جامع العلوم
والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ت: الفحل الحديث السابع عشر
عَنْ أَبي يَعْلَى شَدَّاد بنِ أوسٍ، عَنْ رسولِ الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ
على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَة،
وإذا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا
الذِّبْحَةَ (1) ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ،
ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) . رواهُ مُسلم (2) .
هذا الحديث خرَّجه مسلم دونَ البخاري من رواية أبي قلابة،
عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شدَّادِ بنِ أوس (3) ، وتركه
البخاري؛ لأنَّه لم يخرِّج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئاً
وهو شاميٌّ ثقة. وقد روي نَحوهُ من حديث سَمُرُةَ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله - عز
وجل - محسِنٌ فأحسنوا، فإذا قَتَلَ أحدكُم، فليُكْرِم
مقتولَه، وإذا ذبح، فليحدَّ شفرته، وليُرِحْ ذبيحته))
خرَّجه ابن عدي (4) .
_________
(1) بكسر الذال والهاء كالقتلةِ، وهي الهيئة، ويروى:
((الذَّبح)) بفتح الذال بغير هاء. انظر: شرح النووي على
صحيح مسلم 7/95 (1955) (57) .
(2) في " صحيحه " 6/72 (1955) (57) .
وأخرجه: الطيالسي (1119) ، وعبد الرزاق (8603) و (8604) ،
وعلي بن الجعد
(1262) ، وأحمد 4/123 و124 و125، والدارمي (1976) ، وأبو
داود (2815) ، وابن ماجه (3170) ، والترمذي (1409) ،
والنسائي 7/227 و229 و230، وابن الجارود (839) و (899) ،
والطبراني في " الصغير " (1035) ، والبيهقي 8/60-61 و9/68
و280، والخطيب في " تاريخه " 5/278، والبغوي (2783) من
حديث شداد بن أوس، به.
(3) في " صحيحه " 6/72 (1955) (57) من حديث شداد بن أوس،
به.
(4) في " الكامل " 8/175 من حديث الحسن، عن سمرة بن جندب،
به، وإسناده ضعيف لضعف مجاعة بن الزبير فقد ضعفه الدارقطني
كما في " الميزان " 3/437، والحسن لم يسمع جميع ما رواه عن
سمرة.
(1/425)
وخرَّج الطبراني (1)
من حديث أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا،
وإذا قَتَلتُم فأَحْسِنُوا، فإنَّ الله مُحْسِنٌ يُحِبُّ
المحسنين)) .
فقولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كتب الإحسّانَ
على كُلِّ شيء)) ، وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب "
السير " عن خالدٍ، عن أبي قِلابة، عن النَّبيِّ - صلى الله
عليه وسلم -: ((إنَّ الله كتبَ الإحسّانَ على كلِّ شيءٍ))
، أو قال: ((على كلِّ خلقٍ)) هكذا خرَّجها مرسلةً،
وبالشكِّ في: ((كُلِّ شيءٍ)) ، أو: ((كلِّ خلق)) ،
وظاهرُهُ يقتضي أنَّه كتب على كلِّ مخلوق الإحسّان، فيكون
كُلُّ شيءٍ، أو كُلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوب هو
الإحسّانُ (2) .
وقيل: إنَّ المعنى: أنَّ الله كتب الإحسّانَ إلى كلِّ شيء،
أو في كلِّ شيء، أو كتب الإحسّانَ في الولاية على كُلِّ
شيءٍ، فيكون المكتوبُ عليه غيرَ مذكور، وإنَّما المذكورُ
المحسن إليه (3) .
ولفظ: ((الكتابة)) يقتضي الوجوب عندَ أكثرِ الفقهاء
والأصوليين خلافاً
لبعضهم، وإنَّما يعرف (4) استعمالُ لفظة الكتابة في القرآن
فيما هو واجب حتمٌ إمَّا شرعاً، كقوله تعالى: {إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَوْقُوتاً} (5) ، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
(6) ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (7) ، أو فيما هو
واقع
قدراً لا محالة، كقوله: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي} (8) ، وقوله: {وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (9) ، وقوله
: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} (10) .
وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قيام شهر رمضانَ
: ((إنِّي خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عَلَيكُمْ)) (11) ،
_________
(1) في " الأوسط " (5735) .
وأخرجه: ابن أبي عاصم في "الديات": 94، وإسناده ضعيف من
أجل عمران بن داور القطان.
(2) من قوله: ((فيكون كل شيء ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(3) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 7/94-95.
(4) ((يعرف)) سقطت من (ج) .
(5) النساء: 103.
(6) البقرة: 183.
(7) البقرة: 216.
(8) المجادلة: 21.
(9) الأنبياء: 105.
(10) المجادلة: 22.
(11) أخرجه: البخاري 1/186 (729) من حديث عائشة، به.
وأخرجه: أحمد 5/182 و184 و187، والبخاري 9/117 (7290) ،
ومسلم 2/188
(781) (213) ، والنسائي 3/197-198، والطبراني في " الكبير
" (4892) ، والبيهقي 3/109 من حديث زيد بن ثابت، به.
