شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
30 - كتاب الصوم
(بسم الله الرحمن الرحيم) كذا في فرع اليونينية وفي غيرها
بتقديم البسملة.
(كتاب الصوم) وفي رواية النسفيّ كما في فتح الباري كتاب
الصيام بكسر الصاد والياء بدل الواو وهما مصدران لصام،
-وثبتت البسملة- للجميع وذكر الصوم متأخرًا عن الحج أنسب
من ذكره عقب الزكاة لاشتمال كل منهما على بذل المال، فلم
يبق للصوم موضع إلا الأخير وهو ربع الإيمان لقوله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الصوم نصف الصبر" وقوله
"الصبر نصف الإيمان".
وشرعه سبحانه لفوائد أعظمها كسر النفس وقهر الشيطان فالشبع
نهر في النفس يرده الشيطان والجوع نهر في الروح ترده
الملائكة.
ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره على ما
منع منه كثير من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح
فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقّة له بذلك
يتذكر به من منع ذلك
(3/343)
على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله
تعالى عليه بالغنى ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته
بما يمكن من ذلك.
وهو لغة الإمساك ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم عليها
السلام: {إني نذرت للرحمن صومًا} [مريم: 26] أي إمساكًا
وسكوتًا عن الكلام وقول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وشرعًا إمساك عن المفطر على وجه مخصوص. وقال الطيبي: إمساك
المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول
الأطيبين والاستمناء والاستقاء فهو وصف سلبيّ وإطلاق العمل
عليه تجوّز.
1 - باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
(باب وجوب صوم) شهر (رمضان) وكان في شعبان من السنة
الثانية من الهجرة ورمضان مصدر رمض إذا احترق لا ينصرف
للعلمية والألف والنون، وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه
من حر الجوع والعطش أو لارتماض الذنوب فيه، أو لوقوعه أيام
رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها
بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر أو
من رمض الصائم اشتد حر جوفه أو لأنه يحرق الذنوب. ورمضان
إن صح أنه من أسماء الله تعالى فغير مشتق أو راجع إلى معنى
الغافر أي يمحو الذنوب ويمحقها.
وقد روى أبو أحمد بن عدي الجرجاني من حديث نجيح أبي معشر
عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا
تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى" وفيه أبو
معشر ضعيف لكن قالوا يكتب حديثه.
(وقول الله تعالى): بالجر عطفًا على سابقه ({يا أيها الذين
آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}) يعني
الأنبياء والأمم من لدن آدم وفيه توكيد للحكم وترغيب للفعل
وتطييب للنفس ({لعلكلم تتقون}) [البقرة: 183] المعاصي فإن
الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة
والسلام فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء، وهل صيام رمضان
من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذي يدل
عليه كاف كما في قوله: ({كما كتب على الذين من قبلكم}) على
حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا. وذكر ابن أبي حاتم
عن ابن عمر -رضي الله عنه- مرفوعًا صيام رمضان كتبه الله
على الأمم قبلكم وفي إسناده مجهول، وإن قلنا: المراد مطلق
الصوم دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم
وهو قول الجمهور.
1891 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: "أَنَّ
أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ
عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ
إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: شَهْرَ
رَمَضَانَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا. فَقَالَ:
أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ
الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرَائِعَ
الإِسْلاَمِ. قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لاَ أَتَطَوَّعُ
شَيْئًا وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ
شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ. أَوْ دَخَلَ
الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ".
وبالسند قال: (حدثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي قال (حدّثنا
إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني (عن أبي سهيل) بضم السين
وفتح الهاء مصغرًا نافع (عن أبيه) مالك بن أبي عامر أبي
أنس الأصبحي المدني جدّ مالك الإمام (عن طلحة بن عبيد
الله) أحد العشرة المبشرة بالجنة.
(أن أعرابيًّا) تقدم في الإيمان أنه ضمام بن ثعلبة (جاء
إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): حال
كونه (ثائر الرأس) بالمثلثة أي منتفش شعر الرأس (فقال يا
رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة؟) بالإفراد
(فقال): رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو
(الصلوات الخمس) في اليوم والليلة ولأبي ذر: الصلوات الخمس
بالنصب بتقدير فرض زاد في الإيمان فقال هل عليّ غيرها؟
فقال: لا. (إلا أن تطوّع شيئًا؟) بتشديد الطاء وقد تخفف
وهل الاستثناء منقطع أو متصل، فعلى الأول يكون المعنى لكن
التطوّع مستحب لك وحينئذ لا تلزم النوافل بالشروع فيها،
وقد روى النسائي وغيره أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان أحيانًا ينوي صوم التطوّع ثم يفطر فدلّ على
أن الشروع في النفل لا يستلزم الإتمام فهذا نص في الصوم
وبالقياس في الباقي، وقال الحنفية: متصل واستدلوا به على
أن الشروع في التطوّع يلزم إتمامه لأنه نفى وجوب شيء آخر
إلا تطوّع به والاستثناء من النفي إثبات والمنفي وجوب شيء
آخر فيكون
المثبت بالاستثناء وجوب ما تطوّع به وهو المطلوب، وهذا
مغالطة لأن هذا الاستثناء من وادي قوله تعالى: {ولا تنكحوا
ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء: 22]
وقوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}
[الدخان: 56] أي لا يجب عليك شيء قط إلا أن تطوّع، وقد علم
أن
(3/344)
التطوع ليس بواجب فيلزم (فقال) الأعرابي
(أخبرني) يا رسول الله (ما) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر:
بما (فرض الله عليّ من الصيام؟) (فقال): عليه الصلاة
والسلام: فرض الله عليك (شهر رمضان) زاد في الإيمان فقال:
هل عليّ غيره؟ فقال: لا. (إلا أن تطوع شيئًا فقال):
الأعرابي (أخبرني ما فرض الله عليّ من الزكاة فقال):
ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: قال: (فأخبره رسول الله)
بشرائع الإسلام الشاملة لنصب الزكاة ومقاديرها والحج
وأحكامه أو كان الحج لم يفرض أو لم يفرض على الأعرابي
السائل وبهذا يزول الإشكال عن الإخبار بفلاحه لتناوله جميع
الشرائع، وفي رواية غير أبي ذر وابن عساكر شرائع بحذف باء
الجر والنصب على المفعولية. (قال) الأعرابي (و) الله (الذي
أكرمك) زاد الكشميهني بالحق (لا أتطوّع شيئًا ولا أنقص مما
فرض الله عليّ شيئًا فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أفلح) أي ظفر وأدرك بغيته دنيا وأخرى
(إن صدق. أو دخل الجنة)، ولأبي ذر أو أدخل الجنة (إن صدق).
والشك من الراوي.
فإن قلت: مفهومه أنه إذا تطوع لا يفلح أو لا يدخل الجنة؟
أجيب: بأنه مفهوم مخالفة ولا عبرة به ومفهوم الموافقة مقدم
عليه فإذا تطوّع يكون مفلحًا بالطريق الأولى.
وفي الحديث دلالة على أنه لا فرض في الصوم إلا رمضان وسبق
في كتاب الإيمان كثير من مباحثه.
1892 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
قَالَ: "صَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا
فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لاَ
يَصُومُهُ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ". [الحديث 1892
- طرفاه في: 2000، 4501].
وبه قال (حدّثنا مسدد) قال (حدّثنا إسماعيل) بن علية (عن
أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي
الله عنهما- قال): (صام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عاشوراء)، بالمد ويقصر العاشر من المحرم أو هو
التاسع منه مأخوذ من اظماء الإبل فإن العرب تسمي اليوم
الخامس من أيام الورد ربعًا وكذا باقيها على هذه النسبة
فيكون التاسع عشرًا والأول هو الصحيح.
(وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك) صوم عاشوراء واستدل به
الحنفية على أنه كان فرضًا ثم نسخ بفرض رمضان وهو وجه عند
الشافعية والمشهور عندهم أنه لم يجب قط صوم قبل رمضان ويدل
لذلك حديث معاوية مرفوعًا لم يكتب الله عليكم صيامه.
(وكان عبد الله) بن عمر راوي الحديث (لا يصومه) أي عاشوراء
مخافة ظن وجوبه أو أن يعظم في الإسلام كالجاهلة وإلاّ فهو
سنة كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى: (إلا أن يوافق
صومه). الذي كان يعتاده فيصومه على عادته لا لتنفله
بعاشوراء.
1893 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عِرَاكَ
بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ
تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ
أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
وبه قال (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (عن يزيد بن أبي حبيب) المصري أبي
رجاء واسم أبيه سويد (أن عراك بن مالك) بكسر العين وتخفيف
الراء وبعد الألف كاف (حدثه أن عروة) بن الزبير بن العوّام
(أخبره عن عائشة -رضي الله عنها-):
(أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية) وكان رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومه في
الجاهلية (ثم أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) الناس (بصيامه) لما قدم المدينة وصامه معهم
(حتى فرض رمضان، وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: من شاء فليصمه) أي عاشوراء ولأبي ذر عن
الكشميهني فليصم بحذف ضمير المفعول (ومن شاء أفطر) بحذف
الضمير ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أفطره بإثباته وقال:
في بلفظ الأمر وفي الإفطار أفطر إشعارًا بأن جانب الصوم
أرجح.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وأخرجه النسائي في الحج والتفسير.
2 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ
(باب فضل الصوم) اعلم أن الصوم لجام المتقين وجنة
المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين.
1894 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ،
فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ. وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ
أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ-
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ
أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ،
يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ
أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ،
وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا». [الحديث 1894 -
أطرافه في: 1904، 5927، 7492، 7538].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام الأعظم (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون أي وقاية وسترة قيل
من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها وقيل من النار لأنه
إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات وعند الترمذي
(3/345)
وسعيد بن منصور جنة من النار ولأحمد من
حديث أبي عبيدة بن الجراح الصيام جنة ما لم يخرقها وزاد
الدارمي بالغيبة وفيه تلازم الأمرين لأنه إذا كف نفسه عن
المعاصي في الدنيا كان سترًا له من النار (فلا يرفث)
بالمثلثة وبتثليث الفاء أي لا يفحش الصائم في الكلام (ولا
يجهل). أي لا يفعل فعل الجهال كالصياح والسخرية أو يسفه
على أحد وعند سعيد بن منصور فلا يرفث ولا يجادل وهذا ممنوع
في الجملة على الإطلاق لكنه يتأكد بالصوم كما لا يخفى (وإن
امرؤ قاتله أو شاتمه) قال عياض: قاتله أي دافعه ونازعه
ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه، وقد جاء القتل بمعنى اللعن وفي
رواية أبي صالح فإن سابه أحد أو قاتله، ولسعيد بن منصور من
طريق سهيل فإن سابه أحد أو ماراه يعني جادله، وقد استشكل
ظاهره لأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين فإنه
مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك.
وأجيب: بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها يعني إن تهيأ أحد
لمقاتلته أو مشاتمته.
(فليقل) له بلسانه كما رجحه النووي في الأذكار أو بقلبه
كما جزم به المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة (إني صائم
مرتين) فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه وإلاّ دفعه
بالأخف والظاهر كما قاله في المصابيح أن هذا القول علة
لتأكيد المنع فكأنه يقول لخصمه إني صائم تحذيرًا وتهديدًا
بالوعيد الموجه على من انتهك حرمة الصائم وتذرع إلى تنقيص
أجره بإيقاعه بالمشاتمة أو يذكر نفسه شديد المنبع المعلل
بالصوم ويكون من إطلاق القول على الكلام النفسي، وظاهر كون
الصوم جنّة أن يقي صاحبه من أن يؤذي كما يقيه أن يؤذى.
(و) الله (الذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم) بضم المعجمة
واللام على الصحيح المشهور وضبطه بعضهم بفتح الخاء وخطاه
الخطابي وقال في المجموع أنه لا يجوز أي تغير رائحة فم
الصائم لخلاء معدته من الطعام (أطيب عند الله من ريح
المسك)، وفي لفظ لمسلم والنسائي: أطيب عند الله يوم
القيامة، وقد وقع خلاف بين ابن الصلاح وابن عبد السلام في
أن طيب رائحة الخلوف هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة
فقط؟ فذهب ابن عبد السلام إلى أنه في الآخرة واستدلّ
برواية مسلم والنسائي هذه.
وروى أبو الشيخ بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعًا: يخرج
الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب عند
الله من ريح المسك، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا
واستدلّ بحديث جابر مرفوعًا: وأما الثانية فإن خلوف
أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك واستشكل هذا
من جهة أن الله تعالى منزه عن استطابة الروائح الطيبة
واستقذار الروائح الخبيثة فإن ذلك من صفات الحيوان.
وأجيب: بأنه مجاز واستعارة لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح
الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريبه من الله تعالى. وقال ابن
بطال: أي أزكى عند الله إذ هو تعالى لا يوصف بالشم. قال
ابن المنير: لكنه يوصف بأنه تعالى عالم بهذا النوع من
الإدراك وكذلك بقية المدركات المحسوسات يعلمها تعالى على
ما هي عليه لأنه خالقها ألا يعلم من خلق وهذا مذهب
الأشعري، وقيل إنه تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته
أطيب من ريح المسك أو أن صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو
أفضل من ريح المسك عندنا.
فإن قلت: لم كان خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح
المسك ودم الشهيد ريحه ريح المسك مع ما فيه من المخاطرة
بالنفس وبذل الروح؟
أجيب: بأنه إنما كان أثر الصوم أطيب من أثر الجهاد لأن
الصوم أحد أركان الإسلام المشار إليها بقوله عليه الصلاة
والسلام: بني الإسلام على خمس وبأن الجهاد فرض كفاية
والصوم فرض عين وفرض العين أفضل من فرض الكفاية كما نص
عليه الشافعي.
وروى الإمام أحمد في السند أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: دينار تنفقه على أهلك ودينار تنفقه في
سبيل الله أفضلهما الذي تنفقه على أهلك. وجه الدليل أن
النفقة على الأهل التي هي فرض عين أفضل من النفقة في سبيل
الله وهو الجهاد الذي هو فرض كفاية، ولا يعارض هذا ما رواه
أبو داود الطيالسي
(3/346)
من حديث أبي قتادة قال: خطب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الجهاد وفضله على سائر
الأعمال إلا المكتوبة، فإنه يحتمل أن يكون ذلك قبل وجوب
الصوم، وأما قول إمام الحرمين وجماعة: إن فرض الكفاية أفضل
من فرض العين فمخالف لنص الشافعي فلا يعوّل عليه، وقد قال
عليه الصلاة والسلام للرجل الذي
سأله عن أفضل الأعمال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له. زاد
الإمام أحمد عن إسحاق بن الطباع عن مالك يقول الله تعالى:
(يترك) الصائم (طعامه وشرابه وشهوته) أي شهوة الجماع
لعطفها على الطعام والشراب أو من عطف العام على الخاص لكن
وقع عند ابن خزيمة ويدع زوجته من أجلي فهو صريح في الأول
وأصرح منه ما وقع عند الحافظ سمويه من الطعام والشراب
والجماع (من أجلي. الصيام لي) من بين سائر الأعمال ليس
للصائم فيه حظ أو لم يتعبد به أحد غيري أو هو سرّ بيني
وبين عبدي يفعله خالصًا لوجهي وفي الموطأ فالصيام بفاء
السببية أي بسبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي أو أن فيه
صفة الصمدانية وهي التنزيه عن الغذاء (وأنا أجزي) صاحبه
(به) وقد علم أن الكريم إذا تولى الإعطاء بنفسه كان في ذلك
شارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه ففيه مضاعفة الجزاء من
غير عدد ولا حساب (و) سائر الأعمال (الحسنة بعشر أمثالها)
زاد في رواية في الموطأ إلى سبعمائة ضعف، واتفقوا على أن
المراد بالصائم هنا من سلم صيامه من المعاصي وحديث الغيبة
تفطر الصائم على ما في الإحياء. قال العراقي ضعيف بل قال
أبو حاتم كذب، نعم يأثم ويمنع ثوابه إجماعًا ذكره السبكي
في شرح وفيه نظر لمشقة الاحتراز لكن إن توجهت المقالة لا
نصحًا وتظلمًا ونحوهما لحاكم ونحوه، وأدنى درجات الصوم
الاقتصار على الكف عن المفطرات، وأوسطها أن يضم إليه كف
الجوارح عن الجرائم، وأعلاها أن يضم إليهما كف القلب عن
الوساوس.
وقال بعضهم: معناه الصوم ليس لا لك أي أنا الذي لا ينبغي
لي أن أطعم وأشرب وإذا كان بهذه المثابة وكان دخولك فيه
كوني شرعته لك فأنا أجري به كأنه يقول: أنا جزاؤه لأن صفة
التنزيه عن الطعام والشراب تطلبي وقد تلبست بها وليست لك
لكنك اتصفت بها في حال صومك فهي تدخلك عليّ فإن الصبر حبس
النفس وقد حبستها بأمري عما تعطيه حقيقتها من الطعام
والشراب، فلهذا قال: للصائم فرحتان عند فطره وتلك الفرحة
لروحه الحيواني لا غير، وفرحة عند لقاء ربه وتلك الفرحة
لنفسه الناطقة الطبيعية الربانية فأورثه الصوم لقاء الله
وهو المشاهدة.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود وكذا النسائي والترمذي.
3 - باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ
هذا (باب) بالتنوين (الصوم كفارة).
1895 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَامِعٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: مَنْ
يَحْفَظُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ:
أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي
أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ
وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ. قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ
هذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا
يَمُوجُ الْبَحْرُ قَالَ حُذَيْفَةُ: وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ
بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: فَيُفْتَحُ أَوْ
يُكْسَرُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ. قَالَ: ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ
لاَ يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقُلْنَا
لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ
الْبَابُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ
أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا جامع) هو ابن راشد
الصيرفي الكوفي (عن أبي وائل) بالهمز شقيق ابن سلمة (عن
حذيفة) بن اليماني أنه (قال: قال عمر) بن الخطاب (-رضي
الله عنه-: من يحفظ حديثًا عن النبي) ولأبي الوقت: من يحفظ
حديث النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
الفتنة) المخصوصة (قال: حذيفة أنا سمعته) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول):
(فتنة الرجل في أهله) بأن يأتي بسببهم بغير جائز (وماله)
بأن يأخذه من غير حله ويصرفه في غير مصرفه، وزاد في باب
الصلاة وولده (وجاره) بأن يتمنى سعة كسعته كلها (تكفرها
الصلاة والصيام والصدقة). وهذا موضع الترجمة.
قال في الفتح وقد يقال هذا لا يعارضه ما عند أحمد من طريق
حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: كل العمل
كفارة إلا الصوم الصوم لي وأنا أجزي به، لأنه يحمل في
الإثبات على كفارة شيء مخصوص وفي النفي على كفارة شيء آخر،
وقد حمله المصنف في موضع آخر على تكفير مطلق الخطيئة فقال
في الزكاة باب الصدقة تكفر الخطيئة، ثم أورد هذا الحديث
بعينه، ويؤيد الإطلاق ما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة
أيضًا مرفوعًا: الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات ما
بينهن ما اجتنبت الكبائر، ولابن حبان في صحيحه من حديث أبي
سعيد مرفوعًا: من صام رمضان وعرف حدوده كفر ما قبله وعلى
(3/347)
هذا فقوله كل العمل كفارة إلا الصيام يحتمل
أن يكون المراد إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على
الكفارة ويكون المراد بالصيام الذي هذا شأنه ما وقع خالصًا
سالمًا من الرياء والشوائب اهـ.
(قال) عمر لحذيفة -رضي الله عنهما-: (ليس أسأل عن هذه)،
بكسر الذال المعجمة وكسر الهاء في الفرع وأصله في غيرهما
بالسكون وهي هاء السكت ويجوز فيها الاختلاس والسكون
والإشباع واسم ليس ضمير الشأن، (إنما أسأل عن) الفتنة
الكبرى (التي تموج كما يموج البحر). أي تضطرب كاضطرابه
(قال) حذيفة زاد في الصلاة: ليس عليك منها بأس يا أمير
المؤمنين (وإن دون ذلك) ولابن عساكر قال: إن دون ذلك
(بابًا مغلقًا) بالنصب صفة لبابًا أي لا يخرج شيء من الفتن
في حياتك (قال) عمر: (فيفتح) الباب (أو يكسر؟ قال): حذيفة:
(يكسر. قال) عمر: (ذاك) أي الكسر (أجدر) أولى من الفتح،
وفي نسخة أخرى: (أن لا يغلق إلى يوم القيامة). أي إذا وقعت
الفتنة فالظاهر أنها لا تسكن قط. قال شقيق (فقلنا لمسروق):
هو ابن الأجدع (سله) أي حذيفة (أكان عمر يعلم من الباب؟
فسأله) أي سأل مسروق حذيفة عن ذلك (فقال: نعم). يعلمه (كما
يعلم أن دون غد الليلة) أي أن الليلة أقرب من الغد، ولأبي
ذر عن المستملي: إن غدًا دون الليلة قيل وإنما علمه عمر من
قوله عليه الصلاة والسلام لما كان والعمران وعثمان على
حراء إنما عليك نبيّ
وصدّيق وشهيدان، وكان عمر هو الباب، وكانت الفتنة بقتل
عثمان وانخرق بسببها ما لا يغدق إلى يوم القيامة.
وهذا الحديث سبق في باب الصلاة كفارة، ويأتي إن شاء الله
تعالى في علامات النبوّة والفتن.
4 - باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ
(باب الريان للصائمين) ولأبي ذر: باب بالتنوين الريان
للصائمين والريان بفتح الراء وتشديد المثناة التحتية اسم
علم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه.
1896 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ
عَنْ سَهْلٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ
بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ
الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ
أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ
فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ،
فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ
أَحَدٌ». [الحديث 1896 - طرفه في: 3257].
وبالسند قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون
المعجمة البجلي الكوفي قال: (حدّثنا سليمان بن بلال)
التيمي المدنيّ (قال: حدثني) بالإفراد (أبو حازم) بالحاء
المهملة والزاي سلمة بن دينار الأعرج القاص المدنيّ (عن
سهل) هو ابن سعد الساعدي (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن في الجنة بابًا يقال له الريان)، نقيض العطشان وهو مما
وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه بأنه مشتق من الريّ وهو
مناسب لحال الصائمين لأنهم بتعطيشهم أنفسهم في الدنيا
يدخلون من باب الريان ليأمنوا من العطش. وقال ابن المنير:
إنما قال في الجنة ولم يقل الجنة ليشعر أن في الباب
المذكور من النعم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في
التشويق إليه، وزاد النسائي وابن خزيمة: من دخل شرب ومن
شرب لا يظمأ أبدًا (يدخل منه الصائمون يوم القيامة) إلى
الجنة (لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟
فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا) منه (أغلق)،
الباب (فلم يدخل منه أحد) عبّر بلم يدخل للماضي وكان
القياس فلا يدخل لكنه عطف على قوله لا يدخل فيكون في حكم
المستقبل، وكرر نفي دخول غيرهم منه للتأكيد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الحج.
1897 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ
زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ
الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ
الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ
مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ
مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ
دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ
يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ:
نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ". [الحديث 1879 -
أطرافه في: 2841، 3216، 3666].
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي بالزاي
(قال حدثني) بالإفراد (معن) بفتح الميم وسكون المهملة ابن
عيسى بن يحيى القزاز المدني (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا
(مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن حميد بن عبد
الرحمن) بن عوف الزهري (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
ولابن عساكر: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
(من أنفق زوجين) اثنين من أي شيء كان صنفين أو متشابهين
وقد جاء مفسرًا مرفوعًا بعيرين شاتين حمارين درهمين، وزاد
إسماعيل القاضي عن أبي مصعب عن مالك من ماله (في سبيل
الله) عام في أنواع الخير أو خاص بالجهاد (نودي من أبواب
الجنة يا عبد الله هذا خير) من الخيرات وليس المراد به
أفعل التفضيل والتنوين للتعظيم (ممن كان من أهل الصلاة)
المؤدّين للفرائض المكثرين من النوافل وكذا ما يأتي فيما
قيل (دعي
(3/348)
من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي
من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام) أي الذي الغالب
عليه الصيام وإلا فكل المؤمنين أهل للكل (دعي من باب
الريان)، وعند أحمد: لكل أهل عمل باب يدعون منه بذلك العمل
فلأهل الصيام باب يدعون منه يقال له الريان (ومن كان من
أهل الصدقة) المكثرين منها (دعي من باب الصدقة). وفي نسخة:
دعي من أبواب الصدقة بجمع باب وليس هذا تكرار لما في صدر
الحديث حيث قال: من أنفق زوجين لأن الإنفاق ولو بالقليل
خير من الخيرات العظيمة وذاك حاصل من كل أبواب الجنة وهذا
استدعاء خاص.
وفي نوادر الأصول من أبواب الجنة باب محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو باب الرحمة وهو باب التوبة وسائر
الأبواب مقسومة على أعمال البر باب الزكاة باب الحج باب
العمرة.
وعند عياض باب الكاظمين الغيظ الراضين الباب الأيمن الذي
يدخل منه من لا حساب عليه.
وعند الآجريّ عن أبي هريرة مرفوعًا: إن في الجنة بابًا
يقال له الضحى فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الذين
كانوا يديمون صلاة الضحى هذا بابكم فادخلوا منه.
وفي الفردوس عن ابن عباس يرفعه: للجنة باب يقال له الفرح
لا يدخل منه إلا مفرح الصبيان.
وعند الترمذي باب للذكر. وعند ابن بطال باب الصابرين.
والحاصل أن كل من أكثر نوعًا من العبادة خص بباب يناسبها
ينادى منه جزاء وفاقًا وقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع
التطوّعات، ثم إن من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع
الأبواب على سبيل التكريم وإلا فدخوله إنما يكون من باب
واحد وهو باب العمل الذي يكون أغلب عليه.
(فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: بأبي أنت) أي مفدي بأبي
(وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من
ضرورة)، أي ليس على المدعوّ من كل الأبواب ضرر بل له تكرمة
وإعزاز.
وقال ابن المنير وغيره: يريد من أحد تلك الأبواب خاصة دون
غيره من الأبواب فيكون أطلق الجمع وأراد الواحد. وقال ابن
بطال: يريد أن من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة من هذه
الخصال ودعي من بابها لا ضرر عليه لأن الغاية المطلوبة
دخول الجنة. وقال في شرح المشكاة: لما خص كل باب بمن أكثر
نوعًا من العبادة وسمع الصديق -رضي الله عنه- رغب في أن
يدعى من كل باب وقال ليس على من دعي من تلك الأبواب ضرر بل
شرف وإكرام ثم سأل فقال:
(فهل يدعى أحد من تلك الأبواب) ويختص بهذه الكرامة (كلها؟
قال) عليه الصلاة والسلام: (نعم) يدعى منها كلها على سبيل
التخيير في الدخول من أيها شاء لاستحالة الدخول من الكل
معًا (وأرجو أن تكون منهم) الرجاء منه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجب، ففيه أن الصديق من أهل هذه
الأعمال كلها.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في فضائل أبي بكر، ومسلم
في الزكاة، والترمذي في المناقب، والنسائي فيه وفي الزكاة
والصوم والجهاد.
5 - باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ،
وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ». وَقَالَ: «لاَ تَقَدَّمُوا
رَمَضَانَ».
هذا (باب) بالتنوين (هل يقال) مبني للمفعول وللسرخسي
والمستملي كما في الفتح هل يقول أي هل يجوز للإنسان أن
يقول (رمضان) بدون شهر (أو) يقال (شهر رمضان، ومن رأى كله
واسعًا) أي جائزًا بالإضافة وبغيرها، وللكشميهني مما في
الفتح: ومن رآه بزيادة الضمير. قال البيضاوي كالزمخشري:
رمضان مصدر رمض إذا احترق فأضيف إليه الشهر وجعل علمًا
فصرح كما قال الدماميني بأن مجموع المضاف والمضاف إليه هو
العلم ويجمع رمضان على رمضانات ورماضين وأرمضة وأرمضاء،
وسمي بذلك لرمض الحر وشدة وقوعه فيه حال التسمية لأنهم لما
نقلوا أسماء المشهور من اللغة القديمة سموها باسم الأزمنة
التي وقعت فيها فصادف هذا الشهر أيام رمض الحر أي شدته.
وقال القاضي أبو الطيب: سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب أي
يحرقها وله أسماء غير هذا أنهوها إلى ستين ذكرها الطالقاني
في كتابه حظائر القدس منها شهر الله وشهر الآلاء وشهر
القرآن
وشهر النجاة، وقول الأكثرين يكره أن يقال رمضان بدون شهر
ردّه النووي
(3/349)
في المجموع بأن
الصواب خلافه كما ذهب إليه المحققون لعدم ثبوت نهي فيه بل
ثبت ذكره بدون شهر كما أشار إليه المؤلّف بقوله:
(وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مما
وصله المؤلّف في الباب التالي: (من صام رمضان) (وقال) عليه
الصلاة والسلام مما وصله من حديث أبي هريرة (لا تقدموا
رمضان) فلم يقل شهر رمضان، واعتذر الزمخشري وتبعه البيضاوي
عن هذا ونحوه بناء على أن مجموع شهر رمضان هو العلم بأنه
من باب الحذف لا من باب الإلباس كما قال:
بما أعيا النطاسي حذيمًا أراد ابن حذيم. قال في المصابيح:
يشير إلى ما أنشده في المفصل من قول الشاعر:
فهل لكما فيما إليّ فإنني ... طبيب بما أعيا النطاسيّ
حذيما
وقد عدّه في المفصل من الحذف الملبس نظرًا إلى أنه لا يعلم
أن اسم الطبيب حذيم أو ابن حذيم وعده هنا من باب الحذف لا
من باب الإلباس نظرًا إلى المشتهر فيما بين البعض كرمضان
عند من يعلم أن الاسم شهر رمضان، أو جعله نظيرًا لمجرد
الحذف مما هو كالعلم وجاز الحذف من الإعلام وإن كان من
قبيل حذف بعض الكلمة لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى
المضاف والمضاف إليه حيث أعربوا الجزأين، وقوله: تقدموا
بفتح التاء والدال أصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين
تخفيفًا أي: لا تتقدموا الشهر بصوم تعدّونه منه احتياطًا،
ويأتي مبحث هذا إن شاء الله تعالى في بابه.
1898 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا جَاءَ
رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ». [الحديث 1898 -
طرفاه في: 1899، 3277].
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا إسماعيل
بن جعفر) الأنصاري مولى رزيق المؤدّب (عن أبي سهيل) نافع
(عن أبيه) مالك بن أبي عمر التابعي الكبير (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(إذا جاء رمضان) بدون شهر، واحتج به المؤلّف لجواز ذلك،
لكن رواه الترمذي بذكر الشهر وزيادة الثقة مقبولة فتكون
رواية البخاري مختصرة منه فلا تبقى له حجة فيه على إطلاقه
بدون شهر (فتحت) بضم الفاء وتخفيف المثناة الفوقية في
الفرع وفي غيره: فتحت بتشديدها (أبواب الجنة) حقيقة لمن
مات فيه أو عمل عملاً لا يفسد عليه أو هو علامة للملائكة
لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين.
قال ابن العربي وهو يدل على أنها كانت مغلقة ويدل عليه
أيضًا
حديث: نأتي باب الجنة، فنقعقع فيقول الخازن: من؟ فأقول
محمد. فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لاحد قبلك. قال: وزعم
بعضهم أنها مفتحة دائمًا من قوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها
وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] وهذا اعتداء على كتاب الله
وغلط إذ هو جواب للجزاء اهـ.
وتعقبه أبو عبد الله الأبي بأنه إنما يكون جوابًا إذا كانت
الواو زائدة وكذا أعربه الكوفيون. وقال المبرد: الجواب
محذوف تقديره سعدوا والواو للحال ولم يشك أن الحال لا
تقتضي أنها مفتوحة دائمًا ولا يستقيم مع الحديث المذكور،
إلا أن يقال تفتح له أوّلاً ثم يأتون فيجدونها مفتوحة اهـ.
أو مجازًا لأن العمل يؤدّي إلى ذلك أو لكثرة الثواب
والمغفرة والرحمة بدليل رواية مسلم فتحت أبواب الرحمة إلا
أن يقال الرحمة من أسماء الجنة.
وهذا الحديث أخرجه هنا مختصرًا، وقد أخرجه مسلم والنسائي
من هذا الوجه بتمامه مثل رواية الزهري الثانية. ورواة
الحديث مدنيون إلا شيخه فبلخي، وأخرجه المؤلّف في الصوم
وفي صفة إبليس ومسلم في الصوم وكذا النسائي.
1899 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي أَنَسٍ مَوْلَى
التَّيْمِيِّينَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ
أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا
دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ،
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ
الشَّيَاطِينُ».
وبه قال: (حدثني) ولأبي ذر: وحدثني بواو العطف، وفي نسخة:
أخبرني بالإفراد في الثلاثة (يحيى بن بكير) القعنبي (قال):
(حدثني) بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم
العين مصغرًا ابن خالد (عن ابن شهاب) الزهري (قال: أخبرني)
ولأبي ذر وابن عساكر: حدثني بالإفراد فيهما (ابن أبي أنس)
أبو سهيل نافع (مولى التيميين) أي بني تيم وكان نافع هذا
أخو أنس بن مالك بن أبي عامر عمّ مالك بن أنس الإمام حليف
عثمان بن عبيد الله التيمي (أن أباه) مالك بن أبي عامر
(حدثه أنّه سمع أبا هريرة) -رضي الله عنه- يقول: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(إذا دخل رمضان) ولغير أبي ذر
(3/350)
وابن عساكر: شهر رمضان (فتحت) بتشديد التاء
ويجوز تخفيفها (أبواب السماء)، قيل هذا من تصرف الرواة،
والأصل أبواب الجنة، وكذا وقع في باب: صفة إبليس وجنوده من
بدء الخلق بلفظ أبواب الجنة في غير رواية أبي ذر وله أبواب
السماء. وقال ابن بطال: المراد من السماء الجنة بقرينة
قوله: (وغلقت أبواب جهنم)، يحتمل أن يكون الفتح على ظاهره
وحقيقته. وقال التوربشتي: هو كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة
الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن
القبول، وغلق أبواب جهنم عبارة عن تنزيه أنفس الصوام عن
رجس الفواحش والتخلص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات.
فإن قيل: ما منعكم أن تحملوه على ظاهر المعنى؟ قلنا: لأنه
ذكر على سبيل المنّ على الصوّام وإتمام النعمة عليهم فيما
أمروا به وندبوا إليه حتى صار الجنان في هذا الشهر كأن
أبوابها فتحت ونعيمها هيئ والنيران كأن أبوابها غلقت
وأنكالها عطلت، وإذا ذهبنا إلى الظاهر لم تقع المنة موقعها
وتخلّوا عن الفائدة لأن الإنسان ما دام في هذه الدار فإنه
غير ميسر لدخول إحدى الدارين، ورجح القرطبي حمله على ظاهره
إذ لا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. قال الطيبي:
فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل
الصائمين وأنه من الله بمنزلة عظيمة ويؤيده حديث عمر أن
الجنة لتزخرف لرمضان الحديث.
(وسلسلت الشياطين) أي شدت بالسلاسل حقيقة والمراد مسترقو
السمع منهم وإن تسلسلهم يقع في أيام رمضان دون لياليه
لأنهم كانوا منعوا زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا
التسلسل مبالغة في الحفظ أو هو مجاز على العموم، والمراد
أنهم لا يصلون من إفساد المسلمين إلى ما يصلون إليه في
غيره لاشتغالهم فيه بالصيام الذي فيه قمع الشيطان وإن وقع
شيء من ذلك فهو قليل بالنسبة إلى غيره وهذا أمر محسوس.
1900 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله
عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ
فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا. فَإِنْ
غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ". وَقَالَ غَيْرُهُ
عَنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَيُونُسُ "لِهِلاَلِ
رَمَضَانَ". [الحديث 1900 - طرفاه في: 1906، 1907].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) القعنبي (قال: حدثني)
بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن
خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم (قال: أخبرني) بالإفراد
(سالم، أن) ولأبوي ذر والوقت: سالم بن عبد الله بن عمر أن
(ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا). الضمير راجع
إلى الهلال وإن لم يسبق له ذكر لدلالة السياق عليه، ويأتي
التصريح به إن شاء الله تعالى في الرواية المعلقة في هذا
الباب وبعده في الموصول (فإن غمّ عليكم) بضم الغين المعجمة
وتشديد الميم مبنيًّا للمفعول من غممت الشيء إذا غطيته
وفيه ضمير الهلال أي غطي الهلال بغيم (فاقدروا له) بهمزة
وصل وضم الدال ويجوز كسرها أي قدّروا له تمام العدد ثلاثين
يومًا لأنه من التقدير.
(وقال غيره) أي غير يحيى بن بكير وأراد به عبد الله بن
صالح كاتب الليث (عن الليث): بن سعد قال: (حدثني) بالإفراد
(عقيل) هو ابن خالد مما رواه الإسماعيلي (ويونس) بن يزيد
مما أورده الذهلي في الزهريات أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (لهلال رمضان) إذا
رأيتموه فصوموا و (إذا رأيتموه فأفطروا) ..
ومراده أن عقيلاً ويونس أظهرًا ما كان مضمرًا.
6 - باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا
وَنِيَّةً
وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُبْعَثُونَ عَلَى
نِيَّاتِهِمْ».
(باب من صام رمضان) حال كونه صيامه (إيمانًا) تصديقًا
بوجوبه (واحتسابًا) طلبًا للأجر (ونية) عطف على احتسابًا
لأن الصوم إنما يكون لأجل التقرب إلى الله تعالى والنية
شرط في وقوعه قربة.
(وقالت عائشة رضي الله عنها) مما وصله المؤلّف تامًا في
أوائل البيوع (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بلفظ يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من
الأرض خسف بهم ثم (يبعثون على نياتهم) يعني في الآخرة لأنه
كان في الجيش المذكور المكره والمختار فإذا بعثوا على
نياتهم وقعت المؤاخذة على المختار دون المكره.
1901 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ
إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ».
وبالسند قال (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الأزدي القصاب
البصري قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا يحيى)
بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن
(3/351)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(من قام ليلة القدر) حال كون قيامه (إيمانًا) تصديقًا
(واحتسابًا) طلبًا للأجر (غفر له ما تقدم من ذنبه). وعند
أحمد في مسنده برجال ثقات لكن فيه انقطاع من حديث عبادة بن
الصامت مرفوعًا: "ليلة القدر في العشر البواقي من قامهنّ
ابتغاء حسبتهن فإن الله تبارك وتعالى يغفر له ما تقدم من
ذنبه وما تأخر" الحديث. (ومن صام رمضان) حال كون صيامه
(إيمانًا) مصدّقًا بوجوبه (واحتسابًا) قال الخطابي: أي
عزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة به نفسه
غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه (غفر له ما تقدم من
ذنبه) زاد الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن
عمرو عن أبي سلمة (وما تأخر) وقد رواه جماعة منهم مسلم
وليس فيه: وما تأخر، لكن رواه النسائي في السنن الكبرى من
طريق قتيبة بن سعيد بلفظ: قام شهر رمضان وفيه وما تأخر ومن
قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر. وقد تابع قتيبة جماعة وقوله من ذنبه اسم جنس
مضاف فيعم جميع الذنوب إلا أنه مخصوص عند الجمهور
بالصغائر.
7 - باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
هذا (باب) بالتنوين (أجود ما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون في رمضان).
قال ابن الحاجب في أمالي المسائل المتفرقة: الرفع في أجود
هو الوجه لأنك إن جعلت في كان ضميرًا يعود إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن أجود بمجرده
خبرًا لأنه مضاف إلى ما يكون فهو كون ولا يستقيم الخبر
بالكون عما ليس بكون. ألا ترى إنك لا تقول زيد أجود ما
يكون فيجب أن يكون إما مبتدأ خبره قوله في رمضان من باب
قولهم أخطب ما يكون الأمير قائمًا وأكثر شربي السويق في
يوم الجمعة فيكون الخبر الجملة بكمالها كقولك كان زيد أحسن
ما يكون في يوم الجمعة، وإما بدلاً من الضمير في كان فيكون
من بدل الاشتمال كما تقول كان زيد علمه حسنًا، وإن جعلته
ضمير الشأن تعين رفع أجود على الابتداء والخبر وإن لم تجعل
في كان ضميرًا تعين الرفع على أنه اسمها والخبر محذوف
وقامت الحال مقامه على ما تقرر في باب أخطب ما يكون الأمير
قائمًا وإن شئت جعلت في رمضان هو الخبر كقولهم: ضربي في
الدار لأن المعنى الكون الذي هو أجود الأكوان حاصل في هذا
الوقت فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير
قائمًا اهـ.
1902 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ
بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ
السَّلاَمُ - يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ
حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ أَجْوَدَ
بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
وبالسند قال (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني نزيل بغداد قال:
(أخبرنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة) بضم عين الأول مصغرًا والثالث مع سكون
الفوقية ابن مسعود الهذلي المدني (أن ابن عباس -رضي الله
عنهما- قال):
(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجود
الناس)، أسخاهم (بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان) لأنه
شهر يتضاعف فيه ثواب الصدقة وما مصدرية أي أجود أكوانه
يكون في رمضان (حين يلقاه جبريل) عليه الصلاة والسلام وهو
أفضل الملائكة وأكرمهم (وكان جبريل عليه الصلاة والسلام
يلقاه كل ليلة) ولابن عساكر: في كل ليلة (في رمضان) منذ
أنزل عليه أو من فترة الوحي إلى آخر رمضان الذي توفي بعده
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى
ينسلخ. يعرض عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- القرآن) بعضه أو معظمه (فإذا لقيه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (جبريل عليه الصلاة والسلام
كان أجود بالخير من الريح المرسلة) يحتمل أن يكون زيادة
الجود بمجرد لقاء جبريل ومجالسته، ويحتمل أن يكون بمدارسته
إياه القرآن وهو يحث على مكارم
الأخلاق، وقد كان القرآن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خلقًا بحيث يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ويسارع إلى
ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه، فلهذا كان يتضاعف جوده
وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل وكثرة
مدارسته له هذا الكتاب الكريم ولا شك أن المخالطة تؤثر
وتورث أخلاقًا من المخالط، لكن إضافة آثار ذلك إلى القرآن
كما قال ابن المنير آكد من إضافتها إلى جبريل عليه الصلاة
والسلام بل جبريل إنما تميز
(3/352)
بنزوله بالوحي فالإضافة إلى الحق أولى من
الإضافة إلى الخلق لا سيما والنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المذهب الحق أفضل من جبريل فما
جالس الأفضل إلا المفضول فلا يقاس على مجالسة الآحاد
للعلماء.
وفي هذا الحديث تعظيم شهر رمضان لاختصاصه بابتداء نزول
القرآن ثم معارضة ما نزل منه فيه وأن ليله أفضل من نهاره
وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم لأن الليل مظنة ذلك
لما في النهار من الشواغل والعوارض، وأن فضل الزمان إنما
يحصل بزيادة العبادة وأن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير
واستحباب تكثير العبادة في أواخر العمر.
وهذا الحديث قد سبق في كتاب الوحي.
8 - باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ
بِهِ فِي الصَّوْمِ
(باب من لم يدع قول الزور) أي من لم يترك الكذب والميل عن
الحق (والعمل به) أي بمقتضاه مما نهى الله عنه (في الصوم)
كذا في الفرع زيادة في الصوم، ونسبها الحافظ ابن حجر لنسخة
الصغاني.
1903 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ
وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ
يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». [الحديث 1903 - طرفه في:
6057].
وبالسند قال (حدّثنا آدم بن أبي إياس) العسقلاني الخراساني
الأصل قال (حدّثنا ابن أبى ذئب) محمد بن عبد الرحمن قال:
(حدّثنا سعيد المقبري عن أبيه) كيسان الليثي (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله) ولأبي ذر وابن عساكر:
قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من لم يدع) من لم يترك (قول الزور والعمل به) زاد المؤلّف
في الأدب عن أحمد بن يونس عن أبي ذئب والجهل، وفي رواية
ابن وهب والجهل في الصوم، ولابن ماجة من طريق ابن المبارك:
من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به. فالضمير في به يعود
على الجهل لكونه أقرب مذكور أو على الزور فقط وإن بعد
لاتفاق الروايات عليه أو عليهما وإفراد الضمير لاشتراكهما
في تنقيص الصوم قاله العراقي، وفي الأولى يعود على الزور
فقط والمعنى متقارب، وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقات:
من لم يدع الخنا والكذب، والجمهور على أن الكذب والغيبة
والنميمة لا تفسد الصوم، وعن
الثوري مما في الإحياء أن الغيبة تفسده قال: وروى ليث عن
مجاهد خصلتان تفسدان الصوم الغيبة والكذب هذا لفظه،
والمعروف عن مجاهد خصلتان من حفظهما سلم له صومه الغيبة
والكذب رواه ابن أبي شيبة والصواب الأول. نعم هذه الأفعال
تنقص الصوم. وقول بعضهم أنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر.
أجاب عنه الشيخ تقي الدين السبكي بأن في حديث الباب والذي
مضى في أول الصوم دلالة قوية لذلك لأن الرفث والصخب وقول
الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقًا والصوم مأمور به
مطلقًا فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم
يكن لذكرها فيه مشروطة به معنى نفهمه فلما ذكرت في هذين
الحديثين نبهتنا على أمرين: أحدهما زيادة قبحها في الصوم
على غيره، والثاني الحث على سلامة الصوم عنها وأن سلامته
منها صفة كمال فيه وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل
الصوم فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها فإذا لم
يسلم عنها نقص، ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء
وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة وليس المقصود من الصوم
العدم المحض كما في المنهيات لأنه يشترط له النية بالإجماع
ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن
لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات ونبه
العاقل بذلك على الإمساك عن المخالفات وأرشد إلى ذلك ما
تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده فيكون اجتناب المفطرات
واجبًا واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات نقله في
فتح الباري.
(فليس لله حاجة في أن يدع) يترك (طعامه وشرابه) هو مجاز عن
عدم الالتفات والقبول فنفى السبب وأراد المسبب وإلا فالله
لا يحتاج إلى شيء قاله البيضاوي مما نقله الطيبي في شرح
المشكاة، وقول ابن بطال وغيره معناه ليس لله إرادة في
صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة فيه إشكال لأنه لو لم يرد
الله تركه لطعامه وشرابه لم يقع الترك ضرورة أن كل واقع
تعلقت الإرادة بوقوعه ولولا ذلك لم يقع، وليس المراد الأمر
بترك صيامه إذا لم يترك الزور وإنما معناه التحذير من قول
الزور فهو كقوله عليه الصلاة والسلام "من باع الخمر فليشقص
الخنازير" أي يذبحها ولم يأمره
(3/353)
بشقصها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم
شارب الخمر، وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم
له أجر صيامه.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الأدب وأبو داود،
وأخرجه الترمذي في الصوم وكذا النسائي وابن ماجة.
9 - باب هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ
هذا (باب) بالتنوين (هل يقول) الشخص (إني صائم إذا شتم).
1904 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قَالَ اللَّهُ:
كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصِّيَامَ
فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَالصِّيَامُ
جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ
يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ
قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ
أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.
لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ
فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ لِصَوْمِهِ».
