شرح التجريد
الصريح لأحاديث الجامع الصحيح عبد الكريم الخضير التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح -
شرح أحاديث كتاب بدء الوحي (3)
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
"ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة".
الحديث السابع، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعنه"، عن
ابن عباس راوي الحديث السابق، "أن أبا سفيان بن حربٍ
أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش"، هرقل بكسر
الهاء وفتح الراء كدمشق، ممنوع من الصرف للعالمية والعجمة،
وحكي فيه: هِرْقِل بسكون الراء وكسر القاف، والأول أشهر،
ولقبه: قيصر، قاله الشافعي، كما يلقب ملك الفرس كسرى، وملك
الترك يقال له: خاقان، ملك الحبشة يقال له: النجاشي،
والقبط يقول له: فرعون، ومصر: العزيز، وحمير: تبع، وغير
ذلك كما في عمدة القاري، "أرسل إليه" أي أرسل هرقل إليه،
أي إلى أبي سفيان "في ركب"، حال كونه مع ركب، جمع راكب
كصحب وصاحب، وهم أولو الإبل العشر فما فوقها، "من قريش"
صفة لركب، ومن لبيان الجنس، أو للتبعيض، وكان عدد الركب
ثلاثين رجلاً كما عند الحاكم وعند ابن السكن نحو من عشرين،
وعند ابن أبي شيبة أن المغيرة بن شعبة منهم، وضعفه
البلقيني بأن المغيرة كان مسلماً وقتها، فإنه أسلم عام
الخندق فيبعد أن يكون حاضراً ويسكت مع كونه مسلماً.
(5/1)
والحال أنهم "كانوا تجاراً" بضم التاء
وتشديد الجيم على وزن كفار، وبالكسر والتخفيف على وزن:
كلاب تجار، جمع تاجر أي متلبسين بصفة التجارة، "بالشام"
بالهمز، وقد يترك، وقد تسهل الكلمة فيقال: بالشام، وهو
متعلق بـ (كانوا)، كانوا بالشام، أو بقوله: (تجاراً)
تجاراً بالشام، "في المدة التي كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- مادّ" بتشديد الدال أصله مادد، فأدغم الأول في
الثاني من المثلين، أدغمت الدال في الدال، وهذه مفاعلة
والممادة هذه والمفاعلة من الطرفين، والمراد مدة صلح
الحديبية سنة ست "فيها أبا سفيان وكفار قريش" أي مع كفار
قريش على وضع الحرب مدة عشر سنين، وكفار بالنصب مفعول معه،
أو عطف على المفعول به، وهو أبا سفيان "فأتوه" أي أرسل
إليهم في تقدير، أي أرسل إليهم في طلب إتيان الركب فجاء
الرسول يطلب إتيانهم فأتوه، وقد وجدهم الرسول بغزة، وهم أي
هرقل وجماعته، وفي رواية: "وهو بإيلياء" بالمد على وزن
كبرياء، و (إيليا) بالقصر وبحذف الياء الأولى (إلياء) وهو
بيت المقدس، والباء بمعنى في، الباء للظرفية بمعنى في، على
هذا لا ينكر إذا قيل: بمكان كذا، والمراد في مكان كذا،
"فدعاهم" هرقل حال كونه "في مجلسه وحوله" منصوب على
الظرفية وهو خبر المبتدأ الذي هو "عظماء الروم"، وهم ولد
عيص بن إسحاق بن إبراهيم على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من
العرب من تنوخ وبهراء وغيرهم من غسان كانوا بالشام، فلما
أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم واستوطنوها،
فاختلطت أنسابهم، وعند ابن السكن: "وعنده بطارقته
والقسيسون والرهبان"، "ثم دعاهم"، قال: (ثم دعاهم) عطف على
قوله: (فدعاهم) وليس بتكرار، بل معناه أمر بإحضارهم، فلما
حضروا وقعت مهلة، ثم استدناهم كما أشعر بذلك العطف بـ (ثم)
كأنه دعاهم فأحضروا إلى قصره، ثم دعاهم ثانية إلى مجلسه،
فليس هذا من التكرار، "ودعا ترجمانه" وفي رواية:
"بترجمانه"، وفي رواية: "بالترجمان"، وهو بفتح المثناة
الفوقية وضم الجيم، وقد تضم التاء، والترجمان: المفسر من
لغةٍ إلى لغة، وقد يطلق على المبلغ باللغة نفسها، كما في
الصحيح في كتاب الإيمان عن أبي جمرة نصر بن عمران قال:
"كنت أترجم بين ابن عباس والناس"، يعني
(5/2)
يبلغ صوت ابن عباس، ثم قال هرقل للترجمان،
يعني الأصل في الترجمان أنه يحول من لغة إلى لغة، لكن قد
تطلق الترجمة بإزاء التبليغ، وإن كانت اللغة واحدةً، ثم
قال هرقل للترجمان: قل لهم أيكم أقرب؟ فقال الترجمان:
"أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل؟ " ضمن أقرب معنى أقعد فعداه
بالباء، وفي رواية: "من هذا الرجل" على الأصل، وفي رواية:
"إلى هذا الرجل" ولا إشكال فيها فإن أقرب يتعدى بـ (إلى)
كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [(16) سورة
ق] "أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل؟ " أقرب مضمن معنى أقعد
به، وألصق به، لماذا لا نقول: أن الباء هنا بمعنى من؟
والحروف يأتي بعضها بدل بعض، كما يقولون: الحروف تتقارض،
شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يرى أنه إذا أمكن تضمين
الفعل فهو أولى من تضمين الحرف، تضمين الفعل معنى فعل آخر
يناسب الحرف المذكور في السياق يتعدى بالحرف المذكور فلا
شك أنه أولى من تضمين الحرف.