(1/426)
وقال: ((أُمِرْتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ
أنْ يُكتَبَ عليَّ)) (1) ، وقال: ((كُتِبَ على ابنِ آدمَ
حظُّه من الزِّنى، فهو مُدرِكٌ ذلك لا محالة)) (2) .
وحينئذٍ فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسّان، وقد أمر الله
تعالى به،
فقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}
(3) ، وقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ} (4) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 3/490، والطبراني في " الكبير " 22/ (189)
و (190) من حديث واثلة بن الأسقع، به، وإسناده ضعيف لضعف
ليث بن أبي سليم، وانظر: مجمع الزوائد 2/98.
(2) أخرجه: أحمد 2/317 و343 و379 و536، والبخاري 8/156
(6612) ، ومسلم 8/52 (2657) (20) ، وأبو داود (2152) و
(2153) و (2154) من حديث أبي هريرة،
به.
(3) النحل: 90.
(4) البقرة: 195.
(1/427)
وهذا الأمرُ (1) بالإحسّان تارةً يكونُ
للوجوب كالإحسّان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به
البرُّ والصِّلَةُ والإحسّانُ إلى الضيف بقدر ما يحصل به
قِراه على ما سبق ذكره.
وتارةً يكونُ للندب كصدقةِ التطوعِ ونحوها (2) .
وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوب الإحسّانِ في كل شيء من
الأعمال، لكن إحسانُ كُلِّ شيء بحسبه، فالإحسّانُ في
الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنةِ: الإتيانُ بها على
وجه كمال واجباتها، فهذا القدرُ من الإحسّان فيها واجب،
وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحباتها فليس بواجب.
والإحسّانُ في ترك المحرَّمات: الانتهاءُ عنها، وتركُ
ظاهرها وباطنها، كما
قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (3) .
فهذا القدرُ من الإحسّان فيها
واجب (4) .
وأما الإحسّانُ في الصبر على المقدورات، فأنْ يأتي بالصبر
عليها على وجهه من غير تَسَخُّطٍ ولا جَزَع.
والإحسّانُ الواجبُ في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيامُ
بما أوجب الله من حقوق ذلك كلِّه، والإحسّانُ الواجب في
ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كُلِّها،
والقدرُ الزائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب.
والإحسّانُ في قتل ما يجوزُ قتله من الناس والدواب: إزهاقُ
نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها وأَوحاها من غير زيادةٍ في
التعذيب، فإنَّه إيلامٌ لا حاجة إليه.
_________
(1) من قوله: ((وقال: فأحسنوا ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(2) انظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 2/94.
(3) الأنعام: 120.
(4) انظر: تفسير البغوي 2/155، وزاد المسير 3/114.
(1/428)
وهذا النوعُ هو الذي ذكره النَّبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيلِ
المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: ((إذا
قتلتُم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة))
والقِتلة والذِّبحة بالكسر، أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا
هيئة الذبح، وهيئة القتل. وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في
إزهاق النفوس التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوه (1) .
وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة
(2) ، وأسهلُ وجوه (3) قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق،
قال الله تعالى في حقِّ الكفار: {فَإِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (4) ، وقال
تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} (5) . وقد قيل:
إنَّه عيَّن الموضع الذي يكونُ الضربُ فيه أسهلَ على
المقتول وهو فوقَ العظام دونَ الدماغ، ووصى دريدُ بنُ
الصِّمة قاتله أنْ يَقْتُلَهُ كذلك.
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سريةً
تغزوا في سبيل الله قال لهم: ((لا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا
وليداً)) (6) .
_________
(1) انظر: عون المعبود 8/10.
(2) انظر: المحلى 12/31-32.
(3) سقطت من (ص) .
(4) محمد: 4.
(5) الأنفال: 12.
(6) أخرجه: مسلم 5/139-140 (1731) (3) من حديث بريدة، به.
(1/429)
وخرَّج أبو داود، وابن ماجه من حديثِ ابنِ
مسعود، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ((أَعَفُّ
(1/430)
الناسِ قِتلةً أهلُ الإيمانِ)) (1) .
وخرَّج أحمد وأبو داود من حديث عمران بنِ حُصينٍ وسَمُرَة
بنِ جُندبٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان
ينهى عن المُثْلةِ (2) .
_________
(1) أخرجه: أبو داود في " سننه " (2666) ، وابن ماجه
(2681) و (2682) .
وأخرجه: أحمد 1/393، وابن الجارود (840) ، وابن حبان
(5994) ، والبيهقي 8/61 و9/71 من حديث عبد الله بن مسعود،
به. وإسناده معلول بالوقف، وقد حصل فيه اختلاف كبير بيانه
في كتابي " الجامع في العلل ".
وأخرجه: عبد الرزاق (18232) ، والطبراني في " الكبير "
(9737) من حديث عبد الله بن مسعود، موقوفاً.