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد التميمي
الفراء الرازي الصغير قال: (أخبرنا هشام بن يوسف) الصنعاني
اليماني قاضيها (عن ابن جريج) عبد الملك (قال أخبرني)
بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح (عن أبي صالح) ذكوان
(الزيات أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
(قال الله) عز وجل (كل عمل ابن آدم له)، فيه حظ ومدخل
لاطلاع الناس عليه فهو يتعجل به ثوابًا من الناس ويجوز به
حظًا من الدنيا وزاد في رواية كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة
بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف (إلا الصيام فإنّه) خالص
(لي) لا يعلم ثوابه المترتب عليه غيري أو وصف من أوصافي
لأنه يرجع إلى صفة الصمدية لأن الصائم لا يأكل ولا يشرب
فتخلق باسم الصمد أو أن كل عمل ابن آدم مضاف له لأنه فاعله
إلا الصوم فإنه مضاف لي لأني خالقه له على سبيل التشريف
والتخصيص فيكون كتخصيص آدم بإضافته إليه أن خلقه بيده وكل
مخلوق بالحقيقة مضاف إلى الخالق، لكن إضافة التشريف خاصة
بمن شاء الله أن يخصه بها أو كأنه تعالى يقول هو لي فلا
يشغلك ما هو لك عما هو لي، ولأن فيه مجمع العبادات لأن
مدارها على الصبر والشكر وهما حاصلان فيه، ولما كان ثواب
الصيام لا يحصيه إلا الله تعالى لم يكله تعالى إلى ملائكته
بل تولى جزاءه تعالى بنفسه قال:
(وأنا أجزي به) بفتح الهمزة وفيه دلالة على أن ثواب الصوم
أفضل من سائر الأعمال لأنه تعالى أسند إعطاء الجزاء إليه
وأخبر أنه يتولى ذلك والله تعالى إذا تولى شيئًا بنفسه دل
على عظم ذلك الشيء وخطره قدره وهذا كما روي أن من أدمن
قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة فإنه لا يتولى قبض روحه إلا
الله تعالى (والصيام جنة)، وقاية من المعاصي ومن النار
(وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث) بتثليث الفاء وآخره ثاء
مثلثة لا يفحش في الكلام (ولا يصخب)، بالصاد المهملة
والخاء المعجمة المفتوحة، ويجوز إبدال الصاد سينًا أي لا
يصح ولا يخاصم (فإن سابه أحد) وزاد سعيد بن منصور من طريق
سهيل أو ماراه يعني جادله (أو قاتله) يعني إن تهيأ أحد
لمشاتمته أو مقاتلته (فليقل) له بلسانه إني صائم ليكف خصمه
عنه أو بقلبه ليكف هو عن خصمه، ورجح الأول النووي في
الأذكار وبالثاني جزم المتولي، ونقله الرافعي عن الأئمة
وتعقب بأن القول حقيقة إنما هو باللسان وأجيب بأنه لا
يمتنع المجاز، وقال النووي في المجموع: كل منهما حسن
والقول باللسان أقوى ولو
جمعهما لكان حسنًا. قال في الفتح: ولهذا الترد أتى البخاري
في ترجمته لهذا الباب بالاستفهام فقال: هل يقول إني صائم
إذا شتم. وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل بلسانه وإن
كان غيره فليقل في نفسه: (إني امرؤ صائم) قال في الرواية
السابقة في باب فضل الصوم مرتين (و) الله (الذي نفس محمد
بيده لخلوف) بضم الخاء على الصواب ولأبي ذر عن الكشميهني:
لخلف بضم الخاء واللام وحذف الواو جمع خلفة بالكسر أي تغير
رائحة (فم الصائم) لخلاء معدته من الطعام ولأبي ذر في
نسخة: في الصائم بغير ميم بعد الفاء (أطيب عند الله) يوم
القيامة كما في مسلم أو في الدنيا لحديث فإن خلوف أفواههم
حين يمسون أطيب عند الله (من ريح المسك). وفيه إشارة إلى
أن رتبة الصوم علية على غيره لأن مقام العندية في الحضرة
المقدسية أعلى المقامات السنية، وإنما كان الخلوف أطيب عند
الله من ريح المسك لأن الصوم من أعمال السر التي بين الله
تعالى وبين عبده ولا يطلع على
صحته غيره، فجعل الله رائحة صومه تنم عليه في الحشر بين
الناس، وفي ذلك إثبات الكرامة والثناء الحسن له وهذا كما
قال عليه الصلاة والسلام في المحرم: فإنه يبعث يوم القيامة
ملبيًا وفي الشهيد: يبعث وأوداجه تشخب دمًا تشهد له بالقتل
في
(3/354)
سبيل الله ويبعث الإنسان على ما عاش عليه.
قال السمرقندي: يبعث الزامر وتتعلق زمارته في يده فيلقيها
فتعود إليه ولا تفارقه، ولما كان الصائم يتغير فمه بسبب
العبادة في الدنيا والنفوس تكره الرائحة الكريهة في الدنيا
جعل الله تعالى رائحة فم الصائم عند الملائكة أطيب من ريح
المسك في الدنيا وكذا في الدار الآخرة، فمن عبد الله تعالى
وطلب رضاه في الدنيا فنشأ من عمله آثار مكروهة في الدنيا
فإنها محبوبة له تعالى وطيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته
واتباع مرضاته، ولذلك كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح
المسك، وغبار المجاهدين في سبيل الله ذريرة أهل الجنة كما
ورد في حديث مرسل.
(للصائم فرحتان) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر (يفرحهما) أي يفرح
بهما فحذف الجار توسعًا كقوله تعالى فليصمه أي فيه (إذا
أفطر فرح)، زاد مسلم بفطره أي لزوال جوعه وعطشه حيث أبيح
له الفطر وهذا الفرح الطبيعي، أو من حيث إنه تمام صومه
وخاتمة عبادته وفرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في
ذلك، (وإذا لقي ربه) عز وجل (فرح بصومه) أي بجزائه وثوابه
أو بلقاء ربه وعلى الاحتمالين فهو مسرور بقبوله.
10 - باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ
الْعُزُوبَةَ
(باب) مشروعية (الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة) أي ما
ينشأ عنها من إرادة الوقوع في العنت ولأبي ذر العزبة بضم
العين وسكون الزاي وحذف الواو.
1905 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ:
"بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله
عنه- فَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ
أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ
وِجَاءٌ". [الحديث 1905 - طرفاه في: 5065، 5066].
وبالسند قال: (حدّثنا عبدان) لقب عبد الله بن عثمان بن
جبلة الأزدي العتكي المروزي البصري الأصل (عن أبي حمزة)
بحاء مهملة وزاي محمد بن ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان
بن مهران (عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس النخعي
أنه (قال):
(بينا) بغير ميم (أنا أمشي مع عبد الله) يعني ابن مسعود
(-رضي الله عنه-) وجواب بينا قوله (فقال: كنا مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: من استطاع)
منكم (الباءة) بالمد على الأفصح لغة الجماع والمراد به هنا
ذلك، وقيل مؤن النكاح والقائل بالأول رده إلى معنى الثاني
إذ التقدير عنده: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن
النكاح (فليتزوج، فإنه) أي التزوج (أغض) بالغين والضاد
المعجمتين (للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع) أي الباءة
لعجزه عن المؤن (فعليه بالصوم)، وإنما قدروه بذلك لأن من
لم يستطع الجماع لعدم شهوته لا يحتاج إلى الصوم لدفعها،
وهذا فيه كلام للنحاة فقيل من إغراء الغائب وسهله تقدم
المغري به في قوله: من استطاع منكم الباءة فكان كإغراء
الحاضر قاله أبو عبيدة. وقال ابن عصفور: الباء زائدة في
المبتدأ ومعناه الخبر لا الأمر أي فعليه الصوم. وقال ابن
خروف: من إغراء المخاطب أي أشيروا عليه بالصوم فحذف فعل
الأمر وجعل عليه عوضًا منه وتولى من العمل ما كان الفعل
يتولاه واستتر فيه ضمير المخاطب الذي كان متصلاً بالفعل.
ورجح بعضهم رأي ابن عصفور بأن زيادة الباء في المبتدأ أوسع
من إغراء الغائب ومن إغراء المخاطب من غير أن ينجز ضميره
بالظرف أو حرف الجر الموضوع مع ما خفضه موضع فعل الأمر.
(فإنه) أي فإن الصوم (له) للصائم (وجاء) بكسر الواو والمد
أي قاطع للشهوة واستشكل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة
وذلك مما يثير الشهوة.
وأجيب: بأن ذلك إنما يكون في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه
واعتاده سكن ذلك. قال في الروضة: فإن لم تنكسر به لم
يكسرها بكافور ونحوه بل ينكح. قال ابن الرفعة نقلاً عن
الأصحاب لأنه نوع من الاختصاء.
11 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا،
وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا»
وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ: "مَنْ صَامَ يَوْمَ
الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في
حديث مسلم: (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه
فأفطروا) بهمزة قطع.
(وقال صلة) بن زفر بضم الزاي وفتح الفاء المخففة وصلة بكسر
الصاد بوزن عدة العبسي الكوفي التابعي الكبير مما وصله
أصحاب السنن (عن عمار) هو ابن ياسر (من صام يوم الشك) الذي
تحدّث الناس فيه برؤية الهلال ولم تثبت رؤيته (فقد عصى أبا
القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وذكر الكنية
الشريفة دون الاسم إشارة إلى أنه يقسم أحكام الله بين
عباده واستدلّ به على تحريم صوم يوم الشك لأن الصحابي لا
يقول ذلك من قبل رأيه
(3/355)
فهو من قبيل المرفوع والمعنى فيه القوة على
صوم رمضان، وضعفه السبكي بعدم كراهة صوم شعبان على أن
الأسنوي قال: إن المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون
الكراهة لا التحريم.
1906 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: لاَ
تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا
حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا
لَهُ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن
مالك) الإمام، ولابن عساكر: حدّثنا مالك (عن نافع عن عبد
الله بن عمر -رضي الله عنهما-)
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر
رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال)، أي إذا لم يكمل
شعبان ثلاثين يومًا (ولا تفطروا) من صومه (حتى تروه)، أي
الهلال. وليس المراد رؤية جميع الناس بحيث يحتاج كل فرد
إلى رؤيته بل المعتبر رؤية بعضهم وهو العدد الذي تثبت به
الحقوق وهو عدلان إلا أنه يكتفي في ثبوت هلال رمضان بعدل
واحد يشهد عند القاضي.
وقالت طائفة منهم البغوي: ويجب الصوم أيضًا على من أخبره
موثوق به بالرؤية وإن لم يذكره عند القاضي ويكفي في
الشهادة: أشهد أني رأيت الهلال لا أن يقول غدًا من رمضان
لأنه قد يعتقد دخوله بسبب لا يوافقه عليه المشهود عنده بأن
يكون أخذه من حساب أو يكون حنفيًا يرى إيجاب الصوم ليلة
الغيم أو غير ذلك.
واستدلّ لقبول الواحد بحديث ابن عباس عند أصحاب السنن قال:
جاء إعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: إني رأيت الهلال فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله
أتشهد أن محمدًا رسول الله"؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن
في الناس أن يصوموا غدًا.
وروى أبو داود وابن حبان عن ابن عمر قال: تراءى الناس
الهلال فأخبرت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه وهذا أشهر
قولي الشافعي عند أصحابه وأصحهما، لكن آخر قوليه أنه لا بد
من عدلين. قال في الأم: لا يجوز على هلال رمضان إلا
شاهدان، لكن قال الصيمري: إن صح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل شهادة الأعرابي وحده أو شهادة ابن
عمر وحده قبل الواحد وإلا فلا يقبل أقل من اثنين، وقد صح
كل منهما. وعندي أن مذهب الشافعي قبول الواحد وإنما
رجع إلى الاثنين بالقياس لما لم يثبت عنده في المسألة سنّة
فإنه تمسك للواحد بأثر عن عليّ، ولهذا قال قي المختصر: ولو
شهد برؤيته عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه.
(فإن غُمَّ عليكم) بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي إن
حال بينكم وبين من الهلال غيم في صومكم أو فطركم (فاقدروا
له) بهمزة وصل وضم الدال وهو تأكيد لقوله لا تصوموا حتى
تروا الهلال إذ المقصود حاصل منه، وقد أورثت هذه الزيادة
المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله: فاقدروا له
فالجمهور قالوا معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا أي
انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يومًا كما جاء مفسرًا
في الحديث اللاحق، ولذا أخره المؤلّف لأنه مفسر. وقال
آخرون: ضيقوا له وقدروه تحت الحساب وهو مذهب الحنابلة،
وقال آخرون: قدروه بحساب المنازل. قال الشافعية: ولا عبرة
بقول المنجم فلا يجب به الصوم ولا يجوز، والمراد بآية
{وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16] الاهتداء في أدلة القبلة،
ولكن له أن يعمل بحسابه كال صلاة ولظاهر هذه الآية. وقيل
ليس له ذلك وصحح في المجموع أن له ذلك وأنه لا تجزئه عن
فرضه وصحح في الكفاية أنه إذا جاز أجزأه ونقله عن الأصحاب
وصوّبه الزركشي تبعًا للسبكي قال: وصرح به في الروضة في
الكلام على أن شرط النية الجزم. قال: والحاسب وهو من يعتمد
منازل القمر وتقدير سيره في معنى المنجم، وهو من يرى أن
أول الشهر طلوع النجم الفلاني وقد صرح بهما معًا في
المجموع.
1907 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ
تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب قال: (حدّثنا
مالك) الإمام (عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر
-رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه)، أي الهلال
(فإن غَُمَّ عليكم) في صومكم (فأكملوا العدّة) عدة شعبان
(ثلاثين) يومًا هذا مفسر ومبين لقوله في الحديث السابق:
فاقدروا له وأولى ما فسر الحديث بالحديث.
1908 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الشَّهْرُ هَكَذَا
وَهَكَذَا، وَخَنَسَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ".
[الحديث 1908 - طرفاه في: 1913، 5302].
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطياسي
قال (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن جبلة) بفتح
(3/356)
الجيم والموحدة واللام (ابن سحيم) بضم
السين وفتح الحاء المهملتين الكوفي المتوفى
زمن الوليد بن يزيد (قال سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما-
يقول: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(الشهر هكذا وهكذا)، أشار بيديه الكريمتين ناشرًا أصابعه
مرتين فهذه عشرون (وخنس الإبهام) بفتح الخاء المعجمة
والنون المخففة آخره مهملة أي قبض أصبعه الإبهام ونشر بقية
أصابعه (في) المرة (الثالثة) فهي تسعة والجملة تسعة وعشرون
يومًا، ولأبي ذر عن الكشميهني: وحبس الإبهام بالحاء
المهملة ثم الموحدة أي منعها من الإرسال، والحاصل أن
العبرة بالهلال فتارة يكون ثلاثين وتارة تسعة وعشرين وقد
لا يرى فيجب إكمال العدد ثلاثين وقد يقع النقص متواليًا في
شهرين وثلاثة ولا يقع في أكثر من أربعة أشهر.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الطلاق، ومسلم
والنسائي في الصوم.
1909 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ
عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ».
وبالسند قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج قال: (حدّثنا محمد بن زياد) بكسر الزاي وتخفيف
التحتية القرشي الجمحي المدني الأصل سكن البصرة التابعي
الثقة (قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أو قال: قال أبو
القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالشك من
الراوي.
(صوموا) أي انووا الصيام وبيتوا على ذلك أو صوموا إذا دخل
وقت الصوم وهو من فجر الغد (لرؤيته) الضمير للهلال وإن لم
يسبق له ذكر لدلالة السياق عليه واللام للتوقيت كهي في
قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] أي وقت
دلوكها. وقال ابن مالك وابن هشام: بمعنى بعد أي بعد زوالها
وبعد رؤلة الهلال. (وافطروا لرؤيته)، بهمزة قطع (فإن
غُبّيَ عليكم) بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة المكسورة
مبنيًا للمفعول، وللحموي: فإن، غبي بفتح المعجمة وكسر
الموحدة كعلم. وقال عياض: غبي بفتح الغين وتخفيف الباء
لأبي ذر، وعند القابسي بضم الغين وشد الباء المكسورة وكذا
قيده الأصيلي والأول أبين ومعناه خفي عليكم وهو من الغباوة
وهو عدم الفطنة استعارة لخفاء الهلال، وللكشميهني: أغمي
بضم الهمزة وزيادة ياء مبنيًا للمفعول من الإغماء يقال:
أغمي عليه الخبر إذا استعجم، وللمستملي: غَُمَّ بضم
المعجمة وتشديد الميم. قال في القاموس: حال دونه غيم رقيق.
(فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) فيه تصريح بأن عدة الثلاثين
المأمور بها في حديث ابن عمر تكون من شعبان.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم وكذا النسائي.
1910 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ
عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
-رضي الله عنها-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا،
فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا -أَوْ
رَاحَ- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ
شَهْرًا فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا". [الحديث: 1910 - طرفه في: 5202].
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (عن ابن
جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن يحيى بن عبد الله بن
صيفي) بصاد مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة وفاء اسم بلفظ
النسبة (عن عكرمة بن عبد الرحمن) بن الحرث المخزومي (عن أم
سلمة) أم المؤمنين (-رضي الله عنها-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آلى من
نسائه) بمد الهمزة من آلى أي حلف لا يدخل عليهن (شهرًا)،
وفي مسلم من حديث عائشة: أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرًا
ففيه التصريح بأن حلفه عليه الصلاة والسلام كان على
الامتناع من الدخول عليهن شهرًا فتبين أن المراد بقوله هنا
آلى: حلف لا يدخل ولم يرد الحلف على الوطء والروايات يفسر
بعضها بعضًا فإن الإيلاء في اللغة مطلق الحلف ويستعمل في
عرف الفقهاء في حلف مخصوص وهو الحلف على الامتناع من وطء
زوجته مطلقًا أو مدة تزيد على أربعة أشهر، وتعديته بمن فى
قوله: من نسائه تدل على ذلك لأنه راعى المعنى وهو الامتناع
من الدخول وهو يتعدى بمن.
(فلما مضى تسعة وعشرون يومًا) وفي حديث عائشة عند مسلم:
فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليّ واستشكل لأن مقتضاه أنه
دخل في اليوم التاسع والعشرين فلم يَكن كن ثم شهر لا على
الكمال ولا النقصان.
وأجيب بأن المراد تسع وعشرون ليلة بأيامها فإن العرب تؤرخ
بالليالي وتكون الأيام تابعة لها، ويدل له حديث أم سلمة
هذا فلما مضى تسعة وعشرون يومًا (غدًا). بالغين المعجمة
ذهب أول النهار (أو راح) ذهب آخره
(3/357)
والشك من الراوي (فقيل له): وفي مسلم من
حديث عائشة بدأ بي فقلت يا رسول الله (إنك حلفت أن لا
تدخل) علينا (شهرًا فقال) عليه الصلاة والسلام: (إن الشهر
يكون تسعة وعشرين يومًا) ولأبي ذر: وعشرون بالرفع. وهذا
محمول عند الفقهاء على أنه عليه الصلاة والسلام أقسم على
ترك الدخول على أزواجه شهرًا بعينه بالهلال وجاء ذلك الشهر
ناقصًا فلو تم ذلك الشهر ولم ير الهلال فيه ليلة الثلاثين
لمكث ثلاثين يومًا أما لو حلف على ترك الدخول عليهن شهرًا
مطلقًا لم يبر إلا بشهر تام بالعدد.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح ومسلم في الصوم
والنسائي في عشرة النساء وابن ماجة في الطلاق.
1911 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ
أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "آلَى رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نِسَائِهِ،
وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ
تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا. فَقَالَ: إِنَّ
الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي القرشي
المدني قال: (حدّثنا سليمان بن بلال) التيمي المدني (عن
حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه- قال):
(آلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
نسائه)، بمد الهمزة وفتح اللام أي حلف لا يدخل عليهن شهرًا
(وكانت) بالواو وفي نسخة: فكانت "انفكت رجله، فأقام في
مشربة" بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وضم الراء وفتحها
بالموحدة غرفة (تسعًا وعشرين ليلة) وفي نسخة بالفرع كأصله
لم يعزها تسعة وعشرين (ثم نزل) من المشربة ودخل على عائشة
(فقالوا): وعند مسلم: قالت عائشة: فقلت: (يا رسول الله)
إنك (آليت) حلفت أن لا تدخل (شهرًا، فقال) عليه الصلاة
والسلام (إن الشهر يكون تسعًا وعشرين) يومًا وللكشميهني
والحموي والمستملي وابن عساكر: تسعة وعشرين.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الإيمان والنذور والنكاح.
12 - باب شَهْرَا عِيدٍ لاَ يَنْقُصَانِ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ: وَإِنْ كَانَ
نَاقِصًا فَهْوَ تَمَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لاَ
يَجْتَمِعَانِ كِلاَهُمَا نَاقِصٌ.
هذا (باب) بالتنوين (شهرا عيد) رمضان وذو الحجة (لا
ينقصان).
(قال أبو عبد الله) البخاري (إسحاق): هو ابن راهويه أو ابن
سويد بن هبيرة العدوي (وإن كان) كل واحد من شهري العيد
(ناقصًا) في العدد والحساب (فهو تام). في الأجر والثواب.
(وقال محمد) هو ابن سيرين أو المؤلّف نفسه (لا يجتمعان
كلاهما ناقص) كلاهما مبتدأ وناقص خبره والجملة حال من ضمير
الاثنين. قال أحمد بن حنبل: إن نقص رمضان تم ذو الحجة وإن
نقص ذو الحجة تم رمضان، وذكر قاسم في الدلائل أنه سمع
البزار يقول: لا ينقصان جميعًا في سنة واحدة قال: ويدل له
رواية زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب مرفوعًا: شهرًا عيد لا
يكونان ثمانية وخمسين يومًا. وقال آخرون: يعني لا يكاد
يتفق نقصانهما جميعًا في سنة واحدة غالبًا وإلا فلو حمل
الكلام على عمومه اختل ضرورة أن اجتماعهما ناقصين في سنة
واحدة قد وجد، بل قال الطحاوي قد وجدناهما ينقصان معًا في
أعوام وهذا الوجه أعدل مما قبله ولا يجوز حمله على ظاهره
ويكفي في ردّه قوله عليه الصلاة والسلام "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة" فإنه لو كان
رمضان
أبدًا ثلاثين لم يحتج إلى هذا، وقيل لا ينقصان في ثواب
العمل فيهما كما سيأتي إن شاء الله تعالى وسقط من قوله قال
أبو عبد الله إلى آخره قوله ناقص من رواية أبي ذر وابن
عساكر.
1912 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ:
سَمِعْتُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ح وَحَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا
مُعْتَمِرٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: أَخْبَرَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضي
الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ، شَهْرَا
عِيدٍ: رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ».
وبالسند قال (حدّثنا مسدد) بالمهملة ابن مسرهد قال:
(حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان البصري (قال: سمعت إسحاق
يعني ابن سويد) وسقط لفظ يعني لأبي الوقت والجملة لم لأبي
ذر وابن عساكر وإسحاق هذا هو العدوي (عن عبد الرحمن بن أبي
بكرة عن أبيه) أبي بكرة نفيِع (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). ولم يسق المؤلّف متن هذا الإسناد
وهو عند أبي نعيم في مستخرجه من طريق أبي خليفة وأبي مسلم
الكجي جميعًا عن مسدد بهذا الإسناد بلفظ لا ينقص رمضان ولا
ينقص ذو الحجة قال المؤلّف: (ح).
(وحدثني) بالإفراد (مسدد قال: حدّثنا معتمر عن خالد الحذاء
قال: أخبرني) بالإفراد ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: حدثني
بالإفراد أيضًا (عبد الرحمن بن أبي بكرة -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبيه -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(شهران لا ينقصان)، مبتدأ وخبر. قال الزين بن المنير:
المراد أن النقص الحسي باعتبار العدد ينجبر بأن كلاً منهما
شهر عيد
(3/358)
عظيم فلا ينبغي وصفهما بالنقصان بخلاف
غيرهما من الشهور. وقال البيهقي في المعرفة: إنما خصهما
بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وبه جزم النووي وقال
إنه الصواب المعتمد وأن كل ما ورد عنهما من الفضائل
والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعًا وعشرين سواء
صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره. ولا يخفى أن محل ذلك ما
إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال. وفائدة الحديث رفع ما
يقع في القلوب من شك لمن صام تسعًا وعشرين أو وقف في غير
يوم عرفة. وقال الطيبي: ظاهر سياق الحديث في بيان اختصاص
الشهرين بمزية ليست في سائرها وليس المراد أن ثواب الطاعة
في سائرها قد ينقص دونهما، وإنما المراد رفع الحرج عما عسى
أن يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين وجواز احتمال
وقوع الخطأ فيهما ومن ثم لم يقتصر على قوله رمضان وذو
الحجة بل قال:
(شهرا عيد) خبر مبتدأ محذوف أي هما شهرا عيد أو رفع على
البدلية أحدهما "رمضان" بغير صرف للعلمية والألف والنون
(و) الآخر (ذو الحجة) وهذا لفظ متن السند الثاني وهو موافق
للفظ الترجمة وأطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد
أو لكون هلال العيد. ربما (رئي في اليوم الأخير من رمضان
قاله الأثرم والأول أولى ونظيره قوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المغرب وتر النهار" أخرجه الترمذي
من حديث ابن عمر وصلاة المغرب ليلية جهرية وأطلق كونها وتر
النهار لقربها منه وفيه إشارة إلى أن وقتها يقع أوّل ما
تغرب الشمس. واستشكل ذكر الحجة لأنه إنما يقع الحج في
العشر الأول منه فلا دخل لنقصان الشهر وتمامه.
وأجيب: بأنه مؤول بأن الزيادة والنقص إذا وقعا في القعدة
يلزم منهما نقص عشر ذي الحجة الأول أو زيادته فيقفون
الثامن أو العاشر فلا ينقص أجر وقوفهم عما لا غلط فيه قاله
الكرماني، لكن قال البرماوي: وقوف الثامن غلطًا لا يعتبر
على الأصح.
13 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا
نكتب ولا نحسب) بالنون فيهما.
1913 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو
أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
قَالَ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ
نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا. يَعْنِي مَرَّةً
تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ".
وبالسند قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج قال: (حدّثنا الأسود بن قيس) الكوفي التابعي
الصغير قال: (حدّثنا سعيد بن عمرو) بفتح العين ابن سعيد بن
العاصي المدني سكن دمشق ثم الكوفة (أنه سمع ابن عمر -رضي
الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه قال):
(إنا) أي العرب أو نفسه المقدسة (أمة) جماعة قريش (أمية)
بلفظ النسبة إلى الأم أي باقون على الحالة التي ولدتنا
عليها الأمهات (لا نكتب) بيان لكونهم كذلك أو المراد
النسبة إلى أمة العرب لأنهم ليسوا أهل كتاب والكاتب منهم
نادر (ولا نحسب)، بضم السين لا نعرف حساب النجوم وتسييرها
فلم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه
إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة
وأمور ظاهرة لائحة يستوي في معرفتها الحساب وغيرهم، ثم تمم
عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بإشارته بيده من غير لفظ
إشارة يفهمها الأخرس والأعجمي (الشهر هكذا وهكذا). قال
الراوي (يعني) عليه الصلاة والسلام (مرة تسعة وعشرين ومرة
ثلاثين).
قال في الفتح هكذا ذكره آدم شيخ المؤلّف مختصرًا ورواه
غندر عن شعبة تامًّا أخرجه مسلم عن ابن المثنى وغيره عنه
بلفظ الشهر هكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر
هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين أي أشار أولاً بأصابع
يديه العشر جميعًا مرتين وقبض الإبهام في المرة الثالثة،
وهذا هو المعبر عنه بقوله: تسع وعشرون وأشار بهما مرة أخرى
ثلاث مرات وهو المعبر عنه بقوله ثلاثون.
وحديث الباب أخرجه مسلم في الصوم وكذا أبو داود والنسائي.
14 - باب لاَ يُتَقَدَّمُ رَمَضَانُ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ
يَوْمَيْنِ
هذا (باب) بالتنوين وبغيره (لا يتقدّمن) بنون التوكيد
الثقيلة ويجوز تخيفها ولأبي ذر وابن عساكر: لا يتقدم أي
الكلف (رمضان) وقال الحافظ ابن حجر: لا يتقدم بضم أوله
وفتح ثانيه يعني مبنيًّا للمفعول رمضان رفع نائب عن الفاعل
ثم قال: ويجوز فتحهما أي أوّل
(3/359)
يتقدم وثانيه ولم يعزه لأحد (بصوم يوم ولا)
ولابن عساكر: أو (يومين) بعدّ منه بقصد الاحتياط له فإن
صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف.
1914 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ
أَوْ يَوْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ
صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ».
وبالسند قال (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي البصري
قال: (حدثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا يحيى بن أبي
كثير) اليمامي أحد الثقات الأثبات إلا أنه كان كثير
الإرسال والتدليس رأى أنسًا ولم يسمع منه واحتج به الأئمة
(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه قال):
(لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين) أي بنية
الرمضانية احتياطًا ولكراهة التقدم معان.
أحدها: خوفًا من أن يزاد في رمضان ما ليس منه كما نهي عن
صيام يوم العيد لذلك حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في
صيامهم فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم وخرّج الطبراني عن
عائشة أن ناسًا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأنزل الله تعالى:
{يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}
[الحجرات: 1] ولهذا نهي عن صوم يوم الشك.
والمعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل فإن جنس
الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع، ولذا حرم صيام يوم
العيد ونهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام
خصوصًا سنة الفجر، وفي المسند أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعله وهذا فيه نظر لأنه يجوز لمن له
عادة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والمعنى الثالث: أنه للتقوّي على صيام رمضان فإن مواصلة
الصيام تضعف عن صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو
يومين كان أقرب إلى التقوى على صيام رمضان فيه نظر لأن
معنى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام فصاعدًا جاز.
المعنى الرابع: أن الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو
يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم (إلا أن يكون رجل كان
يصوم صومه) المعتاد من ورد كأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم
وفطر يوم أو يوم معين كالاثنين فصادفه أو نذر أو قضاء،
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يصوم صومًا (فليصم ذلك
اليوم) فإنه مأذون له فيه ويجب عليه النذر وما بعده فهو
مستثنى بالأدلة القطعية ولا يبطل القطعي بالظني، ومفهوم
الحديث الجواز إذا كان التقدم بأكثر من يومين، وقيل يمتد
المنع لما قبل ذلك وبه قطع كثير من الشافعية. وأجابوا عن
الحديث بأن المراد منه التقدم بالصوم فحيث وجد منع، وإنما
اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب ممن يقصد ذلك، وقالوا
أمد المنع من أوّل السادس من شعبان لحديث إذا انتصف شعبان
فلا تصوموا رواه أبو داود وغيره وظاهره أنه يحرم الصوم إذا
انتصف وإن وصله بما قبله وليس مرادًا حفظًا لأصل مطلوبية
الصوم، وقد قال النووي في المجموع: إذا انتصف شعبان حرم
الصوم بلا سبب إن لم يصله بما قبله على الصحيح.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم وكذا أبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة.
15 - باب قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} {البقرة: 187].
(باب قول الله جلّ ذكره) ({أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى
نسائكم) كناية عن الجماع وعدّى بإلى لتضمنه معنى الإِفضاء
ثم بين سبب الإحلال فقال: ({هن لباس لكم وأنتم لباس لهن})
لأن الرجل والمرأة يتضاجعان ويشتمل كل واحد منهما على
صاحبه شبه باللباس أو لأن كلاًّ منهما يستر حال صاحبه
ويمنعه عن الفجور ({علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم})
تجامعون النساء وتأكلون وتشربون في الوقت الذي كان حرامًا
عليكم ({فتاب عليكم}) لما تبتم مما اقترفتموه ({وعفا
عنكم})، ومحا عنكم أثره ({فالآن باشروهن}) أي جامعوهن فقد
نسخ عنكم التحريم ({وابتغوا ما كتب الله لكم}) [البقرة:
187] واطلبوا ما قدّره لكم وأثبته ففي اللوح المحفوظ من
الولد والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه
الحكمة في خلق الشهوة وشرع النكاح ولفظ رواية أبي ذر
({أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}) إلى قوله ({ما
كتب الله لكم}).
1915 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ
إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ -رضي
الله عنه- قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ الرَّجُلُ
صَائِمًا فَحَضَرَ الإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ
يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى
يُمْسِيَ. وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ
كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى
امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ:
لاَ، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ
يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ
امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ،
فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ
ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
هَذِهِ الآيَةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا
شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الأَسْوَدِ}. [الحديث 1915 - طرفه في: 4508].
وبالسند
(3/360)
قال (حدّثنا عبيد الله بن موسى) بضم العين
مصغرًا العبسي الكوفي (عن إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق
السبيعي (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله (عن
البراء) بن عازب (-رضي الله عنه- قال: كان أصحاب محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في أول ما افترض
الصيام (إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن
يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي). وفي رواية زهير
عند النسائي كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل
شيئًا ولا يشرب ليلته ويومه حتى تغرب الشمس، ولأبي الشيخ
من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق: كان المسلمون
إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا
فإذا ناموا لم يفعلوا شيئًا من ذلك إلى مثلها، وقد بين
السدي أن هذا الحكم كان على وفق ما كتب على أهل الكتاب كما
أخرجه ابن جرير من طريق السدي بلفظ: كتب على النصارى
الصيام وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد
النوم وكتب على المسلمين أولاً مثل ذلك. (وإن قيس بن صرمة)
بكسر الصاد المصلة وسكون الراء (الأنصاري) قال في الإصابة:
وقع عند أبي داود من هذا الوجه صرمة بن قيس، وفي رواية
النسائي أبو قيس بن عمرو فإن حل هذا الاختلاف على تعدد
أسماء من وقع له ذلك وإلاّ فيمكن الجمع برد جميع الروايات
إلى واحد، فإنه قيل فيه صرمة بن قيس وصرمة بن مالك وصرمة
بن أنس وصرمة بن أبي أنس، وقيل فيه قيس بن صرمة وأبو قيس
بن صرمة وأبو قيس بن عمرو فيمكن أن يقال: إن كان اسمه صرمة
بن قيس فمن قال فيه قيس بن صرمة قلبه وإنما اسمه صرمة
وكنيته أبو
قيس أو العكس، وأما أبوه فاسمه قيس أو صرمة على ما تقرر من
القلب وكنيته أبو أنس، ومن قال فيه أن حذف أداة الكنية ومن
قال فيه ابن مالك نسبه إلى جدّ له والعلم عند الله تعالى
(كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته) لم تسم (فقال
لها: أعندك طعام)، بهمزة الاستفهام وكسر الكاف (قالت: لا،
ولكن أنطلق فأطلب لك)، وظاهره أنه لم يجيء معه بشيء، لكن
في مرسل السدي أنه أتاها بتمر فقال استبدلي به طحينًا
واجعليه سخينًا فإن التمر أحرق جوفي. وفي مرسل ابن أبي
ليلى فقال لأهله: أطعموني فقالت حتى أجعل لك شيئًا سخينًا.
ووصله أبو داود من طريق ابن أبي داود (وكان يومه) بالنصب
(بعمل). أي في أرضه كما صرح به أبو داود في روايته (فغلبته
عيناه)، فنام (فجاءته امرأته) ولأبي ذر عن الكشميهني: عينه
فجاءت امرأته بالإفراد وحذف الضمير من فجاءته (فلما رأته)
نائمًا (قالت خيبة لك)، حرمانًا منصوب على أنه مفعول مطلق
حذف عامله وجوبًا قال بعض النحاة: إذا كان بدون لام وجب
نصبه أو معها جاز النصب وفي مرسل السدي فأيقظته فكره أن
يعصي الله وأبى أن يأكل وزاد في رواية أحمد هنا فأصبح
صائمًا (فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك
للنبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الذال وكسر
الكاف مبنيًّا للمفعول، وزاد الإمام أحمد وأبو داود
والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل،
وكان عمر أصاب النساء بعدما نام، ولابن جرير وابن أبي حاتم
من طريق عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال: كان الناس
في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام
والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر من عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد سمر عنده فأراد
امرأته فقالت: إني قد نمت. فقال: ما نمت ووقع عليها وصنع
كعب بن مالك مثل ذلك (فنزلت هذه الآية) {أحل لكم ليلة
الصيام} التي تصبحون منها صائمين ({الرفث إلى نسائكم})
[البقرة: 187] ({ففرحوا فرحًا شديدًا ونزلت) ولابن عساكر:
فنزلت بالفاء بدل الواو ({وكلوا واشربوا}) جميع الليل
({حتى يتبين لكم الخيط الأبيض}) بياض الصبح ({من الخيط
الأسود}) [البقرة: 187] من سواد الليل قال الكرماني لما
صار الرفث وهو الجماع هنا حلالاً بعد أن كان حرامًا كان
الأكل والشرب بطريق الأولى فلذلك فرحوا بنزولها وفهموا
منها الرخصة. هذا وجه مطابقة ذلك لقصة
(3/361)
أبي قيس ثم لما كان حلهما بطريق المفهوم
نزل بعد ذلك قوله تعالى: {وكلوا واشربوا} ليعلم بالمنطوق
تسهيل الأمر عليهم تصريحًا أو المراد نزول الآية بتمامها.
قال في فتح الباري: وهذا هو المعتمد وبه جزم السهيلي وقال:
إن الآية نزلت في الأمرين معًا فقدم ما يتعلق بعمر -رضي
الله عنه- لفضله اهـ.
ووقع في رواية أبي داود فنزلت {أحل لكم ليلة الصيام الرفث}
إلى قوله: {من الفجر} فهذا يبين أن محل قوله ففرحوا بها
بعد قوله: {الخيط الأسود} وقد وقع ذلك صريحًا في رواية
زكريا بن أبي زائدة ولفظه فنزلت: {أحل لكم} إلى قوله: {من
الفجر} ففرح المسلمون بذلك.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الصوم والترمذي في التفسير.
16 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فِيهِ الْبَرَاءُ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب قول الله تعالى) مخاطبًا للمسلمين ({وكلوا واشربوا})
بعد أن كنتم ممنوعين منهما بعد النوم في رمضان ({حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر})، بيان للخيط
الأبيض ({ثم أتموا الصيام إلى الليل}) [البقرة 187] فإنه
آخر وقته. وحتى للغاية واستشكل بأنه يلزم منه أن يؤكل جزء
من النهار.
وأجيب: بأن الغاية غايتان غاية مدّ وهي التي لو لم تذكر لم
يدخل ما بعدها حال ذكرها في حكم ما قبلها، وغاية إسقاط وهي
التي لم تذكر لكان ما بعدها داخلاً في حكم ما قبلها فالأول
{أتموا الصيام إلى الليل} والثاني {إلى المرافق} أي:
واتركوا ما بعد المرافق ويأتي مثل هذا في
قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "حتى يؤذن ابن
أم مكتوم" ولفظ رواية ابن عساكر: وكلوا واشربوا إلى قوله:
{ثم أتموا الصيام إلى الليل} (فيه) أي في الباب حديث رواه
(البراء) في الباب السابق موصولاً ولابن عساكر عن البراء
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
1916 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى
عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي،
فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلاَ يَسْتَبِينُ لِي.
فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ:
إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ".
[الحديث 1916 - طرفاه في: 4509، 4510].
وبالسند قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) السلمي الأنماطي،
ولابن عساكر: الحجاج بن منهال قال: (حدّثنا هشيم) بضم
الهاء وفتح المعجمة ابن بشير بضم الموحدة وفتح المعجمة
مصغرين السلمي (قال: أخبرني) بالإفراد (حصين بن عبد
الرحمن) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين السلمي أيضًا (عن
الشعبى) بفتح المعجمة وسكون المهملة عامر بن شراحيل (عن
عدي بن حاتم) الصحابي (-رضي الله عنه- قال: لما نزلت)
({حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ثم قدمت
فأسلمت وتعلمت الشرائع، ولأحمد من طريق مجالد: علمني رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الصلاة والصيام
وقال: صل كذا وصم كذا فإذا غابت الشمس فكل حتى {يتبين لك
الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (عمدت) بفتح الميم (إلى
عقال) بكسر العين حبل (أسود وإلى عقال أبيض فجعلتها تحت
وسادتي، فجعلت أنظر) إليهما (في الليل فلا يستبين لي) فلا
يظهر لي، وفي رواية مجالد: فلا أستبين الأبيض من الأسود
(فغدوت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فذكرت له ذلك) ولغير أبي الوقت فذكرت ذلك له (فقال) عليه
الصلاة والسلام:
(إنما ذلك) المذكور في قوله حتى {يتبين لكم الخيط الأبيض
من الخيط الأسود} (سواد الليل وبياض النهار) وفي التفسير
قلت: يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما
الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين. ثم قال:
لا بل هما سواد الليل وبياض النهار.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في التفسير ومسلم في الصوم وكذا
أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
1917 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
ح.
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو
غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
"أُنْزِلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}
وَلَمْ يَنْزِلْ {مِنَ الْفَجْرِ} فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا
أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ
الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ
الأَسْوَدَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: {مِنَ
الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ". [الحديث 1917 - طرفه في: 4511].
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن
الحكم بن أبي مريم الجمحي قال: (حدّثنا ابن أبي حازم)
بالحاء المهملة والزاي عبد العزيز (عن أبيه) أبي حازم سلمة
بن دينار (عن سهل بن سعد) بسكون الهاء والعين الساعدي (ح)
لتحويل السند.
(وحدثني) بالإفراد (سعيد بن أبي مريم) قال (حدّثنا أبو
غسان) بالغين المعجمة والمهملة المشددة (محمد بن مطرّف)
ولفظ المتن له (قال: حدثني) بالإفراد (أبو حازم) سلمة (عن
سهل بن سعد قال: أنزلت) ({وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود) (ولم ينزل) قوله تعالى:
({من الفجر}) فكان بالفاء ولأبي الوقت: وكان (رجال إذا
أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله) بالإفراد، ولأبوي ذر
والوقت
(3/362)
رجليه (الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم
يزل) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: ولا يزال (يأكل حتى
يتبين له) بالمثناة التحتية ثم الفوقية والموحدة وتشديد
المثناة التحتية ولأبي ذر: تتبين بمثناتين فوقيتين قبل
الموحدة، وللكشميهني: حتى يستبين له بسين مهملة ساكنة مع
التخفيف (رؤيتهما) أي الخيطين (فأنزل الله) عز وجل قوله:
({من الفجر}) قال البيضاوي شبه أول ما يبدو من الفجر
المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل بخيطين أبيض
وأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله من الفجر عن بيان
الخيط الأسود لدلالته عليه وبذلك خرجا من الاستعارة إلى
التمثيل، ويجوز أن تكون من للتبعيض فإن ما يبدو بعض الفجر
وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر، وكان رجال إذا
أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط فنزلت لعله كان قبل
دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز واكتفي
أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على
بعضهم، وذكر في الفتح والعمدة والتنقيح والمصابيح أن حديث
عدي يقتضي نزول قوله تعالى: {من الفجر} متصلاً بقوله: {من
الخيط الأسود} وحديث سهل بن سعد صريح في أنه لم ينزل إلا
منفصلاً فإن حمل على واقعتين في وقتين فلا إشكال وإلاّ
احتمل أن يكون حديث عدي متأخرًا عن حديث سهل فإنما سمع
الآية مجردة فحملها على ما وصل إليه فهمه حتى يتبين له
الصواب، وعلى هذا يكون {من الفجر} متعلقًا بيتبين، وعلى
مقتضى حديث سهل يكون في موضع الحال متعلقًا بمحذوف اهـ.
وليس في حديث عدي هنا عند المؤلّف بل ولا في التفسير ذكر
من الفجر أصلاً فليتأمل نعم ثبت ذكره في روايته عند مسلم
في صحيحه (فعلموا) أي الرجال (إنه إنما يعني) بقوله:
{الخيط الأبيض والخيط الأسود} (الليل والنهار) ولابن
عساكر: من النهار.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير وكذا النسائي.
17 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ
أَذَانُ بِلاَلٍ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما
رواه مسلم من حديث سمرة: (لا يمنعنكم) بنون التوكيد
الثقيلة، ولأبي ذر عن الكشميهني: لا يمنعكم بإسقاطها وجزم
العين (من سحوركم) بفتح السين اسم ما يتسحر به (أذان
بلال).
1918، 1919 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ
-رضي الله عنها-: "أَنَّ بِلاَلاً كَانَ يُؤَذِّنُ
بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ
ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى
يَطْلُعَ الْفَجْرُ". قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ
ذَا".
وبالسند قال (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) وكان اسمه عبد الله
الهباري القرشي (عن أبي أسامة) حماد بن أسامة (عن عبيد
الله) بن عمر العمري (عن نافع عن ابن عُمر، والقاسم بن
محمد) أي ابن أبي بكر الصديق المتوفى سنة ست ومائة على
الصحيح (عن عائشة -رضي الله عنها-) والقاسم جر عطفًا على
نافع لا على ابن عمر لأن عبيد الله رواه عن نافع عن ابن
عمر، وعن القاسم عن عائشة. والحاصل أن لعبيد الله فيه
شيخين يروي عنهما وهما نافع والقاسم بن محمد ({أن بلالاً
كان يؤذن}) للفجر (بليل)، ليستعد لها بالتطهير وغيره. وقال
أبو حنيفة والثوري: للسحور وردّ بأنه إنما أخبر عن عادته
في الأذان دائمًا (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)، عمرو بن قيس
العامري وأم مكتوم اسمها عاتكة بنت عبد الله، وزاد في باب
أذان الأعمى كالموطأ وكان أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت
أصبحت أي قاربت الصباح، وقيل على ظاهره من ظهور الصباح
والأول أرجح وعليه يحمل قوله هنا (فإنه لا يؤذن حتى يطلع
الفجر) أي حتى يقارب طلوع الفجر، والمعنى في الجميع أن
بلالاً كان يؤذن قبل الفجر ثم يتربص بعد للدعاء ونحوه ثم
يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعًا نزل فأخبر ابن أم مكتوم
فيتطهر ويرقى ويشرع في الأذان إذا قارب الصباح حوطة للفجر
فأذانه علم على الوقت الذي يمتنع فيه الأكل، ولعل بتمام
أذانه يتضح الفجر وتصح الصلاة على التأويل الآخر في أصبحت
أصبحت فيكون جمعًا بين الأمرين قاله الأبي وسبق في الباب
الذي قبل هذا أن حتي هنا لغاية المد.
(قال القاسم): بن محمد (ولم يكن بين أذانهما) بكسر النون
من غير ياء (إلا أن يرقى) بفتح القاف أي يصعد (ذا) ابن أم
مكتوم (وينزل) بالنصب عطفًا على يرقي (ذا) بلال
(3/363)
ولم يشاهد ذلك القاسم بن محمد، وقول
الداودي هذا يدل على أن ابن أم مكتوم كان يراعي قرب طلوع
الفجر أو طلوعه لأنه لم يكن يكتفي بأذان بلال في علم الوقت
لأن بلالاً فيما يدل عليه الحديث كان تختلف أوقاته وإنما
حكى من قال يرقى ذا وينزل ذا ما شهد في بعض الأوقات، ولو
كان فعله لا يختلف
لاكتفى به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم
يقل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، ولقال فإذا فرغ
بلال فكفوا. تعقبه ابن المنير بأن الراوي إنما أراد أن
يبين اختصارهم في السحور إنما كان باللقمة والتمرة ونحوها
بقدر ما ينزل هذا ويصعد هذا وإنما كان يصعد قبيل الفجر
بحيث إذا وصل إلى فوق طلع الفجر ولا يحتاج هذا إلى حمله
على اختلاف أوقات بلال بل ظاهر الحديث أن أوقاتهما كانت
على رتبة ممهدة وقاعدة مطردة اهـ.
18 - باب تَأْخِيرِ السَّحُورِ
(باب تأخر السحور) إلى قرب طلوع الفجر الصادق ولأبي ذر:
تعجيل السحور خوفًا من طلوع الفجر في أول الشروع. قال
الزين بن المنير: التعجيل من الأمور النسبية فإن نسب إلى
أول الوقت كان معناه التقديم، وإن نسب إلى آخره كان معناه
التأخير، وإنما سماه البخاري تعجيلاً إشارة منه إلى أن
الصحابي كان يسابق بسحور الفجر عند خوف طلوعه وخوف فوات
الصلاة بمقدار وصوله إلى المسجد. قال الزركشي: فعلى هذا
يقرأ بضم السين إذ المراد تعجيل الأكل، وقول الحافظ ابن
حجر: أنه لم ير في شيء من نسخ البخاري تأخير السحور لا
يلزم منه العدم، فقد ثبت في اليونينية تأخير السحور، ولأبي
ذر بلفظ: تعجيل السحور على ما مرّ.
1920 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ
أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ
سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبالسند قال (حدّثنا محمد بن عبيد الله) بضم العين مصغرًا
مضافًا المدني قال (حدّثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه
أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-)
أنه (قال: كنت أتسحر في أهلي، ثم تكون سرعتي أن أدرك
السجود) بالدال أي صلاة الصبح (مع رسو الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وللكشميهني كما في الفتح: أن
أدرك السحور بالراء والصواب الأول.
وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقد أخرجه في باب: وقت
الفجر من الصلاة وفيه تأخير السحور ومحله ما لم يشك في
طلوع الفجر فإن شك لم يسن التأخير بل الأفضل تركه لحديث
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
19 - باب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلاَةِ
الْفَجْرِ
(باب قدر كم بين) انتهاء (السحور و) إيتاء (صلاة الفجر) من
الزمان.
1921 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: "تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَامَ إِلَى
الصَّلاَةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ
وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً".
وبالسند قال (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال:
(حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن
أنس عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-) أنه (قال): (تسحرنا مع
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قام إلى
الصلاة). قال أنس (قلت): لزيد (كم كان بين الأذان والسحور؟
قال): زيد هو (قدر خمسين آية) أي قدر قراءتها. وهذا الحديث
سبق في باب وقت الفجر.
20 - باب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ،
لأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ
(باب بركة السحور من غير إيجاب) في محل نصب على الحال أي
من غير أن يكون واجبًا ثم علل عدم الوجوب بقوله (لأن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه) -رضي الله
عنهم- (واصلوا) في صومهم من غير إفطار بالليل (ولم يذكر
السحور) بضم الياء وفتح الكاف مبنيًّا للمفعول وفي نسخة
ولم يذكر السحور مبنيًا للفاعل، وللكشميهني والنسفي فيما
قاله في فتح الباري ولم يذكر سحور بدون الألف واللام، وفي
بعض الأصول المعتمدة باب من ترك السحور الخ.
1922 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله
عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَاصَلَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ
عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ،
قَالَ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ أُطْعَمُ
وَأُسْقَى". [الحديث 1922 - طرفه في: 1962].