وعلى كل حال جاء قوله: "أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل"، وجاء
أيضاً في رواية: "من هذا الرجل" على الأصل في رواية: "إلى
هذا الرجل"، ومعروف أن الأقرب يتعدى بإلى كما في قوله
تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [(85) سورة الواقعة]
والمفضل عليه محذوف تقديره من غيره، "الذي يزعم"، وفي
روايةٍ: "يدعي أنه نبي" والذي يزعم لا شك أن مثل هذا
الأسلوب يؤتى به أحياناً للتشكيك في الدعوة، وقد يؤتى به
بإزاء القول، بحيث لا يتضمن التشكيك، وجاء (زعم) ويراد به
قال، وكثيراً ما يقول سيبويه في كتابه: زعم الكسائي
ويوافقه، ولا يعني هذا أنه يشكك في كلامه، في روايةٍ:
"يدعي"، الادعاء لا شك أنه تشكيك في الدعوة، "أنه نبي،
فقال أبو سفيان قلت: أنا أقربهم نسباً" أي من حيث النسب،
وذلك لكونه من بني عبد مناف، وهو الأب الرابع للنبي -صلى
الله عليه وسلم- ولأبي سفيان، وخصّ هرقل الأقرب لكونه أحرى
بالإطلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا
يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، الأقرب لا يمكن أن
يقدح في نسب قريبه لأن القدح يتجه إليه.
المقدم: صلة القرابة المعنية أحسن الله إليكم؟
(5/3)
في بني عبد مناف وهو الأب الرابع للنبي
-عليه الصلاة والسلام- ولأبي سفيان أيضاً، فهم بمنزلة
واحدة، خص هرقل الأقرب لماذا؟ لكونه أحرى بالإطلاع على
ظاهره وباطنه أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح
في نسبه بخلاف الأقرب، لكن قد يقول قائل: إن القريب متهم
في الإخبار عن نسب قريبه بما يقتضي شرفاً وفخراً، ولو كان
عدواً له لدخوله في شرف النسب الجامع لهما، يعني إذا كان
المحظور بالنسبة إلى الأبعد الطعن في نسبه، هذا أيضاً يمكن
أن يقال: إن الأقرب يدعي نسباً له؛ لأنه يشاركه في هذا
النسب أكثر من واقعه، قد يقال هذا، لكن هو بلا شك -عليه
الصلاة والسلام- هو ذو نسبٍ وشرف، "فقال -هرقل-: أدنوه
مني"، وأمر بإدنائه ليمعن في السؤال ويشفي غليله، "وقربوا
أصحابه فاجعلوهم عند ظهره" لئلا يستحيوا أن يواجهوه
بالتكذيب إن كذب؛ لأن الحياء في العينين، فإذا كانوا وراء
ظهره لا يستحيون منه أن يواجهوه بالتكذيب إذا كذب، ويذكر
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهذا بعدما كفّ بصره قال:
"لا تطلبن من أعمىً حاجة، فإن الحياء في العينين"، فهنا
جعلهم عند ظهره؛ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب،
وعلى كل حال الحياء خلق شرعي يتصف به الأعمى وغير الأعمى،
وكم من مبصر يرد أدنى طلب، وكم من كفيف يخجل ويستحي من أن
يرد أدنى طلب، "ثم قال لترجمانه: قل لهم -أي لأصحاب أبي
سفيان- إني سائل هذا عن هذا الرجل -أي النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وأشار إليه لقرب العهد بذكره، عن هذا الرجل،
كأنه يشير إليه، أشار إليه لقرب العهد بذكره- فإن كذبني
-بالتخفيف أي نقل إلي الكذب- فكذبوه" بالتشديد، وكذب
التخفيف يتعدى إلى مفعولين، مثل صدق، تقول: كذبني الحديث،
وصدقني الحديث، وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعولٍ واحد، وهما
من غرائب الألفاظ؛ لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة،
يعني الفعل اللازم يعدى بالتضعيف، الفعل اللازم يعدى
بالتضعيف، وهذا لما ضعّف قلّ تعديه، بدلاً من أن يتعدى إلى
اثنين، صار يتعدى إلى الواحد، وهذا من الغرائب، من غرائب
الألفاظ، لماذا؟ لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة
وبالعكس والأمر هنا بالعكس، قال أبو سفيان: "فوالله لولا
الحياء من أن يأثروا
(5/4)
عليّ" بضم الثاء وكسرها، و (عليّ) بمعنى
(عني) يعني رفقته، ومراده بذلك أن يرووا عنه كذباً، وفي
رواية: "الكذب" فأعاب به؛ لأنه قبيح ولو على عدو، وهذا
يقوله أبو سفيان حال كفره، مما يدل على أن الفطر السليمة
تأبى الكذب وتنفر منه، وأبو سفيان حال كفره نفر من أن يروى
عنه الكذب، فمن المؤسف جداً أن يوجد في المسلمين من لا
يتحرج من الكذب بل يكذب لأدنى سبب، بل قد يكذب لغير مصلحة،
والله المستعان.
وكل هذا سببه البعد عن تعاليم هذا الدين الذي جاءنا بمكارم
الأخلاق، "لكذبت عنه" لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي إياه، وفي
رواية: "لكذبت عليه" هذا واقع الكفار يبغضون النبي -عليه
الصلاة والسلام- بغض عقدي، لكنهم لا يلبثون إذا أسلموا أن
يكون أحب الناس إليهم لما جبل عليه من الصفات الكريمة
والأخلاق الحميدة، إضافةً إلى أن حبه -عليه الصلاة
والسلام- ديانة، "ثم كان أول ما سألني عنه" بنصب أول، قال
الحافظ: وبه جاءت الرواية، وهو خبر كان، واسمها ضمير
الشأن، ويجوز رفع أول اسماً لكان، وذكر العيني: وروده
روايةً، وحينئذٍ يكون الخبر: أن قال: كيف نسبه فيكم؟ -صلى
الله عليه وسلم-، أي ما حال نسبه، أهو؟
طالب: هو خبر. . . . . . . . .
المصدر المؤول (أن قال).
طالب: ... يعني .. قوله:
كان أول، قوله: كيف نسبه فيكم؟ المصدر المؤول من أن وما
دخلت عليه.
طالب: وتكون أول خبر.
