شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شرح المقدمة لابن دقيق العيد
أي باسم المعبود بحق، الواجب الوجود، المبدع من أثر الكرم والجود أؤلف مستعيناً باسم الله الخ. والرحمن العام الرحمة لجميع البرية، والرحيم الخاص الرحمة للمؤمنين، وأصل "الرحمة" انعطاف القلب والرقة، وهي في حقه سبحانه وتعالى إرادة الخير لمن يستحقها، أو ترك العقوبة لمن يستوجبها.
وافتتح المؤلف رحمه الله تعالى كتابه هذا بالتسمية والتحميد تأسياً بالكتاب المجيد، وعملاً بالحديث الصحيح المفيد "كلّ أمر ذي بال - أي شأن وحال - لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالحمد لله، أو بحمد الله أو بذكر الله، فهو أجذم أو أقطع أو أبتر" روايات متعددة مؤداها أن متروك التسمية قليل البركة، أو مقطوع الزيادة، ورواية "بذكر الله" أعم.
وأكثر العلماء أجمعوا على أن لفظ الجلالة اسم الله الأعظم، فهو علم على الذات الأقدس المستحق لجميع المحامد. ولذا قال: "الحمد لله" أي الثناء الجميل يستحق لله "رب" أي مالك، وخالق، ومدبر، وسيد "العالمين" جمع عالم - بفتح اللام - وفيه تغليب العاقل

(1/11)


قيوم السموات والأرضين. مدبر الخلائق أجمعين. باعث الرسل - صلواته وسلامه عليهم- إلى المكلفين لهدايتهم وبيان شرائع الدين بالدلائل القطعية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على غيره، إذ هو اسم لما سوى الله تعالى، غير أنه لا يطلق على المفرد، فلا يقال: زيد عالم إلاّ مجازاً، "قيوم السموات" معناه القائم بالتدبير والحفظ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} . سورة فاطر: الآية 41 "والأرضين" بفتح الراء وقد تسكن - جمع أرض. "مدبر الخلائق" أي مصرف أمور الخلائق، جمع "خليقة" بمعنى مخلوقة. إذ هو العالم بعواقب أمورهم. "باعث" أي مرسل. وقوله: "إلى المكلفين" متعلق بباعث، وجملة الصلاة والسلام معترضة بينهما إنشائية المعنى. أي اللهم صلّ وسلم، وفي بعض النسخ "صلاته" بالإفراد، وهي من مادة الصلة. فهي من العبد: طلب الاتصال والقرب من الله، وصلاتنا على الرسول: طلب الصلة اللائقة والمنحة الإلهية العظيمة له من الله على النعمة التي أسبغها الله علينا بسببه صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنها من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم "وسلامه" أي تحيته التي تليق بجنابهم العظيم. وقوله: "لهدايتهم" أي: دلالتهم الناس على سبيل الهدى متعلق أيضاً بباعث. "شرائع" جمع شريعة، من شرع بمعنى: بيّن، وهي والدين والملة بمعنى واحد وتختصّ بالاعتبار؛ فالأحكام من حيث إننا ندين، أي ننقل لها، وندان: أي نجازى عليها، دين، ومن حيث شرعها لنا، أي: نصبها وبينها: شرع وشريعة. والدين: وضعٌ إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خيرٌ لهم بالذات. "بالدلائل" متعلّق ببيان، جمع دلالة - مثلث الدال بمعنى الدليل، و"القطعية" ما تقطع

(1/12)


وواضحات البراهين. أحمده على جميع نعمه. وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار. الكريم الغفار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جدال الخصم، لكونها عن الله "وواضحات البراهين" من إضافة الصفة للموصوف، أي البراهين الواضحة، وهي الحجج وعطفه على الدلائل من عطف الخاص على العام؛ لأن البرهان لا يكون إلاّ مركّباً من تصديقين، متى سلما لزمهما لذاتهما قول ثالث، كقولك: العالم متغير، وكلّ متغيّر حادث، فإنه ينتج العالم حادث، وأما الدليل فهو ما يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر. سواء كان مركباً كهذا المثال. أو منفرداً كقولك: هذه المخلوقات دليلٌ على وجود الله تعالى. "أحمده" أي أثني عليه ثانياً في مقابلة النعم. فأتى بالحمد أولاً في مقابلة الذات الأقدس المتصف بجميل الصفات، وثانياً في مقابلة جميع النعم المتعاقبات، وخصّ الأول بالجملة الاسمية المفيدة للاستمرار والدوام، والثاني بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والتعاقب، لمناسبة ما يليق بكل مقام. "المزيد" أي مزيد النعم، فأل عوض عن المضاف إليه، و"من فضله" الفضل: هو العطاء عن اختيار، لا عن إيجاب، أي حصول بالطبع، بدون اختيار كما تقول الحكماء، ولا عن وجوب كما تقول المعتزلة، والكرم إعطاء الكثير من لغير علّة. و"أشهد" أي أتحقّق وأذعن "أنّ" أي أنه، فهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف "لا إله" أي لا معبود بجميع أنواع العبادة بحق "إلاّ الله" برفع لفظ الجلالة، على أنه بدل من الضمير المستتر في خبر "لا" المقدر بمستحق الإلهية، ويجوز نصبه على الاستثناء "الغفار" من الغفر، أي

(1/13)


وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الستر للعيوب "محمداً" هو مشتق من الحمد، لكثرة خصاله المحمودة "عبده" قدمه لكونها أشرف المقامات، ولذلك ذكره الله بهذا اللقب في أسنى المقامات: فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} . وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} . فإن العبد الحقيقي لربه من يكون حراً عن هوى قلبه، والذل والخضوع لغيره، ولذا قيل:
أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
و"حبيبه" فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو المحب والمحبوب "وخليله" من الخلّة - بالضم - أي صفاء المودة وتخللها في القلب، كما قيل في ذلك:
قد تخللت مسلك الروح منّي ... وبذا سمي الخليل خليلاً
"بالقرآن" مصدر قرأ بمعنى جمع، لجمعه السور، أو ما في الكتب المنزلة و"العزيز" من عز يعز - بكسر العين - إذا لم يكن له نظير؛ أو بضمها إذا غلب، فهو الغالب المعجز لفصحاء العرب بما فيه من البلاغة "وبالسنن" أي ما سنه النبي، أي شرعه من الأحكام، فرضاً أو نفلاً، إذ هو المشرع صلى الله عليه وسلم "للمسترشدين" أي الطالبين الرشاد، وهو ضد الغي. "بجوامع الكلم" أي بالكلم الجوامع، بمعنى أنه يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل "وسماحة الدين" أي سهولته، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} بخلاف الأمم

(1/14)


صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السابقين، فإن بعضهم لم تكن تقبل توبته إلاّ بقتل نفسه، كما قال الله تعالى عن قوم موسى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . "صلوات الله" إلخ أتى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم امتثالاً لما في الكتاب العزيز "وعلى سائر" أي باقي أو جميع، الأول من السؤر بالهمزة، بمعنى البقية من الماء ونحوه. والثاني من سور المدينة المحيط بها، وفي مسند الإمام أحمد "أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر، وكل أسمائهم وذواتهم أعجمية، إلاّ محمداً، وهوداً، وصالحاً، وشعيباً، فأسماؤهم وذواتهم عربية، وأما إسماعيل فذاته عربية، واسمه أعجمي، ولا يجب الإيمان تفصيلاً إلا بخمسة وعشرين من الأنبياء المرسلين، وهم المذكورون في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الآيات، كما جمعهم بعضهم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في "تلك حجتنا" منهم ثمانية ... من بعد عشر، ويبقى سبعة وهم:
إدريس هود شعيب صالح. وكذا: ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وأولوا العزم منهم مجموعون في قول بعضهم:
محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولوا العزم فاعلم
وهم في الفضل على هذا الترتيب "وآل كل" أي كل واحد من النبيّين. والمرسلين. أي أقاربه المؤمنين به. والمراد هنا كل مؤمن. لأنه الأنسب بمقام الدعاء "وسائر الصالحين" أي القائمين بحقوق الله

(1/15)


أما بعد: فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء" وفي رواية: "بعثه الله فقيها عالما".
وفي رواية أبي الدرداء: "وكنت له يوم القيامة شافعا وشهيدا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحقوق عباده. فدخل الصحابة وغيرهم ممن اتصف بذلك. "روينا" بصيغة المعلوم. أي نقلنا عن غيرنا. وجملة - أن رسول الله - إلخ مفعوله. "وأبي هريرة" تصغير "هرة" كناه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حين رآه حاملاً لها في كمه. "من طرق كثيرات" متعلق بروينا "بروايات متنوعات" أي مختلفة الألفاظ. "من حفظ" أي نقل. وإن لم يحفظ اللفظ، ولم يعرف المعنى، إذ به يحصل الانتفاع للمسلمين بخلاف حفظ ما لم ينقل إليهم، كذا نقل عن المنصف. "على أمتي" أي لأجلها، شفقة عليها، فعلى: بمعنى اللام؛ والأمة جمع ممن لهم جامع، من دين أو زمان أو مكان، والمراد هنا أمة الإجابة لا الدعوة. "من أمر دينها" أي مما يتعلّق بأمر دينها أصولاً وفروعاً. "في زمرة" أي جماعة، و"العلماء" عطف عام، لتخصيص الفقهاء بالفروع الفقهية، و "شهيداً" أي شاهداً له بالكمال، و"الشهداء" جمع شهيد، أي قتيل المعركة، التي شهد الله وملائكته له بالجنة، ويجمع بين هذه الروايات بأن حفاظ الأربعين مختلفوا المراتب، فمنهم من يحشر في زمرة الشهداء، ومنهم من يحشر في زمرة العلماء، ومنهم من يبعث فقيهاً عالماً، وإن لم يكن في الدنيا كذلك، ومنهم غير ذلك.