(2) أخرجه: أحمد 4/439 و440 و445، والطبراني في " الكبير "
18/ (325) من حديث عمران بن حصين، به.
وأخرجه: أحمد 5/12، وأبو داود (2667) ، والطبراني في "
الكبير " (6945) من حديث سمرة بن جندب، به.
(1/431)
وخرَّجه البخاري (1) من حديث عبد الله بن
يزيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه: نَهى عن
المُثلَةِ (2) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديث يعلى بنِ مُرة، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: لا تُمَثِّلوا
بِعِبادي (3)) ) (4) .
_________
(1) في " صحيحه " 3/177 (2474) و7/122 (5516) .
وأخرجه: أحمد 4/307 من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري،
به.
(2) من قوله: ((وخرجه البخاري ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(3) متن الحديث لم يرد في (ص) .
(4) في " مسنده " 4/172 و173.
وأخرجه: الطبراني 22/ (697) و (698) و (699) ، وإسناده
ضعيف لجهالة عبد الله بن حفص، وقد سقط من بعض الروايات.
(1/432)
وخرَّج أيضاً من حديث رجلٍ من الصحابة عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مَثَّلَ بذي
روحٍ، ثم لم يَتُبْ مثَّلَ الله به يومَ القيامة)) (1) .
واعلم أنَّ القتلَ المباحَ يقع على وجهين:
_________
(1) مسند الإمام أحمد 2/92 و115 من حديث رجل من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإسناده ضعيف لضعف شريك
النخعي.
وأخرجه: الطبراني في " الأوسط " (7297) عن عبد الله بن
عمر، به؛ لكن سنده ضعيف.
(1/433)
أحدُهما أنْ يكون قصاصاً، فلا يجوزُ
التمثيلُ فيه بالمقتص منه، بل يُقتَلُ كما قَتَلَ، فإنْ
كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ، فهل يُمثَّلُ به كما فعل أمْ لا
يُقتل إلا بالسيف؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء:
أحدُهما (1) : أنَّه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، وهو قولُ مالك
والشافعي (2) وأحمد في المشهور عنه (3) ، وفي " الصحيحين "
(4) عن أنسٍ قالَ: خَرَجَتْ جاريةٌ عليها أوضاحٌ بالمدينة،
فرماها يهودي بحجر، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وبها رَمَقٌ، فقالَ لها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلانٌ قتلك؟)) فرفعت
رأسها، فقال لها في الثالثة: ((فلان قتلك؟)) فخفضت رأسها،
فدعا به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرضخ رأسه
بَيْنَ الحَجَرَين. وفي روايةٍ لهما: فَأُخِذَ فاعترفَ،
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) لم يرد في (ص) .
(3) انظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259.
(4) سبق تخريجه.
(1/434)
وفي روايةٍ لمسلم: أنَّ رجلاً من اليهود
قتلَ جاريةً من الأنصار على حليٍّ لها، ثم ألقاها في
القَلِيب، ورضَخَ رأسَها بالحجارة، فأُخِذَ، فأُتي به
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به أنْ يُرجَمَ
حتّى يموت، فرُجِمَ حتى ماتَ (1) .
_________
(1) صحيح مسلم 5/104 (1672) (16) من حديث أنس، به.
(1/437)
والقول الثاني: لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف،
وهو قولُ الثوري، وأبي حنيفة، ورواية عن
أحمد (1) .
وعن أحمد رواية ثالثة: يُفعل به كما فعل إلا أنْ يكونَ
حرَّقه بالنار أو مَثَّلَ به، فيُقْتَلُ بالسيف للنهي عن
المُثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرمُ (2) ، وقد
رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا
قَودَ إلاَّ بالسيف)) خرَّجه ابن ماجه وإسناده ضعيف (3) ،
قال أحمد: يُروى: ((لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف)) وليس إسنادُه
بجيدٍ (4) ، وحديث أنس، يعني: في قتل اليهودي بالحجارة
أسندُ منه وأجودُ (5) .
ولو مَثَّلَ به، ثم قتله مثلَ أنْ قطّع أطرافَه، ثم قتله،
فهل يُكتفى بقتله أم يُصنع به كما صنع، فَتُقطع أطرافُه ثم
يُقتل؟ على قولين:
أحدهما: يُفعل به كما فعل سواء، وهو قولُ أبي حنيفة
والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم (6) .
والثاني: يُكتفى بقتله، وهو قولُ الثوري وأحمد في رواية
وأبي يوسف ومحمد (7) ، وقال مالك: إنْ فعل به ذلك على سبيل
التمثيلِ والتعذيبِ، فُعِلَ به كما فَعَلَ، وإنْ لم يكن
على هذا الوجه اكتفي بقتله (8) .
_________
(1) انظر: الهداية للكلوذاني 2/235 بتحقيقنا، والمغني
9/387، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259.
(2) انظر: المغني 9/392.