وبالسند قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال
(حدّثنا جويرية) ابن أسماء الضبعي البصري (عن نافع عن عبد
الله) بن عمر (-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واصل)، بين الصومين من غير إفطار
بالليل (فواصل الناس)، أيضًا تبعًا له -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فشق عليهم)، أي الوصال لمشقة الجوع
والعطش (فنهاهم)، عن الوصال لما رأى من المشقّة عليهم نهي
إرشاد أو تحريم وهو المرجح عند الشافعية (قالوا: إنك)
ولابن عساكر: فإنك (تواصل، قال:) عليه الصلاة والسلام:
(لست كهيئتكم) أي ليست حالي كحالتكم أو لفظ الهيئة زائد
والمراد لست كأحدكم (إني أظل) بفتح الهمزة والظاء المعجمة
المشالة (أطعم وأسقى) بضم الهمزة فيهما مبنيين
(3/364)
للمفعول أي أعطى قوة الطاعم والشارب فليس
المراد الحقيقة إذ لو أكل حقيقة لم يبق وصال.
وفي هذا الحديث مباحث تأتي إن شاء الله تعالى في موضعها.
1923 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ
قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السَّحُورِ
بَرَكَةً».
وبه قال (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة وتخفيف
الياء قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عبد
العزيز بن صهيب) بضم الصاد المهملة وفتح الهاء مصغرًا
(قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي)
ولابن عساكر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
(تسحروا)، هو تفعل من السحر وهو قبيل الصبح، وقال في
الروضة. كأصلها ويدخل وقته بنصف الليل. قال السبكي: وفيه
نظر لأن السحر لغة قبيل الفجر ومن ثم خصه ابن أبي الصيف
اليمني بالسدس الأخير، والمراد الأكل في ذلك الوقت وذلك
على معنى أن التفعل هنا في الزمن المصوغ من لفظه فإنه من
معاني تفعل كما ذكره ابن مالك في التسهيل أو الأخذ في
الأمر شيئًا فشيئًا ويحصل السحور بقليل المطعوم وكثيره
والأمر به للندب (فإن في السحور) بفتح السين اسم لما يتسحر
به وبالضم الفعل (بركة) بالنصب اسم أن وفي معنى كونه بركة
وجوه أن يبارك في اليسير منه بحيث تحصل به الإعانة على
الصوم.
وفي حديث عليّ عند ابن عدي مرفوعًا "تسحروا ولو بشربة من
ماء" زاد في حديث أبي أمامة عند الطبراني مرفوعًا "ولو
بتمرة، ولو بحبات زبيب" الحديث. ويكون ذلك بالخاصية كما
بورك في الثريد والاجتماع على الطعام، أو المراد بالبركة
نفي التبعة.
وفي حديث أبي هريرة مما ذكره في الفردوس: ثلاثة لا يحاسب
عليها العبد أكلة السحور وما أفطر عليه وما أكل مع الإخوان
أو المراد بها التقوى على الصيام وغيره من أعمال النهار.
وفي حديث جابر عند ابن ماجة والحاكم مرفوعًا: استعينوا
بطعام السحر على صيام النهار بالقيلولة على قيام الليل
ويحصل به النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع أو
المراد بها الأمور الأخروية فإن إقامة السنة توجب الأجر
وزيادة.
وقال القاضي عياض: قد تكون هذه البركة ما يتفق للمتسحر من
ذكر أو صلاة أو استغفار وغير ذلك من زيادات الأعمال التي
لولا القيام للسحور لكان الإنسان نائمًا عنها وتاركًا
وتجديد النية للصوم ليخرج من خلاف من أوجب تجديدها إذا نام
بعدها.
وقال ابن دقيق العيد: ومما يعلل به استحباب السحور
المخالفة لأهل الكتاب لأنه ممتنع عندهم وهذا أحد الوجوه
المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية.
تنبيه
إن قلنا أن المراد بالبركة الأجر والثواب فالسحور بالضم
لأنه مصدر بمعنى التسحر وإن قلنا التقوية فبالفتح.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
21 - باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا
وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ
يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا لاَ، قَالَ:
فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا.
وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ - رضي الله عنهم-.
هذا (باب) بالتنوين (إذا نوى) الإنسان (بالنهار صومًا)
فرضًا أو نفلاً هل يصح أو لا (وقالت أم الدرداء): خيرة مما
وصله ابن أبي شيبة (كان أبو الدرداء) عويمر الأنصاري
(يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا لا، قال: فإني صائم يومي هذا
وفعله) أي ما فعل أبو الدرداء (أبو طلحة) زيد بن سهل
الأنصاري مما وصله عبد الرزاق (و) كذا فعله (أبو هريرة)
مما وصله البيهقي (و) كذا (ابن عباس) مما وصله الطحاوي (و)
كذا (حذيفة -رضي الله عنهم-) مما وصله عبد الرزاق وهذا كله
في النفل قبل الزوال ويدل له قوله في أثر أم الدرداء عند
ابن أبي شيبة كان أبو الدرداء يغدو أحيانًا فيسأل الغداء،
وفي أثر أبي طلحة عند عبد الرزاق كان يأتي أهله فيقول هل
من غداء، وقول ابن عباس لقد أصبحت وما أريد الصوم وما أكلت
من طعام ولا شراب ولأصومن يومي هذا إذ الغداء بفتح الغين
اسم لما يؤكل قبل الزوال وهذا مذهب الشافعية، واستدل له
أيضًا بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال
لعائشة يومًا: "هل عندكم من غداء؟ " قالت: لا. قال: "فإني
أصوم" رواه الدارقطني وصحح إسناده ويحكم بالصوم في ذلك من
أول النهار فيثاب على جميعه.
وفي أثر حذيفة عند عبد الرزاق أنه قال: من بدا له الصيام
بعدما تزول الشمس فليصم، وإليه ذهب جماعة سواء كان قبل
الزوال أو بعده وهو مذهب الحنابلة. وعبارة المرداوي في
تنقيحه: ويصح صوم نفل بنية من النهار مطلقًا نصًّا ويحكم
بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية نصًّا. وقال مالك:
لا يصوم في النافلة
(3/365)
إلا أن يبيت لقوله عليه الصلاة والسلام "لا
صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" ولحديث "الأعمال
بالنيات" فالإمساك أول النهار عمل بلا نيّة وقياسًا على
الصلاة إذ نفلها وفرضها في النية سواء.
1924 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه-:
"أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بَعَثَ رَجُلاً يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ:
أَنْ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ
لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ". [الحديث 1924 - طرفاه في:
2007، 7265].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (عن
يزيد بن أبي عبيد) يزيد من الزيادة وعبيد مصغرًا مولى سلمة
بن الأكوع (عن سلمة بن الأكوع) واسم الأكوع سنان بن عبد
الله (-رضي الله عنه-) (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعث رجلاً) هو هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي
كما عند أحمد وابن أبي خيثمة (ينادي في الناس يوم عاشوراء،
أن) بفتح الهمزة وفي اليونينية بسكون النون مع فتح
الهمزة ولأبي ذر أن بكسرها مع تشديد النون (من أكل فليتم)
بسكون اللام ويجوز كسرها بلفظ الأمر للغائب والميم مفتوحة
تخفيفًا أي ليمسك بقية يومه حرمة للوقت كما يمسك لو أصبح
يوم الشك مفطرًا ثم ثبت أنه من رمضان - (أو) قال (فليصم)،
شك من الراوي (ومن لم يأكل فلا يأكل).
واستدلّ به أبو حنيفة على أن الفرض يجوز بنية من النهار
لأن صوم عاشوراء كان فرضًا، وردّ بأنه إمساك لا صوم وبأن
عاشوراء لم يكن فرضًا عند الجمهور وبأنه ليس منه أنه لا
قضاء عليهم بل في أبي داود أنهم أتموا بقية اليوم وقضوه.
واستدلّ الجمهور لاشتراط النية في صوم الفرض من الليل
بحديث حفصة عند أصحاب السنن أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال "من لم يبيت الصيام من الليل فلا
صيام له" وهذا لفظ النسائي، ولأبي داود والترمذي: من لم
يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له، واختلف في رفعه ووقفه،
ورجح الترمذي والنسائي الموقوف وعمل بظاهر الإسناد جماعة
فصححوا الحديث المذكور منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم
وروى له الدارقطني طريقًا أخرى وقال: رجالها ثقات وظاهره
العموم في الصوم نفلاً أو فرضًا وهو محمول على الفرض
بقرينة حديث عائشة السابق وهو قوله عليه الصلاة والسلام
لها يومًا: هل عندكم من غداء؟ قالت: لا. قال: فإني إذن
أصوم. قالت: وقال لي يومًا آخر: أعندكم شيء قلت: نعم. قال:
إذن أفطر وإن كنت فرضت الصوم رواه الدارقطني وصحح إسناده
فلا تجزئ النية مع طلوع الفجر لظاهر الحديث ولا تختص
بالنصف الأخير من الليل لإطلاقه ولو شك في تقدمها الفجر لم
يصح صومه لأن الأصل عدم التقدم ولا بد من التبييت لكل يوم
لظاهر الحديث ولأن صوم كل يوم عبادة لتخلل اليومين ما
يناقض الصوم كالصلاتين يتخللهما السلام.
وقال المالكية: المشهور الاكتفاء بنية واحدة في أوّل ليلة
من رمضان لجميعه في حق الحاضر الصحيح وأما المسافر والمريض
فلا بدّ لكل منهما من التبييت في كل ليلة ولا بد عند
الشافعية من كونها جازمة معينة كالصلاة بخلاف الحنفية فلم
يشترطوا التعيين.
وهذا الحديث من الثلاثيات، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الصيام
وفي خبر الواحد ومسلم والنسائي في الصوم.
22 - باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
(باب الصائم) حال كونه (يصبح جنبًا) هل يصح صومه أم لا.
1925، 1926 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ قَالَ: "كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حِينَ دَخَلْنَا
عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ح.
1926 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ
أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ
عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ: "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ
يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ
لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ
يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا
أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ -وَكَانَتْ لأَبِي
هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ- فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا،
وَلَوْلاَ مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَىَّ فِيهِ لَمْ
أَذْكُرْهُ لَكَ. فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ، فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ
عَبَّاسٍ وَهُنَّ أَعْلَمُ"، وَقَالَ هَمَّامٌ وَابْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "كَانَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ
بِالْفِطْرِ" وَالأَوَّلُ أَسْنَدُ. [الحديث 1925 - طرفاه
في: 1930، 1931]. [الحديث 1926 - طرفه في: 1932].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن
مالك) الإمام (عن سمي) بضم السين وفتح الميم وتشديد
التحتية (مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن
المغيرة) القرشي (أنه سمع) مولاه (أبا بكر بن عبد الرحمن)
راهب قريش (قال: كنت أنا وأبي) عبد الرحمن بن الحرث بن
هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي ابن
عم عكرمة بن أبي جهل بن هشام (حين) ولأبي ذر: حتى (دخلنا
على عائشة وأم سلمة) هند بنت أبي أمية (ح) للتحويل.
(حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا (أبو اليمان) الحكم بن نافع
قال: (أخبرنا شعيب،) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن
مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان)
بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن قصي الأموي
القرشي ولد بعد الهجرة بسنتين ولم يصح له سماع من النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولي الخلافة تسعة
(3/366)
أشهر وتوفي في رمضان سنة خمس وستين (أن
عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدركه الفجر وهو) أي والحال أنه
(جنب من) جماع (أهله)، وفي رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة
وأبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان يدركه الفجر في
رمضان من غير حلم، وللنسائي عنها من غير احتلام وفي لفظ
له: كان يصبح جنبًا مني (ثم يغتسل ويصوم). بيانًا للجواز،
وإلاّ فالأفضل الغسل قبل الفجر والاحتلام يطلق على الإنزال
وقد يقع الإنزال من غير رؤية شيء في المنام وأرادت
بالتقييد بالجماع من غير احتلام المبالغة في الرد على من
زعم أن فاعل ذلك عمدًا مفطر.
(وقال) ولابن عساكر فقال (مروان) بن الحكم (لعبد الرحمن بن
الحارث أقسم بالله لتقرعن) بفتح القاف وتشديد الراء من
التقريع وهو التعنيف ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: لتفزعن
بالفاء الساكنة والزاي المكسورة من الإفزاع أي لتخوفن
(بها) أبي بالمقالة المذكورة (أبا هريرة)، وذلك لأن
أبا هريرة كان يرى أن من أصبح جنبًا من جماع لا يصح صومه
لحديث الفضل بن عباس في مسلم، وحديث أسامة في النسائي عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من أدركه
الفجر جنبًا فلا يصم، وفي النسائي عن أبي هريرة أنه قال:
لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدركه الصبح وهو جنب فلا
يصوم محمد ورب الكعبة قاله (ومروان يومئذٍ) حاكم (على
المدينة)، من قبل معاوية بن أبي سفيان (فقال أبو بكر: فكره
ذلك) أي فعل ما قاله مروان من تقريع أبي هريرة وتعنيفه مما
كان يراه أبي (عبد الرحمن. ثم) بعد ذلك (قدّرنا أن نجتمع)
بأبي هريرة (بذي الحليفة). ميقات أهل المدينة (وكانت لأبي
هريرة هنالك أرض فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك
أمرًا)، وللكشميهني كما قاله الحافظ ابن حجر: إني أذكر
بصيغة المضارع (ولولا مروان أقسم عليّ فيه لم أذكره لك).
وللكشميهني كما في الفتح: لم أذكر ذلك (فذكر) عبد الرحمن
له (قول عائشة وأم سلمة) وفي رواية معمر عن ابن شهاب
فتلوّن وجه أبي هريرة (فقال: كذلك) أي الذي رأيته من كون
من أدركه الفجر جنبًا لا يصوم (حدثني) بالإفراد (الفضل بن
عباس وهو أعلم). بما روى والعهدة في ذلك عليه لا عليّ.
وفي رواية النسفيّ عن البخاري كما قاله الحافظ ابن حجر وهن
أعلم أي أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وكذا في رواية معمر، وفي رواية ابن جريج فقال أبو هريرة:
أهما قالتاه؟ قال: نعم. قال: هما أعلم، وهذا يرجح رواية
النسفيّ. وزاد ابن جريج في روايته فرجع أبو هريرة عما كان
يقول في ذلك وترك حديث الفضل وأسامة ورآه منسوخًا وفي قوله
تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة:
187] دلالة وإشارة إليه وحديث عائشة وأم سلمة يرجح على
غيرهما لأنهما ترويان ذلك عن مشاهدة بخلاف غيرهما.
وفي هذا الحديث أربعة من التابعين أبو بكر وأبوه والزهري
ومروان.
(وقال همام) هو ابن منبه مما وصله أحمد وابن حبان (وابن
عبد الله بن عمر) قيل هو سالم، وقيل عبد الله، وقيل عبيد
الله بالتكبير والتصغير مما وصله عبد الرزاق (عن أبي
هريرة) (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يأمر بالفطر) ولابن عساكر: يأمرنا بالفطر. قال المؤلّف
(والأول) أي حديث عائشة وأم سلمة (أسند) أي أظهر اتصالاً.
وقال في الفتح يقوى إسنادًا من حيث الرجحان لأنه جاء عنهما
من طرق كثيرة جدًّا بمعنى واحد حتى قال ابن عبد البر أنه
صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان
يفتي به ولم يسمع ذلك من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إنما سمعه عنه بواسطة الفضل وأسامة، وأما حلفه
أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله، كما
مرّ فكأنه لشدة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك وقد رجع عن
ذلك.
23 - باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: يَحْرُمُ عَلَيْهِ
فَرْجُهَا.
(باب) حكم (المباشرة للصائم). أي لمس بشرة الرجل بشرة
المرأة ونحو ذلك لا الجماع
(وقالت عائشة -رضي الله عنها-): مما وصله الطحاوى (يحرم
عليه) أي على الصائم (فرجها) أي فرج امرأته.
1927 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ عَنْ
شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ
الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ:
"كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ
أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ".
وَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مَآرِبُ}: حَاجَةٌ. قَالَ
طَاوُسٌ {أُولِي الإِرْبَةِ}: الأَحْمَقُ لاَ حَاجَةَ لَهُ
فِي النِّسَاءِ.
وقال جابرُ بنُ زيدٍ: إن نَظَرَ فأمْنى يُتمُّ صَومَهُ.
[الحديث 1927 - طرفه في: 1928].
وبالسند قال: (حدّثنا سليمان بن حرب قال عن شعبة) بن
الحجاج وسقط. لفظ
(3/367)
قال لأبي ذر وابن عساكر ولأبي ذرّ عن
الكشميهني: عن سعيد بدل شعبة. قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط
فاحش فليس في شيوخ سليمان بن حرب أحد اسمه سعيد حدثه عن
الحكم، وكذا وقع عند الإسماعيلي عن يوسف القاضي عن سليمان
بن حربِ عن شعبة (عن الحكم) بن عتيبة مصغرًا (عن إبراهيم)
النخعي (عن الأسود) بن يزيد خال إبراهيم (عن عائشة -رضي
الله عنها- قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقبل) بعض أزواجه (ويباشر) بعضهم من عطف العام
على الخاص لأن المباشرة أعم من التقبيل والمراد غير الجماع
كما مر (وهو صائم، وكان) عليه الصلاة والسلام (أملككم
لإربه) بكسر الهمزة وإسكان الراء في الفرع وغيره أي عضوه
وعنت الذكر خاصة للقرينة الدالة عليه ويروى بفتح الهمزة
والراء وقدمه في فتح الباري وقال: إنه أشهر، وإلى ترجيحه
أشار البخاري بما أورده من التفسير أي أغلبكم لهواه
وحاجته.
وقال التوربشتي حمل الإرب ساكن الراء على العضو في هذا
الحديث غير سديد لا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب
مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب.
وأجاب الطيبي: بأنها ذكرت أنواع الشهوة ومترقية من الأدنى
إلى الأعلى فبدأت بمقدّمتها التي هي القبلة ثم ثنت
بالمباشرة من نحو المداعبة والمعانقة وأرادت أن تعبر عن
الجامعة فكنت عنها بالإرب وأي عبارة أحسن منها اهـ.
وفي الموطأ رواية عبيد الله أيكم أملك لنفسه، وبذلك فسره
الترمذي في جامعه فقال: ومعنى لإربه لنفسه. قال الحافظ
الزين العراقي: وهو أولى الأقوال بالصواب لأن أولى ما فسر
به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث، وقد أشارت عائشة -رضي
الله عنها- بقولها: وكان أملككم لإربه إلى أنه تباح القبلة
والمباشرة بغير الجماع لمن يكون مالكًا لإربه دون من لا
يأمن من الإنزال أو الجماع وظاهره أنها أعتقدت خصوصية
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك لكن ثبت
عنها صريحًا إباحة ذلك حيث قالت فيما
سبق أول الباب يحل له كل شيء إلا الجماع فيحمل النهي هنا
عنه على كراهة التنزيه لأنها لا تنافي الإباحة.
وفي كتاب الصيام ليوسف القاضي بلفظ سئلت عائشة عن المباشرة
للصائم فكرهتها وكان هذا هو السرّ في تصدير البخاري بالأثر
الأول عنها لأنه يفسر مرادها بما ذكرته مما يدل على
الكراهة ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من
الخصائص ما في الموطأ أن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة
فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها
وتقبلها قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم. ولا يخفى أن
محل هذا مع الأمن فإن حرك ذلك شهوة حرم لأن فيه تعريضًا
لإفساد العبادة، ولحديث الصحيحين: "من حام حول الحمى يوشك
أن يقع فيه".
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص في القبلة للشيخ
وهو صائم ونهى عنها الشاب وقال: الشيخ يملك إربه والشاب
يفسد صومه ففهمنا من التعليل أنه دائر مع تحريك الشهوة
بالمعنى المذكور والتعبير بالشيخ والشاب جرى على الأغلب من
أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم ومن أحوال الشباب في قوّة
شهوتهم فلو انعكس الأمر انعكس الحكم، ولو ضم المرأة إلى
نفسه بحائل فأنزل لا يفطر إذ لا مباشرة كالاحتلام وخرج
بالحائل ضمها بدونه فيبطل ولو لم شعرها فأنزل قال في
المجموع قال المتولي: ففي فطره وجهان بناء على انتقاض
الوضوء بلمسه ولو أنزل عضوها المبان لم يفطر قاله في
البحر.
(وقال) المؤلّف: (قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله
ابن أبي حاتم (مآرب) بفتح الهمزة ممدودة أي (حاجة).
بالإفراد، ولأبي ذر عن الكشميهني: حاجات بالجمع، وللحموي
والمستملي: مأرب بسكون الهمزة حاجة.
(قال طاوس) في تفسير قوله: ({أولي الأربة}): ولأبي ذر غير
أولي الإربة (الأحمق لا حاجة له في النساء) وهذا وصله عبد
الرزاق في تفسيره، ووقع في رواية أبي ذر هنا زيادة كما نبه
عليها الحافظ ابن حجر وهي (وقال جابر بن زيد) أبو الشعثاء
مما وصله ابن أبي شيبة (إن نظر فأمنى يتم صومه) ولا يبطل
لأنه إنزال
(3/368)
من غير مباشرة كالاحتلام وهذا بخلاف
الإنزال باللمس أو القبلة أو المضاجعة فإنه يفسده لأنه
إنزال بمباشرة.
24 - باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
1928 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ
عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ح.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ
عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ
وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ".
(باب) بيان حكم (القبلة للصائم) وسقط الباب والترجمة لأبي
ذر (وقال جابر بن زيد إن نظر فأمنى يتم صومه) كذا ثبت هذا
الأثر هنا في غير رواية أبي ذر وثبت في روايته في آخر
الباب السابق مع إِسقاط الباب والترجمة كما مرّ، ومناسبته
للبابين من جهة التفرقة بين من يقع منه الإنزال باختياره
ومن يقع منه بغير اختياره.
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الزمن البصري
قال: (حدّثنا) بالجمع، ولابن عساكر: حدثني (يحيى) بن سعيد
القطان (عن هشام قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن
الزبير بن العوّام (عن عائشة) -رضي الله عنها- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح) للتحويل.
(وحدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن
هشام عن أبيه) عروة (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إن
مخففة من الثقيلة دخلت على الجملة الفعلية فيجب إهمالها
واللام في قوله (ليقبل) للتأكيد وهي مفتوحة (بعض أزواجه)
هي عائشة نفسها كما في مسلم أو أم سلمة كما في البخاري
(وهو صائم) جملة حالية (ثم ضحكت) تنبيهًا على أنها صاحبة
القصة ليكون ذلك أبلغ في الثفة بها أو تعجبًا ممن خالفها
في ذلك أو تعجبت من نفسها إذ حدثت بمثل هذا مما يستحيا من
ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ
العلم إلى ذكر ذلك أو سرورًا بمكانها من رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحبته لها، وقد روى ابن أبي
شيبة عن شريك عن هشام فضحكت وظننا أنها هي.
1929 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ
ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا -رضي الله عنهما-
قَالَتْ: "بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْخَمِيلَةِ إِذْ
حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ: مَا
لَكِ، أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ فِي
الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إِنَاءٍ
وَاحِدٍ، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ".
وبه قال (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن
سعيد القطان (عن هشام بن أبي عبد الله) سنبر بمهملة مفتوحة
فنون ساكنة فموحدة مفتوحة وزن جعفر الدستوائي بفتح الدال
وسكون السين المهملتين وفتح (المثناة الفوقية ممدودًا قال:
(حدّثنا يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة (عن أبي سلمة) بن عبد
الرحمن بن عوف (عن زينب ابنة أم سلمة) الصحابية (عن أمها)
أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين (-رضي الله عنها-
قالت: بينما) بالميم (أنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخميلة) بفتح الخاء المعجمة ثوب
من صوف له علم (إذ حضت) جواب بينما (فانسلك) ذهبت في خفية
لئلا يصيبه عليه الصلاة والسلام شيء من دمها أو تقذرت
نفسها أن تضاجعه وهى بهذه الحالة (فأخذت
ثياب حيضتي)، بكسر الحاء. قال النووي: وهو الصحيح المشهور
أي ثيابي التي أعددتها لألبسها حالة الحيض (فقال) عليه
الصلاة والسلام:
(ما لك أنفست) بفتح النون، ولأبي ذر: أنفست بضمها أي أحضت
(قلت نعم) حضت زاد في باب من سمى النفاس حيضًا من كتاب
الحيض فدعاني (فدخلت معه في الخميلة. وكانت هي ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغتسلان من إناء
واحد)، وكلاهما جنب (وكان) عليه الصلاة والسلام (يقبلها
وهو صائم) لأن ذلك لا يؤثر فيه لشدة تقواه وورعه فكل من
أمن على نفسه الإنزال أو الجماع كان في معناه فليلتحق به
في حكمه ومن ليس في معناه فهو مغاير له في هذا الحكم وهذا
أرجح الأقوال، وقد أجمع العلماء على أن من كره القبلة لم
يكرهها لنفسها وإنما كرهها خشية ما تؤول إليه من الإنزال
ومن بديع ما روي في ذلك حديث عمر بن الخطاب أنه قال: هششت
فقبلت وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرًا
عظيمًا فقبلت وأنا صائم. قال: أو رأيت لو مضمضت من الماء
وأنت صائم قلت لا بأس قال فمه. رواه أبو داود والنسائي قال
النسائي منكر وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قال
المازري: فأشار إلى فقه بديع وذلك أن المضمضة لا تنقض
الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه كما أن القبلة من دواعي
الجماع ومفتاحه والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع فكما
ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا تفسد الصوم فكذلك أوائل
الجماع، ولو قبّل فأمذى بالذال المعجمة لم يكن عليه شيء
عند الشافعية والحنفية. وقال مالك: عليه القضاء وقال
متأخرو أصحابه البغداديون القضاء هنا استحباب، وحكى ابن
قدامة الفطر فيه
(3/369)
عن أحمد ثم إن المتبادر إلى الفهم من
القبلة تقبيل الفم، لكن قال النووي في شرح المهذّب سواء
قبل الفم أو الخدّ أو غيرهما.
وهذا الحديث قد سبق في باب من سمى النفاس حيضًا.
25 - باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ
وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- ثَوْبًا
فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ.
وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ
الْقِدْرَ أَوِ الشَّىْءَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ
وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
إِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا
مُتَرَجِّلاً.
وَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ لِي أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ
وَأَنَا صَائِمٌ. وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ اسْتَاكَ وَهُوَ
صَائِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ
وَآخِرَهُ وَلاَ يَبْلَعُ رِيقَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنِ
ازْدَرَدَ رِيقَهُ لاَ أَقُولُ يُفْطِرُ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِالسِّوَاكِ
الرَّطْبِ. قِيلَ: لَهُ طَعْمٌ. قَالَ: وَالْمَاءُ لَهُ
طَعْمٌ وَأَنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ
وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ
بَأْسًا.
(باب اغتسال الصائم. وبلّ ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله
عنهما-) فيما رواه ابن أبي شيبة (ثوبًا) بالماء (فألقاه
عليه وهو صائم) ولابن عساكر وأبي ذر عن الحموي والمستملي:
فألقي عليه مبنيًّا للمفعول وكأنه أمر غيره فألقاه عليه.
ووجه المطابقة أن الثوب المبلول إذا ألقي على البدن بله
فيشبه ما إذا صب عليه الماء.
(ودخل الشعبي) عامر بن شراحيل (الحمام وهو صائم). رواه ابن
أبي شيبة موصولاً. (وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما-: (لا
بأس أن يتطعم القدر) بكسر القاف ما يطبخ فيه أي من طعام
القدر (أو الشيء) من المطعومات فهو من عطف العام على الخاص
وهذا وصله ابن أبي شيبة ورواه البيهقي.
ووجه المطابقة من حيث أن التطعم من الشيء هو إدخال الطعام
في الفم من غير بلع ولا يضر الصوم فإيصال الماء إلى البشرة
بالطريق الأولى لا يضر.
(وقال الحسن) البصري: (لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم).
قال العيني مطابقته للترجمة من حيث أن المضمضة جزء من
الغسل، وقال في فتح الباري: وصله عبد الرزاق بمعناه (وقال
ابن مسعود: إذا كان صوم) ولأبي ذر: إذا كان يوم صوم (أحدكم
فليصبح دهينًا) أي مدهونًا فعيلاً بمعنى مفعول (مترجلاً)
من الترجل وهو تسريح الشعر وتنظيفه وقول الحافظ ابن حجر في
وجه المطابقة هي أن المانع من الاغتسال لعله سلك به مسلك
استحباب التقشف في الصيام كما ورد مثله في الحج فالادهان
والترجل في مخالفة التقشف كالاغتسال. تعقبه العيني بأن
الترجمة في جواز الاغتسال لا في منعه وكذلك أثر ابن مسعود
في الجواز لا في المنع فكيف يجعل الجواز مناسبًا للمنع
اهـ.
وقال ابن المنير الكبير أراد البخاري الرد على من كره
الاغتسال للصائم لأنه إن كرهه خشية وصول الماء حلقه فالعلة
باطلة بالمضمضة والسواك وبذوق القدر ونحو ذلك، وإن كرهه
للرفاهية فقد استحب السلف للصائم الترفه والتجمل بالترجل
والادّهان والكحل ونحو ذلك ولذلك ساق هذه الآثار. قال
العيني: وهذا أقرب إلى القبول.
(وقال أنس): هو ابن مالك -رضي الله عنه- مما وصله قاسم بن
ثابت في غريب الحديث له (إن لي أبزن) بفتح الهمزة وسكون
الموحدة وفتح الزاي آخره نون. وقال عياض بكسم الهمزة أيضًا
وفي القاموس بتثليثها. وقال الكرماني. وفي بعضها بقصر
الهمزة. قال البرماوي: وهو يدل على أنه بالمد والقصر منسوب
على أنه اسم إن، ولأبي ذر: أبزن بالرفع. قال الزركشي على
أنه اسم إن ضمير
الشأن والجملة بعدها مبتدأ وخبر في موضع رفع على أنها خبر
إن وضعفه في المصابيح والروايتان في الفرع منوّنتان وفي
غيره بغير تنوين لأنه فارسي فلذلك لم يصرف. قال الكرماني:
هي كلمة مركبة من آب وهو الماء ومن زن وهو المرأة لأن ذلك
تتخذه النساء غالبًا وحيث عرّب أعرب. قال في القاموس: هو
حوض يغتسل فيه وقد يتخذ من نحاس اهـ.
(أتقحم) بفتح الهمزة والفوقية والمهملة المشددة بعدها ميم
أي ألقي نفسي (فيه وأنا صائم). إذا وجدت الحر أتبرد بذلك
(ويذكر) بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه استاك وهو صائم)
رواه أبو داود وغيره من حديث عامر بن ربيعة عن أبيه وحسنه
الترمذي، لكن قال النووي في الخلاصة: مداره على عاصم بن
عبيد الله وقد ضعفه الجمهور فلعله اعتضد.
ومطابقة الحديث للترجمة قيل من حيث إن السواك مطهرة للفم
كما أن الاغتسال مطهر للبدن وسقط قوله ويذكر الخ عند ابن
عساكر.
(وقال ابن عمر) مما وصله ابن أبي شيبة بمعناه: (يستاك)
الصائم (أوّل النهار وآخره) ولأبي ذر: ونسبه في الفتح
لنسخة الصغاني ولا يبلع ريقه وهو ساقط عند ابن عساكر (وقال
عطاء) هو ابن أبي رباح (إن ازدرد) أي ابتلع (ريقه لا أقول
يفطر) به إذا كان طاهرًا صرفًا ولم ينفصل من معدته
(3/370)
لعسر التحرز عنه وخرج بالطاهر النجس كما لو
دميت لثته وإن صفا وبالصرف المخلوط بغيره وإن كان طاهرًا
فلو نزل معه شيء من بين أسنانه إلى جوفه بطل صومه إن أمكنه
مجه لكونه غير صرف. وقال الحنفية: إذا ابتلع قدرًا يسيرًا
من الطعام من بين أسنانه ذاكرًا لصومه لا يفسد عندنا لأنه
لا يمكن الاحتراز عنه عادة فصار بمنزلة ريقه والكثير يمكن
الاحتراز عنه وسقط قوله، وقال عطاء الخ في رواية ابن
عساكر.
(وقال ابن سيرين): محمد مما وصله ابن أبي شيبة بمعناه (لا
بأس) أن يتسوّك (بالسواك الرطب. قيل له طعم. قال): ابن
سيرين (والماء له طعم وأنت تمضمض به) فاك بضم الفوقية وكسر
الميم الثانية، ولأبي ذر: تمضمض بفتح الفوقية والميم (ولم
ير أنس) هو ابن مالك الصحابي -رضي الله عنه- مما وصله أبو
داود (والحسن) البصري مما وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح
(وإبراهيم) النخعي مما رواه سعيد بن منصور (بالكحل للصائم
بأسًا) ولو تشربته المسام لأنه لم يصل في منفذ مفتوح كما
لا يبطله الانغماس في الماء وإن وجد أثره بباطنه وهذا مذهب
الشافعية والحنفية. وقال المالكية والحنابلة: إن اكتحل بما
يتحقق معه الوصول إلى حلقه من كحل أو صبر أو قطور أو ذرور
أو إثمد كثير أو يسير مطيب أفطر.
1930 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُرْوَةَ وَأَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله
عنها-: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ
مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ".
وبالسند قال (حدّثنا أحمد بن صالح) المصري المعروف بابن
الطبراني قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري قال:
(حدّثنا يونس) بن يزيد الإيلي (عن ابن شهاب) محمد بن سلم
الزهري (عن عروة) بن الزبير بن العوام (وأبي بكر) هو ابن
عبد الرحمن بن الحرث أنهما قالا (قالت عائشة -رضي الله
عنها-: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يدركه الفجر جنبًا في رمضان من) جنابة (غير حلم) بضمتين
ويجوز سكون اللام وأسقط الموصوف وهو جنابة اكتفاء بالصفة
عنه لظهوره وقولها من غير حلم لا يلزم منه أنه عليه الصلاة
والسلام يحتلم بل هو صفة لازمة مثل ويقتلون النبيين بغير
حق والاحتلام من نلاعب الشيطان فلا يجوز على الأنبياء
(فيغتسل ويصوم). وهذا موضع الترجمة وهذا الحديث سبق
قريبًا.
1931 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ: "كُنْتُ أَنَا وَأَبِي، فَذَهَبْتُ مَعَهُ
حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ
جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَصُومُهُ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس الأصبحي (قال
حدثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن سمي) بضم السين وفتح
الميم وتشديد الياء التحتية (مولى أبي بكر بن عبد الرحمن
بن الحرث بن هشام بن المغيرة أنه سمع) مولاه (أبا بكر بن
عبد الرحمن) يقول: (كنت أنا وأبي فذهبت معه حتى دخلنا على
عائشة -رضي الله عنها- قالت: أشهد على رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كان ليصبح جنبًا من جماع
غير احتلام ثم يصومه) أي اليوم الذي يصبح فيه جنبًا.
1932 - ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ
مِثْلَ ذَلِكَ.
(ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك) القول الذي قالته
عائشة رضي الله عنها، وزاد في باب: الصائم يصبح جنبًا ثم
يغتسل وبذلك تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة.
26 - باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنِ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي
حَلْقِهِ لاَ بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلاَ
شَىْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: إِنْ
جَامَعَ نَاسِيًا فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ.
(باب) حكم (الصائم إذا أكل أو شرب) حال كونه (ناسيًا وقال
عطاء): هي ابن أبي رباح مما وصله ابن أبي شيبة (إن استنثر
فدخل الماء) من خياشيمه (في حلقه لا بأس به) ليس هو جواب
الشرط إلا لكان بالفاء بل هو مفسر لجوابه المحذوف والجملة
الشرطية وهي قوله (إن لم يملك) جزاء
لقوله إن استنثر، وقوله: إن لم يملك أي دفعه بل دخل في
حلقه غلبة فإن ملك دفعه فلم يدفعه حتى دخل أفطر وسقط لفظة
أن في رواية أبي ذر وابن عساكر كما في الفرع وأصله. وقال
الحافظ ابن حجر والنسفيّ بدل ابن عساكر وحينئذٍ فهي جملة
مستأنفة كالتعليل لقوله لا بأس والفاء في لا بأس محذوفة
كقوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها.
(وقال الحسن) البصري مما وصله ابن أبي شيبة (إن دخل حلقه)
أي الصائم (الذباب فلا شيء عليه). ومن فطر ولا غيره وهو
مذهب الأئمة الأربعة. (وقال الحسن) أيضًا مما وصله عبد
الرزاق (ومجاهد): مما وصله أيضًا عبد الرزاق (إن جامع) حال
كونه (ناسيًا فلا شيء عليه) من فطر ولا غيره كالأكل ناسيًا
فلو تعمد بطل إجماعًا. وقال الحنابلة: يفطر وعليه القضاء
والكفارة عامدًا كان أو ناسيًا. قال المرداوي: نقله
الجماعة عن الإمام
(3/371)
أحمد وعليه أكثر الأصحاب قال الزركشي
الحنبلي وهو المشهور عن أحمد وهو المختار لعامة أصحابه وهو
من مفردات المذهب وعنه لا يكفر واختاره ابن بطة. قال
الزركشي: ولعله مبني على أن الكفارة ماحية ومع النسيان لا
إثم يمحى وعنه ولا يقضى أيضًا.
1933 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا نَسِيَ
فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا
أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ». [الحديث 1933 - طرفه في:
6669].
وبالسند قال (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن
جبلة المروزي البصري الأصل قال (أخبرنا يزيد بن زريع)
مصغرًا قال (حدّثنا هشام) هو القردوسي كما صرح به مسلم في
صحيحه لا الدستوائي وإن قاله الحافظ ابن حجر قال: (حدّثنا
ابن سيرين) محمد (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إذا نسي) الصائم (فأكل وشرب) سواء كان قليلاً أو كثيرًا
كما رجحه النووي لظاهر إطلاق الحديث وقد روى عبد الرزاق عن
عمرو بن دينار أن إنسانًا جاء إلى أبي هريرة -رضي الله
عنه- فقال أصبحت صائمًا فنسيت فطعمت فقال لا بأس. قال: ثم
دخلت إلى إنسان فنسيت فطعمت وشربت. قال: لا بأس الله أطعمك
وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت فقال أبو هريرة:
أنت إنسان لم تتعوّد الصيام، ويروى أو شرب واقتصر عليهما
دون باقي المفطرات لأنهما الغالب.
(فليتم صومه)، بفتح الميم ويجوز كسرها على التقاء الساكنين
وسمى الذي يتم صومًا وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية وإذا
كان صومًا وقع مجزئًا ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء قاله
ابن
دقيق العيد، وهذا الحديث دليل على الإمام مالك حيث قال: إن
الصوم يبطل بالنسيان ويجب القضاء.
وأجيب: بأن المراد من هذا الحديث إتمام صورة الصوم، وأجيب
بما سبق من حمل الصوم على الحقيقة الشرعية وإذا دار اللفظ
بين حمله على المعنى اللغوي والشرعي كان حمله على الشرعي
أولى، وقد أخرج ابنا خزيمة وحبان والحاكم والدارقطني من
طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي
سلمة عن أبي هريرة: من أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء
عليه ولا كفارة فصرح بإسقاط القضاء والكفارة. قال
الدارقطني: تفرد به محمد بن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري.
وأجيب: بأن ابن خزيمة أخرجه أيضًا عن إبراهيم بن محمد
الباهلي وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي كلاهما
عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال البيهقي وهو ثقة
وحينئذٍ، فقول ابن دقيق العيد أن قول مالك بوجوب القضاء هو
القياس فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات،
والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في باب المأمورات فيه
نظر فإن القياس شرطه عدم مخالفة النص قاله البرماوي في شرح
العمدة ثم علل كون الناسي لا يفطر بقوله:
(فإنما أطعمه الله وسقاه) ليس له فيه مدخل وقال الطيبي
"إنما" للحصر أي ما أطعمه أحد ولا سقاه إلا الله فدلّ على
أن هذا النسيان من الله تعالى ومن لطفه في حق عباده
تيسيرًا عليهم ودفعًا للحرج، وقال الخطابي: النسيان ضرورة
والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها ولا
يؤاخذ بها والله أعلم.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة.
27 - باب سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَاكُ
وَهُوَ صَائِمٌ مَا لاَ أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ".
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى
أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ
وُضُوءٍ».
وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ
لِلرَّبِّ». وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: يَبْتَلِعُ
رِيقَهُ.
(باب) حكم استعمال (السواك الرطب واليابس للصائم) بتعريف
السواك والرطب واليابس صفتان له، ولغير الكشميهني: باب
سواك الرطب واليابس أي سواك الشجر الرطب كقولهم مسجد
الجامع أي مسجد الموضع الجامع بتقدير موصوف لأن الصفة لا
تضاف إلى موصوفها.
وأجيب: بأن مذهب الكوفيين في هذا أن الصفة يذهب بها مذهب
الجنس ثم يضاف الموصوف إليه كما يضاف بعض الجنس إليه نحو
خاتم حديد وحينئذٍ فلا يحتاج إلى تقدير محذوف.
(ويذكر) بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول (عن عامر بن
ربيعة) مما وصله أبو داود والترمذي أنه (قال: رأيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستاك وهو صائم ما لا
أحصي أو أعد) شك من الراوي ومداره على عاصم بن عبيد الله
قال البخاري: منكر الحديث لكن حسنه الترمذي فلعله اعتضد،
ومن ثم ذكره المؤلّف بصيغة التمريض، وفي الحديث إشعار
(3/372)
بملازمة السواك ولم يخص رطبًا من يابس.
(وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- مما وصله النسائي (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) أعم من أن يكون
السواك رطبًا أو يابسًا في رمضان أو غيره قبل الزوال أو
بعده، واستدلّ به الشافعي على أن السواك ليس بواجب قال
لأنه لو كان واجبًا أمرهم به شق عليهم أو لم يشق (ويروى
نحوه) أي نحو حديث أبي هريرة (عن جابر) هو ابن عبد الله
الأنصاري مما وصله أبو نعيم في كتاب السواك من طريق عبد
الله بن عقيل عنه بلفظ مع كل صلاة وعبد الله مختلف فيه
(وزيد بن خالد) الجهني مما وصله أحمد وأصحاب السنن بلفظ
عند كل صلاة (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
قال البخاري (ولم يخص) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فيما رواه عنه أبو هريرة وجابر وزيد بن خالد
(الصائم من غيره) أي ولا السواك اليابس من غيره وهذا على
طريقة المؤلّف في أن المطلق يسلك به مسلك العموم أو أن
العام في الأشخاص عام في الأحوال.
(وقالت عائشة) -رضي الله عنها- مما وصله أحمد والنسائي
وابنا خزيمة وحبان: (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) (السواك مطهرة للفم) بفتح الميم وكسرها مصدر
ميمي يحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أي مطهر للفم أو بمعنى
الآلة (مرضاة للرب). بفتح الميم مصدر ميمي بمعنى الرضا.
قال المظهري: ويجوز أن يكون بمعنى المفعول أي مرضي الرب.
وقال الطيبي يمكن أن يقال أنها مثل الولد مبخلة مجبنة أي
السواك مظنة للطهارة والرضا أي يحمل السواك الرجل على
الطهارة ورضا الرب وعطف مرضاة يحتمل الترتيب بأن تكون
الطهارة به علة للرضًا وأن يكونا مستقلين في العلية.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح مما وصله سعيد بن منصور
(وقتادة) بن دعامة مما وصله عبد بن حميد في التفسير عن ابن
جريج عنه (يبتلع ريقه) بتاء مثناة فوقية بعد الموحدة من
باب الافتعال قال في الفتح وللمستملي: يبلغ بغير مثناة أي
من البلع، وللحموي: يتبلّع بتقديم المثناة على الموحدة
وتشديد اللام مفتوحة من باب التفعل الدال على التكلف، وقد
وقع في رواية غير أبي ذر في هذه التعاليق تقديم وتأخير
وعلى هذا الترتيب مشى في الأصل وفرعه إلا أنه رقم على
قوله. وقال أبو هريرة ميم مع علامة أبي ذر ثم كذلك على
قوله. وقالت عائشة وذلك علامة التقديم والتأخير فليعلم.
1934 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ: "رَأَيْتُ عُثْمَانَ
-رضي الله عنه- تَوَضَّأَ: فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ
ثَلاَثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ
وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى
الْمَرْفِقِ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى
إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ،
ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلاَثًا، ثُمَّ
الْيُسْرَى ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ
نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ
وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لاَ
يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَىْءٍ غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وبالسند قال (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن
جبلة قال (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال
(أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة ابن
راشد الأزدي (قال: حدثني) بالإفراد (الزهري) محمد بن مسلم
بن شهاب (عن عطاء بن يزيد) الليثي المدني نزيل الشأم (عن
حمران) بضم الحاء المهملة وسكون الميم ابن أبان مولى عثمان
بن عفان أنه (قال: رأيت عثمان -رضي الله عنه- توضأ) وضوءًا
كاملاً جامعًا للسنن كالمضمضة والاستنشاق والسواك (فأفرغ)
الفاء للتفسير أي صب (على يديه) إفراغًا (ثلاثًا، ثم
تمضمض) ولأبي ذر وابن عساكر في نسخة ثم مضمض بحذف التاء
(واستنثر)، أي أخرج الماء من أنفه بعد الاستنشاق (ثم غسل
وجهه) غسلاً (ثلاثًا، ثم غسل يده اليمنى إلى) أي مع
(المرفق) بفتح الميم وكسر الفاء وبالعكس غسلاً (ثلاثًا ثم
غسل يده اليسرى إلى) أي مع (المرفق) غسلاً (ثلاثًا، ثم مسح
برأسه)، هل الباء للتبعيض أو الاستعانة
أو غير ذلك خلاف مشهور يترتب عليه ما مر في الوضوء من كون
الواجب مسح الكل أو البعض، ولأبي ذر: ثم مسح رأسه بحذف
الباء ولم يذكر في المسح تثليثًا وهو مذهب الأئمة الثلاثة
واحتج الشافعي بحديث أبي داود عن عثمان أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح برأسه ثلاثًا (ثم غسل
رجله اليمنى) غسلاً (ثلاثًا، ثم) غسل رجله (اليسرى) غسلاً
(ثلاثًا) وحذف غسل رجله لدلالة السابق عليه (ثم قال رأيت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ)
وضوءًا (نحو وضوئي هذا) وعند المؤلّف في الرقاق مثل وضوئي
وهو ينفي ما قرره النووي من التفرقة بين
(3/373)
مثل ونحو وسبق مبحث ذلك في الوضوء (ثم
قال):
(من توضأ نحو وضوئي هذا ثم يصلّي ركعتين) وفي الوضوء: صلّى
بلفظ الماضي (لا يحدث نفسه) من باب التفعيل المقتضي للتكسب
من حديث النفس وهذا دفعه ممكن بخلاف ما يهجم فإنه معفو عنه
لتعذره (فيهما) أي في الركعتين (بشيء). وفي مسند أحمد
والطبراني في الأوسط لا يحدث نفسه فيهما إلا بخير أي
كمعاني المتلو من القرآن والذكر والدعاء الحاضر من نفسه أو
إمامه أما فيما لا يتعلق بالصلاة أو لا يتعلق بقراءة أو
ذكر أو دعاء حاضر بل في الجملة فلا كما قرره ابن عبد
السلام وغيره، وفي بعض الروايات كما عند الترمذي الحكيم في
كتاب الصلاة له لا يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا (غفر له
ما تقدم من ذنبه). من الصغائر، وهذا الحديث ليس فيه شيء من
أحكام الصيام لكن أدخله في هذا الباب لمعنى لطيف وذلك أنه
أخذ شرعية السواك للصائم
بالدليل الخاص ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تناولت
أحوال متناول السواك وأحوال عود السواك من رطوبة ويبوسة ثم
انتزع ذلك من أعم من ذلك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك
من رطوبة ويبوسة ثم انتزع ذلك من أعم من ذلك وهو المضمضة
إذ هي أبلغ من السواك الرطب، وأصل هذا الانتزاع لابن سيرين
حيث قال محتجًا على السواك الأخضر والماء له طعم اهـ.
وقد كره مالك الاستياك بالرطب للصائم لما يتحلل منه
والشافعي وأحمد بعد الزوال. قال ابن دقيق العيد: ويحتاج
إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم حديث الصحيحين عند كل
صلاة ورواية النسائي وغيره عند كل وضوء وهو حديث الخلوف
وعبارة الشافعي أحب السواك عند كل وضوء بالليل والنهار إلا
أني أكرهه للصائم آخر النهار من أجل الحديث في خلوف فم
الصائم اهـ.
وليس في هذه العبارة تقييد ذلك بالزوال فلذا قال الماوردي:
لم يحد الشافعي الكراهية بالزوال وإنما ذكر العشي فحده
الأصحاب بالزوال اهـ.
واسم العشي صادق بدخول أوّل النصف الأخير من النهار وقيل
لا يؤقت بحد معين بل يترك متى عرف أن تغير فمه ناشئ عن
الصيام وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس وباختلاف بعد عهده
عن الطعام وقرب عهده به لكونه لم يستحر أو تسحر، وفرق بعض
أصحابنا بين الفرض والنفل فكرهه في الفرض بعد الزوال ولم
يكرهه في النفل لأنه أبعد من الرياء، وقد أخذ مالك وأبو
حنيفة بعموم الحديث استحبابه للصائم قبل الزوال وبعده،
وقال النووي في شرح المهذّب: أنه المختار، وقال بعضهم:
السواك مطهرة للفم فلا يكره كالمضمضة للصائم لا سيما وهي
رائحة تتأذى بها الملائكة فلا تترك هنالك، وأما الخبر
ففائدته عظيمة بديعة وهي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما مدح الخلوف نهيًا للناس عن تقذر
مكالمة الصائمين بسبب الخلوف لا نهيًا للصوَّام عن السواك
والله غني عن وصول الرائحة الطيبة إليه فعلمناه يقينًا أنه
لم يرد بالنهي استبقاء الرائحة وإنما يراد نهي الناس عن
كراهتها قال وهذا التأويل أولى لأن فيه إكرامًا للصائم ولا
تعرض فيه للسواك فيذكر أو يتأوّل.