(1/16)


وفي رواية ابن مسعود: قيل له: "ادخل من أي أبوب الجنة شئت" وفي رواية ابن عمر "كُتِب في زمرة العلماء وحشر في زمرة الشهداء". واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه. وقد صنّف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحكمة في تخصيص عدد الأربعين: أنه أول عدد له ربع عشر صحيح، فكما دل حديث الزكاة على تطهير ربع العشر للباقي، فكذلك العمل بربع عشر الأربعين، يخرج باقيها عن كونه غير معمول به، وقد كان بشر الحافي رضي الله عنه يقول: يا أهل الحديث، اعلموا من كل أربعين حديثاً بحديث "واتفق الحفاظ" أي أكثرهم "على أنه ضعيف" هو ما يكون بعض رواته مردوداً لعدم عدالته، أو لروايته عمن لم يره، أو سوء حفظه، أو تهمة في عقيدة، أو عدم المعرفة بحال من يحدث عنه، أو غير ذلك مما هو مبيّن في كتب مصطلح الحديث.
"وإن كثرت طرقه" جمع طريق. وهم الرواة عن الرواة عن الصحابي وإن سفلوا. يقال: هذه رواية أبي هريرة من طريق البخاري مثلاً، فالرواة طرق يتوصل بها إلى المتن، ولا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من أن يكون فيه مجهول أو مشهور بالضعف، فوصف الحديث بالضعف أو غيره عن الصحة والحسن إنما هو باعتبار سنده أي رجاله الذين رووه، فالحديث الذي اتصل إسناده، وكان رواته عدولاً: حديث صحيح، والحديث الضعيف ما عدا ذلك، وهو أقسام كثيرة، كما أشار إلى ذلك كله صاحب البيقونية في مصطلح الحديث بقوله:
أولها الصحيح وهو ما اتصل ... إسناده، ولم يشذ أو يعل

(1/17)


العلماء رضي الله تعالى عنهم في هذا الباب ما لا يُحصى من المصنّفات. فأول من علمته صنف فيه: عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسائي، وأبو بكر الآجري، وأبو بكر بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، والحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلميّ، وأبو سعيد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرويه عدل ضابط عن مثله ... معتمد في ضبطه ونقله
والحسن المعروف طرقاً وغدت ... رجاله لا كالصحيح اشتهرت
وكل ما عن رتبة الحسن قصر ... فهو الضعيف وهو أقساماً كثر
"في هذا الباب" أي باب الأربعينات "ما لا يحصى" الإحصاء في الأصل: العد بالحصى، والمقصود بذلك المبالغة في الكثرة، أي فله بهم أسوة و"الطوسي" نسبة إلى "طوس" قرية من قرى بخارى "الرباني" أي الذي أفيضت عليه المعارف الربانية، وربى الناس بعلمه، "سفيان" مثلث السين "النسائي" وفي نسخة النسوي بالواو وفتح النون والسين، نسبة إلى "نسا" بلد بخراسان قلبت ألفه واواً، كما يقال في النسبة إلى فتى: فتوى، ولكن الهمز في استعمال المحدثين أكثر وأشهر. "الآجري" بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم وشد الراء، نسبة إلى الآجر، وهو الطوب المحروق لبيعه أو عمله، كان عالماً ثقة. "الأصفهاني" بالفاء والباء مع كسر الهمزة وفتحها، والفتح أفصح، نسبة إلى أصفهان بلدة من بلاد فارس، "والدارقطني" بفتح الراء، نسبة إلى دار القطن، محلة كبيرة ببغداد. "السلمي" بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى سليم قبيلة مشهورة. "وأبو سعد" في نسخة: وأبو سعيد بالياء، وهو موافق لما في كتاب الأنساب

(1/18)


الماليني، وأبو عثمان الصابوني، وعبد الله بن محمد الأنصاري. وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين، وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للسمعاني، والذي في طبقات الحفاظ، وتاريخ الخطيب البغدادي، ومعجم البلدان: أبو سعد، بدون ياء، وهو الأصح: لأن الأنساب غير مصححة تصحيحاً يعتمد عليه، "الماليني" نسبة إلى مالين، قرى مجتمعة من أعمال هراة، يقال لجميعها: مالين، كان ثقة متقناً، صنف وحدث ورحل إلى مصر فمات بها. "الصابوني" نسبة إلى عمل الصابون. "الأنصاري" وفي نسخة: زيادة الهروي، كان ثقة عارفاً، توفي بهراة، "والبيهقي" نسبة إلى بيهق، قرية من ناحية نيسابور. "وقد استخرت الله" أي طلبت من الله أن يرشدني لما هو خير من الإقدام أو الإحجام، فإنه ربما كان مشغولاً بما هو أهم من جمع الأربعين من العبادات، فإن الاستخارة كما تكون في الأمور المباحة تكون في الأمور المندوبة، لترجيح بعضها على بعض. وكيفيتها أن تصلي ركعتين وتدعو بالدعاء المشهور الذي علمه النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا تتوقف هذه الاستخارة على نوم، بل تتوجه إلى ما ينشرح له صدرك.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن أنس: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد"، "والأعلام" جمع علم بفتحتين، وهو ما يهتدي به إلى الطريق من جبل أو غيره على حد قول الخنساء في أخيها صخر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار

(1/19)


وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "في فضائل الأعمال" أي لأنه إن كان صحيحاً في نفس الأمر، فقد أعطى حقه من العمل به. وإلا فلم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم؛ وشرط جواز العمل به: أن لا يشتد ضعفه، بأن لا يخلو طريق من طرقه من كذاب أو مهتم بالكذب، وأن يكون داخلاً تحت: أصل كلي، كما إذا ورد حديث ضعيف بصلاة ركعتين بعد الزوال مثلاً، فإنه يعمل به لدخوله تحت أصل كلي؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر". رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، أي خير شيء وضعه الله تعالى. "ومع هذا" أي ما ذكر من جواز العمل به "الشاهد" أي السامع لما أقول، والخطاب للصحابة، ثم لمن بعدهم، وهلم جرا، فيجب التبليغ وجوب كفاية على أهل العلم، وكل من تعلم مسألة فهو من أهل العلم بها، فيجب عليه تعليمها لغيره. وإلا وقع في الإثم، إن لم يقم بها غيره، و "نضر" بفتح الضاد المعجمة، روى مخففاً ومشدّداً، وهو الأكثر من النضارة، وهي حسن الوجه وبريقه، كما قال بعضهم:
من كان من أهل الحديث فإنه ... ذو نضرة في وجهه نور سطع
إن النبيّ دعا بنصرة وج من ... أدى الحديث كما تحمل واستمع
"امرءاً": أي رجلاً، وليس بقيدٍ، وإنّما خصه نظراً للشأن

