شرح الموطأ عبد الكريم الخضير

شرح: الموطأ - كتاب حسن الخلق (1)
باب ما جاء في حسن الخلق - باب ما جاء في الحياء - باب ما جاء في الغضب

الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم
أحسن الله إليك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا والسامعين والحاضرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
كتاب حسن الخلق:
باب ما جاء في حسن الخلق:
وحدثني عن مالك أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "آخر ما أوصاني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: ((أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل)).
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: "ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها".
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
وحدثني عن مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: "استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت عائشة: وأنا معه في البيت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بئس ابن العشيرة)) ثم أذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه، فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم لم تنشب أن ضحكت معه! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره)).
وحدثني عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن كعب الأحبار أنه قال: "إذا أحببتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء".
وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: "بلغني أن المرء ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الظامي بالهواجر".

(185/1)


وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "ألا أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين، وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة".
وحدثني عن مالك أنه قد بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بعثت لأتمم حسن الأخلاق)).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب حسن الخلق:
الكتاب مضى الكلام فيه مراراً، فهذا هو الكتاب السابع والأربعون من كتب الموطأ، فلا داعي للكلام في هذه الكلمة، والحسن ضد السوء، وهو ما تستخفه النفس، وتميل إليه، وتحبه، والخلق هو الدين والطبع والسجية، ويأتي بمعنى الأدب الشرعي، كما جاء في الخبر: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) وجاء أيضاً قول عائشة: "كان خلقه القرآن" يعني خلق النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، فهو أكمل الناس في الخلق -عليه الصلاة والسلام-، خلقه القرآن، فحياته وعيشته، وسيرته، وشمائله ترجمة عملية للقرآن، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [(4) سورة القلم] هذا بالنسبة لحسن الخلق.
وإذا قلنا: إن حسن الخلق المراد به الأدب الشرعي، فعلى طالب العلم أن يعنى بهذا الجانب، وينظر ما جاء في هذا الباب من نصوص الكتاب والسنة ليتأدب بها، ليكون مع علمه عاملاً بعلمه، قدوة لغيره، والكتاب العزيز والسنة المطهرة فيها الشيء الكثير مما يحتاجه المسلم لا سيما طالب العلم في تعامله مع الناس، والخلق كما يكون في التعامل مع الله -جل وعلا- يكون في التعامل مع النفس، ومع الأقربين من الوالدين والإخوة والأخوات، والعمات، والأعمام، والأخوال، والخالات، وسائر الأقارب، ويكون أيضاً مع المسلمين، ومع غيرهم ممن له عهد أو ميثاق، لا بد أن يتعامل مع كل إنسان بما يليق به، ولذا يترجمون باب البر والصلة والآداب، باب البر والصلة والآداب، فالبر يكون لأقرب الناس للوالدين، والصلة للأقارب، والآداب مع سائر الناس.

باب ما جاء في حسن الخلق:

(185/2)


يعني من النصوص، وما جاء في هذا الباب لا يكاد يحصر، ونصوص الكتاب والسنة في هذا متضافرة، وكثيرة جداً، وهي من خير ما يعنى به طالب العلم؛ لكي يعيش عيشة قويمة بأدب الله وأدب رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وما نشاهده ونسمعه من سوء التعامل بين المسلمين، وقد يوجد مع الأسف بين طلاب العلم، كل هذا إنما هو بالغفلة عن هذا الباب العظيم، تجد الجفاء بين الأشقاء، تجد الجفاء بين الوالد وولده، والأم مع ابنها وبنتها، بين الزوج وزوجته، مع الجار ... ، كل هذا أمرنا بالإحسان إليهم، والتعامل معهم على أكمل وجه، غفل الناس عن تحصيل هذا الباب العظيم من أبواب الدين، ولا يتم الفقه في الدين إلا به، ثم ماذا إذا حمل طالب العلم من الأحكام ما حمل بأدلتها ومعرفة الراجح منها وهو لا يستطيع أن يتعامل مع والده؟ لا يستطيع أن يتعامل مع زوجته؟ مع إخوانه؟ مع أولاده؟ ماذا يستفيد من هذا العلم إلا النفرة والبغضاء؟ وكثير من الأمور التي لا تحمد عقباها إنما أوتي الإنسان من قبل هذا الباب، بسببها.
كتب الأدب كثيرة جداً التي تدعو إلى حسن الخلق، ومع الأسف أن الذي استأثر بالاسم هو ما يدعو إلى سوء الخلق، وسفاسف الأمور، فتجد كتب الأدب المصطلح عليه أدب الدرس عند الناس، الفن المعروف، كثير منه يدعو إلى سوء الأدب مع الأسف، لما اشتملت عليه هذه الكتب المصنفة في هذا الباب من قصص مسفة فاحشة بذيئة، وأخبار كاذبة تحمل في طياتها البغضاء والشحناء؛ لأن مؤلفيها ليسوا على درجة من التدين والاستقامة مع أن بعض من ينتسب إلى العلم قد يفصل بين العلم والأدب، من أهل العلم من تولى القضاء والإفتاء، وألف في علوم الشريعة، مشهور، ومع ذلك يؤلف في الجواري والغلمان، كتاب من أسوأ الكتب، ويذكر في مقدمته أنه قد يستغرب من إمام وعالم ومؤلف وفقيه قاضي أن يطرق مثل هذه الموضوعات، لكنه أجاب بما يفاد منه أنه لا علاقة للدين بالأدب، وأن هذا فن، وذاك فن، مع الأسف أن هذا عالم من علماء المسلمين، وله أيضاً قصائد في الأدب الشرعي يعني بالمقابل، وهي مشهورة ومحفوظة عند طلاب العلم من القدم.

(185/3)


هذا إذا كان بهذه المثابة من العلم والدين، والمناصب العلية في الدولة الإسلامية مشكلة، هذا هو الإشكال، أما أن يدعو إلى الأدب الفاحش والبذيء من هو .. ، ممن لا يعرف بعلم ولا دين، يعني من عرف بالفسق والشرب والمجون، وغير ذلك هذا أمره سهل، يعني سهل أن يطرق مثل هذا الموضوع شخص من أهل الشرب، شرب الخمر مثلاً؛ لأنه ليس بقدوة، لا يغتر الناس به، لكن الإشكال حينما يطرق هذا الباب شخص محسوب على أهل العلم، فمثل زكي مبارك من المتأخرين، ومعروف وضعه، والله المستعان، حينما عتب على صاحب زهر الآداب إغفاله للمجون، وقال: إنه أغفل جانباً مهماً من جوانب الأدب، والحياة -كما يقول هو وأظنه ليس بكامل عقله لما يكتب هذا الكلام- تفقد حيويتها حينما تكون هدىً خالص، يقول: أذهب إلى أبعد من ذلك فأزعم أن بعض الغي رشد.
هذا ما عليه شره، هذا ليس ممن يقتدى به، أو يؤخذ بكلامه، نظائره كثير يعني في الأدباء، لكن الإشكال حينما يصدر هذا من عالم، ويرى أن العلم الشرعي فن، والأدب فن آخر، الدين واحد، يعني نظير ما يذكره بعض المؤرخين ممن عرف بسلامة المعتقد في الجملة، ثم يأتي يترجم لعالم ثم يمدح قبره، وأن ضريحه شفاء، ترياق مجرب، هذا فصل بين التوحيد والتاريخ، فالدين وحدة متكاملة، يكمل بعضه بعضاً، وأبوابه يرتبط بعضها ببعض، ولا يتم الفقه فيه إلا إذا تفقهنا على مراد الله، ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فالنصوص -نصوص الكتاب والسنة- وأقاويل سلف هذه الأمة تدعو إلى حسن الخلق، وفي كتب الأدب ما يدعو إلى الفحش، وبذاءة اللسان، وإيراث أو ما يورث الشحناء والبغضاء، كل هذا ينبغي أن يكون طالب العلم على حذر منه.

(185/4)


وفي كتب الأدب التي هذه صفتها مما يعنى به أهل العلم، وإن كان فيها ما فيها، لكن يكون الإنسان على حذر منها، ويستصحب النصوص، ويجعلها هي الحادي والسائق والقائد، ثم بعد ذلك يستفيد من هذه الكتب كما يقول أهل العلم من باب استجمام النفس، وترويح النفس، ويمر فيها في أثنائها بعض الفوائد التي يحتاجها طالب العلم، وكتب التواريخ إذا سلمت من الكذب وعرف ثقة مؤلفيها أنفع من كتب الأدب في هذا الباب، وأكثر فائدة؛ لأن فيها العبرة، يعتبر طالب العلم بما مضى بسنن الله -جل وعلا- الكونية في السابقين واللاحقين التي لا تتغير ولا تتبدل، هذه محل عبرة، لكن بعض المؤرخين لا يتورع عن الكذب أو نقل الكذب، وهنا تكمن المشكلة، وعلى كل حال المقصود بالأدب عندنا الأدب الشرعي، واستمداده من نصوص الكتاب والسنة، نعني حسن الخلق من نصوص الكتاب والسنة، وأقاويل سلف هذه الأمة، والكلام في هذا الباب كثير عند أهل العلم، منظوم ومنثور، فلو رجعنا إلى الآداب الشرعية لابن مفلح، أو غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، الشرح للسفاريني والنظم لابن عبد القوي، ومنظومة الشيخ حافظ الحكمي الميمية في الوصايا والآداب العليمة اشتملت على كثير من مسائل هذا الباب، يقول:
باب ما جاء في حسن الخلق:
"وحدثني عن مالك أن معاذ بن جبل قال: "آخر ما أوصاني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: ((حسن خلقك للناس يا معاذُ بنَ بن جبل)) ".
الأحاديث التي جاءت مرسلة سواءً كانت مما حذف من آخرها أو صارت بلاغات من مالك أو غير ذلك كلها وصلها ابن عبد البر في التمهيد، كلها وصلها، سوى أربعة أحاديث هذا آخرها، التي لم يستطع ابن عبد البر أن يصلها، وأن يجدها موصولة في كتاب من الكتب المعتبرة، على أن ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- وصل هذه الأحاديث الأربعة، فصارت الأحاديث كلها موصولة، لكن لا يعني أنها صحيحة إذا تم وصلها فقد توصل بأسانيد صحيحة، وقد توصل بأسانيد حسنة، وقد توصل بأسانيد ضعيفة.