وحديث الباب قد سبق في باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا.
28 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ
بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ». وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ
الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ
إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ، وَيَكْتَحِلُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِي
فِيهِ مِنَ الْمَاءِ لاَ يَضِيرُهُ إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ
رِيقَهُ، وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟ وَلاَ يَمْضَغُ
الْعِلْكَ، فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لاَ أَقُولُ
إِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ فَإِنِ
اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لاَ بَأْسَ، لَمْ
يَمْلِكْ.
(باب) ما جاء في (قول النبي) (إذا توضأ) أحدكم (فليستنشق
بمنخره الماء) بفتح الميم وكسر الخاء وقد تكسر الميم
اتباعًا للخاء وهذا طرف من حديث أخرجه مسلم قال المؤلّف
(ولم يميز) عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم المذكور (بين
الصائم وغيره) بل ذكره على العموم ولو كان بينهما فرق
لميزه عليه الصلاة والسلام. نعم وقع في حديث عاصم بن لقيط
بن صبرة عن أبيه التمييز بين الصائم وغيره ولفظه أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له بالغ في
الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا رواه أصحاب السنن وصححه ابن
خزيمة.
(وقال الحسن) البصري مما وصله ابن أبي شيبة بنحوه: (لا بأس
بالسعوط) بفتح السين وقد تضم ما يصب من الدواء من الأنف
(للصائم إن لم يصل) أي السعوط (إلى حلقه) أو ما يسمى جوفًا
فإن وصل أفطر وقضى يومًا (ويكتحل) أي الصائم وهو من كلام
الحسن.
(وقال عطاء): مما وصله سعيد بن منصور (إن تمضمض) الصائم
(ثم أفرغ ما في فيه من الماء لا يضيره) بمثناة
(3/374)
تحتية بعد الضاد المعجمة المكسورة من ضاره
يضيره ضيرًا بمعنى ضره، ولابن عساكر لم بدل لا، ولابن
عساكر في نسخة وأبي ذر عن الكشميهني: لا يضره من ضره
بالتشديد (إن لم يزدرد) أي يبتلع (ريقه)، وهذا يقتضي أنه
إن ازدرده ضر وفيه نظر لأنه بعد الإِفراغ يصير الريق
خالصًا ولا فطر به، ولأبي الوقت: لا يضيره أن يزدرد ريقه
فأسقط لم وفتح الهمزة ونصب يزدرد أي لا يضره أن يبتلع ريقه
خاصة لأنه لا ماء فيه بعد تفريغه له ولذا قال: (وماذا) أي
وأي شيء (بقي في فيه)؟ في فمه بعد أن يمج الماء إلا أثر
الماء فإذا بلع ريقه لم يضره، ولأبي ذر وابن عساكر كما في
الفرع: وما بقي فأسقط لفظة ذا، وحينئذٍ فما موصولة ولفظة
ذا ثابتة عند سعيد بن منصور وعبد الرزاق. قال في الفتح:
ووقع في أصل البخاري وما بقي أي بإسقاط ذا. قال ابن بطال:
وظاهره إباحة الازدراد لما بقي من الفم من ماء المضمضة
وليس كذلك لأن عبد الرزاق رواه بلفظ وماذا يقي فكأن ذا
سقطت من رواية البخاري اهـ. ولعله لم يقف على الرواية
المثبتة لها.
(ولا يمضغ) أي لا يلوك الصائم (العلك) بكسر العين المهملة
وسكون اللام كالمصطكي وقوله يمضغ بفتح الصاد وضمها وبالفتح
عند أبي ذر وللمستملي كما في الفتح، ولابن عساكر كما في
الفرع: ويمضع العلك بإسقاط لا والرواية الأولى أولى (فإن
ازدرد ريق) فمه مع ما تحلب من (العلك لا أقول إنه يفطر
ولكن ينهى عنه) الجمهور وبه قال الشافعي أنه إن تحلب منه
شيء فازدرده أفطر ورخص الأكثرون في الذي لا يتحلب منه شيء.
نعم كرهه الشافعي من جهة كونه يجفف ويعطش، (فإن استنثر) أي
استنشق في الوضوء (فدخل الماء حلقه لا بأس، لأنه لم يملك)
منع دخول الماء في حلقه، وسقط في رواية أبي ذر وابن عساكر
قوله: فإن استنثر الخ.
29 - باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ "مَنْ أَفْطَرَ
يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلاَ مَرَضٍ
لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ
الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ". وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ
جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ: يَقْضِي
يَوْمًا مَكَانَهُ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا جامع) الصائم (في) نهار شهر
(رمضان) عامدًا وجبت عليه الكفارة (ويذكر) مبنيًا للمفعول
(عن أبي هريرة) حال كونه (رفعه) أي الحديث الآتي إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو (من أفطر يومًا
من رمضان من غير عذر) ولأبي ذر من غير علة (ولا مرض لم
يقضه صيام الدهر). قال المظهري: يعني لم يجد فضيلة الصوم
المفروض بصوم النافلة وليس معناه أن صيام الدهر بنية قضاء
يوم من رمضان لا يسقط عنه قضاء ذلك اليوم بل يجزئه قضاء
يوم بدلاً عن يوم، وقال شارح المشكاة: هو من باب التشديد
والمبالغة ولذلك أكده بقوله؛ (وإن صامه) حق الصيام ولم
يقصر فيه وبذل جهده وزاد في المبالغة حيث أسند القضاء إلى
الصوم إسنادًا مجازيًا، وأضاف الصوم إلى الدهر إجراء
للظروف مجرى المفعول به إذ الأصل لم يقض هو في الدهر كله
إذا صامه. وقال ابن المنير: يعني أن القضاء لا يقوم مقام
الإداء، ولو صام عوض اليوم دهرًا، ويقال بموجبه فإن الإثم
لا يسقط بالقضاء ولا سبيل إلى اشتراك القضاء والأداء في
كمال الفضيلة فقوله: لم يقضه صيام الدهر أي في وصفه الخاص
به وهو الكمال وإن كان يقضي عنه في وصفه العام المنحط عن
كمال الأداء هذا هو اللائق بمعنى الحديث ولا يحمل على نفي
القضاء بالكلية ولا تعهد عبادة واجبة مؤقتة لا تقبل القضاء
إلا الجمعة لأنها لا تجتمع بشروطها إلا في يومها وقد فات
أو في مثله وقد اشتغلت الذمة بالحاضرة فلا تسع الماضية
اهـ.
قال في فتح الباري: ولا يخفى تكلفه وسياق أثر ابن مسعود
الآتي إن شاء الله تعالى يردّ هذا التأويل، وهذا الحديث قد
وصله أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة من طريق سفيان
الثوري وشعبة كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير
عن أبي المطوّس بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الواو
المفتوحة عن أبيه عن أبي هريرة نحوه. قال الترمذي: سألت
محمدًا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال أبو المطوّس: اسمه
يزيد بن المطوّس لا أعرف له غير هذا الحديث، وقال في
التاريخ أيضًا تفرد أبو المطوّس بهذا الحديث ولا أدري سمع
أبوه من أبي هريرة أم لا اهـ.
واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافًا كثيرًا
(3/375)
فحصلت فيه ثلاث علل الاضطراب والجهل بحال
أبي المطوّس والشك في سماع أبيه من أبي هريرة (وبه) أي بما
دل عليه حديث أبي هريرة (قال ابن مسعود) -رضي الله عنه-
مما وصله البيهقي من طريق المغيرة بن عبد الله اليشكري
قال: حدثت أن عبد الله بن مسعود قال من أفطر يومًا من
رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقى الله فإن
شاء غفر له وإن شاء عذبه وذكر ابن حزم من طريق ابن المبارك
بإسناد له فيه انقطاع أن أبا بكر الصديق قال لعمر بن
الخطاب فيما أوصاه به من صام شهر رمضان من غيره لم يقبل
منه ولو صام الدهر أجمع (وقال سعيد بن المسيب) التابعي
فيما وصله مسدد وغيره عنه في قصة
المجامع (والشعبي) عامر بن شراحيل مما وصله ابن أبي شيبة
(وابن جبير) سعيد مما وصله ابن أبي شيبة أيضًا (وإبراهيم)
النخعي مما وصله ابن أبي شيبة أيضًا (وقتادة) بن دعامة مما
وصله عبد الرزاق (وحماد): هو ابن أبي سليمان مما وصله عبد
الرزاق عن أبي حنيفة عنه (يفضي يومًا مكانه).
1935 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ
يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ
سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ
أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ
بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ: "إِنَّ رَجُلاً
أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ إِنَّهُ احْتَرَقَ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ:
أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِكْتَلٍ يُدْعَى
الْعَرَقَ. فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ قَالَ: أَنَا.
قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا". [الحديث 1935 - طرفه في:
6822].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن منير) بضم الميم وكسر
النون الزاهد أنه (سمع يزيد بن هارون) من الزيادة أبا خالد
يقول (حدّثنا) ولابن عساكر أخبرنا (يحيى هو ابن سعيد) أي
الأنصاري (أن عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد بن أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه- (أخبره عن محمد بن جعفر بن الزبير
بن العوام بن خويلد عن عباد بن عبد الله بن الزبير) أنه
(أخبره أنه سمع عائشة -رضي الله عنها- تقول: أن رجلاً أتى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قيل الرجل هو
سلمة بن صخر رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود وبه جزم عبد
الغني وانتقد بأن ذلك هو المظاهر في رمضان أتى أهله في
الليل رأى خلخالاً لها في القمر وفي تمهيد ابن عبد البر عن
ابن المسيب أن المجامع في رمضان سلمان بن صخر أحد بني
بياضة قال: وأظنه وهمًا أتى من الرواة أي لأن ذلك إنما هو
في المظاهر وأما المجامع فأعرابي فهما واقعتان فإن في قصة
المجامع في حديث الباب أنه كان صائمًا وفي قصة سلمة بن صخر
أن ذلك كان ليلاً كما عند الترمذي فافترقا واجتماعهما في
كونهما من بني بياضة وفي صفة الكفارة وكونها مرتبة وفي كون
كل منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها كما سيأتي إن شاء
الله تعالى لا يقتضي اتحاد القصتين (فقال): أي الرجل له
عليه الصلاة والسلام (إنه احترق)، أطلق على نفسه أنه احترق
لاعتقاده أن مرتكب الإثم يعذب بالنار فهو مجاز عن العصيان
أو المراد أنه يحترق يوم القيامة فجعل المتوقع كالواقع
وعبر عنه بالماضي ورواية الاحتراق هذه تفسر رواية الهلاك
الآتية إن شاء الله تعالى في الباب اللاحق وفي رواية
البيهقي جاء رجل وهو ينتف شعره ويدق صدره ويقول هلك الأبعد
(قال): له عليه الصلاة والسلام (ما لك): بفثح اللام أي ما
شأنك (قال: أصبت أهلي) أي جامعت زوجتي (في رمضان). ولابن
عساكر في نهار رمضان (فأتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بضم الهمزة وكسر التاء مبنيًا للمفعول (بمكتل)
بكسر الميم وفتح المثناة الفوقية شبه الزنبيل يسع خمسة عشر
صاعًا (يدعى العرق)، بفتح الراء وقد تسكن وهو ما نسخ من
الخوض فيه تمر (فقال): عليه الصلاة والسلام (أين المحترق)؟
أثبت له عليه الصلاة والسلام وصف الاحتراق إشارة إلى أنه
لو أصر
على ذلك لاستحق ذلك (قال): الرجل (أنا. قال:) عليه الصلاة
والسلام (تصدّق بهذا) المكتل على ستين مسكينًا كما في باقي
الروايات لكل مسكين مدّ وهو ربع صاع وهذا إنما هو بعد
العجز عن العتق وصيام الشهرين فقد روى هذا الحديث عبد
الرحمن بن الحرث عن محمد بن جعفر بن الزبير بهذا الإسناد
ولفظه كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
جالسًا في ظل فارع بالفاء والمهملة فجاءه رجل من بني بياضة
فقال: احترقت وقعت بأمرأتي في رمضان فقال: أعتق رقبة قال
لا أجدها قال أطعم ستين مسكينًا قال ليس عندي الحديث أخرجه
أبو داود ووقع هنا مختصرًا وفيه وجوب الكفارة على المجامع
عمدًا لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال أين
المحترق وقد
(3/376)
خرج بالعمد من جامع ناسيًا أو مكرهًا أو
جاهلاً وبقوله في رمضان غيره كقضاء ونذر وتطوّع لورود النص
في رمضان وهو مختص بفضائل لا يشاركه فيها غيره وبالجماع
غيره كالاستمناء والأكل لورود النص في الجماع، وهو أغلظ من
غيره، وأوجب بعض المالكية والحنابلة الكفارة على الناسي
متمسكين بترك استفساره عليه الصلاة والسلام عن جماعه هل
كان عن عمد أو عن نسيان وتركه الاستفصال في الفعل ينزل
منزلة العموم في المقال.
وأجيب: بأنه قد تبين الحال من قوله احترقت وهلكت فدلّ على
أنه كان عامدًا عالمًا بالتحريم، واستدلّ أيضًا بحديث
الباب لمالك حيث جزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام
دون غيره ولا حجة فيه لأن الحديث مختصر من المطوّل والقصة
واحدة وقد حفظها أبو هريرة وقصها على وجهها وأوردها بعض
الرواة مختصرة عن عائشة، وقد رواها عبد الرحمن بن الحرث
بتمامها كما تقدم ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
وفي هذا الحديث التحديث والإخبار والسماع وأربعة من
التابعين يحيى وعبد الرحمن ومحمد بن جعفر وعباد، وأخرجه
أيضًا في المحاربين ومسلم في الصوم وكذا أبو داود
والنسائي.
30 - باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَىْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ
هذا (باب) بالتنوين (إذا جامع) الصائم (في) نهار شهر
(رمضان و) الحال أنه (لم يكن له شيء) يعتق به ولا يستطيع
الصوم ولا شيء يتصدق به (فتصدق عليه) بقدر ما يجزئه
(فليكفر) به لأنه صار واجدًا.
1936 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟
قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ:
لاَ. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لاَ. فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ
إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لاَ. قَالَ:
فَمَكَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ -وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ- قَالَ:
أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: خُذْهَا
فَتَصَدَّقْ بِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ
مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ
لاَبَتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ
أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ
أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". [الحديث
1936 - أطرافه في: 1937، 2600، 5368، 6087، 6164، 6709،
6710، 6711، 6821].
وبالسند قال (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال:
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم
بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (حميد بن عبد الرحمن) بن
عوف (أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس
عند) ولأبي الوقت كما في الفرع: ونسبها في فتح الباري
للكشميهني مع (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وقوله: بينما بالميم وتضاف إلى الجملة الاسمية والفعلية
وتحتاج إلى جواب يتم به المعنى والأفصح في جوابها أن لا
يكون فيه إذ وإذا ولكن كثر مجيئها كذلك ومنه قوله (إذ جاءه
رجل) سبق في الباب قبله أنه قيل أنه سلمة بن صخر أو سلمان
بن صخر أو أعرابي (فقال: يا رسول الله هلكت)، وفي بعض طرق
هذا الحديث هلكت وأهلكت أي فعلت ما هو سبب لهلاكي وهلاك
غيري وهو زوجته التي وطئها (قال): عليه الصلاة والسلام له:
(ما لك): بفتح اللام وما استفهامية محلها رفع بالابتداء أي
أي شيء كائن لك أو حاصل لك وفي رواية عقيل عند ابن خزيمة
ويحك ما شأنك، ولابن أبي حفصة عند أحمد وما الذي أهلكك
(قال: وقعت على امرأتي) وفي رواية ابن إسحاق عند البزار
أصبت أهلي وفي حديث عائشة وطئت امرأتي (وأنا) أي والحال
أني (صائم) قال في فتح الباري: يؤخذ منه أنه لا يشترط في
إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى المشتق منه حقيقة لاستحالة
كونه صائمًا مجامعًا في حالة واحدة فعلى هذا قوله وطئت أي
شرعت في الوطء أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هل تجد رقبة تعتقها)؟ أي تقدر فالمراد الوجود الشرعي
ليدخل فيه القدر بالشراء ونحوه ويخرج عنه مالك الرقبة
المحتاج إليها بطريق معتبر شرعًا وفي رواية ابن أي حفصة
عند أحمد أتستطيع أن تعتق رقبة (قال): الرجل (لا) أجد
رقبة، وفي رواية ابن إسحاق ليس عندي، وفي رواية ابن مسافر
عند الطحاوي فقال: لا والله وفي حديث ابن عمر فقال: والذي
بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط؟ (قال): عليه الصلاة والسلام
(فهل تستطيع أن تصوم شهرن متتابعين)؟ (قال: لا). وفي حديث
سعد قال: لا يقدر، وفي رواية ابن إسحاق عند البزار وهل
لقيت إلا من الصيام (فقال): عليه الصلاة والسلام، ولأبي ذر
وابن عساكر: قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينًا)؟ (قال: لا)
والمسكين مأخوذ من السكون لأن المعدم ساكن الحال عن أمور
الدنيا والمراد بالمسكين هنا أعم من الفقير لأن كلاً منهما
حيث أفرد يشمل الآخر وإنما يفترقان عند اجتماعهما نحو إنما
الصدقات للفقراء والمساكين والخلاف في معناها حينئذ معروف.
قال ابن دقيق العيد قوله إطعام ستين مسكينًا يدل على وجوب
إطعام
(3/377)
هذا العدد لأنه أضاف
الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجودًا
في حق من أطعم عشرين مسكينًا ثلاثة أيام مثلاً ومن أجاز
ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال،
والمشهور عن الحنفية الأجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكينًا
واحدًا في ستين يومًا كفى اهـ.
وفي رواية ابن أبي حفصة: أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟
وفي حديث ابن عمر قال: والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي
والحكمة في ترتيب هذه الكفارة على ما ذكر أن من انتهك حرمة
الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة
فيفدي نفسه، وقد صح من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها
عضوًا منه من النار، وأما الصيام فإنه كالمقاصة بجنس
الجناية وكونه شهرين لأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل
يوم من شهر على الولاء فلما أفسد منه يومًا كان كمن أفسد
الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع وكلف بشهرين
مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده، وأما الإطعام
فمناسبته ظاهرة لأنه مقابل كل يوم إطعام مسكين، وإذا ثبتت
هذه الخصال الثلاث في هذه الكفارة فهل هي على الترتيب أو
التخيير، قال البيضاوي: رتب الثاني بالفاء على فقد الأول
ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني فدلّ على عدم التخيير مع
كونها في معرض البيان وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط
للحكم وقال مالك بالتخيير.
(قال): أي أبو هريرة (فمكث) بضم الكاف وفتحها (عند النبى
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي رواية ابن عيينة
فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أجلس
قيل وإنما أمره بالجلوس لانتظار الوحي في حقه أو كان عرف
أنه سيؤتى بشيء يعينه به (فبينا) بغير ميم (نحن على ذلك)
وجواب بينا قوله (أتي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ولم يسم الآتي،
لكن عن المؤلّف في الكفارات فجاء رجل من الأنصار (بعرق)
بفتح العين والراء (فيه تمر) -ولأبي ذر فيها بالتأنيث على
معنى القفة قال القاضي عياض المكتل والقفة والزنبيل سواء
وزاد ابن أبي حفصة فيه خمسة عشر صاعًا. وفي حديث عائشة عند
ابن خزيمة فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا وفي مرسل عطاء عند
مسدد فأمر له ببعضه وهو يجمع بين الروايات فمن قال عشرين
أراد أصل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به
الكفارة قال أبو هريرة أو الزهري أو غيره (والعرق المكتل)
بكسر الميم وفتح الفوقية الزنبيل الكبير يسع خمسة عشر
صاعًا (قال: عليه الصلاة والسلام) ولابن عساكر: فقال:
(أين السائل) زاد ابن مسافر آنفًا وسماه سائلاً لأن كلامه
متضمن للسؤال فإن مراده هلكت فما ينجيني أو ما يخلصني
مثلاً (فقال): الرجل (أنا. قال) (خذها) أي القفة (فتصدق
به). أي بالتمر الذي فيها ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: خذ
هذا فتصدق به (فقال الرجل): أتصدق به (على) شخص (أفقر مني
يا رسول الله) بالاستفهام التعجبي وحذف الفعل لدلالة تصدق
به عليه. وفي حديث ابن عمر عند البزار والطبراني إلى من
أدفعه؟ قال: إلى أفقر من تعلم، وفي رواية إبراهيم بن سعد
أعلى أفقر من أهلي، ولابن مسافر عند الطحاوي: أعلى أهل بيت
أفقر مني، وللأوزاعي على غير أهلي، ولمنصور أعلى أحوج منا،
ولابن إسحاق وهل الصدقة إلا لي وعلي (فوالله ما بين
لابتيها-)
بغير همزة تثنية لابة قال بعض رواته (يريد) باللابتين
(الحرتين-) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء أرض ذات حجارة
سود والمدينة بين حرتين (أهل بيت أفقر من أهل بيتي). برفع
أهل اسم ما ونصب أفقر خبرها إن جعلت ما حجازية وبالرفع إن
جعلتها تميمية قاله الزركشي وغيره. وقال البدر الدماميني:
وكذا إن جعلناها حجازية ملغاة من عمل النصب بناء على أن
قوله ما بين لابتيها خبر مقدم وأهل بيت مؤخر وأفقر صفة له.
وفي رواية عقيل: ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه
مني، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة ما لنا عشاء ليلة.
(فضحك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بدت
أنيابه) تعجبًا من حال الرجل في كونه جاء أولاً هالكًا
محترقًا خائفًا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه،
فلما وجد الرخصة طمع أن يأكل
(3/378)
ما أعطيه في الكفارة والأنياب جمع ناب وهي
الأسنان الملاصقة للرباعيات وهي أربعة والضحك غير التبسم
وقد ورد أن ضحكه كان تبسمًا أي في غالب أحواله.
(ثم قال): عليه الصلاة والسلام له (أطعمه) أي ما في الكتل
من التمر (أهلك) من تلزمك نفقته أو زوجتك أو مطلق أقاربك،
ولابن عيينة في الكفارات أطعمه عيالك، وفي رواية أبي قرة
عن ابن جريج قال: كله، ولابن إسحاق: خذها وكلها وأنفقها
على عيالك أي لا عن الكفارة بل هو تمليك مطلق بالنسبة إليه
وإلى عياله وأخذهم إياه بصفة الفقر وذلك لأنه لما عجز عن
أعتق لإعساره وعن الصيام لضعفه فلما حضر ما يتصدق به ذكر
أنه وعياله محتاجون فتصدق به عليه الصلاة والسلام عليه
وكان من مال الصدقة وصارت الكفارة في ذمته وليس استقرارها
في ذمته مأخوذًا من هذا الحديث.
وأما حديث عليّ بلفظ فكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك
فضعيف لا يحتج به، وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي
أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه
البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري وحديث
ابن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث
الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضًا
في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب
وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة أصلاً ويؤخذ من
قوله: صم يومًا عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله يومًا.
قال: البرماوي كالكرماني وقد استنبط بعض العلماء من هذا
الحديث ألف مسألة وأكثر اهـ.
فمن ذلك أن من ارتكب معصية لا حدّ فيها وجاء مستفتيًا أنه
لا يعاقب لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية لأن معاقبة المستفتي تكون
سببًا لترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في ذلك وهذه
مفسدة عظيمة يجب دفعها.
وفي هذا الحديث التحديث والإخبار والعنعنة والقول، ورواه
ما ينيف على أربعين نفسًا عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة
يطول ذكرهم، وقد أخرجه المؤلّف أيضًا في الصوم والأدب
والنفقات والنذور والمحاربين ومسلم في الصوم وكذا أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة.
31 - باب الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ
أَهْلَهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ؟
(باب) حكم الصائم (المجامع في رمضان هل يطعم أهله من
الكفارة إذا كانوا محاويج؟) أم لا؟ قال الحافظ ابن حجر:
ولا منافاة بين هذه الترجمة والتي قبلها لأن التي قبلها
آذنت بأن الإعسار بالكفارة لا يسقطها عن الذمة لقوله فيها
إذا جامع ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر والثانية
تردّدت هل المأذون له بالتصرف فيه نفس الكفارة أم لا وعلى
هذا يتنزل لفظ الترجمة.
1937 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه-: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ الأَخِرَ
وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ:
أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لاَ. قَالَ:
فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟
قَالَ: لاَ. قَالَ: أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ
مِسْكِينًا؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَقٍ فِيهِ
تَمْرٌ -وَهُوَ الزَّبِيلُ- قَالَ: أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ،
قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا
أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا؟ قَالَ: فَأَطْعِمْهُ
أَهْلَكَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) نسبه لجده وأبوه
محمد وهو أخي أبي بكر بن أبي شيبة قال: (حدّثنا جرير) بفتح
الجيم هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن
الزهري) هو محمد بن مسلم (عن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف
الزهري (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه قال: (جاء رجل
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فقال: إن
الأخر) بقصر الهمزة وكسر الخاء المعجمة بوزن كتف أي من هو
في آخر القوم (وقع على امرأته) أي جامعها (في) نهار
(رمضان، فقال): عليه السلام له:
(أتجد ما تحرر) أي تعتق به (رقبة؟) بالنصب ومفعول تحرر
(قال): الرجل (لا). أجد (قال): عليه الصلاة والسلام
(أفتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين) (قال) الرجل (لا)
أستطيع (قال): عليه الصلاة والسلام: (أفتجد ما تطعم به
ستين مسكينًا) وسقط لأبوي ذر والوقت وابن عساكر لفظ: به
(قال): الرجل (لا): أجد (قال) أبو هريرة (فأتي النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الهمزة وكسر
الفوقية مبنيًّا للمفعول (بعرق فيه تمر-) من تمر الصدقة
(وهو) أي العرق (الزبيل-) بفتح الزاي وكسر الموحدة المخففة
القفة، وفي نسخة الزنبيل بالنون (قال): عليه الصلاة
والسلام للرجل (أطعم هذا) التمر (عنك) ولابن إسحاق: فتصدق
به عن نفسك. واستدلّ به على أن الكفارة عليه وحده دون
الموطوءة إذ لم يؤمر بها هو مع الحاجة إلى البيان ولنقصان
صومها بتعرضه للبطلان بعروض الحيض أو نحوه فلم تكمل حرمته
حتى
(3/379)
تتعلق به الكفارة ولأنها غرم مالي يتعلق
بالجماع فيختص بالرجل الواطئ كالمهر فلا يجب على الموطوءة.
وقال المالكية: إذا وطئ أمته في نهار رمضان وجبت عليه
كفارتان: إحداهما عن نفسه والأخرى عن الأمة وإن طاوعته،
لأن مطاوعته كالإكراه للرق، وكذلك يكفر عن الزوجة إن
أكرهها على الجماع وتكفيره عنها بطريق النيابة عنهما لا
بطريق الأصالة فلذلك لا يكفر عنهما إلا بما يجزئهما في
التكفير فيكفر عن الأمة بالإطعام لا بالعتق إذ لا ولاء لها
ولا بالصوم لأن الصوم لا يقبل النيابة، ويكفر عن الزوجة
الحرة بالعتق أو الإطعام فإن أعسر كفرت الزوجة عن نفسها
ورجع عليه إذا أيسر بالأقل من قيمة الرقبة التي أعتقت أو
مكيلة الطعام، وأوجبها الحنفية على المرأة المطاوعة لأنها
شاركت الرجل في الإفساد فتشاركه في وجوب الكفارة أي سواء
كانت زوجة أو أمة. وقال الحنابلة: ولا يلزم المرأة كفارة
مع العذر. قال المرداوي: نص عليه وعليه أكثر الأصحاب وعنه
تكفر وترجع بها على الزوج اختاره بعض الأصحاب وهو الصواب
اهـ.
وأما حديث الدارقطني عن أبي ثور قال: حدّثنا معلى بن منصور
قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد عن أبي
هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: هلكت وأهلكت الحديث. فقد تفرد به أبو ثور
عن معلى بن منصور عن ابن عيينة بقوله: وأهلكت. وأخرجه
البيهقي عن جماعة عن الأوزاعي عن الزهري به وفيه: وأهلكت.
وقال: ضعف شيخنا أبو عبد الله الحاكم هذه اللفظة، وكافة
أصحاب الأوزاعي رووه دونها، واستدلّ الحاكم على أنها خطأ
بأنه نظر في كتاب الصوم تصنيف المعلى بن منصور فوجد فيه
هذا الحديث دون هذه اللفظة وأن كافة أصحاب سفيان رووه
دونها.
(قال): الرجل أتصدق به (على أحوج منا) بحذف همزة الاستفهام
والفعل الذي يتعلق به الجار لدلالة قوله أطعم هذا عنك وهو
استفهام تعجبي أي ليس أحد أفقر منا حتى أتصدق به عليه (ما
بين لابتيها) وفي الرواية السابقة فوالله ما بين لابتيها
(أهل بيت أحوج منا قال): عليه الصلاة والسلام (فأطعمه
أهلك) قيل أراد بهم من لا تلزمه نفقتهم من أقاربه وهو قول
بعض الشافعية ورد بقوله في الرواية الأخرى عيالك وبالأخرى
المصرحة بالإذن له في أكل من ذلك وقيل هو خاص بهذا الرجل،
وإليه نحا إمام إلحرمين، وعورض بأن الأصل عدم الخصوصية،
وقيل هو منسوخ ولم يبين قائله ناسخه. وقال الشافعي في
الأم: يحتمل أنه لما أخبره بفقره صرفه له صدقة أو أنه ملكه
إياه أو أمره بالتصدق به، فلما أخبره بفقره أذن له في صرفه
لهم للإعلام بأنه إنما تجب بعد الكفاية أو أنه تطوّع
بالتكفير عنه وسوّغ له صرفها لأهله للإعلام بأن لغير
المكفر التطوّع بالتكفير عنه بإذنه وأن له صرفها لأهل
المكفر عنه فأما الشخص يكفر عن نفسه ويصرف إلى أهله فلا.
32 - باب الْحِجَامَةِ وَالْقَىْءِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ
بْنُ سَلاَّمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه-: إِذَا قَاءَ فَلاَ يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ
وَلاَ يُولِجُ. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ
يُفْطِرُ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَعِكْرِمَةُ: الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا
خَرَجَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَحْتَجِمُ
وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَكَانَ يَحْتَجِمُ
بِاللَّيْلِ. وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلاً.
وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا. وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ
أُمِّ عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ
فَلاَ تَنْهَى. وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ
وَاحِدٍ مَرْفُوعًا "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ".
وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى
حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ، قِيلَ لَهُ:
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ.
(باب) حكم (الحجامة والقيء
للصائم).
قال المؤلّف بالسند السابق: (وقال لي يحيى بن صالح)
الوحاظي الحمصي (حدّثنا معاوية بن سلام) بتشديد اللام قال:
(حدّثنا يحيى) هو ابن أبي كثير (عن عمر) بضم العين وفتح
الميم (ابن الحكم) بفتح الحاء والكاف (ابن ثوبان) بالمثلثة
والموحدة المفتوحتين المدني أنه (سمع أبا هريرة -رضي الله
عنه-) يقول؛ (إذا قاء) الصائم بغير اختياره بأن غلبه (فلا
يفطر)، لأن القيء (إنما يخرج) من الخروج (ولا يولج). من
الإيلاج يعني أن الصيام لا ينقض إلا بشيء يدخل وللكشميهني
مما في الفتح أنه أي القيء يخرج ولا يولج وهذا منقوض
بالمني فإنه يخرج وهو موجب للقضاء والكفارة.
(ويذكر) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (أنه يفطر)، أي إذا تعمد القيء وإن
لم يعد شيء منه إلى جوفه فهو محمول على حديثه المرفوع
المروي عند المؤلّف في تاريخه الكبير بلفظ: من ذرعه القيء
وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض لكن ضعفه
المؤلّف، ورواه أصحاب السنن الأربعة. وقال الترمذي: والعمل
عند أهل العلم
(3/380)
عليه، وبه يقول الشافعي وسفيان الثوري
وأحمد وإسحاق وقد صححه الحاكم وقال على شرط الشيخين وابن
حبان. وقال الحنفية: ولا يجب القضاء بغلبة القيء عليه
وخروجه من فمه قل أو أكثر لا تعمده فإنه يفسده وعليه
القضاء ويعتبر أبو يوسف في إفساده امتلاء الفم في التعمد
وفي عوده إلى الداخل سواء أعاده أو لم يعده لوجوب القضاء
لأنه إذا كان ملء الفم يعدّ خارجًا لانتقاض الطهارة به
فيفسد الصوم، وإذا عاد حال كونه ملء الفم يعدّ داخلاً لسبق
اتصافه بالخروج حكمًا ولا كذلك إذا لم يملأه فلا يفسد
واعتبر محمد بن الحسن قصد الصائم وفعله في ابتداء القيء
وفي عوده سواء كان ملء الفم أو لم يكن لقوله عليه السلام:
"من استقاء عمدًا فعليه القضاء من غير فصل بين القليل
والكثير وإذا أعاده يوجد منه الصنع في الإدخال إلى الجوف
فيفسد به صومه وإن قل القيء، وخلاصة المفهوم مما سبق أن في
صورة الاستقاءة يفسد الصوم عند أبي يوسف إذا كان ملء الفم
سواء عاد القيء بعده أو لم يعد أو أعاده لاتصافه بالخروج.
وعند محمد: يفسد على كل الأحوال لوجود التعمد فيه، وأما
إذا غلبه القيء فإن كان ملء الفم يفسد عند أبي يوسف عاد أو
أعاده لما مر، وعند محمد لا يفسد إذا عاد
أو لم يعد لانعدام الصنع منه ويفسد إذا أعاد وإن لم يكن
ملء الفم لا يفسد إذا عاد أو لم يعد اتفاقًا ويفسد عند
محمد إذا أعاده، (والأول) القائل أنه لا يفطر (أصح).
(وقال ابن عباس وعكرمة) -رضي الله عنهما- مما وصله ابن أبي
شيبة (الصوم) أي الإمساك واجب (مما دخل) في الجوف (وليس
مما خرج) ولأبي ذر وابن عساكر في نسخة: الفطر بدل قوله
الصوم.
(وكان ابن عمر -رضي الله عنهما-) مما وصله مالك في الموطأ
(يحتجم وهو صائم، ثم تركه فكان يحتجم) وهو صائم (بالليل).
لأجل الضعف، (واحتجم أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري
فيما وصله ابن أبي شيبة (ليلاً).
(ويذكر) مبنيًّا للمفعول (عن سعد) بسكون العين ابن أبي
وقاص أحد العشرة مما وصله مالك في موطئه وفيه انقطاع لكن
ذكره ابن عبد البر من وجه آخر (وزيد بن أرقم) الأنصاري مما
وصله عبد الرزاق (وأم سلمة) أم المؤمنين مما وصله ابن أبي
شيبة أنهم الثلاثة (احتجموا) حال كونهم (صيامًا).
(وقال بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف ابن عبد الله بن الأشج
(عن أم علقمة) مرجانة كما سماها البخاري وذكرها ابن حبان
في الثقات ووصل هذا المؤلّف في تاريخه أنها قالت: (كنا
نحتجم عند عائشة) -رضي الله عنها- أي ونحن صيام (فلا تنهى)
عائشة عن ذلك، ولأبوي ذر والوقت: فلا ننهى بضم النون
الأولى التي للمتكلم ومعه غيره وسكون الثانية على صيغة
المجهول.
(ويروى) مبنيًّا للمفعول (عن الحسن) البصري (عن غير واحد)
من الصحابة وهم شداد بن أوس وأسامة بن زيد وأبو هريرة
وثوبان ومعقل بن يسار ويحتمل أنه سمعه من كلهم (مرفوعًا)
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال):
بالفاء وفي بعض الأصول وقال ولأبي ذر إسقاطهما (أفطر
الحاجم والمحجوم) وصله النسائي من طرق عن أبي حرة عن
الحسن، وقال عليّ بن المديني: رواه يونس عن الحسن وقد أخذ
بظاهره أحمد -رحمه الله- أنهما يفطران وعليه جماهير أصحابه
وهو من المفردات وعنه: إن علما بالنهي أفطرا وإلاّ فلا.
وقال: في الفروع: ظاهر كلام أحمد والأصحاب أنه لا فطر إن
لم يظهر دم قال وهو متجه، واختاره شيخنا وضعف خلافه وو خرج
الدم بنفسه لغير التداوي بدل الحجامة لم يفطر اهـ.
وقال الأئمة الثلاثة: لا يفطر لما سيأتي وحملوا الحديث كما
قال البغوي على معنى أنهما تعرضا للإفطار المحجوم للضعف
والحاجم لأنه لا يأمن أن يصل إلى جوفه شيء بمص المحجم، لكن
الحديث قد تكلم فيه فقال الدارقطني في العلل: اختلف على
عطاء بن السائب في الصحابي وكذا اختلف على يونس أيضًا.
قال المؤلّف: (وقال لي عياش): بمثناة تحتية ومعجمة ابن
الوليد الرقام البصري (حدّثنا عبد الأعلى) بن عبد الأعلى
السامي القرشي البصري قال: (حدّثنا يونس) هو ابن عبيد بن
دينار البصري التابعي
(3/381)
(عن الحسن) البصري التابعي (مثله) أي مثل
السابق أفطر الحاجم والمحجوم.
وقد أخرجه المؤلّف في تاريخه والبيهقي في طريقه (قيل له):
أي للحسن (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
الذي يحدّث به أفطر الحاجم والمحجوم (قال) (نعم) عنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم قال): مترددًا
بعد الجزم (الله أعلم).
1938 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْتَجَمَ وَهْوَ مُحْرِمٌ،
وَاحْتَجَمَ وَهْوَ صَائِمٌ".
وبالسند قال: (حدّثنا معلى بن أسد) بضم الميم وتشديد اللام
العمي أخو بهز بن أسد البصري قال: (حدّثنا وهيب) هو ابن
خالد (عن أيوب) السختياني (عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
احتجم) ولابن عساكر قال: احتجم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وهو محرم، واحتجم) أيضًا (وهو صائم)
وهذا ناسخ لحديث "أفطر الحاجم والمحجوم" لأنه جاء في بعض
طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع وسبق إلى ذلك الشافعي، ولفظ
البيهقي في كتاب المعرفة له بعد حديث ابن عباس أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احتجم وهو صائم. قال
الشافعي في رواية أبي عبد الله: وسماع ابن عباس عن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام الفتح ولم
يكن يومئذ محرمًا ولم يصحبه محرمًا قبل حجة الإسلام، فذكر
ابن عباس حجامة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عام حجة الإسلام سنة عشر. وحديث أفطر الحاجم والمحجوم في
الفتح سنة ثمان قبل حجة الإسلام بسنتين فإن كانا ثابتين
فحديث ابن عباس ناسخ وحديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ
اهـ.
وقال ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب، لكن
وجدنا من حديث أبي سعيد أرخص النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحجامة للصائم وإسناده صحيح فوجب
الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدلّ على نسخ
الفطر بالحجامة سواء كان حاجمًا أو محجومًا.
قال في الفتح: والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة
والدارقطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله
شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني ولفظه: أول ما كرهت
الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمرّ
به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:
أفطر هذا ثم رخص رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعد في الحجامة للصائم.
1939 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "احْتَجَمَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ
صَائِمٌ".
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المنقري
القعد قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد التميمي البصري
قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (عن عكرمة عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- قال: احتجم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو صائم) وهذا طريق آخر لحديث ابن عباس، وقد
أخرجه الطحاوي من عشر طرق، وأخرجه أبو داود نحو رواية
البخاري، وأخرجه الإسماعيلي ولم يذكر ابن عباس، واختلف على
حماد في وصله وإرساله وهو صحيح بلا شك، وقد سقط حديث معمر
هذا عند أبي ذر وابن عساكر كما في فرع اليونينية.
1940 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ:
"سُئِلَ أَنَسُ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: أَكُنْتُمْ
تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لاَ. إِلاَّ
مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ". وَزَادَ شَبَابَةُ: "حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ: عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي اياس) بكسر الهمزة وتخفيف
الياء قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: سمعت ثابتًا
البناني) بضم الموحدة (يسأل أنس بن مالك -رضي الله عنه-)
بلفظ المضارع في قوله يسأل قال الحافظ ابن حجر: وهذا غلط
فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس، وقد سقط منه رجل بين شعبة
وثابت، فرواه الإسماعيلي وأبو نعيم عن البيهقي من طريق
جعفر بن محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبد الوهاب
وإبراهيم بن حسن بن ديزيل كلهم عن آدم بن أبي إياس شيخ
البخاري فيه فقال عن شعبة عن حميد قال: سمعت ثابتًا وهو
يسأل أنس بن مالك فذكره، وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن
الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد، ولأبي
ذر كما في الفرع: سئل أنس بن مالك بضم السين مبنيًّا
للمفعول وهو كذلك في أصول البخاري ونسب الأولى في الفتح
لأبي الوقت (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا إلا من
أجل الضعف) للبدن وحينئذ فيندب تركها كالفصد ونحوه تحرزًا
عن إضعاف البدن وخروجًا من الخلاف في الفطر بذلك وإن كان
منسوخًا.
(وزاد شبابة) بالمعجمة والموحدتين المفتوحات ابن سوار
الفزاري قال: (حدّثنا شعبة): بن الحجاج (على عهد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال الحافظ ابن حجر:
(3/382)
وهذا يشعر بأن رواية شبابة موافقة لرواية
آدم في الإسناد والمتن إلا أن شبابة زاد فيه ما يؤكد رفعه،
وقد أخرج ابن منده في غرائب شعبة طريق شبابة فقال: محمد بن
أحمد بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن روح، حدّثنا شبابة،
حدّثنا شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، وبه عن
شعبة عن حميد عن أنس نحوه، وهذا يؤكد صحة ما اعترض به
الإسماعيلي ومن تبعه ويشعر بأن الخلل فيه من غير البخاري
إذ لو كان إسناد شبابة عنده مخالفًا لإسناد آدم لبينه وهذا
واضح لا خفاء به والله أعلم.
33 - باب الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالإِفْطَارِ
(باب) حكم (الصوم في السفر و) حكم (الإفطار) فيه.
1941 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ
ابْنَ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
سَفَرٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ
لِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ، قَالَ:
انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ،
ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَا هُنَا ثُمَّ قَالَ: إِذَا
رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ
أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
تَابَعَهُ جَرِيرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ
الشَّيْبَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: "كُنْتُ
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
سَفَرٍ". [الحديث 1941 - أطرافه في: 1955، 1956، 1958،
5297].
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن أبي إسحاق) سلمان بن أبي
سليمان فيروز (الشيباني) أنه (سمع ابن أبي أوفى) عبد الله
(-رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولابن عساكر مع النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي وهو صائم (في سفر)، في
شهر رمضان كما في مسلم في غزوة الفتح لا في بدر لأن ابن
أبي أوفى لم يشهدها (فقال لرجل): هو بلال كما في رواية أبي
داود وابن بشكوال، ولمسلم فلما غابت الشمس وللبخاري فلما
غربت الشمس قال: (أنزل فاجدح لي)، بهمزة وصل بعد الفاء
وسكون الجيم وفتح الدال وبعدها حاء مهملتين أمر من الجدح
وهو الخلط أي اخلط السويق بالماء أو اللبن بالماء وحركه
لأفطر عليه وقول الداودي أن معناه أحلب ردّه عياض (قال):
بلال (يا رسول الله الشمس)، باقية أي نورها أو الشمس رفع
خبر مبتدأ محذوف أي هذه الشمس، ولغير أبي ذر: الشمس بالنصب
أي انظر الشمس ظن أن بقاء النور وإن غاب القرص مانع من
الإفطار (قال) عليه الصلاة والسلام.
(أنزل فاجدح لي)، لأفطر قال بلال (يا رسول الله الشمس)
بالرفع والنصب (قال): عليه الصلاة والسلام (انزل فاجدح لي)
(فنزل فجدح له) عليه الصلاة والسلام (فشرب)، وكرر انزل
فاجدح لي ثلاث مرات وتكرير المراجعة من بلال للرسول
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لغلبة اعتقاده أن ذلك
نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرًا تامًّا،
فقصد زيادة الإعلام فأجابه عليه الصلاة والسلام بأن ذلك لا
يضر وأعرض عن الضوء واعتبر غيبوبة الجرم ثم بين ما يعتبره
من لم يتمكن من رؤية جرم الشمس كما حكاه الراوي عنه بقوله:
(ثم رمى) أي أشار عليه الصلاة والسلام (بيده هاهنا) أي إلى
الشرق وإنما أشار إليه لأن أول الظلمة لا تقبل منه إلا وقد
سقط القرص (ثم قال): عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم
الليل أقبل من هاهنا) أي من جهة المشرق (فقد أفطر الصائم)
أي دخل وقت إفطاره.
واستنبط من هذا الحديث أن صوم رمضان في السفر أفضل من
الإفطار لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان
صائمًا في شهر رمضان في السفر ولقوله تعالى: {وأن تصوموا
خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 184] ولبراءة الذمة
وفضيلة الوقت، وفارق ذلك أفضلية القصر في السفر بأن في
القصر براءة الذمة
ومحافظة على فضيلة الوقت بخلاف الفطر وبأن فيه خروجًا من
الخلاف وليس هنا خلاف يعتدّ به في إيجاب الفطر فكان الصوم
أفضل. نعم إن خاف من الصوم ضررًا في الحال أو الاستقبال
فالفطر أفضل، وعليه يحمل الحديث الآتي إن شاء الله تعالى
بعد باب بلفظ: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه فقال:
ما هذا؟ فقالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصوم في السفر.
وقال المالكية يجوز الفطر في سفر القصر إذا شرع في السفر
قبل الفجر ولم ينو الصيام في السفر وقد خرج بقولهم شرع فيه
قبل الفجر ما إذا سافر بعده فإن فطره ذلك اليوم لا يجوز
عندهم إذا نوى الصوم قبل خروجه وبقولهم: ولم ينو الصيام في
السفر ما إذا نوى الصوم في السفر فإن فطره لا يجوز فإن
خالف في الوجهين فأفطر لزمه القضاء، ولو كان صومه تطوّعًا
ولا كفارة عليه في المسالة الأولى بخلاف الثانية.
وقال الحنابلة: يستحب له الفطر. قال المرداوي: وهذا هو
المذهب وعليه الأصحاب ونص عليه وهو من
(3/383)
المفردات سواء وجد مشقة أم لا. وفي وجه إن
الصوم أفضل.
وهذا الحديث من الرباعيات وأخرجه أيضًا في الصوم والطلاق
ومسلم في الصوم وكذا أبو داود والنسائي.
(تابعه) أي تابع سفيان بن عيينة في أصل الحديث (جرير) بفتح
الجيم ابن عبد الحميد مما وصله في الطلاق (و) تابعه أيضًا
(أبو بكر بن عياش) بالشين المعجمة ابن سالم الأسدي الكوفي
المقري مما وصله في تعجيل الإفطار كلاهما (عن الشيباني) أي
أبي إسحاق المذكور (عن ابن أبي أوفى قال: كنت مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع في سفر).
1942 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ
حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ". [الحديث 1942 - طرفه
في: 1943].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن هشام قال: حدثني) بالإفراد (أبي) عروة
بن الزبير بن العوام (عن عائشة) أم المؤمنين -رضي الله
عنها- (أن حمزة بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم (الأسلمي
قال: يا رسول الله إني أسرد الصوم) أي أتابعه ففيه أن صوم
الدهر لا يكره لمن لا يتضرر به، وإنما أنكر على عبد الله
بن عمرو بن العاص صوم الدهر لعلمه أنه سيضعف عن ذلك بخلاف
حمزة هذا فإنه وجد فيه القوة.
ومطابقته للترجمة من حيث إن سرد الصوم يتناول الصوم في
السفر أيضًا كما هو الأصل في الحضر، وقد أخرج الحديث من
طريقين هذه والتالية لها.
1943 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّ حَمْزَةَ
بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟
-وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ- فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ
فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير
(عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن حمزة بن عمرو الأسلمي) -رضي الله
عنه- (قال للنبي: -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أأصوم في السفر)؟ بهمزتين الأولى همزة الاستفهام والأخرى
همزة المتكلم (وكان) حمزة (-كثير الصيام- فقال): عليه
الصلاة والسلام له:
(إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) بهمزة قطع وعند مسلم من رواية
أبي مراوح أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في
السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن
ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، وهذا مشعر بأنه سأل عن
صيام الفريضة لأن الرخصة إنما تطلق في مقابلة الواجب.
