شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

ـ[إرْشَادُ السَّارِي لِشرح صَحِيح البخَاري]ـ
المؤلف: أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين (المتوفى: 923هـ)
الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر
الطبعة: السابعة، 1323 هـ
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
تجد بهذا الكتاب الإلكتروني - وليس في المطبوع -:
• نص الصحيح، موزعا على مواضعه من الشرح، ومشكولا
• ترقيم الكتب والأبواب والأحاديث، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي
• أطراف الأحاديث (عند أول ورود للحديث)

(/)


[مقدمة الشارح]
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني غفر الله له آمين:
الحمد لله الذي شرح بمعارف عوارف السنة النبوية صدور أوليائه، وروّح بسماع أحاديثها الطيبة أرواح أهل وداده وأصفيائه، فسرّح سرّ سرائرهم في رياض روضة قدسه وثنائه، أحمده على ما وفق من إرشاده وأسدى من آلائه وأشكره على فضله المتواتر الكامل الوافر، وأسأله المزيد من عطائه وكشف غطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفرد المنفرد في صمدانيته بعز كبريائه، واصل من انقطع إليه إلى حضرة قربه وولائه ومدرجه في سلسلة خاصته وأحبائه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المرسل بصحيح القول وحسنه رحمة لأهل أرضه وسمائه، الماحي للمختلق الموضوع بشوارق بوارق لألائه، فأشرقت مشكاة مصابيح الجامع الصحيح من أنوار شريعته وأنبائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى آله وأصحابه وخلفائه آمين.
وبعد فإنّ علم السنة النبوية بعد الكتاب العزيز أعظم العلوم قدرًا وأرقاها شرفًا وفخرًا، إذ عليه مبنى قواعد أحكام الشريعة الإسلامية، وبه تظهر تفاصيل مجملات الآيات القرآنية، وكيف لا ومصدره عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فهو المفسر للكتاب وإنما ... نطق النبي لنا به عن ربه
وإن كتاب البخاري الجامع قد أظهر من كنوز مطالبها العالية إبريز البلاغة، وأبرز وحاز قصب السبق في ميدان البراعة وأحرز، وأتى من صحيح الحديث وفقهه بما لم يسبق إليه ولا عرّج أحد عليه، فانفرد بكثرة فرائد فوائده وزوائد عوائده، حتى جزم الراوون بعذوبة موارده، فلذا رجح على غيره من الكتب بعد كتاب الله، وتحرّكت بالثناء عليه الألسن والشفاه، ولطالما خطر في الخاطر المخاطر أن أعلق عليه شرحًا أمزجه فيه مزجًا وأدرجه ضمنه درجًا، أميز فيه الأصل من الشرح بالحمرة والمداد واختلاف الروايات بغيرهما، ليدرك الناظر سريعًا المراد، فيكون باديًا بالصفحة مدركًا باللمحة كاشفًا بعد أسراره لطالبيه، رافع النقاب عن وجوه معانيه

(1/2)


لمعانيه، موضحًا مشكله فاتحًا مقفله مقيدًا مهمله، وافيًا بتغليق تعليقه، كافيًا في إرشاد الساري لطريق تحقيقه، محررًا لرواياته معربًا عن غرائبه وخفياته، فأجدني أحجم عن سلوك هذا المسرى، وأبصرنى أقدّم رجلاً وأؤخر أخرى، إذ أنا بمعزل عن هذا المنزل، لا سيما وقد قيل إن أحدًا لم يستصبح سراجه ولا استوضح منهاجه ولا اقتعد صهوته ولا افترع ذروته، ولا تبوّأ خلاله ولا تفيأ ظلاله، فهو درّة لم تثقب ومهرة لم تركب، ولله درّ القائل:
أعيى فحول العلم حل رموز ما ... أبداه في الأبواب من أسرار
فازوا من الأوراق منه بما جنوا ... منها ولم يصلوا إلى الأثمار
ما زال بكرًا لم يفض ختامه ... وعراه ما حلّت عن الأزرار
حجبت معانيه التي أوراقها ... ضربت على الأبواب كالأستار
من كل باب حين يفتح بعضه ... ينهار منه العلم كالأنهار
لا غرو أن أمسى البخاري للورى ... مثل البحار لمنشأ الأمطار
خضعت له الأقران فيه إذ بدا ... خرّوا على الأذقان والأكوار
ولم أزل على ذلك مدّة من الزمان، حتى مضى عصر الشباب وبان، فانبعث الباعث إلى ذلك راغبًا، وقام خطيبًا لبنات أبكار الأفكار خاطبًا، فشمرت ذيل العزم عن ساق الحزم، وأتيت بيوت التصنيف من أبوابها، وقمت في جامع جوامع التأليف بين أئمته بمحرابها، وأطلقت لسان القلم في ساحات الحكم بعبارة صريحة واضحة، وإشارة قريبة لائحة، لخصتها من كلام الكبراء الذين رقت في معارج علوم هذا الشأن أفكارهم، وإشارات الألباء الذين أنفقوا على اقتناص شوارده أعمارهم، وبذلت الجهد في تفهم أقاويل الفهماء المثار إليهم بالبنان، وممارسة الدواوين المؤلفة في هذا الشأن، ومراجعة الشيوخ الذين حازوا قصب السبق في مضماره، ومباحثة الحذاق الذين غاصوا على جواهر الفرائد في بحاره، ولم أتحاش عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن، قصدًا لنفع الخاص والعام، راجيًا ثواب ذي الطول والإنعام، فدونك شرحًا قد أشرقت عليه من شرفات هذا الجامع أضواء نوره اللامع، وصدع خطيبه على منبره السامي بالحجج القواطع، القلوب والمسامع، أضاءت بهجته فاختفت منه كواكب الدراري، وكيف لا وقد فاض عليه النور من فتح الباري. على أنني أقول كما قال الحافظ أبو بكر البرقاني:
وما لي فيه سوى أنني ... أراه هوى وافق المقصدا

وأرجو الثواب بكتب الصلاة ... على السيد المصطفى أحمدا

وبالجملة فإنما أنا من لوامع أنوارهم مقتبس، ومن فواضل فضائلهم ملتمس، وخدمت به الأبواب النبوية والحضرة المصطفوية، راجيًا أن يتوّجني بتاج القبول والإقبال، ويجيزني بجائزة الرضا في الحال والمآل. وسميته (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري). والله أسال التوفيق والإرشاد إلى سلوك طرق السداد، وأن يعينني على التكميل، فهو حسبي ونعم الوكيل.
وهذه مقدمة، مشتملة على وسائل المقاصد يهتدي بها إلى الإرشاد السالك والقاصد، جامعة لفصول، هي لفروع قواعد هذا الشرح أصول.

الفصل الأوّل
في فضيلة أهل الحديث وشرفهم في القديم والحديث
أقول مستمدًا من الله الإعانة على التوفيق للإيضاح والإبانة: روينا عن ابن مسعود

(1/3)


رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". رواه الشافعيّ والبيهقي وكذا أبو داود والترمذيّ بلفظ: "نضر الله امرءًا سمع منّا شيئًا فبلغه كما سمعه فربّ مبلغ أوعى من سامع". وقال الترمذي: حسن صحيح. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي ّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في حجة الوداع: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فربّ حامل فقه ليس بفقيه" الحديث. رواه البزار بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه من حديث زيد بن ثابت، وكذا روي من حديث معاذ بن جبل والنعمان بن بشير وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي قرصافة وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبعض أسانيدهم صحيح، كما قاله المنذري، وقوله نضر الله بتشديد الضاد المعجمة وتخفف، والنضرة: الحسن والرونق، والمعنى خصّه الله تعالى بالبهجة والسرور لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السُّنَّة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة. وأيضًا فإن من حفظ ما سمعه وأدّاه كما سمعه من غير تغيير، كأنه جعل المعنى غضًّا طريًّا، وخصّ الفقه بالذكر دون العلم إيذانًا بأنّ الحامل غير عار عن العلم إذ الفقه علم بدقائق العلوم المستنبطة من الأقيسة. ولو قال غير عالم لزم جهله. وقوله ربّ وضعت للتقليل، فاستعيرت في الحديث للتكثير. وقوله إلى من هو أفقه منه صفة لدخول رب استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدّاه إلى من هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهَّم ارحم خلفائي" قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس". رواه الطبرانّي في الأوسط. ولا ريب أنَّ أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه

عليهم أجمعين. فمن قام بذلك كان خليفة لن يبلغ عنه. وكما لا يليق بالأنبياء عليهم السلام أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السُّنن أن يمنحها صديقه ويضعها عدوّه، فعلى العالم بالسُّنَّة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث، فقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتبليغ عنه حيث قال: "بلغوا عني ولو آية" الحديث رواه البخاري رحمه الله. قال المظهري أي بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة. قال البيضاوي رحمه الله قال: "ولو آية" ولم يقل ولو حديثًا لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف اهـ.
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال سفيان الثوري: لا أعلم علمًا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوّع بالصلاة والصيام لأنه فرض كفاية. وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". وهذا الحديث رواه من الصحابة عليّ وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم، وأورده ابن عديّ من طرق كثيرة كلها ضعيفة، كما صرّح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البرّ، لكن يمكن أن يتقوّى بتعدّد طرقه ويكون حسنًا كما جزم به ابن كيكلدي العلائي، وفيه تخصيص حملة السُّنَّة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية وبيان لجلالة قدر المحدّثين وعلوّ مرتبتهم في العالين، لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.

وقال النووي في أوّل تهذيبه: هذا إخبار منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفًا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر. وهكذا وقع

(1/4)


ولله الحمد، وهو من أعلام النبوّة، ولا يضرّ كون بعض الفسّاق يعرف شيئًا عن علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أنَّ غيرهم لا يعرف شيئًا منه اهـ.
على أنه قد يقال ما يعرفه الفسّاق من العلم ليس بعلم حقيقة لعدم عملهم، كما أشار إليه المولى سعد الدين التفتازانيّ في تقرير قول التلخيص: وقد ينزل العالم منزلة الجاهل، وصرّح به الإمام الشافعي في قوله: ولا العلم إلا مع التقى ولا العقل إلا مع الأدب. ولعمري إن هذا الشأن من أقوى أركان الدين وأوثق عُرى اليقين. لا يرغب في نشره إلا صادق تقيّ ولا يزهده إلا كل منافق شقيّ. قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث. وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه أن رسول الله قال: "العلم ثلاثة آية محكمة أو سُنّة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل". رواه أبو داود وابن ماجة. قال في شرح المشكاة: والتعريف في العلم للعهد وهو ما علم من الشارع وهو العلم النافع في الدين، وحينئذ العلم مطلق فينبغي تقييده بما يفهم منه المقصود، فيقال علم الشريعة معرفة ثلاثة أشياء والتقسيم حاصر، وبيانه أن قوله آية محكمة يشتمل على معرفة كتاب الله تعالى وما يتوقف عليه معرفته، لأن المحكمة هي التي أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، فكانت أمّ الكتاب، فتحمل المتشابهات عليها وترد إليها، ولا يتم ذلك إلا للماهر الحاذق في علم التفسير والتأويل، الحاوي لمقدّمات يفتقر إليها من الأصلين وأقسام العربية، وقوله سُنّة قائمة، معنى قيامها ثباتها ودوامها بالمحافظة عليها من قامت السوق إذا نفقت، لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ويتنافس فيه المخلصون بالطلبات، ودوامها إما أن يكون بحفظ أسانيدها من معرفة أسماء الرجال والجرح والتعديل، ومعرفة الأقسام من الصحيح والحسن والضعيف المتشعب منه أنواع كثيرة، وما يتصل بها من المتممات مما يسمى علم الاصطلاح مما يأتي في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى. وإما أن يكون بحفظ متونها من التغيير والتبديل بالإتقان وتفهم معانيها واستنباط العلوم منها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في هذا الشرح بعون الله سبحانه، لأن جلّها بل كلها من جوامع كلمه التي خصّ بها لا سيما هذه الكلمة الفاذّة الجامعة مع قصر متنها وقرب طرفيها علوم الأوّلين والآخرين. وقوله أو فريضة عادلة أي مستقيمة مستنبطة من الكتاب والسُّنة والإجماع. وقوله: "وما سوى ذلك فهو فضل" أي لا مدخل له في أصل علوم الدين، بل ربما يستعاذ منه حينًا كقوله: "أعوذ بك من علم لا ينفع" ولله درّ أبي بكر حميد القرطبيّ فلقد أحسن وأجاد حيث قال:
نور الحديث مبين فادن واقتبس ... واحد الركاب له نحو الرضا الندس
واطلبه بالصين فهو العلم إن رفعت ... أعلامه برباها يا ابن الدلس
فلا تضعْ في سوى تقييد شارده ... عمرًا يفوتك بين اللحظ والنفس
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل ... شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر ... ولا أتت عن أبي هرّ ولا أنس
إلا هوى وخصومات ملفقة ... ليست برطب إذا عدت ولا يبس
فلا يغرك من أربابها هذر ... أجدى وجدك منها نغمة الجرس
أعرهم أذنًا صمًّا إذا نطقوا ... وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر ... يجلو بنور هداه كل ملتبس
نور لمقتبس خير لملتمس ... حمى لمحترس نعم لمبتئس

(1/5)


فاعكف ببابهما على طلابهما ... تمحو العمى بهما عن كل ملتمس

ورد بقلبك عذبًا من حياضهما ... تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
واقف النبيّ وأتباع النبيّ وكن ... من هديهم أبدًا تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم ... واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واسلك طريقهم واتبع فريقهم ... تكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة إن تلمم بساحتها ... فحط رحلك قد عوفيت من تعس
ومن شرف أهل الحديث ما رويناه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة". قال الترمذي حسن غريب.

وفي سنده موسى بن يعقوب الزمعيّ قال الدارقطني إنه تفرّد به، وقال ابن حبان في صحيحه في هذا الحديث بيان صحيح. على أن أولى الناس برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال غيره المخصوص بهذا الحديث نقلة الأخبار الذين يكتبون الأحاديث ويذبّون عنها الكذب آناء الليل وأطراف النهار. وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر ما يعرف لهذه العصابة نسخًا وذكرًا. وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث كثرهم الله تعالى هذه البشرى، فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيّهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات في مجالس مذاكرتهم وتحديثهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم آمين.

الفصل الثاني
في ذكر أوّل مَن دوّن الحديث والسُّنن ومَن تلاه في ذلك سالكًا أحسن السُّنن
اعلم أنه لم يزل الحديث النبويّ والإسلام غض طريّ والدين محكم الأساس قويّ، أشرف العلوم وأجلّها لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم خلفًا بعد سلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ التنزيل إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما سمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه وانقطعت الهمم على تعلمه، حتى رحلوا المراحل ذوات العدد، وأفنوا الأموال والعدد، وقطعوا الفيافي في طلبه وجابوا البلاد شرقًا وغربًا بسببه، وكان اعتمادهم أوّلاً على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوّلين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرّقت الصحابة في الأقطار، وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل أن يلتبس بالحق، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها، ودوّنوا دواوين ظهرت شفوفها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العالمون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمّة وأحبار ملّة. وكان أوّل من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه خوف اندراسه، كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن "أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من

(1/6)


حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو سنته، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء".
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق "انظروا: إلى حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاجمعوه". وعلّقه البخاريّ في صحيحه. فيستفاد منه كما قال الحافظ ابن

حجر ابتداء تدوين الحديث النبويّ. وقال الهرويّ في ذم الكلام: "ولم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظًا ويأخذونها لفظًا إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن محمد فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنّة أو حديث فاكتبه".

وقال في مقدمة الفتح: وأوّل من جمع في ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حده، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، وصنّف الإمام مالك بن أنس الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريح بمكة، وعبد الرحمن الأوزاعيّ بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كلٌّ على حسب ما سنح له، وانتهى إليه علمه، فمنهم من رتب على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي بكر بن شيبة وأحمد بن منيع وأبي خيثمة والحسن بن سفيان وأبي بكر البزار وغيرهم، ومنهم من رتب على العلل بأن يجمع في كل متن طرقه واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلاً أو وقف ما يكون مرفوعًا أو غير ذلك، ومنهم من رتبه على الأبواب الفقهية وغيرها ونوّعه أنواعًا وجمع ما ورد في كل نوع وفي كل حكم إثباتًا ونفيًا في باب فباب، بحيث يتميز ما يدخل في الصوم مثلاً عما يتعلق بالصلاة، وأهل هذه الطريقة منهم من تقيد بالصحيح كالشيخين وغيرهما، ومنهم من لم يتقيد بذلك كباقي الكتب الستة. وكان أوّل من صنف في الصحيح محمد بن إسماعيل البخاري أسكننا الله تعالى معه في بحبوحة جنانه بفضله الساري، ومنهم المقتصر على الأحاديث المتضمنة للترغيب والترهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط كالبغوي في مصابيحه واللؤلؤي في مشكاته.
وبالجملة فقد كثرت في هذا الشأن التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، واتسعت دائرة الرواية في المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السُّنة لكل طالب.

الفصل الثالث
في نبذة لطيفة جامعة لفرائد فوائد مصطلح الحديث عند أهله وتقسيم أنواعه وكيفية تحمله وأدائه ونقله مما لا بدّ للخائض في هذا الشرح منه لما علم أن لكل أهل فنّ اصطلاحًا يجب استحضاره عند الخوض فيه
وأوّل من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرامهرمزي في كتابه المحدّث الفاضل، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، ثم أبو نعيم الأصبهاني، ثم الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في قوانين الرواية، وكتاب الجامع لآداب الشيخ والسامع، ثم القاضي عياض في الإلماع، والحافظ القطب أبو بكر بن أحمد القسطلاني في المنهج المبهج عند الاستماع لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع، وأبو جعفر الميانجي في جزء سمّاه ما لا يسع المحدّث جهله، ثم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، فعكف الناس عليه وساروا بسيره، فمنهم الناظم له والمختصر والمستدرك عليه، والمقتصر والعارض له والمنتصر، فجزاهم الله تعالى خيرًا.
وإذا علم هذا فليعلم أنهم قسموا السنن المضافة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولاً وفعلاً أو تقريرًا، وكذا وصفًا وخلقًا ككونه ليس بالطويل ولا بالقصير، وأيامًا كاستشهاد حمزة وقتل أبي جهل، إلى متواتر، ومشهور، وصحيح، وحسن، وصالح، ومضعف وضعيف، ومسند، ومرفوع، وموقوف، وموصول، ومرسل، ومقطوع، ومنقطع، ومعضل، ومعنعن، ومؤنن، ومعلق، ومدلس، ومدرج، وعال، ونازل، ومسلسل، وغريب، وعزيز، ومعلل، وفرد، وشاذ، ومنكر،

(1/7)


ومضطرب، وموضوع، ومقلوب، ومركب، ومنقلب، ومدبج، ومصحف، وناسخ، ومنسوخ، ومختلف.
فالمتواتر الذي يرويه عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من ابتدائه إلى انتهائه، وينضاف لذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، كحديث "من كذب عليّ متعمدًا" فنقل النوويّ أنه جاء عن مائتين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والمشهور وهو أوّل أقسام الآحاد ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، كحديث "إنما الأعمال

بالنيّة" لكنه إنما طرأت له الشهرة من عند يحيى بن سعيد، وأوّل إسناده فرد، وهو ملحق بالمتواتر عندهم، إلا أنه يفيد العلم النظريّ.

والصحيح ما اتصل سنده بعدول ضابطين بلا شذوذ، بأن لا يكون الثقة خالف أرجح منه حفظًا أو عددًا مخالفة لا يمكن الجمع، ولا علة خفية فادحة مجمع عليها، أي إسناده ضعيف لا أنه مقطوع به في نفس الأمر، لجواز خطأ الضابط الثقة ونسيانه. نعم يقطع به إذا تواتر، فإن لم يتصل بأن حذف من أوّل سنده أو جميعه لا وسطه فمعلق، وهو في صحيح البخاريّ يكون مرفوعًا وموقوفًا، يأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي، والمختار لا يجزم في سند بأنه أصح الأسانيد مطلقًا غير مقيد بصحابيّ، تلك الترجمة لعسر الإطلاق، إذ يتوقف على وجود درجات القبول في كل فرد فرد من رواة السند المحكوم له، فإن قيد بصاحبها ساغ، فيقال مثلاً أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه عن علي رضي الله عنه إذا كان الراوي عن جعفر ثقة، وأصح أسانيد الصدّيق رضي الله عنه إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر، وأصح أسانيد عمر رضي الله عنه الزهريّ عن سالم عن أبيه عن جدّه، وأصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه الزهريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وأصح أسانيد ابن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح أسانيد عائشة عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين. ويحكم بتصحيح نحو جزء نص على صحته من يعتمد عليه من الحفاظ النقاد، أو لم ينص على صحته معتمد، فالظاهر جواز تصحيحه لمن تمكنت معرفته وقوي إدراكه كما ذهب إليه ابن القطان والمنذريّ والدمياطيّ والسبكي وغيرهم، خلافًا لابن الصلاح، حيث منع لضعف أهل هذه الأزمان.
والحسن ما عرف مخرّجه من كونه حجازيًّا شاميًّا عراقيًّا مكيًّا كوفيًّا، كان يكون الحديث عن راوٍ قد اشتهر برواية أهل بلده، كقتادة في البصريين، فإن حديث البصريين إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفًا، بخلافه عن غيره. والمراد به الاتصال، فالمنقطع والمرسل والمعضل لغيبة بعض رجالها لا يعلم مخرج الحديث منها لا يسوغ الحكم بمخرجه، فالمعتبر الاتصال، ولو لم نعرف المخرج، إذ كل معروف المخرج متصل ولا عكس، وشهرة رجاله بالعدالة والضبط المنحط عن الصحيح، ولو قيل هذا حديث حسن الإسناد أو صحيحه فهو دون قولهم حديث حسن صحيح أو حديث حسن، لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد لاتصاله وثقة رواته وضببطهم دون المتن، لشذوذ أو علة. وما قيل فيه حسن صحيح أي صح بإسناد وحسن بآخر.
والصالح دون الحسن، قال أبو داود وما كان في كتابي السنن من حديث فيه وهن شديد، فقد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. وبعضها أصح من بعض اهـ. قال الحافظ ابن حجر لفظ صالح في كلامه أعمّ من أن يكون للاحتجاج أو للاعتبار، فما ارتقى إلى الصحة ثم إلى الحسن فهو بالمعنى الأوّل، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد.