(1/20)


فأدّاها كما سمعها".
ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصة صالحة رضي الله تعالى عن قاصديها.
قد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه،....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والغالب؛ وإلاّ فالمرأة كذلك. "فأداها" أي باللفظ أو بالمعنى، لجواز رواية الحديث بالمعنى بشروطه "ثم من" وفي نسخة - إن من العلماء - "أصول الدين" جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره، والمراد هنا الإلهيات والنبوات، والحشر، والنشر. "في الفروع" أي المسائل الفقهية. "في الجهاد" أي في فضل قتال الكفار. "في الزهد" أي في فضل ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا. "في الآداب" بالمد جمع أدب، أي الخصال المحمودة فتشمل مكارم الأخلاق الموصلة إلى الكريم الخلاق. "في الخطب" أي التي كان يخطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في نحو جمعة وعيد، وعند نزول الأمور المهمة، فهي مشتقة من الخطب - بفتح الخاء المعجمة - لأن العرب كانوا إذا نزل بهم خطب، أي أمر صعب، خطبوا له ليجتمعوا ويحتالوا في دفعه. "جمع أربعين" مفهوم العدد لا يفيد حصراً، فلا يرد أنه زاد حديثين؛ ومن زاد زاد الله في حسناته. "قاعدة" أي أصل من أصول الدين. "مدار الإسلام" أي غالب

(1/21)


أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد، ليسهل حفظها، ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أُتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحكامه يدور عليه كحديث - إن الحلال بيّن - "أو هو نصف الإسلام أو ثلثه" كحديث - إنما الأعمال بالنيات - فإن أبا داود قال: إنه نصف الإسلام، كما سيأتي، أي لأن الدين: إما ظاهر، وهو العمل، أو باطن، وهو النية، والشافعي رضي الله عنه قال إنه ثلثه، أي لأن كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه، والنية أحدهما. ومما نسبه السعد للإمام الشافعي رضي الله عنه قوله.
عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملن بنية
"أو نحو ذلك" بالرفع كالربع، كحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فإنه قيل فيه، إنه ربع الإسلام. "صحيحة" أي غير ضعيفة، فتشمل الحسن "وأذكرها" بالرفع عطفاً على "ألتزم" وبالنصب على تكون "الأسانيد"، جمع إسناد، وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق، فقولك: أخبرنا فلان عن فلان، إسنادٌ، ونفس الرجال سندٌ، والمتن: ألفاظ الحديث، "ليسهل حفظها" أي الأحاديث، فإن الأسانيد لا فائدة في ذكرها لكثير من الناس بعد أن علمت صحتها. "ثم أتبعها" بالرفع من الإتباع. "خفي ألفاظها" من إضافة الصفة للموصوف. أي ألفاظها الخفية. وقد أتينا على جميعها

(1/22)


وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث، لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات وذلك ظاهر لمن تدبّره، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالتوضيح الكافي، فلله الحمد، وحينئذ فلا حاجة لإتباعها بهذا الباب، فإنه نزر يسير بالنسبة لما ذكرناه، والله أعلم بالصواب. "من المهمات" وهي بيان العقائد الدينية، وأصول الشرائع الإلهية. "وعلى الله" في نسخ زيادة - الكريم - "تفويضي" هو رد الأمر إلى الفاعل المختار سبحانه. "وبه" في بعض النسخ، وبيده التوفيق، وهو خلق القدرة في العبد على الطاعة، "والعصمة" هي فيض إلهي يقوي به العبد على تحري الخير وتجنب الشر، وطلبها جائز لجوازها، إذ المختص بالأنبياء وقوعها لهم ووجوبها في حقهم.

(1/23)


إنما الأعمال بالنيّات
1 - عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا حديث صحيح متفق على صحته وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده رواه الإمام أبو عبد الله البخاري في غير موضع من كتابه، ورواه أبو الحسين مسلم بن الحجاج في آخر كتاب الجهاد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله: "يدخل في حديث الأعمال بالنيات ثلث العلم" قاله البيهقي، وغيره. وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه والنية أحد الأقسام الثلاثة.

(1/24)


وروى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن قال: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال جماعة من العلماء: هذا الحديث ثلث الإسلام1.
واستحب العلماء أن تستفتح المصنفات بهذا الحديث، وممن ابتدأ به في أول كتابه: الإمام أبو عبد الله البخاري. وقال عبد الرحمن ابن مهدي: ينبغي لكل من صنف كتاباً أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيهاً للطالب على تصحيح النية.
وهذا حديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله لأنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن أبي وقاص ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ثم اشتهر بعد ذلك فرواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة.
ولفظة: "إنما" للحصر: تثبت المذكور وتنفي ما عداه وهي تارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصراً مخصوصاً ويفهم ذلك بالقرائن كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} 2. فظاهره الحصر في النذارة والرسول لا ينحصر في ذلك بل له أوصاف كثيرة جميلة: كالبشارة وغيرها وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 3.
__________
1 قال أبو داود: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: "الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ" وحديث عمر هذا، وحديث أبي هريرة: "إنّ الله طيّب" وحديث أبي هريرة أيضاً: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم.
2 سورة الرعد: الآية 7.
3 سورة محمد: الآية 36.