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ} [(177) سورة البقرة]
البرّ خبر ليس، والمصدر المنسبك من أن وما دخلت عليه اسم
ليس، وإذا جئت بالبرُّ وهنا أولُ، يكون خبرها المصدر
المنسبك وهكذا.
أن قال: كيف نسبه فيكم؟ -صلى الله عليه وسلم-، يعني ما حال
نسبه أهو من أشرافكم أم لا؟ "قلت: هو فينا ذو نسب"، أي
صاحب نسبٍ عظيم، فالتنوين للتعظيم، كما في قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [(179) سورة البقرة]
تنوين حياة هذا لا شك أنه للتعظيم، يعني حياة عظيمة.
(5/5)
قال هرقل: "هل قال هذا القول منكم من قريش
أحد قط؟ " بتشديد الطاء المضمومة، ولا يستعمل إلا في
الماضي المنفي، واستعمل هنا بغير أداة النفي وهو نادر،
وأجيب بأن الاستفهام حكمه حكم النفي، كأنه قال: هل قال هذا
القول أحد أو لم يقله أحد قط قبله؟ بالنصب على الظرفية،
وفي روايةٍ: مثله؟ "قلت: لا"، أي لم يقله أحد قبله، قال
هرقل: "فهل كان من آبائه من ملك؟ " بكسر اللام، و (من)
بكسر الميم، وفي رواية: (مَن ملَك) مَن بفتح الميم ومَلك
بكسر اللام فعل ماضي، وروي بإسقاط (مِن) والأول أشهر
وأرجح، من ملِك.
قال أبو سفيان: "قلت: لا"، قال هرقل: "فأشراف الناس
يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ " قال: أبو سفيان: "قلت: بل ضعفاؤهم"
أي اتبعوه، والشرف: علو الحسب والمجد، وقد شرُف بالضم فهو
شريف، وقوم شرفاء وأشراف، وجاء في الحديث عند الترمذي
((الحسب المال)) لا شك أن المال حسب، ووسيلة إلى الشرف،
شرف الدنيا، وشرف الآخرة إن استعمل فيما يرضي الله -سبحانه
وتعالى-، وخصص ابن حجر الشرف هنا بأهل النخوة والتكبر؛
لأنه لا كل شريف ليخرج مثل أبي بكر وعمر ممن أسلم قبل سؤال
هرقل، وتعقبه العيني بأنهما من أهل النخوة أيضاً، فقول أبي
سفيان جرى على الغالب، يعني غالب أتباعه -عليه الصلاة
والسلام- هم الضعفاء، وفي رواية ابن إسحاق: "تبعه من
الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأنساب والشرف فما
تبعه منهم أحد"، قال ابن حجر: "وهو محمول على الأكثر
الأغلب.
قال هرقل: "أيزيدون أم ينقصون؟ " بهمزة الاستفهام، وفي
روايةٍ بإسقاطها، وجزم ابن مالك بجوازه مطلقاً خلافاً لمن
خصه بالشعر، يعني مثل قوله:
. . . . . . . . . ... بسبعٍ رمينا الجمر أم بثمان؟
هذا قالوا: خاص بالشعر، وابن مالك يجوزه مطلقاً، و (أم)
إنما يعطف بها إثر الهمزة من بين حروف الاستفهام، كما قال
ابن مالك -رحمه الله تعالى-:
وأم بها اعطف إثر همز التسوية ... أو همزةٍ عن لفظ أي
مغنية
(5/6)
فلا تقع بعد (هل) مثلاً، هذا الأصل فيها،
مع أنه جاء في رواية من روايات الحديث في كتاب الإيمان أن
هرقل قال له: "سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ " وجاء في حديث
جابر: ((هل تزوجت بكراً أم ثيباً؟ )) فهذا يدل على الجواز،
وفي شرح القسطلاني في كتاب الإيمان في الموضع الثاني،
يقول: "سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ " وفي الرواية السابقة:
الاستفهام بالهمزة وهو القياس؛ لأن أم المتصلة مستلزمة
لهمزة، وأجيب بأن أم هنا منقطعة، أي بل ينقصون فيكون
إضراباً عن سؤال الزيادة، واستفهاماً عن النقصان، على أن
جار الله أطلق على أنها لا تقع إلا بعد الاستفهام فهو أعم
من الهمزة، يعني تقع بعد أي حرف من حروف الاستفهام،
والمراد بجار الله الزمخشري كما هو معروف.
قال أبو سفيان: "قلت: بل يزيدون" قال هرقل: "فهل يرتد أحد
منهم سخطةً؟ " بفتح السين المهملة، (سخطةً) منصوب مفعول
لأجله، أو حال أي ساخطاً أي كراهةً وعدم رضا، وجوز ابن حجر
(سخطةً) الضم والفتح، سُخطةٌ وسَخطةً، أي فهل يرتد أحد
منهم كراهةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أخرج به من ارتد
مكرهاً، أو لا سخطاً لدين الإسلام بل لرغبةٍ في غيره كحظٍ
نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جحش، قال أبو سفيان "قلت:
لا" فإن قلتَ: لمَ لم يستغن هرقل بقوله: "بل يزيدون" عن
قوله: "هل يرتد أحد منهم؟ " أجيب بأنه لا ملازمة بين
الازدياد والنقص، فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص
باعتبار كثرة من يدخل، وقلة من يرتد مثلاً، فلا تلازم
حينئذٍ، وإنما سأل عن الارتداد؛ لأن من دخل على بصيرةٍ في
أمرٍ محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل، قال هرقل:
"فهل كنتم تتهمونه بالكذب" يعني على الناس قبل أن يقول ما
قال، قال أبو سفيان: "قلت: لا" وإنما عدل السؤال عن نفس
الكذب إلى السؤال عن التهمة تقريراً لهم عن صدقه؛ لأن
التهمة إذا انتفت انتفى سببها؛ لأن الشخص إذا لم يتهم
بالكذب هذا نفي للكذب من باب أولى، إذا نفيت التهمة فنفي
الكذب نفسه من باب أولى.