والمضعف ما لم يجمع على ضعفه بل في متنه أو سنده تضعيف لبعضهم وتقوية للبعض الآخر وهو أعلى من الضعيف وفي البخاري منه.
والضعيف ما قصر عن درجة الحسن وتتفاوت درجاته في الضعف بحسب بعده من شروط الصحة.
والمسند ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه رفعًا ووقفًا.
والمرفوع ما أضيف إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول أو فعل أو تقرير متصلاً كان أو منقطعًا، ويدخل فيه المرسل ويشمل الضعيف.
والموقوف ما قصر على الصحابيّ قولاً أو فعلاً ولو منقطعًا، وهل يسمى أثرًا؟ نعم. ومنه قول الصحابي: كنا نفعل ما لم يضفه إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،

(1/8)


فإن أضافه إليه كقول جابر: كنّا نعزل على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمن قبيل المرفوع وإن كان لفظه موقوفًا لأن غرض الراوي بيان الشرع. وقيل لا يكون مرفوعًا. وقول الصحابي من السنة كذا أو أمرنا بضم الهمزة، أو كنا نؤمر أو نهينا أو أبيح، فحكمه الرفع أيضًا، كقول الصحابي: أنا أشبهكم صلاة به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كتفسير تعلق بسبب النزول، وحديث المغيرة: "كان أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرعون بابه بالأظافير" صوّب ابن الصلاح رفعه، وقال الحاكم موقوف، وقول التابعي فمن دونه يرفعه أو رفعه أو مرفوعًا أو يبلغ به أو يرويه أو ينمّيه بفتح أوّله وسكون ثانيه وكسر ثالثه، أو يسنده أو يأثره مرفوع بلا خلاف، والحامل له على ذلك الشك في الصيغة التي سمع بها، أهي: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو النبيّ أو نحو ذلك، كسمعت أو حدّثني، وهو ممّن لا يرى الإبدال أو طلبًا للتخفيف وإيثارًا للاختصار أو للشك في ثبوته أو ورعًا، حيث علم أن المرويّ بالمعنى فيه خلاف، وفي بعض الأحاديث قول الصحابي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرفعه، وهو في حكم قوله عن الله تعالى، ولو قال تابعيّ كنّا نفعل، فليس بمرفوع ولا بموقوف إن لم يضفه لزمن الصحابة، بل مقطوع. فإن أضافه لزمنهم احتمل الوقف، لأن الظاهر اطّلاعهم عليه وتقريرهم واحتمل عدمه لأن تقرير الصحابيّ قد لا ينسب إليه بخلاف تقريره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإذا أتى شيء عن صحابي موقوفًا عليه مما لا مجال للاجتهاد فيه كقول ابن مسعود: من أتى ساحرًا أو عرّافًا فقد كفر بما أنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحكمه الرفع تحسينًا للظن بالصحابة. قاله الحاكم.
والموصول ويسمى المتصل ما اتصل سنده رفعًا ووقفًا لا ما اتصل للتابعي، نعم يسوغ أن يقال متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري مثلاً.
والمرسل ما رفعه تابعي مطلقًا أو تابعي بكبير إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو ضعيف لا يحتج به عند الشافعي والجمهور، واحتج به أبو حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، فإن اعتضد بمجيئه من وجه آخر مسندًا أو مرسلاً آخر أخذ مرسله العلم عن غير رجال المرسل الأوّل، احتج به. ومن ثم احتج الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب، لأنها وجدت مسانيد من وجوه. أُخر. قال النووي: إنما اختلف

أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن على قولين، أحدهما أنه حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل لأنها وجدت مسندة، ثانيهما أنها ليست بحجة عنده بل كغيرها، وإنما رجح الشافعي بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. قال الخطيب: والصواب الثاني.
وأما الأول فليس بشيء لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد بحال من وجه يصح، وأما مرسل الصحابيّ كابن عباس وغيره من صغار الصحابة عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما لم يسمعوه منه فهو حجة، وإذا تعارض الوصل والإرسال بأن تختلف الثقات في حديث فيرويه بعضهم متصلاً وآخر مرسلاً، كحديث "لا نكاح إلا بولي" رواه إسرائيل وجماعة عن أبي إسحق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ورواه الثوري وشعبة عن أبي إسحق عن أبي بردة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقيل الحكم للمسند إذا كان عدلاً ضابطًا، قال الخطيب وهو الصحيح، وسئل عنه البخاري فحكم لمن وصل، وقال الزيادة من الثقة مقبولة، هذا مع أن المرسل شعبة وسفيان ودرجتهما من الحفظ والإتقان معلومة، وقيل الحكم للأكثر، وقيل للأحفظ، وإذا قلنا به وكان المرسل الأحفظ فلا يقدح في عدالة الواصل وأهليته على الصحيح، وإذا تعارض الرفع والوقف بأن يرفع ثقة حديثًا وقفه ثقة غيره، فالحكم للرافع لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيًا، فالمثبت مقدّم وتقبل زيادة الثقات مطلقًا على الصحيح، سواء كانت من شخص واحد، بأن رواه مرّة ناقصًا ومرّة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصًا، وقيل بل مردودة مطلقًا، وقيل مردودة منه مقبولة من غيره، وقال الأصوليون إن اتحد المجلس ولم يحتمل غفلته عن تلك الزيادة غالبًا ردّت، وإن احتمل قبلت عند الجمهور، وإن جهل تعدد المجلس، فأولى بالقبول من صورة اتحاده، وإن تعددت يقينًا قبلت اتفافًا.

(1/9)


والمقطوع ما جاء عن تابعي من قوله أو فعله موقوفًا عليه وليس بحجة.
والمنقطع ما سقط من رواته واحد قبل الصحابيّ، وكذا من مكانين وأكثر، بحيث لا يزيد كل ما سقط منها على راوٍ واحد.

والمعضل ما سقط من رواته قبل الصحابيّ اثنان فأكثر، مع التوالي، كقول مالك قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولعدم التقيد باثنين، قال ابن الصلاح إن قول المصنفين قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قبيل المعضل، ومنه أيضًا حذف لفظ النبي والصحاب معًا، ووقف المتن على التابعي، كقول الأعمش عن الشعبي "يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا فيقول ما عملته فتنطق جوارحه" الحديث.
والمعنعن الذي قيل فيه فلان عن فلان، من غير لفظ صريح بالسماع أو التحديث أو الإخبار أتى عن رواة مسمين معروفين موصول عند الجمهور، بشرط ثبوت لقاء المعنعنين بعضهم بعضًا ولو مرة، وعدم التدليس من المعنعن، لكن في شرطية ثبوت اللقاء بينهما. وكذا طول الصحبة ومعرفة الرواية للمعنعن عن المعنعن عنه خلف، صرح باشتراط اللقاء علي بن المديني وعليه البخاري، وجعلاه شرطًا في أصل الصحة، وعزاه النووي للمحققين، وهو مقتضى كلام الشافعي، ولم يشترطه مسلم بل أنكر اشتراطه في مقدمة صحيحه، وادّعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه.

والمؤنن قول الراوي حدثنا فلان أن فلانًا قال، وهو كعن في اللقاء والمجالسة والسماع مع السلامة من التدليس.
والمعلق ما حذف من أوّل إسناده لا وسطه، مأخوذ من تعليق الجدار لقطع اتصاله، وسبق ويأتي حكمه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي بعون الله سبحانه.
والمدلس بفتح اللام المشددة ثلاثة:
أحدها، أن يسقط اسم شيخه ويرتقي إلى شيخ شيخه أو من فوقه، فيسند عنه ذلك بلفظ لا يقتضي الاتصال، بل بلفظ موهم له، فلا يقول أخبرنا وما في معناها، بل يقول عن فلان أو قال فلان أو أن فلانًا، موهما بذلك أنه سمعه ممّن رواه عنه، وإنما يكون تدليسًا إذا كان المدلس قد عاصر الذي روى عنه أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه ولم يسمع ذلك الذي دلسه عنه، فلا يقبل ممن عرف بذلك إلا ما صرح فيه بالاتصال، كسمعت. وفي الصحيحين من حديث أهل هذا القسم المصرح فيه بالسمع كثير، كالأعمش والثوري وما فيهما من حديثهم بالعنعنة ونحوها، محمول على ثبوت السماع عند المخرج من وجه آخر، ولو لم نطلع عليه تحسينًا للظن بصاحبي الصحيح.
ثانيها، تدليس التسوية بأن يسقط ضعيفًا بين شيخيهما الثقتين، فيستوي الإسناد كله ثقات، وهو شر التدليس، وكان بقية بن الوليد أفعل الناس له.
ثالثها، تدليس الشيوخ، بأن يسمي شيخه الذي سمع منه بغير اسمه المعروف، أو ينسبه أو يصفه بما لم يشتهر به تعمية، كيلا يعرف، وهو جائز لقصد تيقظ الطالب واختباره ليبحث عن الرواة.
والمدرج كلام يذكر عقب الحديث متصلاً، يوهم أنه منه، أو يكون عنده متنان بإسنادين فيرويهما بأحدهما، كرواية سعيد بن أبي مريم "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا" أدرج ابن أبي مريم ولا تنافسوا من متن آخر. أو يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه فيرويه عنهم على الاتفاق، أو يسوق الإسناد فيعرض له عارض فيقول كلامًا من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام من متن الحديث فيرويه عنه كذلك، ويكون في المتن تارة في أوّله كحديث أبي هريرة "أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ويل للأعقاب من النار" فأسبغوا، من قول أبي هريرة والباقي مرفوع. ويكون أيضًا في أثنائه وفي آخره وهو الأكثر، كحديث ابن مسعود أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علّمه التشهد في الصلاة، فقال التحيات لله الخ. أدرج فيه أبو خيثمة. زهير بن معاوية أحد رواته عن الحسن بن الحر هنا كلامًا لابن مسعود، وهو فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد.
والعالي خمسة: المطلق، وهو القرب من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر يرد بذلك الحديث بعينه بعدد كثير، أو بالنسبة لمطلب الأسانيد والقرب من إمام من أئمة الحديث ذي

صفة عالية كالحفظ والضبط كمالك والشافعي، والقرب بالنسبة لرواية الشيخين وأصحاب

(1/10)


السنن والعلو بتقدم وفاة الراوي، سواء كان سماعه مع متأخر الوفاة في آن واحد أو قبله، والعلوّ بتقدّم السماع، فمن تقدم سماعه من شيخ أعلى ممن سمع من ذلك الشيخ نفسه بعده.
والنازل كالعالي بالنسبة إلى ضد الأقسام العالية.
والمسلسل ما ورد بحالة واحدة في الرواة أو الرواية وأصحها قراءة سورة الصف.
والغريب ما انفرد راوٍ بروايته أو برواية زيادة فيه عمّن يجمع حديثه كالزهري أحد الحفاظ في المتن أو السند، وينقسم إلى غريب صحيح كالأفراد المخرجة في الصحيحين، وإلى غريب ضعيف وهو الغالب على الغرائب، وإلى غريب حسن. وفي جامع الترمذي منه كثير.
والعزيز ما انفرد بروايته اثنان أو ثلاثة دون سائر رواة الحافظ المروي عنه.
والمعلل ولا يقال المعلول، خبر ظاهره السلامة لجمعه شروط الصحة، لكن فيه علة خفية فيها غموض تظهر للنقاد أطباء السنة الحاذقين بعللها عند جمع طرق الحديث والفحص عنها، كمخالفة راوي ذلك الحديث لغيره ممّن هو أحفظ وأضبط وأكثر عددًا وتفرّده وعدم المتابعة عليه، مع قرائن تنبّه على وهمه في وصل مرسل أو رفع موقوف أو إدراج حديث في حديث، أو لفظة أو جملة ليست من الحديث أدرجها فيه، أو وهم بإبدال راوٍ ضعيف بثقة، ويقع في الإسناد والمتن، فالأوّل كحديث يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو بن دينار "البيعان بالخيار" صرح النقاد بأن يعلى غلط إنما هو عبد الله بن دينار لا عمرو بن دينار، وشذّ بذلك عن سائر أصحاب الثوري، وسبب الاشتباه اتفاقهما في اسم الأب وفي غير واحد من الشيوخ، وتقاربهما في الوفاة. وأما علة المتن فكحديث مسلم من جهة الأوزاعي عن قتادة، أنه كتب إليه يخبره عن أنس أنه حدّثه أنه قال صلّيت خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها، فقد أعلّ الشافعي رضي الله عنه وغيره هذه الزيادة التي فيها عدم البسملة، بأن سبعة أو ثمانية خالفوا في ذلك واتفقوا على الاستفتاح بالحمد لله رب العالمين، ولم يذكروا البسملة. والمعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، ولا يعني أنهم يتركون البسملة. وحينئذ فكأن بعض رواته فهم من الاستفتاح نفي البسملة، فصرّح بما فهمه وهو مخطىء في ذلك. ويتأيد بما صح عن أنس أنه سئل أكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم، فقال للسائل إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، على أن قتادة ولد أكمه وكاتبه لم يعرف، وهذا أهم في التعليل، وهذا من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها ولا يقوم به إلا ذو فهم ثاقب وحفظ واسع ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية

بالأسانيد والمتون، وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفيّ في نقد الدينار والدرهم.
والفرد يكون مطلقًا بأن ينفرد الراوي الواحد عن كل واحد من الثقات وغيرهم، ويكون بالنسبة إلى صفة خاصة، وهو أنواع: ما قيد بثقة، كقول القائل في حديث قراءته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأضحى والفطر بقاف واقتربت، لم يروه ثقة إلا ضمرة بن سعيد، فقد انفرد به عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد الليثي صحابيه، أو ببلد معين كمكة والبصرة والكوفة. كقول القائل في حديث أبي سعيد الخدري المروي عند أبي داود في كتابيه السنن، والتفرد، عن أبي الوليد الطيالسي عن همام عن قتادة عن أبي نضرة عنه، أمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. لم يرو هذا الحديث غير أهل البصرة. قال الحاكم إنهم تفردوا بذكر الأمر فيه من أول الإسناد الخ، ولم يشركهم في لفظه سواهم. وكذا قال في حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن قوله ومسح رأسه بماء غير فضل يده، سنّة غريبة تفرّد بها أهل مصر لم يشركهم أحد. ولا يقتضي شيء من ذلك ضعفه إلا أن يراد تفرّد واحد من أهل البصرة، فيكون من الفرد المطلق. والثالث ما قيد براوٍ مخصوص حيث لم يروه عن فلان إلا فلان، كقول أبي الفضل بن طاهر عقب الحديث المروي في السنن الأربعة من طريق سفيان

(1/11)


بن عيينة عن وائل بن داود عن ولده بكر بن وائل عن الزهري عن أنس، أن النبي أولم على صفية بسويق وتمر. لم يروه عن بكر إلا وائل، ولم يروه عن وائل غير ابن عيينة فهو غريب.

وكذا قال الترمذي إنه حسن غريب. قال وقد رواه غير واحد عن ابن عيينة عن الزهريّ يعني بدون وائل وولده، قال وكان ابن عيينة ربما دلسهما، والحكم بالتفرّد يكون بعد تتبّع طرق الحديث الذي يظن أنه فرد هل شارك راويه آخر أم لا، فإن وجد بعد كونه فردًا أن راويًا آخر ممن يصلح أن يخرج حديثه للاعتبار والاستشهاد به وافقه، فإن كان التوافق باللفظ سمي متابعًا، وإن كان بالمعنى سمي شاهدًا، وإن لم يوجد من وجه بلفظه أو بمعناه فإنه يتحقق فيه التفرّد المطلق حينئذ. ومظنة معرفة الطرق التي يحصل بها المتابعات والشواهد وتنتفي بها الفردية الكتب المصنفة في الأطراف، وقد مثل ابن حبان لكيفية الاعتبار بأن يروي حماد بن سلمة حديثًا لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين، فإن وجد علم به أن للحديث أصلاً يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين، رواه عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأي ذلك وجد علم به أن للحديث أصلاً يرجع إليه، وإلا فلا. وكما أنه لا انحصار للمتابعات في الثقة كذلك الشواهد، فيدخل فيهما رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودًا في الضعفاء، وفي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك. وكذا قال الدارقطني فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به. وقال النووي في شرح مسلم "وإنما يدخلون الضعفاء لكون التابع لا اعتماد عليه وإنما الاعتماد على من قبله " اهـ.
قال شيخنا ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كلٌّ من المتابع والمتابع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة، ومثال المتابع والشاهد ما رواه الشافعي في الأم عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه. فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". فإنه في جميع الموطآت عن مالك بهذا السند بلفظ فإن غمّ عليكم فاقدروا له. وأشار البيهقي إلى أن الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك فنظرنا فإذا البخاري روى الحديث في صحيحه، فقال حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدّثنا مالك به بلفظ الشافعي سواء، فهذه متابعة تامة في غاية الصحة لرواية الشافعي، ودلّ هذا على أن مالكًا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين معًا وقد توبع فيه عبد الله بن دينار من وجهين عن ابن عمر، أحدهما أخرجه مسلم من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع، فذكر الحديث، وفي آخره فإن غمّ عليكم فاقدروا ثلاثين. والثاني أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن جدّه ابن عمر بلفظ فإن غمّ عليكم فكملوا ثلاثين. فهذه متابعة لكنها ناقصة، وله شاهدان أحدهما من حديث أبي هريرة رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين. وثانيهما من حديث ابن عباس، أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس بلفظ حدّثنا ابن دينار عن ابن عمر سواء. وإنما أطلت الكلام في هذا لكثرة ما في البخاري منه والله سبحانه الموفق والمعين.
والشاذ ما خالف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات بزيادة أو نقص فيظن أنه وهم فيه. قال ابن الصلاح الصحيح التفصيل، فما خالف فيه المنفرد من هو أحفظ وأضبط فشاذ مردود، وإن لم يخالف بل روى شيئًا لم يروه غيره وهو عدل فصحيح أو غير ضابط، ولا يبعد عن درجة الضابط فحسن، وإن بعد فشاذ منكر. ويكون الشذوذ في السند كرواية الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً توفي على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يدع وارثًا إلى مولى هو أعتقه الحديث. فإن حماد

(1/12)


بن زيد رواه عن عمرو مرسلاً بدون ابن عباس، لكن قد تابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره. ويكون في المتن كزيادة يوم عرفة في حديث "أيام التشريق أيام أكل وشرب" فإن الحديث من جميع طرقه بدونها، وإنما جاء بها موسى بن علي (بالتصغير) ابن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر، كما أشار إليه ابن عبد البر. على أنه قد صحح حديث موسى هذا ابنا خزيمة وحبان والحاكم، وقال على شرط مسلم، وقال الترمذي حسن صحيح. وكأن ذلك لأنها زيادة ثقة غير منافية لإمكان حملها على حاضري عرفة.
والمنكر الذي لا يعرف متنه من غير جهة راويه فلا متابع له ولا شاهد، قاله البرديجي. والصواب التفصيل الذي ذكره ابن الصلاح في الشاذ، فمثال ما انفرد به ثقة يحمل تفرّده حديث مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما رفعه

"لا يرث المسلم الكافر" فإن مالكًا خالف في تسمية راويه عمر بضم العين، غيره، حيث هو عندهم عمرو بفتحها. وقطع مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه. ومثال ما انفرد به ثقة لا يحمل تفرده حديث أبي ذكير يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعًا: كلوا البلح بالتمر. الحديث تفرد به أبو ذكير وهو شيخ صالح أخرج له مسلم في صحيحه، غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحمل تفرده، وقد ضعفه ابن معين وابن حبان، وقال ابن عدي أحاديثه مستقيمة سوى أربعة عدّ منها هذا.
والمضطرب ما روي على أوجه مختلفة متدافعة على التساوي في الاختلاف من راوٍ واحد، بأن رواه مرة على وجه وأخرى على آخر مخالف له، أو رواه أكثر بأن يضطرب فيه راويان فأكثر، ويكون في سند رواته ثقات، كحديثًا "شيبتني هود وأخواتها"، فإنه اختلف فيه على أبي إسحق، فقيل عنه عن عكرمة عن أبي بكر، ومنهم من زاد بينهما ابن عباس، وقيل عنه عن أبي جحيفة عن أبي بكر، وقيل عنه عن البراء عن أبي بكر، وقيل عنه عن أبي ميسرة عن أبي بكر، وقيل عنه عن مسروق عن عائشة عن أبي بكر، وقيل عنه عن علقمة عن أبي بكر، وقيل عنه عن عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر، وقيل عنه عن عامر بن سعد عن أبيه عن أبي بكر، وقيل عنه عن مصعب بن سعد عن أبيه عن أبي بكر، وقيل عنه عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. وقد يكون الاضطراب في المتن، وقل أن يوجد مثال سالم له كحديث نفي البسملة، حيث زال الاضطراب عنه بحمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر كما قرر في موضعه من المطوّلات. ثم إن الاضطراب سواء كان في السند أو في المتن موجب للضعف لإشعاره بعدم ضبط الراوي.
والموضوع هو الكذب على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويسمى المختلق الموضوع، وتحرم روايته مع العلم به إلا مبينًا، والعمل به مطلقًا وسببه نسيان أو افتراء أو نحوهما، ويعرف بإقرار واضعه أو قرينة في الراوي والروي، فقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها. وروينا عن الربيع بن خيثم التابعي الجليل أنه قال إن للحديث ضوءًا كضوء النهار يعرف، وظلمة كظلمة الليل تنكر.
والمقلوب كحديث متنه مشهور براو كسالم أبدل بواحد من الرواة نظيره في الطبقة كنافع ليرغب فيه لغرابته، أو قلب سند لمتن آخر مروي بسند آخر بقصد امتحان حفظ المحدث، كقلب أهل بغداد على البخاري رحمه الله تعالى مائة حديث امتحانًا، فردّها على وجوهها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته.
والمركب كإبدال نحو سالم بنافع كما مر، أو الذي ركب إسناده لمتن آخر ومتنه لإسناد متن آخر.
والمنقلب الذي ينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغير معناه، كحديث البخاري في باب أن رحمة الله قريب من المحسنين عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه،

"اختصمت الجنة والنار إلى ربّهما" الحديث. وفيه أنه ينشىء للنار خلقًا صوابه كما رواه في موضع آخر من طريق عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة بلفظ، فأما الجنة فينشىء الله لها خلقًا، فسبق لفظ الراوي من الجنة إلى النار، وصار منقلبًا. ولذا جزم ابن القيم بأنه غلط، ومال إليه البلقيني حيث أنكر هذه الرواية، واحتج بقوله ولا يظلم ربك أحدًا.
والمدبج

(1/13)


بالموحدة والجيم رواية القرينين التقاربين في السن والإسناد، أحدهما عن الآخر، كرواية كلٌّ من أبي هريرة وعائشة عن الآخر، وكرواية التابعي عن تابعي مثله كالزهري وعمر بن عبد العزيز وكذا من دونهما.
والمصحف الذي تغير بنقط الحروف أو حركاتها أو سكناتها، كحديث جابر رمي أُبيّ يوم الأحزاب على أكحله، صحفه غندر فقال أبي بالإضافة، وإنما هو أُبيّ بن كعب وأبو جابر استشهد قبل ذلك في أُحُد.
والناسخ والمنسوخ ويعرف النسخ بتنصيص الشارع عليه كحديث بريدة "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" أو بجزم الصحابي بالتأخر كقول جابر في السنن، كان آخر الأمرين من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك الوضوء مما مسّت النار أو بالتاريخ، فإن لم يعرف فإن أمكن ترجيح أحدهما بوجه من وجوه الترجيح متنًا أو إسنادًا لكثرة الرواة وصفاتهم تعين المصير إليه، وإلا فيجمع بينهما، فإن لم يمكن يوقف عن العمل بأحدهما.
والمختلف أن يوجد حديثان متضادان في المعنى بحسب الظاهر، فيجمع بما ينفي التضاد، كحديث "لا عدوى ولا طيرة" مع حديث "فرّ من المجذوم" وقد جمع بينهما بأن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله تعالى مخالطة المريض للصحيح سببًا لإعدائه وقد يتخلف.