(1/25)


فظاهره والله أعلم الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سبباً إلى الخيرات ويكون ذلك من باب التغليب فإذا وردت هذه اللفظة فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام الحصر في شيءٍ مخصوص: فقل به وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والمراد بالأعمال: الأعمال الشرعية. ومعناه: لا يعتد بالأعمال بدون النية مثل الوضوء والغسل والتيمم وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية لأنها من باب الترك والترك لا يحتاج إلى نية، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية.
وفي قوله: "إنما الأعمال بالنيات" محذوف واختلف العلماء في تقديره: فالذين اشترطوا النية قدروا: صحة الأعمال بالنيات، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال بالنيات.
وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" قال الخطابي يفيد معنىً خاصاً غير الأول وهو تعيين العمل بالنية، وقال الشيخ محي الدين النووي: فائدة ذكره أن تعيين المنوي شرط فلو كان على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً أو عصراً أو غيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك والله أعلم.
وقوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" المتقرر عند أهل العربية: أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد أن يتغايرا وههنا قد وقع الاتحاد وجوابه "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" نية وقصداً "فهجرته إلى الله ورسوله" حكماً وشرعاً.

(1/26)


وهذا الحديث ورد على سبب لأنهم نقلوا: أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة فكان يقال له: مهاجر أم قيس. والله أعلم.

(1/27)


بيان الإسلام والإيمان والإحسان
2 - عن عمر رضي الله تعالى عنه أيضا قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان", ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: "يا عمر، أتدري من السائل؟ ", قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" رواه مسلم.

(1/28)


هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه لما تضمنه من جمعه علم السنة فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة: أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن.
وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك فإن جبريل أتى معلما للناس بحاله ومقاله.
قوله: "لا يُرى عليه أثر السفر" المشهور ضم الياء من "يُرى" مبنيا لما لم يسم فاعله ورواه بعضهم بالنون المفتوحة وكلاهما صحيح.
قوله: "ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد" هكذا هو المشهور الصحيح ورواه النسائي بمعناه وقال "فوضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم" فارتفع الاحتمال الذي في لفظ كتاب مسلم فإنه قال فيه: "فوضع كفيه على فخذيه" وهو محتمل.
وقد استفيد من هذا الحديث: أن الإسلام والإيمان حقيقتان متباينتان لغة وشرعاً وهذا هو الأصل في الأسماء المختلفة وقد يتوسع فيهما الشرع فيطلق أحدهما على الآخر على سبيل التجوز.
قوله: "فعجبنا له يسأله ويصدقه" إنما تعجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلى من جهته وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك.
قوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه" الإيمان بالله: هو التصديق بأنه سبحانه موجود موصوف بصفات الجلال والكمال منزه عن صفات النقص وأنه واحد حق صمد فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيما

(1/29)


يشاء يفعل في ملكه ما يريد.
والإيمان بالملائكة: هو التصديق بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
والإيمان برسل الله: هو [التصديق] 1 أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلغوا عن الله رسالاته وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به وأنه بجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.
والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين إلى غير ذلك مما صح من النقل.
والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدم ذكره2 وحاصله ما دل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 3. وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4 ونحو ذلك. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
__________
1 زيادة على الأصل لضبط المعنى.
2 في الكلام نقص ظاهر، والإيمان بالقدر، هو التصديق بما تقدم في عيب الغيب إحصاؤه وتقدير المشار إليه بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . وأيضاً ترك الكلام على لفظ "كتبه" ولا أدري لماذا؟ هل النسخة مبتورة أم لوضوح ذلك؟
3 سورة الصافات: الآية 96.
4 سورة القمر: الآية 49.

(1/30)


إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" 1.
ومذهب السلف وأئمة الخلف: أن من صدق بهذه الأمور تصديقاً جازماً لا ريب فيه ولا تردد: كان مؤمنا حقا سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو عن اعتقادات جازمة.
وقوله في الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه" الخ حاصله راجع إلى إتقان العبادات ومراعاة حقوق الله ومراقبته واستحضار عظمته وجلالته حال العبادات.
قوله: "فأخبرني عن أماراتها" بفتح الهمزة، والأمارة: العلامة و "الأمة" ههنا الجارية المستولدة و "ربتها" سيدتها وجاء في رواية "بعلها"، وقد رُوي أن أعرابياً سئل عن هذه الناقة قال: أنا بعلها ويسمى الزوج بعلاً، وهو في الحديث "ربتها" بالتأنيث. واختلف في قوله "أن تلد الأمة ربتها" فقيل: المراد به أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه بأبيه وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين على المشركين وكثرة الفتوح والتسري، وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس حتى يبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ترددهن في أيدي المشترين فربما اشتراها ولدها ولا يشعر بذلك فعلى هذا الذي يكون من أشراط الساعة: غلبة الجهل بتحريم بيعهن2، وقيل معناه: أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته: من الإهانة والسب.
__________
1 رواه الترمذي في صفة القيامة باب 59 حديث رقم 2516، عن ابن عباس قال: "كنت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك"، الحديث". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ويأتي في أحاديث المتن برقم: 19.
2 بيع أمهات الأولاد مختلف فيه اختلافاً كثيراً، فأجازه علي، وابن عباس وغيرهما، ومنع منه عمر وكثير من الصحابة، انظر تفصيل ذلك في كتاب"نيل الأوطار للشوكاني باب ما جاء في التفريق بين ذوي المحارم ج 5 صفحة 161".