(5/7)
وفي علوم الحديث من ألفاظ الجرح عندهم
الكذب والتهمة بالكذب، فالكذب المراد به الكذب على النبي
-عليه الصلاة والسلام-، والتهمة بالكذب كون الراوي جُرب
عليه الكذب، لكن لا على النبي -عليه الصلاة والسلام- بل في
حديثه مع الناس، هذا يقال له: متهم بالكذب؛ لأن المراد
بالكذب الذي هو شر أنواع الجرح وأسوأ مراتب التجريح،
المراد به على النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي جاء
الوعيد عليه، ودونه التهمة بالكذب، بأن يثبت بأن هذا
الراوي يتعاطى الكذب في كلامه العادي مع الناس، لكن لم
يثبت عنه أنه كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وحينئذٍ
يكون متهماً بالكذب.
قال هرقل: "فهل يغدر؟ " بكسر الدال أي ينقص العهد، قال أبو
سفيان: "قلت: لا، ونحن منه -أي النبي -عليه الصلاة
والسلام- في مدة" أي مدة صلح الحديبية، أو غيبةٍ وانقطاع،
فلا ندري ما هو فاعل فيها، أي في المدة، وفي قوله: "لا
ندري" إشارة إلى عدم الجزم بغدره، هذه الكلمة لم يمكن أبو
سفيان أن يدخل من أجل الطعن بالنبي -عليه الصلاة والسلام-
إلا في هذه أو من خلال هذه الكلمة، يقول: "لا ندري ما هو
فاعل فيها" ولذا لم يلتفت إليها هرقل، قال أبو سفيان: "ولم
تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً أنتقصه به غير هذه الكلمة"،
قال في الفتح: "التنقيص هنا أمر نسبي؛ لأن من يقطع بعدم
غدره أرفع رتبةً ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة كأن في
كلام أبي سفيان تجويز الغدر منه -عليه الصلاة والسلام-، هو
لم يقع منه، ولم يثبته أبو سفيان جازماً، وإنما جوز أن
يغدر في هذه المدة التي لا يدرى ما هو صانع فيها.
وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- معروفاً عندهم
بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولكن لما كان الأمر
مغيباً لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى
الكذب، يعني لو نسب إلى الكذب قال: هذا مجرد توقع، فلذلك
أورده على التردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه.
(5/8)
و (غير) بالرفع صفة لكلمة، ويجوز فيها
النصب صفة لشيءٍ، قال هرقل: "فهل قاتلتموه؟ " نسب ابتداء
القتال إليهم ولم ينسبه إليه -عليه الصلاة والسلام- لما
اطلع عليه من النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يبدأ قومه
بالقتال حتى يقاتلوه، ولا يعني هذا أن جميع صور الجهاد في
الإسلام تكون دفاعاً، لا يعني هذا أن جميع صور الجهاد هي
الدفاع، وإنما من الجهاد في الإسلام ما هو ابتداءً،
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ
وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [(123) سورة التوبة]
فإدخال الناس وإرغامهم من الدين إذا أبوا أن يدخلوا، وصدوا
عن الدين، وأبوا أن يدفعوا الجزية لا بد أن يقاتلوا، قال
أبو سفيان: "قلت: نعم قاتلناه" قال هرقل: "فكيف كان قتالكم
إياه؟ " بفصل ثاني الضميرين (إياه)
والاختيار أن لا يجيء المنفصل ... إذا تأتى أن يجيء المتصل
(5/9)
يعني يمكن أن يقول: (فكيف كان قتالكموه؟ )
هنا يتأتى مجيء الضمير المتصل، والاختيار أن لا يجيء
المنفصل مع إمكان مجيء المتصل، وقيل: (قتالكم إياه) أفصح
من (قتالكموه) لاتصال الضمير، فلذلك فصله وصوبه العيني
تبعاً للزمخشري، قال أبو سفيان: "قلت: الحرب بيننا وبينه
سجال" بكسر السين، وتخفيف الجيم، أي نوب، نوبةً لنا،
ونوبةً له، كما قال: "ينال منا وننال منه" أي يصيب منا
ونصيب منه، والجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب، قال
هرقل: (ما) وفي نسخةٍ: (بما) وفي نسخةٍ: (فما) ذا يأمركم؟
" أي ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: "قلت يقول: اعبدوا
الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً" بالواو، وفي روايةٍ
بحذفها: "لا تشركوا به شيئاً" وحينئذٍ فيكون تأكيداً
لقوله: "وحده"، "واتركوا ما يقول: آباؤكم" من عبادة
الأصنام وغيرها، مما كانوا عليه في الجاهلية، "ويأمرنا
بالصلاة" المعهودة المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم،
وفي نسخةٍ: (والزكاة)، "والصدق" وهو كلام المطابق للواقع،
وفي رواية: (بالصدقة) بدل الصدق، ورجحها البلقيني،
"والعفاف" بفتح العين أي الكف عن المحارم، وخوارم المروءة،
والصلة للأرحام، وهي كل ذي رحمٍ محرم لا تحل مناكحته لو
فرضت الذكورة مع الأنوثة، ضابط المحرم أو الرحم التي تجب
صلتها قالوا: كل ذي رحمٍ محرم لا تحل مناكحته ولو فرضت
الذكورة مع الأنوثة، يعني لو قدر أن أحدهما ذكر والآخر
أنثى لا تجوز المناكحة بينهما حينئذٍ تجب الصلة.
وقيل: كل ذي قرابة، الصلة لذوي الأرحام لكل ذوي قرابة،
والصحيح عمومه في كل ما أمر الله به أن يوصل، قال في
التوضيح: "من تأمل ما استقرأه هرقل من هذه الأوصاف تبيّن
له حسن ما استوصف من أمره واستبرأه من حاله فما أعقله من
رجل لو ساعدته المقادير بالاتباع" يعني لو كتب له أن يسلم،
لا شك أن هذه الأسئلة تنم عن عقلٍ راجح، لكن إرادة الله
-سبحانه وتعالى- له وإيثاره للدنيا على الآخرة، الفاني على
الباقي لا شك أن هذا شيء مقدر عليه لكن باختياره وبإمكانه
أن يختار الباقي على الفاني، والأمر يومئذٍ لله.