ومن الأنواع رواية الآباء عن الأبناء، وهو كرواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الأبناء عن الآباء، ويدخل في رواية الابن عن أبيه عن جدّه، وأكثر ما انتهت الآباء فيه إلى أربعة عشر أبًا، والسابق اللاحق وهو من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباين وقت وفاتيهما تباينًا شديدًا فحصل بينهما أمر بعيد، وإن كان المتأخر غير معدود من معاصري الأوّل ومن طبقته. ومن أمثلة ذلك أن البخاري حدث عن تلميذه أبي العباس السراج بأشياء في التاريخ وغيره، ومات سنة ست وخمسين ومائتين، وآخر مَن حدّث عن السراج بالسماع أبو الحسين الخفات ومات سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، ومنه أن الحافظ السلفي سمع منه أبو عليّ البرداني أحد مشايخه حديثًا رواه عنه ومات على رأس الخمسمائة، ثم كان آخر أصحابه بالسماع سبطه أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي، وكانت وفاته سنة خمسين وستمائة.
ومن فوائده تقرير حلاوة الإسناد في القلوب والإخوة والأخوات، فمن أمثلة الاثنين هشام وعمرو ابنا العاصي وزيد ويزيد ابنا ثابت، ومن الثلاثة سهل وعباد وعثمان بنو حنيف بالتصغير،
ومن الأربعة سهيل وعبد الله الذي يقال له عباد ومحمد وصالح بنو أبي صالح ذكوان السمان، وفي الصحابة عائشة وأسماء وعبد الرحمن ومحمد بنو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، وأربعة ولدوا في بطن وكانوا علماء وهم محمد وعمر وإسماعيل، ومن لم يسمّ بنو أبي إسماعيل السلمي، ومن الخمسة الرواة سفيان وآدم وعمران ومحمد وإبراهيم بنو عيينة، ومن الستة محمد وأنس ويحيى ومعبد وحفصة وكريمة أولاد سيرين وكلهم من التابعين. من لم يرو عنه إلا واحد كرواية الحسن البصري عن عمرو بن تغلب في صحيح البخاري، فإن عمرًا لم يرو عنه غير الحسن قاله مسلم والحاكم، من له أسماء مختلفة ونعوت متعددة وفائدته الأمن من جعل الواحد اثنين، وتوثيق الضعيف وتضعيف الثقة والاطلاع على صنيع المرسلين، ومن أمثلته محمد بن السائب الكلبي المفسّر هو أبو النضر الذي روى عنه ابن إسحق وهو حماد بن السائب الذي روى عنه أبو أسامة، وهو أبو سعيد الذي يروي عنه عطية العوفي موهمًا أنه الخدري، وهو أبو هشام الذي روى عنه القاسم بن الوليد، والمفردات من الأسماء فمن الصحابة سندر بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة آخره راء، وكلدة بالدال المهملة، وفتحات ابن الحنبل بمهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة فموحدة فلام، ووابصة بموحدة مكسورة فمهملة ابن معبد. ومن غير الصحابة تدوم بفوقية مفتوحة ودال مهملة مضمومة ابن صبح، أو بالتصغير الحميري وسعير بالمهملتين مصغرًا ابن الخمس بكسر الخاء المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة، والمفردات من الألقاب سفينة مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومن غير الصحابة مندل بن علي العنزي واسمه فيما قيل

(1/14)


عمرو، ومشكدانة بضم أوّله وثالثه وبعد الميم شين معجمة وهي وعاء المسك. ومن الكنى أبو العبيد بضم المهملة ثم موحدة مفتوحة تصغير عبد، وأبو العشراء بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة الدارمي، ومن الأنساب اللبقيّ بفتح اللام والموحدة وكسر القاف علي بن سلمة. والكنى تسعة أقسام كنية لصاحب كنية أخرى غيرها ولا اسم له غيرها، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث أحد الفقهاء السبعة كنيته أبو عبد الرحمن، أو تكون الكنية اسمه ولا كنية له كأبي بلال الأشعريّ بن شريك، أو تكون الكنية لقبًا وله اسم وتكنية غيرها كأبي تراب لعليّ بن أبي طالب أبي الحسن، وأبي الزناد لعبد الله ين ذكوان أبي عبد الرحمن. أو يكون له كنية أخرى غيرها أو أكثر من غير سبب لذلك. فمن أمثلة ذلك ذو الكنيتين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج يكنى أبا خالد وأبا الوليد، ومن الثلاثة منصور الفراوي يكنى أبا بكر وأبا الفتح وأبا القاسم، وكان يقال له ذو الكنى، أو تكون كنيته لا خلاف فيها وفي اسمه اختلاف كأبي بصرة الغفاري، قيل في اسمه جميل بفتح الجيم، وقيل بالحاء المهملة المضمومة وفتح الميم وهو الأصح، أو يكون مختلفًا في كنيته دون اسمه كأبيّ بن كعب، قيل في كنيته أبو المنذر وقيل أبو الطفيل، أو يكون في كلٍّ من اسمه وكنيته خلف كسفينة مو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو لقب، وقيل في اسمه صالح، وقيل عمير، وقيل مهران، وكنيته قيل أبو عبد الرحمن وقيل أبو البحتري، أو اتفقا عليهما معًا كأبي عبد الله مالك بن أنس، أو يكون بكنيته أشهر منه باسمه كأبي إدريس الخولانيّ اسمه عائذ الله.

وفائدة هذا النوع البيان، فربما ذكر الراوي مرة بكنيته ومرة باسمه فيتوهم التعدّد مع كونهما واحدًا، والألقاب نوع مهم قد تأتي في سياق الأسانيد مجردة عن الأسماء فيظن أنها أسماء فيجعل ما ذكر باسمه في موضع وبلقبه في موضع آخر شخصين، والذي في البخاري منه: الأحول عامر بن سليمان، الأزرق إسحق بن يوسف، الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، الأعمش سليمان بن مهران، الأغر أبو عبد الله سلمان، الباقر محمد بن علي بن حسين أبو جعفر، الحبر عبد الله بن عباس، البطين مسلم بن عمران، بندار محمد بن بشار، البهيّ عبد الله بن بشار، الحذاء خالد بن مهران، ختن المقري بكر بن خلف، دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم. ذو البطن أسامة بن زيد، ذو اليدين الخرباق، الرشك يزيد الضبعي، سعدان اللخميّ سعيد بن يحيى بن صالح، سلمويه سليمان بن صالح المروزي، سنيد مصغرًا اسمه الحسين، شاذان الأسود بن عامر، عارم محمد بن الفضل السدوسي، عبدان عبد الله بن عثمان، عبدة بن سليمان اسمه عبد الرحمن، عبيد بن إسماعيل هو عبيد الله، عويمر أبو الدرداء اسمه عامر، غندر محمد بن جعفر، فليح بن سليمان قيل اسمه عبد الملك، قتيبة بن سعيد قيل اسمه يحيى، كاتب المغيرة اسمه وراد، الماجشون أبو سلمة، مسدد اسمه عبد الملك، النبيل أبو عاصم الضحاك بن مخلد أبو الزناد لقب وكنيته أبو عبد الرحمن، ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
والأنساب معرفتها مهمة فكثيرًا ما يكون نسبه لقبيلة أو بطن أو جدّ أو بلد أو صناعة أو مذهب أو غير ذلك مما أكثره مجهول عند العامة معلوم عند الخاصة، فربما يقع في كثير منه التصحيف ويكثر الغلط والتحريف، والذي في البخاري منها: الأشجعي عبيد الله بن عبد الرحمن، الأويسي عبد العزيز بن عبد الله، الأنصاري شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن المثنى، البدري أبو مسعود عقبة بن عمرو، البراء أبو العالية نسب إلى بري السهام، التيمي سليمان، الثقفي عبد الوهاب بن محمد بن عبد المجيد، الزبيدي محمد بن الوليد، الزبيري أبو أحمد محمد بن عبد الله الأسدي، الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، السبيعي عمرو بن عبد الله أبو إسحق، السعيدي عمرو بن يحيى بن سعيد، الشعبي عامر بن شراحيل، الشيباني أبو إسحق سليمان بن أبي سليمان، الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة، العدني عبد الله بن الوليد، العقدي عبد الملك بن عمرو أبو عامر، العمري

(1/15)


عبيد الله بن عمر بن حفص، الفروي إسحق بن محمد، الفريابي محمد بن يوسف، الفزاري أبو إسحق إبراهيم بن محمد الدمشقي، القمي هو يعقوب بن عبد الله له موضع واحد في الطب، المجمر نعيم بن عبد الله، المحاربي عبد الله بن محمد، المسعودي اسمه عبد الرحمن بن عبد الله، المعمري أبو سفيان محمد بن حميد، المقبري أبو سعيد كيسان وابنه سعيد، المقدمي محمد بن أبي بكر، المقري أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، الملائي أبو نعيم الفضل بن دكين.
ومن الرواة من نسب إلى غير أبيه كيعلى ابن مية نسب إلى جدّته واسم أبيه أمية، ومعاذ ومعوذ

وعوذ بنو عفراء هي أمهم وأبوهم الحرث بن رفاعة، وعبد الله ابن بحينة هي أمه وأبوه مالك، وعبد الله بن أُبي ابن سلول هي أم أُبيّ، ومنهم من نسب إلى زوج أمه كالمقداد بن الأسود. وقد ينسب الراوي إلى نسبة يكون الصواب خلاف ظاهرها كأبي مسعود عقبة بن عمرو البدري، إذ إنه لم ينسب لشهوده بدرًا في قول الجمهور وإن عدّه البخاري فيمن شهدها، بل كان ساكنًا بها، وكسليمان بن طرخان التيمي ليس من تيم بل نزل بها.
وأما المبهمات في الحديث وتكون في الإسناد والمتن من الرجال والنساء، ويتوصل لمعرفتها بجمع طرق الحديث غالبًا. مثاله في السند إبراهيم بن أبي عبلة عن رجل عن واثلة، فالرجل هو الغريق بفتح الغين المعجمة، وفي المتن حديث أبي سعيد الخدري في ناس من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّوا بحيّ فلم يضيفوهم فلدغ سيدهم فرقاه رجل منهم، الراقي هو أبو سعيد الراوي المذكور. وما في البخاري من هذا النوع يأتي مفسرًا في مواضعه من هذا الشرح إن شاء الله تعالى بعون الله تعالى.

المؤتلف والمختلف وهو ما تتفق صورته خطأ وتختلف صفته لفظًا وهو مما يقبح جهله بأهل الحديث، ومنه في البخاري الأحنف بالحاء المهملة والنون، وبالخاء المعجمة والمثناة التحتية، مكرز بن حفص بن الأحنف، له ذكر في الحديث الطويل في قصة الحديبية. وبشار بالموحدة والمعجمة المشدّدة والد بندار شيخ البخاري والجماعة، وبقية من فيه بهذه الصورة بالتحتية والسين المهملة المخففة وبتقديم السين وتثقيل التحتية أبو المنهال سيار بن سلامة التابعي، إلى غير ذلك مما لا نطيل بسرده لا سيما مع الاستغناء بذكره في هذا الشرح إن شاء الله تعالى بعونه. وإذا علم هذا فليعلم أن شرط الراوي للحديث أن يكون مكلفًا عدلاً متقنًا ويعرف إتقانه بموافقة الثقات، ولا تضرّ مخالفته النادرة، ويقبل الجرح إن بان سببه للاختلاف فيما يوجب الجرح بخلاف التعديل فلا يشترط، ورواية العدل عمن سماه لا تكون تعديلاً، وقيل إن كانت عادته أن لا يروي إلا عن عدل كالشيخين فتعديل وإلا فلا، ولا يقبل مجهول العدالة وكذا مجهول العين الذي لم تعرفه العلماء، وترفع الجهالة عنه رواية اثنين مشهورين بالعلم. والصحابة كلهم عدول، وقبل المستور قوم ورجحه ابن الصلاح. ولا يقبل حديث مبهم ما لم يسمّ إذ شرط قبول الخبر عدالة ناقله، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته ولا يقبل من به بدعة كفر، أو يدعو إلى بدعة، وإلا قبل لاحتجاج البخاري وغيره بكثير من المبتدعين غير الدعاة، ويقبل التائب. وينبغي أن يعرف من اختلط من الثقات في آخر عمره لفساد عقله وخرفه ليتميز من سمع منه قبل ذلك فيقبل حديثه أو بعده فيرد، ومن روى عنه منهم في الصحيحين محمول على السلامة، وقد أعرضوا عن اعتبار هذه الشروط في زماننا لإبقاء سلسلة الإسناد فيعتبر البلوغ والعقل والستر والإتقان ونحوه. ولألفاظ التعديل مراتب أعلاها ثقة أو متقن أو ضابط أو حجة، ثانيها خير صدوق مأمون لا بأس به وهؤلاء يكتب حديثهم، ثالثها شيخ وهذا يكتب حديثه للاعتبار، رابعها صالح الحديث فيكتب وينظر فيه. ولألفاظ التجريح مراتب أيضًا أدناها لين الحديث يكتب وينظر اعتبارًا، ثانيها ليس بقوي وليس بذاك، ثالثها مقارب الحديث أي
رديئه، رابعها متروك الحديث وكذاب ووضاع ودجال وواهٍ وواه بمرّة بموحدة مكسورة فميم مفتوحة وراء مشددة أي قولاً واحدًا لا تردّد فيه، وهؤلاء ساقطون لا يكتب

(1/16)


عنهم، وفي رواية من أخذ على الحديث (يعني أجرة) تردّد. وفي المتساهل في سماعه وإسماعه كمن لا يبالي بالنوم فيه، أو يحدّث لا من أصل مصحح، أو كثير السهو في روايته إن حدّث من غير أصل، أو أكثر الشواذ والمناكير في حديثه، ومن غلط في حديثه فبيّن له وأصرّ عنادًا ونحوه سقطت روايته، ويستحب الاعتناء بضبط الحديث وتحقيقه نقطًا وشكلاً وإيضاحًا من غير مشق ولا تعليق بحيث يؤمن معه اللبس أو إنما يشكل المشكل ولا يشتغل بتقييد الواضح. وصوَّب عياض شكل الكل للمبتدىء وغير المعرب، ورأى بعض مشايخنا الاقتصار في ضبط البخاري على رواية واحدة لا كما يفعله من ينسخ البخاري من نسخة الحافظ شرف الدين اليونينيّ، لما يقع في ذلك من الخلط الفاحش بسبب عدم التمييز ويتأكد ضبط الملبس من الأسماء، لأنه نقل محض لا مدخل للإفهام فيه، كبريد بضم الموحدة، فإنه يشتبه بيزيد بالتحتية فضبط ذلك أولى لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يدل عليه، ولا مدخل للقياس فيه، وليقابل ما يكتبه بأصل شيخه أو بأصل أصل شيخه المقابل به أصل شيخه أو فرع مقابل بأصل السماع، وليعن بالتصحيح بأن يكتب صح على كلام صح رواية، ومعنى لكونه عرضة للشك أو الخلاف. وكذا بالتضبيب ويسمى التمريض بأن يمدّ خطًّا أوّله كرأس الصاد ولا يلصقه بالممدود عليه على ثابت نقلاً فاسد لفظًا أو معنىً أو ضعيف أو ناقص، ومن الناقص موضع الإرسال. وإذا كان للحديث إسنادان فأكثر كتب عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ح مفردة مهملة إشارة إلى التحويل من أحدهما إلى الآخر، ويأتي مبحثها إن شاء الله تعالى في أوائل الشرح. وإذا قرأ إسناد شيخه المحدّث أوّل الشروع وانتهى عطف عليه بقوله في أوّل الذي يليه، وبه قال حدثنا ليكون كأنه أسنده إلى صاحبه في كل حديث.

وأنواع التحمل أعلاها السماع من لفظ الشيخ سواء قرأ بنفسه أو قرأ غيره على الشيخ، وهو يسمع ويقول فيه عند الأداء أخبرنا، والأحوط الإفصاح. فإن قرأ بنفسه قال قرأت على فلان، وإلا قال قرىء على فلان وأنا أسمع. ثم الإجازة المقرونة بالمناولة بأن يدفع إليه الشيخ أصل سماعه أو فرعًا مقابلاً عليه، ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني وأجزت لك روايته. ثم الإجازة وهي أنواع أعلاها لمعين كأجزتك البخاري مثلاًَ أو أجزت فلانًا الفلاني جميع فهرستي ونحوه، أو أجزته بجميع مسموعاتي أو مروياتي، أو أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي أو لأهل الإقليم الفلاني. ويقول المحدث بها أنبأنا أو أنبأني، ثم المكاتبة بأن يكتب مسموعه أو مقروءه جميعه أو بعضه لغائب أو حاضر بخطه أو بإذنه مقرونًا ذلك بالإجازة أولاً، ثم الإعلام بأن يقول له هذا الكتاب رويته أو سمعته مقتصرًا على ذلك من غير إذن، وهذه جوّزها كثير من الفقهاء والأصوليين منهم ابن جريج وابن الصباغ. ثم الوصية بأن يوصي الراوي عند موته أو سفره لشخص بكتاب يرويه، فجوّزه محمد بن سيرين وعلّله عياض بأنه نوع من الإذن، والصحيح عدم الجواز إلا إن كان

له من الموصي إجازة فتكون روايته بها لا بالوصية. ثم الوجادة بأن يقف على كتاب بخط يعرفه لشخص عاصره أولاً فيه أحاديث يرويها ذلك الشخص ولم يسمعها ذلك الواجد ولا له منه إجازة، فيقول وجدت أو قرأت بخط فلان كذا ثم يسوق الإسناد والمتن.
(تنبيه): وشرط صحة الإجازة أن تكون من عالم بالمجاز، والمجاز له من أهل العلم المجاز به صناعة، وعن ابن عبد البر الصحيح أن الإجازة لا تقبل إلا لماهر بالصناعة حاذق فيها يعرف كيف يتناولها، وما لا يشكل إسناده لكونه معروفًا معينًا وإن لم يكن كذلك لم يؤمن أن يحدث المجاز عن الشيخ بما ليس من حديثه أو ينقص من إسناده الرجل والرجلين، وقال ابن سيد الناس أقل مراتب المجيز أن يكون عالمًا بمعنى الإجازة العلم الإجمالي من أنه روى شيئًا، وأن معنى إجازته لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة لا العلم التفصيليّ بما روى، وبما يتعلق بأحكام الإجازة. وهذا العلم الإجمالي حاصل فيما رأيناه من عوّام الرواة، فإن انحط راوٍ في الفهم عن هذه الدرجة، ولا إخال

(1/17)


أحدًا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به فلا أحسبه أهلاً لأن يتحمل عنه بإجازة ولا سماع، قال وهذا الذي أشبرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور، قال شيخنا: وما عداه من التشديد فهو منافٍ لما جوّزت الإجازة له من بقاء السلسلة، نعم لا يشترط التأهل حين التحمل ولم يقل أحد بالأداء بدون شرط الرواية، وعليه يحمل قولهم أجزت له رواية كذا بشرطه، ومنه ثبوت المرويّ من حديث المجيز، وقال أبو مروان الطبنيّ أنها لا تحتاج لغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ، وقال عياض: تصح بعد تصحيح روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها والاعتماد على الأصول المصححة، وكتب بعضهم لمن علم منه التأهيل أجزت له الرواية عني، وهو لما علم من إتقانه وضبطه غنيّ عن تقييدي ذلك بشرطه انتهى. وليصلح النيّة في التحديث بحيث يكون مخلصًا لا يريد بذلك عرضًا دنيويًّا بعيدًا عن حب الرياسة ورعوناتها، وليقرأ الحديث بصوت حسن فصيح مرتل، ولا يسرطه سردًا لئلا يلتبس أو يمنع السامع من إدراك بعضه، وقد تسامح بعض الناس في ذلك وصار يعجل استعجالاً يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة بل كلمات، والله تعالى بمنه وكرمه يهدينا سواء السبيل.
(لطيفة): أنبأني الحافظ نجم الدين ابن الحافظ تقيّ الدين وقاضي القضاة أبو المعالي محب الدين المكيان بها، والمحدّث العلامة ناصر الدين أبو الفرج المدني بها، قالوا: أخبرنا الإمام زين الدين بن الحسين وآخرون عن قاضي القضاة أبي عمر عبد العزيز عن قاضي القضاة بدر الدين الكنانيّ، قال: قرأت على الأستاذ أبي حيان محمد بن يوسف بن عليّ، قال حدّثنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير، قال أبو عمرو منه إجازة، قال حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن حسن بن عطية ح، قال أبو حيان وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر بن ربيع عن أبي الحسن أحمد بن عليّ الغافقي، قال أخبرنا عياض ح، قال أبو حيان وكتب لنا الخطيب أبو الحجاج يوسف بن أبي ركانة عن القاضي أبي القاسم