(185/5)


على كل حال هذا الخبر معناه صحيح، قال: "إن معاذ بن جبل قال: "آخر ما أوصاني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" حينما بعثه إلى اليمن، وقصته معروفة حينما أرسله النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى اليمن، وقال له ما قال ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب)) ... إلى آخر الحديث، وفيه زوائد على الروايات المعروفة المشهورة منها هذا "كان آخر ما أوصاني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضعت رجلي في الغرز" الغرز الذي يركب فيه على الرحل "أن قال: ((أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل)) ".
((أحسن خلقك)) يعني تواضع للناس، وتعامل مع الناس بما يليق بكل إنسان من التعامل، وأمرنا أن ننزل الناس منازلهم، كما في حديث عائشة في مقدمة مسلم، أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، فيتعامل مع الكبير بالاحترام والتقدير والإجلال، والتعظيم، بما يليق به، من غير غلو، ويتعامل مع النظير أيضاً بمثل هذا من المودة والاحترام والتقدير، ويتعامل مع الصغير بالرحمة والرأفة والشفقة، فيعامل كل إنسان بما يليق به.
((أحسن خلقك للناس)) جاء في حديثه الآخر: ((وخالق الناس بخلق حسن)) فحسن الخلق مطلوب، وما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، ((إن أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) كل هذه تدل على أن هذا له شأن في الشرع، ولا يمكن أن تسود المودة والمحبة والاحترام بين الناس إلا بمثل هذا.
((يا معاذ بن جبل)) يا معاذُ منادى مبني على الضم في محل نصب؛ لأنه مفرد، وابن: نعت، أو بدل، أو بيان من معاذ، منصوب؛ لأن محل معاذ النصب، وابن: مضاف، وجبل: مضاف إليه.
قال -رحمه الله-:

(185/6)


"وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: "ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمرين قط إلا أخذ أيسرهما" ما خير بين أمرين، أو في أمرين، بعض الروايات: بين أمرين، وفي بعضها: في أمرين، -عليه الصلاة والسلام- إلا أخذ أيسرهما، والتخيير هذا إما من الله -جل وعلا-، أو ممن بينه عهد أو عقد أو يريد معاملة مع شخص ويخيره الطرف الثاني، فيختار الأيسر -عليه الصلاة والسلام-، لكن اختيار الأيسر بالنسبة لما بينه وبين ربه من التكاليف لا شك أن الدافع إليه الشفقة على أمته -عليه الصلاة والسلام-، كما فعل في ليلة الإسراء وفي غيرها.

(185/7)


"إلا أخذ أيسرهما" الأسهل، ونسمع كثير ممن يتصدر للإفتاء يستدل بهذا الحديث على اختيار الأيسر من أقوال أهل العلم، وهذا الكلام ليس بصحيح، بل باطل؛ لأن اختيار الأيسر من أقوال أهل العلم هو ما يعرف عند أهل العلم بتتبع الرخص، لما كان هناك اختيار نعم الرسول اختار الأيسر، لكن الآن هل في اختيار؟ الآن هل في مندوحة أن تأخذ بالواجب أو لا تأخذ؟ يعني إذا قال مالك أو الجمهور قالوا: طواف الوداع واجب، وقال مالك: سنة، هل لنا خيار في أن ننظر في رأي مالك؟ نختار الأيسر منهما؟ هل هذا محل الحديث وإلا لا؟ محل الحديث لما كان هناك مجال للاختيار، الآن انتهى، كملت الشريعة، كمل الدين، فلا في مجال للاختيار، في مجال راجح ومرجوح، فنأخذ بالراجح ونترك المرجوح، ما في مندوحة ولا في خيار، وإلا لجعلنا مالكاً ومن يضاهيهم من أهل العلم هم أهل التخيير للناس، وهذا ليس بصحيح الذي يخير من بيده الخيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [(36) سورة الأحزاب] ما فيه، ما في خيار، الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر بطواف الوداع، وخفف عن الحائض والنفساء، هل هذا واجب وإلا مستحب؟ لو كان مستحب ما فيه مجال للتخيير، ما فيه مجال للتخفيف، أصل المستحب خفيف، أقوى الناس وأنشط الناس له أن يتركه ما دام مستحب، لكن التخفيف عن النساء النفساء والحيض دليل على أنه واجب، وليس هذا مجال للتخيير، التخيير فيما جاء فيه التخيير، كفارة اليمين {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [(89) سورة المائدة] اختر الأيسر أنت من الثلاثة، تقول: والله رقبة بمائة ألف، والكسوة بألف مثلاً للعشرة، وخمسة عشر كيلو رز بثلاثين ريال أو بخمسين ريال مثلاً، اختر الأيسر؛ لأنه في مجال للتخيير من قبل من يملك التخيير، أما سائر الناس ما لهم خيرة، في دليل راجح ومرجوح، وإذا ترجح عند الإنسان حكم لا يجوز له أن يتنازل عنه بحال من الأحوال، ليس له أن يتنازل، بل يجب عليه أن يعمل وأن يفتي بما يدين الله به، أما أن يترجح

(185/8)


عنده الوجوب، ويقول للناس: هذا مستحب، هذا تشهي، هذا تنازل عن شيء لا يملك التنازل عنه، هذا دين، ولذلك تضيع أمور المسلمين بهذه الطريقة، وعلى إثرها تضيع عبادات الناس، بسبب ضياع الفتوى تضيع أديان الناس، إذا كان الإنسان إذا فعل محرماً وجد من يقول له: ما عليك شيء، انتهى، ويترك فلان، ويذهب إلى فلان، وفلان عرف بالتساهل، وفلان عرف بالتشديد، والآن يلوك الناس بألسنتهم بعض أهل التحري من أهل العلم، ويقولون: فلان لا تستفتونه، كل شيء حرام، يعني هذا موجود، وهذا واقع، والله المستعان.
"ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمرين قط إلا أخذ أيسرهما"، نعم؟
طالب: أحسن الله إليك المشقة تجلب التيسير.
هناك قواعد وعمومات شرعية، يعني المشقة تجلب التيسير، تجلب التيسير في أصل التشريع، يعني المشقة في السفر تجلب رخص السفر، لكن مشقة الصيام في الصيف في الحضر تجلب التيسير؟ تفطر؟ ما تفطر يا أخي، لكن في السفر المشقة تجلب التيسير؛ لأن الأصل في السفر المشقة، ولهذا قرنت به الرخص، فالسفر وصف مؤثر، وسببه في الأصل المشقة، وإذا وجد مشقة لا يحتملها الإنسان، ولا يطيقها أشرف على الهلاك يفطر، فالمشقة تجلب التيسير، مشقة في مستحب، مشقة في ارتكاب مكروه، يعني لا يأثم الإنسان بفعله، أو لا يأثم بتركه، تجلب التيسير؛ لأن فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- المخالف لأمره في حال الاستحباب لبيان الجواز، وفعله المخالف لنهيه الصارف للنهي من التحريم إلى الكراهة إنما هو لبيان الجواز، ويبقى أن الأفضل أن تعمل في المستحب، والأفضل أن تترك في المكروه، هذه الأمور التي فيها خيار، أما الواجبات الصريحة ما فيها خيار، نعم إذا وجد مشقة لا يحتملها الإنسان بحيث تخرج عن طوقه وعادته في تحملها ترخص.
طالب: المسائل التي يكون فيها الخلاف ويصعب فيها الترجيح هل في مثل هذا اختيار الأسهل من أقوال أهل العلم؟

(185/9)


أهل العلم يختلفون في مثل هذا إذا عدم المرجح، منهم من يقول: نختار الأيسر؛ لأن اليسر سيمة هذه الشريعة، ومنهم من يقول: لا، الدين دين تكاليف، ولا تبرأ الذمة إلا بالخروج من العهدة بيقين، فعلى هذا تأخذ بالأشد، وهما قولان لأهل العلم، لكن إذا توقف الإنسان في مسألة ما لم يستطع فيها الترجيح، بأن صارت من عضل المسائل، يعني الكفتان متساويتان، الواجب في مثل هذه الصورة على المجتهد أن يتوقف حتى يترجح لديه أحد القولين، إن ضاق عليه الوقت ولم يستطع الترجيح له أن يقلد، له، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هو الأصل أن الدين يسر ((إن الدين يسر)) لكن يسر نسبي، لكنه يسر نسبي، يعني هل في ديننا إذا أصابتك نجاسة تقرضها بالمقراض؟ نعم هل في ديننا من التوبة أن تقتل نفسك؟ لا، الآصار والأغلال التي كانت علينا كلها انتهت، التي كانت على من قبلنا، فديننا يسر بالنسبة للشرائع السابقة، وإلا من قال {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [(7) سورة النحل] يعني ما .. ، هذا نص شرعي، ماذا نعمل بهذا النص؟ كيف نعمل بمثل هذا النص؟ ولا ينكر أحد أن صيام الهواجر شاقة على النفس، هل نقول: من يسر الدين أن نترك الصيام في الصيف؟ لا.
طالب: الاجتماع على الرأي المرجوح أولى من الاتفاق على. . . . . . . . .
أهل العلم في بعض القضايا وبالنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على بعض الأقوال، يرون أن الإمام له أن يرجح قولاً مرجوحاًَ لمصلحة راجحة، فالمرجوح ليس بملغى، يعني له دليل، أقول: له دليل، وله ما يرجحه في بعض الأحوال، وهذا معروف عند أهل العلم.
"إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً" كيف يكون إثم؟ يعني مفضياً إلى الإثم، بمعنى أن .. ، لو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اختاره، وعمل به، وشق على من بعده.
طالب:. . . . . . . . .