(1/31)


و"العالة" بتخفيف اللام: جمع عائل: وهو الفقير.
وفي الحديث كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما وضعه في هذا التراب" 1. ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع حجراً على حجر ولا لبنة على لبنة: أي لم يشيد بناءه ولا طوله ولا تأنق فيه.
وقوله: "رعاء الشاءِ" إنما خص رعاء الشاء بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية معناه أنهم من ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك بخلاف أهل الإبل فإنهم في الغالب ليسوا عالة ولا فقراء.
وقوله "فلبثُ ملياً" قد روي بالتاء يعني لبث عمر رضي الله عنه وروي "فلبث" بغير تاء يعني: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه وكلاهما صحيح المعنى، وقوله: "مليا" هو بتشديد الياء أي زماناً كثيراً وكان ذلك ثلاثاً هكذا جاء مبيناً في رواية أبي داود وغير.
وقوله: "أتاكم يعلمكن دينكم" أي قواعد دينكم أو كليات دينكم قاله الشيخ محي الدين في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم.
أهم ما يذكر في هذا الحديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدرة الله تعالى وذكر في بيان الإسلام والإيمان كلاماً طويلاً وحكى فيه أقوال جماعة من العلماء، منها ما حكاه عن
__________
1 رواه الترمذي في صفة القيامة باب 40 حديث رقم 2483، عن حارثة بن مضرَّب بلفظ: "يؤجرُ الرجل في نفقته كلّها إلا التراب" - أو قال: - "في البناء" قال أبو عيسى هذا حديث صحيح.

(1/32)


لإمام أبي الحسين المعروف بابن بطال المالكي، أنه قال: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص بدليل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 1. ونحوها من الآيات. قال بعض العلماء: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وبين أصل وضعه في اللغة وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهراً فالأظهر والله أعلم أن التصديق يزيد بكثرة النظر لظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان المصدقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا يغريهم السفه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة منيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال فأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك وهذا لا يمكن إنكاره ولا يشك في نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن لا يساويه آحاد تصديق الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين [رجلاً] 2 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل عليهم السلام"3. وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ودلائله أكثر من أن تحصر قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 4. أي صلاتكم. وحكي عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح في قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم
__________
1 سورة الفتح: الآية 4.
2 زيادة من أصل الحديث في فتح الباري شرح البخاري.
3 رواه البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله صفحة 109.
4 سورة البقرة: الآية 143.

(1/33)


الصلاة ... " إلى آخره ثم فسر الإيمان بقوله: "أن تؤمن بالله تعالى وملائكته ... " إلى آخره، قال رحمه الله: هذا بيان أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان أصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر وحكم الإسلام في الظاهر ثبت في الشهادتين، وإنما أضاف إليها الصلاة والزكاة والصوم والحج، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها. وبقيامه بها يصح إسلامه.
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية وكذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" 1.
واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام قال: فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وقال: فهذا التحقيق واف بالتوفيق ونصوص الكتابة والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم.
__________
1 رواه البخاري في المظالم باب النهبى بغير إذن صاحبه رقم 2475.
قال ابن عباس في تفسيره: "ينزع منه الإيمان، لأن الإيمان نَزِهٌ، فإذا أذنب العبد فارقه، فإذا نزع عاد إليه هكذا –وشبك بين أصابعه، ثم فرّقها-".

(1/34)


أركان الإسلام
3 - عن أبي عبد الرحمن - عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". رواه البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده التي عليها بني وبها يقوم وإنما خص هذه بالذكر ولم يذكر معها الجهاد مع أنه يظهر الدين ويقمع عناد الكافرين لأن هذه الخمس فرض دائم والجهاد من فروض الكفايات وقد يسقط في بعض الأوقات.
وقد وقع في بعض الروايات في هذا الحديث تقديم الحج على الصوم وهو وهم، والله أعلم. لأن ابن عمر لما سمع المستعيد1 يقدّم الحج على الصوم زجره ونهاه عن ذلك وقد قدم الصوم على الحج وقال: "هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
__________
1 يعني الذي أعاد رواية الحديث.

(1/35)


وفي رواية لابن عمر: "بني الإسلام على أن تعبد الله وتكفر بما سواه وإقام الصلاة" 1 إلى آخره، وفي رواية أخرى: "أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: ألا نغزو. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الإسلام بني على خمس" ووقع في بعض الطرق: "على خمسة" بالهاء وفي بعضها بلا هاء وكلاهما صحيح.
وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده فإنه قد جمع أركانه.
__________
1 رواه البخاري في الإيمان باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" صفحة 45.