وأصرح من ذلك ما رواه أبو داود والحاكم من طريق محمد بن
حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال يا رسول الله إني صاحب ظهر
أعالجه أسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني
رمضان وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون عليّ من أن
أؤخره فيكون دينًا عليّ؟ فقال أي ذلك شئت يا حمزة.
34 - باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ
سَافَرَ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا صام) شخص (أيامًا من رمضان ثم
سافر) هل يباح له الفطر.
1944 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ
فِي رَمَضَانَ فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ
أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ". قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ: وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ.
[الحديث 1944 - أطرافه في: 1948، 2953، 4275، 4276، 4277،
4278، 4279].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال:
(أخبرنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري
(عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا (بن عبد الله بن عتبة) بن
مسعود (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) (أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج إلى مكة في) غزوة
الفتح يوم الأربعاء بعد العصر لعشر مضين من (رمضان فصام،
حتى بلغ الكديد) بفتح الكاف وكسر الدال الأولى وهو موضع
بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة نحو
مرحلتين (أفطر فأفطر الناس" معه وكان بعد العصر كما في
مسلم من طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد بن عليّ عن
أبيه عن جابر في هذا الحديث ولفظه فقيل له: إن الناس قد شق
عليهم الصيام وإنما ينتظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء
بعد العصر ففيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان ويفطر
بعضه ولا يلزمه بصوم بعضه تمامه، وأنه إذا نوى السفر ليلاً
فإنه يباح له الفطر لدوام العذر ولا يكره كما في المجموع،
وكذا يباح له الفطر إذا كان مقيمًا ونوى ليلاً لم حدث له
السفر قبل الفجر فلو حدث بعده فلا تغليبًا للحضر.
وقال الحنابلة: إن نوى الحاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه
فله الفطر قال: في الإنصاف وهذا هو المذهب مطلقًا وعليه
الأصحاب سواء كان طوعًا أو كرهًا وهو من مفردات المذهب،
ولكن لا يفطر قبل خروجه وعنه لا يجوز له الفطر مطلقًا، ولو
نوى الصوم في سفره فله الفطر
(3/384)
وهذا هو المذهب مطلقًا وعليه الأصحاب وعنه
لا يجوز له الفطر بالجماع لأنه لا يقوي على السفر، فعلى
الأول قال أكثر الأصحاب لأن من له الأكل له الجماع، وذكر
جماعة من الأصحاب أنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعد
الفطر فعلى هذا لا كفارة بالجماع اهـ.
وهذا الحديث فيه التحديث والإخبار والعنعنة. وقال القابسي
أنه من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة
مقيمًا مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذه القصة فكأنه سمعها من
غيره من الصحابة، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الجهاد والمغازي
ومسلم في الصوم وكذا النسائي.
(قال أبو عبد الله): المؤلّف: (والكديد) بفتح الكاف (ما
بين عسفان) بضم العين وسكون السين المهملتين وفتح الفاء
قرية جامعة بينها وبين مكة ثمانية وأربعون ميلاً (و) بين
(قديد) بضم القاف وفتح الدال الأولى مصغرًا وسقط في رواية
غير المستملي قوله قال أبو عبد الله، ووقع في اليونينية
نسبة سقوطه لابن عساكر فقط، وسيأتي إن شاء الله تعالى في
المغازي من وجه آخر موصولاً هذا التفسير في نفس الحديث.
35 - باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة للأكثر وسقط من رواية
النسفيّ ومن اليونينية.
1945 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ
الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ
وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَابْنِ رَوَاحَةَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف)، التنيسي قال:
(حدّثنا يحيى بن حمزة) الدمشقي المتوفى سنة ثلاث وثمانين
ومائة (عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر) الشامي (أن إسماعيل
بن
عبيد الله) بضم العين مصغرًا (حدثه عن أم الدرداء) الصغرى
واسمها هجيمة التابعية وليست الكبرى المسماة خيرة الصحابية
وكلتاهما زوجتا أبي الدرداء (عن أبي الدرداء) عويمر بن
مالك الأنصاري الخزرجي (-رضي الله عنه-) أنه (قال: خرجنا
مع النبي) ولابن عساكر: مع رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره) زاد مسلم من طريق سعيد
بن عبد العزيز: في شهر رمضان وليس ذلك في غزوة الفتح لأن
عبد الله بن رواحة المذكور في هذا الحديث أنه كان صائمًا
استشهد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف ولا في غزوة بدر لأن
أبا الدرداء لم يكن حينئذ أسلم (في يوم حار) ولمسلم في حر
شديد (حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا
صائم، إلا ما كان من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وابن رواحة) عبد الله وهذا مما يؤيد أن هذه
السفرة لم تكن في غزوة الفتح لأن الذين استمروا على الصيام
من الصحابة كانوا جماعة، وفي هذا أنه ابن رواحة وحده.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من جهة أن الصوم والإفطار لو
لم يكونا مباحين في السفر لما صام النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابن رواحة وأفطر الصحابة.
ورواته كلهم شاميون إلا شيخ المؤلّف وقد دخل الشام، وأخرجه
مسلم وأبو داود في الصوم.
36 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ
«لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن
ظلل عليه) بشيء له ظل (واشتد الحر) جملة فعلية حالية (ليس
من البر
الصوم في السفر).
1946 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهم-
قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلاً قَدْ
ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ،
فَقَالَ: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي
السَّفَرِ".
وبالسند قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج قال: (حدّثنا محمد بن عبد الرحمن) بن سعد بن
زرارة (الأنصاري قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن بن علي)
بفتح العين وسكون الميم من عمرو وفتح الحاء من الحسن وجده
أبو طالب (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهم-
قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في سفر) في غزوة الفتح كما في الترمذي (فرأى زحامًا) بكسر
الزاي اسم للزحمة والمراد هنا الوصف لمحذوف أي فرأى قومًا
مزدحمين (ورجلاً) قيل: وأبو إسرائيل العامري واسمه قيس،
وعزاه مغلطاي لمبهمات الخطيب ونوزع في نسبة ذلك للخطيب
(فقد ظلل عليه) أي جعل عليه شيء يظلله من الشمس لما حصل له
من شدة العطش
وحرارة الصوم وقوله: ظلل بضم الظاء مبنيًّا للمفعول
والجملة حالية (فقال): عليه الصلاة والسلام:
(ما هذا) وللنسائي: ما بال صاحبكم هذا؟ (فقالوا) أي من حضر
من الصحابة، ولابن عساكر قالوا بإسقاط الفاء (صائم فقال):
عليه الصلاة والسلام (ليس من البر) بكسر الباء أي ليس من
الطاعة والعبادة (الصوم في السفر) إذا بلغ بالصائم هذا
المبلغ من المشقّة ولا تمسك بهذا الحديث لبعض الظاهرية
القائلين بأنه لا ينعقد الصوم في السفر لأنه عام
(3/385)
خرج على سبب.
فإن قيل: بقصره عليه لم تقم به حجة وإن لم يقل بقصره عليه
حمل على من حاله مثل حال الرجل وبلغ به ذلك المبلغ، وحديث
صومه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بلغ الكديد،
وحديث فمنا الصائم ومنا المفطر يرد عليهم، وقول الزركشي
وتبعه صاحب جمع العدّة لفهم العمدة من في قوله ليس من البر
زائدة لتأكيد النفي، وقيل للتبعيض وليس بشيء تعقبه البدر
الدماميني فقال: هذا عجيب لأنه أجاز ما المانع منه قائم
ومنع ما لا مانع منه، وذلك أن من شروط زيادة من أن يكون
مجرورها نكرة وهو في الحديث معرفة، وهذا هو المذهب المعوّل
عليه وهو مذهب البصريين خلافًا للأخفش والكوفيين، وأما
كونها للتبعيض فلا يظهر لمنعه وجه إذ المعنى أن الصوم في
السفر ليس معدودًا من أنواع البر، وأما رواية ليس من
امبرامصيام في امسفر بإبدال اللام ميمًا في لغة أهل اليمن
فهي في مسند الإمام أحمد لا في البخاري، وحديث الباب رواه
مسلم في الصوم وكذا أبو داود والنسائي.
37 - باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي
الصَّوْمِ وَالإِفْطَارِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (لم يعب أصحاب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعضهم بعضًا في الصوم
والأفطار) في السفر.
1947 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ
عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن
مالك) الإمام (عن حميد الطويل عن أنس بن مالك) -رضي الله
عنه- (قال): (كنا نسافر مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على
الصائم) أصل لم يعب يعيب فلما سكن للجزم التقى ساكنان
فحذفت الياء، وفيه رد على من أبطل صوم المسافر لأن تركهم
لإنكار الصوم والفطر يدل على أن ذلك عندهم من التعارف الذي
تجب الحجة به. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم: كنا نغزو مع
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يجد
الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد
قوّة فصام فإن ذلك حسن، ومن وجد ضعفًا فأفطر فإن ذلك حسن،
وهذا التفصيل هو المعتمد وهو نص رافع للنزاع قاله في
الفتح. وحديث الباب أخرجه مسلم أيضًا.
38 - باب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ
(باب من أفطر في السفر ليراه الناس) فيقتدوا به ويفطروا
بفطره.
1948 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ
طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ:
"خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ
حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ
إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى
قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ
صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
وبالسند قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال:
(حدّثنا أبو عوانة) بفتح العين والواو الوضاح اليشكري (عن
منصور عن مجاهد) هو ابن جبر الإمام في التفسير (عن طاوس)
هو ابن كيسان اليماني (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه
(قال) (خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
من المدينة إلى مكة) في غزوة الفتح (فصام حتى بلغ عسفان،
ثم دعا بماء فرفعه) أي الماء منتهيًا (إلى) أقصى حدّ
(يديه) بالتثنية، ولأبي ذر وابن عساكر في نسخة يده
بالإفراد، ولابن عساكر كما في الفرع وأصله: إلى فيه،
وعزاها في فتح الباري لأبي داود عن مسدد عن أبي عوانة
بالإسناد المذكور في البخاري قال: وهذا أوضح فلعلها تصحفت.
وعزاها الزركشي والبرماوي لرواية ابن السكن قال: وهو
الأظهر إلا أن تؤول لفظة "إلى" في رواية الأكثرين بمعنى
"على" ليستقيم الكلام. وتعقبه في المصابيح بأنه لا يعرف
أحدًا ذكر أن "إلى" بمعنى "على" قال: والكلام مستقيم بدون
هذا التأويل وذلك أن إلى لانتهاء الغاية على بابها،
والمعنى فرفع الماء ممن أتى به رفعًا قصد به رؤية الناس له
فلا بدّ أن يقع ذلك على وجه يتمكن فيه الناس من رؤيته ولا
حاجة مع ذلك إلى إخراج إلى عن بابها. وقال الكرماني
كالطيبي: أو فيه تضمين أي انتهى الرفع إلى أقصى غايتها
"ليراه الناس" بفتح التحتية والراء والناس فاعله والضمير
المنصوب فيه مفعوله واللام للتعليل. قال ابن حجر: كذا
للأكثر، وللمستملي: ليريه بضم التحتية الناس نصب على أنه
مفعول ثان ليريه لأنه من الإراءة وهي تستدعي مفعولين، ونسب
في اليونينية الأولى لابن عساكر، ولأبي ذر عن الكشميهني
ورقم على الأخرى علامة ابن عساكر في نسخة.
وقضية هذا الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خرج إلى مكة للفتح في رمضان فصام الناس فقيل له إن الصوم
شق عليهم وهم ينظرون إلى فعلك فدعا بماء فرفعه حتى ينظر
الناس فيقتدوا به في الإفطار وكان لا يأمن الضعف عن القتال
(3/386)
عند لقاء عدوهم. (فأفطر) عليه الصلاة
والسلام (حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان) بالفاء ولأبي
ذر وابن عساكر وكان (ابن عباس) -رضي الله عنهما- (يقول: قد
صام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي في
السفر (وأفطر)، (فمن شاء صام ومن شاء أفطر) وابن عباس لم
يشاهد هذه القصة لأنه كان بمكة حينئذٍ فهو يرويها عن غيره
من الصحابة كما تقدم.
39 - باب {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}
[البقرة: 184]
قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ:
نَسَخَتْهَا {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 184].
وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى
حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- "نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ
مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ
مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ،
فَنَسَخَتْهَا {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ".
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه حكم قوله تعالى: ({وعلى الذين
يطيقونه) أي على الأصحاء المقيمين المطيقين للصوم إن
أفطروا ({فدية}) طعام مسكين عن كل يوم وهذا كان في ابتداء
الإسلام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم وهذه الآية كما
(قال ابن عمر) فيما وصله في آخر الباب (وسلمة بن الأكوع)
-رضي الله عنهم- فيما وصله المؤلّف في التفسير (نسختها)
الآية التي أولها ({شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}) جملة
في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ثم نزل منجمًا إلى الأرض،
وشهر رمضان مبتدأ وما بعده خبره أو صفته والخبر فمن شهد
({هدى للناس}) أي هادئًا ({وبينات}) آيات واضحات ({من
الهدى}) مما يهدي إلى الحق ({والفرقان}) يفرق بين الحق
والباطل ({فمن شهد}) حضر ولم يكن مسافرًا ({منكم الشهر})
أي فيه ({فليصمه})، أي فيه ({ومن كان مريضًا}) مرضًا يشق
عليه فيه الصيام أو على سفر ({فعدة من أيام أخر})، قوله:
({فمن شهد منكم الشهر}) إلى آخره ناسخ للآية الأولى
المتضمنة للتخيير وحينئذ فلا تكرار ({يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر}) فلذلك أباح الفطر للسفر والمرض
({ولتكملوا العدة}) عطف على اليسر أو على محذوف تقديره
({يريد الله بكم اليسر}) ليسهل عليكم والمعنى ولتكملوا عدة
أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر ({ولتكبروا
الله}) لتعظموه ({على ما هداكم})، أرشدكم إليه من وجوب
الصوم ورخصة الفطر بالعذر أو المراد تكبيرات ليلة الفطر
({ولعلكم تشكرون}) [البقرة: 185] الله على نعمه أو على
رخصة الفطر، ولفظ رواية ابن عساكر {شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن} إلى قوله: {لعلكم تشكرون} وزاد أبو ذر: على ما
هداكم.
(وقال ابن نمير) بضم النون وفتح الميم وفتح عبد الله مما
وصله البيهقي وأبو نعيم في مستخرجه (حدّثنا) ولابن عساكر:
أخبرنا (الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا عمرو بن
مرة) بضم الميم وتشديد الراء وعمرو بفتح العين وسكون الميم
قال: (حدّثنا ابن أبي ليلى) عبد الرحمن قال: (حدّثنا أصحاب
محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ورضي عنهم وقد
أرى كثيرًا منهم كعمر وعثمان وعليّ، ولا يقال لمثل
هذا رواية عن مجهول لأن الصحابة كلهم عدول (نزل رمضان) أي
صومه (فشق عليهم)، صومه (فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك
الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك) بضم الراء مبنيّا
للمفعول (فنسختها) أي آية الفدية قوله تعالى: ({وأن تصوموا
خيرٌ لكم}) [البقرة: 184].
(فأمروا بالصوم).
واستشكل وجه نسخ هذه الآية السابقة لأن الخيرية لا تقتضي
الوجوب وأجاب الكرماني بأن معناه أن الصوم خير من التطوّع
بالفدية والتطوّع بها سنة بدليل أنه خير والخير من السنة
لا يكون إلا واجبًا.
1949 - حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما-: "قَرَأَ {فِدْيَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ}. قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ". [الحديث 1949 -
طرفه في: 4506].
وبه قال (حدّثنا عياش) بالمثناة التحتية والمثلثة آخره ابن
الوليد الرقام البصري قال: (حدّثنا عبد الأعلى) بن عبد
الأعلى البصري السامي بالمهملة قال: (حدّثنا عبيد الله)
بضم العين مصغرًا العمري المدني (عن نافع عن ابن عمر -رضي
الله عنهما-) أنه (قرأ) قوله تعالى: ({فدية طعام مسكين})
بتنوين فدية ورفع طعام وجمع مساكين وفتح نونه من غير تنوين
لمقابلة الجمع بالجمع وهذه قراءة هشام عن ابن عامر، ولابن
عساكر: مسكين بالتوحيد وكسر النون مع تنوين فدية ورفع طعام
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي.
ففدية: مبتدأ خبره الجار قبله وطُعام بدل من فدية وتوحيد
مسكين لمراعاة أفراد العموم أي وعلى كل واحد ممن يطيق
الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، وتبين من إفراد المسكين
أن الحكم لكل يوم يفطر فيه إطعام مسكين ولا يفهم ذلك من
الجمع.
(وقال)
(3/387)
أي ابن عمر (هي) أي آية الفدية (منسوخة)
وهذا مذهب الجمهور خلافًا لابن عباس حيث قال: إنها ليست
بمنسوخة وهي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن
يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكينًا. وهذا الحكم باق وهو
حجة للشافعي ومن وافقه في أن من عجز عن الصوم لهرم أو
زمانة أو اشتدت عليه مشقته سقط عنه الصوم لقوله تعالى:
{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] ولزمته الفدية
خلافًا لمالك ومن وافقه. ومذهب الشافعية أن الحامل والمرضع
ولو لولد غيرها بأجرة أو دونها إذا أفطرتا يجب على كل
واحدة منهما مع القضاء الفدية من مالهما لكل يوم مد إن
خافتا على الطفل وإن كانتا مسافرتين أو مريضتين لما روى
البيهقي وأبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وعلى الذين يطيقوله فدية} [البقرة: 184] أنه نسخ حكمه إلا
في حقهما حينئذٍ ويستثنى المتحيرة فلا فدية عليها على
الأصح في الروضة للشك، وهو ظاهر فيما إذا أفطرت ستة عشر
يومًا فأقل، فإن زادت عليها فينبغي وجوب الفدية عن الزائد
لعلمنا بأنه
يلزمها صومه ولا تتعدد الفدية بتعدد الولد لأنها بدل عن
الصوم بخلاف العقيقة تتعدد بتعددهم لأنها فداء عن كل واحد
وإن خافتا على أنفسهما ولو مع ولديهما فلا فدية. ويجب
الفطر لإنقاذ محترم أشرف على الهلاك بغرق أو نحوه بقاء
لمهجته مع القضاء والفدية كالمرضع لأنه فطر ارتفق به شخصان
كالجماع لأنه تعلق به مقصود الرجل والمرأة فلذا تعلق به
القضاء والكفارة.
40 - باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ؟
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} [البقرة: 185]، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
فِي صَوْمِ الْعَشْرِ: لاَ يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ
بِرَمَضَانَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى
جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ
طَعَامًا. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلاً،
وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ
اللَّهُ الإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ}.
هذا (باب) بالتنوين (متى يقضى) أي متى يؤدى (قضاء رمضان)؟
والقضاء يجيء بمعنى الأداء قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة)
أي فإذا أديت الصلاة، (وقال ابن عباس): -رضي الله عنهما-
فيما وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري (لا بأس أن
يفرّق)، قضاء رمضان (لقول الله تعالى {فعدّة من أيام أخر}
لصدقها على المتتابعة والمتفرقة.
(وقال سعيد بن المسيب) -رحمه الله- فيما وصله ابن أبي شيبة
(في صوم العشر): الأوّل من ذي الحجة لما سئل عن صومه
والحال أن على الذي سأله قضاء من رمضان (لا يصلح حتى يبدأ
برمضان). أي بقضاء صومه، وهذا لا يدل على المنع بل على
الأولوية والقياس التتابع إلحاقًا لصفة القضاء بصفة الأداء
وتعجيلاً لبراءة الذمة ولم يجب لإطلاق الآية كما مرّ. وروى
الدارقطني بإسناد ضعيف أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سئل عن قضاء رمضان فقال "إن شاء فرقه وإن شاء
تابعه" قال في المهمات: وقد يجب بطريق العرض وذلك في
صورتين ضيق الوقت وتعمد الترك وردّ بمنع تسمية هذا موالاة
إذ لو وجبت لزم كونها شرطًا في الصحة كصوم الكفارة وإنما
يسمى هذا واجبًا مضيقًا. ولصاحب المهمات أن يمنع الملازمة
ويسند المنع بأن الموالاة قد تجب ولا تكون شرطًا كما في
صوم رمضان ولا يمنع من تسمية ذلك موالاة تسميته واجبًا
مضيقًا.
(وقال إبراهيم) النخعي مما وصله سعيد بن منصور: (إذا فرّط)
من عليه قضاء رمضان (حتى جاء) من المجيء، ولأبي ذر عن
الكشميهني: حتى جاز بزاي بدل الهمزة من الجواز، وفي نسخة:
حان بمهملة ونون من الحين (رمضان آخر) بتنوين رمضان لأنه
نكرة (يصومهما)، وفي بعض الأصول حتى جاء رمضان بغير تنوين
أمر بصومهما من الأمر والموحدة بدل التحتية. قال البخاري:
(ولم ير) أي إبراهيم (عليه طعامًا). وهو مذهب أبي حنيفة
وأصحابه.
(ويذكر) بضم أوله مبنيًا للمفعول (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- حال كونه (مرسلاً)، فيما وصله عبد الرزاق وأخرجه
الدارقطني مرفوعًا من طريق مجاهد عن أبي هريرة عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولم يسمع مجاهد من
أبي هريرة كما ذكره البرديجي فلذا سماه البخاري مرسلاً (و)
يذكر أيضًا (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله سعيد
بن منصور والدارقطني (أنه يطعم) عن كل يوم مسكينًا مدا أو
يصوم ما أدركه وما فاته قيل عطف ابن عباس على أبي هريرة
يقتضي أن يكون المذكور عن ابن عباس أيضًا مرسلاً.
وأجيب: بأنه اختلف في أن القيد في المعطوف عليه هل هو قيد
في المعطوف أم لا؟ فقيل: ليس بقيد والأصح اشتراكهما
(3/388)
وكذلك، اختلف الأصوليون في عطف المطلق على
المقيد هل هو مقيد للمطلق أم لا؟
قال المؤلّف (ولم يذكر الله الإطعام إنما قال تعالى)
({فعدة من أيام أخر}) وسكت عن الإطعام وهو الفدية لتأخير
القضاء لكن لا يلزم عن عدم ذكره في القرآن أن لا يثبت
بالسنة ولم يثبت فيه شيء مرفوع. نعم ورد عن جماعة من
الصحابة منهم أبو هريرة وابن عباس كما مرّ وعمر بن الخطاب
فيما ذكره عبد الرزاق وهو قول الجمهور خلافًا للحنفية كما
مرّ. قال الماوردي: وقد أفتى بالإطعام ستة من الصحابة ولا
مخالف لهم فإن لم يمكنه القضاء لعذر بأن استمر مسافرًا أو
مريضًا حتى دخل رمضان آخر فلا شيء عليه بالتأخير لأن تأخير
الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى بالجواز، ثم إن
المد يتكرر بتكرر السنين إذ الحقوق المالية لا تتداخل.
1950 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ: "كَانَ
يَكُونُ عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ" قَالَ
يَحْيَى الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ".
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبه لجده واسم أبيه
عبد الله اليربوعي التميمي قال: (حدّثنا زهير) هو ابن
معاوية أبو خيثمة الجعفي قال (حدّثنا يحيى) قال الحافظ ابن
حجر: هو ابن سعيد الأنصاري لا ابن أبي كثير كما وهم
الكرماني تبعًا لابن التين (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن
(قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها- نقول: كان يكون عليّ
الصوم من رمضان) وسقط لفظ من رمضان لابن عساكر وتكرير
الكون لتحقيق القضية وتعظيمها والتقدير كان الشأن يكون كذا
والتعبير بلفظ الماضي في الأول والمضارع في الثاني لإرادة
الاستمرار وتكرار الفعل (فما أستطيع أن أقضي) ما فاتني من
رمضان (إلا في شعبان. قال يحيى) بن سعيد المذكور بالسند
السابق: (الشغل) بالرفع فاعل فعل محذوف أي قالت عائشة
يمنعني الشغل أي أوجب ذلك الشغل، أو أن يحيى قال الشغل هو
المانع لها فهو مبتدأ محذوف الخبر (من النبي) أي من أجله.
وفي بعض الأصول قال يحيى: ذاك
عن الشغل من النبي (أو بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) لأنها كانت مهيئة نفسها له -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مترصدة لاستمتاعه في جميع
أوقاتها إن أراد ذلك، وأما في شعبان فإنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصومه فتتفرغ عائشة -رضي الله
عنها- فيه لقضاء صومها. وقوله قال يحيى إلخ. فيه بيان أنه
ليس من قول عائشة بل مدرج من قول غيرها، لكن وقع في مسلم
مدرجًا لم يقل فيه قال يحيى فصار كأنه من قولها ولفظه: فما
تقدر أن تقضيه مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فهو نص في كونه من قولها. قال في اللامع: وفيه
نظر لأنه ليس فيه تصريح بأنه من قولها فالاحتمال باق، وقد
كان عليه الصلاة والسلام له تسع نسوة يقسم لهن ويعدل فما
تأتي نوبة الواحدة إلا بعد ثمانية أيام فكان يمكنها أن
تقضي في تلك الأيام.
وأجيب: بأن القسم لم يكن واجبًا عليه فهن يتوقعن حاجته في
كل الأوقات قاله القرطبي وتبعه العلاء بن العطار، والصحيح
عند الشافعية وجوبه عليه فيحتمل أن يقال كانت لا تصوم إلا
بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها فإذا ضاق الوقت
أذن لها.
وفي هذا الحديث أن القضاء موسع ويصير في شعبان مضيقًا وإن
حق الزوج من العشرة والخدمة مقدم على سائر الحقوق ما لم
يكن فرضًا مضيقًا، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن
ماجة في الصوم.
41 - باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ
الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلاَفِ الرَّأْيِ،
فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا،
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ وَلاَ
تَقْضِي الصَّلاَةَ.
(باب الحائض تترك الصوم والصلاة) لمنع الشارع لها من
مباشرتهما. (وقال أبو الزناد): عبد الله بن ذكوان (أن
السنن) جمع سنة (ووجوه الحق) الأمور الشرعية (لتأتي) بفتح
اللام للتأكيد (كثيرًا على خلاف الرأي)، العقل والقياس
(فما يجد المسلمون بُدًّا) أي افتراقًا وامتناعًا (من
اتباعها) ويوكل الأمر فيها إلى الشارع ويتعبد بها من غير
اعتراض كان يقال لم كان كذا: (من) جملة (ذلك) الذي أتى على
خلاف الرأي (أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة)
ومقتضى الرأي أن يكونا متساويين في الحكم لأن كلاًّ منهما
عبادة تركت لعذر، لكن الأمور الشرعية الآتية على خلاف
القياس لا يطلب فيها وجه الحكمة بل يوكل أمرها إلى الله
تعالى لأن أفعال الله تعالى
(3/389)
لا تخلو عن حكمة ولكن غالبها يخفى على
الناس ولا تدركها العقول، لكن فرق الفقهاء بعدم تكرر الصوم
فلا حرج في قضائه بخلاف الصلاة، وقيل غير ذلك. وقال إمام
الحرمين: كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف.
1951 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدٌ عَنْ
عِيَاضٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ
فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا».
وبالسند قال: (حدّثنا ابن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم
المعروف بابن أبي مريم قال: (حدّثنا) ولأبي الوقت: أخبرنا
(محمد بن جعفر) الأنصاري (قال: حدثني) بالإفراد، ولأبي
الوقت: أخبرني بالإفراد (زيد) هو ابن أسلم المدني (عن
عياض) هو عبد الله بن أبي سرح (عن أبي سعيد) الخدري (-رضي
الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) وفي نسخة: لا تصلي ولا
تصوم (فلذلك نقصان دينها) ولأبي ذر وابن عساكر: من نقصان
دينها وكاف ذلك مفتوحة وهذا مختصر من الحديث السابق في ترك
الحائض الصوم.
42 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاَثُونَ رَجُلاً
يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ.
(باب من مات وعليه صوم. وقال الحسن) البصري مما وصله
الدارقطني في كتاب المدبج فيمن مات وعليه صوم ثلاثين يومًا
(إن صام عنه ثلاثون رجلاً يومًا واحدًا جاز) ولأبي ذر عن
الكشميهني: في يوم واحد. قال النووي في شرح المهذّب: وهذه
المسألة لم أر فيها نقلاً في المذهب وقياس المذهب الإجزاء
اهـ.
وقيد ابن حجر المسألة بصوم لم يجب فيه التتابع لفقد
التتابع في الصورة المذكورة.
1952 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبِي
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ
وَلِيُّهُ».
تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو. وَرَوَاهُ يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ.
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن خالد) هو محمد بن يحيى بن
عبد الله بن خالد الذهلي كما جزم به الكلاباذي وصنيع المزي
يوافقه وهو الراجح وعلى هذا فقد نسبه المؤلّف إلى جد أبيه
قاله في الفتح قال: (حدّثنا محمد بن موسى بن أعين) بفتح
الهمزة والتحتية بينهما مهملة ساكنة وآخره نون الجزري قال:
(حدّثنا أبي) موسى بن أعين (عن عمرو بن الحرث) بفتح العين
الأنصاري المؤدب. (عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن
أبي جعفر) يسار الأموي (أن محمد بن جعفر) هو ابن الزبير بن
العوّام (حدثه عن عروة) بن الزبير (عن عائشة -رضي الله
عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(من مات) من المكلفين (وعليه صيام) الواو للحال (صام عنه
وليه) ولو بغير إذنه أو أجنبي بالإذن من الميت أو من
القريب بأجرة أو دونها وهذا مذهب الشافعي القديم، وصوبه
النووي بل قال: يسن له ذلك ويسقط وجوب الفدية، والجديد وهو
مذهب مالك وأبي حنيفة عدم الجواز لأنه
عبادة بدنية ولا يسقط وجوب الفدية. قال النووي: وليس
للجديد حجة والحديث الوارد الإطعام ضعيف ومع ضعفه فالإطعام
لا يمتنع عند القائل بالصوم وهل المعتبر على القديم
الولاية كما في الحديث أم مطلق القرابة أم يشترط الإرث أم
العصوبة فيه احتمالات للإمام قال الرافعي: والأشبه اعتبار
الإرث، وقال النووي: المختار اعتبار مطلق القرابة وصححه في
المجموع. قال: وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في خبر مسلم لامرأة قالت له إن أمي ماتت وعليها صوم نذر
فأصوم عنها صومي عن أمك يبطل احتمال ولاية المال والعصوبة
اهـ.
وأجاب المالكية عن حديث الباب بدعوى عمل أهل المدينة واحتج
الحنفية على القول بعدم الاحتجاج بهذين الحديثين بأن عائشة
سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم قالت يطعم عنها. وعنها أنها
قالت: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم أخرجه البيهقي،
وعن ابن عباس قال في رجل مات وعليه رمضان قال: يطعم عنه
ثلاثين مسكينًا أخرجه عبد الرزاق. وعن ابن عباس: لا يصوم
أحد عن أحد أخرجه النسائي فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف
ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه لأن فتوى
الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ ونسخ الحكم
يدل على إخراج المناط عن الاعتبار. وقال الحنابلة ولا يجوز
تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه
القضاء وإطعام مسكين لكل يوم ولا يصام عنه على المذهب وهو
الصحيح وعليه الأصحاب وإن مات وعليه صوم منذور ولم يصم منه
شيئًا سن لوليه فعله ويجوز لغيره فعله بإذنه وبغيره ويجوز
صوم جماعة عنه في يوم واحد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الصوم.
(تابعه) أي تابع والد محمد بن موسى (ابن وهب)
(3/390)
عبد الله فيما وصله مسلم وغيره (عن عمرو).
هو ابن الحرث المذكور في السند السابق (ورواه) أي الحديث
المذكور (يحيى بن أيوب) الغافقي فيما أخرجه البيهقي وأبو
عوانة والدارقطني والبزار (عن ابن أبي جعفر) عبيد الله
المذكور بسنده السابق وزاد البزار في آخر المتن إن شاء
الله.
1953 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ
عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ
عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ
أَنْ يُقْضَى". قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَالَ الْحَكَمُ
وَسَلَمَةُ وَنَحْنُ جَمِيعًا جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ
مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالاَ: سَمِعْنَا
مُجَاهِدًا يَذْكُرُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ
الْحَكَمِ وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: "قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ".
وَقَالَ يَحْيَى وَأَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: "قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ". وَقَالَ
عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ
عَنِ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: "قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا
صَوْمُ نَذْرٍ". وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ حَدَّثَنَا
عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "قَالَتِ امْرَأَةٌ
لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَاتَتْ
أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الرحيم) الحافظ المعروف
بصاعقة قال: (حدّثنا معاوية بن عمرو) بسكون الميم الأزدي
ويعرف بابن الكرماني من قدماء شيوخ البخاري حدث عنه بغير
واسطة في كتاب الجمعة وحدث عنه هنا وفي الجهاد والصلاة
بواسطة قال: (حدّثنا زائدة) بن قدامة الثقفي (عن الأعمش)
سليمان بن مهران (عن مسلم البطين) بفتح الموحدة وكسر
المهملة وسكون التحتية ثم نون (عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- قال): ولابن عساكر: أنه قال: (جاء
رجل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لم
يسم الرجل (فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر
فأقضيه)؟ ولابن عساكر: أفأقضيه (عنها؟ قال): عليه الصلاة
والسلام:
(نعم) اقضه (قال: فدين الله) ولأبي ذر وابن عساكر قال: نعم
فدين الله (أحق أن يقضى) أي حق العبد يقضى فحق الله أحق.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم، وأبو داود في الإيمان
والنذور، والترمذي في الصوم وكذا النسائي وابن ماجة.
(قال سليمان) بن مهران الأعمش بالإسناد السابق (فقال)
ولأبي الوقت: قال بغير فاء (الحكم) بفتحتين ابن عتيبة
مصغرًا (وسلمة) بن كهيل مصغرًا الحضرمي الكوفي (ونحن) أي
الثلاثة (جميعًا جلوس) جملة اسمية وقعت حالاً (حيث حدث
مسلم) البطين (بهذا الحديث قالا): أي الحكم وسلمة (سمعنا
مجاهدًا) هو ابن جبر (يذكر هذا) الحديث (عن ابن عباس) -رضي
الله عنهما-، وحاصل هذا أن الأعمش سمع هذا الحديث من ثلاثة
أنفس في مجلس واحد من مسلم البطين أولاً عن سُعيد بن جبير،
ثم من الحكم، وسلمة عن مجاهد.
(ويذكر) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (عن أبي خالد) الأحمر ضد
الأبيض واسمه سليمان بن حيان بالمثناة التحتية المشددة
وآخره نون أنه قال: (حدّثنا الأعمش عن الحكم و) عن (مسلم
البطين و) عن (سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير وعطاء) هو ابن
أبي رباح (ومجاهد) الثلاثة أعني سعيد بن جبير وعطاء
ومجاهدًا (عن ابن عباس) وفيه: أن الأعمش روى عن الشيوخ
الثلاثة وكل من الثلاثة عن الثلاثة ويحتمل كما قال في
الفتح أن يكون من باب اللف والنشر غير المرتب، فيكون شيخ
الحكم عطاء، وشيخ البطين ابن جبير، وشيخ سلمة مجاهدًا.
ويؤيده أن النسائي أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مغراء عن
الأعمش مفصلاً هكذا (قالت امرأة للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن أختي ماتت) ووصله الترمذي أيضًا من
طريق أبي خالد بلفظ: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين
متتابعين.
(وقال يحيى) بن سعيد (وأبو معاوية) محمد بن خازم
بالمعجمتين مما رواه النسائي وغيره (حدّثنا الأعمش عن
مسلم) البطين (عن سعيد) ولابن عساكر زيادة ابن جبير فوافقا
زائدة على أن شيخ مسلم البطين فيه سعيد بن جبير (عن ابن
عباس) -رضي الله عنهما- أنه قال (قالت امرأة للنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن أمي ماتت).
(وقال عبيد الله) بضم أوله مصغرًا ابن عمر وبسكون الميم
الرقي مما وصله مسلم (عن زيد بن أبي أنيسة) بضم الهمزة
وفتح النون وسكون التحتية (عن الحكم) بن عتيبة المذكور (عن
سعيد بن جبير) وسقط في رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر
ابن جبير (عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه قال: (قالت
امرأة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن أمي
ماتت وعليها صوم نذر) بالإضافة، وقد بين أبو بشر في روايته
عند أحمد سبب النذر ولفظه: أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن
تصوم شهرًا فماتت قبل أن تصوم وهذا ظاهر في أنه غير رمضان.
(وقال أبو حريز): بفتح الحاء المهملة وكسر الراء آخره زاي
عبد الله بن الحسين قاضي سجستان مما وصله ابن خزيمة وغيره
(حدّثنا) بالجمع ولأبي الوقت: حدثني بالإفراد
(3/391)
(عكرمة عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه
قال: (قالت امرأة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ماتت أمي وعليها صوم خمسة عشر يومًا) وهذا
الاختلاف من قوله امرأة ورجل وشهر وشهران وخمسة عشر يومًا
يحمل على اختلاف وقائع وفيه جواز الصوم عن الميت.
43 - باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ؟ وَأَفْطَرَ
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ
هذا (باب) بالتنوين (متى يحل فطر الصائم؟.
وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس) من غير مزيد على
ذلك وهذا وصله سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة.
1954 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَقْبَلَ
اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا
هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ
الصَّائِمُ».
وبالسند قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي
قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا هشام بن عروة
قال: سمعت أبي) عروة بن الزبير بن العوام (يقول سمعت عاصم
بن عمر بن الخطاب عن أبيه) عمر (-رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا أقبل الليل من هاهنا)، أي من جهة المشرق (وأدبر
النهار من هاهنا)، أي من المغرب
(وغربت الشمس) قيد بالغروب إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال
والإدبار وأنهما بواسطة الغروب لا بسبب آخر فالأمور
الثلاثة وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في
الظاهر غير متلازمة فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا
يكون إقباله حقيقة بل لوجود شيء يغطي الشمس وكذلك إدبار
النهار فلذا قيد بالغروب (فقد أفطر الصائم) أي دخل وقت
إفطاره أو صار مفطرًا حكمًا لأن الليل ليس ظرفًا للصوم
الشرعي. وفي رواية شعبة: فقد حل الإفطار وهي تؤيد التفسير
الأول، ورجحه ابن خزيمة وعلل بأن قوله فقد أفطر الصائم
لفظه خبر ومعناه الإنشاء أي فليفطر الصائم ثم قال: ولو كان
المراد فقد صار مفطرًا كان فطر جميع الصوام واحد ولم يكن
للترغيب في تعجيل الإفطار معنى.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في
الصوم.
1955 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا
خَالِدٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ
وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ
لِبَعْضِ الْقَوْمِ: يَا فُلاَنُ قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ. قَالَ:
انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَلَوْ أَمْسَيْتََ قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا،
قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ
لَنَا. فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: إِذَا
رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ
أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن شاهين (الواسطي) قال: (حدّثنا
خالد) هو ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحاوي
الواسطي (عن الشيباني) أبي إسحاق سليمان بن أبي سليمان (عن
عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-) أنه (قال: كنا مع
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر) في
شهر رمضان في غزوة الفتح (وهو صائم فلما غربت الشمس)
ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: فلما غابت الشمس (قال لبعض
القوم):
(يا فلان) هو بلال (قم فاجدح لنا) بهمزة وصل وسكون الجيم
وفتح الدال وآخره حاء مهملتين أي حرك السويق بالماء أو
باللبن (فقال) بلال: (يا رسول الله لو أمسيت) لكنت متمًا
للصوم فجواب لو الشرطية محذوف أو هي للتمني (قال) عليه
الصلاة والسلام يا بلال (أنزل فاجدح لنا) (قال: يا رسول
الله فلو أمسيت) بزيادة الفاء (قال) (انزل فاجدح لنا)
(قال: إن عليك نهارًا) لعله رأى كثرة الضوء من شدة الصحو
فظن أن الشمس لم تغرب أو غطاها نحو جبل أو كان هناك غيم
فلم يتحقق الغروب ولو تحققه ما توقف لأنه يكون حينئذٍ
معاندًا وإنما توقفه احتياطًا واستكشافًا عن حكم المسألة
(قال) عليه الصلاة والسلام: (أنزل فاجدح لنا) (فنزل فجدح
لهم فشرب النبي) ولأبي ذر وابن عساكر: رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مما جدحه (ثم قال) عليه
الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الليل) أي ظلامه (قد أقبل من
هاهنا) من جهة المشرق (فقد أفطر الصائم) ولم يذكر هاهنا ما
في الأول من الإدبار والغروب فيحتمل أن ينزل على حالين
فحيث ذكر ذلك، ففي حال الغيم مثلاً وحيث لم يذكر
ففي حال الصحو أو كانا في حالة واحدة وحفظ أحد الراويين ما
لم يحفظ الآخر. وهذا الحديث سبق في باب الصوم في السفر.
44 - باب يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ بِالْمَاءِ أو
غَيْرِهِ
هذا (باب) بالتنوين (يفطر) الصائم (بما تيسر عليه بالماء
وغيره) وسقط لابن عساكر لفظ عليه وللكشميهني من الماء.
1956 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنه- قَالَ:
"سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَهْوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ
قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، قَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا،
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا،
قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ، ثُمَّ
قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا
هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ. وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال (حدّثنا عبد
الواحد) بن زيادة قال (حدّثنا الشيباني) أبو إسحاق ولأبوي
ذر والوقت وابن عساكر: الشيباني سليمان فزاد اسمه (قال:
سمعت عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: سرنا مع
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو صائم)
في رمضان (فلما غربت الشمس قال):
(3/392)
(انزل فاجدح لنا) وفي رواية شعبة عن
الشيباني عن أحمد فدعا صاحب شرابه بشراب، وهو يؤيد كونه
بلالاً فإنه هو المعروف بخدمته عليه الصلاة والسلام لا
سيما وفي رواية أبي داود بلفظ: يا بلال انزل فاجدح لنا
(قال يا رسول الله وأمسيت؟ قال): (أنزل فاجدح لنا) (قال يا
رسول الله أن عليك نهارًا قال): (انزل فاجدح لنا) (فنزل)
ولأبي الوقت قال فنزل (فجدح) زاد في الباب السابق فشرب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم قال): (إذا
رأيتم الليل يقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم) (وأشار) عليه
الصلاة والسلام (بإصبعه قبل المشرق) بكسر القاف وفتح
الموحدة أي جهة المشرق.
ومطابقته للترجمة من جهة أن الجدح تحريك السويق بالماء وهو
مشتمل على الماء وغيره، وفي الترمذي وغيره وصححوه: إذا كان
أحدكم صائمًا فليفطر على التمر فإن لم يجد التمر فعلى
الماء فإنه طهور.
وروى الترمذي وحسنه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يفطر قبل أن يصلّي على رطبات فإن لم يكن
على تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من ماء وقضيته تقديم الرطب
على التمر وهو على الماء والقصد بذلك كما قاله المحب
الطبري أن يدخل جوفه أولاً ما مسته النار، ويحتمل أن يراد
هذا مع قصد الحلاوة تفاؤلاً قال: ومن كان بمكة سنّ له أن
يفطر على ماء زمزم لبركته ولو جمع بينه وبين التمر فحسن
اهـ.
وردّ هذا بأنه مخالف للأخبار وللمعنى الذي شرع الفطر على
التمر لأجله وهو حفظ البصر أو أن التمر إذا نزل إلى المعدة
فإن وجدها خالية حصل الغذاء وإلا أخرج ما هناك من بقايا
الطعام وهذا لا يوجد في ماء زمزم وعن بعضهم الأولى في
زماننا أن يفطر على ماء يأخذه بكفّه من النهر ليكون أبعد
عن الشبهة. قال في المجموع: وهذا شاذ والمذهب وهو الصواب
فطره على تمر ثم ماء.
45 - باب تَعْجِيلِ الإِفْطَارِ
(باب) استحباب (تعجيل الإفطار) للصائم بتحقيق الغروب.
1957 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا
عَجَّلُوا الْفِطْرَ».
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال:
(أخبرنا مالك) الإمام (عن أبي حازم) بالحاء الجملة والزاي
سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) -رضي الله عنه- (أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) أي إذا تحققوا الغروب
بالرؤية أو بإخبار عدلين أو عدل على الأرجح، وما ظرفية أي
مدة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة واقفين عند حدودها غير
متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها، وزاد أبو هريرة في حديثه
لأن اليهود والنصارى يؤخرون أخرجه أبو داود وابن خزيمة
وغيرهما وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو ظهور النجم، وقد روى
ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضًا: لا تزال أمتي على
سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم، ويكره له أن يؤخره إن قصد
ذلك ورأى أن فيه فضيلة وإلا فلا بأس به نقله في المجموع عن
نص الأم وعبارته تعجيل الفطر مستحب ولا يكره تأخيره إلا
لمن تعمده ورأى أن الفضل فيه، ومقتضاه أن التأخير لا يكره
مطلقًا وهو كذلك إذ لا يلزم من كون الشيء مستحبًا أن يكون
نقيضه مكروهًا مطلقًا، وخرج بقيد تحقق الغروب ما إذا ظنه
فلا يسن له تعجيل الفطر به وما إذا شكه فيحرم به وأما ما
يفعله الفلكيون أو بعضهم من التمكين بعد الغروب بدرجة
فمخالف للسنة فلذا قل الخير والله يوفقنا إلى سواء السبيل.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة.
1958 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى -رضي
الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى،
قَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ: لَوِ
انْتَظَرْتَ حَتَّى تُمْسِيَ. قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ
لِي، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا
هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبه لجده واسم أبيه عبد
الله وهو كوفي قال: (حدّثنا أبو
بكر) هو ابن عياش القارئ (عن سليمان) الشيباني (عن ابن أبي
أوفى) عبد الله (-رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر فصام حتى أمسى) دخل في
المساء (قال لرجل):
(أنزل فاجدح لي) (قال: لو انتظرت حتى تمسي قال): (انزل
فاجدح لي إذا رأيت الليل) أي ظلامه (قد أقبل من هاهنا) أي
من جهة المشرق (فقد أفطر الصائم) خبر بمعنى الأمر أو أفطر
حكمًا وإن لم يفطر حسا، فيدل على أنه يستحيل الصوم بالليل
شرعًا. قال ابن بزيزة: وقع ببغداد أن رجلاً حلف لا يفطر
على حار ولا بارد فأفتى الفقهاء بحنثه إذ لا شيء مما يؤكل
أو يشرب إلا وهو حار أو بارد، وأفتى الشيرازي
(3/393)
بعدم حنثه فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- جعله مفطرًا بدخول الليل وليس بحار ولا بارد
وهذا تعلق باللفظ والأيمان إنما تبنى على المقاصد ومقصود
الحالف المطعومات.
46 - باب إِذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ طَلَعَتِ
الشَّمْسُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا أفطر) الصائم (في رمضان)، ظانًا
غروب الشمس (ثم طلعت الشمس) أي ظهرت هل يجب عليه قضاء ذلك
اليوم أم لا؟
1959 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رضي
الله عنهما- قَالَتْ: "أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ
غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، قِيلَ لِهِشَامٍ:
فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: بُدٌّ مِنْ قَضَاءٍ؟
وَقَالَ مَعْمَرٌ سَمِعْتُ هِشَامًا يَقُولُ: لاَ أَدْرِي
أَقْضَوْا أَمْ لاَ".
وبالسند قال: (حدثني) بالإفراد (عبد الله بن أبي شيبة) هو
عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال: (حدّثنا أبو أسامة)
حماد بن أسامة الليثي (عن هشام بن عروة) بن الزبير بن
العوام (عن) زوجته وابنة عمه (فاطمة) بنت المنذر (عن أسماء
بنت أبي بكر) ولابن عساكر: زيادة الصديق (-رضي الله
عنهما-) أنها (قالت أفطرنا على عهد النبي) ولأبي الوقت:
على عهد رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أي على زمنه وأيام حياته (يوم غيم) بنصب يوم على الظرفية،
ولأبي داود وابن خزيمة: في يوم غيم (ثم طلعت الشمس، قيل
لهشام): هو ابن عروة المذكور والقائل له هو أبو أسامة كما
عند أبي داود وابن أيى شيبة في مصنفه وأحمد في مسنده
(فأمروا) من جهة الشارع (بالقضاء؟ قال: بد من قضاء)؟ هل
بدّ من قضاء؟ فحرف الاستفهام مقدر، ولأبي ذر لا بدّ من
قضاء، وهذا مذهب الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة
وعليه أن يمسك بقية النهار لحرمة الوقت ولا كفارة عليه.
وحكى في الرعاية من كتب الحنابلة أنه لا قضاء على من جامع
يعتقده ليلاً فبان نهارًا لكن الصحيح من مذهبهم، وجزم به
الأكثر أنه يجب القضاء والكفارة.
(وقال معمر) بسكون العين المهملة وفتح الميمين ابن راشد
مما وصله عبد بن حميد (سمعت هشامًا) أي ابن عروة يقول: (لا
أدري أقضوا) ذلك اليوم (أم لا) وقد روى عن مجاهد وعطاء
وعروة بن الزبير عدم القضاء وجعلوه بمنزلة من أكل ناسيًا
وعن عمر يقضي وفي آخر لا رواهما البيهقي وضعفت الثانية
النافية، وفي هذا الحديث كما قاله ابن المنير أن المكلفين
إنما خوطبوا بالظاهر فإذا اجتهدوا فأخطأوا فلا حرج عليهم
في ذلك وقد أخرجه أبو داود وابن ماجة في الصوم.