أحمد بن عبد الودود بن سمجون، قال وعياض أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، قال أخبرنا أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني، قال حدّثنا الحافظ عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكناني الدمشقي، حدّثنا أبو عصمة نوح بن الفرغاني، قال: سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن قتّ الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري، قال سمعنا أبا ذر عمار بن محمد بن مخلد التميمي يقول: سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري يقول: "لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمداني عن قضاء الريّ ورد بخارى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة لتجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي فنزل في جوارنا، فحملني معلمي أبر إبراهيم إسحق بن إبراهيم الختلي إليه فقال له أسالك أن تحدث هذا الصبي عن مشايخك، فقال ما لي سماع، قال فكيف وأنت فقيه فما هذا، قال لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى معرفة الحديث ورواية الأخبار وسماعها، فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في علم الحديث، وأعلمته مرادي وسألته الإقبال على ذلك، فقال لي يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره، فقلت عرّفني رحمك الله حدود ما قصدتك له ومقادير ما سألتك عنه، فقال لي: اعلم أن الرجل لا يصير محدّثًا كاملاً في حديثه إلاّ بعد أن يكتب أربعًا مع أربع، كأربع مثل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها كان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع. قلت له فسّر لي رحمك الله ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صافٍ بشرح كافٍ وبيان شافٍ طلبًا للأجر الوافي، فقال: نعم، الأربعة التي يحتاج إلى كتبها هي أخبار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشرائعه والصحابة رضي الله عنهم ومقاديرهم

(1/18)


والتابعين وأحوالهم وسائر العلماء وتواريخهم مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمنتهم، كالتحميد مع الخطب، والدعاء مع التوسّل، والبسملة مع السورة، والتكبير مع الصلوات. مثل المسندات والمرسلات والموقوفات والمقطوعات، في صغره وفي إدراكه وفي شبابه وفي كهولته، عند فراغه وعند شغله وعند فقره وعند غناه، بالجبال والبحار والبلدان والبراري، على الأحجار والأخزاف والجلود والأكتاف، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق، عمن هو فوقه وعمّن هو مثله وعمّن هو دونه. وعن كتاب أبيه يتيقن أنه بخط أبيه دون غيره لوجه الله تعالى طلبًا لمرضاته، والعمل بما وافق كتاب الله عز وجل منها، ونشرها بين طالبيها ومحبّيها، والتأليف في إحياء ذكره بعده، ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع هي من كسب العبد أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو، مع أربع هي من إعطاء الله تعالى، أعني القدرة والصحة والحرص والحفظ، فإذا تمت له هذه الأشياء كلها هان عليه أربع: الأهل والمال والولد والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء وملامة الأصدقاء وطعن الجهلاء وحسد العلماء. فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله عز وجل في الدنيا بأربع: بعز القناعة وبهيبة النفس وبلذة العلم وبحياة الأبد. وأثابه في الآخرة بأربع: بالشفاعة لمن أراد من إخوانه، وبظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، وبسقي من أراد من حوض نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،

وبمجاورة النبيين في أعلى علييّن في الجنة، فقد أعلمتك يا بني مجملاً لجميع ما سمعت من مشايخي متفرقًا في هذا الباب، فأقبل الآن إلى ما قصدت إليه أو دع. فهالني قوله فسكت متفكرًا وأطرقت متأدبًا فلما رأى ذلك مني قال: وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارّ ساكن لا تحتاج إلى بُعد الأسفار ووطء الديار وركوب البحار، وهو مع ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدّث في الآخرة، ولا عزه بأقل من عز المحدّث. فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدّمًا، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من تعلمه بتوفيق الله تعالى ومنّته، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه على هذا الصبيّ يا أبا إبراهيم. فقال له أبو إبراهيم إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث نجده عند غيرك. انتهى".
وقد قال الخطيب البغدادي الحافظ إن علم الحديث لا يعلق إلاّ بمن قصر نفسه عليه ولم يضم غيره من الفنون إليه. وقال إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى أتريد أن تجمع بين الفقه والحديث، هيهات. والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق والعصمة وله الحمد على كل حال وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الفصل الرابع

فيما يتعلق بالبخاري في صحيحه من تقرير شرطه وتحريره وضبطه وترجيحه على غيره كصحيح مسلم ومن سار كسيره والجواب عما انتقده عليه النقاد من الأحاديث ورجال الإسناد وبيان موضوعه، وتفرده بمجموعه، وتراجمه البديعة المثال، المنيعة المنال وسبب تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته له في الأبواب وتكراره وعدة أحاديثه الأصول والمكرّرة حسبما ضبطه الحافظ ابن حجر وحرره
وهذا الفصل أعزّك الله تعالى لخصته من مقدّمة فتح الباري، مستمدًّا من سيح فضله الجاري، أنبأتني المسندة أُم حبيبة زينب بنت الشوبكي المكية، أخبرنا البرهان بن صديق الرسام، أخبرنا أبو النون يونس بن إبراهيم عن أبي الحسن بن المقير عن أبي المعمر المبارك بن أحمد الأنصاري، قال أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، قال في جزء شروط الأئمة له: اعلم أن البخاري ومسلمًا ومن ذكرنا بعدهما لم ينقل عن واحد منهم أنه قال شرطت أن أخرّج في كتابي مما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سير كتبهم فيعلم بذلك شرط كل رجل منهم، واعلم أن شرط البخاري

(1/19)


ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، وإن كان للصحاب راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن له إلاّ راوٍ واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه.
ثم قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن عليّ الأديب الشيرازي بنيسابور، قال: قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله يعني الحاكم في كتابه المدخل إلى الإكليل القسم الأوّل: من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح. ومثاله الحديث الذي يرويه الصحابيّ المشهور عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة من الطبقة الرابعة. ثم يكون شيخ البخاري ومسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة، فهذه الدرجة من الصحيح اهـ. وتعقب ذلك الحافظ ابن طاهر فقال: إن الشيخين لم يشترطا هذا الشرط ولا نقل عن واحد منهما أنه قال ذلك، والحاكم قدّر هذا التقدير وشرط لهما هذا الشرط على ما ظن، ولعمري إنه لشرط حسن لو كان موجودًا في كتابيهما، إلا أنّا وجدنا هذه القاعدة التي أسّسها الحاكم منتقضة في الكتابين جميعًا، فمن ذلك في الصحابيّ أن البخاري أخرج حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس

الأسلميّ، يذهب الصالحون أوّلاً فأوّلاً، وليس لمرداس راوٍ غير قيس. وأخرج مسلم حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب، ولم يرو عنه غير ابنه سعيد. وأخرج البخاري حديث الحسن البصريّ عن عمرو بن تغلب "إني لأعطي الرجل والذي أدع أحبّ إليّ" الحديث. ولم يرو عن عمرو غير الحسن في أشياء عند البخاري على هذا النحو. وأما مسلم فإنه أخرج حديث الأغر المزني "إنه ليغان على قلبي" ولم يرو عنه غير أبي بردة في أشياء كثيرة اقتصرنا منها على هذا القدر، ليعلم أن القاعدة التي أسّسها الحاكم لا أصل لها. ولو اشتغلنا بنقض هذا الفصل الواحد في التابعين وأتباعهم وبمن روى عنهم إلى عصر الشيخين لأربى على كتابه المدخل، إلا أن الاشتغال بنقض كلام الحاكم لا يفيد فائدة اهـ.
وقال الحافظ أبو بكر الحازمي: هذا الذي قاله الحاكم قول من لم يمعن الغوص في خبايا الصحيح، ولو استقرأ الكتاب حق استقرائه لوجد جملة من الكتاب ناقضة لدعواه، وقد اتفق الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول، واختلف في أيّهما أرجح. وصرّح الجمهور بتقديم صحيح البخاري، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقضه. وأما ما نقل عن أبي عليّ النيسابوري أنه قال ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، فلم يصرح بكونه أصح من صحيح البخاري، لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، إذ المنفي إنما هو ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارك كتاب مسلم في الصحة، يمتاز بتلك الزيادة عليه ولم ينفِ المساواة. كذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب. ولم يفصح أحد بأن ذلك راجع إلى الأصحّيّة، ولو صرّحوا به لرد عليهم شاهد الوجود، فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب مسلم أتمّ منها في كتاب البخاري وأشد، وشرطه فيها أقوى وأسد. أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة، وألزم البخاري بأنه يحتاج أن لا يقبل المعنعن أصلاً، وما ألزمه به ليس بلازم، لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون سمع، لأنه يلزم من جريانه أن يكون مدلسه، والمسألة مفروضة في غير المدلس. وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط، فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددًا من الرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم، بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم وميز جيدها من موهومها، بخلاف مسلم، فإن أكثر من تفرّد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدّم عصره من التابعين ومن بعدهم، ولا ريب أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدّم عنهم. وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال

(1/20)


فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددًا مما انتقد على مسلم. وأما الجواب عما انتقد عليه، فاعلم أنه لا يقدح في الشيخين كونهما أخرجا لمن طعن فيه، لأن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته، لا سيما وقد انضاف إلى

ذلك إطباق الأمة على تسميتهما بالصحيحين، وهذا إذا خرج له في الأصول، فإن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فتتفاوت درجات من أخرج له في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، فإذا وجدنا مطعونًا فيه فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل التجريح إلا مفسّرًا بقادح يقدح فيه، أو في ضبطه مطلقًا أو في ضبطه بخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح.
وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة، يعني لا يلتفت إلى ما قيل فيه. وأما الأحاديث التي انتقدت عليهما فأكثرها لا يقدح في أصل موضوع الصحيح، فإن جميعها واردة من جهة أخرى، وقد علم أن الإجماع واقع على تلقي كتابيهما بالقبول والتسليم، إلا ما انتقد عليهما فيه. والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال أنه لا ريب في تقديم الشيخين على أئمة عصرهما، ومن بعده في معرفة الصحيح والمعلل، وقد روى الفربريّ عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في الصحيح حديثًا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وثبتت صحته.
وقال مكّي بن عبدان: كان مسلم يقول عرضت كتابي على أبي زرعة، فكل ما أشار إليّ أن له علة تركته.
فإذا علم هذا وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة، إلا أنها غير مؤثرة، وعلى تقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون كلامه معارضًا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة.
وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم إلى ستة أقسام:

أوّلها: ما تختلف الرواية فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد، فإن أخرج صاحب الحديث الصحيح الطريق المزيدة وعلّله الناقد بالطريق الناقصة فهو تعليل مردود، لأن الراوي إن كان سمعه في الطريق الناقصة فهو منقطع، والمنقطع من قسم الضعيف والضعيف لا يعلّ الصحيح، وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة وعلله الناقد بالطريق المزيدة تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صحّحه المصنف، فينظر إن كان مدلسًا من طريق أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض به، وإن لم يوجد وكان الانقطاع فيه ظاهرًا، فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابع وعاضد، وما حفته قرينة في الجملة تقويه، ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع. وفي البخاري ومسلم من ذلك حديث الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس في قصة القبرين، وأن أحدهما كان لا يستبرىء من بوله، قال الدارقطني: خالف منصور فقال عن مجاهد عن ابن عباس، وأخرج البخاري حديث منصور على إسقاطه طاوسًا انتهى. وهذا الحديث أخرجه البخاري في الطهارة عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير، في الأدب عن محمد بن سلام عن عبيدة بن حميد كلاهما عن منصور به، ورواه من طرق أخرى عن حديث الأعمش، وأخرجه باقي
الأئمة الستة من حديث الأعمش أيضًا، وأخرجه أبو داود أيضًا والنسائي وابن خزيمة في صحيحه من حديث منصور أيضًا، وقال الترمذي بعد أن أخرجه: رواه منصور عن مجاهد عن ابن عباس، وحديث الأعمش أصح يعني المتضمن للزيادة، قال الحافظ ابن حجر: وهذا في التحقيق ليس بعلّة، لأن مجاهدًا لم يوصف بالتدليس وسماعه من ابن عباس صحيح في جملة الأحاديث، ومنصور عندهم أتقن من الأعمش مع أن الأعمش أيضًا من الحفاظ، فالحديث كيفما دار دار على ثقة، والإسناد كيفما دار كان متصلاً. فمثل هذا لا يقدح في صحة الحديث إذا لم يكن راويه مدلسًا، وقد أكثر الشيخان من تخريج مثل هذا ولم يستوعب الدارقطني انتقاده.
ثانيها: ما تختلف الرواة فيه بتغيير بعض الإسناد،

(1/21)


فإن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعًا فأخرجهما المصنف ولم يقتصر على أحدهما، حيث يكون المختلفون متعادلين في الحفظ والعدد كما في البخاري في بدء الخلق من حديث إسرائيل عن الأعمش ومنصور جميعًا عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال: "كنّا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غار فنزلت والمرسلات" قال الدارقطني لم يتابع إسرائيل عن الأعمش عن علقمة، أما عن منصور فتابعه شيبان عنه، وكذا رواه مغيرة عن إبراهيم عنه انتهى. وقد حكى البخاري الخلاف فيه وهو تعليل لا يضر، وإن امتنع الجمع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متفاوتين في الحفظ والعدد، فيخرج المصنف الطريق الراجحة ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها، والتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح، إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف، وحينئذ فينتفي الاعتراض عما هذا سبيله، وفي البخاري في الجنائز من هذا الثاني حديث الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يجمع بين قتلى أُحُد ويقدم أقرأهم. قال الدارقطني رواه ابن المبارك عن الأوزاعي عن الزهري مرسلاً، ورواه معمر عن الزهري عن ابن أبي صعير عن جابر، ورواه سليمان بن كثير عن الزهري حدّثني من سمع جابرًا وهو حديث مضطرب انتهى، قال الحافظ ابن حجر: أطلق الدارقطني القول بأنه مضطرب مع إمكان نفي الاضطراب عنه بأن يفسر المبهم بالذي في رواية الليث، وتحمل رواية معمر على أن الزهري سمعه من شيخين. وأما رواية الأوزاعي المرسلة فقصر فيها بحذف الواسطة، فهذه طريقة من ينفي الاضطراب عنه، وقد ساق البخاري ذكر الخلاف فيه، وإنما أخرج رواية الأوزاعي مع انقطاعها لأن الحديث عنده عن عبد الله بن المبارك عن الليث والأوزاعي جميعًا عن الزهري، فأسقط الأوزاعي عبد الرحمن بن كعب وأثبته الليث وهما في الزهري سواء، وقد صرّحا بسماعهما له منه، فقيل زيادة الليث لثقته، ثم قال بعد ذلك ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عمن سمع جابرًا، وأراد بذلك إثبات الواسطة بين الزهري وبين جابر فيه في الجملة، وتأكيد رواية الليث بذلك، ولم نرها علة توجب اضطرابًا. وأما رواية معمر فقد وافقه عليها سفيان بن عيينة فرواه عن الزهري عن ابن أبي صعير، وقال ثبتني فيه معمر فرجعت روايته إلى رواية معمر.

ثالثها: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددًا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إذا كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقل فلا نعم إن صح بالدلائل أن تلك الزيادة مدرجة من كلام بعض رواته فيؤثر ذلك.

رابعها: ما تفرّد به بعض الرواة ممن ضعف منهم، وليس في البخاري من ذلك غير حديثين، وقد توبعا أحدهما حديث أُبي بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه قال: كان للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرس يقال له اللخيف. قال الدارقطني هذا ضعيف انتهى. وهو ابن سعد الساعدي الأنصاري الذي ضعفه أحمد وابن معين، وقال النسائي ليس بالقوي، لكن تابعه عليه أخوه عبد المهيمن بن عباس وروى له الترمذي وابن ماجة، وثانيهما في الجهاد من البخاري في باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب. حديث إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر استعمل مولى له يسمى هنيًا على الحمى الحديث بطوله، قال الدارقطني إسماعيل ضعيف. قال الحافظ ابن حجر أظن أن الدارقطني إنما ذكر هذا الموضع من حديث إسماعيل خاصة وأعرض عن الكثير من حديثه عند البخاري، لكون غيره شاركه في تلك الأحاديث وتفرد بهذا، فإن كان كذلك فلم ينفرد بل تابعه عليه معن بن عيسى فرواه عن مالك كرواية إسماعيل سواء.
خامسها: ما حكم فيه بالوهم على بعض رواته فمنه ما يؤثر ومنه ما لا يؤثر.
سادسها: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا لا يترتب عليه قدح لإمكان الجمع في المختلف من ذلك أو الترجيح، كحديث جابر في قصة الجمل وحديثه في وفاء دين أبيه، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين. وربما يقع التنبيه على شيء من هذه الأقسام

(1/22)


في موضعه من هذا الشرح بتوفيق الله تعالى ومعونته. والذي في البخاري من هذه الأقسام مائة حديث وعشرة أحاديث شاركه في كثير منها مسلم لا نطيل بسردها، وأما الجواب عمن طعن فيه من رجال البخاري فليعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأيّ راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته مع ما انضاف لذلك من إطباق جمهور الأمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيحين، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، ولا يقبل الطعن في أحد من رواتهما إلا بقادح واضح، لأن أسباب القدح كما مرّ مختلفة، ومداره هنا على خمسة: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع بالسند بأن يدعي في راويه أنه كان يدلس ويرسل.
فأما البدعة فالموصوف بها إن كان غير داعية قبل وإلاّ فلا، وقال ابن دقيق العيد إن وافق غير الداعية غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع كونه صادقًا متحررًا عن الكذب مشهورًا بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته.

وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة، فإذا روى الضابط والصدوق شيئًا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددًا بخلاف ما روى، بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكرًا وهذا ليس في الصحيح منه سوى نزر يسير.
وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل، فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مرويًّا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلاّ من طريقه فهو قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء.
وأما الجهالة فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح، لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفًا بالعدالة، فمن زعم أن أحدًا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه معروف، ولا ريب أن المدعي لمعرفته مقدّم على من يدعي عدم معرفته لما مع الثبت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا نجد في رجال الصحيح ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلاً.
وأما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن أخرج لهم البخاري لما علم من شرطه، ولا نطيل بسرد أسمائهم ورد ما قيل فيهم.