(3) السنن (2668) .
وأخرجه: البيهقي 8/63 من حديث أبي بكرة، به. وللحديث طرق
أخرى.
(4) انظر: المغني 9/388، والواضح في شرح مختصر الخرقي
4/260.
(5) المغني 9/387-388، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260.
(6) انظر: المغني 9/387، والواضح في شرح مختصر الخرقي
4/259-260، وبداية المجتهد 2/716.
(7) انظر: المصادر السابقة.
(8) انظر: بداية المجتهد 2/716.
(1/438)
الوجه الثاني: أنْ يكون القتلُ (1) للكفر،
إما لكفر أصلي، أو لردَّة عن الإسلام، فأكثرُ العلماء على
كراهة المُثلة فيه أيضاً، وأنَّه يُقتل فيه بالسيف، وقد
رُوي عن طائفةٍ من السَّلف جوازُ التمثيل فيه بالتحريق
بالنار وغير ذلك، كما فعله خالدُ بن الوليد وغيره (2) .
ورُوي عن أبي بكر: أنَّه حرَّق الفجاءة بالنَّار (3) .
ورُوي أنَّ أم قِرْفة الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر
الصديق، فأمر بها، فشدَّت ذوائِبُها في أذناب قَلُوصَيْنِ
أو فرسين، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة، وأسانيد هذه القصة
منقطعة. وقد ذكر ابنُ سعد في " طبقاته " بغير إسناد: أنَّ
زيدَ بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسولِ الله - صلى
الله عليه وسلم -، وأخبر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
بذلك (4) .
وصحَّ عن عليٍّ أنَّه حرَّق المرتدين، وأنكر ذلك ابنُ عباس
عليه (5) ، وقيل: إنَّه لم
يُحرّقهم، وإنَّما دَخَّنَ عليهم حتى ماتوا (6) ، وقيل:
إنَّه قتلهم، ثم حَرَّقَهُم، ولا يصحُّ ذلك. وروي عنه
أنَّه جيء بمرتدٍّ، فأمر به فوطئ بالأرجل حتَّى مات.
واختار ابنُ عقيلٍ - من أصحابنا - جوازَ القتل بالتمثيل
للكفر لاسيما إذا تغلَّظ،
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) انظر: الطبقات الكبرى 7/278، والمغني 10/76، والشرح
الكبير 10/80، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384، وفتح
الباري 6/182.
(3) انظر: تاريخ الطبري 3/264.
(4) انظر: الطبقات الكبرى 2/69.
(5) أخرجه: عبد الرزاق (18706) ، والحميدي (533) ، وأحمد
1/217 و220 و282، والبخاري 4/75 (3017) و9/18 (6922) ،
وأبو داود (4351) ، والترمذي (1458) ، والنسائي 7/104،
وأبو يعلى (2532) ، والطحاوي في " شرح المشكل " (2865)
و (2866) و (2867) و (2868) ، وابن حبان (4476) ،
والطبراني في " الكبير "
(11850) ، والدارقطني 3/85 (3157) ، والحاكم 3/538-539،
والبيهقي 8/195 و202 و9/71، والبغوي (2561) من حديث عبد
الله بن عباس، به.
(6) ذكره: البيهقي 9/71.
(1/439)
وحمل النهي عن المُثلةِ على القتل بالقصاص،
واستدلَّ من أجاز ذلك بحديثِ العُرنيين، وقد خرَّجاه في "
الصحيحين " من حديث أنس: أنَّ أناساً من عُرينة قَدِمُوا
على
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجْتَوَوْهَا،
فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنْ شئتم
أنْ تَخْرُجُوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها
وأبوالها، فافعلوا)) ففعلوا فصحُّوا، ثم مالوا على الرعاء،
فقتلوهم، وارتدُّوا عن الإسلام، وساقوا ذَودَ رسولِ الله -
صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه
وسلم -، فبعث في أثرهم، فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجُلَهم،
وسَمَلَ أعينَهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا (1) ، وفي
روايةٍ: ثم نُبِذُوا في الشمس حتى ماتوا (2) ، وفي روايةٍ:
وسمرت أعينُهم، وألقوا في الحرَّةِ (3) يَستسقونَ فلا
يُسقون (4) ،
_________
(1) أخرجه: عبد الرزاق (17132) و (18538) ، وأحمد 3/170
و177 و233 و290، والبخاري 5/164 (4192) و7/159 (5685)
و7/160 (5686) و7/167
(5727) ، ومسلم 5/102 (1671) (9) ، وأبو داود (4364) ،
والترمذي (72) ، والنسائي 1/158 و7/96-97 وفي " التفسير "،
له (163) ، وابن حبان (1388)
و (4472) ، والبيهقي 9/69 و10/4 من حديث أنس بن مالك، به.
(2) أخرجه: أحمد 3/177، ومسلم 5/102 (1671) (10) من حديث
أنس بن مالك، به.
(3) عبارة: ((وألقوا في الحرة)) سقطت من (ص) .