(185/10)


. . . يفضي إلى الإثم، ما لم يكن إثماًَ، يعني يفضي إلى الإثم، فيختاره النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعمل به، وعمل به الصدر الأول، ثم بعد ذلك شق على بعض الناس، مما جعلهم يتركونه لشدته عليهم، يفضي في مثل هذه الحالة إلى الحرج، كما أسف وندم على دخوله البيت -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه في هذا شق على أمته، يعني لو تضافر المدح، مدح دخول البيت وفعل دخول البيت، لو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حث عليه مع كونه دخله، ألا يقتتل الناس على دخوله؟ يعني لو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اعتمر في رمضان مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) في رواية: ((حجة معي)) يعني لو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اعتمر في رمضان تقاتل الناس عليه، لكن لما ما اعتمر، وحث عليه، ولم يعتمر، كثير من الناس يقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل الخلق، وأكمل الخلق ما اعتمر، فيصير في شيء من التخفيف على الأمة، لكن لو تضافر القول والفعل لاقتتل الناس عليه، ولذلك ندم -عليه الصلاة والسلام- على دخول البيت.
"فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه" -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه معصوم من ارتكاب الإثم، ومع ذلك يكره ما يكرهه الله -جل وعلا-، فهو أشد الناس كراهية لما يكرهه الله -جل وعلا-؛ لمنزلته عند ربه، والموافقة في المحاب والمكاره، لا شك أن هذا دليل المحبة.
"وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه" نعم أساء بعض الناس الأدب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- مما سمعه النبي -عليه الصلاة والسلام- أو بلغه ومع ذلك ما انتقم.
"ما انتقم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله" قد يقول قائل: لماذا حد الذين خاضوا في الإفك، أليس هذا انتقام للنفس؟ نقول: لا، هذا انتهاك حرمة؛ لأن القذف كبيرة من كبائر الذنوب، وفيها الحد، فهذا ليس انتصاراً لنفسه، وإنما هو لأنها انتهكت حرمة الله -جل وعلا-، فينتقم لله بها، وأمر بقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وكان يهجو النبي -عليه الصلاة والسلام- ويسب الدين، ولسبه للدين ولكونه ارتد عن الإسلام استحق القتل، لا لأنه سب النبي -عليه الصلاة والسلام- فيكون منتصراً لنفسه.

(185/11)


قال: "وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ".
علي بن الحسين تابعي، فالخبر مرسل، لكنه مسند في الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري، مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فالحديث أقل أحواله أنه حسن.

(185/12)


((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) لأن فيما يعنيه ما يشغله عما لا يعنيه؛ لأن فيما يعنيه، الوقت لا يستوعب ما يعنيه، فكيف إذا اشتغل بما لا يعنيه؟ لا شك أنه يترتب على ذلك التفريط بما يعنيه من أمور دينه ودنياه، فلو أن كل إنسان اشتغل بخويصة نفسه وما يعنيه لانتهى كثير من المشاكل، لكن الفضول والتدخل في أمور الناس هذا الذي يورث المشاكل بين الناس، ولا يعني هذا أن فلاناً من الناس ارتكب معصية لا ينصح ولا يؤمر ولا ينهى؛ لأن الأمر لا يعنيك، إلا الأمر يعنيك، مما يعنيك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعنيك النصيحة لأخيك المسلم، نعم، يعنيك تغيير المنكر، فإذا وجد مثل هذا فإن هذا مما يعنيك؛ لأنه قد يستدل بهذا الحديث من يرى ترك النصيحة للناس، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دع الناس وشأنهم، هذا لا يعنيك، عليك بخويصة نفسك، ولذا المغرضون أعداء الدين، وأعداء الملة يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في شئون الناس، إذا كان تدخل في شئون الآخرين معناه أنه ليس مما يعنيك، و ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) نقول: لا، هذا الكلام ليس بصحيح، أنت مسئول عن هذا المنكر، وعن تغيير هذا المنكر ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) هذا الأصل، ((فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) فلا بد من التغيير، لا بد من بذل النصيحة، ((الدين النصيحة)) أسلوب حصري، الدين النصيحة ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) فالدين هو النصيحة، ومن الدين الذي هو النصيحة أن تنصح لأخيك لكونه دخل في شيء يضره، ما يقال: هذا والله تدخل في شئون الناس، أنت عندك خبرة في التجارة، في الزراعة، في الصناعة، رأيت أخاك تورط في مشروع يضره في مجال من هذه المجالات تسدي له النصيحة، ما يقال: والله أنت ملقوف تدخلت في أمر لا يعنك، لا، هذا الأمر يعنيك؛ لأنك مكلف به شرعاً، ((الدين النصيحة)) كالأمر والنهي.

(185/13)


((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) لكن رأيت عمارة شاهقة تم بناؤها وتم استثمارها فتأتي وتنظر فيها ولا تسدي نصيحة إلى صاحبها، يعني لو عدلت كذا، أو فعلت كذا في أثناء العمل، لا بأس هذه نصيحة، لكن تنظر إليها بعد تمامها وبعد استثمارها وتتحدث بينك وبين نفسك وبين أناس آخرين لا يعنيهم الأمر، شوف هذا المفترض أنه حطها عشرين دور بدل خمسة عشر، المفترض، هذا لا يعنيك، هذا ضياع وقت بالنسبة لك، إن كان عندك نصيحة اذهب وأسدها إلى صاحبها، نعم، أو تتحدث في المجالس أن فلاناً بنا عمارة، وأسكنها من يستعملها فيما لا يرضي الله -جل وعلا-، اذهب يا أخي وانصحه، هذا المفروض، لا تتحدث به في المجالس؛ لأن حديثك في المجالس الذي لا يترتب عليه مصلحة هذا هو الذي لا يعنيك، بخلاف بذل النصيحة لأخيك.

(185/14)


قال: "وحدثني عن مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: "استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني جاء تعيينه أنه عيينة بن حصن، أو الأقرع بن حابس، من الجفاة، ممن أسلم ولما يقر الإيمان في قلبه، أسلموا ودخلوا في الإسلام، ثم بعد ذلك "استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت عائشة: وأنا معه في البيت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بئس ابن العشيرة)) " يقوله لعائشة، ((بئس ابن العشيرة)) يعني ذكر الإنسان بما فيه لا سيما مثل هذا الذي جاهر وأعلن بخلقه البذيء السيئ الذي يجاهر بما حرم الله -جل وعلا-، سواءً كان في الأخلاق أو في العبادات، أو المعاملات هذا معروف أنه هو الذي فضح نفسه، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أذن له قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لم أنشب" يعني لم ألبث "أن سمعت ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه" يعني المفترض يعني في اتحاد المواقف أنه ما دام بئس أخو العشيرة على حد فهم عائشة -رضي الله عنها-، وهذا الذي يتبادر إلى أذهان عموم الناس، ما دام بئس أخو العشيرة ليش تضحك معه؟ وتنبسط معه؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام- انبسط معه، وضحك معه، فاستغربت عائشة -رضي الله عنها- "فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت، ثم لم تنشب أن ضحكت معه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره)) " يعني مثل هذا يلاطف في القول، ويدارى في الكلام اتقاء شره، وأهل العلم يقررون أن المداراة مطلوبة، يعني في التعامل بخلاف المداهنة، المداهنة التي يترتب عليها تنازل عن واجب، أو تجاوز محظور، أو ارتكاب محظور، هذا لا يجوز بحال، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [(9) سورة القلم].
أما المداراة والتعامل مع الناس بما يحقق المصلحة ولا يترتب عليه أدنى مفسدة، فإن هذا أمر شرعي، ولذا ترجم عليه الإمام البخاري: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، وفي مسلم في كتاب الأدب: باب مداراة من يتقى فحشه، ومعروف ترجمة الإمام البخاري من الإمام البخاري، وأما ترجمة مسلم فهي من الشراح، وهنا من النووي.

(185/15)


قال: "وحدثني عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن كعب الأحبار"، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
ما ترتكب محظور ولا تترك مأمور، إن ارتكبت محظور أو تركت مأمور هذه مداهنة.
"وحدثني عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن كعب الأحبار أنه قال: "إذا أحببتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه انظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء" هذا موقوف على كعب، ومعناه صحيح.
في المرفوع عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه مر بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: ((وجبت، وجبت، وجبت)) ثم مر بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: ((وجبت وجبت، وجبت)) فقالوا للرسول -عليه الصلاة والسلام-، حصل هذا وحصل هذا وقلت: وجبت في الأول، وقلت: وجبت في الثاني، قال: ((نعم، أثنيتم على هذا خيراً فوجبت له الجنة، وأثنيتم على هذا شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه)) فيقول هنا: "إذا أحببتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء".
ثم قال: "وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: "بلغني أن المرء ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الظامي بالهواجر" لا شك أن حسن الخلق كما جاء في الحديث أثقل ما يوضع في الميزان، أو من أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق، فإذا وجد حسن الخلق ووجد سيء الخلق، وقائم صائم، لا شك أن هذا يبلغ درجته، وقد يفوقه على حسب ما عند الثاني من حسن في خلقه أو عدمه.

(185/16)


"وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "ألا أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين" لأن الصلاة نفعها قاصر، والمقصود من الصلاة النافلة، وإلا الفريضة لا يعدلها شيء من الأركان، فضلاً عن الواجبات، الفريضة لا يعدلها شيء، وإن كان نفعها قاصراً إلا أنها الركن الثاني بعد الشهادتين، والصدقة نفعها لا شك أنه متعد؛ لكنه آني، تتصدق على إنسان بدرهم أو دينار، يأكله فينتهي منه، نعم، ونفع متعدي، ولا شك أن ثوابه عظيم، لكن إصلاح ذات البين، رجل مع زوجته تدابرا وتقاطعا، وقرب أمرهما من الفراق تصلح بينهما، هذا من أعظم الأمور، والإصلاح بين الناس صدقة، أو أخوان تقاطعا من ذو سنين بسبب إرث، أو وقف، أو ما أشبه ذلك، أو ابن مع ابنه، أو ابن مع أبيه، وهكذا.
قال: "إصلاح ذات البين" لأنه نفع متعد ودائم، وأما الصلاة فنفعها قاصر، والصدقة نفعها متعد، لكنه منقطع.
"وإياكم والبغضة" البغضة شدة البغض والحقد على الناس، تحمل بغضاً للناس، وحقداً عليهم، وتتربص بهم، وتفرح إذا أصيبوا، وقد يظهر من ملامح وجهك شيء من ذلك، فلا شك أن هذا من الأمور المحذر منها، المكروهة لدى الشرع.
"إياكم والبغضة فإنها هي الحالقة" الحالقة التي تحلق الدين وتستأصله، كما يحلق الموسى الشعر، ولذا جاء في الحديث المرفوع: ((لا أقول: تحلق الشعر، وإنما تحلق الدين)).