وأما بيان موضوعه وتفرّده بمجموعه وتراجمه البديعة المثال النيعة المنال، فاعلم أنه رحمه الله تعالى قد التزم مع صحة الأحاديث استنباط الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة فرقها في أبوابه بحسب المناسبة، واعتنى فيها بآيات الأحكام وانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارات إلى تفسيرها السبل الوسيعة، ومن ثم أخلى كثيرًا من الأبواب عن ذكره إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله فلان عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلقًا لقصد الاحتجاج لما ترجم له وأشار للحديث لكونه معلومًا أو سبق قريبًا، ويقع في كثير من أبوابه أحاديث كثيرة وفي بعضها حديث واحد وفي بعضها آية من القرآن فقط وبعضها لا شيء فيه البتّة. وقد وقع في بعض نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث، إلى حديث لم يذكر فيه باب، فاستشكله بعضهم، لكن أزال الإشكال الحافظ أبو ذر الهروي بما رواه عن الحافظ أبي إسحق المستملي، مما ذكره أبو الوليد الباجي بالموحدة والجيم في كتابه أسماء رجال البخاري، قال: استنسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند الفربري فرأيت أشياء لم تتم وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا وأحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال الباجي: ومما يدل على صحة ذلك أن رواية المستملي والسرخسي والكشميهني وأبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم استنسخوها من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قد رأى كل واحد منهم فيما كان

(1/23)


في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع، فأضافها إليه: ويبيّن ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث. قال الحافظ ابن حجر: وهذه قاعدة
حسنة يفزع إليها بحيث يتعسر الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة اهـ. وهذا الذي قاله الباجي فيه نظر من حيث أن الكتاب قرىء على مؤلفه، ولا ريب أنه لم يقرأ عليه إلا مرتبًا مبوّبًا، فالعبرة بالرواية لا بالمسودّة التي ذكر صفتها، ثم إن التراجم الواقعة فيه تكون ظاهرة وخفية، فالظاهرة أن تكون الترجمة دالّة بالمطابقة لما يورده فى مضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأنه يقول هذا الباب الذي فيه كيت وكيت. وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو ببعضه أو بمعناه، وقد يأتي من ذلك ما يكون في لفظ الترجمة احتمال لأكثر من معنى واحد فيعين أحد الاحتمالين بما يذكره تحتها من الحديث، وقد يوجد فيه عكس ذلك بأن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة، والترجمة هنا بيان لتأويل ذلك الحديث نائبة مناب قول الفقيه، مثلاً المراد بهذا الحديث العام الخصوص أو بهذا الحديث الخاص العموم إشعارًا بالقياس لوجود العلة الجامعة، أو أن ذلك الخاص المراد به ما هو أعم مما يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى أو الأدنى، ويأتي في المطلق والمقيد نظير ما ذكر في العام والخاص، وكذا في شرح المشكل وتفسير الغامض وتأويل الظاهر وتفصيل المجمل، وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم البخاري، ولذا اشتهر من قول جمع من الفضلاء: فقه البخاري في تراجمه، وأكثر ما يفعل ذلك إذا لم يجد حديثًا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي يترجم به ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره واستخراج خبيئه، وكثيرًا ما يفعل ذلك أي هذا الأخير حيث يذكر الحديث المفسر لذلك في موضع آخر متقدمًا أو متأخرًا، فكأنه يحيل عليه ويومىء بالرمز والإشارة إليه، وكثيرًا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله: باب هل يكون كذا، أو من قال كذا ونحو ذلك. وذلك حيث لا يتجه له الجزم بأحد الاحتمالين، وغرضه بيان هل ثبت ذلك الحكم أو لم يثبت، فيترجم على الحكم ومراده ما يفسر بعد من إثباته أو نفيه، أو أنه محتمل لهما، وربما كان أحد المحتملين أظهر، وغرضه أن يبقي للناظر مجالاً وينبّه على أن هناك مجالاً أو تعارضًا يوجب التوقف حيث يعتقد أن فيه إجمالاً أو يكون المدرك مختلفًا في الاستدلال به، وكثيرًا ما يترجم بأمر ظاهر قليل الجدوى، لكنه إذا حقّقه المتأمل أجدى كقوله: باب قول الرجل ما صلينا. فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك. وكثيرًا ما يترجم بأمر يختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادىء الرأي كقوله: باب استياك الإمام بحضرة رعيته. فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من أفعال المهنة، فلعل أن يظن أن إخفاءه أولى مراعاة للمروءة، فلما وقع في الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استاك بحضرة الناس دل على أنه من باب التطيب لا من الباب الآخر، نبّه على ذلك ابن دقيق العيد، قال الحافظ ابن حجر: ولم أرَ هذا في البخاري، فكأنه ذكره على سبيل المثال. وكثيرًا ما يترجم بلفظ يومىء إلى معنى حديث لم يصح على شرطه أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحًا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤدي معناه بأمر ظاهر وتارة بأمر خفيّ، من ذلك قوله: باب الأمراء من قريش. وهذا لفظ حديث يروى عن عليّ وليس على شرط البخاري، وأورد فيه حديث لا يزال والٍ من قريش. وربما اكتفى أحيانًا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معها أثرًا أو آية، فكأنه يقول لم يصح

في الباب شيء على شرطي، وللغفلة عن هذه المقاصد الدقيقة، اعتد مَن لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض. وبالجملة فتراجمه حيّرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار ولقد أجاد القائل:
أعيا فحول العلم حلّ رموز ما ... أبداه في الأبواب من أسرار
وإنما بلغت هذه المرتبة وفازت بهذه المنقبة لما روي أنه بيضها بين قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

(1/24)


ومنبره، وأنه كان يصلي لكل ترجمة ركعتين.
وأما تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته له في الأبواب وتكراره فقال الحافظ أبو الفضل بن طاهر في جواب المتعنت: اعلم أن البخاري رحمه الله تعالى كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع ويستدل به في كل باب بإسناد آخر ويستخرج منه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه، وقلما يورد حديثًا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعانٍ يذكرها، فمنها أنه يخرج الحديث عن صحابيّ ثم يورده عن صحابيّ آخر، والمقصود منه أن يخرج الحديث من حدّ الغرابة، وكذا يفعل في أهل الطبقة الثانية والثالثة وهلمّ جرًّا إلى مشايخه، فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصنعة أنه تكرار وليس كذلك، لاشتماله على فائدة زائدة، ومنها أنه صحح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كل حديث منها على معانٍ متغايرة، فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأوّل، ومنها أحاديث يرويها بعض الرواة تامة وبعضهم مختصرة فيرويها كما جاءت ليُزيل الشبهة عن ناقلها، ومنها أن الرواة ربما اختلفت عباراتهم فحدث راوٍ بحديث فيه كلمة تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحّت على شرطه، ويفرد لكل لفظة بابًا مفردًا، ومنها أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال ورجح عنده الوصل فاعتمده، وأورد الإرسال منبهًا على أنه لا تأثير له عنده في الموصول، ومنها أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع والحكم فيها كذلك، ومنها أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلاً فى الإسناد ونقصه بعضهم، فيوردها على الوجهين، حيث يصح عنده أن الراوي سمعه من شيخ حدّثه به عن آخر، ثم لقي آخر فحدّثه به، فكان يرويه على الوجهين. ومنها أنه ربما أورد حديثًا عنعنه راويه فيورده من طريق أخرى مصرّحًا فيها بالسماع على ما عرف من طريقه في اشتراط ثبوت اللقاء من المعنعن.
وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره على بعضه أخرى، فلأنه إن كان المتن قصيرًا ومرتبطًا بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعدًا، فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيًا عدم إخلائه من فائدة حديثية وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك، فيستفاد بذلك كثرة الطرق، لذلك الحديث، وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا طريق واحد، فيتصرَّف حينئذ فيه فيورده في موضع موصولاً وفي آخر معلقًا وتارة تامًّا وأخرى مقتصرًا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملاً على جمل متعددة لا تعلّق لإحداها بالأخرى، فإنه يخرّج كل جملة منها في باب مستقل فرارًا من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه. وقد ذكر أنه

وقع في بعض نسخ البخاري في أثناء الحج بعد باب قصر الخطبة بعرفة باب التعجيل إلى الموقف، قال أبو عبد الله: يزاد في هذا الباب حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادًا، وهذا كما قال في مقدمة الفتح يقتضي أنه لا يتعمد أن يخرّج في كتابه حديثًا معادًا بجميع إسناده ومتنه، وإن كان قد وقع له من ذلك شيء فعن غير قصد وهو قليل جدًّا اهـ.

قلت وقد رأيت ورقة بخط الحافظ ابن حجر تعليقًا أحضرها إليّ صاحبنا الشيخ العلامة المحدّث البدر المشهدي نصها: نبذة من الأحاديث التي ذكرها البخاري في موضعين مسندًا ومتنًا، حديث عبد الله بن مغفل "رمى إنسان بجراب فيه شحم" في آخر الخمس وفي الصيد والذبائح، حديث "في نحر البدن في الحج" عن سهل بن بكار عن وهب ذكره في موضعين متقاربين، حديث أنس "أصيب حارثة فقالت أمه في غزوة بدر وفي الرقاق" حديث "أن رجلين خرجا ومعهما مثل المصباحين" في باب المساجد وفي باب انشقاق القمر، حديث أنس "أن عمر استسقى بالعباس" في الاستسقاء ومناقب العباس: حديث أبي بكرة "إذا التقى المسلمان" في باب وإن طائفتان في كتاب الإيمان وفي كتاب الديات، حديث أبي جحيفة "سألت عليًّا هل عندكم شيء" في باب المقاتلة وفي باب لا يقتل مسلم بكافر. حديث حذيفة حدثنا حديثين أحدهما في باب رفع الأمانة من الرقاق وفي باب إذا بقي حثالة من الفتن. حديث أبي هريرة "في قول رجل من أهل البادية

(1/25)


لسنا أصحاب زرع" في كتاب الحرث وفي التوحيد في كلام الرب مع الملائكة. حديث عمر "كانت أموال بني النضير" في باب المجنّ من الجهاد وفي التفسير. حديث أبي هريرة "بينا أيوب يغتسل عريانًا" في أحاديث الأنبياء وفي التوحيد. حديث "لا تقسم ورثتي" في الخمس وقبله في الجهاد. حديث عبد الله بن عمرو "من قتل معاهدًا" في الجزية وباب من قتل معاهدًا، وفي الديات باب "من قتل ذميًّا". حديث أبي سعيد "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره" في الصلاة وفي صفة إبليس. حديث أبي هريرة "وكّلني بحفظ زكاة رمضان" في الوكالة وفي فضائل القرآن. حديث عدي بن حاتم "جاء رجلان أحدهما يشكو العيلة" في الصدقة قبل الردّ وفي علامات النبوّة. حديث أنس "انهزم الناس يوم أُحُد" في غزوة أُحُد وفي الجهاد ومناقب طلحة. حديث أبي موسى "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل" الحديث في علامات النبوّة وفي المغازي وفي التفسير. حديث ابن عباس "هذا جبريل" في غزوة بدر وفي غزوة أُحُد. حديث جابر "أمر عليًّا أن يقيم على إحرامه" في الحج وفي بعث عليّ من المغازي، حديث عائشة "كان يوضع إليّ المركن" في الطهارة وفي الاعتصام. وهذا آخر ما وجدته بخط الحافظ ابن حجر من ذلك، ورأيت في البخاري أيضًا حديث أبي هريرة: "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام" في باب لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، من كتاب الاعتصام وفي تفسير سورة البقرة وفي باب ما يجوز من تفسير التوراة في كتاب التوحيد.
وأما اقتصاره أي البخاري على بعض المتن من غير أن يذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع

له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفًا على الصحابي وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع ويحذف الباقي، لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه، كما وقع له في حديث هذيل بن شرحبيل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون". هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف أوّله "جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني أعتقت عبدًا لي سائبة فمات وترك مالاً ولم يدع وارثًا فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون فأنت وليّ نعمته فلك ميراثه فإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله منك ونجعله في بيت المال" فاقتصر البخاري على ما يعطى حكم الرفع من هذا الموقوف وهو قوله إن أهل الإسلام لا يسيبون، لأنه يستدعي بعمومه النقل عن صاحب الشرع لذلك الحكم، واختصر الباقي لأنه ليس من موضوع كتابه، وهذا من أخفى المواضع التي وقعت له من هذا الجنس. فقد اتضح أنه لا يعيد إلا لفائدة حتى لو لم يظهر لإعادته فائدة من جهة الإسناد ولا من جهة المتن، لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم الذي تشتمل عليه الترجمة الثانية موجبًا لئلا يعدّ تكرارًا بلا فائدة. كيف وهو لا يخليه مع ذلك من فائدة إسنادية وهي إخراجه للإسناد عن شيخ غير الشيخ الماضي أو غير ذلك.

وأما إيراده للأحاديث المعلقة مرفوعة وموقوفة فيوردها تارة مجزومًا بها كقال وفعل فلها حكم الصحيح، وغير مجزوم بها كيروى ويذكر. فالمرفوع تارة يوجد في موضع آخر منه موصولاً وتارة معلقًا، فالأوّل وهو الموصول إنما يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث إذ إنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكام واحتاج إلى تكريره يتصرف في الإسناد بالاختصار خوف التطويل، والثاني وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فأما أن يذكره بصيغة الجزم فيستفاد منه الصحة عن المضاف إلى من علق عنه وجوبًا لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلحق بشرطه ومنه ما لا يلحق، فأما الأوّل فالسبب في كونه لم يوصل إسناده لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراده مستوفيًا ولم يهمله بل أورده معلقًا اختصارًا، أو لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه، أو سمعه مذاكرة فلم يسقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك أنه قال في كتاب

(1/26)


الوكالة: قال عثمان بن الهيثم: حدّثنا عوف حدّثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكّلني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزكاة رمضان" الحديث بطوله، وأورده في مواضع أُخَر منها في فضائل القرآن وفي ذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه. وقد استعمل البخاري هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم، ويأتي لذلك أمثلة كثيرة في مواضعها. فقال في التاريخ: قال إبراهيم بن موسى حدّثنا هشام بن يوسف، فذكر حديثًا، ثم قال: حدّثوني بهذا عن إبراهيم. ولكن ليس ذلك مطّردًا في كل ما أورده بهذه الصيغة. لكن مع هذا الاحتمال لا يجمل حمل جميع ما أورده بهذه الصيغة على

أنه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلسًا عنهم. فقد صرّح الخطيب وغيره بأن لفظ قال: لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلق ذلك إلا فيما سمع، فاقتضى ذلك أن من لم يعرف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال.
وأما ما لا يلتحق بشرطه، فقد يكون صحيحًا على شرط غيره، كقوله في الطهارة. وقالت عائشة: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر الله على كل أحيانه، فإنه حديث صحيح على شرط مسلم أخرجه في صحيحه. وقد يكون حسنًا صالحًا للحجة كقوله فيها: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه الله أحق أن يستحيا منه من الناس. فإنه حديث حسن مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن. وقد يكون ضعيفًا لا من جهة قدح في رجاله بل من جهة انقطاع يسير في إسناده كقوله في كتاب الزكاة.
وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبسِ في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فإن إسناده إلى طاوس صحيح إلا أن طاوسًا لم يسمع من معاذ.
وأما ما يذكره بصيغة التمريض فلا يستفاد منه الصحة عن المضاف إليه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح، فالأوّل لم يوجد فيه ما هو على شرطه إلا في مواضع يسيرة جدًّا ولا يذكرها إلاّ حيث يذكر ذلك الحديث المعلق بالمعنى، ولم يجزم ذلك كقوله في الطب: ويذكر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرقى بفاتحة الكتاب فإنه أسنده في موضع آخر من طريق عبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن نفرًا من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّوا بحي فيه لديغ. فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب. وفيه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أخبروه بذلك أن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله. فهذا لما أورده بالمعنى لم يجزم به إذ ليس في الموصول أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر الرقية بفاتحة الكتاب، إنما فيه أنه لم ينههم عن فعله، فاستفيد ذلك من تقريره.
وأما ما لم يورده في موضع آخر مما أورده بهذه الصيغة فمنه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه كقوله في الصلاة ويذكر عن عبد الله بن السائب قال: قرأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المؤمنون في صلاة الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع، وهو حديث صحيح على شرط مسلم في صحيحه. ومنه ما هو حسن كقوله في البيوع: ويذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا بعت فاكتل". وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبيد الله بن المغيرة وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان وقد وثق عن عثمان وتابعه عليه سعيد بن المسيب. ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع، فالحديث حسن لما عضده من ذلك. ومنه ما هو ضعيف فرد، إلا أن العمل على موافقته كقوله في الوصايا عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قضى بالدين قبل الوصية، وقد رواه الترمذيّ موصولاً من حديث أبي إسحق السبيعي عن الحرث الأعور عن عليّ والحرث ضعيف، وقد استغربه الترمذي ثم حكى إجماع أهل المدينة على القول به. ومنه ما هو ضعيف فرد لا جابر له وهو في

البخاري قليل جدًا،

(1/27)


وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنف بالتضعيف بخلاف ما قبله. ومن أمثلته قوله في كتاب الصلاة: ويذكر عن أبي هريرة رفعه لا يتطوّع الإمام في مكانه. ولم يصح وهو حديث أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سليم عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة، وليث بن أبي سليم ضعيف، وشيخ شيخه لا يعرف، وقد اختلف عليه فيه، فهذا حكم جميع ما في البخاري من التعاليق المرفوعة بصيغتي الجزم والتمريض.
وأما الموقوفات فإنه يجزم فيها بما صح عنده ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلا حيث يكون منجبرًا إما بمجيئه من وجه آخر وإما بشهرته عمّن قاله، وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، وكتفاسيرهم لكثير من الآيات على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال جميع ما يورده فيه إما أن يكون مما ترجم به أو مما ترجم له، فالمقصود في هذا التأليف بالذات هو الأحاديث الصحيحة وهي التي ترجم لها. والمذكور بالعرض والتبع الآثار الموقوفة والآثار المعلقة، نعم والآيات المكرّمة. فجميع ذلك مترجم به، إلا أنه إذا اعتبر بعضها مع بعض واعتبرت أيضًا بالنسبة إلى الحديث يكون بعضها مع بعض منها مفسر ومفسر، ويكون بعضها كالمترجم له باعتبار، ولكن المقصود بالذات هو الأصل. فقد ظهر أن موضوعه إنما هو للمسندات والمعلق ليس بمسند، ولذا لم يتعرّض الدارقطني فيما تتبعه على الصحيحين إلى الأحاديث والمعلقات، لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتاب، وإنما ذكرت استئناسًا واستشهادًا اهـ. من مقدّمة فتح الباري بحروفه وبالله تعالى التوفيق والمستعان.
وأما عدد أحاديث الجامع فقال ابن الصلاح سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون بتأخير الموحدة عن السين فيهما بالأحاديث المكررة، وتبعه النووي وذكرها مفصلة، وساقها ناقلاً لها من كتاب جواب المتعنت لأبي الفضل بن طاهر، وتعقب ذلك الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى بابًا بابًا محرّرًا ذلك، وحاصله أنه قال جميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات على ما حرّرته وأتقنته سبعة آلاف بالموحدة بعد السين وثلثمائة وسبعة وتسعون حديثًا، فقد زاد على ما ذكروه مائة حديث واثنين وعشرين حديثًا. والخالص من ذلك بلا تكرار ألفا حديث وستمائة وحديثان. وإذا ضم له المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر منه وهي مائة وتسعة وخمسون صار مجموع الخالص ألفي حديث وسبعمائة وإحدى وستين حديثًا. وجملة ما فيه من التعاليق ألف وثلثمائة وأحد وأربعون حديثًا وأكثرها مكرر مخرج في الكتاب أصول متونه، وليس فيه من المتون التي لم تخرج في الكتاب، ولو من طريق أخرى إلا مائة وستون حديثًا. وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلثمائة وأربعة وأربعون حديثًا. فجملة ما في الكتاب على هذا بالمكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثًا خارجًا عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات على التابعين فمن بعدهم.

وأما عدد كتبه فقال في الكواكب إنها مائة وشيء وأبوابه ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسون بابًا مع اختلاف قليل في نسخ الأصول.
وعدد مشايخه الذين صرح عنهم فيه مائتان وتسعة وثمانون. وعدد من تفرّد بالرواية عنهم دون مسلم مائة وأربعة وثلاثون. وتفرّد أيضًا بمشايخ لم تقع الرواية عنهم لبقية أصحاب الكتب الخمسة إلا بالواسطة. ووقع له اثنان وعشرون حديثًا ثلاثيات الإسناد والله سبحانه الموفّق والمعين.
وأما فضيلة الجامع الصحيح فهو كما سبق أصح الكتب المؤلفة في هذا الشأن، والمتلقى بالقبول من العلماء في كل أوان، قد فاق أمثاله في جميع الفنون والأقسام، وخصّ بمزايا من بين دواوين الإسلام، شهد له بالبراعة والتقدّم الصناديد العظام والأفاضل الكرام، ففوائده أكثر من أن تحصى وأعز من أن تستقصى، وقد أنبأني غير واحد عن المسندة الكبيرة عائشة بنت محمد بن عبد الهادي أن أحمد بن أبي طالب أخبرهم عن

(1/28)


عبد الله بن عمر بن علي، أن أبا الوقت أخبرهم عنه سماعًا قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الهرويّ شيخ الإسلام، سمعت خالد بن عبد الله المروزي يقول: سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي يقول: سمعت أبا زيد المروزي يقول: "كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعيّ وما تدرس كتابي، فقلت يا رسول الله وما كتابك، قال: جامع محمد بن إسماعيل".
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وأما جامع البخاري الصحيح فأجلّ كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى. قال وهو أعلى في وقتنا هذا إسنادًا للناس ومن ثلاثين سنة يفرحون بعلوّ سماعه، فكيف اليوم، فلو رحل الشخص لسماعه من ألف فرسخ لما ضاعت رحلته اهـ. وهذا ما قاله الذهبيّ رحمه الله في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. وروى بالإسناد الثابت عن البخاري أنه قال: رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبّ بها عنه فسألت بعض المعبرين فقال لي: أنت تذبّ عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. وقال ما كتبت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصلّيت ركعتين. وقال خرّجته من نحو ستمائة ألف حديث وصنّفته في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وقال: ما أدخلت فيه إلا صحيحًا وما تركت من الصحيح أكثر حتى لا يطول. وقال: صنّفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى وصلّيت ركعتين وتيقنت صحته.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والجمع بين هذا وبين ما روى أنه كان يصنفه في البلاد أنه ابتدأ تصنيفه وترتيب أبوابه في المسجد الحرام، ثم كان يخرج الأحاديث بعد ذلك في بلده وغيرها، ويدل عليه قوله أنه أقام فيه ست عشرة سنة، فإنه لم يجاور بمكة هذه المدة كلها.