(4) أخرجه: عبد الرزاق (18538) ، وأحمد 3/170، والبخاري
7/167 (5727) ، ومسلم 5/102 (1671) (11) ، والترمذي (72) ،
والنسائي 7/97، وابن حبان (1388)
و (4472) من حديث أنس بن مالك، به.
(1/440)
وفي رواية للترمذي: قطع أيديَهم وأرجلهم من
خلافٍ (1) ، وفي رواية للنسائي: وصَلَبَهُم (2) .
وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء، فمنهم من قال: من
فعل مِثلَ فعلهم
فارتدَّ، وحارب، وأخذ المالَ، صنع به كما صنع بهؤلاء، وروي
هذا عن طائفة، منهم: أبو قِلابة (3) ، وهو روايةٌ عن أحمد.
ومنهم مَنْ قال: بل
_________
(1) الجامع الكبير (72) من حديث أنس بن مالك، به.
(2) في " المجتبى " 7/96 من حديث أنس بن مالك، به.
(3) ذكره: أبو داود (4364) ، وانظر: معالم السنن
3/256-257.
(1/444)
هذا يدلُّ على جواز التمثيل بمن تغلَّظَتْ
جرائمُهُ في
الجملة، وإنَّما نهي عن التمثيل في القصاص، وهو قول ابنِ
عقيل من
أصحابنا.
ومنهم من قال: بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المُثلةِ
(1) .
ومنهم من قال: كان قبلَ نزولِ الحدود وآيةِ المحاربة (2) ،
ثم نُسخ بذلك (3) ، وهذا قولُ جماعة منهم: الأوزاعي وأبو
عُبيد.
ومنهم من قال: بل ما فعله النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم
- بهم إنَّما كان بآية المحاربة، ولم ينسخ شيء من ذلك،
وقالوا: إنَّما قتلهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -،
وقَطَعَ أيديهم؛ لأنَّهم أخذوا المالَ، ومن أخذ المالَ
وقَتَلَ (4) ، قُطِعَ وقُتِلَ، وصُلِبَ حتماً، فيُقتَلُ
لقتله (5) ويُقطع لأخذه المال يَدُه ورجلُه من خِلاف،
ويُصلَبُ لجمعه (6) بين الجنايتين وهما: القتلُ وأخذُ
المال، وهذا قول الحسن، ورواية عن أحمد (7) .
وإنَّما سَمَلَ أعينهم؛ لأنَّهم سملوا أعينَ الرعاة كذا
خرَّجه مسلم من حديثِ أنس (8) ،
وذكر ابنُ شهابٍ أنَّهم قتلوا الراعي (9) ، ومَثَّلوا به
(10) ، وذكر ابن سعد أنَّهم قطعوا يدَه ورجله، وغرسوا
الشوكَ في لسانه وعينيه حتّى مات (11) ، وحينئذ فقد يكونُ
قطعُهم، وسملُ أعينهم، وتعطيشُهم قصاصاً (12) ، وهذا
يتخرَّجُ على قول مَنْ يقولُ: إنَّ المحاربَ إذا جنى
جنايةً توجبُ القصاصَ استُوفِيت منه قبل قتله، وهو مذهب
أحمد. لكن هل يستوفى (13) منه تحتماً كقتله أم على وجه
القصاص، فيسقط بعفو الولي؟
على روايتين عنه (14) ، ولكن رواية الترمذي أنَّ قطعَهُم
من خلاف يدلُّ على أنَّ
قطعهم للمحاربة إلا أنْ يكونوا قد قطعوا يدَ الراعي ورجلَه
من خلاف، والله
أعلم (15) .
_________
(1) انظر: المحلى 12/29-30.
(2) ذكره: أحمد 3/290، وأبو داود (4371) ، والترمذي (73) ،
وانظر: معالم السنن 3/258، والمحلى 12/30-31.
(3) انظر: المحلى 12/31 و13/154.
(4) سقطت من (ص) .
(5) سقطت من (ص) .
(6) سقطت من (ص) .
(7) انظر: المغني 10/299-300، والشرح الكبير 10/300.
(8) في " صحيحه " 5/103 (1671) (14) .
وأخرجه: الترمذي (73) ، والبيهقي 9/70، وانظر: المحلى
12/29 و13/155، وتحفة الأحوذي 1/246.
(9) انظر: المحلى 13/155.
(10) ذكره: البيهقي 9/70.
(11) في " الطبقات " 2/71.
(12) انظر: معالم السنن 3/258، وتحفة الأحوذي 8/246-247.
(13) عبارة: ((لكن هل يستوفى)) سقطت من (ص) .
(14) انظر: الشرح الكبير على المغني 10/303.
(15) من قوله: ((يدل على أن قطعهم ... )) إلى هنا سقط من
(ص) .