(5/10)
فقال: للترجمان، قل له: سألتك عن نسبه
فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها،
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرتَ: أن لا، فقلت:
لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ رجل يتـ ....
يتأسى ويأتسي كلها جاءت في هذا وذاك.
لأنها كتب عندنا (يأتسي)
ولا فرق بين الروايتين، يأتسي أو يتأسى كلاهما وارد.
يتأسى بقولٍ قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملكٍ؟
فذكرتَ: أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل
يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول
ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على
الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم
ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل،
وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر
الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن
يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته
القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل: لا
تغدر، وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا
الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان،
ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً
فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن
أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتشجمت لقاءه، ولو كنت
عنده لغسلت عن قدميه.
بعد أن أنهى هرقل الأسئلة التي سألها أبا سفيان عن حاله
-عليه الصلاة والسلام-، والإجابات من أبي سفيان عقّب هرقل
على هذه الأسئلة واحداً بعد الآخر، "فقال هرقل للترجمان:
قل له -أي لأبي سفيان- سألتك عن نسبه -أشريف هو أم لا؟ -
فذكرت أنه فيكم ذو -أي صاحب- نسبٍ" أو شريفٍ عظيم، "فكذلك
الرسل تبعث في –أشرف- نسب قومها" وجزم به هرقل لما تقرر
عنده في الكتب السابقة، "وسألتك هل قال أحد منكم هذا
القول؟ " وفي نسخةٍ: (قبله) "فذكرت: أن لا، فقلت: لو كان
أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقولٍ قيل قبله"،
يأتسي يقتدي ويتبع، وفي رواية: يتأسى.
(5/11)
"وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت:
أن لا، قلت: فلو كان من آبائهم ملك قلت: رجل يطلب ملك
أبيه" بالإفراد، وفي روايةٍ بالجمع: (آبائه) فإن قيل: لم
قال هرقل في هذين الموضعين (فقلتُ) يعني السؤال الثاني
والثالث (فذكرتَ، فقلتُ) والسؤال الثاني: (قلتُ فلو كان)
في السؤال الأول والرابع، شوف صيغة السؤال والجواب، (سألتك
عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك) ما قال: (قلت فكذلك)
وفي الرابع على ما سيأتي ما في (قلت) الثاني والثالث
(سألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت: أن لا، فقلت)
(وسألتك هل كان من آبائهم من ملك؟ فذكرت: أن لا، قلتُ: فلو
كان) فإن قيل: لمَ قال هرقل في هذين الموضعين: فقلت؟ نسب
التعقيب له؛ لأنهما مقاما فكرٍ ونظر، بخلاف غيرهما من
الأسئلة فإنها مقام نقل، بقية الأسئلة، الأسئلة مجموعها
عشرة، في هذين الموضعين قال: قلت، نسب التعليق له، الأسئلة
الثمانية ما قال: قلت؛ لأنه تلقاها من الكتب السابقة
نقلاً، في الموضعين السؤال الثاني والثالث قال: قلت؛ لأن
هذين الموضعين مقام فكر ونظر، هذا من تلقاء نفسه جاء بهذا
التعقيب، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل.
"وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر" اللام فيه تسمى
لام الجحود، لملازمتها النفي، وفائدتها تأكيد النفي {وَمَا
كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [(33) سورة الأنفال] هذه
تسمى لام الجحود، الكذب على الناس قبل أن يظهر رسالته
ويكذب على الله بعد إظهارها.
"وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم
اتبعوه وهم أتباع الرسول" غالباً لأنهم أهل الاستكانة،
بخلاف أهل الاستكبار المصرين على الشقاق بغياً وحسداً كأبي
جهل، ويؤيد استشهاده على ذلك قوله تعالى: {قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [(111) سورة
الشعراء] المفسر بأنهم الضعفاء على الصحيح.
(5/12)
"وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم
يزيدون، وكذلك أمر الإيمان فإنه لا يزال في زيادة حتى يتم"
بجميع أموره المعتبرة فيه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وغيرها،
ولهذا نزل في آخر عمره -عليه الصلاة والسلام-: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي} [(3) سورة المائدة].
"وسألتك: أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت:
أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب" القلوب
مفعول، وبشاشته فاعل، أي تخالط بشاشة الإيمان القلوب التي
يدخل فيها، وفي رواية: (يخالط بشاشةَ) بالنصبِ، والقلوبِ
مجرور على الإضافة، والمراد ببشاشة القلوب انشراح الصدور،
والفرح والسرور بالإيمان.
"وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر"
لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف
من طلب الآخرة، من طلب الآخرة لا يمكن أن يسعى من أجل
تحقيقها والسعي إليها بأمرٍ يحرمه الله عليه، لا شك أن ما
عند الله لا ينال بسخطه كما هو معروف.
"وسألتك بما يأمركم؟ " بإثبات الألف مع (ما) الاستفهامية
وهو قليل، قاله الزركشي وغيره، الأصل الحذف (بم) هذا
الكثير الغالب {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} [(1) سورة النبأ] ما
في (عمّا) يتساءلون؟ الأصل حذف الألف، وإثباتها قليل كما
هنا، "فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به
شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان" جمع وثن وهو الصنم،
واستفاده هرقل من قوله: "ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما
يقول: آباؤكم" لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان، "ويأمرنا
بالصلاة والصدق والعفاف" وهذا تقدم، ولم يعرج هرقل على
الدسيسة التي دسها أبو سفيان، يعني قوله: "ونحن منه في مدة
ما ندري ما هو صانع فيها؟ " لم يعرج عليها، لأنها لا رصيد
لها من الواقع، وهي أيضاً من عدو.
وسقط هنا إيراد السؤال العاشر وجوابه، وثبت ذلك في كتاب
الجهاد "وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أنه قد فعل،
وأن حربكم وحربه تكون دولاً، يدال عليكم المرة وتدالون
عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة"، هذا
السؤال العاشر سقط هنا إيراده.