47 - باب صَوْمِ الصِّبْيَانِ
وَقَالَ عُمَرَ -رضي الله عنه- لِنَشْوَانٍ فِي رَمَضَانَ:
وَيْلَكَ، وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ. فَضَرَبَهُ.
(باب) حكم (صوم الصبيان) هل يشرع أم لا؟ والمراد الجنس
الصادق بالمذكور والإناث، ومذهب الشافعية أنهم يؤمرون به
لسبع إذا أطاقوا ويضربون على تركه لعشر قياسًا على الصلاة،
ويجب على الوليّ أن يأمرهم به ويضربهم على تركه، لكن نظر
بعضهم في القياس بأن الضرب عقوبة فيقتصر فيها على محل
ورودها وهو مشهور مذهب المالكية فيفرقون بين الصلاة
والصيام فيضربون على الصلاة ولا يكلفون الصيام وهو مذهب
المدونة. وعن أحمد في رواية أنه يجب على من بلغ عشر سنين
وأطاقه، والصحيح من مذهبه عدم وجوبه عليه وعليه جماهير
أصحابه، لكن يؤمر به إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده قالوا:
وحيث قلنا بوجوب الصوم على الصبي فإنه يعصي بالفطر ويلزمه
الإمساك والقضاء كالبالغ.
(وقال عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-) فيما وصله سعيد بن
منصور والبغوي في الجديات (لنشوان) بفتح النون وسكون الشين
المعجمة غير مصروف لأن الاسم يمنع من الصرف للصفة وزيادة
الألف والنون بشرط أن لا يكون المؤنث في ذلك بتاء تأنيث
نحو: نشوان وعطشان تقول هذا نشوان ورأيت نشوان ومررت
بنشوان فتمنعه من الصرف للصفة وزيادة الألف والنون والشرط
موجود فيه لأنك لا تقول للمؤنث نشوانة إنما تقول نشوى، لكن
حكى الزمخشري في مؤنثه نشوانة وحينئذٍِ فيجوز صرفه،
والمعنى قال عمر لرجل سكران (في رمضان: ويلك) بفتح اللام
مفعول فعله لازم الحذف أي شربت الخمر (وصبياننا) الصغار
(صيام). بالياء، ولغير أبي ذر وابن عساكر: صوّام بضم الصاد
وتشديد الواو (فضربه) الحدّ ثمانين سوطًا ثم سيره إلى
الشام وهذا من أحسن ما يتعقب به على المالكية لأن أكثر ما
يعتمدونه في معارضة الأحاديث دعوى عمل أهل المدينة على
خلافها ولا عمل يستند إليه أقوى من العمل في عهد عمر -رضي
الله عنه- مع شدة تحريه ووفور الصحابة في زمانه وقد قال
لهذا الرجل كيف وصبياننا صيام.
1960 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنِ
الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: "أَرْسَلَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةَ
عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ
مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ
أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ. قَالَتْ: فَكُنَّا
نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ
لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى
أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى
يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد)
(3/394)
قال: (حدّثنا بشر بن المفضل) بالضاد
المعجمة المشددة المفتوحة من التفضيل قال: (حدّثنا خالد بن
ذكوان) أبو الحسن (عن الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة
وتشديد التحتية آخره عين مهملة (بنت معوذ) بضم الميم وفتح
المهملة وتشديد الواو المكسورة آخره ذال معجمة الأنصارية
من المبايعات تحت الشجرة ابن عفراء أنها (قالت: أرسل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غداة عاشوراء إلى قرى
الأنصار) زاد مسلم التي حول المدينة (من أصبح مفطرًا فليتم
بقية يومه ومن أصبح صائمًا فليصم) أي فليستمر على صومه
(قالت): أي الربيع (فكنا) ولأبي الوقت: كنا (نصومه) أي
عاشوراء (بعد ونصوّم صبياننا) زاد مسلم الصغار ونذهب بهم
إلى المسجد وهذا تمرين للصبيان على الطاعات وتعويدهم
العبادات، وفي حديث رزينة بفتح الراء وكسر الزاي عند ابن
خزيمة بإسناد لا بأس به أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يأمر برضعائه في عاشوراء ورضعاء فاطمة
فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم أن لا يرضعن إلى الليل وهو
يردّ على القرطبي حيث قال في حديث الربيع: هذا أمر فعله
النساء بأولادهن ولم يثبت علمه عليه الصلاة والسلام بذلك
وبعيد أن يأمر بتعذيب صغير بعبادة شاقة اهـ.
ومما يقوى الرد عليه أيضًا أن الصحابي إذا قال فعلنا كذا
في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان حكمه
الرفع لأن الظاهر اطلاعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على ذلك وتقريرهم عليه مع توفر دواعيهم على
سؤالهم إياه عن الأحكام مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد
فيه فما فعلوه إلا بتوقيف.
(ونجعل لهم اللعبة) بضم اللام ما يلعب به (من العهن).
الصوف المصبوغ كما سيأتي إن شاء الله قريبًا (فإذا بكى
أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك) الذي جعلناه من العهن
ليلتهي به (حتى يكون عند الإفطار) زاد في رواية ابن عساكر
والمستملي قال أي المصنف: العهن الصوف وقد أخرج هذا الحديث
مسلم أيضًا في الصوم.
48 - باب الْوِصَالِ، وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ
صِيَامٌ، لِقَوْلِهِ عز وجل {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} وَنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً
عَلَيْهِمْ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ
(باب) حكم (الوصال) وهو أن يصوم فرضًا أو نفلاً يومين
فأكثر ولا يتناول بالليل مطعومًا عمدًا بلا عذر قاله في
شرح المهذّب، وقضيته أن الجماع والاستقاءة وغيرهما من
المفطرات لا يخرجه عن الوصال. قال الأسنوي في المهمات: وهو
ظاهر من جهة المعنى لأن النهي عن الوصال إنما هو لأجل
الضعف والجماع ونحوه يزيده أو لا يمنع حصوله، لكن قال
الروياني في البحر: هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين.
وقال الجرجاني في الشافي: أن يترك ما أبيح له من غير
إفطار. قال الأسنوي أيضًا: وتعبيرهم بصوم يومين يقتضي أن
المأمور بالإمساك كتارك النية لا يكون امتناعه بالليل من
تعاطي المفطرات وصالاً لأنه ليس بين صومين إلا أن الظاهر
أن ذلك جرى على الغالب.
(و) باب (من قال ليس في الليل صيام) أي ليس محلاً له
(لقوله تعالى) {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]
فإنه آخر وقته.
وفي حديث أبي سعيد الخير عند الترمذي في جامعه وابن السكن
وغيره في الصحابة والدولابي في الكنى مرفوعًا: أن الله لم
يكتب الصيام بالليل فمن صام فقد تعنى ولا أجر له. قال ابن
منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الترمذي: سألت
البخاري عن فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد الخير،
وعند الإمام أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد
وابن أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة
بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني
بشير وقال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نهى عنه وقال يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما
أمركم الله تعالى: {وأتموا الصيام إلى الليل} فإذا كان
الليل فأفطروا. (ونهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلّف قريبًا من حديث عائشة (عنه)
أي عن الوصال (رحمة لهم) أي الأمة (وإبقاء عليهم) أي حفظًا
لهم في بقاء أبدانهم على قوّتهم، وعند أبي داود بإسناد
صحيح عن رجل من الصحابة قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما
إبقاء على أصحابه.
(و) باب (ما يكره من التعمق)
(3/395)
وهو المبالغة في تكلف ما لم يكلف به.
1961 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى
عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ
-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: لاَ تُوَاصِلُوا، قَالُوا إِنَّكَ
تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي
أُطْعَمُ وَأُسْقَى. أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ
وَأُسْقَى». [الحديث 1961 - طرفه في: 7241].
وبالسند قال (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثني)
بالتوحيد (يحيى) بن سعيد القطان (عن شعبة) بن الحجاج (قال:
حدثني) بالتوحيد أيضًا (قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال) لأصحابه:
(لا تواصلوا) نهي يقتضي الكراهة وهل هي للتنزيه أو للتحريم
والأصح عند الشافعية التحريم قال الرافعي: وهو ظاهر نص
الشافعي وكرهه مالك. قال الأبيّ: ولو إلى السحر واختار
اللخمي جوازه إلى السحر لحديث من واصل فليواصل إلى السحر
وقول أشهب من واصل أساء ظاهره التحريم. وقال ابن قدامة في
المغني: يكره للتنزيه لا للتحريم ويدل للتحريم قوله في
رواية ابن خزيمة من طريق شعبة بهذا الإسناد إياكم والوصال.
(قالوا إنك تواصل)، لم يسم القائلون، وفي رواية أبي هريرة
الآتية إن شاء الله تعالى أول الباب اللاحق فقال رجل من
المسلمين: وكأن القائل واحد ونسب إلى الجميع لرضاهم به
وفيه دليل على استواء المكلفين في الأحكام وأن كل حكم ثبت
في حقه عليه الصلاة والسلام ثبت في حق أمته إلا ما استثنى
فطلبوا الجمع بين قوله في النهي وفعله الدال على الإباحة،
فأجابهم باختصاصه به
حيث (قال) عليه الصلاة والسلام: (لست) ولابن عساكر: إني
لست (كأحد منكم) ولأبي ذر عن الكشميهني: كأحدكم (إني أطعم
وأسقى) بضم الهمزة فيها (أو) قال (إني أبيت أطعم وأسقى)
حقيقة فيؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي
صومه وردّ بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً والجمهور على
أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال:
يعطيني قوّة الآكل والشارب أو أن الله تعالى يخلق فيه من
الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا
عطش والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطى القوة من
غير شبع ولا ريّ بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني يعطى
القوّة مع الشبع والريّ. ورجح الأول فإن الثاني ينافي في
حال الصائم ويفوّت المقصود من الصوم والوصال لأن الجوع هو
روح هذه العبادة بخصوصها.
1962 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ
الْوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي
لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله
عنهما- قال: نهى رسول الله-) أصحابه (عن الوصال)، سبق في
باب بركة السحور من غير إيجاب من طريق جويرية عن نافع ذكر
السبب ولفظه: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- واصل فواصل الناس فشق عليهم فنهاهم (قالوا)
ولابن عساكر قال قالوا: (إنك تواصل قال):
(إني لست مثلكم)، وفي حديث أبي زرعة عن أبي هريرة عند مسلم
لستم في ذلك مثلي أي لستم على صفتي أو منزلتي من ربي (إني
أطعم وأسقى) قال ابن القيم: يحتمل أن يكون المراد ما يغذيه
الله تعالى به من معارفه وما يفيضه على قلبه من لذة
مناجاته وقرة عينه بقربه ونعيمه بحبه قال: ومن له أدنى
تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير
من الغذاء الحيواني ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي
قد قرت عينه بمحبوبه.
1963 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ
سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: "لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ
أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ، قَالُوا:
فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنِّي
لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ
يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ". [الحديث 1963 - طرفه في:
1967].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام قال: (حدثني) بالإفراد (ابن الهاد)
يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي (عن عبد الله بن خباب)
بالخاء المعجمة المفتوحة والموحدة المشددة الأنصاري (عن
أبي سعيد) الخدري (-رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(لا تواصلوا فأيكم إذا أراد) وسقط لفظ إذا لأبي ذر (أن
يواصل فليواصل حتى السحر) بالجر بحتى الجارة التي بمعنى
"إلى" وفيه رد على من قال: إن الإمساك بعد الغروب لا يجوز
(قالوا فإنك) بالفاء (تواصل يا رسول الله قال):
(إني لست كهيئتكم) أي لست مثل حالتكم وصفتكم في أن من أكل
منكم أو شرب انقطع وصاله (إني أبيت) حال كوني (لي مطعم)
حال كونه (يطعمني و) لي (ساق) حال كونه (يسقين) بحذف الياء
في الفرع
(3/396)
كالمصحف العثماني في الشعراء. وفي بعض
الأصول يسقيني بإثباتها كقراءة يعقوب الحضرمي في الآية
حالة الوصل والوقف مراعاة للأصل والحسن البصري في الوصل
فقط مراعاة للأصل والرسم.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود من رواية ابن الهاد ولم يخرجه
مسلم، ووهم صاحب العمدة فعزاه له وإنما هو من أفراد
البخاري كما قاله عبد الحق في الجمع بين الصحيحين وكذا
صاحب المنتقى وصاحب الضياء في المختارة بل والحافظ عبد
الغني بن سرور في عمدته الكبرى عزا ذلك للبخاري فقط فلعله
وقع له في عمدته الصغرى سبق قلم والله أعلم.
1964 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
وَمُحَمَّدٌ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- قَالَتْ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ،
فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ
كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانُ
"رَحْمَةً لَهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي الوقت: حدثني بالإفراد وفي نسخة:
أخبرنا (عثمان بن أبي شيبة) أخو أبو بكر بن أبي شيبة
(ومحمد) هو ابن سلام (قالا: أخبرنا عبدة) بن سليمان (عن
هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام (عن عائشة
-رضي الله عنها- قالت: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الوصال رحمة لهم)، نصب على التعليل
أي لأجل الرحمة، وتمسك به من قال النهي ليس للتحريم كنهيه
لهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم، وقد روى ابن أبي
شيبة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل
خمسة عشر يومًا، ويأتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واصل بأصحابه بعد
النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم عليه فعلم أنه أراد
بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة.
وأجيب: بأن قوله رحمة لهم لا يمنع التحريم فإن من رحمته
لهم أن حرمه عليهم، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن
تقريرًا بل تقريعًا وتنكيلاً فاحتمل ذلك لأجل مصلحة النهي
في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه وظهرت لهم حكمة النهي
فكان ذلك أدعى إلى قبولهم لما يترتب عليه من الملل في
العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة
والقراءة وغير ذلك، والجوع الشديد ينافي ذلك. وفرق بعضهم
بين من يشق عليه فيحرم ومن لم يشق عليه فيباح.
(فقالوا: إنك تواصل، قال): (إني لست كهيئتكم إني يطعمني رب
ويسقين) بحذف الياء وإثباتها كما مرّ والياء في يطعمني
بالضم وفي يسقين بالفتح، والصحيح أن هذا ليس على ظاهره
لأنه لو كان على الحقيقة لم يكن مواصلاً، وقيل: إنه كان
يؤتى بطعام وشراب في النوم فيستيقظ وهو يجد الريّ والشبع.
وقال النووي في شرح المهذّب: معناه محبة الله تشغلني عن
الطعام والشراب والحب البالغ يشغل عنهما وآثر اسم الرب دون
اسم الذات المقدسة في قوله: يطعمني ربي دون أن يقول الله
لأن التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الألوهية
لأنها تجلي عظمة لا طاقة للبشر بها وتجلي الربوبية تجلي
رحمة وشفقة وهي أليق بهذا المقام.
(قال أبو عبد الله) البخاري كذا لأبوي ذر والوقت وسقط
لغيرهما (لم يذكر عثمان) بن أبي شيبة في الحديث المذكور
قوله (رحمة لهم) فدلّ على أنها من رواية محمد بن سلام
وحده.
وأخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة جميعًا
وفيه رحمة لهم ولم يبين أنها ليست في رواية عثمان، وقد
أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان في مسنديهما عن عثمان وليس
فيه رحمة لهم.
وأخرجه الجوزقي من طريق محمد بن حاتم عن عثمان وفيه رحمة
لهم فيحتمل أن يكون عثمان تارة يذكرها وتارة يحذفها وقد
رواها الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن عثمان فجعل ذلك من
قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولفظه
قالوا: إنك تواصل، قال: (إنما هي رحمة رحمكم الله بها إني
لست كهيئتكم) قاله في فتح الباري.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الإيمان ومسلم في
الصوم وكذا النسائي.
49 - باب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ.
رَوَاهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
(باب التنكيل) من النكال أي العقوبة من النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لمن أكثر الوصال). في صومه
(رواه) أي التنكيل (أنس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) مما وصله في كتاب التمني.
1965 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي
أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ. فَلَمَّا أَبَوْا
أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا
ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ، فَقَالَ: لَوْ
تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ. كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ
أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا". [الحديث 1965 - أطرافه في:
1966، 6851، 7242، 7299].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن) ابن شهاب (الزهري قال:
حدثني) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر
(3/397)
أخبرني بالإفراد فيهما (أبو سلمة بن عبد
الرحمن أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أصحابه (عن الوصال
في الصوم) فرضًا أو نفلاً (فقال له رجل من المسلمين) لم
يسم، وفي رواية عقيل في التعزيز فقال له رجال: (إنك تواصل
يا رسول الله) أي ووصلك دال على إباحته فأجابهم عليه
الصلاة والسلام بأن ذلك من خصائصه حيث قال:
(وأيكم) وفي نسخة: فأيكم (مثلي) استفهام يفيد التوبيخ
المشعر بالاستبعاد (إني أبيت يطعمني ربي وشقين) بحذف الياء
وثبوتها كما سبق تقريره (فلما أبوا) أي امتنعوا (أن ينتهوا
عن الوصال) لظنهم أن نهيه عليه الصلاة والسلام نهي تنزيه
لا تحريم، وللكشميهني كما في الفتح من الوصال بالميم بدل
العين (واصل بهم) عليه الصلاة والسلام (يومًا ثم يومًا) أي
يومين لأجل المصلحة ليبين لهم الحكمة في ذلك (ثم رأوا
الهلال فقال) عليه الصلاة والسلام (لو تأخر) الشهر
(لزدتكم) في الوصال إلى أن تعجزوا عنه فتسألوا التخفيف منه
بالترك (كالتنكيل لهم) وفي رواية معمر في التمني كالمنكل
لهم ووقع فيها عند المستملي كالمنكر لهم بالراء وسكون
النون من الإنكار، وللحموي كالمنكي بتحتية ساكنة قبلها كاف
مكسورة خفيفة من الإنكاء والأول هو الذي تضافرت به
الروايات خارج هذا الكتاب (حين أبوا) أي امتنعوا (أن
ينتهوا) أي عن الانتهاء عن الوصال، وهذا الحديث أخرجه
أيضًا النسائي.
1966 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ
وَالْوِصَالَ، مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ.
قَالَ: إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ،
فَاكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ».
وبه قال (حدّثنا يحيى) غير منسوب، ولأبي ذر كما في الفتح
يحيى بن موسى وهو المعروف بخت قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن
همام الصنغاني (عن معمر) هو ابن راشد (عن همام) بن منبه
الصنعاني (أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إياكم والوصال) نصب على التحذير أي احذروا الوصال (مرتين)
وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق أبي زرعة عن أبي
هريرة بلفظ إياكم والوصال ثلاث مرات (قيل إنك تواصل قال):
عليه الصلاة والسلام: (إني أبيت) وفي حديث أنس في باب
التمني إني أظل وهو محمول على مطلق الكون لا على حقيقة
اللفظ لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلاً لا نهارًا، وأكثر
الروايات إنما هو بلفظ: أبيت فكأن بعض الرواة عبر عنها
بلفظ أظل نظرًا إلى اشتراكهما في مطلق الكون قال تعالى:
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا} [النحل: 58]
فالمراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل
(يطعمني ربي ويسقين) جملة حالية (فاكلفوا) بهمزة وصل وسكون
الكاف وفتح اللام من كلفت بهذا الأمر أكلف به من باب علم
يعلم أن تكلفوا (من العمل ما تطيقون) أي تطيقونه فحذف
العائد أي الذي تقدرون عليه ولا تتكلفوا فوق ما تطيقونه
فتعجزوا.
50 - باب الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ
(باب) جواز (الوصال إلى السحر) أطلق عليه وصالاً لمشابهته
له في الصورة وإلا فحقيقة الوصال أن يمسك جميع الليل
كالنهار، لكن يحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو
حقيقة في إمساك جميع الليل، فقد ورد أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يواصل من سحر إلى سحر رواه أحمد
وعبد الرزاق عن علي.
1967 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله
عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ تُوَاصِلُوا،
فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى
السَّحَرِ، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ
لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ».
وبالسند قال (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة
والزاي ابن محمد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن
العوام القرشي الأسدي الزبيري المدني قال: (حدثني)
بالإفراد (ابن أبي حازم) هو عبد العزيز (عن يزيد) بن عبد
الله بن الهاد (عن عبد الله بن خباب) بمعجمة وموحدتين
الأولى مثقلة المدني من موالي الأنصار وثقه أبو حاتم وغيره
(عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول).
(لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) بالجر
بحتى الجارة وهو قول اللخمي من المالكية ونقل عن أحمد
وعبارة الوداوي في تنقيحه ويكره الوصال ولا يكره إلى السحر
نصًا وتركه أولى انتهى. وقال به أيضًا ابن خزيمة من
الشافعية وطائفة من أهل الحديث (قالوا فإنك تواصل يا رسول
الله قال): (لست) ولابن عساكر قال: إني لست (كهيئتكم إني
أبيت) حال كوني
(3/398)
(لي مطعم) حال كونه (يطعمني و) لي (ساق)
حال كونه (يسقين) بفتح أوله وحذف الياء وإثباتها كما تقدم،
وهذا لا يعارضه حديث أبي صالح عن أبي هريرة المروي عند ابن
خزيمة من طريق عبيدة بن حميد عن الأعمش عنه بلفظ: كان رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يواصل إلى السحر
ففعل بعض أصحابه ذلك فنهاه الحديث لأن المحفوظ في حديث أبي
صالح إطلاق النهي عن الوصال بغير تقييد بالسحر، فرواية
عبيدة هذه شاذة. وقد خالفه أبو معاوية وهو أضبط أصحاب
الأعمش فلم يذكر ذلك أخرجه أحمد وغيره عن أبي معاوية
وتابعه عبد الله بن نمير عن الأعمش كما سبق، وعلى تقدير أن
تكون رواية عبيدة محفوظة فقد جمع ابن خزيمة بينهما باحتمال
أن يكون نهي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
الوصال أولاً مطلقًا سواء جميع الليل أو بعضه، وعلى هذا
يحمل حديث أبي صالح ثم خص النهي بجميع الليل فأباح الوصال
إلى السحر، وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد، وقيل يحمل النهي
في حديث أبي صالح على كراهة التنزيه، وفي حديث أبي سعيد
على ما فوق السحر على كراهة التحريم قاله في الفتح.
ثم شرع المؤلّف في أبواب التطوّع بالصوم فقال:
51 - باب مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي
التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ
أَوْفَقَ لَهُ
(باب من أقسم) حلف (على أخيه) وكان صائمًا (ليفطر) والحال
أنه كان (في) صوم (التطوع ولم ير عليه) أي على هذا المفطر
(قضاء) عن ذلك اليوم الذي أفطر فيه (إذا كان) الإفطار
(أوفق له) بالواو في الفرع وغيره. وقال الحافظ ابن حجر:
ويروى أرفق بالراء بدل الواو والضمير في له للمقسم عليه أي
إذا كان المقسم عليه معذورًا بفطره ومفهومه عدم الجواز
ووجوب القضاء على من تعمد بغير سبب ويأتي البحث في هذه
المسألة آخر الباب إن شاء الله تعالى. وقال البرماوي
كالكرماني: المعنى يفطر إذا كان الإفطار أرفق للمقسم الذي
هو صاحب الطعام فإذا متعلقة بما استلزمه قوله لم ير عليه
قضاء من جواز إفطاره.
قال الشافعية في باب وليمة العرس ولا تسقط إجابة بصوم فإن
شق على الداعي صوم نفل فالفطر أفضل من إتمام الصوم وإن لم
يشق عليه فالإتمام أفضل أما صوم الفرض فلا يجوز الخروج منه
مضيقًا كان أو موسعًا كالنذر المطلق ولابن عساكر في نسخة
إذ كان بسكون الذال يعني حين كان.
1968 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ
عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "آخَى
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ
سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا
الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً
فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ،
قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى
تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ
ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ.
ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ
آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا.
فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا،
وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ
ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: صَدَقَ سَلْمَانُ". [الحديث 1968 - طرفه في:
6139].
وبالسند قال: (حدثنا محمد بن بشار) بالمعجمة المشددة بعد
الموحدة العبدي البصري بندار قال: (حدّثنا جعفر بن عون)
المخزومي القرشي قال: (حدّثنا أبو العميس) بضم العين
المهملة وفتح الميم وإسكان التحتية آخره سين مهملة اسمه
عتبة بن عبد الله بن مسعود (عن عون بن أبي جحيفة) بضم
الجيم وفتح الحاء المهملة وإسكان المثناة التحتية وفتح
الفاء (عن أبيه) أبي جحيفة وهب بن
عبد الله السوائي أنه (قال: آخى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين سليمان) بن عبد الله الفارسي
ويقال له سلمان ابن الإسلام وسلمان الخير أصله من رامهرمز
وقيل من أصبهان عاش فيما رواه أبو الشيخ في طبقات
الأصبهانيين ثلاثمائة وخمسين سنة ويقال إنه أدرك عيسى ابن
مريم، وقيل بل أدرك وصي عيسى وكان أول مشاهده الخندق، وقال
ابن عبد البر يقال أنه شهد بدرًا (و) بين (أبي الدرداء)،
عويمر أو عامر بن قيس الأنصاري أول مشاهده أحد (فزار سلمان
أبا الدرداء) في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وكان أبو الدرداء غائبًا (فرأى) سلمان (أم الدرداء) هي
خيرة بفتح الخاء المعجمة بنت أبي حدرد الأسلمية الصحابية
الكبرى وليست أم الدرداء الصغرى المسماة هجيمة (متبذّلة)
بضم الميم وفتح المثناة الفوقية والموحدة وكسر المعجمة
المشددة أي لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون المعجمة
أي المهنة وزنًا ومعنى أي تاركة للباس الزينة وللكشميهني
مبتذلة بميم مضمومة فموحدة ساكنة ففوقية مفتوحة فمعجمة
مكسورة.
(فقال) سلمان (لها: ما شأنك)؟ يا أم الدرداء مبتذلة (قالت:
أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا) وللدارقطني: من
وجه آخر عن محمد بن عون في نساء الدنيا وزاد ابن خزيمة
يصوم النهار ويقوم الليل، (فجاء أبو الدرداء) زاد الترمذي
(3/399)
فرحب بسلمان (فصنع له (طعامًا) وقربه إليه
ليأكل (فقال): سلمان لأبي الدرداء (كُل قال): أبو الدرداء
(فإني صائم) وفي رواية الترمذي فقال: كُل فإني صائم، وعلى
هذا فالقائل أبو الدرداء والمقول له سلمان (قال) سلمان
لأبي الدرداء (ما أنا بآكل) من طعامك (حتى تأكل). أراد
سلمان أن يصرف أبا الدرداء عن رأيه فيما يصنعه من جهد نفسه
في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه زوجته (قال: فأكل)، أبو
الدرداء معه.
فإن قلت: لم يذكر في هذا الحديث قسمًا من سلمان حتى تقع
المطابقة بينه وبين الترجمة حيث قال من أقسم على أخيه؟ قلت
أجاب ابن المنير بأنه إما لأنه في طريق آخر وإما لأن القسم
في هذا السياق مقدر قبل لفظ ما أنا بآكل كما قدر في قوله
تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] وتعقبه في
المصابيح بأنه يحتاج إلى إثبات الطريق الذي وقع فيه القسم
والاحتمال ليس كافيًا في ذلك، وتقدير قسم هنا تقدير ما لا
دليل عليه فلا يصار إليه انتهى.
وقد وقع في رواية البزار عن محمد بن بشار شيخ المؤلّف كما
أفاده في الفتح فقال: أقسمت عليك لتفطرن، وكذا رواه ابن
خزيمة عن يوسف بن موسى والدارقطني من طريق علي بن مسلم
وغيره والطبراني من طريق أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة
والعباس بن عبد العظيم، وابن حبان من طريق أبي خيثمة كلهم
عن جعفر بن عون به، فكأن محمد بن بشار لم يذكر هذه الجملة
لما حدث به المؤلّف وبلغ المؤلّف ذلك من غيره فاستعمل هذه
الزيادة في الترجمة.
(فلما كان الليل) أي أوله (ذهب أبو الدرداء) حال كونه
(يقوم) يعني يصلّي. وقد روى الطبراني هذا الحديث من وجه
آخر عن محمد بن سيرين مرسلاً فعين الليلة التي بات سلمان
فيها عند
أبي الدرداء ولفظه كان أبو الدرداء يحيي ليلة الجمعة ويصوم
يومها. (قال) سلمان له (نم فنام) أبو الدرداء (ثم ذهب
يقوم، فقال) له سلمان: (نم فلما كان من آخر الليل) عند
السحر (قال) له (سلمان. قم الآن) فقام أبو الدرداء وسلمان
وتوضأ (فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك
عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا) زاد الترمذي وابن خزيمة وإن
لضيفك عليك حقًا (فأعط كل ذي حق حقه). بقطع همزة فأعط
وللدارقطني فصم وأفطر ونم وائت أهلك (فأتى) أبو الدرداء
(النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر ذلك)
الذي قاله سلمان (له) عليه الصلاة والسلام (فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(صدق سلمان) وللترمذي فأتيا بالتثنية وفيه: أنه لا يجب
إتمام صوم التطوع إذا شرع فيه كصلاته واعتكافه لئلا يغير
الشروع حكم المشروع فيه ولحديث الترمذي وصححه الحاكم:
الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ويقاس
بالصوم الصلاة ونحوها، لكن يكره الخروج منه لظاهر قوله:
{ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: 33] وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه كما يأتي
قريبًا إن شاء الله تعالى إلا بعذر كمساعدة ضيف في أكل إذا
عز عليه امتناع مضيفه منه أو عكسه فلا يكره الخروج منه، بل
يستحب لحديث الباب مع زيادة الترمذي: وإن لضيفك عليك حقًا
أما إذا لم يعز على أحدهما امتناع الآخر من ذلك فالأفضل
عدم خروجه منه ذكره في المجموع، وإذا خرج منه قال المتولي:
لا يثاب على ما مضى لأن العبادة لم تتم، وحكي عن الشافعي
أنه يثاب عليه وهو الوجه إن خرج منه بعذر ويستحب قضاؤه
سواء خرج بعذر أو بغيره وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
والجمهور، وقال المالكية: يجب البقاء في صوم النفل بالفطر
إذا كان عمدًا حرامًا فلا قضاء على من أفطر ناسيًا ولا على
من أفطر لعذر من مرض أو غيره، فلو شرع في صوم نفل وجب عليه
إتمامه وحرم عليه الفطر من غير عذر ولو حلف عليه شخص
بالطلاق الثلاث فإنه يحنثه ولا يفطر فإن أفطر وجب عليه
القضاء إلا في كوالد وشيخ وإن لم يحلفا.
وفي حكايات أهل الطريق أن بعض الشيوخ حضر دعوة فعرض الطعام
على تلميذه فقال: إني على نيّة وأبى أن يأكل فقال له
الشيخ: كُلْ وأنا أضمن لك أجر سنة فأبى، فقال الشيخ: دعوه
فإنه سقط من عين الله فنسأل الله العافية.
وقال الحنفية يلزمه القضاء مطلقًا أفسد عن قصد أو غير قصد
بأن عرض الحيض للصائمة المتطوعة لا خلاف بين
(3/400)
أصحابنا في ذلك وإنما اختلاف الرواية في
نفس الإفساد هل يباح أو لا؟ ظاهر الرواية لا إلاّ لعذر،
ورواية المنتقى يباح بلا عذر، ثم اختلف المشايخ على ظاهر
الرواية هل الضيافة عذر أو لا؟ قيل: نعم، وقيل لا، وقيل
عذر قبل الزوال لا بعده إلا إذا كان في عدم الفطر بعده
عقوق لأحد الوالدين لا غيرهما حتى لو حلف عليه رجل بالطلاق
الثلاث لتفطرن لا يفطر لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}
[محمد: 33] وقوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها
عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها}
[الحديد: 27] الآية سبقت في معرض ذمهم
على عدم رعاية ما التزموه من القرب التي لم تكتب عليهم
والقدر المؤدي عمل كذلك فوجب صيانته عن الإبطال بهذين
النصين فإذا أفطر وجب قضاؤه تفاديًا عن الإبطال.
وأجيب: بأن المراد لا تحبطوا الطاعات بالكبائر أو بالكفر
والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها وهذا غير
الإبطال الوجب للقضاء، وقد قال ابن المنير من المالكية في
الحاشية: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا
الأدلة العامة كقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} إلا أن
الخاص يقدم على العام كحديث سلمان ونحوه، فمذهب الشافعية
في هذه المسألة أظهر.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما ذكرته مما يطول استقصاؤه
ولا يخفى على متأمل، وأخرجه المؤلّف في الأدب وكذا
الترمذي.
52 - باب صَوْمِ شَعْبَانَ
(باب) فضل (صوم شعبان).
1969 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى
نَقُولَ لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ
شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ
صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ". [الحديث 1969 - طرفاه في:
1970، 6465].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال:
(أخبرنا مالك) الإمام (عن أبي النضر) بفتح النون وسكون
المعجمة سالم بن أبي أمية (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن
عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت) (كان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم حتى نقول لا
يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم)، أي ينتهي صومه إلى غاية
نقول إنه لا يفطر ويفطر فينتهي إفطاره إلى غاية حتى نقول
إنه لا يصوم (فما) بالفاء ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر:
وما (رأيت رسول الله) ولأبوي ذر والوقت: النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استكمل صيام شهر إلا رمضان)
وإنما لم يستكمل شهرًا غير رمضان لئلا يظن وجوبه "وما
رأيته صيامًا منه في شعبان" بنصب صيامًا. قال البرماوي
كالزركشي وروي بالخفض.
قال السهيلي: وهو وهم كأنه بناه على كتابتها بغير ألف على
لغة من يقف على المنصوب المنون بلا ألف فتوهمه مخفوضًا لا
سيما وصيغة أفعل تضاف كثيرًا فتوهمها مضافة، ولكن الإضافة
هنا ممتنعة قطعًا ووجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكون أعمال
العباد ترفع فيه ففي النسائي من حديث أسامة قلت: يا رسول
الله لم أرك تصوم من شهر من المشهور ما تصوم من شعبان؟
قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع
فيه الأعمال إلى رب العالين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم،
فبين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجه صيامه
لشعبان دون غيره من المشهور بقوله: إنه شهر يغفل الناس عنه
بين رجب ورمضان يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان
الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما
فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس من يظن أن صيام رجب أفضل
من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك، وقيل في تخصيصه شعبان
غير ذلك.
وحديث الباب أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الصيام.
1970 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ
-رضي الله عنها- حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: "لَمْ يَكُنِ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ
شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ
شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ
الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ
حَتَّى تَمَلُّوا. وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا دُووِمَ عَلَيْهِ
وَإِنْ قَلَّتْ. وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ
عَلَيْهَا".
وبه قال: (حدّثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء والضاد
المعجمة قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي (عن يحيى) بن أبي
كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (أن عائشة -رضي الله
عنها- حدثته قالت): (لم يكن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم شهرًا أكثر من شعبان فإنه كان
يصوم شعبان كله)، واستشكل هذا مع قوله في الرواية الأولى
وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان.
وأجيب: بأن الرواية الأولى مفسرة لهذه ومبينة بأن المراد
بكله غالبه، وقيل كان يصومه في وقت وبعضه في آخر، وقيل كان
يصوم تارة من أوّله وتارة من وسطه وتارة من آخره ولا يترك
منه شيئًا بلا صيام، لكن في أكثر من سنة كذا قاله غير واحد
كالزركشي
(3/401)
وتعقبه في المصابيح بأن الثلاثة كلها ضعيفة
فأما الأول إطلاق الكل على الأكثر مع الإتيان به توكيدًا
غير معهود اهـ.
وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام
العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صام الشهر كله، ويقال
قام فلان ليله أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال
الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك فالمراد
الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال واستبعده أيضًا فقال كل
توكيد لإرادة الشمول ورفع أتجوّز من احتمال البعض فتفسيره
بالبعض مناف له اهـ.
وتعقبه أيضًا الحافظ زين الدين العراقي بأن في حديث أم
سلمة عند الترمذي قالت: ما رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان
فعطف رمضان عليه يبعد أن يكون المراد بشعبان أكثره إذ لا
جائز أن يكون المراد برمضان بعضه والعطف يقتضي المشاركة
فيما عطف عليه وإن مشى ذلك فإنما يمشي على رأي من يقول أن
اللفظ الواحد يحمل على حقيقته ومجازه وفيه خلاف لأهل
الأصول. قال في عمدة القارئ: ولا يمشي هنا ما قاله على رأي
البعض أيضًا لأن من قال ذلك قاله في اللفظ الواحد وهنا
لفظان شعبان ورمضان اهـ.
فلينظر هذا مع قول ابن المبارك أنه جائز في كلام العرب،
قال في المصابيح. وأما الثاني فلأن قولها كان يصوم شعبان
كله يقتضي تكرار الفعل وأن ذلك عادة له على ما هو المعروف
في مثل هذه العبارة اهـ.
واختلف في دلالة كان على التكرار وصحح ابن الحاجب أنها
تقتضيه قال: وهذا استفدناه من قولهم كان حاتم يقري الضيف،
وصحح الإمام فخر الدين في المحصول أنها لا تقتضيه لا لغة
ولا عرفًا. وقال النووي في شرح مسلم: إنه المختار الذي
عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين، وذكر ابن دقيق
العيد أنها تقتضيه عرفًا اهـ.
قال في المصابيح: وأما الثالث فلأن أسماء المشهور إذا ذكرت
غير مضاف إليها لفظ شهر كان العمل عامًا لجميعها لا تقول
سرت المحرم وقد سرت بعضًا منه ولا تقول صمت رمضان وإنما
صمت بعضه، فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم هذا مذهب
سيبويه وتبعه عليه غير واحد. قال الصفار: ولم يخالف في ذلك
إلا الزجاج، ويمكن أن يقال إن قولها وما رأيته أكثر صيامًا
منه في شعبان لا ينفي صيامه لجميعه، فإن المراد أكثرية
صيامه فيه على صيامه في غيره من المشهور التي لم يفرض فيها
الصوم وذلك صادق بصومه لكله لأنه إذا صامه جميعه صدق أن
الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره
ضرورة أنه لم يصم غيره مما عدا رمضان كاملاً.
وأما قولها: لم يستكمل صيام شهر إلا رمضان فيحمل على الحذف
أي إلا رمضان وشعبان بدليل قولها في الطريق الأخرى فإنه
كان يصوم شعبان كله وحذف المعطوف والعاطف جميعًا ليس بعزيز
كلامهم ففي التنزيل {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح
وقاتل} [الحديد: 10] أي ومن أنفق من بعده وفيه سرابيل
تقيكم الحر أي والبرد. قال: ويمكن الجمع بطريق أخرى وهي أن
يكون قولها وكان يصوم شعبان كله محمولاً على حذف أداة
الاستثناء والمستثنى أي إلا قليلاً منه، ويدل عليه حديث
عبد الرزاق بلفظ: ما رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر صيامًا منه في شعبان فإنه كان
يصومه كله إلا قليلاً.
فإن قلت: قد ورد في حديث مسلم أن أفضل الصيام بعد رمضان
المحرم فكيف أكثر عليه الصلاة والسلام منه في شعبان دون
المحرم؟ أجيب: باحتمال أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر حياته قبل
التمكن من صومه أو لعله كان يعرض له فيه أعذار تمنع من
إكثار الصوم فيه.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (يقول) (خذوا من العمل ما
تطيقون) المداومة عليه بلا ضرر (فإن الله) عز وجل (لا يمل)
بفتح الياء التحتية والميم. قال النووي: الملل السآمة وهو
بالمعنى المتعاف في حقنا محال في حق الله تعالى فيجب
تأويله، فقال المحققون: أي لا يعاملكم معاملة الملل فيقطع
عنكم ثوابه وفضله ورحمته (حتى تملوا). بفتح الأول والثاني
أي تقطعوا أعمالكم وقال الكرماني هو إطلاق مجازي عن ترك
الجزاء
(3/402)
وقال بعضهم: معناه لا تتكلفوا حتى تملوا
فإن الله جل جلاله منزه عن الملالة ولكنكم تملون قبول فيض
الرحمة. (وأحب الصلاة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ولابن عساكر: وأحب الصلاة إلى الله (ما دووم
عليه) بضم الدال وسكون الواو الأولى وكسر الثانية مبنيًا
للمفعول من الداومة من باب الفاعلة، وفي نسخة ما ديم
مبنيًا للمفعول أيضًا من دام والأول من
داوم، (وإن قلت وكان إذا صلّى صلاة داوم عليها) وفي
الإدامة والمواظبة فوائد منها تخلق النفس واعتيادها ولله
در القائل:
هي النفس ما عودتها تتعوّد
والمواظب يتعرض لنفحات الرحمة قال عليه الصلاة والسلام: إن
لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها.
53 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِفْطَارِهِ
(باب ما يذكر من صوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) التطوّع (وإفطاره) في خلال صومه.
1971 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "مَا صَامَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهْرًا
كَامِلاً قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَيَصُومُ حَتَّى
يَقُولَ الْقَائِلُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ يُفْطِرُ،
وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ
يَصُومُ".
وبالسند قال: (حدّثنا) ولأبي الوقت: حدثني بالإفراد (موسى
بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن
عبد الله اليشكري (عن أبي بشر) جعفر بن أبي وحشية إياس
اليشكري (عن سعيد) ولأبي الوقت: سعيد بن جبير (عن ابن عباس
-رضي الله عنهما-) ولمسلم من طريق عثمان بن حكيم سألت سعيد
بن جبير عن صيام رجب فقال: سمعت ابن عباس (قال) "ما صام
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهرًا كاملاً
قط غير رمضان" هو كقول عائشة لم يستكمل صيام شهر إلا رمضان
ويعارضه ظاهر قولها كان يصوم شعبان كله فإما أن يحمل على
الأكثرية أو على أنه لم يره يستكمل إلا رمضان فأخبر على
حسب اعتقاده (ويصوم) ولمسلم: وكان يصوم (حتى يقول القائل:
لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا
يصوم). ومطابقته للترجمة ظاهرة، وأخرجه مسلم والنسائي وابن
ماجه في الصوم.
1972 - حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ
أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا -رضي الله عنه- يَقُولُ: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ
مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ
مِنْهُ شَيْئًا: وَكَانَ لاَ تَشَاءُ تَرَاهُ مِنَ
اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا
إِلاَّ رَأَيْتَهُ". وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ
أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسًا فِي الصَّوْمِ ح.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد (عبد العزيز بن عبد الله) بن
يحيى القرشي العامري الأويسي (قال: حدثني) بالإفراد (محمد
بن جعفر) هو ابن أبي كثير المدني (عن حميد) الطويل (أنه
سمع أنسًا -رضي الله عنه- يقول): (كان رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا
يصوم منه) بفتح همزة أن ونصب يصوم ورفعه لأن أن إما ناصبة
ولا نافية وإما مفسرة، ولا ناهية ونظن بنون الجمع كما
في اليونينية وزاد في فتح الباري يظن بالمثناة التحتية
المضمومة وفتح المعجمة مبنيًّا للمفعول وتظن بالمثناة
الفوقية على المخاطبة قال: ويؤيده قوله بعد ذلك إلا رأيته
فإنه روى بالضم والفتح معًا (ويصوم) من الشهر (حتى نظن أن
لا يفطر منه شيئًا: وكان لا تشاء تراه من الليل مصليًا إلا
رأيته) أي مصليًا (ولا) تشاء تراه من الليل (نائمًا، إلا
رأيته) أي نائمًا يعني أنه كان تارة يقوم من أول الليل
وتارة من وسطه وتارة من آخره كما كان يصوم تارة من أو
الشهر وتارة من وسطه وتارة من آخره فكان من أراد أن يراه
في وقت من أوقات الليل قائمًا أو في وقت من أوقات الشهر
صائمًا فراقبه المرة بعد المرة فلا بد أن يصادفه قائمًا
على وفق ما أراد أن يراه وليس المراد أنه كان يسرد الصوم
ولا أنه كان يستوعب الليل قائمًا. وأما قول عائشة وكان إذا
صلّى صلاة داوم عليها فالمراد به ما اتخذه راتبًا لا مطلق
النافلة فلا تعارض قاله في فتح الباري:
(وقال): وسقطت الواو في رواية أبي الوقت (سليمان) بن حيان
الأحمر مما وصله المؤلّف في الباب (عن حميد) الطويل (أنه
سأل أنسًا في الصوم).
1973 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ
الأَحْمَرُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا
رضي الله عنه عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ
أَرَاهُ مِنَ الشَّهْرِ صَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ، وَلاَ
مُفْطِرًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ، وَلاَ مِنَ اللَّيْلِ
قَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ، وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ
رَأَيْتُهُ، وَلاَ مَسِسْتُ خَزَّةً وَلاَ حَرِيرَةً
أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلاَ شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلاَ
عَبِيرَةً أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدثني) بالإفراد (محمد) ولأبي ذر: هو ابن سلام
قال: (أخبرنا أبو خالد) سليمان بن حيان (الأحمر) قال:
(أخبرنا حميد) الطويل (قال: سألت أنسًا -رضي الله عنه- عن
صيام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(ما كنت أحب أن أراه) أي ما كنت أحب رؤيته (من الشهر) حال
كونه (صائمًا إلا رأيته) صائمًا (ولا) كنت أحب أن أراه من
الشهر حال كونه (مفطرًا إلا رأيته) مفطرًا (ولا) كنت أحب
أن أراه (من الليل) حال كونه (قائمًا إلا رأيته) قائمًا
(ولا) كنت أحب أن أراه من الليل حال كونه (نائمًا إلا
رأيته) نائمًا (ولا مسست) بفتح الميم
(3/403)
وكسر السين الأولى على الأفصح وسكون
الثانية (خزة) بفتح الخاء والزاي المشددة المعجمتين هو في
الأصل اسم دابة ثم سمي الثوب المتخذ من وبره خزا (ولا
حريرة) وفي نسخة ولا حرير (ألين من كف رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا شممت) بكسر الميم
الأولى. وقول ابن درستويه والعامة يخطئون في فتحها. تعقبه
في المصابيح بأنها لغة حكاها الفراء قال: ومضارع المكسور
أشم بفتح الشين والآخر أشم بضمها (مِسْكة ولا عبيرة)
بالموحدة المكسورة والتحتية الساكنة والعبير طيب معمول من
أخلاط ولابن عساكر ولا عنبرة بنون ساكنة فموحدة مفتوحة
القطعة من العنبر المعروف (أطيب رائحة من رائحة)
وللكشميهني كما في الفتح من ريح (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقد كان عليه الصلاة والسلام
على أكمل الصفات خلقًا وخلقًا فهو كل الكمال وجملة الجمال.
وفي حديثي الباب أنه عليه الصلاة والسلام لم يصم الدهر ولا
قام كل الليل ولعله إنما ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على
أمته وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر
عليه لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى فصام وأفطر وقام
ونام ليقتدي به العابدون -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كثيرًا.
54 - باب حَقِّ الضَّيْفِ فِي الصَّوْمِ
(باب حق الضيف في الصوم) أي في صوم المضيف.
11974 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا يَحْيَى
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله
عنهما- قَالَ: "دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،
يَعْنِي «إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. فَقُلْتُ: وَمَا صَوْمُ
دَاوُدَ؟ قَالَ: نِصْفُ الدَّهْرِ».
وبه قال (حدّثنا إسحاق) هو ابن راهويه قال: (أخبرنا هارون
بن إسماعيل) الخزاز قال: (حدّثنا علي) وفي نسخة: علي بن
المبارك أي الهنائي قال: (حدّثنا يحيى) بن أبي كثير (قال:
حدثني) بالإفراد (أبو سلمة) بن عبد الرحمن (قال: حدثني)
بالإفراد أيضًا (عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله
عنهما- قال: دخل عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فذكر الحديث) هكذا أورده مختصرًا ثم ذكر ما
يشهد لما ترجم له فقال (يعني):
(إن لزورك) بفتح الزاي وسكون الواو. قال في التنقيح
كالنهاية: وهو في الأصل مصدر وضع موضع الاسم كصوم ونوم
بمعنى صائم ونائم وقد يكون اسم جمع له واحد من اللفظ وهو
زائر كراكب وركب أي أن لضيفك (عليك حقًا) أي فتفطر لأجله
إيناسًا له وبسطًا (وإن لزوجك عليك حقًا) وحقها هنا الوطء
فإذا سر الزوج الصوم ووالى قيام الليل ضعف عن حقها قال عبد
الله بن عمرو بن العاصي، (فقلت): بالفاء، ولابن عساكر:
قلت: (وما صوم داود)؟ في الباب التالي قال: فصم صيام نبي
الله داود عليه السلام ولا تزد عليه قلت وما كان صيام نبي
الله داود؟ (قال): (نصف الدهر) وهذا الحديث أخرجه مسلم في
الصوم وكذا النسائي.
55 - باب حَقِّ الْجِسْمِ فِي الصَّوْمِ
(باب حق الجسم في الصوم) على المتطوّع بأن يرفق به لئلا
يضعف فيعجز عن أداء الفرائض.
1975 - حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله
عنهما- "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ
أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟
فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَلاَ
تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ
لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ
تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ
بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ
صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ
عَلَىَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ
قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَلاَ تَزِدْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمَا
كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ
السَّلاَمُ -؟ قَالَ: نِصْفَ الدَّهْرِ. فَكَانَ عَبْدُ
اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي
قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-".
وبالسند قال: (حدّثنا ابن مقاتل) ولأبي الوقت: محمد بن
مقاتل أي المروزي المجاور بمكة قال: (أخبرنا عبد الله) بن
المبارك المروزي قال (أخبرني الأوزاعي) بالزاي عبد الرحمن
بن عمرو (قال: حدثني) بالإفراد (يحيى بن أبي كثير قال:
حدثني) بالإفراد أيضًا (أبو سلمة بن عبد الرحمن قال حدثني)
بالإفراد أيضًا (عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله
عنهما-) أنه قال (قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا عبد الله، ألم أخبر) بضم الهمزة وسكون المعجمة وفتح
الموحدة مبنيًا للمفعول وهمزة ألم للاستفهام (أنك تصوم
النهار وتقوم الليل)؟ أي فيه (فقلت: بلى يا رسول الله) زاد
مسلم ولم أرد إلا الخير (قال) (فلا) ولابن عساكر لا (تفعل)
زاد بعد بابين فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين (صم
وأفطر)، بهمزة قطع (وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا)، بأن
ترعاه وترفق به ولا تضره حتى تقعد عن القيام بالفرائض
ونحوها وقد ذم الله قومًا أكثروا من العبادة ثم تركوا
بقوله تعالى ورهبانية ابتدعوها إلى قوله فما رعوها حق
رعايتها (وإن لعينك عليك حقًا) بالإفراد في الفرع ولغير
الكشميهني لعينيك بالتثنية (وإن لزوجك عليك حقًا)، في
الوطء (وإن لزورك) أي لضيفك (عليك حقًا) في البسط
والمؤانسة وغيرهما (وإن بحسبك) بسكون السين المهملة وفي
اليونينية بفتحها. قال البرماوي كالزركشي بفتح السين وحكى
إسكانها والباء فيه
(3/404)
زائدة أي كافيك (أن تصوم كل شهر) في محل
رفع خبر أن. قال في المصابيح: وينبغي أن يكون هذا الإعراب
متعينًا ويؤخذ منه صحة ما ذهب إليه ابن مالك في قولك بحسبك
زيد أن حسبك مبتدأ وزيد خبر وأنه من باب الإخبار بالمعرفة
عن النكرة لأن حسبك لا يتعرف بالإضافة، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: من كل شهر، وله عن الكشميهني في كل شهر (ثلاثة
أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن) ولأبوي ذر والوقت
وابن عساكر فإذن بالنون في الفرع وأصله وفي غيرهما بالألف
منوّنة وعليه الجمهور ورسم المصحف وقال بالأوّل المازني
والمبرد، وقال الفراء: إن عملت كتبت بالألف وإلا كتبت
بالنون للفرق بينها وبين إذا وتبعه ابن خروف. قال في
القاموس: ويحذفون الهمزة فيقولون ذن والأكثر أن تكون
جوابًا لأن أو لو ظاهرتين أو مقدرتين والمقدر هنا أن أي أن
صمتها فإذا (ذلك صيام الدهر كله) قال الحافظ ابن حجر
وغيره: إذا بغير تنوين للمفاجأة. قال العيني: تقديره إن
صمت ثلاثة أيام من كل شهر
فاجأت عشر أمثالها كما في قوله تعالى: {ثم إذا دعاكم}
[الروم: 25] الآية تقديره ثم إذا دعاكم فاجأتم الخروج في
ذلك الوقت قال عبد الله: (فشددت) على نفسي (فشدد عليّ) بضم
الشين مبنيًّا للمفعول (قلت: يا رسول الله إني أجد قوّة)
على أكثر من ذلك (قال) عليه الصلاة والسلام: إن كنت تجد
قوّة. (فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه)
(قلت وما كان صيام نبي الله داود عليه الصلاة والسلام؟
قال) عليه الصلاة والسلام: كان صيامه (نصف) صوم (الدهر)
وهو أن يفطر يومًا ويصوم يومًا. (وكان عبد الله) بن عمرو
بن العاصي (يقول بعد ما كبر): بكسر الموحدة أي وعجز عن
المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه وشق عليه (يا ليتني
قبلت رخصة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وأخذت
بالأخف.
56 - باب صَوْمِ الدَّهْرِ
(باب) بيان حكم (صوم الدهر) هل هو مشروع أم لا؟ ومذهب
الشافعية استحبابه لإطلاق الأدلة ولأنه-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم
هكذا وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابنا خزيمة وحبان
والبيهقي أي عنه فلم يدخلها. قال الغزالي: لأنه لما ضيق
على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا
يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة فإن خاف ضررًا
أو فوت حق كره صومه وهل المراد الواجب أو المندوب؟ قال
السبكي: ويتجه أن يقال أنه إن علم أنه يفوّت حقًا واجبًا
حرم وإن علم أنه يفوت حقًا مندوبًا أولى من الصيام كره وإن
كان يقوم مقامه فلا.
1976 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: "أُخْبِرَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ
وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ
قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: فَإِنَّكَ لاَ
تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ،
وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ
الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ
صِيَامِ الدَّهْرِ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ.
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ:
فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ
دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وَهْوَ أَفْضَلُ
الصِّيَامِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال:
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم
بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب وأبو سلمة
بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاصي (قال:
أخبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم
الهمزة وسكون المعجمة وكسر الموحدة مبنيًا للمفعول ورسول
الله رفع نائب عن الفاعل (إني أقول: والله لأصومنّ النهار
ولأقومنّ الليل ما عشت)، أي مدة حياتي. (فقلت له): عليه
الصلاة والسلام فيه
كلام مطويّ تقديره فقال لي عليه الصلاة والسلام: أنت تقول
والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت، ولمسلم: أنت
الذي تقول ذلك فقلت له: (قد) ولأبي الوقت: فقد (قلته بأبي
أنت وأمي) أي أفديك بهما (قال) عليه الصلاة والسلام.
(فإنك لا تستطيع ذلك) الذي قلته من صيام النهار وقيام
الليل لحصول المشقة وإن لم يتعذر الفعل أو بأن تبلغ من
العمر ما يتعذر معه ذلك وعلمه عليه الصلاة والسلام بطريق
ما أو المراد لا تستطيع ذلك مع القيام ببقية المصالح
الشرعية شرعًا (فصم وأفطر)، بهمزة قطع (وقم ونم)، ثم بين
ما أجمل فقال (وصم من الشهر ثلاثة أيام) لم يعينها ثم علل
وجه كونها ثلاثة بقوله (فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل
صيام الدهر) استشكل هذا من جهة أن القواعد تقتضي أن المقدر
لا يكون كالمحقق وأن الأجور تتفاوت
(3/405)
بحسب تفاوت المصالح أو المشقّة في الفعل
فكيف يوازي من له حسنة واحدة في كل يوم جميع السنة من له
عشر فيه وكيف يتساوى العامل وغيره في الأجر؟ وأجيب: بأن
المراد هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل من الفعل
فالمثلية لا تقتضي المساواة من كل وجه. نعم يصدق على فاعل
ذلك أنه صام الدهر مجازًا قال عبد الله (قلت): يا رسول
الله (إني أطيق أفضل من
ذلك) أكثر من صيام ثلاثة أيام من كل شهر (قال): عليه
الصلاة والسلام: (فصم يومًا وأفطر يومين) بالإفراد في
الأول والتثنية في الآخر وفي رواية حسين المعلم في الأدب
فصم من كل جمعة ثلاثة أيام. وفي رواية أبي المليح الآتية
إن شاء الله تعالى في باب صوم داود: أما يكفيك من كل شهر
ثلاثة أيام؟ قال، قلت يا رسول الله. قال: خمسًا قلت: يا
رسول الله. قال: سبعًا. قلت يا رسول الله. قال: تسعًا قلت
يا رسول الله قال: إحدى عشرة (قلت إني أطيق أفضل) أكثر (من
ذلك قال): (فصم يومًا وأفطر يومًا فذلك صيام داود عليه
السلام وهو أفضل الصيام) وفي قيام الليل من طريق عمرو بن
أوسٍ عن عبد الله بن عمرو أحب الصيام إلى الله صيام داود،
وهذا يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقًا ومقتضاه أن تكون الزيادة
على ذلك من الصوم مفضولة (فقلت: إني أطيق أفضل) أكثر (من
ذلك، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا) صوم (أفضل من ذلك) فهو يفضل من صوم الدهر كما قاله
المتولي وغيره: ويترجج من حيث المعنى بأن صيام الدهر قد
يفوّت بعض الحقوق وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه بل
تضعف شهوته عن الأكل وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارًا
ويألف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد بخلاف من
يصوم يومًا ويفطر يومًا فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم
إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصوم
ويأمن مع ذلك من تفويت الحقوق، وعند سعيد بن منصور بإسناد
صحيح عن ابن مسعود أنه قيل له: إنك لتقل الصيام. فقال: إني
أخاف أن يضعفني عن القراءة والقراءة أحب إلي من الصيام،
لكن في فتاوى ابن عبد السلام أن صوم الدهر أفضل لأنه أكثر
عملاً فيكون أكثر أجرًا وما كان أكثر أجرًا كان أكثر
ثوابًا وبذلك جزم الغزالي أولاً وقيده بشرط أن لا يصوم
الأيام المنهي عنها وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم
حجرًا على نفسه، فإذا أمن فالصوم من أفضل الأعمال
فالاستكثار منه زيادة في الفضل.
وقوله في الحديث: لا أفضل من ذلك أي لك وذلك لما علم من
حاله ومنتهى قوته وأن ما هو أكثر من ذلك يضعفه عن الفرائض
ويقعد به عن الحقوق والمصالح، ويلتحق به من في معناه. لكن
تعقبه ابن دقيق العيد بأن الأفعال متعارضة المصالح
والمفاسد وليس كل ذلك معلومًا لنا ولا مستحضرًا، وإذا
تعارضت المصالح والمفاسد فمقدار تأثير كل واحدة منها في
الحث أو المنع غير محقق لنا فالطريق حينئذ أن نفوّض الأمر
إلى صاحب الشرع ونجري على ما دل عليه ظاهر الشرع من قوة
الظاهر هنا، وأما زيادة العمل واقتضاء العادة لزيادة الأجر
بسببه فيعارضه اقتضاء العادة والجبلة للتقصير في حقوق
يعارضها الصوم الدائم ومقادير ذلك الفائت مع أن مقادير
الحاصل من الصوم غير معلومه لنا.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: وذلك مثل صيام الدهر.
57 - باب حَقِّ الأَهْلِ فِي الصَّوْمِ، رَوَاهُ أَبُو
جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
(باب حق الأهل) الأولاد والقرابة (في الصوم رواه) أي حق
الأهل (أبو جحيفة) وهب بن عبد الله السوائي فيما سبق في
قصة سلمان وأبي الدرداء (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حيث قال سلمان لأبي الدرداء: وأن
لأهلك عليك حقًا، وأقره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عليه.
1977 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا أَبُو
عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَطَاءً أَنَّ أَبَا
الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "بَلَغَ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي
أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ فَإِمَّا
أَرْسَلَ إِلَىَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ فَقَالَ: أَلَمْ
أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلاَ تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي
وَلاَ تَنَامُ؟ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ
لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ
عَلَيْكَ حَظًّا. قَالَ: إِنِّي لأَقْوَى لِذَلِكَ. قَالَ:
فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ:
وَكَيْفَ؟ قَالَ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ
يَوْمًا وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى. قَالَ: مَنْ لِي
بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ" قَالَ عَطَاءٌ: لاَ أَدْرِي
كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ صَامَ مَنْ صَامَ
الأَبَدَ». مَرَّتَيْنِ.
وبالسند قال (حدّثنا عمرو بن علي) الباهلي الصيرفي الفلاس
البصري قال: (أخبرنا) ولابن عساكر: حدّثنا (أبو عاصم)
النبيل الضحاك بن مخلد (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد
العزيز المكي قال: (سمعت عطاء) هو ابن أبي رباح المكي (أن
أبا العباس) السائب الأعمى (الشاعر) المكي (أخبره أنه سمع
عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- يقول: بلغ النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي من أبيه عمرو بن
العاص
(3/406)
(إني أُسرد الصوم)، بضم الراء أي أصوم
متتابعًا ولا أفطر (وأصلي الليل) كله (فإما أرسل) عليه
الصلاة والسلام (إليّ وإما لقيته) عليه الصلاة والسلام من
غير إرسال (فقال):
(ألم أخبر) بضم الهمزة وسكون المعجمة وفتح الموحدة (إنك
تصوم ولا تفطر وتصلي)؟ أي الليل (ولا تنام فصم وأفطر)
بهمزة قطع (وقم ونم، فإن لعينك) بالإِفراد ولغير السرخسي
والكشميهني
كما في الفتح: لعينيك بالتثنية (عليك حظًا) بالظاء المعجمة
بدل القاف أي نصيبًا من النوم (وإن لنفسك وأهلك عليك حظًا)
بالظاء المعجمة أيضًا وحق النفس الرفق بها والأهل في الكسب
والقيام بنفقتهم ولا يدئب نفسه بحيث يضعف عن القيام بما
يجب من ذلك (قال) عبد الله (إني لأقوى لذلك) أي لسرد الصوم
دائمًا ولابن عساكر إني لأقوى ذلك كذا في اليونينية بإسقاط
حرف الجر وفي نسخة على ذلك (قال): عليه الصلاة والسلام:
(فصم صيام داود عليه السلام) (قال) عبد الله يا رسول الله
(وكيف)؟ أي صيام داود كما في مسلم (قال): عليه الصلاة
والسلام (كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفر) أي لا يهرب
(إذا لاقى) العدو أشار به إلى أن الصوم على هذا الوجه لا
ينهك البدن بحيث يضعف عن لقاء العدو بل يستعان بفطر يوم
على صيام يوم فلا يضعف عن الجهاد وغيره من الحقوق. (قال)
عبد الله (من لي بهذه) الخصلة الأخيرة وهي عدم الفرار أي
من يتكفل لي بها (يا نبي الله. قال عطاء): هو ابن أبي رباح
بالإسناد السابق (لا أدري كيف ذكر) بفتحات (صيام الأبد) أي
لا أحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة إلا أني أحفظ
أنه (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (لا
صام من صام الأبد مرتين) استدلّ به من قال بكراهة صوم
الدهر لأن قوله: لا صام يحتمل الدعاء ويحتمل الخبر.
قال ابن العربي: إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه
دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإن كان
معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعًا فلم يكتب له ثواب
لوجوب صدق قوله عليه الصلاة والسلام لأنه نفى عنه الصوم
وقد نفى عنه الفضل كما تقدم فكيف يطلب الفضل فيما نفاه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأجيب بأجوبة:
أحدها: أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيد والتشريق.
قال النووي: وبهذا أجابت عائشة اهـ.
وهو اختيار ابن المنذر وطائفة، وتعقب بأنه عليه الصلاة
والسلام قال جوابًا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر
وهو يؤذن بأنه لا أجر ولا إثم، ومن صام الأيام المحرمة لا
يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام
المحرمة يكون قد فعل مستحبًا وحرامًا، وأيضًا فإن الأيام
المحرمة مستثناة في الشرع غير قابلة للصوم شرعًا فهي
بمنزلة الليل وأيام الحيض فلم تدخل في السؤال عند من علم
بتحريمها ولا يصلح الجواب بقوله: لا صام ولا أفطر لمن لم
يعلم بتحريمها قاله في فتح الباري.
الثاني: أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقًا ويؤيده
أن النهي كان خطابًا لعبد الله بن عمرو بن العاصي، وقد ذكر
مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل
الرخصة.
الثالث: أن معناه الخبر عن كونه لم يجد من المشقّة ما يجد
غيره لأنه إذا اعتاد ذلك لم يجد في صومه مشقة، وتعقبه
الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث ألا تراه كيف نهاه أولاً
عن صيام الدهر كله ثم حثه على صوم داود عليه الصلاة
والسلام والأولى أن يكون خبرًا عن أنه لم يمتثل أمر الشرع.
58 - باب صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ
(باب صوم يوم وإفطار يوم).
1978 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ مُجَاهِدًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
-رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «صُمْ مِنَ الشَّهْرِ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ
يَوْمًا، فَقَالَ اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كلِّ شَهْرٍ،
قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ، فَمَا زَالَ حَتَّى
قَالَ: فِي ثَلاَثٍ".
وبالسند قال (حدّثنا محمد بن بشار) بتشديد المعجمة قال:
(حدّثنا غندر) هو محمد بن جعفر البصري قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج (عن مغيرة) بن مقسم الضبي الكوفي (قال: سمعت
مجاهدًا عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال) له:
(صم من الشهر ثلاثة أيام) زاد في باب صيام الدهر وذلك مثل
صيام الدهر (قال) إني (أطيق أكثر من ذلك) فما زال حتى قال:
(صم يومًا وأفطر يومًا) زاد في الباب المذكور فذلك صيام
داود وهو أفضل
(3/407)
الصيام (فقال): عليه الصلاة والسلام (اقرأ
القرآن في كل شهر)، (قال) عبد الله: (إني أطيق أكثر)، من
ذلك (فما زال) عليه الصلاة والسلام (حتى قال): عليه الصلاة
والسلام اقرأه (في ثلاث) أي ثلاث ليال.
ولمسلم من طريق أبي سلمة قال عن عبد الله بن عمرو قال: كنت
أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة قال: فإما ذكر للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإما أرسل إليّ
فأتيته فقال: ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل
ليلة؟ فقلت: بلى يا نبي الله الحديث وفيه قال: اقرأ القرآن
في كل شهر. قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال:
فاقرأه في كل عشرين. قال: قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل
من ذلك. قال: فاقرأه في كل عشر. قلت: يا نبي الله إني أطيق
أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد. قال في المصابيح:
ولهذا منع كثير من العلماء الزيادة على السبع. قال النووي:
وقد كان بعضهم يختم في كل شهر وهو أقله وأما أكثره فثمان
ختمات في اليوم والليلة على ما بلغنا اهـ.
وفي سنة سبع وستين وثمانمائة رأيت بالقدس الشريف شيخًا
يدعى بأبي الطاهر من أصحاب الشيخ ابن رسلان قيل: إنه جاوز
العشر في اليوم والليلة فالله أعلم، بل أخبرني شيخ الإسلام
البرهان بن أبي شريف المقدسي أمتع الله بحياته عنه أنه
يقرأ خمس عشرة ختمة، وفي الصفوة عن منصور بن زاذان أنه كان
يختم بين المغرب والعشاء ختمتين ويبلغ في الختمة الثالثة
إلى الطواسين.
59 - باب صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ
(باب صوم داود عليه الصلاة والسلام) عقبه بسابقه إشارة إلى
الاقتداء بداود عليه الصلاة والسلام في صوم يوم وإفطار
يوم.
1979 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
الْعَبَّاسِ الْمَكِّيَّ -وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ لاَ
يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ- قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ
لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ،
فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ
هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لاَ
صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ
يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى».
وبالسند قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج قال: (حدّثنا حبيب بن أبي ثابت) الأسدي الأعور.
(قال: سمعت أبا العباس المكي وكان شاعرًا) والشاعر قد يتهم
فيما يحدث به لما تقتضيه صناعته من المبالغة في الإطراء
(و) لكن هذا (كان لا يتهم في حديثه) مرويه من الحديث وغيره
وقد وثقه أحمد وابن معين وغيرهما وليس له في البخاري سوى
هذا الحديث وآخر في الجهاد وآخر في المغازي وأعادهما في
الأدب (قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله
عنهما- قال: قال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل)، (فقلت: نعم، قال): عليه
الصلاة والسلام (إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين) بفتح
الهاء والجيم أي غارت وضعف بصرها (ونفهت) بفتح النون وكسر
الفاء أي تعبت وكلت (له النفس) وفي رواية النسفيّ كما في
الفتح: نثهت بالمثلثة بدل الفاء واستغربها ابن التين، وقال
ابن حجر: وكأنها أبدلت من الفاء فإنها تبدل منها كثيرًا.
قال العيني: لم يذكر لذلك مثالاً ولا نسبه إلى أحد من أهل
العربية ولم يذكر هذا أحد في الحروف التي يبدل بعضها من
بعض فإن كان يوجد فربما يوجد في لسان ذي لثغة فلا يبنى
عليه شيء اهـ.
قلت: وقد وقع إبدال الثاء بالفاء في قوله تعالى: {فومها}
أي ثومها فلا وجه لإنكار ذلك ولأبي الوقت وابن عساكر: نهثت
بنون فهاء فمثلثة مفتوحات، وللكشميهني: نهكت بهاء بعد
النون ثم كاف بفتحات في بعض الأصول وفي بعضها بكسر الهاء
وفي الفرع كشط الضبط. قال في فتح الباري: أي هزلت وضعفت.
قال العيني: ولا وجه له إلا إذا ضم النون من نهكته الحمى
إذا أضنته اهـ
وقال الأبي: وضبطه بعضهم بضم النون وكسر الهاء وفتح الكاف
وهو ظاهر كلام عياض.
وقال في القاموس: نهكه كمنعه نهاكة غلبة والحمى أضنته
وهزلته وجهدته كنهكته كفرح نهكًا ونهكًا ونهكة ونهاكة أو
النهك المبالغة في كل شيء ونهكه السلطان كسمعه نهكًا ونهكة
بالغ في نهكته عقوبته كأنهكه (لا صام من الدهر)، لأن منه
العيد والتشريق والصوم فيها حرام قال الخطابي يحتمل أنه
دعاء ويحتمل أن لا بمعنى لم نحو فلا صدق ولا صلّى اهـ.
فهو على هذا التقدير خبر لأن لم تخلص للمضي، وقد تقدم ما
فيه من البحث قريبًا في سابق سابقه (صوم ثلاثة أيام) أي من
كل شهر (صوم الدهر كله). أي بالتضعيف كما مرّ فإن الحسنة
بعشر أمثالها. قال عبد الله
(3/408)
(قلت) يا رسول الله (فإني أطيق أكثر من ذلك
قال): عليه الصلاة والسلام (فصم صوم داود عليه السلام كان)
ولابن عساكر: وكان (يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفر إذا
لاقى) العدو لأنه يستعين بيوم فطره على يوم صومه فلم يضعفه
ذلك عن لقاء عدوه.
1980 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا
خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ
أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَىَّ،
فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ،
فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِي
وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
... قَالَ: خَمْسًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ...
قَالَ: سَبْعًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ... قَالَ:
تِسْعًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ... قَالَ: إِحْدَى
عَشْرَةَ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ -
عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: شَطْرَ الدَّهْرِ، صُمْ يَوْمًا
وَأَفْطِرْ يَوْمًا".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق الواسطي) ولأبوي ذر والوقت: إسحاق
بن شاهين الواسطي قال: (حدّثنا خالد) هو الطحان الواسطي
ولأبي ذر وابن عساكر: خالد بن عبد الله (عن خالد) ولأبوي
ذر والوقت وابن عساكر: زيادة الحذاء (عن أبي قلابة) عبد
الله بن زيد الجرمي (قال أخبرني) ولأبي الوقت: حدثني
بالإفراد فيهما (أبو المليح) بفتح الميم وكسر اللام وسكون
المثناة التحتية آخره حاء مهملة اسمه عامر أو زيد بن أسامة
بن عمير الهذلي (قال: دخلت مع أبيك) زيد بن عمرو الجرمي
فالخطاب لأبي قلابة (على عبد الله بن عمرو) هو ابن العاصي
(فحدّثنا) أي والد أبي قلابة (أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح المثلثة (ذكر له صومي)
بضم الذال مبنيًّا للمفعول (فدخل عليّ) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف
فجلس على الأرض) تواضعًا وتركًا للاستئثار على عادته
الشريفة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وزاده شرفًا
(وصارت الوسادة بيني وبينه فقال): لي.
(أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (يكفيك من كل شهر ثلاثة
أيام) (قال) عبد الله (قلت) لا يكفيني الثلاث من كل شهر
(يا رسول الله قال): عليه الصلاة والسلام: صم (خمسًا) من
كل شهر، ولأبي ذر عن الكشميهني: خمسة بالتأنيث على إرادة
الأيام والأول على إرادة الليالي وفيه تجوّز (قلت) لا
تكفيني الخمسة (يا رسول الله، قال) عليه الصلاة والسلام صم
(سبعًا) أي من كل شهر ولأبي ذر عن الكشميهني: سبعة
بالتأنيث كما مر قال عبد الله: (قلت) لا تكفيني السبعة (يا
رسول الله قال): عليه الصلاة والسلام صم (تسعًا) من كل شهر
وللكشميهني تسعة كما سبق قال عبد الله: (قلت) لا تكفيني
(يا رسول الله قال): عليه الصلاة والسلام صم: (إحدى عشرة)
بكسر الهمزة وسكون الحاء والشين من عشرة وآخره هاء تأنيث
وللكشميهني أحد عشر (ثم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (لا صوم) أي
لا فضل ولا كمال في صوم التطوّع (فوق صوم داود عليه
السلام): وفيه ما مر من كونه أفضل من صوم الدهر أو الخطاب
خاص بعبد الله ويلحق به من في معناه ممن يضعفه عن الفرائض
والحقوق (شطر الدهر)، أي: نصفه وهو بالرفع خبر مبتدأ محذوف
أي هو شطر الدهر والجر بدل من قوله صوم داود، وهذان
الوجهان رواية أبي ذر كما في الفرع ولغيره شطر بالنصب على
أنه مفعول فعل مقدّر أي هاك أو خذ أو نحو ذلك (صم يومًا
وأفطر يومًا) وفي رواية عمر بن عون: صيام يوم وإفطار يوم
ويجوز فيه الأوجه الثلاثة السابقة.
60 - باب صِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ
(باب صيام أيام) الليالي (البيض): وسقط لأبي الوقت وابن
عساكر لفظ أيام وفي الفتح أنه رواية الأكثر وإثبات أيام
رواية الكشميهني والأول هو الذي في الفرع والبيض صفة
لمحذوف وهو الليالي وسميت بذلك لأنها مقمرة لا ظلمة فيها
وهي (ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ليلة البدر وما
قبلها وما بعدها يكون القمر فيها من أول الليل إلى آخره،
ولأبي ذر عن الكشميهني: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر
وهذا باعتبار الأيام والأول باعتبار الليالي ولا يقال
البيض صفة للأيام كما لا يخفى.
وأما قوله في الفتح: إن اليوم الكامل هو النهار بليلته
وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام لأن ليلها أبيض
ونهارها أبيض فصح قوله الأيام البيض على الوصف فتعقبه في
عمدة القاري بأن قوله أن اليوم الكامل هو النهار بليلته
غير صحيح لأن اليوم الكامل في اللغة من طلوع الشمس إلى
غروبها وفي الشرع من طلوع الفجر الصادق وليس لليلة دخل في
حد النهار، وأما قوله ونهارها أبيض فيقتضي أن بياض نهار
أيام البيض من بياض الليلة وليس كذلك لأن صيام الأيام كلها
بالذات وأيام الشهر كلها بيض فسقط قوله وليس في الشهر يوم
أبيض كله إلا هذه الأيام اهـ.
وهذا الذي قاله في الفتح سبقه إليه
(3/409)
ابن المنير فقال: وأنكر بعض اللغوين أن
يقال الأيام البيض وقال: إنما هي الليالي البيض وإلاّ
فالأيام كلها بيض وهذا وهم منه، والحديث يرد عليه أي ما
ذكره ابن بطال عن شعبة عن أنس بن سيرين عن عبد الملك بن
المنهال عن أبيه قال أمرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالأيام البيض وقال هو صوم الدهر. قال: واليوم
اسم يدخل فيه الليل والنهار وما كل يوم أبيض بجملته إلا
هذه الأيام فإن نهارها أبيض وليلها أبيض فصارت كلها بيضًا
وأظنه سبق إلى وهمه أن اليوم هو النهار خاصة اهـ.
قال في المصابيح: الظاهر أن مثل هذا ليس بوهم فإن اليوم
وإن كان عبارة عن الليل والنهار جميعًا لكنه بالنسبة إلى
الصوم إنما هو النهار خاصة وعليه فكل يوم يصام هو أبيض
لعموم الضوء فيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس اهـ.
وقال في الأنصاف: سميت بيضًا لابيضاضها ليلاً بالقمر
ونهارًا بالشمس، وقيل لأن الله تعالى تاب فيها على آدم
وبيض صحيفته.
1981 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه- قَالَ: "أَوْصَانِي خَلِيلِي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَلاَثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَىِ الضُّحَى،
وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين وسكون العين
المهملة بينهما عبد الله بن عمرو المنقري المقعد قال:
(حدّثنا عبد الوارث) بن سهل التميمي قال: (حدّثنا أبو
التياح) بفتح المثناة الفوقية وتشديد التحتية آخره حاء
مهملة يزيد بن حميد الضبعي (قال: حدثني) بالإفراد (أبو
عثمان) هو عبد الرحمن النهدي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
قال): (أوصاني خليلي) رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر)، بجر صيام
بدل من ثلاث ولم يعين الأيام بل أطلقها.
واستشكلت المطابقة بين الترجمة والحديث، وأجيب: بأن
المؤلّف جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق
الحديث عند النسائي وصححه ابن حبان من طريق موسى بن طلحة
عن أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأرنب قد شواها فأمرهم أن يأكلوأ
وأمسك الأعرابيّ فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: إني أصوم
ثلاثة أيام من كل شهر قال: إن كنت صائمًا فصم الغر آي
البيض وهذا الحديث اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافًا
كثيرًا بينه وبين الدارقطني.
وفي بعض طرقه عند النسائي إن كنت صائمًا فصم البيض ثلاث
عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وعنده أيضًا من حديث جرير بن
عبد الله عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وأيام البيض
ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وإسناده صحيح، وفي رواية
أيام البيض بغير واو ففيه استحباب صوم الثلاثة التي أولها
الثالث، والمعنى فيه أن الحسنة بعشر أمثالها فصومها كصوم
الشهر ومن ثم سن صوم ثلاثة أيام من كل شهر ولو غير أيام
البيض كما في البحر وغيره لإطلاق حديث الباب وغيره.
قال السبكي: والحاصل أنه يسن صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن
تكون أيام البيض فإن صامها أتى بالسنتين وتترجح البيض
بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله ولأن الكسوف غالبًا يقع
فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع.
وسئل الحسن البصري: لم صام الناس الأيام البيض وأعرابي
يسمع؟ فقال الأعرابي: لأنه لا يكون الكسوف إلا فيهن ويحب
الله أن لا تكون في السماء آية إلا كان في الأرض عبادة،
والاحتياط صوم الثاني عشر مع أيام البيض لأن في الترمذي
أنها الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، ورجح بعضهم صيام
الثلاثة في أول كل شهر لأن المرء لا يدري ما يعرض له من
الموانع.
وفي حديث ابن مسعود عند أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصوم ثلاثة
أيام من كل شهر، وقال بعضهم: يصوم من أول كل عشرة أيام
يومًا. وفي حديث عبد الله بن عمر وعند النسائي: صم من كل
عشرة أيام يومًا.
وروى أبو داود والنسائي من حديث حفصة: كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام
الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى.
وروى الترمذي عن عائشة: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين
ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، وقد جمع
البيهقي بين ذلك وبين ما قبله بما في مسلم عن عائشة قالت:
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم
من كل شهر
(3/410)
ثلاثة أيام ما يبالي من أي الشهر صام قال:
فكل من رآه فعل نوعًا ذكره وعائشة رأت جميع ذلك وغيره
فأطلقت.
وروى أبو داود عن أم سلمة قالت: كان رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرتي أن أصوم ثلاثة أيام من
كل شهر أولها الاثنين والخميس، والمعروف من قول مالك كراهة
تعيين أيام النفل أو يجعل لنفسه شهرًا أو يومًا يلتزم
صومه، وروي عنه كراهة تعمد صيام الأيام البيض وقال: ما كان
ببلدنا. وروي عنه أنه كان يصومها وأنه كتب إلى الرشيد يحضه
على صومها. قال ابن رشد: وإنما كرهها لسرعة أخذ الاسم
بمذهبه فيظن الجاهل وجوبها، والمشهور من مذهبه استحباب
ثلاثة أيام من كل شهر وكراهة كونها البيض لأنه كان يفر من
التحديد.
وقال الماوردي: ويسن صوم أيام السود الثامن والعشرين
وتالييه، وينبغي أيضًا أن يصام معها السابع والعشرون
احتياطًا، وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي
الأولى بالنور وليالي الثانية بالسواد فناسب صوم الأولى
شكرًا والثانية لطلب كشف السواد، ولأن الشهر ضيف قد أشرف
على الرحيل فناسب تزويده بذلك والحاصل مما سبق أقوال.
أحدها: استحباب ثلاثة أيام من الشهر غير معينة.
الثاني: استحباب الثالث عشر وتالييه وهو مذهب الشافعي
وأصحابه وابن حبيب من المالكية وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد.
الثالث: استحباب الثاني عشر وتالييه وهو في الترمذي.
الرابع: استحباب ثلاثة أيام من أوّل الشهر.
الخامس: السبت والأحد والاثنين من أول شهر ثم الثلاثاء
والأربعاء والخميس من أوّل الشهر الذي يليه.
السادس: استحبابها في آخر الشهر.
السابع: أولها الخميس والاثنين والخميس.
الثامن: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى.
التاسع: أن يصوم من أوّل كل عشرة أيام يومًا.
(وركعتي الضحى) عطف على السابق أي: قال أبو هريرة: وأوصاني
خليلي عليه الصلاة والسلام بصلاة ركعتي الضحى، وزاد أحمد
في كل يوم (وأن أوتر) أي وبالوتر (قبل أن أنام) وليست
الوصية بذلك خاصة بأبي هريرة، فقد وردت وصيته عليه الصلاة
والسلام بالثلاث أيضًا لأبي ذر كما عند النسائي، ولأبي
الدرداء كما عند مسلم، وقيل في تخصيص الثلاثة بالثلاثة
لكونهم فقراء لا مال لهم فوصاهم بما يليق بهم وهو الصوم
والصلاة وهما من أشرف العبادات البدنية.
وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة والقول، ورواته الأول
بصريون، وأبو عثمان كوفي نزل البصرة، وقد مضى في باب: صلاة
الضحى في السفر.
61 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
(باب من زار قومًا) وهو صائم في التطوّع (فلم يفطر عندهم).
1982 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ:
حَدَّثَنِي خَالِدٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا
حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- "دَخَلَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمِّ
سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: أَعِيدُوا
سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ
فَإِنِّي صَائِمٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ
الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأُمِّ
سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا. فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي خُوَيْصَةً، قَالَ: مَا
هِيَ؟
قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ. فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ
وَلاَ دُنْيَا إِلاَّ دَعَا لِي بِهِ: اللَّهُمَّ
ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ. فَإِنِّي
لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالاً. وَحَدَّثَتْنِي
ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ
حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ".
قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى قَالَ:
حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث
1982 - أطرافه في: 6334، 6344، 6378، 6380].
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي البصري الزمن
(قال: حدثني) بالإفراد ولأبي الوقت حدّثنا (خالد هو ابن
الحرث) بينه لرفع الإيهام لاشتراك من يسمى خالدًا في
الرواية عن حميد الآتي ممن يمكن أن يروي عنه ابن المثنى
وخالد هذا هو الهجيمي قال: (حدّثنا حميد) الطويل البصري
(عن أنس -رضي الله عنه-) أنه قال: (دخل النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أم سليم)، والدة أنس
المذكور واسمها الغميصاء بالغين المعجمة والصاد المهملة أو
الرميصاء بالراء بدل المعجمة وقيل اسمها سهلة. وعند أحمد
من طريق حماد عن ثابت عن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل على أم حرام وهي خالة أنس لكن في
بقية
الحديث ما يدل على أنهما معًا كانتا مجتمعتين (فأتته) أم
سليم (بتمر وسمن) على سبيل الضيافة (قال) عليه الصلاة
والسلام:
(أعيدوا سمنكم في سقائه) بكسر السين ظرف الماء من الجلد
وربما جعل فيه السمن والعسل (و) أعيدوا (تمركم في وعائه
فإني صائم) (ثم قام إلى ناحية من البيت فصلّى غير
المكتوبة).
وفي رواية أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد فصلّى ركعتين
وصلينا معه (فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا
رسول الله إن لي خويصة) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو
وسكون المثناة التحتية وتشديد الصاد المهملة تصغير خاصة
وهو مما اغتفر فيه التقاء الساكنين أي الذي يختص بخدمتك
(قال) عليه الصلاة والسلام: (ما هي)
(3/411)
الخويصة (قالت) هو (خادمك أنس). فادع له
دعوة خاصة وصغرته لصغر سنه، وقولها أنس رفع عطف بيان أو
بدل، ولأحمد من رواية ثابت المذكورة أن لي خويصة خويدمك
أنس ادع الله له قال أنس: (فما ترك خير آخرة ولا) خير
(دنيا إلا دعا لي به). قال في الكشاف في قوله تعالى: {إنما
صنعوا كيد ساحر} [طه: 69].
فإن قلت: فلم نكر أوّلاً وعرّف ثانيًا؟ قلت: إنما نكر من
أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج:
يوم ترى النفوس ما أعدّت ... في سعي دنيا طالما قد مدّت
وفي حديث عمر -رضي الله عنه-: لا في أمر دنيا ولا في أمر
آخرة أراد تنكير الأمر كأنه قيل: إنما صنعوا كيد سحري وفي
سعي دنيوي وأمر دنيوي وأخروي اهـ.
فتنكير الآخرة هنا القصد به تنكير خير المضاف إليهما أي:
ما ترك خيرًا من خيور الآخرة ولا خيرًا من خيور الدنيا إلا
دعا لي به، لكن تعقب أبو حيان في البحر الزمخشري بأن قول
العجاج في سعي دنيا محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث
الأدنى ولا يستعمل تأنيثه إلا بالألف واللام أو بالإضافة.
قال: وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة اهـ.
وعند أحمد من رواية عبيدة بن حميد عن حميد فكان من قوله أي
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اللهم أرزقه
مالاً وولدًا وبارك له" وزاد أبو ذر وابن عساكر ونسبها
الحافظ ابن حجر للكشميهني فيه بالتوحيد باعتبار المذكور،
ولأحمد فيهم بالجمع اعتبارًا بالمعنى (فإني لمن أكثر
الأنصار مالاً) نصب على التمييز، وفاء فإني لتفسير معنى
البركة في ماله، واللام في قوله لمن للتأكيد، ولم يذكر
الراوي ما دعا له به من خير الآخرة اختصارًا، ويدل له ما
رواه ابن سعد بإسناد صحيح عن الجعد عن أنس قال: اللهم أكثر
ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه أو أن لفظ بارك إشارة إلى
خير الآخرة أو المال والولد الصالحان من جلة خير الآخرة
لأنهما يستلزمانها قاله البرماوي كالكرماني.
قال أنس: (وحدثتني ابنتي أمينة) بضم الهمزة وفتح الميم
وسكون المثناة التحتية وفتح النون ثم هاء تأنيث تصغير آمنة
(أنه دفن) بضم الدال مبنيًا للمفعول من ولدي (لصلبي) أي
غير أسباطه وأحفاده (مقدم) مصدر وسمي بالنصب على نزع
الخافض أي أن الذي مات من أول أولاده إلى مقدم (حجاج)
ولأبي ذر: مقدم الحجاج أي ابن يوسف الثقفي (البصرة) سنة
خمس وسبعين وكان عمر أنس إذ ذاك نيفًا وثمانين سنة (بضع
وعشرون ومائة) بكسر الموحدة وقد تفتح ما بين الثلاث إلى
التسع والبصرة نصب بمقدم بمعنى قدوم ويقدر قلبه زمان قدومه
البصرة إذ لو جعل مقدم اسم زمان لم ينصب مفعولاً قاله
البرماوي كالكرماني.
ورواة هذا الحديث كلهم بصريون.
وبه قال (حدّثنا) ولأبوي ذر والوقت: قال (ابن أبي مريم)
سعيد الجمحي المصري فعلى الأول يكون موصولاً (أخبرنا يحيى)
ولأبوي ذر والوقت: يحيى بن أيوب الغافقي المصري (قال:
حدثني) بالإفراد (حميد) الطويل أنه (سمع أنسًا -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
وفائدة ذكر هذه الطريق بيان سماع حميد لهذا الحديث من أنس
لما اشتهر من أن حميدًا كان ربما دلس على أنس وقد طرح
زائدة حديثه لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وقد اعتنى
البخاري في تخريجه لأحاديث حميد بالطرق التي فيها تصريحه
بالسماع بذكرها متابعة وتعليقًا وروى له الباقون.
62 - باب الصَّوْمِ من آخِر الشَّهْرِ
(باب الصوم آخر الشهر) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: من
آخر الشهر.
1983 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا
مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلاَنَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو
النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ
حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. أَنَّهُ سَأَلَهُ
-أَوْ سَأَلَ رَجُلاً وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ- فَقَالَ: يَا
أَبَا فُلاَنٍ أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟
قَالَ: يَظُنُّهُ قَالَ يَعْنِي رَمَضَانَ، قَالَ
الرَّجُلُ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِذَا
أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ، لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ:
أَظُنُّهُ يَعْنِي رَمَضَانَ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ ثَابِثٌ عَنْ
مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ».
(حدّثنا الصلت بن محمد) أبو همام الخاركي بخاء معجمة قال
(حدّثنا مهدي) بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الدال ابن
ميمون المعولي الأزدي بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو
البصري (عن غيلان) بالغين المعجمة ابن جرير المعولي الأزدي
البصري أيضًا قال المؤلّف: (ح).
(وحدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا
مهدي بن ميمون) المعولي قال: (حدّثنا غيلان بن جرير)
المعولي (عن مطرف) بضم الميم وكسر الراء مشددة ابن عبد
الله بن الخير
بكسر الشين والخاء المشدّدتين المعجمتين آخره
(3/412)
راء العامري (عن عمران بن حصين) أسلم عام
خيبر وتوفي سنة اثنتين وخمسين (-رضي الله عنهما- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (سأله) أي عمران (أو سأل رجلاً) شك من
مطرف وزاد أبو عوانة في مستخرجه من أصحابه (وعمران يسمع)
جملة حالية (فقال):
(يا أبا فلان) قال الحافظ ابن حجر كذا في نسخة من رواية
أبي ذر بأداة الكنية وللأكثر يا فلان بإسقاطها "أما"
بالتخفيف (صمت سرر هذا الشهر) بفتح السين وكسرها وحكى
القاضي عياض ضمها وقال: هو جمع سرة ويقال سرار الشهر
وسراره بكسر السين وفتحها ذكره ابن السكيت وغيره قيل:
والفتح أفصح قاله الفراء، واختلف في تفسيره والمشهور أنه
آخر الشهر وهو قول الجمهور من أهل اللغة والغريب والحديث،
وسمي بذلك لاستسرار القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع
وعشرين وثلاثين يعني استتاره وهذا موافق لما ترجم له هنا.
واستشكل بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند
الشيخين السابق: لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان
يصوم يومًا فليصمه.
وأجيب: بأن الرجل كان معتادًا لصيام سرر الشهر أو كان قد
نذره فلذلك أمره بقضائه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقالت طائفة: سرر الشهر أوّله وبه قال الأوزاعي وسعيد بن
عبد العزيز فيما حكاه أبو داود.
وأجيب: بأنه لا يصح أن يفسر سرر الشهر وسراره بأوّله لأن
أوّل الشهر يشتهر فيه الهلال ويرى من أوّل الليل ولذلك سمي
الشهر شهرًا لاشتهاره وظهوره عند دخوله فتسمية ليالي
الاشتهار ليالي السرار قلب للغة والعرف، وقد أنكر العلماء
ما رواه أبو داود عن الأوزاعي منهم الخطابي وقيل: السرر
وسطه وحكاه أبو داود أيضًا ورجحه بعضهم، ووجهه بأن السرر
جمع سرة وسرة الشيء وسطه وأيدوه بما ورد من استحباب صوم
أيام البيض. وفي رواية مسلم من حديث عمران بن حصين المذكور
هل صمت من سرة هذا الشهر وفسر بالأيام البيض.
وأجيب: بأن الأظهر أنه الآخر كما قال الأكثر لقوله فإذا
أفطرت فصم يومين من سرر هذا الشهر والمشار إليه شعبان ولو
كان السرر أوّله أو وسطه لم يفته.
(قال) أبو النعمان (أظنه قال: يعني رمضان)، لم يقل الصلت
ذلك لكن روى الجوزقي من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن أبي
النعمان بدون ذلك قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب. (قال
الرجل: لا يا رسول الله) ما صمته (قال) (فإذا أفطرت) أي من
رمضان كما في مسلم (فصم يومين) بعد العيد عوضًا عن سرر
شعبان (لم يقل الصلت أظنه يعني رمضان قال أبو عبد الله):
أي البخاري وسقط ذلك في رواية ابن عساكر، (وقال ثابت) فيما
وصله مسلم (عن مطرف) المذكور (عن عمران) بن حصين (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (من سرر شعبان)
وليس هو برمضان كما ظنه أبو النعمان
ونقل الحميدي عن البخاري أنه قال شعبان أصح، وقال الخطابي
ذكر رمضان هنا وهم لأن رمضان يتعين صوم جميعه.
ورواة الحديث الأول بصريون وأضاف رواية أبي النعمان إلى
الصلت لما وقع فيها من تصريح مهدي بالتحديث عن غيلان،
وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
63 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا أَصْبَحَ
صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ
(باب صوم يوم الجمعة، فإذا) بالفاء ولأبوي ذر والوقت وابن
عساكر: وإذا (أصبح صائمًا يوم الجمعة فعليه أن يفطر) زاد
في رواية أبوي ذر والوقت: يعني إذا لم يصم قبله ولا يريد
أن يصوم بعده. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الزيادة تشبه أن
تكون من الفربري أو ممن دونه فإنها لم تقع في رواية النسفي
عن البخاري، ويبعد أن يعبر البخاري عما يقوله بلفظ يعني
ولو كان ذلك من كلامه لقال أعني بل كان يستغني عنها أصلاً
ورأسًا، واعترضه العيني بأن عدم وقوع الزيادة في رواية
النسفيّ لا يستلزم وقوعها من غيره وليس قوله يعني ببعيد
فكأنه جعل قوله: وإذا أصبح صائمًا فعليه أن يفطر لغيره
بطريق التجريد ثم أوضحه بقوله: يعني فافهم فإنه دقيق اهـ.
فليتأمل ما فيه من التكلف.
1984 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادٍ قَالَ: "سَأَلْتُ جَابِرًا -رضي الله عنه-:
أنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ". زَادَ
غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ "يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو عاصم) النبيل الضحاك (عن ابن
جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن عبد الحميد بن جبير)
بضم الجيم وفتح الموحدة مصغرًا ولأبي
(3/413)
ذر زيادة ابن شيبة وهو ابن عثمان بن طلحة
الحجبي (عن محمد بن عباد) بفتح العين وتشديد الموحدة
المخزومي (قال: سألت جابرًا) هو ابن عبد الله الأنصاري
(-رضي الله عنه-) زاد مسلم وغيره وهو يطوف بالبيت (نهى)
بحذف همزة الاستفهام ولأبوي ذر والوقت: (أنهى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم يوم الجمعة؟
قال: نعم) زاد مسلم ورب هذا البيت، وللنسائي: ورب الكعبة،
وعزاها في العمدة لمسلم فوهم والظاهر أنه نقله بالمعنى قال
البخاري: (زاد غير أبي عاصم) النبيل من الشيوخ وهو فيما
جزم به البيهقي يحيى بن سعيد القطان (أن ينفرد) يوم الجمعة
(بصوم) ولأبوي ذر والوقت: يعني أن ينفرد بصومه والحكمة في
كراهة إفراده بالصوم خوف أن يضعف إذا صامه عن الوظائف
المطلوبة منه فيه، ومن ثم خصصه البيهقي والماوردي وابن
الصباغ والعمراني نقلاً عن مذهب الشافعي بمن يضعف به عن
الوظائف
وتزول الكراهة بجمعه مع غيره، لكن التعليل بأن الصوم يضعف
عن الوظائف المطلوبة يوم الجمعة يقتضي أنه لا فرق بين
الإفراد والجمع.
وأجاب في شرح المهذّب بأنه إذا جمع الجمعة حصل له بفضيلة
صوم غيره ما يجبر ما حصل فيها من النقص، وقيل، الحكمة فيه
أنه لا يتشبه باليهود في إفرادهم صوم يوم الاجتماع في
معبدهم.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة في الصوم.
1985 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) النخعي الكوفي قال:
(حدّثنا أبي) حفص بن غياث بن طلق بن معاوية بن الحرث بن
ثعلبة قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا
أبو صالح) ذكوان الزيات (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(لا يصومن أحدكم يوم الجمعة) ولأبي ذر عن الكشميهني
والمستملي: لا يصوم. وقال الحافظ ابن حجر: للأكثر لا يصوم
بلفظ النفي والمراد به النهي وللكشميهني: لا يصومن بلفظ
النهي المؤكد (إلا) أن يصوم (يومًا قبله) وهو يوم الخميس
(أو) يصوم يومًا (بعده) وهو السبت.