(1/445)
وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه
وسلم -: أنَّه كان أَذِنَ في التحريق بالنار (1) ، ثم نهى
عنه كما في
" صحيح البخاري " (2) عن أبي هريرة قال: بعثنا رسولُ الله
- صلى الله عليه وسلم - في بعث (3)
فقال: ((إنْ وَجَدتُم فلاناً وفلاناً - لرجلين من قريشٍ -
فاحرقوهما بالنار)) ،
ثمَّ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا
الخروجَ: ((إني كنتُ أمرتُكم أنْ تحرِقوا فُلاناً
وفُلاناً بالنار، وإنَّ النارَ لا يُعذِّبُ بها إلا الله،
فإنْ وجدتموهما فاقتلوهما)) .
وفيه أيضاً عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله
عليه وسلم - قال: ((لا تُعذِّبُوا بعذاب الله - عز وجل -))
(4) .
وخرَّج الإمام أحمد، وأبو داود، والنَّسائي من حديث ابن
مسعودٍ قال: كُنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،
فمَرَرنا بقريةِ نملٍ قد أُحرقَت، فغَضِب النَّبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - وقال: ((إنَّه لا ينبغي لِبشرٍ أنْ
يعذِّبَ بعذاب الله - عز وجل -)) (5) .
وقد حرَّقَ خالدٌ جماعة في الرِّدة (6) ، وروي عن طائفة من
الصحابة تحريقُ من عَمِل عمل قومِ لوطٍ (7) ، ورُوي عن
عليٍّ أنَّه أشار على أبي بكر أنْ يقتلَه ثم يحرقه
بالنار (8) ، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه (9) لئلا يكون
تعذيباً بالنار (10) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (11) : أنَّ علياً لما ضربه ابنُ
مُلجم، قال: افعلوا به كما أرادَ رسولُ
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) الصحيح 4/60 (2954) و4/74 (3016) .
وأخرجه: أحمد 2/307 و338 و453، وأبو داود (2674) ،
والترمذي (1571) وفي
" العلل "، له (278) ، والنسائي في "الكبرى " (8613) و
(8804) و (8832) ، وابن الجارود (1057) ، والبيهقي 9/71.
(3) عبارة: ((في بعث)) سقطت من (ص) .
(4) سبق تخريجه.
(5) أخرجه: أحمد 1/423، وأبو داود (2675) و (5268) ،
والنسائي في " الكبرى "
(8614) ، وهو حديث صحيح.
(6) انظر: المغني 10/6، والشرح الكبير 10/80، والواضح في
شرح مختصر الخرقي 4/384.
(7) انظر: المغني 10/156، والشرح الكبير 10/170.
(8) انظر: المغني 10/156، والشرح الكبير 10/170-171.
(9) انظر: الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي: 210.
(10) من قوله: ((واستحسن ذلك إسحاق ... )) إلى هنا سقط من
(ص) .
(11) المسند 1/92-93، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله
النخعي.
(1/446)
الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يفعلَ
برجل أراد قتلَه، قال: ((اقتلوه ثم حرِّقوه)) .
وأكثرُ العلماء على كراهةِ التحريق بالنار حتى للهوام،
وقال إبراهيم النَّخعيُّ: تحريقُ العقرب بالنار مُثلةٌ.
ونهت أمُ الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار. وقال أحمد: لا
يُشوى السمكُ في النار وهو حيٌّ، وقال: الجرادُ أهونُ؛
لأنَّه لا دم لهُ (1) .
وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه نهى
عن صَبرِ البهائم، وهو: أنْ تحبس البهيمة، ثُمَّ تُضرب
بالنبل ونحوه حتَّى تموتَ (2) . ففي " الصحيحين " (3) عن
أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ
تُصبر البهائم.
وفيهما أيضاً عن ابن عمر: أنَّه مرَّ بقوم نصبوا دجاجةً
يرمونها، فقال ابنُ عمر: من فعل هذا؟ إنَّ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - لعن من فعل هذا (4) .
وخرَّج مسلم من حديث ابنِ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله
عليه وسلم -: أنَّه نهى أنْ يُتخذ شيء فيه الروح غرضاً (5)
،
والغرض: هو الذي يرمى فيه بالسهام (6) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (7) عن أبي هُريرة: أنَّ
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الرَّمِيَّةِ:
أنْ ترمى الدابة ثم تُؤكلُ ولكن تُذبح، ثم يرموا (8) إنْ
شاؤوا.
_________
(1) انظر: المغني 11/43، والشرح الكبير 11/48.
(2) انظر: النهاية 3/8، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238.
(3) صحيح البخاري 7/121 (5513) ، وصحيح مسلم 6/72 (1956)
(58) .
وأخرجه: أحمد 3/117 و171 و180 و191، وأبو داود (2816) ،
وابن ماجه (3186) ، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى "، له
(4528) من حديث أنس بن مالك، به.
(4) صحيح البخاري 7/122 (5515) ، وصحيح مسلم 6/73 (1958)
(59) . =
= ... وأخرجه: أحمد 1/338 و2/13 و43 و60 و86 و103 و141،
والدارمي (1979) ، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى "، له
(4530) من حديث عبد الله بن عمر، به.