(5/13)
ثم قال هرقل لأبي سفيان: "فإن كان من تقول
حقاً" لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب كما هو معروف "فسيملك
-يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- موضع قدمي هاتين -يعني
أرض ملكه- وقد كنت أعلم أنه خارج" قاله لما عنده من علامات
نبوته -عليه الصلاة والسلام- الثابتة في الكتب القديمة،
وفي رواية في كتاب التفسير: "فإن كان ما تقول حقاً فإنه
نبي" وفي الجهاد: "وهذه صفة نبي"، "لم أكن أظن أنه منكم"
يعني من قريش، "فلو أني أعلم أني أخلص -أي أصل- إليه
لتجشمت" أي لتكلفت لقاءه على ما فيه من المشقة، قال ابن
بطال: "هذا التجشم هو الهجرة"، وفي مرسل ابن إسحاق عن بعض
أهل العلم أن هرقل قال: "ويحك، والله إني لأعلم أنه نبي
مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته"، وخفي
على هرقل قوله -صلى الله عليه وسلم- الآتي في كتاب النبي
-عليه الصلاة والسلام-: ((اسلم تسلم)) خفي عليه قوله -عليه
الصلاة والسلام-: ((أسلم تسلم)) فلو حمل الجزاء السلامة
تسلم، على عمومه في الدارين لسلم، لسلم لو أسلم من جميع
المخاوف في الدنيا والآخرة، "ولو كنت عنده لغسلت عن
قدميه"، قال ذلك مبالغةً في الخدمة، وفي رواية: "لغسلت عن
قدمه"، أو في رواية: "لغسلتُ قدميه" بدون عن، ثم دعا هرقل
بكتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-.
أحسن الله إليكم، عندما قال هنا: سألتك هل كان في آبائه من
ملك؟ هل كانت قريش لا تعتبر عبد المطلب ملكاً في وقتها
وليس له إمرة، وبالتالي لا يحتسبون أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- من سلالة قومٍ كان لهم رأي في قريش؟
العرب في الجاهلية عاشوا فوضى، ليس هناك ملك مرتب منظم كما
عند غيرهم من الأمم، فهو في الاصطلاح أو في العرف السياسي
سواء كان في القديم أو الحديث لا يسمى ملك، كبير وسيد
وكبير قوم، ليس بملك عرفاً؛ لأنهم يعيشون فوضى، ما اعتبر
ملك.
هذه الحادثة كانت في أثناء فترة الصلح؟
أي نعم، بعد صلح الحديبية سنة ست.
ثم حصل بعدها ما حصل من إسلام أبي سفيان -رضي الله عنه-
ونقل هذه الحادثة إلى الصحابة؟
(5/14)
نعم إيه، نقلها عنه ابن عباس، نقلها كما
هي، وهذا يدل على أمانة الصحابة وثقتهم؛ لأن فيها بعض
الأشياء التي لو كانت المسألة بالرأي كان يغطيها أبو
سفيان، بل يخفيها ولا يرويها للناس؛ لأنها قدح فيه.
ونحن نسميه الآن هذا نسميه حديثاً كما تفضلتم قبل قليل؟
أي نعم، هو حديث؛ لأن فيه وصف النبي -عليه الصلاة
والسلام-، والحديث ما أثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-،
أو ما يروى عنه -عليه الصلاة والسلام- من قولٍ أو فعلٍ أو
تقريرٍ أو وصف، الوصف من الحديث، ولذا الشمائل قسم من
أقسام السنة.
قال: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي
بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا
فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله
إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك
مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و { ... يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ
وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [(64) سورة
آل عمران] قال: قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من
قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا،
فقلت لأصحابي: لقد أمِر أمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك
بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ
الإسلام.
في تتمة الحديث السابق في قصة هرقل، "ثم دعا –هرقل- بكتاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دحية"، بكسر
الدال وهو فاعل، بعث به دحية، وهو ابن خليفة الكلبي، صحابي
جليل كان من أحسن الناس وجهاً، أسلم قديماً، ذُكر في
الشروح أنه كان يمشي متلثماً لئلا يفتتن به من جماله، ولذا
جاء جبريل -عليه السلام- في صورته.
(5/15)
وفي رواية: "بعث به مع دحية" أي بعثه -عليه
الصلاة والسلام- معه، وكان في آخر سنة ست، بعد أن رجع من
الحديبية "إلى عظيم بصرى"، بضم الباء الموحدة مقصوراً
مدينة في الشام من أعمال حوران، أي أميرها الحارث بن أبي
شمر الغساني، "فدفعه إلى هرقل فقرأه" هرقل بنفسه أو
الترجمان بأمره، وفي المرسل محمد بن كعب القرظي عند
الواقدي، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية "فقرأه فإذا
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي ذلك استحباب تصدير
الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافراً في جميع
مكاتباته -عليه الصلاة والسلام- يفتتح الكتاب بالبسملة دون
الحمدلة، وهذا يدل على أن الرسائل تختلف عن الخطب، وافتتح
سليمان -عليه السلام- كتابه إلى بلقيس ببسم الله الرحمن
الرحيم كما جاء النص عليه في القرآن الكريم.
