلناه.
فِيهِ عبد الله: إِن رجلا قَالَ: قَرَأت الْمفصل البارحة،
فَقَالَ: هذّا كهذّ الشّعْر. إِنَّا قد سمعنَا
الْقِرَاءَة، وَإِنِّي لأحفظ القرناء الَّتِي كَانَ يقْرَأ
بهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثَمَانِي
عشرَة سُورَة من الْمفصل، وسورتين من آل حَامِيم.
(1/395)
وَفِيه ابْن عَبَّاس: فِي قَوْله تَعَالَى:
{لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ}
قَالَ: كَانَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- إِذا
نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي، وَكَانَ مِمَّا يُحَرك بِهِ
لِسَانه وشفتيه، فيشتد عَلَيْهِ. فَأنْزل الله
سُبْحَانَهُ: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} .
الحَدِيث.
قلت: رضى الله عَنْك {الصَّحِيح فِي قَوْله: {وقرآناً
فرقناه} أَن المُرَاد " نزلناه " نجوماً لَا جملَة
وَاحِدَة، بِخِلَاف الْكتب الْمُتَقَدّمَة، فَإِنَّهَا
نزلت جملَة. وَهَكَذَا معنى: {لتقرأه على النَّاس على مكث}
فقرأه عَلَيْهِم حسب نُزُوله فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة.
وعَلى هَذَا التَّأْوِيل يخرج عَن مَقْصُود التَّرْجَمَة
إِلَّا أَن يُقَال: لما أنزلهُ منجّماً مفرقاً، ناسب هَذَا
الأناة فِي تِلَاوَته، وَهُوَ معنى الترتيل.
(349 _ (10) بَاب حسن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ.)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- قَالَ لَهُ: لقد أُوتيت مزمار من مَزَامِير آل
دَاوُد ".
قلت: رضى الله عَنْك} حسن الصَّوْت يُطلق على وَجْهَيْن:
يُطلق على الغنّة الخلقية، فَهَذَا لَا يترجم عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ غير مكتسب، وَلَا تَكْلِيف بِهِ.
وَيُطلق على تعَاطِي حسن الصَّوْت، فَمن هُوَ خلقه فِيهِ
فيزيده حسنا، وممّن
(1/396)
لَيْسَ خلقه فِيهِ، فيتسلق على أَن يكتسبه.
وَهَذَا يدْخل تَحت التَّكْلِيف والترجمة.
وليحذر أَن يتَكَلَّف من ذَلِك مَا يفْسد عَلَيْهِ أصل
صلَاته إِن كَانَ مُصَليا، أَو أصل الْفضل إِن كَانَ
تالياً. فقد رَأينَا بَعضهم يكثر من التنحنح، يزْعم أَنه
يصقل حلقه بذلك فِي أثْنَاء الصَّلَاة، فَيبْطل على نَفسه
وعَلى مأموميه.
(350 _ (11) بَاب قَول الْمُقْرِئ للقارئ: حَسبك.)
فِيهِ عبد الله: قَالَ النَّبِي _[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]_: اقْرَأ على. قلت: يَا رَسُول الله {اقْرَأ
عَلَيْك، وَعَلَيْك أنزل؟ قَالَ: نعم. فَقَرَأت سُورَة
النِّسَاء، حَتَّى أتيت إِلَى هَذِه الْآيَة: {فَكيف إِذا
جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ
شَهِيدا} [النِّسَاء: 41] .
قَالَ: حَسبك. فَالْتَفت إِلَيْهِ، فَإِذا عَيناهُ
تَذْرِفَانِ.
قلت: رضى الله عَنْك} مدْخل هَذِه التَّرْجَمَة فِي
الْفِقْه إزاحة الشُّبْهَة عَمَّن يستمع إِلَى قَارِئ
قُرْآن أَو حَدِيث، يعرض لَهُ مَانع من ملل أَو غَيره،
فَلهُ أَن يكف الْقَارئ، وَلَا يخرج بِكَوْنِهِ قطع
عَلَيْهِ التِّلَاوَة. وَلَا يعد فِيمَن استخفّ بِكِتَاب
الله، لِأَن الدّين يسر.
(1/397)
|