(185/17)


قال: "وحدثني عن مالك أنه قد بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) " هذا الحديث موصول من وجوه عن أبي هريرة، ((بعثت)) النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما بعث هادياً للناس كافة، بشيراً لمن أطاعه، نذيراً لمن خالف أمره، في بعض الروايات الحصر ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) وعلى كل حال هذا الأسلوب سواءً كان حصرياً أو غير حصري فإنه من باب العناية والاهتمام بشأن حسن الخلق، وكان الناس على خلق قبل بعثته -عليه الصلاة والسلام- كانوا على خلق موروث عن أبيهم إبراهيم -عليه السلام-، لكنهم فرطوا في كثير منه، وجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- بما فرطوا به وزيادة عليه مما لم يأتهم من قبل عن طريق الأنبياء والرسل، فتمم -عليه الصلاة والسلام- حسن الأخلاق ومكارم الأخلاق كما في الروايات الأخرى -عليه الصلاة والسلام-.
تفضل.
طالب:. . . . . . . . .
يقول البخاري -رحمه الله-:
باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.
يعني لو أن شخصاً عرف واشتهر بين الناس بأمر مما ينكر عليه في الشرع نصح فلم ينتصح، كما يوجد في الذين يكتبون في الصحف، ويتكلمون في القنوات وفي المجالس، وفي المجالس الرسمية وغيرها، هل يقال: إن مثل هذا بيان شره، وبيان منزلته في الشرع، هل يقال مثلاً: إن هذا غيبة؟ نعم؟ ليس بغيبة، هذا الرجل عرف بسوء الخلق، ومن النصيحة للناس أيضاً أن يُعرف، من لم يعرف يعرفه، يعني هذا من باب النصيحة للناس أن يقال فيه مثل هذا الكلام، وإذا اقتضت النصيحة الكلام في الإنسان فيما يكره، الذي جاء عموم النهي عنه، وتسميته غيبة، إذا كانت المصلحة راجحة فلا شك أن مثل هذا يجوز، بل قد يجب أحياناً، يعني الكلام في الرواة غيبة في الأصل، لن صيانة للسنة لا بد من الكلام فيه.
مثل ما كتب هنا يقول في الحديث: ((بئس أخو العشيرة)) كيف يتم فهمه مع الوعيد الذي جاء في الغيبة؟

(185/18)


عرفنا هذا أنه لأنه تظاهر بفحشه، وصار الناس يتقونه من أجل شره، فإذا كان بهذه المثابة لا مانع من الكلام فيه، وأنه ليس على منهج؛ لأنه قد يظن بعض السذج أن مثل هذا الصنيع من هذا الرجل أنه هو الحزم؛ لأن بعض الناس لا يربيهم إلا الشدة والقوة والقسوة، قد يقال: إن هذا حزم، نقول: هذا ليس بصحيح، هذا شر، فعلى الناس أن يتقوه ليكون من شر الناس هو، ما دام الناس يتقونه من أجل شره فإنه يكون حينئذٍ من شر الناس.
سم.
أحسن الله إليك.

باب ما جاء في الحياء:
وحدثني عن مالك عن سلمة بن صفوان بن سلمة الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء)).
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب ما جاء في الحياء:

(185/19)


الحياء خلق حميد شرعي، يورث في صاحبه ومن تحلى به الانقباض عما لا يحمد شرعاً أو عرفاً، فهذا الخلق الشرعي الذي لا يأتي إلا بخير، وهو من الإيمان، كما جاء في حديث الشعب، وكما سيأتي في الحديث حديث الباب الثاني، قد يلتبس على بعض الناس الحياء العرفي بالحياء الشرعي، الحياء الشرعي يورث الانكفاف عما لا يحمد، الانكفاف عما يحمد ليس بحياء شرعي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح الناس وبذلهم وتوجيههم وتعليمهم، بعض الناس قد يخجل منه، لا يستطيع أن يقارفه حياءً وخجلاً، هذا حياء عرفي، لكنه يوجب الانكفاف عما يحمد شرعاً، فليس من الحياء الشرعي في شيء، هذا الخجيل يورث الانكفاف عما يحمد شرعاً، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محمود وإلا مذموم شرعاً؟ محمود، النصيحة للناس، توجيه الناس، عظة الناس، هذا كله محمود، فإذا كان الحياء يكف عن أمر محمود شرعاً، يكف هذا الحياء العرفي عن أمر محمود قلنا: هذا ليس بشرعي، وخجل مذموم، بينما إذا كان هذا الخلق الحميد يكف الإنسان عما يذم شرعاً فإنه حينئذٍ يكون محموداً، وهو الحياء الذي لا يأتي إلا بخير، يقول ... نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
طالب:. . . . . . . . .
هو موجود من القدم، يعني التقسيم هذا موجود من القدم بجامع أن كلاً منهما يدعو إلى الانكفاف، يعني عموم مواجهة الناس حياء، أو عدم مواجهة الناس حياء، فإن كان عدم مواجهتهم فيما يذم، بعض الناس تجده يواجه الناس فيما يذم به شرعاً، هذا لا عنده لا حياء شرعي ولا عرفي هذا، وهذا قد يكون هو القسم الأخير إذا قسمناه تدريجياً قلنا: إن هناك حياء يكف عما يذم به شرعاً، ولا يكف عما يحمد به شرعاً، هذا إيش؟ المحمود، المحمود من كل وجه.

(185/20)


وهناك حياء يكف مطلقاً عما يحمد وعما يذم هذا الخجل، هذا أيضاً محمود من وجه، مذموم من وجه، بعض الناس، القسمة رباعية، بعض الناس لا يوجد عنده لا هذا ولا هذا، لا يستحيي من أحد، وجاء في الحديث: ((إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) هذا مذموم، مذموم من كل وجه؟ لا، قد يمدح من وجه، هذا لا يستحيي مطلقاً، تجده يقدم على ما يذم به، ولا يستحيي أن ينكر على من يأتي مذموماً، هذا من وجه دون وجه.
القسم الأخر الأرذل المذموم من كل وجه الذي لا يستحيي عما يذم به، ويستحيي عما يمدح به، أيضاً القسمة الرباعية ظاهرة، نعم، في من لا يستحيي مطلقاً يقدم على كل شيء محمود ومذموم هذا موجود في الناس، يعني عادي أن يواجه إنسان على لا شيء لأتفه الأسباب بما يسوؤه، وعادي أن ينكر منكر سيان عنده؛ لأنه ما في شيء اسمه شيء يردعه عن مواجهة الناس، سواءً كانت بحق أو بباطل، ويقابله الذي يستحيي من إنكار المحمود والمذموم، وبين المرتبتين من يستحيي من إنكار المحمود، بل لا يقدم عليه، ولا يستحيي من إنكار المذموم والعكس، ولكل واحدة منزلتها.

(185/21)


الحياء العرفي الذي يكف عما يحمد به شرعاً، الحياء المذموم هذا الخجل موجود بين الناس، تقول له: قم اتكلم يقول: ما أقدر، بعض الناس تقول له: صل بالناس، يقول: ما أستطيع، ولو كان من الحفاظ، يعني ما في مبرر لهذا الخجل، يعني ما في شيء محسوس أو شيء يمنعه، يعني يوجد مثل هذا مع الأسف مع طلاب العلم في مناسبات كثيرة، يصلي الناس ظهر وعشرين ثلاثين من الجماعة من خريجي الكليات الشرعية، ما يستطيع أن يواجه الناس هذا محمود وإلا مذموم؟ مذموم بلا شك، وحصل وقائع من هذا النوع، يصلون ظهر وفيهم من هو كفؤ، لكنه ما تعود، وقد يقوم بهذه المهمة مع وجود أخيار وطلاب علم، يقوم بها شخص فاسق؛ لأنه تعود هذا الأمر، وليكن مذيع مثلاً، مذيع بقناة مثلاً، تعود هذا الأمر ولا يصعب عليه أن يصعد المنبر ويخطب بالناس، لكن هل هذا بالنسبة لطلاب العلم محمود وإلا مذموم؟ مذموم يا أخي بلا شك، مذموم، وعلى طالب العلم أن يهيئ نفسه لكل ما يمدح به شرعاً، وكم حصل من قضية صارت مفتاح خير لبعض العلماء، يعني تجد مثلاً من يشار إليهم بالبنان بالخطابة الآن، سبب ذلك أنه أحرج في موقف، قيل له: اخطب، قال: والله ما تهيأ، ولا تعود، ثم خطب على ضعف، يعني أول خطبة تعرفون ويش وضعها؟ قال: ما دخلت مسجد لصلاة الجمعة إلا وفي جيبي خطبة، ومع الوقت ترك الخطب المكتوبة، وصار معروف من مشاهير الخطباء.
المقصود أن مثل هذه الأمور لا بد أن يتعود عليها، بعض الناس تقول: والله الآن إحنا جالسين مرتاحين ومبسوطين، وفي ناس عندهم أغاني بجواركم، بنزهة، برحلة، تقول: قم يا أخي انصحهم وإلا ذكرهم، يقول: والله ما تعودت، أنكر عليهم، والله ما تعودت، ويش معنى ما تعودت؟ هذا حال كثير من طلاب العلم، فهذا الحياء ممدوح وإلا مذموم؟ مذموم.