"من محمد عبد الله ورسوله" وصف نفسه الشريفة بالعبودية
تعريضاً لبطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن
الرسل مستوون في أنهم عباد الله، وفيه أيضاً الرد على
الغلاة الذين غلوا فيه -عليه الصلاة والسلام- ممن ينتسب
إلى الإسلام كمن يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث
العممِ
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به؟ أين الله -سبحانه
وتعالى-؟ إلى أن قال:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح
والقلمِ
(5/16)
ماذا أبقى لله مثل هذا؟ نسأل الله العافية،
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أشرف مقاماته العبودية
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [(19)
سورة الجن] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(1)
سورة الإسراء] وهنا قال: "من محمد عبد الله ورسوله"،
فالوصف بالعبودية رد على الغلاة، والوصف بالرسالة رد على
من ينتقصه -عليه الصلاة والسلام-، وفيه استحباب ابتداء
الكاتب بنفسه قبل المكتوب إليه، السنة في المكاتبات أن
يقال: من فلان إلى فلان، هذه الطريقة المتبعة عنده -عليه
الصلاة والسلام-، من فلان إلى فلان، فيستحب للكاتب أن يبدأ
بنفسه قبل المكتوب إليه، ونص على هذا أهل العلم استنباطاً
من مثل هذا الحديث، وإن كان بعضهم يختار البداءة بالأكبر،
فإن كان الكاتب أكبر قدم اسمه، وإن كان المكتوب إليه أكبر
قُدم، إلى فلان بن فلان من فلان، عملاً بقوله -عليه الصلاة
والسلام-: ((كبّر كبّر)) وأما الإمام أحمد -رحمه الله
تعالى- فكان يبدأ في مكاتباته باسم المكتوب إليه دائماً،
سواء كان صغيراً أو كبيراً تواضعاً منه -رحمه الله-، ولا
شك أن هذا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- فالأولى
الاقتداء به مع استصحاب التواضع وهضم النفس، يعني يستحضر
الإنسان الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ويستحضر
أيضاً التواضع وهضم النفس، وأنه ما قدم اسمه إلا من أجل
الائتساء والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولو قرن
اسمه بوصفٍ يدل على التواضع، وقرن اسم المكتوب إليه الذي
أخر اسمه وإن كان كبيراً بما يدل على رفعة شأنه كما قال
النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى هرقل عظيم الروم، فقال في
الخطاب: "إلى هرقل عظيم الروم" أي المعظم عندهم، ووصفه
بذلك لمصلحة التأليف، ولم يصفه بالإمرة ولا الملك، لكونه
معزولاً بحكم الإسلام، حكماً ليس بملك، وإنما هو عظيم
قومه، وذكر المدائن أن القاريء لما قرأ: (من محمد) يعني
قدم اسمه -عليه الصلاة والسلام- غضب أخو هرقل، واجتذب
الكتاب فقال له هرقل: مالك؟ فقال: لأنه بدأ بنفسه وسماك
صاحب الروم، فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي
بكتابٍ قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله إنه لأحق أن
يبدأ بنفسه، ولقد
(5/17)
صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه،
"سلام" بالتنكير، وفي رواية: (السلام) وجوز أهل العلم على
حدٍ سواء، خيروا بين التعريف والتنكير في السلام على الحي،
ولذا قالوا: ويخير بين تعريفه وتنكيره في سلام على الحي،
أما بالنسبة للميت فيكتفى اللفظ النبوي الوارد: ((السلام
عليكم دار قومٍ مؤمنين ... )) الخ، "على من اتبع الهدى" أي
الرشاد على حد قول موسى وهارون لفرعون: {وَالسَّلَامُ
عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [(47) سورة طه] والمعنى:
سلم من عذاب الله من أسلم، فليس المراد به التحية، وإن كان
اللفظ يشعر به؛ لأنه لم يسلم، فليس هو ممن اتبع الهدى.
"أما بعد" بالبناية على الضم، لقطعه عن الإضافة المنوية
لفظاً، وسبق الحديث عنها باختصار في شرح المقدمة، وذكر
الخلاف في أول من قالها من بين ثمانية أقوال، يجمعها قول
الشاعر:
جرى الخلف أما بعد من كان بادئاً ... بها عدّ أقوال وداود
أقربُ
ويعقوب أيوب الصبور وآدم ... وقس وسحبان وكعب ويعربُ
الأقرب أنه داود -عليه السلام-، وأنها فصل الخطاب الذي
أوتيه، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين، وللانتقال من أسلوبٍ
إلى آخر، وتقدم الكلام عليها في شرح المقدمة، والإتيان بها
سنة كما تقدم ذكره؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لزمها
في مكاتباته وفي خطبه -عليه الصلاة والسلام-، وينبغي أن
يؤتى بها بلفظها (أما بعد) ولا تغني الواو عن (أما) وبعد،
وإن كانت دارجة على ألسنة الناس، الناس يقولون: وبعد، لكن
الأصل (أما بعد).
بعضهم يقول: ثم أما بعد؟
هذه لا داعي لها، ثم، لا داعي لها إلا إذا أوتي بها
للانتقال مرةً ثانية إلى أسلوبٍ ثالث، تقول: ثم أما بعد
عطفاً على أما بعد الأولى، نعم جاء في بعض نسخ تفسير
الطبري العطف بـ (ثم) في الموضع الأول، لكن العبرة بما ثبت
عنه -عليه الصلاة والسلام-، ما أثر عنه ولا نص واحد فيه
(ثم أما بعد).
في قوله: (الهدى) -عليه الصلاة والسلام- المراد: الإسلام؟
الرشاد، الذي هو الإسلام، نعم، الدين الحق.
وبالتالي يفهم من هذا أنه لا يجوز أن يسلم على غير المسلم؟
(5/18)
نعم ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز، السلام
المطلق لا يجوز، يقول بعد هذا: "فإني أدعوك بدِعاية
الإسلام" بكسر الدال المهملة، وفي رواية: "بداعية الإسلام"
أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا
الله، وأن محمد رسول الله، والباء بمعنى (إلى) أي أدعوك
إلى الإسلام، "أسلِم" بكسر اللام، "تسلَم" بفتحها، "يؤتك
الله أجرك مرتين" بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني
جواب له، والثالث بحذف حرف العلة لالتقاء الساكنين كما هو
معروف، جواب ثانٍ له أيضاً أو بدل منه، "أسلم تسلم" (أسلم)
فعل أمر مبني على السكون، (تسلم) جواب الطلب أو جواب شرط
مقدر، إن تسلِم تسلَم، كما يقوله بعضهم، "يؤتك" جواب ثاني
أيضاً أو بدل منه، وجاء في كتاب الجهاد على ما سيأتي تكرار
(أسلم) أسلم تسلم، وأسلم يؤتك، على ما ستأتي الإشارة إليه
قريباً -إن شاء الله تعالى-.