(5) في " صحيحه " 6/73 (1957) (58) .
وأخرجه: أحمد 1/274 و280 و285 و340 و345، والنسائي
7/238-239 وفي "الكبرى"، له (4532) و (4533) ، وابن حبان
(5608) ، والطبراني في " الكبير " (12262)
و (12263) ، والبيهقي 9/70، والبغوي (2784) من حديث عبد
الله بن عباس، به.
(6) انظر: النهاية 3/360، وشرح السيوطي لسنن النسائي
7/238.
(7) المسند 2/402، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.
(8) في (ج) : ((ليرموا)) ، وهو يخالف ما في المسند و (ص) .
(1/447)
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
فلهذا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإحسانِ
القتلِ والذبح، وأمر أنْ تُحَدَّ الشفرةُ، وأنْ تُراح
الذبيحة، يشير إلى أنَّ الذبح بالآلة الحادة يُرِيحُ
الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها (1) .
وخرَّج الإمام أحمد، وابنُ ماجه من حديث ابنِ عمر، قال:
أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحَدِّ الشفارِ،
وأنْ تُوارى عن البهائم، وقال: ((إذا ذَبَحَ أَحَدُكُم،
فليُجْهِزْ)) (2) يعني:
فليسرع الذبح (3) .
وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عندَ ذبحها، وخرَّج ابنُ
ماجه (4) من حديث أبي سعيد الخدري قال: مرَّ رسولُ الله -
صلى الله عليه وسلم - برجل وهو يجرُّ شاة بأُذنها، فقال
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دع أُذنَها وخُذْ
بِسالِفَتِها)) والسالفة: مقدَّمُ العنق (5) .
وخرَّج الخلالُ والطبرانيُّ من حديث عكرمة، عن ابن عباس
قال: مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ واضع
رجلَه على صفحة شاةٍ وهو يحدُّ شفرته وهي تلحظ إليه
ببصرها، فقال: ((أفلا قبْلَ هذا؟ تريدُ أنْ تُميتها موتتان
(6) ؟)) (7) . وقد روي عن عكرمة مرسلاً خرَّجه عبدُ الرزاق
(8) وغيره، وفيه زيادة: ((هلاَّ حددت شفرتك قبل أنْ
تُضْجِعها)) .
وقال الإمام أحمد: تُقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً، وتُوارى
السكينُ عنها، ولا تُظهر السكين إلا عندَ الذبح، أمر رسولُ
الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك: أنْ تُوارى الشفار (9)
.
_________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 7/95.
(2) أخرجه: أحمد 2/108، وابن ماجه (3172) ، والطبراني في "
الكبير " (13144) ، والبيهقي 9/280، وإسناده ضعيف لضعف ابن
لهيعة.
(3) انظر: لسان العرب 2/400.
(4) السنن (3171) ، وإسناده ضعيف جداً؛ فإنَّ موسى بن محمد
بن إبراهيم منكر الحديث.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث 2/390.
(6) في (ج) : ((موتات)) ، والمثبت من (ص) ، و" المعجم
الكبير " للطبراني.
(7) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (11916) وفي " الأوسط
"، له (3590) ، وذكر الطبراني في " الأوسط " أنَّ عبد
الرحيم بن سليمان تفرد بوصله.
وأخرجه: الحاكم 4/233 من حديث عبد الله بن عباس، به،
وصححه. انظر: مجمع الزوائد 4/33.
(8) المصنف (8608) .
(9) انظر: المغني 11/47، والشرح الكبير 11/61-62.
(1/448)
وقال: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم
أنَّها تعرف ربها، وتعرف أنَّها تموت. وقال: يُروى عن ابن
سابط أنَّه قال: إنَّ البهائم جُبِلَتْ على كلِّ شيءٍ
إلاَّ على أنَّها تعرف ربها، وتخافُ الموتَ.
وقد وردَ الأمرُ بقطع الأوداج عندَ الذبح، كما خرَّجه أبو
داود من حديث عِكرمة، عن ابن عباس، وأبي هريرة، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه نهى عن شريطة
الشيطان، وهي التي تذبح فتقطع الجلد، ولا تفري الأوداج،
وخرَّجه ابن حبان في " صحيحه " وعنده: قال عكرمة: كانوا
يقطعون منها الشيء اليسيرَ، ثم يدعونها حتى تموتَ، ولا
يقطعون الودجَ، فنهى عن ذلك (1) .
وروى عبدُ الرزاق في " كتابه " (2) عن محمد بن راشدٍ، عن
الوضين بنِ عطاء، قال: إنَّ جزَّاراً فتح باباً على شاةٍ
ليذبحها فانفلتت منه حتَّى جاءت النَّبيَّ - صلى الله عليه
وسلم -، فاتبعها، فأخذ يَسْحَبُها برجلها، فقال لها
النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((اصبري لأمرِ الله،
وأنتَ يا جزَّارُ فسُقْها إلى الموتِ سَوقاً رفيقاً)) .