(185/22)


المقصود أن مثل هذه الأمور لا شك أنها الحياء الذي لا يأتي إلا بخير هو الحياء الشرعي، يذكر بعض الناس عن أنفسهم خلاف ما يتوقعه الإنسان إطلاقاً من خلال ما كتبوا، يعني في الحياء واحد كتب عن حياته مجلد، ويقول عن نفسه في هذا الكتاب، وهو مدرس في مدرسة القضاء الشرعي، وله زميل في نفس المدرسة، واحتاجوا إلى تعلم اللغة الإنجليزية، يقول: لنرى العالم بالعينين بدل عين واحدة، فقلت لصاحبي: ابحث عن مدرس، وأنا أبحث، كل واحد بطريقته، ثم نتعلم عليه، يقول: بحثت فوجدت شخص إنجليزي شاب وزوجته، في شهر الزواج، توا متزوجين، فقلت لصاحبي: وجدت البغية، أنت لك الزوج، وأنا لي الزوجة، هذه تعلمنا، وهذا تعلمك، هل هذا مما يستحى منه شرعاً وإلا لا؟ نعم، هذا كتبه في مذكرته في حياته، نعم، ومع ذلك يقول: إنها تقول: إن العين العربة صعبة، يعني قصده حرف عين، يعني صعب عليها تنطقها، وقلت لها: إن العين الإنجليزية أصعب، هو يقصد عينها، نسأل الله العافية، هل مثل هذا الكلام مما يستحيا منه شرعاً وإلا لا؟ بلى، بالمقابل بنفس الكتاب يقول: أجلس في المجلس ساعتين ثلاث ساعات، وأنا أحتاج الدورة استحيي أن أستأذن، نفس الشخص، ولذلك يحصل وجود ما يذم، وانتفاء ما يمدح، يوجد تناقضات في مثل هذا، تجد إنسان عنده جرأة ينكر الحق، ويستحيي عن إنكار الباطل، يعني الناس فيهم من هذه النوعيات، نسأل الله العافية.
طالب: لكن يا شيخ -أحسن الله إليك- هل يسمى حياءً؟
هو خجل، لكن الحياء العرفي يشمله هذا، الكلام على الحياء العرفي، حتى من القدم، حتى الشراح يعظ أخاه في الحياء، ها شوف يعظ أخاه في الحياء.
طالب:. . . . . . . . .
لا، لا لا، الشراح بينوا هذا.
طالب:. . . . . . . . .
إيه الحياء الشرعي لا يأتي إلا بخير، والحياء بمفهومه العام نعم فيه وفيه، لكن الحياء الشرعي لا يأتي إلا بخير.

(185/23)


يقول: "وحدثني عن مالك عن سلمة بن صفوان بن سلمة الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-" وهو مرسل "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لكل دين خلق)) " يعني الأديان السماوية جاءت للأمم بالخير واتقاء الشر، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، -عليه الصلاة والسلام-.
قال: ((لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء)) خلق الإسلام الحياء، ولذلك تجد المسلم يستحيي من ذكر أشياء لا يخجل عن ذكرها غير المسلم مما يستحيا منه شرعاً أو عرفاً، فخلق هذا الدين الحياء، وجاء في الحديث الصحيح: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) فدل على أن الحياء متوارث في سائر الأديان، لكنه في هذه الديانة -في الإسلام- برزت مظاهره ومعالمه أكثر، وصار شأنه في هذا الدين أعظم.
في الحديث الصحيح: "إن الله لا يستحيي من الحق" وفي الآية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} [(26) سورة البقرة] "إن الله لا يستحيي من الحق" إيش معنى "لا يستحيي من الحق" يعني يشيع على ألسنة الناس: لا حياء في الدين، هذا الكلام صحيح وإلا ليس بصحيح؟
طالب: ليس بصحيح.
يعني إن كان القصد منه في مسائل الدين كما قالت أم سلمة: "إن الله لا يستحيي من الحق" يعني في مسائل الدين، يعني لو أردت أن تسأل عن مسألة لا حياء فيها، على هذا الوجه يمكن حمله صحيح، لكن إذا كان نفي للحياء بالكلية عن الدين أبداً هذا العكس، الحياء كله خير، وخلق الإسلام الحياء.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [(26) سورة البقرة] إيش معنى لا يستحيي؟ يعني لا يترك؛ لأن مآل الحياء الترك، فالحياء الذي يؤدي إلى ترك الحق منفي عن الله -جل وعلا-.

(185/24)


قال: "وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء" يعني يقول له: لا تستحي أنت، هذا موجود في معاملات الناس وأعراضهم، تجد واحد عاشر الناس، عاملهم، وصار مثلما يقولون: خراج ولاج، نعم، وله أخ ما تعود ولا تمرن على هذا، ويقول له: خذ هذه البضاعة بعها، أو حرج عليها بالمزاد، هل كل إنسان من الناس يستطيع أن يقول: من يزيد؟ يرفع صوته بهذا؟ نعم؟ كثير من طلاب العلم لا يستطيع أن يبلغ خلف الإمام، إذا قال: الله أكبر، رفع صوته بالله أكبر، صح وإلا لا؟ فضلاً عن كونه يحرج بين الناس، كم نقول، كم نقول، يقول يا أخي -يعظ أخاه-: لا تستحي، اشتغل، ترزق، نعم يعظ أخاه في الحياء، ولعله يقصد به الحياء مطلقاً، يعني لا تستحي مطلقاً، لا عما يحمد، ولا عما يذم، ولذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((دعه)) يعني اتركه، ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) وفي رواية: ((لا يأتي إلا بخير)) نعم الحياء من الإيمان، الحياء شعبة من شعب الإيمان ((الإيمان بضع وستون شعبة)) في مسلم: ((بضع وسبعون شعبة)) في بعضها: ((ستون أو سبعون، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان)).
سم.
أحسن الله إليك.

باب ما جاء في الغضب:
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلاً أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن، ولا تكثر علي فأنسى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تغضب)).
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب ما جاء في الغضب:

(185/25)


الغضب معروف لا يحتاج إلى بيان، وبيانه كبيان الماء، الغضب خروج النفس عن حد الاعتدال بسبب المثير، والغضب غريزة موجودة عند الناس، لكنهم يتفاوتون فيها، فمن الناس من يثور لأدنى سبب، ومن الناس من يثور لغير سبب، ومنهم من لا يثور، ومنهم من يغلي قلبه بالغضب لأتفه الأسباب، ومنهم الحليم الذي اتصف بالحلم والأناة، كالأحنف، وممن وصف بذلك معن بن زائدة المشهور، حصل رهان بين اثنين إن أغضبه فله كذا وكذا من الإبل، فجاء إليه وسبه بأبشع أنواع الهجاء والذم بالشعر المحفوظ إلى اليوم، ومع ذلك يعرض عنه إلى أن أيس من إغضابه، وهذه منة ونعمة، لكن هناك مواقف لا بد فيها من الغضب لا سيما إذا انتهكت محارم الله -جل وعلا-.
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
لا سيما بعض الناس إذا ما تعومل معه معاملة تردعه عن بعض تصرفاته يسترسل، فمثل هذا لا بد أن يكف، ولا شك أن الغضب غريزة، ويزيد مع عدم الكف، وعدم خزم النفس، والحلم بالتحلم، يعني مع الوقت تجده يتصف بهذا الخلق، وإن لم يكن متصفاً به قبل ذلك، كما أن العلم بالتعلم، كذلك الحلم بالتحلم، والفقه بالتفقه.
"أن رجلاً أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن" كلمات "ولا تكثر علي فأنسى" مثل الذي قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأرشدني" هنا: "علمني كلمات أعيش بهن، ولا تكثر علي فأنسى" يعني لو علمه حديثاًَ طويلاً يشتمل على جمل كثيرة يمكن ينسى بعضه، لا سيما وقد عرف من نفسه ضعف الحافظة.

(185/26)


"ولا تكثر علي فأنسى، وأعيش بهن" يعني أنتفع بهن في معيشتي في ديني وفي دنياي "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تغضب)) " وأي نصيحة أبلغ من هذه النصيحة، وكم للغضب من آثار على الشخص نفسه، وعلى غيره، والغضب مؤثر تأثيراً بالغاً في صحة الإنسان، وله أيضاً آثار متعدية تصل إلى حد القتل، تصل إلى حد القذف، تصل إلى حد أن يقول كلمة لا يلقي لها بالاً أثناء غضبه يهوي بها في النار سبعين خريفاً -نسأل الله السلامة والعافية-، وكمن إنسان شتم الدين بسبب الغضب، وكمن إنسان وقع في عظائم الأمور بسبب الغضب، ولذا الغضب من الشيطان، فإذا وجده الإنسان فليغير وضعه، إن كان واقفاً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع أو ليقف، المقصود أنه يغير وضعه، وإن توضأ؛ لأن حرارة الشيطان إنما تطفأ بالماء.
قال: "وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس الشديد)) " ليس الشديد القوي ((بالصرعة)) يعني الذي يصرع الناس ليس هذا هو الشديد، ليس هذا هو القوي، ليس هذا الذي يمدح بقوته، جاء في الحديث الصحيح: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) وما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- الرجل القوي، قال: المؤمن، يعني القوي في إيمانه، ((خير من المؤمن الضعيف)) في إيمانه، ويتبع ذلك ما يتطلبه الإيمان من قوة في البدن، وإعداد للعدو، وما أشبه ذلك، هنا يقول: ((ليس الشديد بالصرعة)) الذي يصرع الناس، وهذا البناء صرعة لاسم الفاعل صرعة، يعني ضحكة، همزة، لمزة، الذي يصرع الناس، لمزة الذي يلمز الناس، همزة الذي يهمز الناس.
بعض التراجم، تراجم الأئمة يقولون: الإمام العالم، المتفنن، الرُحْلة، رُحْلة، هذا اسم المفعول، يعني يرحل إليه، ورُحَلة يعني يرحل اسم الفاعل.
((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) يستعيذ بالله من الشيطان، ويتوضأ ويترك هذه الآثار المترتبة على الغضب، ولا يرتب عليه ما يتطلبه الغضب عند دخول الشيطان من قتل، من سفك دم، من كلام بذيء، كثيرا ًما يحصل الطلاق بسبب الغضب، ثم بعد ذلك الندم، وكلام أهل العلم في طلاق الغضبان معروف.