وإعطاء الأجر مرتين لكونه مؤمناً بنبيه ثم آمن بمحمدٍ
-عليه الصلاة والسلام-، وقد جاء في هذا الحديث الصحيح:
ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: وذكر منهم: رجل آمن بنبيه ثم آمن
بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا منهم، أو من جهة أن
إسلامه يكون سبباً لإسلام أتباعه، لكن الأول أقرب.
(5/19)
وقوله: "أسلم تسلم" فيه غاية الاختصار،
ونهاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني مع ما فيه من
الجناس الاشتقاقي، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى
أصلٍ واحد، وفي الجهاد عند المؤلف: "أسلم تسلم، وأسلم
يؤتك" بتكرار أسلم، مع زيادة الواو في الثانية، فيكون
الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه على
حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
آمِنُواْ} [(136) سورة النساء] قال الحافظ ابن حجر: "وعورض
بأن الآية في حق المنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا نفاقاً
آمنوا إخلاصاً، قاله مجاهد"، ومنزلة مجاهد في التفسير
معروفة، إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، عرض التفسير
ثلاث مرات على ابن عباس من أوله إلى آخره، وابن عباس -رضي
الله عنه ما- يقول: "نزلت في مؤمني أهل الكتاب، يا أيها
الذين آمنوا يعني بأنبيائهم السابقين آمنوا بمحمد -عليه
الصلاة والسلام-"، وهي عند جماعة من المفسرين خطاب
للمؤمنين بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- ويكون المراد بـ
(آمنوا) الثانية دوموا واثبتوا على إيمانكم، يا أيها الذين
آمنوا أنتم على خير على إيمان لكن اثبتوا على هذا الخير
ودوموا عليه، فيكون المراد الاستمرار عليه، ومنهم من يقول:
أن المراد بـ (آمنوا) هنا: ازدادوا من الإيمان، يا أيها
الذين آمنوا عندكم أصل الإيمان صحيح، لكن ازدادوا من
الإيمان، فالإيمان يقبل الزيادة كما هو معروف.
(5/20)
"فإن توليت" أي أعرضت عن الإسلام فإن عليك
مع إثمك إثم اليريسين بمثناتين تحتيتين، جمع يريس على وزن
كريم، وفي رواية: (الأريسين) بقلب المثناة الأولى همزة،
وفي أخرى: (اليريسيين) بياءين جمع يريسي، وفي رواية:
(الأريسيين) والمعنى أنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب
اتباعهم له على استمرار الكفر؛ فلأن يكون عليه إثم نفسه من
باب أولى، فإن قلت: هذا معارض لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(164) سورة الأنعام] أجيب بأن
وزر الإثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس
بالسيئات يتحمل من جهتين، جهة فعله، وجهة تسببه، أن يقتدى
به في أي عمل سواء كان عمل خير أو عمل شر، من سنّ سنةً
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ
سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، عليه إثمها وإثم
من عمل بها، يتحمل إثمه بفعله وإثم غيره بالاقتداء به، ولا
شك أن الكبراء والعظماء يقتدى بهم {إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} [(67) سورة الأحزاب] فلا شك أن
عليهم إثم من يقتدي بهم، والأريسيون الأكارون أي الفلاحون
أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك، ونبه
بهم على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، والأسرع
انقياداً، فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا.
وقال أبو عبيد: المراد بالفلاحين أهل مملكته؛ لأن كل من
يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أو
بغيره، فأهل مملكته أهل زراعة، منهم من يتولى الزراعة بيده
وبنفسه، ومنهم من يتولاها بماله، فيؤاجر الناس عليها،
وقيل: هم الأجراء، وقيل: العشارون، أي أهل المكس، وقيل:
الخدم والخول.
(5/21)
"ويا أهل الكتاب" معطوفاً على قوله: أدعوك
بدعاية الإسلام، وأدعوك بقوله تعالى، أو أتل عليك، أو أقرأ
عليك: يا أهل الكتاب، وعلى هذا التقدير فلا تكون زائدةً في
التلاوة، تكون خارجة عن التلاوة؛ لأن الواو إنما دخلت على
محذوف ولا محذور فيه، وقيل أنه -عليه الصلاة والسلام- لم
يرد التلاوة، بل أراد مخاطبتهم بذلك، وحينئذٍ فلا إشكال،
وعورض هذا بأن العلماء استدلوا بهذا الحديث على جواز كتابة
الآية والآيتين إلى أرض العدو، ولولا أن المراد الآية لما
صح الاستدلال، وهم أقوم وأعرف.
وحذفت الواو في بعض الروايات: (يا أهل الكتاب) فيكون
بياناً لقوله: بدعاية الإسلام، وقوله: "يا أهل الكتاب"
يعمّ أهل الكتابين، "تعالوا إلى كلمةٍ سواء" أي مستوية
بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل،
وتفسير الكلمة أن لا نعبد إلا الله، أي نوحده بالعبادة
ونخلص له فيها، هذا القدر الذي هو التوحيد قدر مشترك بين
الديانات كلها، الديانات السماوية، ((نحن معاشر الأنبياء
أولاد علات، ديننا واحد)) فالأصل واحد، والشرائع مختلفة،
"ولا نشرك به شيئاً" ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق
العبادة، "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله" فلا
نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع
الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل، لما نزل قوله
تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} [(31) سورة التوبة] جاء في
الحديث أن عدي بن حاتم قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-:
ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: ((أما إنهم لم يكونوا
يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا
حرموا عليهم شيئاً حرموه))، "فإن تولوا -عن التوحيد-
فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون" أي لزمتكم الحجة فاعترفوا
بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به
الكتب، وتطابقت عليه الرسل، وقد قيل: إنه -صلى الله عليه
وسلم- كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت؛
لأن الآية نزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي
سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: بل نزلت في اليهود: وجوز
بعضهم نزولها مرتين، نزلت قبل قصة أبي سفيان، وفي سنة
الوفود سنة تسع ...
(5/22)
|