وبإسناده عن ابن سيرين: أنَّ عُمَرَ رأى رجلاً يسحب شاةً
برجلها ليذبحها، فقال له: وَيْلَكَ قُدْها إلى الموت (3)
قوداً جميلاً (4) .
وروى محمدُ بنُ زيادٍ: أنَّ ابن عمر رأى قصَّاباً يجُرُّ
شاةً، فقال: سُقها إلى الموت سوقاً جميلاً، فأخرج القصابُ
شفرة، فقال: ما أسوقها سوقا جميلاً وأنا أريد أنْ أذبحها
الساعة، فقال: سقها سوقاً جميلاً (5) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (6) عن معاوية بنِ قُرة، عن
أبيه: أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
يا رسولَ اللهِ إني لأذبحُ الشاةَ وأنا أرحمها، فقال
النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((والشاة إنْ رحمتها
_________
(1) أخرجه: أبو داود (2826) ، وابن حبان (5888) .
وأخرجه: أحمد 1/289، والحاكم 4/113، والبيهقي 9/278،
وإسناده ضعيف لضعف عمرو ابن عبد الله اليماني.
(2) المصنف (8609) ، وإسناده ضعيف لإرساله فإنَّ الوضين بن
عطاء متأخر من الطبقة السادسة مات سنة (149 هـ) وقد تكلم
فيه بعضهم.
(3) زاد بعدها في (ص) : ((قوداً رفيقاً)) .
(4) أخرجه: عبد الرزاق (8605) .
(5) من قوله: ((فأخرج القصاب شفرة ... )) إلى هنا سقط من
(ص) .
(6) المسند 3/436 و5/34.
وأخرجه: البخاري في "الأدب المفرد" (373) ، والبزار كما في
"كشف الأستار" (1221) ، والطبراني في " الكبير " 19/ (44)
و (45) و (46) و (47) وفي " الصغير "، له (293) ، والحاكم
3/586-587 و4/231، وأبو نعيم في " الحلية " 2/302 و6/343،
والبيهقي في
" شعب الإيمان " (11067) و (11069) ، وهو حديث صحيح.
(1/449)
رَحِمَكَ الله)) .
وقال مطرف بنُ عبد الله: إنَّ الله ليرحم برحمة العصفور
(1) .
وقال نوفٌ البكالي: إنَّ رجلاً ذبح عِجَّوْلاً (2) له بين
يدي أمه، فخُبِّلَ، فبينما هو تحتَ شجرة فيها وكْرٌ فيه
فَرْخٌ، فوقع الفرخُ إلى الأرض، فرحمه فأعاده في مكانه،
فردَّ الله إليه قوَّته (3) .
وقد رُوي من غير وجه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
أنَّه نهى أنْ تُولَّه والدة عن ولدها، وهو
عام في بني آدم وغيرهم (4) .
وفي " سنن أبي داود " (5) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله
عليه وسلم - سُئِلَ عن الفَرَعِ، فقال: ((هو حَقٌّ وإنْ
تتركوه حتّى يكونَ بكراً ابنَ مخاض، أو ابنَ لَبُون،
فتُعطيه أرملة، أو تحمل عليه في سبيل الله خيرٌ من أنْ
تَذْبَحَهُ فيلصقَ لحمُه بوبره، وتُكفئ إناءك وتُولِّه
ناقتك)) .
_________
(1) ذكره: أبو نعيم في " الحلية " 2/210.
(2) هو الأنثى من ولد البقرة. انظر: لسان العرب (عجل) .
(3) ذكره: أبو نعيم في " الحلية " 6/52.
(4) أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (382) ، وأبو داود
(2675) و (5268) ، والطبراني في " الكبير " (10375) و
(10376) ، والحاكم 4/239، والبيهقي في " دلائل النبوة "
6/32-33 من حديث عبد الله بن مسعود، به بهذا المعنى.
وأخرجه: أحمد 1/404، مرسلاً من حديث عبد الرحمان بن عبد
الله، به بمعناه.
(5) السنن (2842) .
وأخرجه: أحمد 2/182-183، والحاكم 4/236، والبيهقي 9/312 عن
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به، ورواية عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده من نوع الحسن.
وأخرجه: النسائي 7/168 وفي " الكبرى "، له (4551) عن عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده وزيد بن أسلم.
(1/450)
والمعنى: أنَّ ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير
عندَ ولادته لم يُنتفع بلحمه، وتضرَّر صاحبُه بانقطاع لبنِ
ناقته، فتُكفِئ إناه وهُوَ المِحْلَبُ الذي تُحلَب فيه
الناقة، وتولَّه الناقة على ولدها بفقدها إيَّاه (1) .
_________
(1) انظر: معالم السنن 4/266، وحاشية السندي على سنن
النسائي 7/168-169، وعون المعبود 8/45.
(1/451)
|