شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح عبد الكريم الخضير

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح
حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله
الشيخ/ عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".
مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بشرح أحاديث هذا الكتاب فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور.

الكلام على حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله:
لا زلنا في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- في باب تعليم الرجل أمته وأهله، كنا عرضنا لموضوع أن. . . . . . . . . مما يجعل الضعف من أجر. . . . . . . . . وهذه الإشكالية أجبتم على شيء منها فيما مضى، وله تعلق بما تبقى من ألفاظ هذا الحديث، نبدأ بها أحسن الله إليكم لنستكمل موضوعنا.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا السؤال الذي أورده الكرماني في الحلقة السابقة، يقول:
فإن قلت: فأجر المماليك ضعف أجر السادات، المسألة مفترضة في سيد له مملوك، السيد أدى حق الله -جل وعلا-، والمملوك أدى حق الله -جل وعلا-، وحق سيده،. . . . . . . . . هذا أن للملوك له ضعف أجر سيده بناءً على هذا الوعد المذكور في حديث الباب ((له أجران))، يقول: قلت لا محظور في التزام ذلك، أن يكون أجره ضعفه من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أخر يستحق فيها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، يعني عبد في مقابل عبد، هل هذا أجره من أدى حق الله -جل وعلا-، ولم يؤدي حق الموالي، له نفس ما للعبد الذي أدى الحقين.

(11/1)


يقول: أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، فإن قلت: فعلى هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكاً كتابياً، على هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكاً كتابياً أجره زائد على أجر أكابر الصحابة؛ لأن له من الحقوق كم؟ أربعة، أربعة حقوق، وذلك باطل بالإجماع.
يعني من باب التقريب، بلال له, كم له حق؟ أجران، له أجران، وسيده أبو بكر له أجر واحد! هذا باطل بالإجماع، هذا اللازم باطل، نعم وإن كان الحديث يدل على شيء من هذا، لكن يبقى أن جهات التفضيل متعددة، فهذا فاضل من جهة، وذاك فاضلٌ من جهات.
يقول: قلت: الإجماع خصصهم -خصص أكابر الصحابة- الإجماع خصصهم، وأخرجهم من ذلك الحكم، ويُلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليلٌ على زيادة أجره على من كان كتابياً. . . . . . . . . . عبد الله بن سلام كان كتابي فأسلم له أجران، لكن عموم الصحابة، نعم الذين ليس لهم هذا الوصف، يعني إذا قارنا عبد الله بن سلام –مثلاً- بآحاد الصحابة الذين كانوا على الشرك ثم أسلموا،. . . . . . . . . الإسلام ما في ما يمنع، وأيضاً بلال له أجران يفضل آحاد الصحابة الذي ليس له من الخصوصيات ما جرت النصوص به.
ويلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليلٌ على زيادة أجره على من كان كتابياً.
أقول أنا: التفضيل من جهة لا يقتضي التفضيل المطلق، مثال ذلك: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وعلى نبينا أول من يكسى يوم القيامة، ومع ذلك لا يقتضي تفضيله على محمد –صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك حديث أبي سعيد عند البخاري وحديث أبي هريرة -أيضاً- عنده عند البخاري, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ )) يعني هل هذا يقتضي أن موسى أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام؟ أبداً، يعني التفضيل من وجه لا يقتضي التفضيل المطلق.

(11/2)


ومن ذلك حديث أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [(105) سورة المائدة]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل القبض على الجمر)) يعني الصبر على الدين, القبض على الدين والصبر عليه مثل القبض على الجمر ((للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاًٌ يعملون مثل عمله)) وزاد غيري، قال: "يا رسول الله: أجرٌ خمسين منهم؟ " قال: ((أجر خمسين منكم)) يعني من الصحابة، هل يعني هذا أن هذا المتأخر الذي صبر وقبض على دينه أفضل من الصحابة؟! وإسناده لا بأس به.
في هذا يقول العلامة ابن القيم في نونيته، يقول:

هذا وللمتمسكين بسنة الـ ... مختار عند فساد ذي الأزمانِ
أجرٌ عظيمٌ ليس يقدر قدره ... إلا الذي أعطاه للإنسانِ
فروى أبو داود في سنن له ... ورواه أيضاً أحمد الشيباني
أثراً تضمن أجر خمسين امرئٍ ... من صحب أحمد خيرة الرحمن
إسناده حسنٌ ومصداقٌ له ... في مسلم فافهمه فهم بيانِ
إن العبادة وقت هرج هجرة ... حقاً إليّ وذاك ذو برهانِ

يعني كون الإنسان يستمسك بدينه في مثل الظروف التي تكثر فيها الفتن، ويقل فيها الموافق والمعين له أجر خمسين، وخمسين من الصحابة، ولكن هل معنى هذا أنه يفضل أحداً من الصحابة من كل وجه؟ أبداً، شرف الصحبة والثواب المرتب عليها لا يدركه أحدٌ ممن جاء بعد الصحابة، يعني شرف الصحبة بمفرده لا يدركه أحد، كما جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه. هذا ظاهر، يعني التفضيل من وجه لا يقتضي التفضيل المطلق.

(11/3)


يعني كون العبد من الصحابة أفضل ممن لم يتصف بهذا الوصف من هذه الحيثية بأن له أجرين، أو الصحابي الذي كان كتابياً له أجران أيضاً كما في هذا الحديث، لا يعني أنه أفضل من كل وجه من بعض الصحابة.
وأسلفنا في الحلقة الماضية -أحسن الله إليكم- ما ذكرتم من النصوص التي تدل على أن هناك عمل له أجران، وعمل أفضل منه ولم ينص عليه أجران، الماهر في القرآن والذي يقرأه ويتعتع فيه.
نعم، ((الذي يقرأه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) .. وذلك مع السفرة.
ومثله الذي تيمم، ثم لما جاء أعاد الصلاة، والذي لم يعد الصلاة، هناك له أجران، وهذا أصاب السنة، يعني هل هذا مثل هذا؟. . . . . . . . .
ورجلٌ كانت عنده أمة -هذا هو الثالث- وزاد في رواية أبي ذر نعم ((يطأها)) بالهمز، قال العيني: القياس "يوطؤها" مثل يوجل؛ لأن الواو إنما تحذف إذا وقعت بين الياء والكسرة، وهنا وقعت بين الياء والفتحة، مثل "يسمع"، قال الجوهري وغيره: إنما سقطت الواو منها؛ لأن فعل يفعل مما اعتل فاؤه لا يكون إلا لازماً، فلما جاء بين أخواتهما متعديين خولف بهما نظائرهما، يعني فحذفت الواو. وقال الكرماني: فإن قلت: فلو لم يطأها، لكن أدبها، يعني هل قوله في الحديث في هذه الرواية لأبي ذر ((يطؤها)) وصف مؤثر لحصول الأجرين، أو أنه غير مؤثر؟. . . . . . . . . لا يطؤها مستغنياً عنها، لكنه أدبها، أو ليس لديه القدرة على ذلك وأدبها وعلمها، ثم أعتقها فتزوجها ... يمكن الوطء على أساس في آخر الحديث أنه تزوجها.
لا، ((له جارية يطؤها)) قبل العتق، إذن تصورنا هذا عنده جارية ليس بحاجة إلى وطئها مستغنياً عنها، ثم بعد ذلك سمع بهذا الخبر فنفذ ما فيه، يقول: فإن قلت: فلو لم يطأها ولكن أدبها إلى آخره هل له أجران؟ قلت: نعم، يقول الكرماني: نعم، إلا المراد بيطؤها يحل له وطئها، سواء صارت موطوءة أم لا.

(11/4)


((فأدبها)) الأدب، يقول صاحب المصباح المنير: أدّبته أدباً، أدَبته أدَباً، أو أدْباً؛ لأنه يقول: من باب ضرب. ضرباً، يعني أدْباً، أدَبته أدْباً، من باب ضرب، علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال الأزهري نحوه, فالأدب اسمٌ لذلك، والجمع آداب، مثل سبب وأسباب، "وأدّبته تأديباً" مبالغة وتكثير، ومنه قيل: أدبته تأديباً إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب، هذه المعاقبة تدعو، سببٌ يدعو إلى حقيقة الأدب، وأدَب من باب ضرب، صنع صنيعاً ودعا الناس إليه، فهو آدِب على فاعل، قال الشاعر أبو طرفة:

نحن في المشتات ندعو الجفلا ... لا ترى الآدب فينا ينتقر

يدعو جفلا، دعوت جفلا دعوت العامة، أما الجفلا فهي دعوة خاصة، النقاء، هذه دعوة الخاصة.
أي لا ترى الداعي يدعو بعض الأدباء بل يعمم بدعواه في زمان القلة، وذلك غاية الكرم، واسم الصنيع المأدُبة، بضم الدال وفتحها.
دعوة الجفلا دعوة العامة، يقول الحافظ العراقي في وصف المسانيد وفي رتبتها: ودونها، يعني دون السند

ودونها في رتبة ما جعلا ... فيه على المسانيد يدعو الجفلا

يعني الأحاديث تدعى الجفلا العامة، يعني فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها من الأحاديث أنواع، لا ينتقي, لا يكون ينتقر بمعنى أنه ينتقي، فيذكر بعضهم دون بعض كالصحاح مثلاً.

معنى التأديب وانقسام الأدب إلى أدب النفس وأدب الدرس:
فالتأديب: الحمل على محاسن الأخلاق ومكارمهما، وهذا ما يعرف عند بعضهم بأدب النفس، مقابلةً له بأدب الدرس الذي اشتهرت كتبه في أوساط المتعلمين مما يشتمل في كثيرٍ من أحيانه على ما يخالف الأدب المحمود، يعني تسمى كتب أدب، يعني لو سألتك كتاب الأغاني أيش، كتاب أيش؟ أدب، وكتاب مثلاً، الكتب الأخرى التي لا نطيل بذكرها، هذه يسمونها كتب أدب، هذا أيضاً يسمى أدب الدرس في مقابلة أدب النفس، والمطلوب أدب النفس.

(11/5)


كتب أدب الدرس اشتهرت في أوساط المتعلمين، وما يشتمل كثيرٌ منها في بعض الأحيان على ما يخالف الأدب المحمود في مصنفات ملأت دور الكتب مما يشتمل على الهزل والقصص والأخبار الماجنة كالأغاني ونحوه يسمى أهله بالأدباء، هذا أدب الدرس.
روى السمعاني في أول أدب الإملاء والاستملاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله أدبني وأحسن تأديبي - أو أحسن أدبي - ثم أمرني بمكارم الأخلاق فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [(199) سورة الأعراف]، الآية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "معناه صحيح، ولكن لا يعرف له إسنادٌ يثبت" وضعفه أيضاً السخاوي في المقاصد، والألباني في الضعيفة، وقال الزركشي: معناه صحيح لكنه لم يأتِ من طريقٍ صحيح، وذكره ابن الجوزي في الواهيات، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير رمز الصحة, لكن كما قال أهل العلم: ليس له إسناد يثبت به، وإن كان معناه صحيحاً.
هناك الكتب التي يستفاد منها في هذا الباب، ككتب الأدب من كتب السنة، كتاب الأدب من صحيح البخاري، أو كتاب الأدب من صحيح أبي داود، أو غيرهما من كتب السنة، هذه يستفاد منها. وكتب الأدب المفردة مثل: الأدب المفرد للبخاري والبيهقي وغيرهما، وهناك أيضاً، ليست باب من أبواب كتب، وأخلاق العلماء للآجري أيضاً يستفاد منه، وهناك أيضاً جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب، وتذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لبدر الدين بن جماعة، وهناك –أيضاً- مؤلفات خاصة مثل الآداب الشرعية لابن مفلح، وغذاء الألباب للسفاريني وهو شرح لمنظومة الآداب لابن عبد القوي، وفي كتب ابن القيم من ذلك شيء كثير، يمكن أن يستخلص منه مجلد كبير في هذا الباب، وهناك نضمٌ أيضاً يفاد منه, يستفيد منه طالب العلم كمنظومة عبد القوي في منظومة الآداب لابن عبد القوي، وشرحه المذكور آنفاً، والقصيدة الميمية في الوصايا والآداب العلمية للشيخ حافظ الحكمي، وغيرها كثير، هذه يستفيد منها طالب العلم، تهذب النفوس، وأيضاً الحافظ ابن رجب له كتابات يعض عليها بالنواجذ في هذا الباب.
متفرقة.

(11/6)


متفرقة نعم .. ولا مانع من الاطلاع على الكتب كتب الأدب من النوع الثاني، مع الحذر مما فيها من المخالفات، ويحرص طالب العلم على العفيف منها، مثل زهر الآداب للحصري، وأيضاً مهذب الأغاني للخضري، مع أن الخضري لما هذب الأغاني ووجه بالنقد الشديد من قبل الأدباء، لأنه من وجهة نظرهم أهمل جانب حيوي من جوانب الآداب، وهو المجون.
لكن يُحرص على الأدب العفيف، ويستفاد من هذه الكتب فوائد لو لم يكن منها إلا استجمام الذهن، وأيضاً الأخبار يستفاد منها، أخبار الأمم الماضية كما في كتب التاريخ، وأخبار الدول يتعرضون لهذا، كتب الأدب يتعرضون للتواريخ، ففيها اعتبار من جهة، وفيها أيضاً استجمام للذهن، لكن لا يوغل في هذا، بل يكون معوله على الكتاب والسنة.
((فأحسن تأديبها)) من غير عنف وضرب، بل باللطف والرفق؛ لأنه أدعى للقبول، وهكذا ينبغي أن يكون المربي على قدرٍ كبير من الحكمة ورعاية المصلحة، وقل مثل هذا في الداعية والمعلم والقاضي، فهم مربون في الحقيقة، لا بد أن يحسنوا التأديب، ولا ينفروا الناس.
وعلمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، فأحسن تعليمها لتوخي الأسلوب المناسب، والتبريد في التعليم.
يقول الكرماني: فإن قلت: أليس التأديب داخلاً تحت التعليم؟
نعم، إذا قلنا أن الأدب فرع من فروع العلم والمعرفة، فيكون التأديب داخل في التعليم، فيقول الكرماني: فإن قلت: أليس التأديب داخلاً تحت التعليم؟ قلت: لا، التأديب يتعلق بالمروءات، والتعليم بالشرعيات، أي الأول عرفي، والثاني شرعي، أو الأول دنيوي والثاني أخروي ديني.
من أهل العلم حينما يشترطون في العدالة ملازمة التقوى والمروءة، ملازمة التقوى بالشرعية، بأن لا يرتكب محظور، أو يترك مأمور من الشرعيات، أما المروءة فهي مراعاة أحوال الناس، من حيث لا يخرج على عادة الناس وأعرافهم، فهي مسألة عرفية.

(11/7)


((ثم أعتقها فتزوجها)) وفي كتاب النكاح: وقال أبو بكر عن أبي حصير عن أبي بردة عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أعتقها ثم أصدقها))، قال الحافظ: كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى: أن يقع بمهرٍ جديد سوى العتق، يعني لا يكون العتق هو المهر، رواية الباب: ((ثم أعتقها فتزوجها)) ليس فيها ذكر للصداق، والرواية التي أوردها البخاري في كتاب النكاح: ((أعتقها ثم أصدقها)) يقول الحافظ: كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى أن يقع بمهرٍ جديد سوى العتق، لا كما وقع في قصة صفية، كما سيأتي في الباب الذي بعده، فأفادت هذه ثبوت الصداق، فإنه لم يقع التصريح به في الطريق الأولى فظاهره أن يكون العتق نفس المهر.
الظاهر من قصة صفية أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعتقها وجعلها عتقها صداقها، حديث الباب: ((ثم أعتقها فتزوجها)) ظاهره عدم ذكر الصداق، لكن رواية البخاري لهذا الحديث: ((أعتقها ثم أصدقها))، ويستفاد من الرواية في كتاب النكاح أن الصداق لا بد منه، فالباب الذي في كتاب النكاح من صحيح البخاري، يقول -رحمه الله تعالى-: باب من جعل عتق الأمة صداقها، وساق بإسناده عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أعتق صفية وجعل عتقها صداقها))، قال ابن حجر: أخذ بظاهره من القدماء -يعني بعدم ذكر الصداق، وأنه يصح جعل العتق هو المهر- يقول: أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وطاووس والزهري، ومن فقهاء الأنصار الثوري وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق قالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد، والعتق والمهر على ظاهر الحديث، يصح العقد -عقد النكاح- ويصح العتق، ويصح المهر، والمهر هو العتق.

(11/8)


وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث أي: ((جعل عتقها صداقها)) وحديث الباب: ((ثم أعتقها فتزوجها)) أجاب الباقون عن ظاهر الحديث أجوبة أقربها إلى لفظ الحديث: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة فتزوجها بها، حديث ((أعتق صفية وجعل عتقها صداقها)) كأنه قال: أعتقك على أن أتزوجك، بمعنى كأنه قال: يعتقك بمبلغ كذا، ويكون هو الصداق؛ لأنهم قالوا: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها، وقال آخرون: هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- له أن يجعل العتق صداقاً.
وممن. . . . . . . . . من ذلك الماوردي، وقيل: أن هذا ظنٌ من أنس -رضي الله عنه-، أنس الذي قال: جعل عتقها صداقها، فهذا بناءً على فهمه هو.
وقيل: إن هذا ظنٌ من أنس -رضي الله عنه-، وإلا فقد أصدقها أمة، يقال لها رزينة، كما عند البيهقي لكنه ضعيف لا تقوم به الحجة؛ لأنه لا يقال منه: ((وجعل عتقها صداقها))، وقال الترمذي بعد أن خرج الحديث، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها، حتى يجعل لها مهراً سوى العتق، والقول الأول أصح.
قال ابن حجر: وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي، والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، أي: لا يجعل العتق صداق، وإنما لا بد من تسمية مهر غير العتق.
وقال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظنٍ نشأ عن ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، يعني خصوصية لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- في النكاح.
أقول: تخصيصه -صلى الله عليه وسلم- بذلك ليس ببعيد، مثل اختصاصه بالواهبة، الواهبة المذكورة في سورة الأحزاب {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [(50) سورة الأحزاب] فمن خصائصه في النكاح من وهبت نفسها له دون صداق، وهذا لا يصح لغيره؛ لأن خالصة له -عليه الصلاة والسلام- من دون المؤمنين. فليقل مثل هذا من خصائصه.

(11/9)


يقول الحافظ ابن كثير: ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهرٍ إن شئت ذلك، وقصة الواهبة في البخاري وغيره، طلب النبي -صلى الله عليه وسلم-. . . . . . . . . من طلبها من الصحابة المهر، الآية منصوص على أنها خالصة له من دون المؤمنين, وهي محمولة على أنها بدون صداق، الواهبة التي جاءت في صحيح البخاري وغيره وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-. يعني لو قبلها النبي -عليه الصلاة والسلام- لصح نكاحها من غير مهر، لكن لما أعرض عنها وطلبها الصحابي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((التمس ولو خاتماً من حديد)) فدل على أنه لا بد من المهر من غيره -صلى الله عليه وسلم-.
إذاً لعلنا إن شاء الله يا شيخ نبدأ بمثل هذه القضية وإشكالياتها في حلقة قادمة لانتهاء وقت هذه الحلقة، مع شكري الجزيل لكم بعد شكر الله على ما تفضلتم به.

(11/10)