(185/27)


المقصود أنه مسبباته كلها أو جلها سيئة، يُندم عنها بسرعة، أو يندم صاحبها بسرعة، فعلى الإنسان أن يملك نفسه عند الغضب، وقد يقول الإنسان: هذا شيء لا أستطيع أن أملك نفسي، أنا جبلت على الغضب، لكن الحلم بالتحلم، ومع ذلك أُثر عن بعض الصحابة أنه كان شديد الغضب لكنه وجه من قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى كثرة الاستغفار، وعليه أن يتحلم، وينظر في عواقب الأمور قبل أن تصدر عنه، وإذا حصل منه أو بدر منه شيء مما لا تحمد عقباه لا بد أن يتحمل المسئولية، فإذا غضب وتكلم في حق فلان أو علان لا بد أن يذهب إليه، ويستسمحه، ويستبيحه ويستحله مما حصل منه، والله المستعان.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(185/28)


شرح: الموطأ – كتاب حسن الخلق (2)
باب ما جاء في المهاجرة - باب ما جاء في لبس الثياب للجمال بها

الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب ما جاء في المهاجرة:
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال)).
قال مالك -رحمه الله-: لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن أخيك المسلم فتدبر عنه بوجهك.
وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)).
وحدثني عن مالك عن عطاء بن أبي مسلم عبد الله الخراساني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا وتحابوا وتذهب الشحناء)).
وحدثني عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)).

(186/1)


وحدثني عن مالك عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا أو اتركوا ...
فيقال؟
فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا.
أو اركوا؟
في سقط.
"أو اركوا هذين حتى يفيئا"
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب ما جاء في المهاجرة:
المهاجرة: مفاعلة من الهجر، وهو الترك، ومنه الهجرة، الهجرة الممدوحة من الترك أيضاً، ترك بلاد الكفر إلى ديار الإسلام، وعموم الترك فيه ما يمدح، وفيه ما يذم، والمهاجرة هنا مفاعلة من الهجر الذي هو ترك الصلة، فالمهاجرة في مقابل الصلة، وكل من الهجر والصلة في الشرع علاج، إذا وجد السبب المقتضي للهجر ترجح، وإلا فالأصل أن المسلمين أخوة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [(10) سورة الحجرات] ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) هذا هو الأصل، لكن إذا ارتكب ما يقتضي الهجر فالهجر شرعي، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هجر الذين تخلفوا عن غزوة تبوك خمسين يوماً، فالهجر لأمر شرعي، لمخالفة شرعية لبدعة أو ارتكاب محظور حتى يفيء، حتى يرجع، وكان هذا الهجر وترك الصلة أنفع وأجدى بالنسبة لهذا الشخص فهو شرعي، مطلوب، أما إذا كانت الصلة أنفع له وأقرب إلى أن يؤلف قلبه بهذه الصلة ويرجع ويفيء عما كان عليه من مخالفة فالصلة أرجح من المهاجرة.

(186/2)


يقول: "حدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه)) " يعني في الدين، ومن باب أولى أخوة النسب إذا اجتمعت مع الدين، فإذا اجتمعت مع الدين كان الحق أعظم، وإذا وجدت أخوة الدين فهي أقوى من أخوة النسب، وأخوة النسب المجردة عن الدين لها حقها من الصلة، يعني لا يمنع أن يصل أخاه ما لم يكن محارباً للمسلمين، المقصود أنه يقول: ((لا يحل)) يعني لا يجوز، بل يحرم للمسلم ((أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال)) يهاجر سواءً كانت المهاجرة من الطرفين، بمعنى أن كل واحد منهما يهجر الآخر ولا يصله، أو من طرف واحد، بمعنى أن أحدهما هاجر لأخيه والثاني واصل، فالهاجر هو الذي لا يجوز له هذا الفعل، والثاني إن وصلهم مع القطيعة من قبلهم فكأنما يسفهم المل كما في الحديث الصحيح.
((لا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال)) فوق ثلاث ليال مفهومه أن الثلاث الليال تجوز المهاجرة فيها، تجوز القطعية فيها، ثلاث ليال، ولو كان مقصود القطع إن كان القطع مقصود، وعدم الصلة مقصودة لمشاحنة بينهما، فالنفس لها حظ، تُركت لها هذه الفرصة ثلاث ليال، وإلا فقد يهجر الإنسان أخاه شهراً ولا يأثم بمعنى أنه مجرد ترك من غير قصد للهجر، يعني كون الإنسان ما يزور أخاه إلا في الشهر مرة من بين مقتضٍ لهذا الهجر، ومن غير مقصد، من غير قصد لهذا الهجر وهذا الترك، والنفوس سليمة لم يداخلها شيء فلا مانع، بل الإنسان يرتب مع أخيه ويقول: والله أنا مشغول، وأنت مشغول لو تكون لنا دورية في الشهر مرة، هل نقول: إن هذا هجر أخاه فوق ثلاث؟ نعم؟ إنما المقصود به الهجر مع القطع، مع قطع الرحم الذي يقتضي القصد لهذا الهجر.
((فوق ثلاث ليال)) فالثلاث فما دون جائزة بمفهوم هذا الحديث؛ لأن النفس لها حظ، يعني تأخذ النفس شيئاً من حظها مما جبلت عليه في الشرع، كما أنه لا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا أن يكون الزوج، فالنفس أيضاً لوحظ حقها في مثل هذا.

(186/3)


((فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) الترك من غير قصد ومن غير هجر لا يمكن أن يوجد منه هذا الأثر يعرض هذا ويعرض هذا، بل إذا التقيا تبادلا ما يدل على المحبة والمودة بينهما، لكن الهجر المقصود ولو كان فوق ثلاث ليال شيئاً يسيراً؛ فإنه يحرم؛ لأنه يلزم منه أن يعرض هذا إذا التقيا، ويعرض هذا عن أخيه، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، وواقع كثير من الناس لا سيما من العامة، وقد يوجد من بعض الخاصة أن الكبير يستنكف أن يبدأ الصغير، نعم الصغير في الشرع عليه أن يحترم الكبير، ويسلم الصغير على الكبير نعم لكن لو سلم الكبير على الصغير لا شك أن مثل هذا يكون خيرهما، ((فخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) وكثير من الناس إذا قيل له: بينك وبين أخيك قطيعة، قال: أنا أكبر منه، الحق لي، أنا لي الحق، أو أنا العم، لي الحق، أو أنا الخال لي الحق، لا، لا ((خيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
ومع أن العم له حق، وعم الرجل صنو أبيه، والخال أيضاً له حق، والأخ الكبير له حق، والوالد أعظم، والوالدة أشد، والأجداد والجدات كذلك، لكن القاعدة الشرعية: ((خيرهما الذي يبدأ بالسلام)) سواءً كان أكبر أو أصغر أو السبب الجامع بينهما في حقه وفي جانبه أقوى كالعم والخال وما أشبه ذلك، ((خيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
يذكر في كتب الأدب أنه صار بين الحسن والحسين شيء من القطيعة اليسيرة يعني يومين أو ثلاث أو شيء من هذا لا تصل إلى حد الممنوع، لكنه مع ذلك قيل للحسن: ألا تذهب فتصالح أخاك؟ أو قيل للحسين، قيل لأحدهما، نعم، فقال: الإيثار مطلوب، ومدح الأنصار بالإيثار، وأؤثره بهذه الخيرية، كلام صدق ما هو بدعوى، لكن بعض الناس قد يقول: أنا أؤثره بهذه الخيرية ليكمل ما قال: إن الحق لي، على شان يجي أخوه ويسلم عليه، أنا أؤثره، هذا من باب الإيثار؟ لا، ليس من باب الإيثار.

(186/4)


وعلى كل حال القاعدة المطردة الشرعية ((خيرهما الذي يبدأ بالسلام)) وقد تكون القطيعة عن لا شيء، أمر يسير جداً، وقد يكون وهمياً، وتستمر السنين الطويلة على هذا، والشيطان واقف بينهما، لا يريد الإصلاح، وعلى كل حال لا يجوز الهجر فوق ثلاث، فإذا وجد فأعرض هذا وأعرض هذا لا شك أن هذا من تحريض الشيطان بين الأخوة ليقعوا في المحظور العظيم الذي هو القطيعة، ومع ذلك على الإنسان أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتنازل، ويؤثر أخاه، أو يؤثر نفسه، وهذا أولى؛ لأن الإيثار بالقُرَب عند أهل العلم الإيثار بالقرب مكروه عند أهل العلم، ولا يجوز الإيثار بالواجبات، فـ ((خيرهما الذي يبدأ بالسلام)) فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويذهب إلى أخيه ويسترضيه ليكون خيرهما، والحديث متفق عليه، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم الإشكال أن العبرة بما في القلوب، تجد بعض الأسر بينهم بغضاء وشحناء من أجل موروثات وأسبال وما أشبه ذلك وأوقاف، ثم بعد ذلك يسعى المصلحون لجمعهم في اجتماع شهري أو ما أشبه ذلك للأسرة أو للعائلة فتجدهم يجتمعون وينصرفون على ما كانوا عليه، كل واحد يسلم على الثاني ويبش في وجهه وقلبه مشحون بالبغضاء والتدابر والتقاطع، وإذا خلا بعضهم وانفرد أكل عرض هذا، وما أشبه ذلك، وسب هذا، هذا لا يجدي شيئاً، هذا لا يجدي، العبرة بما في القلوب.
طالب:. . . . . . . . .
نعم، أهل العلم يقولون: إن السلام يقطع الإثم، لكن إذا تحدث بما في قلبه يؤاخذ عليه.
طالب: المسائل الشرعية؟
المسائل الشرعية مطلوب فيها الهجر، هجر المبتدع أمر مقرر في الشرع، المخالف أيضاً، العاصي يهجر ليرتدع، أما إذا كان يزداد شره، ويتعدى ضرره إذا هجر، فالمداراة مطلوبة.
طالب:. . . . . . . . .
والله ما في شك أن هذا جاء من قبل الشارع، والشرع لا شك أنه يدرك ما في أنفس الناس وقلوبهم وعاداتهم، فحد هذا الحد، فلا شك أن النفس يتدرج فيها الحقد من أعلى مستوياته وقت النزاع إلى أن اليوم الأول أشد، والثاني أخف، والثالث أقل، فتعطى النفس شيء من حظها، ولو حصلت الصلة من أول لحظة، وغلب الإنسان نفسه الأمارة بالسوء هذا أفضل بلا شك، لكن الجواز إلى ثلاث فقط.