وفي المستدرك من حديث أبي هريرة مرفوعًا يوم الجمعة عيد
فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو
بعده وقال: صحيح الإسناد إلا أن أبا بشر لم أقف له على اسم
فقيل العلة كونه عيدًا كما في الحديث.
وعند ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علّي: من كان منكم
متطوّعًا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة
فإنه يوم طعام وشراب.
وذكر لمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش: لا يصم أحدكم
يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده، وله أيضًا من
طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة: لا تخصوا ليلة
الجمعة بقيام من بين الليالي ولا يوم الجمعة بصيام من بين
الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم.
وهذه الأحاديث تفيد النهي المطلق في حديث جابر، والزيادة
السابقة من تقييد الإطلاق بالإفراد ويؤخذ من الاستثناء
الوارد في حديث مسلم جوازه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة
بصومها كأن اعتاد صوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوم الجمعة
فلا كراهة كما في صوم يوم الشك. واستشكل زوال الكراهة
بتقدم صوم قبله أو بعده بكراهة صوم يوم عرفة فإن كراهة
صومه أو كونه على خلاف الأولى على ما رجحه محققو أصحابنا
لا يزول بصوم قبله.
وأجيب: بأن في اليوم قبله اشتغالاً بالتروية والإحرام
بالحج لمن لم يكن محرمًا ففيه شيء من معنى يوم عرفة،
واختلف في صوم يوم الجمعة على أقوال: كراهته مطلقًا
وإباحته مطلقًا من غير كراهة وهو قول مالك وأبي حنيفة
ومحمد بن الحسن وكراهة إفراده وهو مذهب الشافعية، والرابع
أن النهي مخصوص بمن يتحرى صيامه ويخصه دون غيره فمتى صام
مع صومه يومًا غيره فقد خرج عن النهي، وهذا يردّه قوله
عليه الصلاة والسلام لجويرية أصمت أمس الحديث الآتي قريبًا
إن شاء الله تعالى، والخامس: أنه يحرم إلا لمن صام قبله أو
بعده أو وافق عادته وهو قول ابن حزم لظواهر الأحاديث ويكره
أيضًا إفراد يوم السبت أو الأحد بالصوم لحديث الترمذي
وحسنه والحاكم وصححه على شرط الشيخين لا تصوموا يوم السبت
إلا فيما افترض
(3/414)
عليكم ولأن اليهود تعظم يوم السبت والنصارى
يوم الأحد ولا يكره جمع السبت مع الأحد لأن المجموع لم
يعظمه أحد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وابن ماجه في الصوم.
1986 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
شُعْبَةَ ح. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ
عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ -رضي الله عنها-
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهْيَ صَائِمَةٌ
فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ:
تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ:
فَأَفْطِرِي".
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ
حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ: "أَنَّ جُوَيْرِيَةَ
حَدَّثَتْهُ فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن شعبة) بن الحجاج (ح) مهملة لتحويل
السند.
(وحدثني) بالإفراد (محمد) غير منسوب وجزم أبو نعيم في
مستخرجه أنه ابن بشار الذي يقال له بندار قال: (حدّثنا
غندر) هو محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن
قتادة) بن دعامة (عن أبي أيوب) الأنصاري (عن جويرية) تصغير
جارية (بنت الحرث) المصطلقية زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس لها في البخاري من روايتها سوى
هذا الحديث (-رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة) جملة
حالية (فقال) لها:
(أصمت أمس)؟ بهمزة الاستفهام وكسر سين أمس على لغة الحجاز
أي يوم الخميس (قالت) جويرية: (لا. قال) عليه الصلاة
والسلام (تريدين أن تصومين غدًا)؟ أي يوم السبت، ولأبوي ذر
والوقت وابن عساكر: أن تصومي بإسقاط النون على الأصل (قال:
لا. قال) عليه الصلاة والسلام: (فأفطري) بقطع الهمزة، وزاد
أبو نعيم في روايته إذًا.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي في الصوم.
(وقال حماد بن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة
الهذلي البصري صعيف، وقال أبو
حاتم ليس بحديثه بأس وليس له في البخاري غير هذا الموضع
ووصله البغوي في جمع حديث هدبة بن خالد أنه (سمع قتادة)
يقول (حدثني) بالإِفراد (أبو أيوب أن جويرية حدثته) وقال
في آخره (فأمرها) عليه الصلاة والسلام (فأفطرت).
64 - باب هَلْ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟
هذا (باب) بالتنوين (هل يخص) الشخص الذي يريد الصيام
(شيئًا من الأيام) ولابن عساكر: هل يخص شيء بضم الياء وفتح
الخاء مبنيًّا للمفعول وشيء رفع نائب عن الفاعل.
1987 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَلْقَمَةَ "قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: هَلْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ:
لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُطِيقُ"؟ [الحديث 1987 - طرفه في: 6466].
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) قال (حدّثنا يحيى) القطان (عن
سفيان) الثوري (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن إبراهيم)
النخعي (عن علقمة) بن قيس النخعي وهو خال إبراهيم المذكور
أنه قال (قلت لعائشة -رضي الله عنها-، هل كان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يختص) بتاء بعد الخاء
وفي رواية جرير عن منصور في الرقائق هل يخص (من الأيام
شيئًا)؟ بالصوم كالسبت مثلاً (قالت: لا)، ويشكل عليه صوم
الاثنين والخميس الوارد عند أبي داود والترمذي والنسائي
وصححه ابن حبان عنها.
وأجيب: بأنه استثناء من عموم قول عائشة: لا.
وأجاب في فتح الباري باحتمال أن يكون المراد بالأيام
المسؤول عنها الثلاثة من كل شهر فكان السائل لما سمع أنه
عليه الصلاة والسلام كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر سأل
عائشة هل كان يختصها بالبيض فقالت: لا، (كان عمله ديمة)
بكسر الدال وسكون المثناة التحتية أي دائمًا (وأيكم يطيق
ما كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يطيق)؟ وفي رواية جرير: وأيكم يستطيع في الموضعين.
ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون إلا الأوّلين فبصريان
وإسناده مما عدوه من أصح الأسانيد، وأخرجه المؤلّف في
الرقاق، ومسلم في الصوم، وأبو داود في الصلاة.
65 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
(باب) حكم (صوم يوم عرفة).
1988 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ قَالَ: حَدَّثَنِي
عُمَيْرٌ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ
حَدَّثَتْهُ. ح. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ
الْحَارِثِ "أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا
عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ
صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ.
فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ
عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) قال (حدّثنا يحيى) القطان (عن
مالك) الإمام (قال: حدثني) بالإفراد (سالم) هو أبو النضر
(قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (عمير) تصغير عمر (مولى أم
الفضل) لبابة أم ابن عباس (أن أم الفضل حدثته. ح)، قال
المؤلّف:
(وحدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك عن
أبي النضر) بالضاد المعحمة سالم المذكور وهو (مولى عمر بن
عبيد الله) بالتصغير (عن عمير مولى عبد الله بن العباس)
الألف واللام، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: ابن عباس نسبة
أولاً لأم عبد الله أم الفضل باعتبار الأصل، وثانيًا
لولدها عبد الله باعتبار ما آل إليه حاله (عن أم الفضل بنت
الحرث) بن حزن الهلالة أخت ميمونة بنت الحرث أم المؤمنين،
(أن ناسًا تماروا) أي اختلفوا (عندها يوم
(3/415)
عرفة في صوم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال بعضهم هو صائم): على جاري عادته
في سرد الصوم في الحضر، (وقال بعضهم: ليس بصائم) لكونه
مسافرًا (فأرسلت) أي أم الفضل، لكن في الحديث التالي أن
أختها ميمونة هي المرسلة ويأتي الجواب عنه إن شاء الله
تعالى (إليه) عليه الصلاة والسلام (بقدح لبن وهو واقف) أي
راكب (على بعيره) بعرفات (فشربه) زاد في حديث ميمونة:
والناس ينظرون.
وهذا الحديث سبق في باب صوم يوم عرفة من كتاب الحج،
ومقتضاه أن صوم يوم عرفة غير مستحب، لكن في حديث قتادة عند
مسلم أنه يكفر سنة آتية وسنة ماضية. قال الإمام: والمكفر
الصغائر والجمع بينه وبين حديثي الباب أن يحمل على غير
الحاج، أما الحاج فلا يستحب له صومه وإن كان قومًا لأنه
عليه الصلاة والسلام أفطر حينئذٍ، وتعقب بأن فعله المجرد
لا يدل على نفي الاستحباب إذ قد يترك الشيء المستحب لبيان
الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ، لكن روى أبو
داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم أن أبا هريرة حدثهم
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن صوم يوم
عرفة بعرفة، وقد أخذ بظاهره قوم منهم: يحيى بن سعيد
الأنصاري فقال: يجب فطره للحاج والجمهور على استحباب فطره
حتى، قال عطاء: من أفطر ليتقوّى به على الذكر كان له مثل
أجر الصائم فصومه له خلاف الأولى، بل في نكت التنبيه
للنووي أنه مكروه وفي شرح المهذّب أنه يستحب صومه لحاج لم
يصل عرفة إلا ليلاً لفقد العلة، وهذا كله في غير المسافر
والمريض أما هما فيستحب لهما فطره مطلقًا كما نص عليه
الشافعي في الإملاء.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الحج وكذا أبو داود.
1989 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ -أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ- قَالَ: أَخْبَرَنِي
عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ
-رضي الله عنها- "أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ
عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلاَبٍ وَهْوَ وَاقِفٌ
فِي الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ
يَنْظُرُونَ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) الجعفي قدم مصر قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر أخبرني بالإفراد (ابن وهب) -عبدا- (أو
قرئ عليه) - شك من يحيى في أن الشيخ قرأ أو قرئ على الشيخ
(قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو) بفتح العين ابن الحرث (عن
بكير) هو ابن عبد الله بن الأشج (عن كريب) هو ابن أبي مسلم
القرشي مولى عبد الله بن عباس (عن ميمونة) بنت الحرث أم
المؤمنين (-رضي الله عنها- أن الناس شكوا) بتشديد الكاف
(في صيام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم
عرفة) فقال قوم: صائم وقال آخرون غير صائم، (فأرسلت إليه)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بحلاب) بكسر الحاء
المهملة وتخفيف اللام الإناء الذي يحلب فيه اللبن أو هو
اللبن المحلوب (وهو واقف في الموقف)، جملة حالية (فشرب منه
والناس ينظرون) إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وقد علم أن المرسلة في هذا الحديث ميمونة وفي الأول أم
الفضل أختهما، فيحمل على التعدد أو أنهما أرسلتا معًا فنسب
ذلك إلى كل منهما فتكون ميمونة أرسلت بسؤال أم الفضل لها
بذلك لكشف الحال ويحتمل العكس، ولم يسم الرسول في طرق حديث
أم الفضل. نعم في النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن
عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك.
وفي هذا الحديث التحيل على الاطّلاع على الحكم بغير سؤال
وفيه فطنة السائلة لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه
الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال لأن ذلك كان في يوم حرّ
بعد الظهيرة ونصف إسناده الأوّل مصريون والآخر مدنيون،
وأخرجه مسلم في الصوم والله أعلم.
66 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ
(باب) حكم (صوم يوم الفطر).
1990 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي
عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: "شَهِدْتُ
الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-
فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ
فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الآخَرُ
تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ". [الحديث 1990 - طرفه
في: 5571].
قال أبو عبدِ اللهِ: قال ابنُ عُيَينةَ مَن قَالَ مَوْلَى
ابنِ أَزْهَر فَقَد أَصَابَ، ومَن قَالَ مَولَى عبدِ
الرحمنِ بنِ عَوفٍ فَقَد أصابَ.
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال:
(أخبرنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري
(عن أبي عبيد) بالتصغير من غير إضافة اسمه سعد (مولى ابن
أزهر) هو عبد الرحمن بن الأزهر بن عبد عوف وللكشميهني كما
في الفتح مولى بني أزهر (قال: شهدت العيد) زاد يونس عن
الزهري في روايته في الأضاحي يوم الأضحى (مع عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- فقال): (هذان يومان نهى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صيامهما) أحدهما (يوم
فطركم من
صيامكم واليوم الآخر) بفتح الخاء (تأكلون فيه) خير لليوم
(من نسككم) بضم السين ويجوز سكونها أي
(3/416)
أضحيتكم.
قال في فتح الباري: وفائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة
في وجوب فطرهما وهي الفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر
ما بعده والآخر لأجل النسك المتقرب بذبحه ليؤكل منه، ولو
شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى فعبر عن علة
التحريم بالأكل من النسك لأنه يستلزم النحر، وقوله هذان
فيه التغليب وذلك أن الحاضر يشار إليه بهذا والغائب يشار
إليه بذاك فلما أن جمعهما اللفظ قال: هذان تغليبًا للحاضر
على الغائب، وزاد في رواية أبي ذر وابن عساكر: هنا.
قال أبو عبد الله أي البخاري قال ابن عيينة فيما حكاه عنه
علي بن المديني في العلل من قال أي في أبي عبيد مولى ابن
أزهر فقد أصاب، ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف فقد أصاب
أيضًا لأنه يحتمل أنهما اشتركا في ولائه أو أحدهما على
الحقيقة والآخر على المجاز بملازمة أحدهما للخدمة
أو للأخذ عنه.
1991 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "نَهَى
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ
صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَعَنِ الصَّمَّاءِ،
وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم
وسكون النون وفتح القاف قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو
مصغرًا ابن خالد البصري قال: (حدّثنا عمرو بن يحيى) هو
المازني (عن أبيه) يحيى (عن أبي سعيد) الخدري (-رضي الله
عنه- قال): (نهى النبي) ولأبي ذر: نهى رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم يوم الفطر و) صوم يوم
(النحر وعن الصماء) بفتح الصاد المهملة وتشديد الميم
والمدّ. قال الفقهاء: أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم
يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه،
وتعقب هذا التفسير بأنه لا يشعر به لفظ الصماء، والمطابق
له ما نقل عن الأصمعي وهو أن يشتمل بالثوب يستر به جميع
بدنه بحيث لا يترك فرجة يخرج منها يده حتى لا يتمكن من
إزالة شيء يؤذيه بيديه (وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد) زاد
الإسماعيلي لا يواري فرجه بشيء "وعن صلاة" ولابن عساكر
والحموي والمستملي.
1992 - وَعَنْ صَلاَةٍ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ.
وعن الصلاة (بعد) صلاة (الصبح) حتى ترتفع الشمس (و) بعد
صلاة (العصر) حتى تغيب الشمس إلا لسبب.
وهذا الحديث سبق الكلام عليه في باب ما يستر من العورة وفي
المواقيت.
67 - باب الصَّوْمِ يَوْمَ النَّحْرِ
(باب) حكم (الصوم يوم النحر) ولابن عساكر والحموي
والمستملي: صوم يوم النحر.
1993 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ قَالَ:
سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- قَالَ: "يُنْهَى عَنْ صِيَامَيْنِ وَبَيْعَتَيْنِ:
الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَالْمُلاَمَسَةِ
وَالْمُنَابَذَةِ".
وبالسند قال: (قال إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء الرازي
المعروف بالصغير قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
(عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرني)
بالتوحيد (عمرو بن دينار عن عطاء بن ميناء) بكسر الميم
وسكون المثناة التحتية وبالنون ممدودًا كعطاء إلا أن الأول
منصرف حذف تنوينه والثاني غير منصرف وهو مدني (قال) أي
عمرو بن دينار (سمعته) أي عطاء بن ميناء (يحدث عن أبي
هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: ينهى) بضم أوله وفتح
ثالثه مبنيًّا للمفعول (عن صيامين و) عن (بيعتين الفطر
والنحر والملامسة والمنابذة) بالجرّ في الأربعة بدلاً من
السابق وفيه لف ونشر مرتب، فالفطر والنحر يرجعان إلى
صيامين والآخران إلى بيعتين والملامسة بضم الميم الأولى
مفاعلة من اللمس وهي أن يلمس ثوبًا مطويًا أو في ظلمة ثم
يشتريه على أنه لا خيار له إذا رآه اكتفاء بلمسه عن رؤيته،
أو يقول إذا لسته فقد بعتك اكتفاء بلمسه عن الصيغة أو
يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه لزم البيع وانقطع الخيار
اكتفاء بلمسه عن الإلزام بتفرق أو تخاير.
والمنابذة بضم الميم وبالذال المعجمة بأن ينبذ كل منهما
ثوبه على أن كلاً منهما مقابل بالآخر ولا خيار لهما إذا
عرفا الطول والعرض، وكذا لو نبذه إليه بثمن معلوم اكتفاء
بذلك عن الصيغة. وتأتي مباحث ذلك في البيع إن شاء الله
تعالى، والنهي هنا للتحريم فلا يصح الصوم ولا البيع
والبطلان في الأخيرين من حيث المعنى لعدم الرؤية أو عدم
الصيغة أو للشرط الفاسد وفي الأوّلين أن الله تعالى أكرم
عباده فيهما بضيافته فمن صامهما فكأنه رد هذه الكرامة،
وهذا المعنى وإن كان لمن يصوم رمضان ومن ينسك لكنه عام
لعموم الكرم.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في البيوع.
1994 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
مُعَاذٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رضي
الله عنهما- فَقَالَ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا
قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ الاِثْنَيْنِ فَوَافَقَ يَوْمَ
عِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ
النَّذْرِ، وَنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ". [الحديث 1994 -
طرفاه في: 6705، 6706].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى)
(3/417)
العنزي البصري الزمن قال: (حدّثنا معاذ) هو
ابن معاذ
العنبري قال: (أخبرنا ابن عون) هو عبد الله بن عون بن
أرطبان البصري (عن زياد بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة
ابن حيّة بفتح المهملة وتشديد المثناة التحتية الثقفي أنه
(قال جاء رجل) لم يسم (إلى ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله
عنهما-) ولابن عساكر: جاء رجل ابن عمر بإسقاط إلى ونصب ابن
(فقال): أي الجائي لابن عمر (رجل نذر أن يصوم يومًا قال
أظنه قال الاثنين) أي قال الجائي أظن الرجل الذي نذر قال
إنه نذر صوم يوم الاثنين (فوافق) يوم الاثنين المنذور (يوم
عيد) ولأبي ذر عن المستملي: فوافق ذلك يوم عيد، وفي رواية
يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد الله عند المصنف في النذر
فوافق يوم النحر (فقال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر) أي
في قوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29] (ونهى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم هذا اليوم)
إنما توقف ابن عمر عن الجزم بالفتيا لتعارض الأدلة عنده
وهذا قاله الزركشي في آخرين، وتعقبه البدر الدماميني فقال:
ليس كما ظنه بل نبه ابن عمر على أن أحدهما وهو الوفاء
بالنذر عام والآخر وهو المنع من صوم العيد خاص، فكأنه
أفهمه أنه يقضي بالخاص على العام اهـ.
وهذا الذي ذكره هو قول ابن المنير في الحاشية، وقد تعقبه
أخوه بأن النهي عن صوم العيد فيه أيضًا عموم للمخاطبين
ولكل عيد فلا يكون من حمل الخاص على العام اهـ.
وقيل: ويحتمل أنه عرّض للسائل بأن الاحتياط لك القضاء
فيجمع بين أمر الله وأمر رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وقيل إذا التقى الأمر والنهي في موضع قدّم
النهي، وعند الشافعية إذا نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه
فلان صح نذره في الأظهر لإمكان العلم بقدومه قبل يومه
فيبيت النية، والثاني قال: لا يمكن الوفاء به لانتفاء
تبييت النية لانتفاء العلم بقدومه فإن قدم ليلاً أو يوم
عيد أو نحوه أو في رمضان انحل النذر ولا شيء عليه لعدم
قبول ما عدا الأخير للصوم والأخير لصوم غيره.
1995 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ
قَالَ: سَمِعْتُ قَزَعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- وَكَانَ غَزَا مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثِنْتَىْ
عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ: سَمِعْتُ أَرْبَعًا مِنَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَعْجَبْنَنِي، قَالَ: لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ
مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو
مَحْرَمٍ، وَلاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ: الْفِطْرِ
وَالأَضْحَى، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى
تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ وَلاَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى
تَغْرُبَ، وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى
ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ
الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا".
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم وسكون النون
السلمي الأنماطي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال:
(حدّثنا عبد الملك بن عمير) بضم العين وفتح الميم ابن سويد
اللخمي الكوفي ويقال له الفرسي بفتح الفاء والراء نسبة إلى
فرس له سابق (قال: سمعت قزعة) بفتح القاف والزاي والعين
المهملة ابن يحيى البصري (قال: سمعت أبا سعيد) سعد بن مالك
(الخدري -رضي الله عنه- وكان غزا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اثنتي عشرة غزوة) وكان قد استصغر بأحد
واستشهد
أبوه مالك بن سنان بها وغزا هو ما بعدها (قال: سمعت أربعًا
من النبي) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر عن النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعْجَبْنَنِي)، بسكون
الموحدة بلفظ صيغة الجمع للمؤنث أحدها (قال):
(لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا معها زوجها) بالواو كما
في رواية أبوي ذر والوقت في باب فضل مسجد بيت المقدس (أو
ذو محرم) عاقل بالغ (و) ثانيها (لا صوم في يومين: الفطر
والأضحى) لأنهما غير قابلين للصوم لحرمته فيهما فلا يصح
نذر صومهما وكذا حكم صوم أيام التشريق كما سيأتي بيانه عن
قريب إن شاء الله تعالى ومذهب أبي حنيفة لو نذر صوم يوم
النحر أفطر وقضى يومًا مكانه (و) ثالثها (لا صلاة بعد)
صلاة (الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد) صلاة (العصر حتى
تغرب) الشمس (و) رابعها (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة
مساجد الحرام) بمكة (ومسجد الأقصى) بالقدس (ومسجدي هذا)
بطيبة.
وهذا الحديث قد سبق في باب مسجد القدس في أواخر الصلاة.
68 - باب صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
(باب صيام أيام التشريق) وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر،
وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء.
وروي عن ابن عباس وعطاء أنها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة
أيام بعده، وسماها عطاء أيام التشريق والأول أظهر، وقد قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أيام منى
ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم
عليه" أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث عبد الرحمن بن
يعمر، وهذا صريح في أنها أيام التشريق وأفضلها أولها وهو
يوم القر بفتح القاف وتشديد الراء لأن أهل منى يستقرون فيه
(3/418)
ولا يجوز فيه النفر وهي الأيام المعدودات
وأيام منى، وسميت بأيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرّق
فيها أي تنشر في الشمس.
1996 - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ
بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبِي: "كَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-
تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا".
وبالسند قال: (قال أبو عبد الله): كذا لأبوي ذر والوقت
وسقط لغيرهما (وقال لي محمد بن المثنى) الزمن وكأنه لم
يصرح بالتحديث لكونه موقوفًا على عائشة كما عرف من عادته
بالاستقراء كذا قاله الحافظ ابن حجر، وتعقبه العيني بأنه
إنما ترك التحديث لأنه أخذه عن ابن المثنى مذاكرة قال:
وهذا هو المعروف من عادته (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان
(عن هشام قال: أخبرني) بالتوحيد (أبي) عروة بن الزبير قال:
(كانت عائشة رضي الله عنها تصوم أيام منى) ولأبي ذر عن
المستملي: أيام التشريق بمنى. قال عروة: (وكان أبوها) أبو
بكر الصدّيق -رضي الله عنه- (يصومها) أيضًا، ولأبوي ذر
والوقت وابن عساكر: وكان أبوه أي أبو هشام وهو عروة
والقائل يحيى القطان، ونسب ابن حجر الأولى لرواية كريمة.
1997، 1998 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عِيسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ، وَعَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله
عنهم- قَالاَ: "لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ".
وبالسند قال (حدثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة
والمشدّدة البصري المنقب ببندار قال: (حدّثنا غندر) بضم
الغين المعجمة وفتح المهملة آخره راء محمد بن جعفر قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (سمعت عبد الله بن عيسى)
الأنصاري، ولأبي ذر عن الكشميهني: زياد بن أبي ليلى وهو
ثقة لكن فيه تشيع (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن
عروة) بن الزبير بن العوّام (عن عائشة، وعن سالم) هو من
رواية الزهري عن سالم فهو موصول (عن ابن عمر) والد سالم
(-رضي الله عنهم- قالا) أي عائشة وابن عمر: (لم يرخص) بضم
أوّله وفتح ثالثه المشدد مبنيًا للمفعول ولم يضيفاه إلى
الزمن النبوي فهو موقوف كما جزم به ابن الصلاح في نحوه مما
لم يضف والمعنى حينئذٍ لم يرخص من له مقام الفتوى في
الجملة، لكن جعله الحاكم أبو عبد الله من المرفوع. قال
النووي في شرح المهذّب: وهو القوي يعني من حيث المعنى وهو
ظاهر استعمال كثير من المحدّثين وأصحابنا في كتب الفقه،
واعتمده الشيخان في صحيحيهما وأكثر منه البخاري. وقال
التاج ابن السبكي: إنه الأظهر وإليه ذهب الإمام فخر الدين.
وقال ابن الصباغ في العدة: إنه الظاهر والمعنى هنا لم يرخص
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في أيام
التشريق) وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر (أن يصمن)
أي يصام فيهن فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، ولذا بعث
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ينادي أنها
أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل فلا يصومن أحد رواه أصحاب
السنن.
وروى أبو داود عن عقبة بن عامر مرفوعًا: يوم عرفة ويوم
النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب.
وفي حديث عمرو بن العاصي عند أبي داود وصححه ابن خزيمة
والحاكم أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق إنها
الأيام التي نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن صومهن وأمر بفطرهن وقد قال الطحاوي بعد أن
أخرج أحاديث النهي عن ستة عشر صحابيًّا، فلما ثبت بهذه
الأحاديث عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- النهي عن صيام أيام التشريق وكان نهيه عن ذلك
بمنى والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون والقارنون ولم
يستثن منهم متمتعًا ولا قارنًا دخل المتمتعون والقارنون في
ذلك اهـ.
وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بأكل والشرب سرّ حسن
وهو أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من
مشاق السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك
شرع لهم الاستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة
أيام بعده وأمرهم بالأكل فيها من لحوم الأضاحي فهم في
ضيافة الله تعالى فيها لطفًا من الله تعالى بهم ورحمة،
وشاركهم أيضًا أهل الأمصار في ذلك لأن أهل الأمصار شاركوهم
في النصب لله تعالى والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم
والذكر والاجتهاد في العبادات وفي التقرب إلى الله تعالى
بإراقة دماء الأضاحي وفي حصول المغفرة فشاركوهم في أعيادهم
واشترك الجميع في الراحة بالأكل والشرب، فصار المسلمون
كلهم في ضيافة الله تعالى في هذه الأيام يأكلون من رزقه
ويشكرونه على فضله، ولما كان الكريم لا يليق به أن يجيع
أضيافه
(3/419)
نهوا عن صيامها (إلا لمن لم يجد الهدي) وفي
رواية أبي عوانة عن عبد الله بن عيسى عند الطحاوي إلا
لمتمتع أو محصر أي فيجوز له صيامها وهذا مذهب مالك وهو
الرواية الثانية عن أحمد واختاره ابن عبدوس في تذكرته
وصححه في الفائق وقدمه في المحرر والرعاية الكبرى. وقال
ابن منجا في شرحه أنه المذهب وهو قول الشافعي القديم لحديث
الباب قال في الروضة: وهو الراجح دليلاً والصحيح من مذهب
الشافعي وهو القول الجديد ومذهب الحنفية أنه يحرم صومها
لعموم النهي وهو الرواية الأولى عن أحمد. قال الزركشي
الحنبلي: وهي التي ذهب إليها أحمد أخيرًا. قال في المبهج
وهي الصحيحة اهـ.
وأما قول الحافظ ابن حجر أن الطحاوي قال إن قول ابن عمر
وعائشة لم يرخص الخ أخذاه من عموم قوله تعالى: {فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] لأن قوله في الحج
يعم ما قبل يوم النحر وما بعده فتدخل أيام التشريق. قال في
الفتح: وعلى هذا فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط عما
فهماه من عموم الآية، وقد ثبت نهيه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم أيام التشريق وهو عام في حق
المتمتع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر
بالإذن وعموم الحديث المشعر بالنهي وفي تخصيص عموم
المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعًا فكيف وفي
كونه مرفوعًا نظر، فعلى هذا يترجح القول بالجواز وإلى هذا
جنح البخاري اهـ. والله أعلم.
ففيه نظر لأن قوله لو كان الحديث مرفوعًا فكيف وفي كونه
مرفوعًا نظر لا معنى له لأنه إن كان مراده به حديث النهي
عن صوم أيام التشريق المروي في غير ما حديث فهو بلا شك
مرفوع كما صرح هو به حيث قال: وقد ثبت نهيه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم أيام التشريق وإن كان
مراده به حديث الباب فليس التعارض المذكور واقعًا بينه
وبين عموم الآية، وكيف يكون ذلك؟ وقد ادّعى استنباطه منها
فالظاهر أنه سهو، ولئن سلمنا التعارض بين حديث النهي
والآية فالصحيح أنه مخصص لعمومها لكنا لا نسلم أن أيام
التشريق من أيام الحج كما لا يخفى ونص عليه الشافعي وغيره
على أن الطحاوي لم يجزم بأن ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم
الآية، وعبارته فقولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا بهذه
الرخصة ما قال الله تعالى في كتابه {فصيام ثلاثة أيام في
الحج} فعداها أيام التشريق من أيام الحج فقالا رخص للحاج
المتمتع والمحصر في صوم أيام التشريق لهذه الآية ولأن هذه
الأيام عندهما من أيام الحج وخفي عليهما ما كان من توقيف
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس من
بعده على أن هذه الأيام ليست بداخلة فيما أباح الله عز وجل
صومه من ذلك اهـ فليتأمل.
والعجب من العيني في كونه لم ينبه على ذلك ولم يعرج عليه
كغيره من الشراح مع كثرة تعقبه على الحافظ في كثير من
الواضحات. نعم تعقبه في قوله ووقع في رواية يحيى بن سلام
عن شعبة
عند الدارقطني والطحاوي بأن لفظ الحديث للدارقطني لا لفظ
الطحاوي.
1999 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله
عنهما- قَالَ: "الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى". وَعَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ.
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال (أخبرنا
مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم بن عبد الله
بن عمر) بن الخطاب (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه
(قال: الصيام) ثلاثة أيام (لمن تمتع بالعمرة إلى الحج) عند
فقد الهدي ينتهي (إلى يوم عرفة فإن لم يجد) وللحموي كما في
الفتح فمن لم يجد (هديًا ولم يصم) حتى دخل يوم عرفة (صام
أيام منى) وهي أيام التشريق كما مرّ (وعن ابن شهاب) الزهري
(عن عروة) بن الزبير بن العوّام (عن عائشة) -رضي الله
عنها- (مثله). أي مثل ما روى ابن شهاب عن سالم عن أبيه عبد
الله بن عمر.
(تابعه) ولابن عساكر: وتابعه أي وتابع مالكًا (إبراهيم بن
سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري
المدني نزيل بغداد ثقة حجة تكلم فيه بلا قادح (عن ابن
شهاب) الزهري، وهذا مما وصله إمامنا الشافعي فقال: أخبرنا
إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة في المتمتع
إذا لم يجد هديًا ولم يصم قبل عرفة فليصم أيام منى، وعن
سالم عن أبيه مثله، ووصله الطحاوي من وجه آخر عن ابن شهاب
عن عروة عن عائشة وعن سالم عن أبيه أنهما كانا يرخصان
(3/420)
للمتمتع إذا لم يجد هديًا ولم يكن صام قبل
عرفة أن يصوم أيام التشريق. وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث
الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر نحوه.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا يرجح كونه موقوفًا لنسبة الترخيص
إليهما فإنه يقوي أحد الاحتمالين في رواية عبد الله بن
عيسى حيث قال: لم يرخص وأبهم الفاعل فيحتمل الوقف والرفع
كما صرح به يحيى بن سلام لكنه ضعيف، وتصريح إبراهيم بن سعد
وهو من الحفاظ بنسبة ذلك إلى ابن عمر وعائشة أرجح ويقوّيه
رواية مالك وهو من حفاظ أصحاب الزهري فإنه مجزوم عنه بكونه
موقوفًا اهـ.
وسقط في رواية ابن عساكر قوله من ابنِ شهاب.
69 - باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاء
(باب) حكم (صيام يوم عاشوراء) قال في القاموس العاشوراء
والعشوراء ويقصران والعاشور عاشر المحرم أو تاسعه اهـ.
والأول هو قول الخليل والاشتقاق يدل عليه وهو مذهب جمهور
العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وذهب ابن عباس
-رضي الله عنهما- إلى الثاني وفي المصنف عن الضحاك عاشوراء
يوم التاسع قيل لأنه مأخوذ من العشر بالكسر في أوراد الإبل
تقول العرب: وردت الإبل عشرًا إذا وردت اليوم التاسع وذلك
لأنهم يحسبون في الأظماء يوم الورد، فإذا قامت في الرعي
يومين ثم وردت في الثالث قالوا وردت ربعًا، وإن رعت ثلاثًا
وفي الرابع وردت قالوا وردت خمسًا لأنهم حسبوا في كل هذا
بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي، وأول اليوم الذي ترد
فيه بعده وعلى هذا القول يكون التاسع عاشوراء وهذا كقوله
تعالى: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 97] على القول بأنها
شهران وعشرة أيام.
2000 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه-
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنْ شَاءَ صَامَ».
وبالسند قال: (حدّثنا أبو عاصم) النبيل الضحاك بن مخلد (عن
عمر بن محمد) بضم العين ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب (عن) عم أبيه (سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر (-رضي
الله عنه-) وعن أبيه أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(يوم عاشوراء) بنصب يوم على الظرفية (إن شاء) المرء (صام)
أي: وإن شاء أفطر، وقد ساقه مختصرًا وهو في صحيح ابن خزيمة
عن أبي موسى عن أبي عاصم بلفظ إن اليوم يوم عاشوراء فمن
شاء فليصمه ومن شاء فليفطره.
ورواة حديث الباب كلهم مدنيون إلا شيخ المؤلّف فبصري،
وأخرجه مسلم أيضًا في الصوم.
2001 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا
فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ
أَفْطَرَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي قال:
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي أيضًا (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن
الزبير) بن العوام (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت): (كان
رسول الله) ولأبي الوقت: كان النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض
رمضان) وكان فرضه في شعبان من السنة الثانية من الهجرة
(كان من شاء صام) يوم عاشوراء (ومن شاء أفطر) والجمع بين
هذا وحديث سالم السابق عن ابن عمر بالحمل على ثاني الحال.
2002 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ
عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
يَصُومُهُ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا
فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ
صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ".
وبه قال (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن
العوام (عن عائشة) ولأبي الوقت أن عائشة (-رضي الله عنها-
قالت) (كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية) يحتمل
أنهم اقتدوا في صيامه بشرع سالف ولذا كانوا يعظمونه بكسوة
البيت الحرام فيه (وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومه) أي عاشوراء وزاد أبو الوقت وذر
وابن عساكر: في الجاهلية (فلما قدم) عليه الصلاة والسلام
(المدينة) وكان قدومه بلا ريب في ربيع الأول (صامه) على
عادته (وأمر) الناس (بصيامه)، في أول السنة الثانية (فلما
فرض رمضان) أي صيامه في الثانية في شهر شعبان كما مرّ
(ترك) عليه الصلاة والسلام (يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن
شاء تركه) فعلى هذا لم يقع الأمر بصومه إلا في سنة واحدة
وعلى تقدير صحة القول فقد نسخ، ولم يرو عنه أنه عليه
الصلاة والسلام جدد للناس أمرًا بصيامه بعد فرض رمضان بل
تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه فإن كان أمر
عليه الصلاة والسلام بصيامه قبل فرض صيام رمضان للوجوب
فإنه
(3/421)
يبنى على أن الوجوب إذا نسخ هل ينسخ
الاستحباب أم لا؟ فيه اختلاف مشهور وإن كان أمره للاستحباب
فيكون باقيًا على الاستحباب، وهذا الحديث أخرجه النسائي.
2003 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي
سُفْيَانَ -رضي الله عنهما- يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ
حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "يَا أَهْلَ
الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ
صِيَامُهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ
وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب الحارثي
المدني القعنبي (عن مالك) إمام الأئمة ابن أنس الأصبحي (عن
ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن حميد بن عبد الرحمن) بن
عوف (أنه سمع معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-) واسم
أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي وهو وأبوه من مسلمة
الفتح، وقيل أسلم هو في عمرة القضاء وكتم إسلامه وكان
أميرًا عشرين سنة وخليفة عشرين سنة وكان يقول أنا أول
الملوك (يوم عاشوراء عام حج) وكان أول حجة حجها بعد أن
استخلف في سنة أربع وأربعين وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين
(على المنبر) زاد يونس عن الزهري بالمدينة، وقال: في
روايته في قدمة قدمها (يقول يا أهل المدينة أين علماؤكم)؟
قال النووي: الظاهر أن معاوية قاله لما سمع من يوجبه أو
يحرمه أو يكرهه فأراد إعلامهم بنفي الثلاثة اهـ.
فاستدعاؤه لهم تنبيهًا لهم على الحكم أو استعانة بما عندهم
على ما عنده. (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه) بضم أول يكتب
وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول وصيامه رفع نائب عن الفاعل
ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: ولم يكتب الله عليكم صيامه
نصب على المفعولية، وهذا من كلام الشارع عليه الصلاة
والسلام كما عند النسائي، واستدلّ به الشافعية والحنابلة
على أنه لم يكن فرضًا قط ولا نسخ برمضان، وتعقب بأن معاوية
من مسلمة الفتح فإن كان سمع هذا بعد إسلامه فإنما يكون
سمعه سنة تسع أو عشر فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان،
ويكون المعنى لم يفرض بعد إيجاب رمضان جميعًا بينه وبين
الأدلة الصريحة في وجوبه، وإن كان سمعه قبله فيجوز كونه
قبل افتراضه، ونسخ عاشوراء برمضان في الصحيحين عن عائشة
وكون لفظ أمر في قوله وأمر بصيامه مشتركًا بين الصيغة
الطالبة ندبًا وإيجابًا ممنوع ولو سلم فقولها، فلما فرض
رمضان قال من الخ دليل على أنه مستعمل هنا في الصيغة
الموجبة للقطع أن التخيير ليس باعتبار الندب لأنه مندوب
إلى الآن فكان باعتبار الوجوب. (وأنا صائم فمن شاء فليصم)
ولابن عساكر في نسخة: فليصمه بضمير المفعول (ومن شاء
فليفطر) بحذف ضمير المفعول.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم وكذا النسائي.
2004 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ فَرَأَى
الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا
هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ
نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ
فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى
مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ". [الحديث 2004
- أطرافه في: 3397، 3943، 4680، 4737].
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المنقري
المقعد قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال: (حدّثنا
أيوب) السختياني قال: (حدّثنا عبد الله بن سعيد بن جبير عن
أبيه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) فأقام إلى يوم
عاشوراء من السنة الثانية (فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء،
فقال): عليه الصلاة والسلام لهم: (ما هذا) الصوم؟ (قالوا:
هذا يوم صالح) وعند ابن عساكر تكرير هذا يوم صالح مرتين
(هذا يوم نجى الله) يوم بغير تنوين في اليونينية مصحح عليه
وفي غيرها منوّنًا (بني إسرائيل) ولمسلم موسى وقومه (من
عدوهم) فرعون حيث أغرق في اليم (فصامه موسى)، زاد مسلم في
روايته شكرًا لله تعالى فنحن نصومه، وعند المصنف في الهجرة
ونحن نصومه تعظيمًا له، وزاد أحمد من حديث أبي هريرة -رضي
الله عنه- وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجوديّ
فصامه نوح شكرًا.
(قال): النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأنا
أحق بموسى منكم فصامه) كما كان يصومه قبل ذلك (وأمر) الناس
(بصيامه) فيه دليل لمن قال كان قبل النسخ واجبًا، لكن أجاب
أصحابنا بحمل الأمر هنا على تأكد الاستحباب وليس صيامه
عليه الصلاة والسلام له تصديقًا لليهود بمجرد قولهم بل كان
يصومه قبل ذلك كما
وقع التصريح به في حديث عائشة، وجوّز المازري نزول الوحي
على وفق قولهم أو تواتر عنده الخبر أو صامه باجتهاده أو
أخبره من أسلم منهم كابن سلام.
والأحقية باعتبار الاشتراك في الرسالة والأخوة في الدين
والقرابة
(3/422)
الظاهرة دونهم ولأنه عليه الصلاة والسلام
أطوع وأتبع للحق منهم.
ورواة هذا الحديث الثلاثة الأول بصريون والثلاثة الأخر
كوفيون، وأخرجه المؤلّف أيضًا في أحاديث الأنبياء، ومسلم
وأبو داود والنسائي في الصوم.
2005 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى
-رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ
تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَصُومُوهُ أَنْتُمْ".
[الحديث 2005 - طرفه في: 3942].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
أبو أسامة) حماد بن أسامة الليثي (عن أبي عميس) بضم العين
المهملة وفتح الميم آخره سين مهملة واسمه عتبة بضم المهملة
وسكون الفوقية ابن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود
الهذلي المسعودي الكوفي (عن قيس بن مسلم) الجدلي بفتح
الجيم العدواني الكوفي ثقة رمي بالإرجاء (عن طارق بن شهاب)
البجلي الأحمسي الكوفي الصحابي قال أبو داود: رأى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يسمع منه (عن أبي
موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه- قال: كان
من يوم عاشوراء تعده اليهود) أهل خيبر (عيدًا) تعظيمًا له
والعيد لا يصام (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(فصوموه أنتم) مخالفة لهم فالباعث على الصيام في هذا غير
الباعث في حديث ابن عباس السابق إذ هو باعث على موافقته
يهود المدينة على السبب وهو شكر الله تلى على نجاة موسى مع
موافقة عادته أو الوحي كما مرّ تقريره، ويحتمل أن يكون من
تعظيمه عند يهود خيبر في شرعهم صومه، وقد وقع التصريح بذلك
عند مسلم من وجه آخر عن قيس بن مسلم قال: كان أهل خيبر
يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدًا.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف في باب إتيان اليهود للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومسلم والنسائي في
الصوم.
2006 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنِ
ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "مَا
رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ
إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا
الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ".
وبه قال (حدّثنا عبيد الله بن موسى) بضم العين مصغرًا أبو
محمد العبسي مولاهم الكوفي (عن ابن عيينة) سفيان (عن عبيد
الله بن أبي يزيد) من الزيادة المكي مولى آل قارظ بن شيبة
(عن
ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال): (ما رأيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحرى) أي يقصد (صيام
يوم فضله على غيره) وصيام شهر فضله على غيره بتشديد الضاد
المعجمة جملة في موضع جر صفة ليوم (إلا هذا اليوم يوم
عاشوراء وهذا الشهر) عطف على قوله هذا اليوم وهذا من اللف
التقديري لأن المعطوف لم يدخل في لفظ المستثنى منه إلا
بتقدير وصيام شهر فضله على غيره كما مرّ أو يعتبر في الشهر
أيامه يومًا موصوفًا بهذا الوصف وحينئذ فلا يحتاج إلى
تقدير وصيام شهر (يعني شهر رمضان) هو من قول الراوي، وهذا
الحديث أخرجه النسائي.
2007 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بنُ أبي عُبَيدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً مِنْ
أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ
أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ
أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ
عَاشُورَاءَ".
وبه قال (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بن بشير الحنظلي قال:
(حدّثنا يزيد بن أبي عبيد) الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع
وسقط لغير أبي ذر لفظ ابن أبي عبيد (عن سلمة بن الأكوع) هو
ابن عمرو بن الأكوع واسم الأكوع سنان بن عبد الله (-رضي
الله عنه- قال): (أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رجلاً من أسلم) هو هند بن أسماء بن حارثة
الأسلمي (أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم) أي فليمسك
(بقية يومه) حرمة لليوم (ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم
يوم عاشوراء) استدلّ به على أن من تعين عليه صوم يوم ولم
ينوه ليلاً أنه يجزئه بنيته نهارًا وهذا بناء على أن
عاشوراء كان واجبًا، وقد منعه ابن الجوزي بحديث معاوية
سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول
"هذا يوم عاشوراء لم يفرض علينا صيامه فمن شاء منكم أن
يصوم فليصم" قال وبدليل أنه لم يأمر من أكل بالقضاء، وقد
سبق البحث في ذلك عند ذكر حديث الباب في باب: إذا نوى
بالنهار صومًا في أثناء كتاب الصيام.
وهذا الحديث هو السادس من ثلاثيات المؤلّف رحمه الله،
ويستحب صوم تاسوعاء أيضًا لقوله عليه الصلاة والسلام
المروي في مسلم "لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع" فإن لم
يصم التاسع مع العاشر استحب له صوم الحادي عشر، ونص
الشافعي في الأم والإملاء على استحباب صوم الثلاثة، ونقله
عنه الشيخ أبو حامد وغيره، ويدل له حديث أحمد "صوموا يوم
عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا قبله يومًا وبعده يومًا"
وكذا يستحب صوم يوم عرفة لغير الحاج وهو تاسع الحجة لأنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل عنه فقال: "يكفر
(3/423)
السنة الماضية والمستقبلة" رواه مسلم وتسع ذي الحجة رواه
أبو داود والأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم
ورجب لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن تغيرت
هيئته من الصوم "لم عذبت نفسك صم شهر الصبر ويومًا من كل
شهر" قال: زدني قال: "صم يومين"، قال: زدني. قال: "صم
ثلاثة أيام"، قال: زدني قال: "صم من المحرم والترك ثلاث
مرات" وقال بأصابعه الثلاث رواه أبو داود وغيره.
قال في شرح المهذّب: وإنما أمره بالترك لأنه كان يشق عليه
إكثار الصوم فأما من لا يشق عليه فصوم جميعها فضيلة
وأفضلها المحرم قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" رواه مسلم، وقال
الحنابلة: يكره إفراد رجب بالصوم. قال في الإنصاف: وهو
المذهب وعليه الأصحاب وقطع به كثير منهم وهو من مفردات
المذهب. قال: وحكى الشيخ تقي الدين في تحريم إفراده وجهين
قال في الفروع: ولعله أخذه من كراهة أحمد وتزول الكراهة
عندهم بالفطر من رجب ولو يومًا أو بصوم شهر آخر من السنة
قال المجد: وإن لم يله اهـ.
وكذا يستحب صوم ستة من شوّال لقوله عليه الصلاة والسلام من
صام رمضان وأتبعه ستًا من شوّال كان كصيام الدهر رواه
مسلم، والأفضل تتابعها وكونها متصلة بالعيد مبادرة
للعبادة، وكره مالك صيامها قال في الموطأ: لم أر أحدًا من
أهل الفقه والعلم صامها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف
وأن أهل العلم يكرهون ذلك مخافة بدعته وأن يلحق أهل
الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه، قال في المقدمات: وأما
الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها ونحوه في النوادر،
وكذا يستحب صوم يوم لا يجد في بيته ما يأكله لحديث عائشة
قالت: دخل عليّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ذات يوم فقال: "هل عندكم شيء" قلنا: لا. قال: "إني إذًا
صائم" رواه مسلم والنفل من الصوم غير محصور والاستكثار منه
مطلوب والمكروه منه صوم المريض والمسافر والحامل والمرضع
والشيخ الكبير إذا خافوا منه المشقّة الشديدة وقد ينتهي
ذلك إلى التحريم، وصوم يوم عرفة بها للحاج لكن الصحيح أنه
خلاف الأولى لا مكروه ويستحب له فطره سواء أضعفه الصوم عن
العبادة أم لا.
وقال المتولي: إن كان ممن لا يضعف بالصوم عن ذلك فالصوم
أولى له وإلا فالفطر.
ويكره أيضًا التطوّع بالصوم وعليه قضاء صوم من رمضان، وهذا
إذا لم يتضيق وقته وإلاّ حرم التطوع وإفراد يوم الجمعة أو
السبت وصوم الدهر لمن خاف ضررًا أو فوت حق ويحرم صوم
العيدين وأيام التشريق وصوم الحائض والنفساء للإجماع صوم
يوم الشك وصوم النصف الأخير من شعبان إذا لم يصله بما قبله
على المختار، وصححه في المجموع وغيره لحديث "إذا انتصف
شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان" رواه الترمذي وقال: حسن
صحيح إلا لقضاء أو موافقة نذر أو عادة فلا يحرم لم يصح
مسارعة لبراءة الذمة ولأن له سببًا، فجاز كنظيره من الصلاة
في الأوقات الكروهة، ولا يجوز للمرأة أن تصوم نفلاً وزوجها
حاضر إلا بإذنه كل صومها حينئذ صحيح لأن تحريمه لا لمعنى
يعود إلى الصوم فهو كالصلاة في أرض مغصوبة.
وهذا آخر كتاب الصوم وكان الفراغ منه يوم الاثنين ثالث
جمادى الآخرة سنة سبع وتسعمائة، والله أسأل أن يمن بإتمامه
وينفع به ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، وحسبي الله ونعم
الوكيل. |