وقد روى ابن عدي عن جماعة من المشايخ أن البخاري حوّل تراجم جامعه بين قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنبره كان يصلي لكل ترجمة ركعتين، ولا ينافي هذا أيضًا ما تقدم لأنه يحمل على أنه في الأوّل كتبه في المسودّة، وهنا حوّله من المسودّة إلى المبيضّة.
وقال الفربري: قال لي محمد بن إسماعيل: ما وضعت في الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين، وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنفات.
وقال الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة: قال لي مَن لقيت من العارفين عمّن لقيه من السادة المقرّ لهم بالفضل إن صحيح البخاري ما قرىء في شدة إلاّ فرجت، ولا ركب به في مركب فغرقت. قال وكان مُجاب الدعوة وقد دعا لقارئه رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير: وكتاب البخاري الصحيح يستسقى بقراءته الغمام، وأجمع على قبوله وصحة ما فيه أهل الإسلام. وما أحسن قول البرهان القيراطي رحمه الله:
حدّث وشنف بالحديث مسامعي ... فحديث من أهوى حليّ مسامعي
لله ما أحلى مكرره الذي ... يحلو ويعذب في مذاق السامع
بسماعه نلت الذي أملته ... وبغلت كل مطالبي ومطامعي
وطلعت في أفق السعادة صاعدًا ... في خير أوقات وأسعد طالع
ولقد هديت لغاية القصد التي ... صحّت أدلته بغير ممانع
وسمعت نصًّا للحديث معرفًا ... مما تضمنه كتاب الجامع
وهو الذي يتلى إذا خطب عرا ... فتراه للمحذور أعظم دافع
كم من يد بيضا حواها طرسه ... تومي إلى طرق العلا بأصابع
وإذا بدا بالليل أسود نقشه ... يجلو علينا كل بدر ساطع
ملك القلوب به حديث نافع ... مما رواه مالك عن نافع
في سادة ما إن سمعت بمثلهم ... من مسمع عالي السماع وسامع

(1/29)


وقراءة القاري له ألفاظه ... تغريدها يزري بسجع الساجع
(وقول الآخر):
وفتى بخارا عند كل محدّث ... هو في الحديث جهينة الأخبار
لكتابه الفضل المبين لأنه ... أسفاره في الصبح كالأسفار
كم أزهرت بحديثه أوراقه ... مثل الرياض لصاحب الأذكار
ألفاته مثل الغصون إذا بدت ... من فوقها الهمزات كالأطيار
بجوامع الكلم التي اجتمعت به ... متفرّقات الزهر والأزهار

وقول الشيخ أبي الحسن عليّ بن عبيد الله بن عمر الشقيع بالشين المعجمة والقاف المكسورة المشددة وبعد التحتية الساكنة عين مهملة النابلسي المتوفى بالقاهرة سنة ست عشرة وتسعمائة:
ختم الصحيح بحمد ربي وانتهى ... وأرى به الجاني تقهقر وانتهى
فسقى البخاري جود جود سحائب ... ما غابت الشعرى وما طلع السها
الحافظ الثقة الإمام المرتضى ... من سار في طلب الحديث وما وهى
طلب الحديث بكل قطر شاسع ... وروى عن الجم الغفير أُولي النهى
ورواه خلق عنه وانتفعوا به ... وبفضله اعترف البرية كلها
بحر بجامعه الصحيح جواهر ... قد غاصها فاجهد وغص إن رمتها
وروى أحاديثًا معنعنة زهت ... تحلو لسامعها إذا كررتها
وللإمام أبي الفتوح العجلي:
صحيح البخاريّ يا ذا الأدب ... قويّ المتون عليّ الرتب
قويم النظام بهيج الرواء ... خطير يروج كنقد الذهب
فتبيانه موضح المعضلات ... وألفاظه نخبة للنخب
مفيد المعاني شريف المعالي ... رشيق أنيق كثير الشعب
سما عزّه فوق نجم السماء ... فكل جميل به يجتلب
سناء منير كضوء الضحا ... ومتن مزيج لشوب الريب
كان البخاريّ في جمعه ... تلقى من المصطفى ما اكتتب
فلله خاطره إذ وعى ... وساق فرائده وانتخب
جزاه الإله بما يرتضي ... وبلغه عاليات القرب
ْولابن عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني الأديب رحمه الله تعالى:
صحيح البخاريّ لو أنصفوه ... لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى ... هو السدّ دون العنا والعطب
أسانيد مثل نجوم السماء ... أمام متون كمثل الشهب
به قام ميزان دين النبي ... ودان له العجم بعد العرب
حجاب من النار لا شك فيه ... يميز بين الرضا والغضب
وخير رفيق إلى المصطفى ... ونور مبين لكشف الريب
فيا عالمًا أجمع العالمون ... على فضل رتبته في الرتب
سبقت الأئمة فيما جمعت ... وفزت على رغمهم بالقصب
نفيت السقيم من الغافلين ... ومن كان متهمًا بالكذب

وأثبت من عدّلته الرواة ... وصحّت روايته في الكتب
وأبرزت في حسن ترتيبه ... وتبويبه عجبًا للعجب

(1/30)


فأعطاك ربك ما تشتهيه ... وأجزل حظك فيما يهب
وخصك في عرصات الجنان ... بخير يدوم ولا يقتضب
فلله دره من تأليف رفع علم علمه بمعارف معرفته، وتسلسل حديثه بهذا الجامع فأكرم بسنده العالي ورفعته، انتصب لرفع بيوت أذن الله أن ترفع، فيا له من تصنيف تسجد له جباه التصانيف إذا تليت آياته وتركع، هتك بأنوار مصابيحه المشرقة من المشكلات كل مظلم، واستمدت جداول العلماء من ينابيع أحاديثه التي ما شك في صحتها مسلم، فهو قطب سماء الجوامع، ومطالع الأنوار اللوامع، فالله تعالى يبوّىء مؤلفه في الجنان منازل مرفوعة، ويكرمه بصلات عائدة غير مقطوعة ولا ممنوعة.

الفصل الخامس
في ذكر نسب البخاري ونسبته ومولده وبدء أمره ونشأته وطلبه للعلم وذكر بعض شيوخه ومن أخذ عنه ورحلته وسعة حفظه وسيلان ذهنه وثناء الناس عليه بفقهه وزهده وورعه وعبادته وما ذكر من محنته ومنحته بعد وفاته وكرامته
هو الإمام حافظ الإسلام خاتمة الجهابذة النقاد الأعلام، شيخ الحديث وطبيب علله في القديم والحديث، إمام الأئمة عجمًا وعربًا، ذو الفضائل التي سارت السراة بها شرفًا وغربًا، الحافظ الذي لا تغيب عنه شاردة، والضابط الذي استوت لديه الطارفة والتالدة، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بضم الميم وكسر المعجمة ابن بردزبه بفتح الموحدة وسكون الراء يعدها دال مهملة مكسورة فزاي ساكنة فموحدة مفتوحة فهاء على المشهور في ضبطه وبه جزم ابن ماكولا وهو بالفارسية الزراع الجعفي ضم الجيم وسكون العين المهملة بعدها فاء وكان بردزبه فارسيًا على دين قومه ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفي وإلي بخارى فنسب إليه نسبة ولاء عملاً بمذهب من يرى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له، ولذا قيل للبخاري الجعفي، ويمان هذا هو جد المحدث عبد الله بن محمد بن جعفر بن يمان الجعفي المسندي. قال الحافظ ابن حجر وأما إبراهيم بن المغيرة فلم نقف على شيء من أخباره، وأما والد البخاري محمد فقد ذكرت له ترجمة في كتاب الثقات لابن حبان فقال في الطبقة الرابعة: إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري، يروي عن حماد بن زيد ومالك، روى عنه العراقيون وذكره ولده في التاريخ الكبير، فقال إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سمع من مالك وحماد بن زيد وصحب ابن المبارك، وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وكان أبو البخاري من العلماء الورعين وحدّث عن أبي معاوية وجماعة وروى عنه أحمد بن جعفر ونصر بن الحسين، قال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن إسماعيل بن إبراهيم عند موته فقال لا أعلم في جميع مالي درهمًا من شبهة، فقال أحمد فتصاغرت إليّ نفسي عند ذلك. وكان مولد أبي عبد الله البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوّال. وقال ابن كثير ليلة الجمعة الثالث عشر من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى وهي بضم الموحدة وفتح الخاء

المعجمة وبعد الألف راء، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينها وبين سمرقند ثمانية أيام، وتوفي أبوه إسماعيل وهو صغير فنشأ يتيمًا في حجر والدته، وكان أبو عبد الله البخاري نحيفًا ليس بالطويل ولا بالقصير، وكان فيما ذكره غنجار في تاريخ بخارى واللالكائي في شرح السُّنَّة في باب كرامات الأولياء: قد ذهبت عيناه في صغره فرأت أمه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في المنام فقال لها: قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له فأصبح وقد رد الله عليه بصره، وأما بدء أمره فقد رُبيَّ في حجر العلم حتى ربا، وارتضع ثدي الفضل فكان فطامه على هذا اللبا.
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: قلت للبخاري كيف كان بدء أمرك؟ قال: ألهمت الحديث في المكتب ولي عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من المكتب بعد

(1/31)


العشر فجعلت أختلف إلى الداخليّ وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام، قلت هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم مني وأصلح كتابه. وقال صدقت فقال بعض أصحاب البخاري له ابن كم كنت: قال ابن إحدى عشرة سنة فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء يعني أصحاب الرأي، ثم خرجت مع أخي أحمد وأمي إلى مكة فلما حججت رجع أخي إلى بخارى فمات بها، -وكان أخوه أسنّ منه وأقام هو بمكة لطلب الحديث- قال ولا طعنت في ثماني عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، قال: وصنفت التاريخ الكبير إذ ذاك عند قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الليالي المقمرة، وقلّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب.
وقال أبو بكر بن أبي عتاب الأعين: كتبنا عن محمد بن إسماعيل وهو أمرد على باب محمد بن يوسف الفريابي وما في وجهه شعرة. وكان موت الفريابي سنة اثنتي عشرة ومائتين فيكون للبخاري إذ ذاك نحو من ثمانية عشر عامًا أو دونها.

وأما رحلته لطلب الحديث فقال الحافظ ابن حجر أوّل رحلته بمكة سنة عشر ومائتين، قال ولو رحل أوّل ما طلب لأدرك ما أدركه أقرانه من طبقة عالية ما أدركها وإن كان أدرك ما قاربها كيزيد بن هارون وأبي داود الطيالسي، وقد أدرك عبد الرزاق وأراد أن يرحل إليه وكان يمكنه ذلك فقيل له إنه مات فتأخر عن التوجّه إلى اليمن، ثم تبيّن أن عبد الرزاق كان حيًّا فصار يروي عنه بواسطة، ثم ارتحل بعد أن رجع من مكة إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها. وقال الذهبي وغيره وكان أوّل سماعه سنة خمس ومائتين ورحل سنة عشر ومائتين بعد أن سمع الكثير ببلده من سادة وقته محمد بن سلام البيكندي وعبد الله بن محمد المسندي ومحمد بن عرعرة وهارون بن الأشعث وطائفة، وسمع ببلخ من مكّي بن إبراهيم ويحيى بن بشر الزاهد وقتيبة

وجماعة، وإن مكّي أحد مَن حدّثه عن ثقات التابعين، وسمع بمرو من علي بن شقيق وعبدان ومعاذ بن أسد وصدقة بن الفضل وجماعة، وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى وبشر بن الحكم وإسحق وعدة، وبالري من إبراهيم بن موسى الحافظ وغيره، وببغداد من محمد بن عيسى بن الطباع وشريح بن النعمان وطائفة، وقال: دخلت على معلى بن منصور ببغداد سنة عشر ومائتين، وسمع بالبصرة من أبي عاصم النبيل وبدل بن المحبر ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الرحمن بن محمد بن حماد وعمر بن عاصم الكلابي وعبد الله بن رجاء الغداني وطبقتهم، وبالكوفة من عبيد الله بن موسى وأبي نعيم وطلق بن غنام والحسن بن عطية وهما أقدم شيوخه موتًا وخلاد بن يحيى وخالد بن مخلد وفروة بن أبي المغراء وقبيصة وطبقتهم، وبمكة من أبي عبد الرحمن المقري والحميدي وأحمد بن محمد الأزرقي وجماعة، وبالمدينة من عبد العزيز الأويسي ومطرف بن عبد الله وأبي ثابت محمد بن عبد الله وطائفة، وبواسط من عمرو بن محمد بن عون وغيره، وبمصر من سعيد بن أبي مريم وعبد الله بن صالح الكاتب وسعيد بن تليد وعمرو بن الربيع بن طارق وطبقتهم، وبدمشق من أبي مسهر شيئًا يسيرًا ومن أبي النضر الفراديسي وجماعة، وبقيسارية من محمد بن يوسف الفريابي، وبعسقلان من آدم بن أبي إياس، وبحمص من أبي المغيرة وأبي اليمان وعلي بن عيّاش وأحمد بن خالد الوهبي ويحيى الوحاظي اهـ.
وعن محمد بن أبي حاتم عنه أنه قال كتبت عن ألف وثمانين نفسًا ليس فيهم إلا صاحب حديث. وقال أيضًا: لم أكتب إلاّ عمن قال: الإيمان قول وعمل، وقد حصرهم الحافظ ابن حجر في خمس طبقات: الأولى: من حدّث عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري حدّثه عن حميد، ومثل مكّي بن إبراهيم حدّثه عن يزيد بن أبي عبيد، ومثل أبي عاصم النبيل حدّثه عن يزيد بن أبي عبيد أيضًا، ومثل عبيد الله بن موسى حدّثه عن إسماعيل بن أبي خالد، ومثل أبي

(1/32)


نعيم حدّثه عن الأعمش، ومثل خلاد بن يحيى حدّثه عن عيسى بن طهمان، ومثل علي بن عياش وعصام بن خالد حدّثاه عن جرير بن عثمان، وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين. الطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم بن أبي إياس وأبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر وسعيد بن أبي مريم وأيوب بن سليمان بن بلال وأمثالهم. الطبقة الثالثة: وهي الوسطى من مشايخه وهم من لم يلقَ التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع كسليمان بن حرب وقتيبة بن سعيد ونعيم بن حماد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة وأمثال هؤلاء، وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم. الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلاً كمحمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة وعبد بن حميد وأحمد بن النضر وجماعة من نظرائهم وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه أو ما لم يجده عند غيرهم. الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإسناد سمع منهم للفائدة كعبد الله بن حماد الآملي وعبد الله بن أبي القاضي الخوارزمي وحسين بن محمد القباني وغيرهم، وقد
روى عنهم أشياء يسيرة وعمل في الرواية عنهم بما روى عثمان بن أبي شيبة عن وكيع قال: لا يكون الرجل عالمًا حتى يحدّث عمّن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه اهـ. وعن البخاري أنه قال: لا يكون المحدث كاملاً حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه اهـ. وقال التاج السبكي وذكره يعني البخاري أبو عاصم في طبقات أصحابنا الشافعية. وقال: إنه سمع من الزعفراني وأبي ثور والكرابيسي قال: ولم يروِ عن الشافعي في الصحيح لأنه أدرك أقرانه والشافعي مات مكتهلاً فلا يرويه نازلاً. وروى عن الحسين وأبي ثور مسائل عن الشافعي وما برح رحمه الله تعالى يدأب ويجتهد حتى صار أنظر أهل زمانه وفارس ميدانه والمقدّم على أقرانه، وامتدت إليه الأعين وانتشر صيته في البلدان، ورحل إليه من كل مكان.

وأما من أخذ عن البخاري فقال الذهبي وغيره أنه حدّث بالحجاز والعراق وما وراء النهر وكتبوا عنه وما في وجهه شعرة، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم قديمًا، وروى عنه من أصحاب الكتب الترمذي والنسائي على نزاع في النسائي والأصح أنه لم يرو عنه شيئًا، وروى عنه مسلم في غير الصحيح ومحمد بن نصر المروزي الفقيه وصالح بن محمد جزرة الحافظ وأبو بكر بن أبي عاصم ومطين وأبو العباس السراج وأبو بكر بن خزيمة وأبو قريش محمد بن جمعة ويحيى بن أبي صاعد وإبراهيم بن معقل النسفي ومهيب بن سليم وسهل بن شاذويه ومحمد بن يوسف الفربري ومحمد بن أحمد بن دلويه وعبد الله بن محمد الأشقر ومحمد بن هارون الحضرمي والحسين بن إسماعيل المحاملي وأبو علي الحسن بن محمد الداركي وأحمد بن حمدون الأعمش وأبو بكر بن أبي داود ومحمد بن محمود بن عنبر النسفي وجعفر بن محمد بن الحسن الجزري وأبو حامد بن الشرقي وأخوه أبو محمد عبد الله ومحمد بن سليمان بن فارس ومحمد بن المسيب الأرغياني ومحمد بن هارون الروياني وخلق.
وآخر من روى عنه الجامع الصحيح منصور بن محمد البزدوي سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وآخر من زعم أنه سمع من البخاري موتًا أبو ظهير عبد الله بن فارس البلخي المتوفى سنة ست وأربعين وثلثمائة، وآخر من روى حديثه عاليًّا خطيب الموصل في الدعاء للمحاملي بينه وبينه ثلاثة رجال.
وأما ذكاؤه وسعة حفظه وسيلان ذهنه فقيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا. وروي أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة. وقال محمد بن أبي حاتم وراقه سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنّا نقول له فقال: إنكما قد أكثرتما عليّ فاعرضا عليّ ما كتبتما فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد ذلك على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلبه حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا وأضيع

(1/33)


أيامي، فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. قالا: فكان أهل المعرفة يغدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه وكان شابًّا. وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت سليمان بن مجاهد يقول كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال لي: لو

جئت قبل لرأيت صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث. قال فخرجت في طلبه فلقيته فقلت أنت الذي تقول أنا أحفظ سبعين ألف حديث قال: نعم وأكثر ولا أجيبك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا من عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظًا عن كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقال ابن عدي حدّثني محمد بن أحمد القوسي سمعت محمد بن حمرويه يقول سمعت محمد بن إسماعيل يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح. وقال أخرجت هذا الكتاب يعني الجامع الصحيح من نحو ستمائة ألف حديث، وقال دخلت بلخ فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه فأمليت ألف حديث عن ألف شيخ، وقال تذكرت يومًا في أصحاب أنس فحضرني في ساعة ثلثمائة نفس، وقال ورّاقه عمل كتابًا في الهبة فيه نحو خمسائة حديث. وقال ليس في كتاب وكيع في الهبة إلاّ حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوها. وقال أيضًا سمعت البخاري يقول كنت في مجلس الفريابي فسمعته يقول حدثنا سفيان عن أبي عروبة عن أبي الخطاب عن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يطوف على نسائه في غسل واحد، فلم يعرف أحد في المجلس أبا عروبة ولا أبا الخطاب، فقلت أما أبو عروبة فمعمر وأما أبو الخطاب فقتادة. وكان الثوري فعولاً لهذا يكني المشهورين. وقال محمد بن أبي حاتم أيضًا قدم رجاء الحافظ فقال لأبي عبد الله: ما أعددت لقدومي حين بلغك؟ وفي أي شيء نظرت، قال ما أحدثت نظرًا ولا استعددت لذلك فإن أحببت أن تسأل عن شيء فافعل، فجعل يناظره في أشياء فبقي رجاء لا يدري، ثم قال أبو عبد الله هل لك في الزيادة فقال استحياء منه وخجلاً نعم، ثم قال: سل إن شئت فأخذ في أسامي أيوب فعدّ نحوًا من ثلاثة عشر وأبو عبد الله ساكت، فظن رجاء أنه قد صنع شيئًا فقال يا أبا عبد الله فاتك خير كثير، فزيّف أبو عبد الله في أولئك سبعة وأغرب عليه أكثر من ستين رجلاً، ثم قال لرجاء كم رويت في العمامة السوداء؟ قال هات كم رويت أنت، قال يروى من أربعين حديثًا فخجل رجاء ويبس ريقه.
وأما كثرة اطّلاعه على علل الحديث فقد روينا عن مسلم بن الحجاج أنه قال له: دعني أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، وقال الترمذي: لم أرَ أحدًا بالعراق ولا بخراسان في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل، وقال محمد بن أبي حاتم سمعت سليم بن مجاهد يقول سمعت أبا الأزهر يقول: كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد العراق في إسناد الشام وإسناد الحرم في إسناد اليمن فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة لا في الإسناد ولا في المتن. وقال أحمد بن عدي الحافظ: سمعت عدة من المشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فاجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى كل

واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس امتحانًا فاجتمع الناس من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من تلك العشرة فقال: لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه حتى فرغ العشرة فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم، ومن كان لا يدري قضى عليه بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كفعل الأوّل والبخاري يقول لا أعرفه إلى أن فرغ العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى الأوّل

(1/34)


فقال: أما حديثك الأوّل فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. وقال يوسف بن موسى المروزي: كنت بجامع البصرة فسمعت مناديًا ينادي يا أهل العلم لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فقاموا في طلبه، وكنت فيهم فرأيت رجلاً شابًّا ليس في لحيته بياض يصلي خلف الأسطوانة فلما فرغ أحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانيًا ينادي في جامع البصرة فقال: يا أهل العلم لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فسألناه بأن يعقد مجلس الإملاء فأجاب بأن يجلس غدًا في موضع كذا، فلما كان من الغد حضر المحدثون والحفاظ والفقهاء والنظار حتى اجتمع قريب من كذا وكذا ألف نفس، فجلس أبو عبد الله للإملاء فقال قبل أن يأخذ في الإملاء: يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدّثكم أحاديث عن أهل بلدتكم تستفيدونها يعني ليست عندكم، فتعجب الناس من قوله، فأخذ في الإملاء فقال: حدّثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي روّاد العتكي بلديكم، قال: حدّثنا أبي عن شعبة عن منصور وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن أعربيًّا جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله الرجل يحب القوم الحديث. ثم قال: هذا ليس عندكم عن منصور إنما هو عندكم عن غير منصور. قال يوسف بن موسى فأملى مجلسًا على هذا النسق يقول في كل حديث روى فلان هذا الحديث وليس عندم كذا فأما رواية فلان يعني التي يسوقها فليست عندكم.
وقال الحافظ أبو حامد الأعمى كنا عند البخاري بنيسابور فجاء مسلم بن الحجاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر قال: "بعثنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سرية ومعنا أبو عبيدة" الحديث بطوله. فقال البخاري: "حدّثنا ابن أبي أويس حدّثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله" فذكر الحديث بتمامه. قال فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمد عن ابن جريح عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "كفارة المجلس إذا قام العبد أن يقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك".
فقال له مسلم في الدنيا أحسن من هذا الحديث. ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح يعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا. فقال له محمد بن إسماعيل: إلا أنه معلول. فقال مسلم لا إله إلاّ الله وارتعد. أخبرني به، فقال: استر ما ستر الله تعالى، هذا حديث جليل رواه الناس عن
حجاج بن محمد عن ابن جريج فألحّ عليه وقبل رأسه وكاد يبكي. فقال اكتب إن كان ولا بدّ: حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا وهيب حدّثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كفّارة المجلس. فقال له مسلم: لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك، وقد روى هذه القصة البيهقي في المدخل عن الحاكم أبي عبد الله على سياق آخر، فقال: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد الوراق يقول سمعت أحمد بن حمدون القصار هو أبو حامد الأعمش يقول سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل فقبّل بين عينيه وقال دعني حتى أقبّل رجلك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدّثين وطبيب الحديث في علله، حدّثك محمد بن سلام حدّثنا محمد بن مخلد بن يزيد، قال أخبرنا ابن جريج حدّثنا موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كفّارة المجلس، فقال محمد بن إسماعيل وحدّثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قالا حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج، حدّثني موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "كفّارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه سبحانك اللهمَّ ربنا وبحمدك" فقال محمد بن إسماعيل هذا حديث مليح ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا غير هذا، إلا أنه معلول. حدّثنا به موسى بن إسماعيل، حدّثنا

(1/35)


وهيب حدّثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله: قال محمد بن إسماعيل هذا أولى. ولا يذكر لموسى بن عقبة مسندًا عن سهيل. وقال الحافظ أحمد بن حمدون رأيت البخاريّ في جنازة ومحمد بن يحيى الذهليّ يسأله عن الأسماء والعلل والبخاريّ يمر فيه كالسهم كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
وأما تآليفه فإنها سارت مسير الشمس ودارت في الدنيا فما جحد فضلها إلا الذي يتخبطه الشيطان من المسّ وأجلّها وأعظمها الجامع الصحيح. ومنها الأدب المفرد ويرويه عنه أحمد بن محمد الجليل بالجيم لبزار. ومنها برّ الوالدين ويرويه عنه محمد بن دلويه الوراق. ومنها التاريخ الكبير الذي صنفه كما مرّ عند قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الليالي المقمرة ويرويه عنه أبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس وأبو الحسن محمد بن سهل النسويّ وغيرهما. ومنها التاريخ الأوسط ويرويه عنه عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف وزنجويه بن محمد اللباد. ومنها التاريخ الصغير ويرويه عنه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأشقر. ومنها خلق أفعال العباد الذي صنفه بسبب ما وقع بينه وبين الذهلي كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ويرويه عنه يوسف بن ريحان بن عبد الصمد والفربري أيضًا.
وكتاب الضعفاء يرويه عنه أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابيّ وأبو جعفر مسبح بن سعيد وآدم بن موسى الحواري. قال الحافظ ابن حجر: وهذه التصانيف موجودة مروية لنا بالسماع والإجازة. قال ومن تصانيفه الجامع الكبير ذكره ابن طاهر، والمسند الكبير والتفسير الكبير ذكره الفربري، وكتاب الأشربة ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف، وكتاب الهبة ذكره ورّاقه، وأسامي الصحابة ذكره أبو القاسم بن منده، وأنه يرويه من طريق ابن فارس عنه، وقد نقل منه أبو القاسم البغوي الكثير في معجم الصحابة له كذا ابن منده في المعرفة، ونقل عنه في كتاب الوحدان له وهو

من ليس له إلا حديث واحد من الصحابة، وكتاب المبسوط ذكره الخليل في الإرشاد وأن مهيب بن سليم رواه عنه في كتاب العلل وذكره أبو القاسم بن منده أيضًاً وأنه يرويه عن محمد بن عبد الله بن حمدون عن أبي محمد عبد الله بن الشرقي عنه، وكتاب الكنى ذكره الحاكم أبو أحمد ونقل منه، وكتاب الفوائد ذكره الترمذي في أثناء كتاب المناقب من جامعه.
ومن شعره مما أخرجه الحاكم في تاريخه:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلته
ولما نعي إليه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد:
إن عشرت تفجع بالأحبة كلهم ... وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع
وأما ثناء الناس عليه بالحفظ والورع والزهد وغير ذلك فقد وصفه غير واحد بأنه كان أحفظ أهل زمانه وفارس ميدانه، كلمة شهد له بها الموافق والمخالف، وأقرّ بحقيقتها المعادي والمحالف.
قال الشيخ تاج الدين السبكي في طبقاته: كان البخاري إمام المسلمين وقدوة المؤمنين وشيخ الموحدين والمعوّل عليه في أحاديث سيد المرسلين. قال وقد ذكره أبو عاصم في طبقات أصحابنا الشافعية، وقال سمع من الزعفراني وأبي ثور والكرابيسي، قال: ولم يرو عن الشافعي في الصحيح لأنه أدرك أقرانه والشافعي مات مكتهلاً فلا يرويه نازلاً اهـ. نعم ذكر البخاري الشافعي في صحيحه في موضعين في الزكاة وفي تفسير العرايا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه البداية والنهاية: كان إمام الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدّم على سائر أضرابه وأقرانه.
وقال قتيبة بن سعيد: جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل وهو في زمانه كعمر في الصحابة، وقال أيضًا: لو كان في الصحابة لكان آية.
وقال أحمد بن حنبل فيما رواه الخطيب بسند صحيح: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير أنه دخل بغداد ثمان مرات وفي كل مرة منها يجتمع بالإمام أحمد بن حنبل فيحثّه على الإقامة

(1/36)


ببغداد ويلومه على الإقامة بخراسان.
وقال يعقوب بن إبراهيم الدورقي ونعيم الخزاعي: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.
وقال بندار بن بشار: هو أفقه خلق الله في زماننا. وقال نعيم بن حماد: هو فقيه هذه الأمة.
وقال إسحق بن راهويه: يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فإنه لو كان

في زمن الحسن البصريّ لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفقهه وقد فضّله بعضهم في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه. وقال رجاء بن مرجى: فضل محمد بن إسماعيل (يعني في زمانه) على العلماء كفضل الرجال على النساء وهو آية من آيات الله يمشي على الأرض. وقال الفلاس: كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث. وقال يحيى بن جعفر البيكندي: لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم. وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل. وقال أبو سهل محمود بن النضر الفقيه: سمعت أكثر من ثلاثين عالمًا من علماء مصر يقولون حاجتنا في الدنيا النظر إلى محمد بن إسماعيل. وقال أيضًا: كنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفًا، وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحق بن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري. وقال عبد الله بن حماد الآملي: لوددت أني كنت شعرة في جسد محمد بن إسماعيل، وقال محمد بن عبد الرحمن الدغولي: كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل كتابًا فيه:
المسلمون بخير ما بقيت لهم ... وليس بعدك خير حين تفتقد
وكان رحمه الله غاية في الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في دار الدنيا دار الفناء والرغبة في دار البقاء، وكان يختم في رمضان في كل يوم ختمة ويقوم بعد صلاة التراويح كل ثلاث ليال بختمة، وقال ورّاقه: كان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة. وقال أيضًا دعي محمد بن إسماعيل إلى بستان فلما صلى بهم الظهر قام يتطوّع، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه وقال لبعض من معه انظر هل ترى تحت قميصي شيئًا فإذا زنبور قد لسعه في ستة عشر أو سبعة عشر موضعًا وقد تورّم من ذلك جسده، فقال له بعض القوم كيف لم تخرج من الصلاة أوّل ما لسعك؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمّها، وقال أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا ويشهد لهذا كلامه في التجريح والتضعيف، فإنه أبلغ ما يقول في الرجل المتروك أو الساقط فيه نظر أو سكتوا عنه ولا يكاد يقول فلان كذاب. وقال ورّاقه سمعته يقول لا يكون لي خصم في الآخرة، فقلت يا أبا عبد الله إن بعض الناس ينقم عليك التاريخ يقول فيه اغتياب الناس، فقال إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا. وقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بئس أخو العشيرة. وقال ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها، وكان قد ورث من أبيه مالاً كثيرًا فكان يتصدق به. وكان قليل الأكل جدًا كثير الإحسان إلى الطلبة مفرطًا في الكرم. وحمل إليه بضاعة أنفذها إليه أبو حفص فجاءه من الغد تجار آخرون يطلبونها بربح عشرة آلاف درهم فردّهم وقال إني نويت البارحة بيعها للذين أتوا البارحة ولا أحب أن أغيّر نيّتي. وجاءته جاريته فعثرت على محبرة بين يديه فقال لها كيف تمشين؟ فقالت إذا لم تكن طريق فكيف أمشي. فقال اذهبي فأنت حرة لوجه الله، فقيل له يا أبا

عبد الله أغضبتك وأعتقتها قال أرضيت نفسي بما فعلت. وقال ورّاقه إنه كان يبني رباطًا مما يلي بخارى فاجتمع بشر كثير يعينونه على ذلك وكان ينقل اللبن فكنت أقول له إنك تكفى ذلك فيقول هذا الذي ينفعني، وكان ذبح لهم بقرة فلما أدركت القدور دعا الناس إلى الطعام وكان بها مائة نفس أو أكثر ولم يكن علم أنه اجتمع ما اجتمع، وكنا أخرجنا خبزًا بثلاثة دراهم أو أقل، فأكل جميع من حضر وفضلت

(1/37)


أرغفة.
ولما قدم نيسابور تلقاه أهلها من مرحلتين أو ثلاث، وكان محمد بن يحيى الذهليّ في مجلسه فقال: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدًا فليستقبله فإني أستقبله، فاستقبله الذهلي وعامّة علماء نيسابور فدخلها فقال الذهلي لأصحابه: لا تسألوه عن شيء من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه وقع بيننا وبينه وشمت بنا كل ناصبيّ ورافضيّ وجهميّ ومرجئيّ، فازدحم الناس على البخاري حتى امتلأت الدار والسطوح، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن، فقال أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، فوقع بين الناس اختلاف فقال بعضهم إنه قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال آخرون لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم. ذكره مسلم بن الحجاج. وقال ابن عديّ لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثًا، فألح عليه فقال البخاري: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة، فشغب الرجل وقال قد قال لفظي بالقرآن مخلوق اهـ. وقد صحّ أن البخاري تبرّأ من هذا الإطلاق فقال: كل من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب عليّ وإنما قلت أفعال العباد مخلوقة، أخرج ذلك غنجار في ترجمة البخاري بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور أنه سمع البخاري يقول ذلك. وقال أبو حامد الشرقي سمعت الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجلس إلينا ولا نكلم من يذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل، فانقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة. وبعث مسلم إلى الذهلي جميع ما كان كتب عنه على ظهر حمّال، وقال الذهلي: لا يساكنني محمد بن إسماعيل في البلد فخشي البخاري على نفسه وسافر منها. قال في المصابيح ومن تمام رسوخ البخاري في الورع أنه كان يحلف بعد هذه المحنة أن الحامد عنده والذامّ من الناس سواء، يريد أنه لا يكره ذامّه طبعًا ويجوز أن يكرهه شرعًا، فيقوم بالحق لا بالخط، وتحقّق ذلك من حالته أنه لم يمح اسم الذهلي من جامعه بل أثبت روايته عنه غير أنه لم يوجد في كتابه إلاّ على أحد وجهين، إما أن يقول حدّثنا محمد ويقتصر، وإما أن يقول حدّثنا محمد بن خالد فينسبه إلى جدّ أبيه. وقد سئل عن وجه إجماله دمابقاء ذكره بنسبه المشهور، فأجاب بأن قال لعله لما اقتضى التحقيق عنده أن تبقى روايته عنه خشية أن يكتم علمًا رزقه

الله تعالى على يديه، وعذره في قدحه بالتأويل خشي على الناس أن يقعوا فيه بأنه قد عدّل من جرحه، وذلك يوهم أنه صدّقه على نفسه فيجرّ ذلك إلى البخاري وهنًا، فأخفى اسمه وغطى رسمه وما كتم علمه، والله أعلم بمراده من ذلك. ولو فتحنا باب تعديد مناقبه الجميلة ومآثره الحميدة لخرجنا عن غرض الاختصار.
ولما رجع إلى بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامّة أهلها حتى لم يبق مذكور، ونثر عليه الدراهم والدنانير وبقي مدّة يحدّثهم، فأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهليّ نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدّثهم به في قصره، فامتنع البخاريّ من ذلك وقال لرسوله: قل له أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضر إلى مسجدي أو داري فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أي لا أكتم العلم. فحصلت بينهما وحشة فأمره الأمير بالخروج عن البلد فدعا عليه وكان مجاب الدعوة، فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادى على خالد في البلد فنودي على خالد على أتان وحبس إلى أن مات، ولم يبق أحد ممن ساعده إلا ابتلي ببلاء شديد.
ولما خرج البخاري من بخارى كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه إلى بلدهم فسار إليهم، فلما كان بخرتنك بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء وفتح الفوقية

(1/38)


وسكون النون بعدها كافٍ وهو على فرسخين من سمرقند بلغه أنه قد وقع بينهم بسببه فتنة فقوم يريدون دخوله وآخرون يكرهونه، وكان له أقرباء بها فنزل عندهم حتى ينجلي الأمر، فأقام أيامًا فمرض حتى وجّه إليه رسول من أهل سمرقند يلتمسون خروجه إليهم، فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمّم فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابّة ليركبها قال: أرسلوني فقد ضعفت، فأرسلوه فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى.
فسال عرق كثير لا يوصف وما سكن منه العرق حتى أدرج في أكفانه. وروي أنه ضجر ليلة فدعا بعد أن فرغ من صلاة الليل اللهمّ قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فمات في ذلك الشهر ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، وكان أوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة ففعل به ذلك، ولما صليّ عليه ووضع في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أيامًا، وجعل الناس يختلفون إلى قبره مدة يأخذون منه. وقال عبد الواحد بن آدم الطواويسي: رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فردّ عليّ السلام فقلت: ما وقوفك هنا يا رسول الله؟ قال أنتظر محمد بن إسماعيل، قال فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا هو في الساعة التي رأيت فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولما ظهر أمره بعد وفاته خرج بعض مخالفيه إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة. وقال أبو عليّ الحافظ: أخبرنا أبو الفتح نصر بن الحسن السمرقندي قدم علينا بلنسية عام أربعة وستين وأربعمائة، قال: قحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام فاستسقى الناس مرارًا فلم يسقوا، فأتى رجل صالح معروف بالصلاح إلى قاضي سمرقند وقال له إني قد رأيت رأيًا أعرضه

عليك قال وما هو؟ قال أرى أن تخرج ويخرج الناس معك إلى قبر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وتستسقي عنده فعسى الله أن يسقينا، فقال القاضي نعم ما رأيت فخرج القاضي ومعه الناس واستسقى بهم وبكى الناس عند القبر وتشفعوا بصاحبه، فأرسل الله تعالى السماء بماء عظيم غزير أقام الناس من أجله بخرتنك سبعة أيام أو نحوها لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر وغزارته، وبين سمرقند وخرتنك ثلاثة أيام. وبالجملة فمناقب أبي عبد الله البخاري كثيرة ومحاسنه شهيرة وفيما ذكرته كفاية ومقنع وبلاغ.
(تنبيه وإرشاد): روينا عن الفربري أنه قال سمع صحيح البخاري من مؤلفه تسعون ألف رجل فما بقي أحد يرويه عنه غيري. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أطلق ذلك بناء على ما في علمه وقد تأخر بعده بتسع سنين أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرينة بقاف ونون بوزن كبيرة البزدويّ بفتح الموحدة وسكون الزاي وكانت وفاته سنة تسع وعشرين وثلثمائة وهو آخر من حدّث عن البخاري بصحيحه كما جزم به آبو نصر بن ماكولا وغيره، وقد عاش بعده ممن سمع من البخاري القاضي الحسين بن إسماعيل المحاملي ببغداد، ولكن لم يكن عنده الجامع الصحيح، وإنما سمع منه مجالس أملاها ببغداد في آخر قدمة قدمها البخاري، وقد غلط من روى الصحيح من طريق المحامليّ المذكور غلطًا فاحشًا، ومن رواة الجامع الصحيح ممن اتصلت لنا روايته بالإجازة إبراهيم بن معقل النسفيّ الحافظ وفاته منه قطعة من آخره رواها بالإجازة وتوفي سنة أربعين ومائتين. وكذلك حماد بن شاكر النسويّ بالنون المهملة وأظنه توفي في حدود التسعين وله فيه فوت أيضًا. واتصلت لنا روايته من طريق المستملي والسرخسي والكشميهني وأبي عليّ بن السكن الأخسيكن، وأبي زيد المروزي وأبي عليّ بن شبويه وأبي أحمد الجرجاني والكشاني وهو آخر من حدّث عن الفربري بالصحيح، فأما المستملي فرواه عنه الحافظ أبو ذر وعبد الرحمن الهمداني، وأما السرخسي فأبو ذر أيضًا وأبو الحسن الداودي، وأما الكشميهني فأبو ذر أيضًا وأبو سهل الحفصي وكريمة، وأما أبو عليّ بن السكن فإسماعيل بن إسحق بن إسماعيل الصفار، وأما أبو زيد المروزي فأبو نعيم الحافظ

(1/39)


وأبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيليّ وأبو الحسن عليّ بن محمد القابسي، وأما ابن شبويه فسعيد بن أحمد بن محمد الصيرفي العيار وعبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أيضًا، وأما الجرجاني فأبو نعيم والقابسي أيضًا، وأما الكشاني فأبو العباس جعفر بن محمد المستغفري. فمشايخ أبي ذر ثلاثة المستملي والكشميهني والسرخسي، ومشايخ أبي نعيم الجرجاني وأبو زيد المروزي. وأما الأصيلي والقابسي فكلاهما عن أبي زيد المروزي، وأما العيار فابن شبويه، وأما الداودي فالسرخسيّ، وأما الحفصي وكريمة فالكشميهني، وأما المستغفري فالكشاني وكلهم عن الفربري. ويأتي إن شاء الله تعالى قريبًا أسانيدي بالجامع الصحيح متصلة بهم على وجه بديع جامع بعون الله تعالى.
وقد اعتنى الحافظ شرف الدين أبو الحسن عليّ ابن شيخ الإسلام ومحدّث الشام تقي الدين بن محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله اليونيني الحنبلي رحمه الله تعالى بضبط رواية الجامع الصحيح،
وقابل أصله الموقوف بمدرسة أقبغا آص بسويقة العزى خارج باب زويلة من القاهرة المعزية، الذي قيل فيما رأيته بظاهر بعض نسخ البخاري الموثوق بها وقف مقرها برواق الجبرت من الجامع الأزهر بالقاهرة، إن أقبغا بذل فيه نحو عشرة آلاف دينار والله أعلم بحقيقة ذلك. وهو في جزأين فقد الأوّل منهما بأصل مسموع على الحافظ أبي ذر الهروي، وبأصل مسموع على الأصيلي، وبأصل الحافظ مؤرخ الشام أبي القاسم بن عساكر، وبأصل مسموع على أبي الوقت وهو أصل من أصول مسموعاته في وقف خانكاه السميساطي بقراءة الحافظ أبي سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني بحضرة سيبويه وقته الإمام جمال الدين بن مالك بدمشق سنة ست وسبعين وستمائة، مع حضور أصلي سماعي الحافظ أبي محمد المقدسي. وقف السميساطي وقد بالغ رحمه الله في ضبط ألفاظ الصحيح جامعًا فيه روايات من ذكرناه راقمًا عليه ما يدل على مراده، فعلامة أبي ذر الهروي (هـ) والأصيلي (ص) وابن عساكر الدمشقي (ش) وأبي الوقت (ظ) ولمشايخ أي ذر الثلاثة الحموي (ح) والمستملي (ست) والكشميهني (هـ). فما كان من ذلك بالحمرة فهو ثابت في النسخة التي قرأها الحافظ عبد الغني المقدسي على الحافظ أبي عبد الله الأرتاحي بحق إجازته من أبي الحسين الفرّاء الموصلي عن كريمة عن الكشميهني. وفي نسخة أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وقف جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر وله رقوم أخرى لم أجد ما يدل عليها وهي (عط ق ج صع) ولعل الجيم للجرجاني والعين لابن السمعاني والقاف لأبي الوقت فإن اجتمع ابن حمويه والكشميهني فرقمهما هكذا (حهـ) والمستملي والحموي فرقمهما (حسـ) هكذا. وإن اتفق الأربعة الرواة عنهم رقم لهم (هـ ص ش ظ) وما سقط عند الأربعة زاد معها (لا) وما سقط عند البعض أسقط رقمه من غير (لا). مثاله أنه وقع في أصل سماعه في حديث بدء الوحي "جمعه لك في صدرك" ووقع عند الأربعة جمعه لك "لك صدرك" بإسقاط "في" فيرقم على "في لا" ويرقم فوقها إلى جانبها (هـ ص ش ظ) هذا إن وقع الاتفاق على سقوطها. فإن كانت عندهم (2) وليست عند الباقين رقم رسمه وترك رسمهم، وكذا إن لم تكن عند واحد وكانت عند الباقين كتب عليها (لا) ورقم فوقها الحرف المصطلح عليه. وما صح عنده سماعه وخالف مشايخ أبي ذر الثلاثة رقم عليه (هـ) وفوقها صح. وإن وافق أحد مشايخه وضعه فوقه، فالله تعالى يثيبه على قصده. ويجزل له من المكرمات جوائز رفده، فلقد أبدع فيما رقم، وأتقن فيما حرر وأحكم. ولقد عوّل الناس عليه في روايات الجامع لمزيد اعتنائه وضبصه ومقابلته على الأصول المذكورة وكثرة ممارسته له، حتى أن الحافظ شمس الدين الذهبي حكى عنه أنه قابله في سنة واحدة إحدى عشرة مرة، ولكونه ممن وصف بالمعرفة الكثيرة والحفظ التام للمتون والأسانيد كان الجمال بن مالك لما حضر عند المقابلة المذكورة إذا مرّ من الألفاظ يتراءى أنه مخالف لقوانين العربية قال للشرف اليونيني هل الرواية فيه كذلك، فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب

(1/40)


إمكانه، ومن ثم وضع كتابه المسمى بشواهد التوضيح.
ولقد وقفت على فروع مقابلة على هذا الأصل الأصيل فرأيت من أجلها الفرع الجليلي الذي

لعله فاق أصله، وهو الفرع المنسوب للإمام المحدث شمس الدين محمد بن أحمد المزي الغزولي وقف التنكزية بباب المحروق خارج القاهرة، المقابل على فرعي وقف مدرسة الحاج مالك، وأصل اليونيني المذكور غير مرة بحيث أنه لم يغادر منه شيئًا كما قيل. فلهذا اعتمدت في كتابة متن البخاري في شرحي هذا عليه، ورجعت في شكل جميع الحديث وضبطه إسنادًا ومتنًا إليه، ذاكرًا جميع ما فيه من الروايات وما في حواشيه من الفوائد المهمات.
ثم وقفت في يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى سنة ست عشرة وتسعمائة بعد ختمي لهذا الشرح على المجلد الأخير من أصل اليونيني المذكور، ورأيت بحاشية ظاهر الورقة الأولى منه ما نصه: سمعت ما تضمنه هذا المجلد من صحيح البخاري رضي الله عنه بقراءة سيدنا الشيخ الإمام العالم الحافظ المتقن شرف الدين أبي الحسين علي بن محمد بن أحمد اليونيني رضي الله عنه وعن سلفه، وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلما مرّ بهم لفظ ذو إشكال بيّنت فيه الصواب وضبط على ما اقتضاه علمي بالعربية، وما افتقر إلى بسط عبارة وإقامة دلالة أخّرت أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام ما يحتاج إليه من نظير وشاهد ليكون الانتفاع به عامًا والبيان تامًّا إن شاء الله تعالى. وكتبه محمد بن عبد الله بن مالك حامدًا لله تعالى. قلت وقد قابلت متن شرحي هذا إسنادًا وحديثًا على هذا الجزء المذكور من أوّله إلى آخره حرفًا حرفًا، وحكيته كما رأيته حسب طاقتي. وانتهت مقابلتي له في العشر الأخير من المحرم سنة سبع عشرة وتسعمائة نفع الله تعالى به، ثم قابلته عليه مرة أخرى. فعلى الكاتب لهذا الشرح وفّقه الله تعالى أن يوافقني فيما رسمته من تمييز الحديث متنًا وسندًا من الشرح واختلاف الروايات بالألوان المختلفة وضبط الحديث متنًا وسندًا بالقلم كما يراه، ثم رأيت بآخر الجزء المذكور ما نصه: بلغت مقابلةً وتصحيحًا وإسماعًا بين يدي شيخنا شيخ الإسلام حجة العرب مالك أزمة الأدب الإمام العلامة أبي عبد الله بن مالك الطائي الجياني أمدّ الله تعالى عمره في المجلس الحادي والسبعين، وهو يراعي قراءتي ويلاحظ نطقي، فما اختاره ورجحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصحّحت عليه، وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان أو ثلاثة فأعملت ذلك على ما أمر، ورجح، وأنا أقابل بأصل الحافظ أبي ذر والحافظ أبي محمد الأصيلي والحافظ أبي القاسم الدمشقي ما خلا الجزء الثالث عشر والثالث والثلاثين، فإنهما معدومان. وبأصل مسموع على الشيخ أبي الوقت بقراءة الحافظ أبي منصور السمعاني وغيره من الحفاّظ، وهو وقف بخانكاه السميساطي وعلامات ما وافقت أبا ذر (هـ) والأصيلي (ص) والدمشقي (ش) وأبا الوقت (ظ) فيعلم ذلك. وقد ذكرت ذلك في أوّل الكتاب في فرخة لتعلم الرموز كتبه عليّ بن محمد الهاشمي اليونيني عفًا الله عنه انتهى.
ثم وجد الجزء الأوّل من أصل اليونيني المذكور ينادى عليه للبيع بسوق الكتب، فعرف وأحضر إليّ بعد فقده أزيد من خمسين سنة، فقابلت عليه متن شرحي هذا فكملت مقابلتي عليه جميعه حسب الطاقة ولله الحمد.

وقد اعتنى الأئمة بشرح هذا الجامع، فشرحه الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي بشرح لطيف فيه نكت لطيفة ولطائف شريفة. واعتنى الإمام محمد التيمي بشرح ما لم يذكره الخطابي مع التنبيه على أوهامه. وكذا أبو جعفر أحمد بن سعيد الداودي وهو ممن ينقل عنه ابن التين الآتي. ومنهم المهلب بن أبي صفرة وهو ممن اختصر الصحيح. ومنهم أبو الزناد سراج. واختصر شرح المهلب تلميذه أبو عبد الله محمد بن خلف بن المرابط وزاد عليه فوائد، وهو ممن نقل عنه ابن رشيد. وشرحه أيضًا الإمام أبو الحسن علي بن خلف المالكي المغربي المشهور بابن بطال، وغالبه في فقه الإمام مالك من غير تعرّض لموضوع الكتاب غالبًا وقد طالعته. وشرحه أيضًا الإمام أبو حفص عمر بن الحسن بن عمر الفوزني الإشبيلي، وكذا أبو القاسم

(1/41)


أحمد بن محمد بن عمر بن فرد التيمي وهو واسع جدًّا. والإمام عبد الواحد بن التين بفوقية تحتية ثم نون السفاقسي وقد طالعته.

والزين بن المنير في نحو عشر مجلدات. وأبو الأصبع عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي. والإمام قطب الدين عبد الكريم الحلبي الحنفي. والإمام مغلطاي التركي. قال صاحب الكواكب وشرحه بتتميم الأطراف أشبه وبصحف تصحيح التعليقات أمثل، وكأنه من إخلائه من مقاصد الكتاب على ضمان. ومن شرح ألفاظه وتوضيح معانيه على أمان. واختصره الجلال التباني وقد رأيته. والعلاّمة شمس الدين محمد بن يوسف بن علي بن محمد بن سعيد الكرماني فشرحه بشرح مفيد جامع لفرائد الفوائد وزوائد العوائد، وسماه الكواكب الدراري. لكن قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة وهو شرح مفيد على أوهام فيه في النقل، لأنه لم يأخذه إلا في الصحف انتهى. وكذا شرحه ولده التقي يحيى مستمدًّا من شرح أبيه وشرح ابن الملقن وأضاف إليه من شرح الزركشي وغيره من الكتب، وما سنح له من حواشي الدمياطي وفتح الباري والبدر العنتابي، وسماه مجمع البحرين وجواهر الحبرين، وقد رأيته وهو في ثمانية أجزاء كبار بخطه مسودّة. وكذا شرحه العلاّمة السراج بن الملقن وقد طالعت الكثير منه. وكذا شرحه العلاّمة شمس الدين البرماوي في أربعة أجزاء أخذه من شرح الكرماني وغيره كما قال في أوّله: ومن أصوله أيضًا مقدمة فتح الباري وسماه اللامع الصبيح ولم يبيض إلا بعد موته، وقد استوفيت مطالعته كالكرماني، وكذا شرح الشيخ برهان الدين الحلبي وسماه التلقيح لفهم قارىء الصحيح وهو بخطه في مجلدين وبخط غيره في أربعة وفيه فوائد حسنة.
وقد التقط منه الحافظ ابن حجر حيث كان بحلب ما ظن أنه ليس عنده لكونه لم يكن معه إلا كراريس يسيرة من الفتح. وشرحه أيضًا شيخ الإسلام والحافظ أبو الفضل بن حجر وسماه فتح الباري وهو في عشرة أجزاء ومقدمته في جزء، وشهرته وانفراده بما اشتمل عليه من الفوائد الحديثية والنكات الأدبية والفوائد الفقهية تغني عن وصفه، لا سيما وقد امتاز كما نبّه عليه شيخنا بجمع طرق الحديث التي ربما يتبين من بعضها ترجيح أحد الاحتمالات شرحًا وإعرابًا، وطريقته في الأحاديث المكررة أنه يشرح في كل موضع ما يتعلق بمقصد البخاري بذكره فيه، ويحيل بباقي شرحه على المكان المشروح فيه. قال شيخنا: وكثيرًا ما كان رحمه الله تعالى يقول أودّ لو تتبعت الحوالات التي تقع لي فيه، فإن لم يكن المحال به مذكورًا أو ذكر في مكان آخر غير المحال عليه ليقع إصلاحه

فما فعل ذلك فاعلمه، وكذا ربما يقع له ترجيح أحد الأوجه في الإعراب أو غيره من الاحتمالات أو الأقوال في موضع ثم يرجح في موضع آخر غيره، إلى غير ذلك مما لا طعن عليه بسببه، بل هذا أمر لا ينفك عنه كثير من الأثمة المعتمدين. وكان ابتداء تأليفه في أوائل سنة سبعٍ عشرة وثمانمائة على طريق الإملاء، ثم صار يكتب بخطه شيئًا فشيئًا فيكتب الكراس ثم يكتبه جماعة من الأئمة المعتبرين، وعارض بالأصل مع المباحثة في يوم من الأسبوع، وذلك بقراءة العلاّمة ابن خضر. فصار السفر لا يكمل منه شيء إلاّ وقد قوبل وحرّر إلى أن انتهى في أوّل يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، سوى ما ألحق فيه بعد ذلك فلم ينته إلا قبيل وفاة المؤلف بيسير. ولما تم عمل مصنفه وليمة بالمكان المسمى بالتاج والسبع وجوه في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنتين وأربعين، وقرىء المجلس الأخير هناك بحضرة الأئمة كالقاياني والونائي والسعد الديري. وكان المصروف على الوليمة المذكورة نحو خمسمائة دينار. وكملت مقدمته وهي في مجلد ضخم في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وقد استوفيت بحمد الله تعالى مطالعهما. وقد اختصر فتح الباري شيخ مشايخنا الشيخ أبو الفتح محمد ابن الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي وقد رأيته بمكة وكتبت كثيرًا منه. وشرحه العلاّمة بدر الدين العيني الحنفي في عشرة أجزاء أو أزيد، وسماه عمدة القاري وهو بخطه في أحد وعشرين جزءًا مجلدًا بمدرسته التي أنشأها بحارة كتامة

(1/42)


بالقرب من الجامع الأزهر. وشرع في تأليفه في أواخر رجب سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وفرغ منه في آخر الثلث الأوّل من ليلة السبت خامس شهر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وثمانمائة، واستمد فيه من فتح الباري كان فيما قيل يستعيره من البرهان ابن خضر بإذن مصنفه له، وتعقبه في مواضع وطوّله بما تعمد الحافظ ابن حجر في الفتح حذفه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كلٍّ من تراجم الرواة بالكلام وبيان الأنساب واللغات والإعراب والمعاني والبيان، واستنباط الفرائد من الحديث والأسئلة والأجوبة وغير ذلك.
وقد حكي أن بعض الفضلاء ذكر للحافظ ابن حجر ترجيح شرح العيني بما اشتمل عليه من البديع وغيره، فقال بديهة هذا شيء نقله من شرح لركن الدين، وكنت قد وقفت عليه قبله ولكن تركت النقل منه لكونه لم يتم، إنما كتب منه قطعة وخشيت من تعبي بعد فراغها في الاسترسال في هذا المهيع، ولذا لم يتكلم البدر العيني بعد تلك القطعة بشيء من ذلك انتهى.

وبالجملة فإن شرحه حافل كامل في معناه لكنه لم ينتشر كانتشار فتح الباري من حياة مؤلفه وهلمّ جرًّا، وكذا شرح مواضع من البخاري الشيخ بدر الدين الزركشي في التنقيح، وللحافظ ابن حجر نكت عليه لم تكمل، وكذا شرح العلاّمة بدر الدين الدماميني وسماه مصابيح الجامع، وقد استوفيت مطالعتها كشرح العيني وابن حجر والبرماوي. وكذا شرح الحافظ الجلال السيوطي فيما بلغني في تعليق لطيف قريب من تنقيح الزركشي سمّاه التوشيح على الجامع الصحيح. وكذا شرح منه شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى النووي قطعة من أوّله إلى آخر كتاب الإيمان طالعتها وانتفعت ببركتها، وكذا الحافظ ابن كثير قطعة من أوّله والزين بن رجب الدمشقي ورأيت منه مجلدة. والعلاّمة
السراج البلقيني رأيت منه مجلدة أيضًا. والبدر الزركشي في غير التنقيح مطوّلاً رأيت منه قطعة بخطه، والمجد الشيرازي اللغوي مؤلف القاموس سماه منح الباري بالسيح الفسيح المجاري في شرح البخاري، كمل ربع العبادات منه في عشرين مجلدًا وقدّر تمامه في أربعين مجلدًا. قال التقي الفاسي: لكنه قد ملأه بغرائر المنقولات لا سيما لما اشتهر باليمن مقالة ابن عربي، وغلب ذلك على علماء تلك البلاد، وصار يدخل في شرحه من فتوحاته الكثير ما كان سببًا لشين شرحه عند الطاعنين فيه. وقال الحافظ ابن حجر أنه رأى القطعة التي كملت في حياة مؤلفه قد أكلتها الأرضة بكمالها بحيث لا يقدر على قراءة شيء منها انتهى. وكذا بلغني أن الإمام أبا الفضل النويري خطيب مكة شرح مواضع من البخاري، وكذا العلاّمة محمد بن أحمد بن مرزوق شارح بردة البوصيري وسماه المتجر الربيح والمسعى الرجيح في شرح الجامع الصحيح، ولم يكمل أيضًا. وشرح العارف القدوة عبد الله بن أبي جمرة ما اختصر منه وسماه بهجة النفوس، وقد طالعته والبرهان النعماني إلى أثناء الصلاة، ولم يفِ بما التزمه رحمه الله تعالى وإيّانا. وشيخ المذهب وفقيهه شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري السنيكي، والشمس الكوراني مؤدّب السلطان المظفر أبي الفتح محمد بن عثمان فاتح القسطنطينية سماه الكوثر الجاري إلى رياض صحيح البخاري، وهو في مجلدتين، وللعلاّمة شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني بيان ما فيه من الإبهام وهو في مجلدة. وصاحبنا الشيخ أبو البقاء الأحمدي أعانه الله تعالى على الإكمال. وشيخنا فقيه المذهب الجلال البكري وأظنه لم يكمل. وكذا صاحبنا الشيخ شمس الدين الدلجي كتب منه قطعة لطيفة. ولابن عبد البر الأجوبة على المسائل المستغربة من البخاري سأله عنها المهلب بن أبي صفرة، وكذا لأبي محمد بن حزم عدة أجوبة عليه، ولابن المنير حواشٍ على ابن بطال، وله أيضًا كلام على التراجم سماه المتواري، وكذا لأبي عبد الله بن رشيد ترجمان التراجم، وللفقيه أبي عبد الله محمد بن منصور بن حمامة المغراوي السجلماسي حل أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة، وهي مائة ترجمة. ولشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر

(1/43)


انتقاض الاعتراض، يجيب فيه عما اعترضه عليه العيني في شرحه، طالعته لكنه لم يجب عن أكثرها.
ولعله كان يكتب الاعتراضات ويبيض لها ليجيب عنها فاخترمته المنيّة. وله أيضًا الاستنصار على الطاعن المعثار وهو صورة فُتيا عما وقع في خطبة شرح البخاري للعلاّمة العيني، وله أيضًا أحوال الرجال المذكورين في البخاري زيادة على ما في تهذيب الكمال وسماه الإعلام بمن ذكر في البخاري من الأعلام. وله أيضًا تعليق التعليق ذكر فيه تعاليق أحاديث الجامع المرفوعة وآثاره الموقوفة والمتابعات، ومن وصلها بأسانيده إلى الموضع المعلق، وهو كتاب حافل عظيم في بابه لم يسبقه إليه أحد فيما أعلم. وقرّض له عليه العلاّمة اللغوي المجد صاحب القاموس كما رأيته بخطه على نسخة بخط مؤلفه، ولخصه في مقدمة الفتح فحذف الأسانيد ذاكرًا من خرجه موصولاً.
وكذا شرح البخاري العلاّمة المفنن الأوحد الزيني عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد العباسي الشافعي شرحًا رتبه على ترتيب عجيب وأسلوب غريب، فوضعه كما قال في ديباجته على منوال مصنف ابن الأثير، وبناه على مثال جامعه المنير وجرّده من الأسانيد، راقمًا على هامشه بإزاء

كل حديث حرفًا أو حروفًا يعلم بها من وافق البخاري على إخراج ذلك الحديث من أصحاب الكتب الخمسة، جاعلاً إثر كل كتاب جامع منه بابًا لشرح غريبه، واضعًا الكلمات الغريبة بهيئتها على هامش الكتاب، موازيًا لشرحها، ليكون أسرع في الكشف وأقرب إلى التناول وقرض له عليه شيخنا شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف، والزين عبد البر بن الشحنة، والعلاّمة الرضى الغزي.
ونظم شيخ الإسلام البلقيني مناسبات ترتيب تراجم البخاري فقال:
أتى في البخاري حكمة في التراجم ... مناسبة في الكتب مثل التراجم
فمبدأ وحي الله جاء نبيه ... وإيمان يتلوه بعقد المعالم
وإن كتاب العلم يذكر بعده ... فبالوحي إيمان وعلم العوالم

وما بعد أعلام سوى العمل الذي ... به يرد الإنسان ورد الأكارم
ومبدؤه طهر أتى لصلاتنا ... وأبوابه فيها بيان الملائم
وبعد صلاة فالزكاة تبيعها ... وحج وصوم فيهما خلف عالم
روايته جاءت بخلف بصحة ... كذا جاء في التصنيف طبق الدعائم
وفي الحج أبواب كذاك بعمرة ... لطيبة جاء الفضل من طيب خاتم
معاملة الإنسان في طوع ربه ... يليها ابتغاء الفضل سوق المواسم
وأنواعها في كل باب تميزت ... وفي الرهن والإعتاق فك الملازم
فجاء كتاب الرهن والعتق بعده ... مناسبة تخفى على فهم صارم
كتابة عبد ثم فيها تبرع ... كذاهبة فيها شهود التحاكم
كتاب شهادات تلي هبة جرت ... وللشهدا في الوصف أمر لحاكم
وكان حديث الإفك فيه افتراؤهم ... فويل لأفاك وتبًّا لآثم
وكم فيه تعديل لعائشة التي ... يبرئها المولى بدفع العظائم
كذا الصلح بين الناس يذكر بعده ... فبالصلح إصلاح ورفع المظالم
وصلح وشرط جائزان لشرعه ... فذكر شروط في كتاب لعالم
كتاب الوصايا والوقوف لشارط ... بها عمل الأعمال تمّ لقائم
معاملتا رب وخلق كما مضى ... وثالثها جمع غريب لفاهم
كتاب الجهاد اجهد لإعلاء كلمة ... وفيه اكتساب المال إلا لظالم
فيملك مال الحرب قهرًا غنيمة ... كذا الفيء يأتينا بعز المغانم
وجزيتهم بالعقد فيه كتابها ... موادعة معها أتت في التراجم

(1/44)


كتاب لبدء الخلق بعد تمامه ... مقابله الإنسان بيد المقاسم
وللأنبيا فيه كتاب يخصهم ... تراجم فيها رتبة للأكارم
فضائل تتلو ثم غزو نبينا ... وما قد جرى حتى الوفاة لخاتم

وإن نبي الله وصّى وصية ... تخص كتاب الله يا طيب عازم
كتاب لتفسير تعقبه به ... وإنّ أولي التفسير أهل العزائم
وفي ذاك إعجاز لنا ودليلنا ... وإحياؤه أرواح أهل الكرائم
كتاب النكاح انظره منه تناسل ... حياة أتت منه لطفل محالم
وأحكامه حتى الوليمة تلوها ... ومن بعدها حسن العشير الملائم
كتاب طلاق فيه أبواب فرقة ... وفي النفقات افرق ليسر وعادم
وأطعمة حلت وأخرى فحرمت ... ليجتنب الإنسان إثم المحارم
وعق عن المولود يتلو مطاعمًا ... كذا الذبح مع صيد بيان الملائم
وأضحية فيها ضيافة ربنا ... ومن بعدها المشروب يأتي لطاعم
وغالب أمراض بأكل وشربه ... كتاب لمرضانا برفع المآثم
فبالطب يستشفى من الدا برقية ... بفاتحة القرآن ثم الخواتم
لباس به التزين وانظره بعده ... كذا أدب يؤتى به بالكرائم
وإن بالاستئذان حلت مصالح ... به تفتح الأبواب وجه المسالم
وبالدعوات الفتح من كل مغلق ... وتيسير أحوال لأهل المعازم
رقاق بها بعد الدعاء تذكر ... وللقدر اذكره لأهل الدعائم
ولا قدر إلا من الله وحده ... تبررنا بالنذر شوقًا لخاتم
وأيمان من كتب وكفّارة لها ... كذا النذر في لج بدا من ملاحم
وأحوال إحياء تتم وبعدها ... مواريث أموات أتت للمقاسم
فرائضهم فيها كتاب يحضها ... وقد تمت الأحوال حالات سالم
ومن يأت قاذورًا تبين حده ... محاربهم فيها أتت حتم حاتم
وفي غرة فاذكر ديات لأنفس ... وفيه قصاص جاءت لأهل الجرائم
وردة مرتد ففيه استتابة ... بردته زالت عقود العواصم
ولكنما الإكراه رافع حكمه ... كذا حيل جاءت لفك التلازم
وفي باطن الرؤيا لتعبير أمرها ... وفتنتها قامت فما من مقاوم
وأحكامها خلفًا يزيد تنازعًا ... كتاب التمني جاء رمزًا لراقم
ولا تتمنوا جاء فيه تواتر ... وأخبار آحاد حجاج لعالم
كتاب اعتصام فاعتصم بكتابه ... وسُنّة خير الخلق عصمة عاصم
وخاتمة التوحيد طاب ختامها ... بمبدئها عطر ومسك لخاتم
فجاء كتاب جامع من صحاحها ... لحافظ عصر قد مضى في التقادم
أتى في البخاري مدحه لصحيحه ... وحسبك بالإجماع في مدح حازم
أصح كتاب بعد تنزيل ربنا ... وناهيك بالتفضيل فاجأر لراحم

وقل رحم الرحمن عبدًا موحدًا ... تحرى صحيح القصد سبل العلائم
وفي سُنّة المختار يبدي صحيحها ... بإسناد أهل الصدق من كل حازم
وإنا تواخينا كتابًا يخصه ... على أوجه تأتي عجابًا لغانم

(1/45)


عسى الله يهدينا جميعًا بفضله ... إلى سُنّة المختار رأس الأكارم
وصلى على المختار ألله ربنا ... يقارنها التسليم في حال دائم
وآل له والصحب مع تبع لهم ... يقفون آثارًا أتت بدعائم
بتكرير ما يبدو وتضعيف عدّه ... وفي بدئها والختم مسك الخواتم
وقد آن أن أشرع في الشرح حسبما قصدته، على النحو الذي في الخطبة ذكرته، مستعينًا بالله ومتوكلاً عليه ومفوّضًا جميع أموري إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.