(186/5)


طالب:. . . . . . . . .
لا، التأديب يقولون: لو زاد، لو زاد بقدر الجرم، لو زاد، النبي -عليه الصلاة والسلام- آلى شهراً ألا يكلم نساءه شهراً، كما في الحديث الصحيح، وأيضاً الأب له أن يهجر ولده لكي يرتدع؛ لأن هؤلاء القلوب في الغالب سليمة، إنما المقصود من هذا الهجر هو التأديب، وليس ما ينطوي عليه القلوب من حقد وغل وتدابر وتقاطع، لا، إنما للأب أن يهجر ولده فوق ثلاث، لكن ليس للولد أن يهجر أباه، ليس له أن يهجر أباه؛ لأن داعي الأب هو المصلحة، وداعي الابن هو التشفي؛ لأن قلوب الآباء والأمهات تختلف عن قلوب الأولاد.
قال: "وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تباغضوا)) " يعني لا تتباغضوا، أي: لا يبغض بعضكم بعضاً، وهذه مفاعلة من طرفين كما هو الأصل، لكن لو وقعت من طرف واحد دخلت فيها، شخص يبغض أخاه، وأخوه لا يبغضه، لا شك أن مثل هذا آثم، إذا لم يكن سبب ومبرر للبغض؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، إذا كان يبغضه لله لما عنده من مخالفة، فإن هذا من أوثق عرى الإيمان، الإشكال إذا وجد التباغض والتهاجر بسبب أمور الدنيا.
((لا تباغضوا)) يعني لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأن البغض له أسباب، ولا يحدث هكذا فجأة من غير سبب، نعم بعض أنفس الناس تجده مجرد ما يرى الشخص يقول: أنا والله ما دخل قلبي، لا أحبه، ما لي .. ، عرفته؟ في سبب؟ ما في سبب، بس ما لي والله خلقه، يقولونه الناس، هذا موجود في قلوب الناس، هو له أصل وإن لم يكن له أثر شرعي، يعني الأرواح جنود مجندة، يعني ما تعارف ائتلف، قد ترى الإنسان من أول وهلة وتحبه، وترى الثانية من أول وهلة وتكرهه، لكن مع ذلك الآثار المترتبة على مثل هذا لا يجوز تعليقها إلا بسبب شرعي.

(186/6)


((لا تباغضوا ولا تحاسدوا)) الحسد المحرم الذي يأكل الحسنات هو: أن يتمنى المسلم زوال النعمة عن غيره، يتمنى زوال النعمة عن غيره، لكن إذا كان الغير يستعمل هذه النعمة فيما لا يرضي الله -جل وعلا-، كما يوجد الآن من أثرياء اليوم، تجده مفسد في ماله، ألا يتمنى المسلم أن يزول عنه هذا المال من أجل إفساده؟ نعم؟ لا لمجرد الحسد الذي لا مبرر له ولا سبب، لكن شخص مفسد عُرف بالإفساد بسبب ماله فإنما هذا يدعى عليه، وموسى -عليه السلام- دعا {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [(88) سورة يونس] فهذه الدعوة لا بأس بها إذا وجد مبرر، أما إذا لم يوجد مبرر فإن هذا لا يجوز بحال، وهو الحسد المذموم، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا إذا أمكن، وإلا المفسد فساداً علانية كما يلعن المؤذي من الكفار يدعى على هذا إذا آذى وبذلت الأسباب في حقه ولم يرتدع يدعى عليه.
((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا)) بمعنى أن كل واحد يولي الآخر دبره؛ لما بينهما من الشحناء والبغضاء، يعرض هذا ويعرض هذا عن الثاني، كل واحد يولي الثاني دبره.
((وكونوا عباد الله إخواناً)) عبادَ منصوب، ونصبه هل هو لكونه خبر كان؟
طالب: اسم منادى.
هو منادى، لكن بحذف حرف النداء، كونوا يا عباد الله إخواناً، ألا يصلح أن يكون خبر كان؟ يصلح وإلا ما يصلح؟ ما يصلح، لماذا؟ هم عباد الله، فلا يؤمروا بأن يكونوا عباداً لله، هم عباد لله من الأصل، كونوا إخواناً، هذا خبر كان، وإلا كونوا عباداً لله، هم عباد لله، فلا يؤمر بمثل هذا، وعباد الله هذا لا شك أنه منادى، منادى مضاف.
طالب: يشمل على التحقيق والعبودية عباد الله؟
وإخواناً؟
طالب:. . . . . . . . .
ما تجي، كونوا يا عباد الله إخواناً.
((ولا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال)) وهذا تقدم.
قال مالك: "لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن أخيك المسلم فتدبر عنه بوجهك".
تلتفت، وهذا يلاحظ في بعض المجالس أنه إذا وجد اثنان بينهما شحناء تجده لا يطيق النظر إليه، وتجده منصرف عنه طيلة الجلسة، فمثل هذا لا يجوز.
طالب:. . . . . . . . .
على كل حال إذا وجد المبرر فلا حد له، حتى ينتهي السبب.

(186/7)


طالب:. . . . . . . . .
على كل حال إذا كان، الناس منازل، إذا وجدت المخالفة من كبير ما هي مثل المخالفة من شخص صغير، هذه تختلف باختلاف حال الإنسان، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لا هو على سبب ما يبعث عليه، إن احتجت جارك الذي عن يمينك وتتحدث معه، وترتب على ذلك أنك تنصرف، هذا ما له أثر، أو كان فيك ألم في ظهرك تحتاج إلى أن تلتفت أحياناً يمنياً وأحياناً شمالاً، هذا ما له أثر، الكلام على التدابر الذي ينبعث عن شيء في النفس.
قال -رحمه الله-: "وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والظن)) " إياكم والظن تحذير، احذروا الظن، والسبب في ذلك ((فإن الظن أكذب الحديث)) الظن له استعمالات يبدأ من كونه أكذب الحديث إلى كونه لا يغني من الحق شيئاً، إلى كونه مرادفاً للشك، إلى كونه الاحتمال الراجح إلى أن يصل إلى درجة العلم واليقين {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [(46) سورة البقرة] فاستعماله في النصوص، وفي لغة العرب ليس على وتيرة واحدة، بل هو على حسب السياق الذي يقتضيه حسب ما يقتضيه السياق.

(186/8)


فهنا: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) ما المراد بالحديث هنا؟ يعني ما يتحدث به أكذب الكلام؟ هذا ليس بكلام، هو ظن في النفس، فهو أكذب حديث النفس؛ لأنه يوجد في الحديث الذي يتحدث به ما هو أعظم من الظن، الله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات] مفهومه أن البعض الثاني ليس بإثم، وهناك مما يتحدث به ما هو شر من مجرد ظن، هناك قطع، وهو أشد من الظن، إذا ظننت بأخيك أو غلب على ظنك أو شككت في أخيك في أمر من الأمور أسهل من كونك تجزم، وترتب الآثار على هذا الجزم، فكونه أكذب الحديث المراد به حديث النفس؛ لأنه ما يزال يتردد في النفس، الله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات] لو قال قائل: إن بعض الظن ليس بإثم، يجوز وإلا ما يجوز؟ نعم؟ يُستفصل، إن كان يقصد ما أثبته الله -جل وعلا- البعض الذي أثبته الله وأنه إثم، قال: ليس بإثم، هذا تكذيب لله -جل وعلا-، الله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات] وهو يقول: إن بعض الظن ليس بإثم، إن كان يريد ما أثبته الله -جل وعلا- هذه مصادمة وتكذيب لله -جل وعلا-، وإن قال: لا، أنا أريد .. ؛ لأنه قد يوجد الآن من يكتب كتابات موهمة ثم بعد ذلك قد يحكم عليه بالردة بسببها، إلا أنه إذا وجد الاحتمال يستفصل في مثل هذا، ما مرادك بالظن الذي أثبت أنه ليس بإثم؟ والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات]؟، إن قال: أنا أريد البعض الذي لا يريده الله -جل وعلا-، بل البعض الذي يفهم مفهوم مخالفة مما ذكر، قلنا: كلامك صحيح، لكن إن قال: إن الله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات] وأنا أقول: ليس بصحيح، إن بعض الظن ليس بإثم، ويريد ما أثبته، نقول: لا، أنت ترتد بهذا، مكذب لله -جل وعلا-، هذه ردة، فمثل هذا يحتاج إلى استفصال.
((فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا)) هما في هذا السياق مترادفان، معناهما واحد؛ لأنهما سيقا على جهة المنع.

(186/9)


أما في قول الله -جل وعلا- على لسان يعقوب {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ} [(87) سورة يوسف] التحسس هنا هو المنهي عنه هنا؟ لا، يختلف، التحسس وهو البحث والتحري هذا ما فيه إشكال، البحث والتحري لإرادة الخير، وأما التجسس وهو لإرادة الوقيعة والشر بالناس هذا لا يجوز بحال، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نهى أن يخبر عن أصحابه، ليخرج إليهم سليم الصدر، الحديث في صحيح مسلم، نهى أن يخبره أحد عن أصحابه، يجي واحد يقول: والله فلان ترى فعل فلان كذا، لكن إذا فعل أحد ما يضر بالعامة فلا بد من الإخبار.
قال الصحابي في مواطن: لأخبرن بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا يختلف باختلاف المخبر عنه، فإن كان المخبر عنه قد ارتكب شيئاً لا يضر بالناس، مثل هذا ينصح ولا يخبر عنه، وإن كان ما يرتكبه مما ينفع الناس أو ينتفع به في آخرته فمثل هذا لا يجوز بحال أن يخبر عنه، وإن كان يتضرر به العامة فلا بد من الإخبار عنه، ينصح إن انتصح وارتدع وإلا يخبر عنه، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى تفصيل، وكثيراً ما يسأل عن حكم العمل في هذا المجال، من اتخذه للوقيعة وللإضرار بالمسلمين لا يجوز بحال، ومن اتخذه للنصح لأئمة المسلمين وعامتهم هذا لا شك أنه عمل طيب، النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى أن يخبر عن أصحابه، لكن الصحابي قال: لأخبرن بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما يتضرر به الناس لا بد من الإخبار، ولا بد قبل ذلك من بذل النصيحة لهذا الشخص الذي يراد الإخبار عنه، أما إذا كان مراده الإضرار بالمسلمين بعامة المسلمين لا بد أن يخبر عنه، وإلا فكيف يقضى على الشرور في مهدها إلا بهذه الطريقة؟! فلا بد من التفصيل في مثل هذا العمل، وبعض الناس يتخذه وسيلة للكسب من غير نظر للهدف، يأتِ ليعمل في هذا المجال ما همه إلا الراتب، نقول: يا أخي على حسب ما تزاوله من عمل، فإن كان قصدك الإضرار بالمسلمين لا سيما بخاصتهم، فعليك الإثم العظيم -نسأل الله السلامة والعافية-.
((ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا)) نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
ابن عبد البر يقول في هذا الحديث واحد، يقول: ما بينهم فرق.