(1/36)


الأعمال بخواتيمها
4 - عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" رواه البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وهو الصادق المصدوق" أي الصادق في قوله المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم.
قال بعض العلماء: معنى قوله: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" أن المني يقع في الرحم متفرقا فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة، وقد جاء عن ابن مسعود في تفسير ذلك "إن

(1/37)


النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دماً في الرحم فذلك جمعها وهو وقت كونها علقة"1.
قوله: "ثم يرسل إليها الملك" يعني الملك الموكل بالرحم.
قوله: "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة" إلى آخره ظاهر الحديث أن هذا العامل كان عمله صحيحاً وأنه قرب من الجنة بسبب عمله حتى بقي له على دخولها ذراع وإنما منعه من ذلك سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة فإذاً الأعمال بالسوابق لكن لما كانت السابقة مستورة عنا والخاتمة ظاهرة جاء في الحديث: "إنما الأعمال بالخواتيم" 2 يعني عندنا بالنسبة إلى اطلاعنا في معنى الأشخاص وفي بعض الأحوال، وأما الحديث الذي ذكره مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار" فإنه لم يكن عمله صحيحاً في نفسه وإنما كان رياء وسمعة فيستفاد من ذلك الحديث ترك الالتفات إلى الأعمال والركون إليها والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته.
وقوله قبل ذلك: "ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله". هو بالباء الموحدة في أوله على البدل من "أربع كلمات".
وقوله: "شقي أو سعيد" مرفوع لأنه خبرٌ مبتدأ محذوف تقديره: وهو شقي أو سعيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة"
__________
1 أخرجه ابن أبي حاتم.
2 رواه البخاري في القدر باب العمل بالخواتيم حديث رقم 6607.

(1/38)


إلى قوله: "فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" المراد: أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم وذلك من لطف الله سبحانه وسعة رحمته فإن انقلاب الناس من الشر إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ولله الحمد والمنة على ذلك، وهو تجوز، وقوله: "إن رحمتي سبقت غضبي" وفي رواية "تغلب غضبي".
وفي هذا الحديث إثبات القدر كما هو مذهب أهل السنة وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1. ولا اعتراض عليه في ملكه يفعل في ملكه ما يشاء. قال الإمام السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب: التوفيق من الكتابة والسنة دون محض القياس ومجرد العقول فمن عدل عن التوفيق منه ضل وتاه في مجال الحيرة ولم يبلغ شفاء النفس ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ضربت دونه الأستار واختص سبحانه به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، وقد حجب الله تعالى علم القدر عن العالم فلا يعلمه ملك ولا نبي مرسل، وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل ذلك.
وقد ثبتت الأحاديث بالنهي عن ترك العمل اتكالاً على ما سبق من القدر بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد بها الشرع وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعمل أهل الشقاوة كما في الحديث وقال الله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ... فَسَنُيَسِّرُهُ
__________
1 سورة الأنبياء: الآية 23

(1/39)


لِلْعُسْرَى} 1.
قال العلماء: وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه كل ذلك مما يجب الإيمان به، وأما كيفية ذلك وصفته فعلمه إلى الله تعالى لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. والله أعلم
__________
1 سورة الليل: الآية 7 – 10.

(1/40)


إبطال المنكرات والبدع.
5 - عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال أهل اللغة: الرد هنا بمعنى المردود: أي فهو باطل غير معتد به. وقوله "ليس عليه أمرنا" يعنى حكمنا.
هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين وهو من جوامع الكلم التي أوتيها المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل بدعة وكل مخترع ويستدل به على إبطال جميع العقود الممنوعة1 وعدم وجود ثمراتها، واستدل به بعض الأصوليين على أن النهي يقتضي الفساد.
والرواية الأخرى وهو قوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" صريحة في ترك كل محدثة سواء أحدثها فاعلها أو سبق إليها فإنه قد يحتج به بعض المعاندين، إذا فعل البدعة فيقول: ما أحدثت شيئاً فيحتج عليه بهذه الرواية، وهذا الحديث مما ينبغي العناية بحفظه
__________
1 انظر تفسير سورة النور لابن تيمية فقد أوضح هذا المعنى.

(1/41)


وإشاعته واستعماله في إبطال المنكرات فإنه يتناول ذلك كله. فأما تفريع الأصول التي لا تخرج عن السنة فلا يتناولها هذا الرد ككتابة القرآن العزيز في المصاحف وكالمذاهب التي عن حسن نظر الفقهاء المجتهدين الذين يردون الفروع إلى الأصول التي هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكالكتب الموضوعة في النحو والحساب والفرائض وغير ذلك من العلوم مما مرجعه ومبناه على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوامره فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث.

(1/42)


الحلال بيّن والحرام بيّن.
6 - عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب " رواه البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده.
قوله: "إن الحلال بين وإنّ الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" يعني أن الأشياء ثلاثة أقسام: فما نص الله على تحليله فهو الحلال كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1. وقوله:
__________
1 سورة المائدة: الآية 5

(1/43)


{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1. ونحو ذلك، وما نص الله على تحريمه فهو الحرام البيّن، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 2. الآية. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} 3. وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدا أو عقوبة أو وعيدا فهو حرام، وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني فالإمساك عنه ورع.
وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقالت طائفة: هي حرام لقوله: "استبرأ لدينه وعرضه" قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد وقع في الحرام، وقال الآخرون: هي حلال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "كالراعي يرعى حول الحمى" فيدل على أن ذلك حلال وأن تركه ورع. وقالت طائفة أخرى: المشتبهات المذكور في هذا الحديث لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البين والحرام البين فينبغي أن نتوقف عنها وهذا من باب الورع أيضاً.
وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شبهاً بينا بعتبة فقال: "هو لك يا
__________
1 سورة النساء: الآية 24.
2 سورة النساء: الآية 23.
3 سورة المائدة: الآية 96.

(1/44)


عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة" 1 فلم تره سودة قط فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأنه لزمعة على الظاهر وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبهة الداخلة عليه فاحتاط لنفسه وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوانها عبد وغيره.
وفي حديث عدى بن حاتم أنه قال: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي عليه فأجد معه على الصيد كلبا آخر قال: "لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" 2 فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضاً خوفاً من أن يكون الكلب الذى قتله غير مسمى عليه فكأنه أهل لغير الله به وقد قال الله تعالى في ذلك: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} 3. فكان في فتياه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم لاشتباه أسبابها وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 4. وقال بعض العلماء: المشتبهات ثلاثة أقسام:
__________
1 رواه البخاري في الفرائض باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة حديث رقم 6749.
2 رواه مسلم في الصيد والذبائح باب الصيد بالكلاب المعلمة حديث رقم 1929.
3 سورة الأنعام: الآية 121.
4 رواه النسائي باب الحث على ترك الشبهات حديث رقم 5711 وقال النسائي: هذا الحديث جيد جيد. وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" قال في النهاية يروى بفتح الياء وضمها أي ما يشك فيه إلى ما لا يشك فيه والمراد أن ما اشتبه حاله على الإنسان فتردد بين كونه حلالاً أو حراماً فاللائق بحاله تركه والذهاب إلى ما يعلم حاله ويعرف أنه حلال والله تعالى أعلم.

(1/45)


منها ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا، كالذى يحرم على المرء أكله قبل الذكاة إذا شك في ذكاته لم يزل التحريم إلا بيقين الذكاة والأصل في ذلك حديث عدي المتقدم ذكره.
وعكس ذلك أن يكون الشيء حلالاً1 فيشك في تحريمه كرجل له زوجة فشك في طلاقها أو أمة فيشك في عتقها. فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه والأصل في هذا الحديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقن الطهارة2.
القسم الثالث: أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام ويحتمل الأمرين جميعاً ولا دلالة على أحدهما فالأحسن التنزه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التمرة الساقطة حين وجدها في بيته فقال: "لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها" 3.
وأما إن جوز نقيض ما ترجح عنده بأمر موهوم لا أصل له كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها ونحو ذلك فهذا يجب أن لا يلتفت إليه فإن التوقف لأجل التجويز هوس والورع منه وسوسة شيطان إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء والله أعلم.
__________
1 هذا ثاني الأقسام الثلاثة في المشتبهات، فلينتبه.
2 والحديث هو: شكى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً".
رواه البخاري في الوضوء باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن حديث رقم 137.
ورواه أيضاً الإمام مسلم وأبو داود والنسائي.
3 رواه البخاري في البيوع باب التنزه ع الشبهات حديث رقم 2055 ونص الحديث: مرّ النبيّ بتمرةٍ مسقوطةٍ فقال: "لولا أن تكون صدقة لأكلتها".

(1/46)


وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يعلمهن كثير من الناس" أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث إنها مشكلة لترددها بين أمور محتملة فإذا علم بأي أصل يلتحق زال كونها شبهة وكانت إما من الحلال أو من الحرام وفيه دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها يدل عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس.
وقوله: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" مما يشتبه.
وأما قوله: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" فذلك يكون بوجهين أحدهما:
أن من لم يتق الله وتجرأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات ويحمله التساهل في أمرها على الجرأة على الحرام كما قال بعضهم: الصغيرة تجر الكبيرة والكبيرة تجر الكفر وكما روي "المعاصي بريد الكفر".
الوجه الثاني: أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه لفقدان نور العلم ونور الورع فيقع في الحرام وهو لا يشعر به وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل، وأصله أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه لأنه قد تنفرد الفاذة1 وتشذ الشاذة ولا ينضبط فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك وهكذا محارم الله عز وجل من القتل والربا والسرقة وشرب
__________
1 هي الشاة تمشي وحدها.

(1/47)


الخمر والقذف والغيبة والنميمة ونحو ذلك لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.
"ويوشك" بكسر الشين مضارع "أوشك" بفتحها وهي من أفعال المقاربة، و "يرتع" بفتح التاء معناها: أكل الماشية من المرعى وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله" الحديث.
المضغة: القطعة من اللحم وهي قدر ما يمضغه الماضغ يعني بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها و "صلحت" وريناه بفتح اللام و "القلب" في الأصل مصدر وسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه. وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
ما سمي القلب إلى من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وخص الله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة فتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها وتميز به مضارها من منافعها ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وأضافه إلى القلب فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} .1 وقد جعل الله الجوارح مسخرة له ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها وعملت على معناه: إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فإذا فهمت هذا ظهر لك قوله صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة الحج: الآية 46.

(1/48)


"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" نسأل الله العظيم أن يصلح فساد قلوبنا، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.

(1/49)