(186/10)


((ولا تنافسوا)) المنافسة المذمومة هي المنافسة في أمور الدنيا، ومعلوم أن المنافسة إذا وجد أطراف يتنافسون في أمور الدنيا لا شك أنهم يسترسلون في أمور الدنيا، ويغفلون عما خلقوا من أجله، لكن المنافسة في أمور الدين والعبادة مطلوبة، والمسارعة والمسابقة كلها مطلوبة، لكن في أمور الدنيا تمنع لما يترتب عليها؛ لأن الإنسان في وقت المنافسة يريد أن يحصل على أكبر قدر من صاحبه بأي وسيلة كانت، فتجده يستغل الوقت، وتجده يستغل الوسائل التي تكسبه هذا المتنافس عليه سواءً كان بحق أو بغير حق.
((ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا)) كله على تنافسوا، منافسة مفاعلة ومحاسدة، كل واحد يحسد الثاني، ولو حصل من طرف واحد دخل في المنع، وعرفنا أن الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير، وعرفنا أنه إذا كان هذا الغير يستعملها فيما لا يرضي الله، ويؤذي الناس، ويفسد على الناس أديانهم فإن مثل هذا لا مانع من تمني زوال النعمة عنه.
((ولا تحاسدوا)) أما الغبطة تمني مثل مال الغير هذه لا تدخل في هذا النهي ((لا حسد إلا في اثنتين)).
((ولا تباغضوا)) هذا تقدم، ((ولا تدابروا)) كذلك، ((وكونوا عباد الله إخواناً)).
قال -رحمه الله-: "وحدثني عن مالك عن عطاء بن أبي مسلم عبد الله الخراساني" هكذا أورده الإمام مرسلاً، وإن شئت فقل: معضلاً كما قاله المنذري "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تصافحوا يذهب الغل)) ".
((تصافحوا)) المراد كل واحد يفضي إلى أخيه بصفحة يده، يعني بطون الأصابع مع الراحة على الطريقة المأثورة، فالمصافحة وسيلة إلى إذهاب الغل من القلوب، والحقد، والحديث هنا معضل، مرسل، وهو يتصل من وجوه عند ابن عدي، والأصبهاني في الترغيب، وأما قوله: ((تهادوا تحابوا)) فهذا في الأدب المفرد عند الإمام البخاري بسند حسن، والحديث بكامله من حديث أبي هريرة عند ابن عساكر، أيضاً سنده لا بأس به، فبمجموعه وما يشهد له يصل إلى درجة الحسن لغيره.
((تصافحوا يذهب الغل)) المصافحة معروفة، وهناك استعمالات كثيرة للمصافحة، في بعض البلدان تختلف عن بعض، لكن مع ذلك هي الأمر المتوارث من القدم هي الإفضاء بصفحة اليد، يعني داخل اليد إلى صفحة يد أخيه.

(186/11)


((يذهب)) فعل مضارع مجزوم جواب الطلب، أو بشرط مقدر إن تتصافحوا يذهبِ، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وإلا فهو مجزوم، الغل، فاعل، والغل والحقد والضغينة بمعنىً واحد.
((وتهادوا تحابوا)) من الهدية ولا شك أن الهدية تسل السخيمة، وتذهب ما في النفس؛ لأنها ضرب من الإحسان، والنتيجة المودة والمحبة.
((وتذهب الشحناء)) والمراد بها العداوة والبغضاء، والأحقاد والضغائن، إذا وجدت الهدية، فالإحسان إلى الإنسان يملك به.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ ... لطالما استعبد الإنسان إحسانُ
من هي له القصيدة هذه؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، ليست لأبي البقاء لا، لصالح بن عبد القدوس.
طالب:. . . . . . . . .
إي نعم، عند ابن عدي، وأيضاً عند أبي يعلى، وعند البخاري في الأدب المفرد، بأسانيد متصلة وحسنة.
طالب:. . . . . . . . .
لا، لا معضل هذا، حديث الباب معضل، لكنه من وجوه كثيرة متصل.
قال: "وحدثني عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس)) " وفي الحديث الآخر: ((ترفع الأعمال)) وفي الحديث الثالث: ((تعرض الأعمال على الله يوم الاثنين والخميس)) ولذا جاء الحث على صوم هذين اليومين؛ لأنهما يومان ترفع فيهما الأعمال، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) وإن كان ما جاء في الاثنين أقوى مما جاء في الخميس؛ لأن له أكثر من علة، وأكثر من سبب.
((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً)) والشرك هنا يتناول الأكبر والأصغر؛ لأن (شيئاً) نكرة في سياق النفي تعم، أي شيء يسمى شرك، فيدخل في هذا الأكبر والأصغر، كما قال بعضهم في قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء] فالشرك ليس بقابل للغفران كبيره وصغيره عند جمع من أهل العلم، إلا أن الصغير لا يقتضي التخليد بخلاف الكبير، ومنهم من يقول: إن الصغير تحت المشيئة كالكبائر.

(186/12)


((فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء)) وبين أخيه، فضلاً عن أن تكون بينه وبين أبيه، أو أمه، أو جده أو جدته، فإذا وجدت هذه الشحناء وهي العداوة ((فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)) فالأمر ليس بالسهل كون الناس يغفر لهم إلا هذا القاطع، هذا الأمر ليس بالهين أن الإنسان ديدنه سؤال الله المغفرة إن لم يغفر له عطب ((فيقال: أنظروا)) يعني أخروا وأجلوا أمر هذين حتى يصطلحا، حتى يتفقا، ويزول ما في أنفسهما.
((أنظروا هذين حتى يصطلحا)) تأكيد لفظي للاهتمام به والعناية بشأنه.
ثم قال: "وحدثني عن مالك عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أنه قال: "تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين" يعني كل أسبوع، يعني تعرض يوم الجمعة مرتين؟ لا، الأسبوع يقال له: جمعة، كما أنه يقال له: سبت، ما رأينا الشمس سبتاً، يعني أسبوع من الجمعة إلى الجمعة.
"تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس" هذا يوضح المراد، وأن المراد بذلك في الأسبوع كالحديث السابق.
"فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً كانت بينه وبين أخيه شحناء" من كان بينه وبين أخيه شحناء وترتب عليها القطعية هل يقال له: مؤمن وإلا مسلم؟ هاه؟ يعني عنده أصل الإيمان، عنده مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق، وعلى كل حال الذي يفرق بين الإيمان والإسلام، ويقول: إن الإيمان لا يستحقه مثل هذا الذي ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يعني مطلقه، يقول: إن الاستثناء متصل وإلا منقطع؟ منقطع؛ لأن هذا مسلم، واستثناؤه من الإيمان استثناء من الغير عند من يقول بالمغايرة، وإذا قلنا: إنه مؤمن عنده أصل الإيمان، وعنده مطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق قلنا: الاستثناء متصل.
"إلا عبداً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا" حتى يرجعا، حتى يصطلحا كما في الحديث السابق "أو اركوا" يعني أخروا "هذين حتى يفيئا" يعني يرجعا، والفيئة هي الرجوع.
سم.
طالب:. . . . . . . . .
ليكون صائماً.
طالب:. . . . . . . . .
ويش المانع؟
طالب:. . . . . . . . .
ما في بأس -إن شاء الله-.
طالب:. . . . . . . . .

(186/13)


لا، لا بعض الناس ما يصوم إلا الاثنين فقط من كل أسبوع، ولا تجتمع له هذه الأعمال إلا يوم الاثنين، أو الخميس؛ لأنه موظف مثلاً يشق عليه الصيام أثناء الدوام، والجمعة لا يجوز إفرادها فيصوم الخميس، ويش المانع؟
طالب:. . . . . . . . .
إيه.
طالب:. . . . . . . . .
لا، القصد أعظم أجراً؛ لأنه يتم فيه اجتماع هذه الأعمال مع الامتثال.
طالب:. . . . . . . . .
لا، لا.
طالب: في درجات دون الهجر، يعني سمعت أحد طلبة العلم يعبر بهذا التعبير، تقول له يعني: بينك وبين فلان شيء، يقول: المسلم ما يغل قلبه على أخيه المسلم، لكن اللي بيني وبينه الوحشة، إنا نسلم بعضنا على بعض لكن الانبساط في الحديث وكذا ما هو موجود.
هو ما يلزم المسلم أن يعامل الناس على درجة واحدة، ما يلزم أن يعامل زيد وعمرو وعبيد على درجة واحدة، يتفاوتون في معاملاتهم على حسب تفاوتهم منه قرباً وبعداً، واتفاقاً واختلافاً، لكن الكلام على النفوس لا تكون فيها شيء من هذا، نعم.
سم.
أحسن الله إليك.
كتاب اللباس:
باب ما جاء في لبس الثياب للجمال بها:

(186/14)


وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه- أنه قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بني أنمار، قال جابر: فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله هلم إلى الظل، قال: فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقمت إلى غرارة لنا، فالتمست فيها شيئاً، فوجدت فيها جرو قثاء فكسرته، ثم قربته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من أين لكم هذا؟ )) قال: فقلت: خرجنا به يا رسول الله من المدينة، قال جابر: وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا، قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر وعليه بردان له قد خلقا، قال: فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أما له ثوبان غير هذين؟ )) فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، قال: ((فادعه فمره فليلبسهما)) قال: فدعوته فلبسهما، ثم ولى يذهب قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما له يلبس الخلقين ضرب الله عنقه، أليس هذا خيراً له؟ )) قال: فسمعه الرجل فقال: يا رسول الله في سبيل الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((في سبيل الله)) قال: فقتل الرجل في سبيل الله.
وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب".
وحدثني عن مالك عن أيوب بن أبي تيم ...
تميمة.
عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين، قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه".