شرح النووي على
مسلم (كِتَاب الْأَيْمَانِ)
(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ
[1646] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ
اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ
كَانَ حَالِفًا فليحلف بالله)
(11/104)
أَوْ لِيَصْمُتْ) وَفِي رِوَايَةٍ لَا
تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ قَالَ
الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عن الحلف بغيرالله
تَعَالَى أَنَّ الْحَلِفَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ
الْمَحْلُوفِ بِهِ وَحَقِيقَةُ الْعَظَمَةِ مُخْتَصَّةٌ
بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُضَاهِي به غيره وقد جاء عن بن
عَبَّاسٍ لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ
فَآثَمَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَأَبَرَّ
فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ
صَدَقَ فَجَوَابُهُ أَنَّ هذه كلمة تجري على اللسان لا
تقصد بِهَا الْيَمِينُ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَقْسَمَ
اللَّهُ تعالى بمخلوقاته كقوله تعالى والصافات والذاريات
والطور والنجم فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَنْبِيهًا
عَلَى شَرَفِهِ قَوْلُهُ (مَا حَلَفْتُ بِهَا ذَاكِرًا
وَلَا آثِرًا) مَعْنَى ذَاكِرًا قَائِلًا لَهَا مِنْ
قِبَلِ نَفْسِي وَلَا آثِرًا بالمد أي
(11/105)
حَالِفًا عَنْ غَيْرِي وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى
وَصِفَاتِهِ كُلِّهَا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ
النَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَهُوَ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا مَكْرُوهٌ ليس بحرام قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي
حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ
[1647] إِلَّا اللَّهُ) إِنَّمَا أُمِرَ
(11/106)
بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
لِأَنَّهُ تَعَاطَى تَعْظِيمَ صُورَةِ الْأَصْنَامِ حِينَ
حَلَفَ بِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا إِذَا حَلَفَ بِاللَّاتِ
وَالْعُزَّى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَصْنَامِ أَوْ قَالَ
إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ
أَوْ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَحْوُ
ذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بل عليه أن يستغفرالله
تَعَالَى وَيَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَمْ لَا هَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَجَمَاهِيرِ
الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ
الْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ أَنَا
مُبْتَدِعٌ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ واليهودية واحتج بأن الله تعالى
أوجب علىالمظاهر الْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورٌ وَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
مُنْكَرٌ وَزُورٌ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ
بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم إنما أمره يقول لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا
حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا شَرْعٌ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى
الظِّهَارِ فَيُنْتَقَضُ بِمَا اسْتَثْنَوْهُ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ
فَلْيَتَصَدَّقْ) قَالَ العلماء أمر بالصدقة تكفيرا
لخطيئته فِي كَلَامِهِ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ قَالَ
الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا
أَمَرَ أَنْ يُقَامِرَ بِهِ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ
الْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا
يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِمَا
تَيَسَّرَ مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ الَّتِي ذَكَرَهَا
مُسْلِمٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ قَالَ الْقَاضِي فَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ
الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا استقر
(11/107)
فِي الْقَلْبِ كَانَ ذَنْبًا يُكْتَبُ
عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْخَاطِرِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ
فِي الْقَلْبِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً
فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا
بِآبَائِكُمْ)
[1648] هَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي
النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى قَالَ
أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ الطَّوَاغِي هِيَ
الْأَصْنَامُ وَاحِدُهَا طاغية ومنه هذه طَاغِيَةُ دَوْسٍ
أَيْ صَنَمُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ سُمِّيَ بِاسْمِ
الْمَصْدَرِ لِطُغْيَانِ الْكُفَّارِ بِعِبَادَتِهِ
لِأَنَّهُ سَبَبُ طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَكُلُّ مَا
جَاوَزَ الْحَدَّ فِي تَعْظِيمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ
طَغَى فَالطُّغْيَانُ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ ومنه قوله
تعالى لما طغى الماء أَيْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَقِيلَ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّوَاغِي هُنَا مَنْ
طَغَى مِنَ الْكُفَّارِ وَجَاوَزَ الْقَدْرَ الْمُعْتَادَ
فِي الشَّرِّ وَهُمْ عُظَمَاؤُهُمْ وروى هَذَا الْحَدِيثِ
فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ
وَهُوَ جَمْعُ طَاغُوتٍ وَهُوَ الصَّنَمُ وَيُطْلَقُ عَلَى
الشَّيْطَانِ أَيْضًا وَيَكُونُ الطَّاغُوتُ وَاحِدًا
وَجَمْعًا ومذكرا ومؤنثا قال الله تعالى واجتنبوا الطاغوت
أن يعبدوها وَقَالَ تَعَالَى يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الآية يكفروا به
(بَاب نَدْبِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَرَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ (الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا
إِلَّا كَفَّرْتُ
[1649] عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَفِي رِوَايَةٍ
إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى خَيْرًا
مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْ حَلَفَ
عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ وَكَانَ الْحِنْثُ
خَيْرًا مِنَ التَّمَادِي عَلَى الْيَمِينِ اسْتُحِبَّ
لَهُ الْحِنْثُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا)
(11/108)
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى
أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ
الْحِنْثِ وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنِ
الْحِنْثِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى
الْيَمِينِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهَا بَعْدَ
الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَجَوَّزَهَا مَالِكٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا وَجَمَاعَاتٌ مِنَ
التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
لَكِنْ قَالُوا يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا بَعْدَ الْحِنْثِ
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ
فَقَالَ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ
بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِهَا
كَالصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَأَمَّا التَّكْفِيرُ
بِالْمَالِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ
الزَّكَاةِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا حِنْثَ
الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَتِهِ
لأن فيه إعانة علىالمعصية وَالْجُمْهُورُ عَلَى
إِجْزَائِهَا كَغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَشْهَبُ الْمَالِكِيُّ لَا
يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ بِكُلِّ
حَالٍ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَوَاهِرُ هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ وَالْقِيَاسُ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ
قَوْلُهُ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ
نَسْتَحْمِلُهُ) أَيْ نَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَحْمِلُنَا
مِنَ الْإِبِلِ وَيَحْمِلُ أَثْقَالَنَا قَوْلُهُ فَأَمَرَ
لَنَا بِثَلَاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى وَفِي رِوَايَةٍ
بِخَمْسِ ذَوْدٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ
بُقْعِ الذُّرَى أَمَّا الذُّرَى فَبِضَمِّ الذَّالِ
وَكَسْرِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ جَمْعُ
ذُرْوَةٍ بِكَسْرِ الذال وضمها وذروة كُلُّ شَيْءٍ
أَعْلَاهُ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَسْنِمَةُ وَأَمَّا
الْغُرُّ فَهِيَ الْبِيضُ وَكَذَلِكَ الْبُقْعُ الْمُرَادُ
بِهَا الْبِيضُ وَأَصْلُهَا مَا كَانَ فِيهِ بَيَاضٌ
وَسَوَادٌ وَمَعْنَاهُ أَمَرَ لَنَا بِإِبِلٍ بِيضِ
الْأَسْنِمَةِ وَأَمَّا قوله بثلاث ذود فهو من إضافة الشئ
إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُطْلِقُ
الذَّوْدَ عَلَى الْوَاحِدِ وَسَبَقَ إِيضَاحُهُ فِي
كِتَابِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ بِثَلَاثِ وَفِي
رِوَايَةٍ بِخَمْسِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إِذْ
لَيْسَ فِي ذِكْرِ الثَّلَاثِ نَفْيٌ لِلْخَمْسِ
وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ
الْأَخِيرَةِ بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ
وَهُوَ صحيح يعود إلى معنى الإبل وهو
(11/109)
إلا بعرة وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا
حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ) تَرْجَمَ
الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تعملون وَأَرَادَ أَنَّ
أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى
وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى آتَانِي مَا حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ
عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْحَيَ
إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ أَوْ يَكُونُ المراد دخولهم في
عموم مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَسْمِ فِيهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَسْأَلُهُ لَهُمُ
الْحُمْلَانَ) بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ الْحَمْلُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُذْ هَذَيْنِ
الْقَرِينَيْنِ) أَيْ الْبَعِيرَيْنِ
(11/110)
الْمَقْرُونِ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ
قَوْلُهُ (عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ) هُوَ بِزَايٍ
مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ
مَفْتُوحَةٍ قَوْلُهُ (فِي لَحْمِ الدَّجَاجِ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْكُلُ مِنْهُ) فِيهِ إِبَاحَةُ لَحْمِ الدَّجَاجِ
وَمَلَاذِّ الْأَطْعِمَةِ وَيَقَعُ اسْمُ الدَّجَاجِ عَلَى
الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وهو
(11/111)
بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ
(بِنَهْبِ إِبِلٍ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ النَّهْبُ
الْغَنِيمَةُ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَجَمْعُهُ نِهَابٌ
بِكَسْرِهَا وَنُهُوبٌ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ
بِمَعْنَى الْمَنْهُوبِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى
الْمَخْلُوقِ قَوْلُهُ (أَغْفَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ) هو بإسكان
اللام أي جعلناه غافلا معناه كُنَّا سَبَبَ غَفْلَتِهِ
عَنْ يَمِينِهِ وَنِسْيَانِهِ إِيَّاهَا وَمَا
ذَكَّرْنَاهُ إِيَّاهَا أَيْ أَخَذْنَا مِنْهُ مَا
أَخَذْنَا وَهُوَ ذَاهِلٌ عَنْ يَمِينِهِ قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا الصعق يعني بن حَزْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَطَرٌ
الْوَرَّاقُ عَنْ زَهْدَمٍ) هُوَ الصَّعِقُ بِفَتْحِ
الصَّادِ
(11/112)
وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِهَا
وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ الصعق ومطر
ليساقويين وَلَمْ يَسْمَعْهُ مَطَرٌ مِنْ زَهْدَمٍ
وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ
فَاسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَهَذَا
الِاسْتِدْلَالُ فَاسِدٌ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَمْ
يَذْكُرْهُ متاصلا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً
لِلطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ
الْمُتَابَعَاتِ يُحْتَمَلُ فِيهَا الضَّعْفُ لِأَنَّ
الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ
مُسْلِمٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ
كِتَابِهِ وَشَرَحْنَاهُ هُنَاكَ وَأَنَّهُ يَذْكُرُ
بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ متابعة للصحيحة وأما
قوله إنهما ليساقويين فقد خالفه الأكثرون فقال يحي بْنُ
مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ هُوَ ثِقَةٌ فِي الصعق وقال أبو
حاتم مابه بَأْسٌ وَقَالَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ فِي مَطَرٍ
الْوَرَّاقِ هُوَ صَالِحٌ وَإِنَّمَا ضَعَّفُوا
رِوَايَتَهُ عَنْ عَطَاءٍ خَاصَّةً قَوْلُهُ (عَنْ
ضُرَيْبِ بْنِ نُقَيْرٍ) أَمَّا ضريب فبضاد معجمة مصغر
ونقير بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَآخِرُهُ رَاءٌ
هَذَا هوالمشهور الْمَعْرُوفُ عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ
فِي كُتُبِ الْأَسْمَاءِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْفَاءِ
وَقِيلَ نُفَيْلٌ بِالْفَاءِ وَآخِرُهُ لَامٌ قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيلِ) هُوَ بِفَتْحِ السين
المهملة
(11/113)
وكسر اللام وهو ضريب بن نفير الْمَذْكُورُ
فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَلَفَ عَلَى
[1651] يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى أَتْقَى لِلَّهِ فَلْيَأْتِ
التَّقْوَى) هُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ
فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي
(11/115)
هُوَ خَيْرٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1652] (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسَألِ
الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ
وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ
مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ
النُّسَخِ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَفِي بَعْضِهَا أُكِلْتَ
إِلَيْهَا بِالْهَمْزَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ
مِنْهَا كَرَاهَةُ سُؤَالِ الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ وِلَايَةُ
الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْحِسْبَةِ وَغَيْرِهَا
وَمِنْهَا بَيَانُ أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ لَا
يَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا
تَكُونُ فيه كفاية لذلك العمل فينبغي أن لا يُوَلَّى
وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ إِلَى آخِرِهِ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي
آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الجلودي
حدئنا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَاسَرْجَسِيُّ
(11/116)
قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بِهَذَا
وَمُرَادُهُ أَنَّهُ عَلَا برجل
(باب اليمين عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ
[1653] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (يمينك على
ما يصادقك عَلَيْهِ صَاحِبُكَ) وَفِي رِوَايَةٍ الْيَمِينُ
عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ الْمُسْتَحْلِفُ بِكَسْرِ
اللَّامِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَلِفِ
بِاسْتِحْلَافِ الْقَاضِي فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى
رَجُلٍ حَقًّا فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ وَوَرَّى
فنوى غير مانوى الْقَاضِي انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا
نَوَاهُ الْقَاضِي وَلَا تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ وَهَذَا
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ
وَالْإِجْمَاعُ فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ
اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي وَوَرَّى تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ
وَلَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ حَلَفَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ
تَحْلِيفٍ أَوْ حَلَّفَهُ غَيْرُ الْقَاضِي وَغَيْرُ
نَائِبِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا اعْتِبَارَ بِنِيَّةِ
الْمُسْتَحْلِفِ غَيْرِ الْقَاضِي وَحَاصِلُهُ أَنَّ
الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فِي كُلِّ
الْأَحْوَالِ إِلَّا إِذَا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي أَوْ
نَائِبُهُ فِي دَعْوَى تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ
عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ
أَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ
اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي فِي دَعْوَى فَالِاعْتِبَارُ
بِنِيَّةِ الْحَالِفِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ
الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق
تنفعه التورية ويكون الإعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس
له التحليف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنَّمَا
يَسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ
التَّوْرِيَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَثُ بِهَا فَلَا
يَجُوزُ فِعْلُهَا حَيْثُ يُبْطِلُ بِهَا حَقُّ
مُسْتَحِقٍّ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ هَذَا تَفْصِيلُ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ
اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فَقَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ
وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ حَقٍّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ
وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لِغَيْرِهِ فِي
حَقٍّ أَوْ وَثِيقَةٍ مُتَبَرِّعًا أَوْ بِقَضَاءٍ
عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ
بِظَاهِرِ يَمِينِهِ سَوَاءٌ حَلَفَ)
(11/117)
مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ أَوْ
بِاسْتِحْلَافٍ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى فَقِيلَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ
لَهُ وَقِيلَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَقِيلَ إِنْ كَانَ
مُسْتَحْلَفًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَإِنْ
كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ فَعَلَى نِيَّةِ
الْحَالِفِ وهذا قول عبد الملك وسحنون وهو ظاهرقول مالك
وبن القاسم وقيل عكسه وهي رواية يحيى عن بن الْقَاسِمِ
وَقِيلَ تَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِيمَا لَا يُقْضَى بِهِ
عَلَيْهِ وَيَفْتَرِقُ التَّبَرُّعُ وَغَيْرُهُ فِيمَا
يُقْضَى به عليه وهذا مروي عن بن الْقَاسِمِ أَيْضًا
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى
وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَهُوَ فِيهِ آثِمٌ
حَانِثٌ وَمَا كَانَ عَلَى وجه العذر فلا بأس به وقال بن
حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ
وَالْخَدِيعَةِ فَلَهُ نِيَّتُهُ وَمَا كَانَ فِي حَقٍّ
فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ قَالَ الْقَاضِي
وَلَا خِلَافَ فِي إِثْمِ الْحَالِفِ بِمَا يَقَعُ بِهِ
حَقُّ غَيْرِهِ وَإِنْ وَرَّى وَاللَّهُ أعلم
(باب الإستثناء فِي ذَلِكَ وَلَا اعْتِبَارَ بِنِيَّةِ
الْمُسْتَحْلِفِ غَيْرِ الْقَاضِي وَحَاصِلُهُ أَنَّ
الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فِي كُلِّ
الْأَحْوَالِ إِلَّا إِذَا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي أَوْ
نَائِبُهُ فِي دَعْوَى تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ
عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ
أَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ
اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي فِي دَعْوَى فَالِاعْتِبَارُ
بِنِيَّةِ الْحَالِفِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ
الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي
بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية ويكون الاعتبار بنية
الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بِالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْرِيَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَثُ
بِهَا فلا يحوز فِعْلُهَا حَيْثُ يُبْطِلُ بِهَا حَقُّ
مُسْتَحِقٍّ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ هَذَا تَفْصِيلُ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ
اخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا فَقَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ
وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ حَقٍّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ
وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لِغَيْرِهِ فِي
حَقٍّ أَوْ وَثِيقَةٍ مُتَبَرِّعًا أَوْ بِقَضَاءٍ
عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ
بِظَاهِرِ يَمِينِهِ سَوَاءٌ حَلَفَ مُتَبَرِّعًا
بِالْيَمِينِ أَوْ بِاسْتِحْلَافٍ وَأَمَّا فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ الْيَمِينُ
عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَقِيلَ عَلَى نِيَّةِ
الْحَالِفِ وَقِيلَ إِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا فَعَلَى
نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا
بِالْيَمِينِ فَعَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَهَذَا قَوْلُ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَحْنُونٍ وَهُوَ ظاهر قول مالك وبن
القاسم وقيل عكسه وهي رواية يحيى عن بن الْقَاسِمِ وَقِيلَ
تَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِيمَا لَا يُقْضَى به عليه ويفترق
التبرع فِيمَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ
عَنِ بن الْقَاسِمِ أَيْضًا وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ
وَالْخَدِيعَةِ فَهُوَ فِيهِ آثِمٌ حَانِثٌ وَمَا كَانَ
عَلَى وجه العذر فلا بأس به وقال بن حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ
مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَلَهُ
نِيَّتُهُ وَمَا كَانَ فِي حَقٍّ فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ
الْمَحْلُوفِ لَهُ قَالَ الْقَاضِي وَلَا خِلَافَ فِي
إِثْمِ الْحَالِفِ بِمَا يقع به حق غيره وإن ورى الله أعلم
[1654] ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بْنِ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ إِذَا قَالَ سَأَفْعَلُ
كَذَا أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي
فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أن يشاء الله وَلِهَذَا
الْحَدِيثِ وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ وَقَالَ
مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ
يَحْنَثْ بِفِعْلِهِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَأَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ لَوْ)
(11/118)
قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ
وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذَا
الِاسْتِثْنَاءِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَهُ
مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَوَى
قَبْلَ فَرَاغِ الْيَمِينِ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَمْنَعُ
انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا قَالَ
وَلَوْ جَازَ مُنْفَصِلًا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ
السَّلَفِ لَمْ يَحْنَثْ أَحَدٌ قَطُّ فِي يَمِينٍ وَلَمْ
يَحْتَجْ إِلَى كَفَّارَةٍ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي
الِاتِّصَالِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ هُوَ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ مِنْ
غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَهُمَا وَلَا تَضُرُّ سَكْتَةُ
النَّفَسِ وَعَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ
التابعين أن له الإستثناء مالم يقم من مجلسه وقال قتادة
مالم يَقُمْ أَوْ يَتَكَلَّمْ وَقَالَ عَطَاءٌ قَدْرُ
حَلَبَةِ نَاقَةٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بَعْدَ
أَرْبَعَةِ أشهر وعن بن عَبَّاسٍ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ
أَبَدًا مَتَى تَذَكَّرَهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا
الْمَنْقُولَ عَنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ قَوْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَبَرُّكًا قَالَ تَعَالَى وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نسيت
وَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ حَلَّ الْيَمِينِ وَمَنْعَ
الْحِنْثِ أَمَّا إِذَا اسْتَثْنَى فِي الطَّلَاقِ
وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال أنت
طالق إن شاء الله تعالى أو أنت حر إن شاء الله تعالى أو
أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تَعَالَى أَوْ لِزَيْدٍ فِي
ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إِنْ
شُفِيَ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَغَيْرِهِمْ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي جَمِيعِ
الْأَشْيَاءِ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهَا فِي الْيَمِينِ
بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْنَثُ فِي طَلَاقٍ وَلَا
عِتْقٍ وَلَا يَنْعَقِدُ ظِهَارُهُ وَلَا نَذْرُهُ وَلَا
إِقْرَارُهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ
قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَوْ قَالَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا تَكْفِي فِيهِ
النِّيَّةُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ
(11/119)
وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا
مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ قِيَاسَ
قَوْلِ مَالِكٍ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ مِنْ
غَيْرِ لَفْظٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) قَدْ
يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ انْفِصَالِ
الِاسْتِثْنَاءِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ
وَهُوَ بَعْدُ فِي أَثْنَاءِ الْيَمِينِ أَوْ أَنَّ
الَّذِي جَرَى مِنْهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ
فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِيَمِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(لَأَطُوفَنَّ) وَفِي بعض النسخ لا طيفن الليلة هما لغتان
فصيحتان طاف بالشئ وَأَطَافَ بِهِ إِذَا دَارَ حَوْلَهُ
وَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ فَهُوَ طَائِفٌ وَمُطِيفٌ وَهُوَ
هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ لِسُلَيْمَانَ سِتُّونَ
امْرَأَةً) وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعُونَ وَفِي رِوَايَةٍ
تِسْعُونَ وَفِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةٌ هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ
بِمُتَعَارِضٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْقَلِيلِ
نَفْيُ الْكَثِيرِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ
وَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ
عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُصُولِيِّينَ وَفِي هَذَا بَيَانُ
مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى إِطَاقَةِ
هَذَا فِي لَيْلَةٍ واحدة وكان نبيا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ
امْرَأَةً لَهُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ فَتَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا
فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هَذَا قَالَهُ
عَلَى سَبِيلِ التَّمَنِّي لِلْخَيْرِ وَقَصَدَ بِهِ
الْآخِرَةَ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا
لِغَرَضِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةٌ
فَوَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ) وَفِي رِوَايَةٍ جَاءَتْ
بِشِقِّ غُلَامٍ قِيلَ هُوَ الْجَسَدُ الَّذِي ذَكَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ كَانَ
اسْتَثْنَى لَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا
فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى) هَذَا
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي حَقِّ
سُلَيْمَانَ لَا أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَحْصُلُ
لَهُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ أَوِ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ) قِيلَ الْمُرَادُ
بِصَاحِبِهِ الْمَلَكُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ
وَقِيلَ الْقَرِينُ وَقِيلَ صَاحِبٌ لَهُ آدَمِيٌّ
وَقَوْلُهُ نُسِّيَ ضَبَطَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ
(11/120)
بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ
وَهُوَ ظَاهِرٌ حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي
حَاجَتِهِ) هُوَ بِفَتْحِ الإدراك إسم من الإدارك أَيْ
لِحَاقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَخَافُ دركا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَايْمِ
الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ
الْيَمِينِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ ايْمُ اللَّهِ
وَايْمَنُ اللَّهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ هُوَ يَمِينٌ وَقَالَ
أَصْحَابُنَا إِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ
وَإِلَّا فَلَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا)
فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ لَوْ وَلَوْلَا قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ هَذَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ لَوْ
وَلَوْلَا
(11/121)
قَالَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ
كَثِيرًا وَفِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا بَابَ مَا يَجُوزُ
مِنَ اللَّوْ وَأَدْخَلَ فِيهِ قَوْلَ لُوطٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أن لي بكم قوة وَقَوْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ
رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ ولو مدلى
الشهر لواصلت ولولا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ
لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ
ولولا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ
وَأَمْثَالَ هَذَا قال والذي ينفهم مِنْ تَرْجَمَةِ
الْبُخَارِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ مِنَ
الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَوْ
وَلَوْلَا فِيمَا يَكُونُ لِلِاسْتِقْبَالِ مِمَّا
امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ وَهُوَ
مِنْ بَابِ الْمُمْتَنَعِ مِنْ فِعْلِهِ لِوُجُودِ
غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ لَوْلَا لِأَنَّهُ لَمْ
يَدْخُلْ فِي الْبَابِ سِوَى ماهو للإستقبال أو ماهو حَقٌّ
صَحِيحٌ مُتَيَقَّنٌ كَحَدِيثِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ
لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ دُونَ الْمَاضِي
وَالْمُنْقَضِي أَوْ مافيه اعْتِرَاضٌ عَلَى الْغَيْبِ
وَالْقَدَرِ السَّابِقِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ
لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَلَكِنْ قُلْ
قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا إِذَا قَالَهُ عَلَى جِهَةِ
الْحَتْمِ وَالْقَطْعِ بِالْغَيْبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ
كَذَا لَكَانَ كَذَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالنَّظَرِ إِلَى سَابِقِ قَدَرِهِ وَخَفِيِّ
عِلْمِهِ عَلَيْنَا فَأَمَّا مَنْ قَالَهُ عَلَى
التَّسْلِيمِ وَرَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَشِيئَةِ فَلَا
كَرَاهَةَ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ
إِلَى أَنَّ لَوْلَا بِخِلَافِ لَوْ قَالَ الْقَاضِي
وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ إِذَا
اسْتُعْمِلَتَا فِيمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ الْإِنْسَانُ
عِلْمًا وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مَقْدُورِ قَائِلِهِمَا
مِمَّا هُوَ تَحَكُّمٌ عَلَى الْغَيْبِ وَاعْتِرَاضٌ عَلَى
الْقَدَرِ كَمَا نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَمِثْلُ
قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ لَوْ أطاعونا ما قتلوا لَوْ
كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ولو كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا ها هنا فرد
الله تعالى عليهم باطلهم فقال فادرؤا عن أنفسكم الموت إن
كنتم صادقين فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ
وَأَمَّا هَذَا الحديث الذي نحن فيه فإنما أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم فيه عن يقين نفسه أن سليمان لو قال إن شاء
الله لجاهدوا إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والإجتهاد وإنما
أَخْبَرَ عَنْ حَقِيقَةٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِهَا وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم لَوْلَا بَنُو
إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ وَلَوْلَا حَوَّاءُ
لَمْ تَخُنِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ
هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ لَوْ وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى
مضاجعهم ولو ردوا لعادوا
(11/122)
لما نهوا عنه وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ
لَوْلَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لولا كتاب من الله سبق لمسكم
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلَنَا ولولا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُخْبِرٌ
فِي كُلِّ ذَلِكَ عَمَّا مَضَى أَوْ يَأْتِي عَنْ عِلْمٍ
خَبَرًا قَطْعِيًّا وَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ لَوْ
وَلَوْلَا مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ عِلَّةِ
امْتِنَاعِهِ مِنْ فِعْلِهِ مِمَّا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي
قُدْرَتِهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِخْبَارُ
حَقِيقَةٍ عَنِ امْتِنَاعِ شَيْءٍ لِسَبَبِ شَيْءٍ
وَحُصُولِ شَيْءٍ لِامْتِنَاعِ شَيْءٍ وَتَأْتِي لَوْ
غَالِبًا لِبَيَانِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ أَوِ النَّافِي
فَلَا كَرَاهَةَ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا إِلَّا
أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ
الْمُنَافِقِينَ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتبعناكم والله
أعلم
(باب النهي عن الإصرار على
اليمين فيما (يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام)
[1655] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ
آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ
كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ) أَمَّا قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ فَبِفَتْحِ
اللَّامِ وَهُوَ لَامُ الْقَسَمِ وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلَجَّ هُوَ بِفَتْحِ الياء
واللام وتشديد الجيم وآثم بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَثَاءٍ
مُثَلَّثَةٍ أَيْ أَكْثَرُ إِثْمًا وَمَعْنَى الْحَدِيثِ
أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ يَمِينًا تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ
وَيَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ وَيَكُونُ الْحِنْثُ
لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْنَثَ
فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ
فَإِنْ قَالَ لَا أَحْنَثُ بَلْ أَتَوَرَّعُ عَنِ
ارْتِكَابِ الْحِنْثِ وَأَخَافُ الْإِثْمَ فِيهِ فَهُوَ
مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْلِ بَلِ اسْتِمْرَارُهُ فِي
عَدَمِ الْحِنْثِ وَإِدَامَةِ الضَّرَرِ عَلَى أَهْلِهِ
أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ وَاللِّجَاجُ فِي
اللُّغَةِ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ فَهَذَا
مُخْتَصَرُ بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَا بُدَّ مِنْ
تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْثُ لَيْسَ
بِمَعْصِيَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم)
(11/123)
آثَمُ فَخَرَجَ عَلَى لَفْظِ
الْمُفَاعَلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي
الْإِثْمِ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُقَابَلَةَ اللَّفْظِ عَلَى
زَعْمِ الْحَالِفِ وَتَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَهَّمُ
أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا
إِثْمَ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ فِي اللِّجَاجِ أَكْثَرُ
لَوْ ثَبَتَ الْإِثْمُ والله أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب
(
[1656]
فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَفِي رِوَايَةٍ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْفِ
بِنَذْرِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ نَذْرِ
الْكَافِرِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ
الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَالْبُخَارِيُّ وبن جَرِيرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا
يَصِحُّ وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ حَدِيثِ عُمَرَ وَأَجَابَ
الْأَوَّلُونَ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
الِاسْتِحْبَابِ أَيْ يُسْتَحَبُّ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ
الْآنَ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي نَذَرْتَهُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ
لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي صِحَّةِ
الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ وَفِي صِحَّتِهِ
بِاللَّيْلِ كَمَا يَصِحُّ بِالنَّهَارِ سَوَاءٌ كَانَتْ
لَيْلَةً وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا أَوْ أَكْثَرَ
وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ
الَّتِي فِيهَا اعْتِكَافُ يَوْمٍ فَلَا تُخَالِفُ
رِوَايَةَ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ وَسَأَلَهُ
عَنِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ فَأَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِمَا
نَذَرَ فَحَصَلَ مِنْهُ صِحَّةُ اعْتِكَافِ اللَّيْلِ
وَحْدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ نافع عن بن عُمَرَ أَنَّ
عُمَرَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فَسَأَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
(11/124)
فَقَالَ لَهُ أَوْفِ بِنَذْرِكَ
فَاعْتَكَفَ عُمَرُ لَيْلَةً رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَقَالَ إِسْنَادُهُ ثَابِتٌ هَذَا مَذْهَبُ الشافعي
(11/125)
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وبن الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَصَحُّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ بن المنذر وهو مروى
عن علي وبن مسعود وقال بن عمر وبن عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ
وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا لَا
يَصِحُّ إِلَّا بِصَوْمٍ وَهُوَ قول أكثر العلماء قوله
(ذكر عند بن عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَالَ
لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ
عِلْمِهِ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ
عَلَى النَّفْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ اعْتِمَارَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْجِعْرَانَةِ عَامَ حُنَيْنٍ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ رضي
الله عنه والله أعلم
(11/126)
(باب صحبة المماليك
[1657] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ
لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ
يُعْتِقَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
الرِّفْقُ بِالْمَمَالِيكِ وَحُسْنُ صُحْبَتِهِمْ وَكَفُّ
الْأَذَى عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ بَعْدَهُ
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ بِهَذَا
لَيْسَ وَاجِبًا وَإِنَّمَا هُوَ مَنْدُوبٌ رَجَاءَ
كَفَّارَةِ ذَنْبِهِ فِيهِ إِزَالَةُ إِثْمِ ظُلْمِهِ
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِ إِعْتَاقِهِ
حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ بَعْدَهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ
حِينَ لَطَمَ أَحَدُهُمْ خَادِمَهُمْ بِعِتْقِهَا قَالُوا
لَيْسَ لَنَا خَادِمٌ غَيْرُهَا قَالَ
فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا
فَلْيُخَلُّوا سَبِيلَهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْتَاقُ
الْعَبْدِ لِشَيْءٍ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِ مَوْلَاهُ
مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيفِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا
فِيمَا كَثُرَ مِنْ ذَلِكَ وَشَنُعَ مِنْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ
مُنْهِكٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ أَوْ حَرَقَهُ بِنَارٍ
أَوْ قَطَعَ عُضْوًا لَهُ أَوْ أَفْسَدَهُ أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُثْلَةٌ فَذَهَبَ مَالِكٌ
وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ إِلَى عِتْقِ الْعَبْدِ عَلَى
سَيِّدِهِ بِذَلِكَ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ
وَيُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى فِعْلِهِ وَقَالَ
سَائِرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَ الْأَمَةِ أو
لحية العبد واحتج مالك بحديث بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي
الَّذِي جَبَّ عَبْدَهُ فَأَعْتَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا
لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ
يُعْتِقَهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ
الْمُرَادَ بِالْأُولَى مَنْ ضَرَبَهُ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا)
(11/127)
على سبيل التعليم والأدب قوله (أن بن
عُمَرَ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا فَأَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ
عُودًا أَوْ شَيْئًا فَقَالَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ
مَا يَسْوَى هَذَا إِلَّا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ لَطَمَ
مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ
يُعْتِقَهُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ مَا
يَسْوَى وَفِي بَعْضِهَا مَا يُسَاوِي بِالْأَلِفِ
وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الصَّحِيحَةُ الْمَعْرُوفَةُ
وَالْأُولَى عَدَّهَا أَهْلُ اللُّغَةِ فِي لَحْنِ
الْعَوَامِّ وَأَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذِهِ
اللَّفْظَةِ بِأَنَّهَا تَغْيِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ
لا أن بن عمر نطق بها ومعنى كلام بن عُمَرَ أَنَّهُ لَيْسَ
فِي إِعْتَاقِهِ أَجْرُ الْمُعْتِقِ تَبَرُّعًا وَإِنَّمَا
عِتْقُهُ كَفَّارَةٌ لِضَرْبِهِ وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ
مُنْقَطِعٌ وَقِيلَ بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ وَمَعْنَاهُ مَا
أَعْتَقْتُهُ إِلَّا لِأَنِّي سَمِعْتُ كَذَا قَوْلُهُ
(لَطَمْتُ مَوْلًى لَنَا فَهَرَبْتُ ثُمَّ جِئْتُ قُبَيْلَ
الظهر
[1658] فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثُمَّ قَالَ امْتَثِلْ
مِنْهُ فَعَفَا) قَوْلُهُ امْتَثِلْ قِيلَ مَعْنَاهُ
عَاقِبْهُ قِصَاصًا وَقِيلَ افْعَلْ بِهِ مِثْلَ مَا
فَعَلَ بِكَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى تَطْيِيبِ نَفْسِ
الْمَوْلَى الْمَضْرُوبِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ القصاص في
الله وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا وَاجِبُهُ التَّعْزِيرُ
لَكِنَّهُ تَبَرَّعَ فَأَمْكَنَهُ مِنَ الْقِصَاصِ فِيهَا
وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالُ
التَّوَاضُعِ قَوْلُهُ (لَيْسَ لَنَا إِلَّا خَادِمٌ
وَاحِدَةٌ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ
وَالْخَادِمُ بِلَا هاء
(11/128)
يُطْلَقُ عَلَى الْجَارِيَةِ كَمَا
يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يُقَالُ خَادِمَةٌ
بِالْهَاءِ إِلَّا فِي لُغَةٍ شَاذَّةٍ قَلِيلَةٍ
أَوْضَحْتُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ
قَوْلُهُ (هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَكَسْرِهَا وَيُقَالُ أَيْضًا أَسَافٌ قَوْلُهُ (عَجَزَ
عَلَيْكَ إِلَّا حُرُّ وَجْهِهَا) مَعْنَاهُ عَجَزْتَ
وَلَمْ تَجِدْ أَنْ تَضْرِبَ إِلَّا حُرَّ وَجْهِهَا
وَحُرُّ الْوَجْهِ صفحته ومارق مِنْ بَشَرَتِهِ وَحُرُّ
كُلِّ شَيْءٍ أَفْضَلُهُ وَأَرْفَعُهُ قِيلَ وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ عَجَزَ عَلَيْكَ أَيِ
امْتَنَعَ عَلَيْكَ وَعَجَزَ بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى
اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ
أَعْجَزْتُ أن أكون مثل هذا الغراب وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا
قَوْلُهُ (فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُعْتِقَهَا) هَذَا مَحْمُولٌ
عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَضُوا بِعِتْقِهَا
وَتَبَرَّعُوا بِهِ وَإِلَّا فَاللَّطْمَةُ إِنَّمَا
كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَسَمَحُوا لَهُ
بِعِتْقِهَا تَكْفِيرًا لِذَنْبِهِ قَوْلُهُ (أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ الصُّورَةَ مُحَرَّمَةٌ) فِيهِ إِشَارَةٌ
إِلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا
ضَرَبَ أَحَدُكُمُ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ
إِكْرَامًا لَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَحَاسِنَ الْإِنْسَانِ
(11/129)
وَأَعْضَاءَهُ اللَّطِيفَةَ وَإِذَا حَصَلَ
فِيهِ شَيْنٌ أَوْ أَثَرٌ كَانَ أَقْبَحَ قَوْلُهُ فِي
حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ (إِنَّهُ ضَرَبَ
[1659] غُلَامَهُ بِالسَّوْطِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْلَمْ أَبَا
مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى
هَذَا الْغُلَامِ) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ
بِالْمَمْلُوكِ وَالْوَعْظُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى
اسْتِعْمَالِ الْعَفْوِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحُكْمُ
كَمَا يَحْكُمُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيُّ) هُوَ
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ قِيلَ
(11/130)
لَهُ الْمَعْمَرِيُّ لِأَنَّهُ رَحَلَ
إِلَى مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ
يَتْبَعُ أَحَادِيثَ مَعْمَرٍ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي
مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ فَجَعَلَ
يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَقَالَ
أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ فَتَرَكَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ
لَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَعِ اسْتِعَاذَتَهُ الْأُولَى
لِشِدَّةِ غَضَبِهِ كَمَا لَمْ يَسْمَعْ نِدَاءَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
يَكُونُ لَمَّا اسْتَعَاذَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَبَّهَ لِمَكَانِهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَذَفَ
[1660] مملوكه بالزنى يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ) فِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ
(11/131)
لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْعَبْدِ فِي
الدُّنْيَا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ
قَاذِفُهُ لِأَنَّ العبد ليس بمحصن وَسَوَاءٌ فِي هَذَا
كُلِّهِ مَنْ هُوَ كَامِلُ الرِّقِّ وَلَيْسَ فِيهِ سَبَبُ
حُرِّيَّةٍ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ
الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ هَذَا فِي حُكْمِ
الدُّنْيَا أَمَّا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ فَيُسْتَوْفَى
لَهُ الْحَدُّ مِنْ قَاذِفِهِ لِاسْتِوَاءِ الْأَحْرَارِ
وَالْعَبِيدِ فِي الْآخِرَةِ قَوْلُهُ (سَمِعْتُ أَبَا
الْقَاسِمِ نَبِيَّ التَّوْبَةِ) قَالَ الْقَاضِي
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ بِالْقَوْلِ
وَالِاعْتِقَادِ وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَنَا
بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ الْإِيمَانَ وَالرُّجُوعَ عَنِ
الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَصْلُ التَّوْبَةِ الرجوع
قَوْلُهُ عَنِ الْمَعْرُورِ
[1661] بْنِ سُوَيْدٍ هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ
وَبِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ قَوْلُهُ لَوْ جَمَعْتَ
بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
لِأَنَّ الْحُلَّةَ عِنْدَ الْعَرَبِ ثَوْبَانِ وَلَا
تُطْلَقُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي
ذَرٍّ (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي
كَلَامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ
بِأُمِّهِ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ
جَاهِلِيَّةٌ) أَمَّا قَوْلُهُ رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِي
فَمَعْنَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ إِخْوَانِي
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَهُ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ
تَحْتَ يَدِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ أَيْ هَذَا التَّعْيِيرُ مِنْ
أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيكَ خُلُقٌ مِنْ
أَخْلَاقِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَكُونَ
فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ
التَّعْيِيرِ
(11/132)
وَتَنْقِيصِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ
وَأَنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ قَوْلُهُ
(قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ
سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ
امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) مَعْنَى كَلَامِ أَبِي ذَرٍّ
الِاعْتِذَارُ عَنْ سَبِّهِ أُمَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ
يَعْنِي أَنَّهُ سَبَّنِي وَمَنْ سَبَّ إِنْسَانًا سَبَّ
ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَبَا السَّابِّ وَأُمَّهُ فَأَنْكَرَ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ هَذَا مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّمَا
يُبَاحُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَسُبَّ السَّابَّ نَفْسَهُ
بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِأَبِيهِ وَلَا
لِأُمِّهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ
وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ
مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)
الضَّمِيرُ فِي هُمْ إِخْوَانُكُمْ يَعُودُ إِلَى
الْمَمَالِيكِ وَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا
يَأْكُلُ السَّيِّدُ وَإِلْبَاسُهُمْ مِمَّا يَلْبَسُ
مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ
وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي
ذَرٍّ فِي كِسْوَةِ غُلَامِهِ مِثْلَ كِسْوَتِهِ فَعَمَلٌ
بِالْمُسْتَحَبِّ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ
نَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ
بِحَسَبِ الْبُلْدَانِ وَالْأَشْخَاصِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ
جِنْسِ نَفَقَةِ السَّيِّدِ وَلِبَاسِهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ
فَوْقَهُ حَتَّى لَوْ قَتَّرَ السَّيِّدُ عَلَى نَفْسِهِ
تَقْتِيرًا خَارِجًا عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ إِمَّا
زُهْدًا وَإِمَّا شُحًّا لَا يَحِلُّ لَهُ التَّقْتِيرُ
عَلَى الْمَمْلُوكِ وَإِلْزَامُهُ وَمُوَافَقَتُهُ إِلَّا
بِرِضَاهُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ من العمل مالا يُطِيقُهُ فَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِعَانَتُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ
بِغَيْرِهِ قَوْلُهُ (فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ
فَلْيَبِعْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ
وَهَذِهِ
(11/133)
الثَّانِيَةُ هِيَ الصَّوَابُ
الْمُوَافِقَةُ لِبَاقِي الرِّوَايَاتِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ
هَذَا الرَّجُلَ الْمَسْبُوبَ هُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ
[1662] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ
مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ) هُوَ مُوَافِقٌ
لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وقد شرحناه والكسوة بِكَسْرِ
الْكَافِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ الْكَسْرُ أَفْصَحُ وَبِهِ
جَاءَ الْقُرْآنُ وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ
عَلَى سَائِرِ الْمُؤَنِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا
الْعَبْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
[1663] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا صَنَعَ لِأَحَدِكُمْ
خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ
حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ
(11/134)
فَلْيَأْكُلْ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ
مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ
أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ) قَالَ دَاوُدُ يَعْنِي
لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَمَّا الْأُكْلَةُ فَبِضَمِّ
الْهَمْزَةِ وَهِيَ اللُّقْمَةُ كَمَا فَسَّرَهُ وَأَمَّا
الْمَشْفُوهُ فَهُوَ الْقَلِيلُ لِأَنَّ الشِّفَاهَ
كَثُرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ قَلِيلًا قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْفُوهًا قَلِيلًا أَيْ
قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ لَا سِيَّمَا
فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ لِأَنَّهُ وَلِيَ
حَرَّهُ وَدُخَانَهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَشَمَّ
رَائِحَتَهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
الِاسْتِحْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ
[1664] لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ فَلَهُ
أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ فِيهِ
فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ وَهُوَ
الناصح لسيده والقائم بعبادة ربه المتوجهة عَلَيْهِ
وَأَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ لِقِيَامِهِ
(11/135)
بِالْحَقَّيْنِ وَلِانْكِسَارِهِ
بِالرِّقِّ
[1665] وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ
وَأَنَا مَمْلُوكٌ فَفِيهِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا جِهَادَ
عَلَيْهِ وَلَا حَجَّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ
وَأَرَادَ بِبِرِّ أُمِّهِ الْقِيَامَ بِمَصْلَحَتِهَا فِي
النَّفَقَةِ وَالْمُؤَنِ وَالْخِدْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنَ الرَّقِيقِ قَوْلُهُ
(وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ
حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا) الْمُرَادُ بِهِ
حَجُّ التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَّ حَجَّةَ
الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَ بِرَّ الْأُمِّ عَلَى حَجِّ
التَّطَوُّعِ لِأَنَّ بِرَّهَا فَرْضٌ فَقُدِّمَ عَلَى
التَّطَوُّعِ وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ
لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ حَجَّةِ
التَّطَوُّعِ دُونَ حَجَّةِ الْفَرْضِ قَوْلُهُ (قَالَ
[1666] كَعْبٌ لَيْسَ عَلَيْهِ حِسَابٌ وَلَا عَلَى
مُؤْمِنٍ مُزْهِدٍ) الْمُزْهِدُ بِضَمِّ الْمِيمِ
وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَمَعْنَاهُ قَلِيلُ الْمَالِ
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا
أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ مَوَالِيهِ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ حِسَابٌ لِكَثْرَةِ أَجْرِهِ وَعَدَمِ
مَعْصِيَتِهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَعْبٌ يَحْتَمِلُ
أَنَّهُ أَخَذَهُ بِتَوْقِيفٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ
بالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ
وَأُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ
حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ
(11/136)
مَسْرُورًا قَوْلُهُ
[1667] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نِعِمَّا
للملوك أَنْ يُتَوَفَّى يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ
وَصَحَابَةَ سَيِّدِهِ) أَمَّا نِعِمَّا فَفِيهَا ثَلَاثُ
لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ فِي السَّبْعِ إِحْدَاهَا كَسْرُ
النُّونِ مَعَ إِسْكَانِ الْعَيْنِ وَالثَّانِيَةُ
كَسْرُهُمَا وَالثَّالِثَةُ فَتْحُ النُّونِ مَعَ كَسْرِ
الْعَيْنِ وَالْمِيمِ مُشَدَّدَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أي
نعم شيء هو ومعناه نعم ماهو فَأُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي
الْمِيمِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ نُعْمًا
بِضَمِّ النُّونِ مُنَوَّنًا وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْ لَهُ
مَسَرَّةٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ يُقَالُ نُعْمًا لَهُ
وَنِعْمَةً لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ) هُوَ بِضَمِّ
أَوَّلِ يُحْسِنُ وَعِبَادَةَ مَنْصُوبَةٌ وَالصَّحَابَةُ
هُنَا بِمَعْنَى الصُّحْبَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ
مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ) وَذَكَرَ حَدِيثَ
الِاسْتِسْعَاءِ وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ
(11/137)
فِي كِتَابِ الْعِتْقِ مَبْسُوطَةً
بِطُرُقِهَا وَعَجَبٌ مِنْ إعادة مسلم لها ها هنا عَلَى
خِلَافِ عَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِلَى
إِعَادَتِهَا وَسَبَقَ هُنَاكَ شَرْحُهَا قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ
قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ) قَالَ
الْعُلَمَاءُ الْوَكْسُ الْغِشُّ وَالْبَخْسُ وَأَمَّا
الشَّطَطُ فَهُوَ الْجَوْرُ يُقَالُ شَطَّ الرَّجُلُ
وَأَشَطَّ وَاسْتَشَطَّ إِذَا جَارَ وَأَفْرَطَ وَأَبْعَدَ
فِي مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ وَالْمُرَادُ يُقَوَّمُ
بِقِيمَةِ عَدْلٍ لَا بِنَقْصٍ
(11/138)
وَلَا بِزِيَادَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ
مَمْلُوكٍ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ شَقِيصًا
بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا شِقْصًا بِحَذْفِهَا وَكَذَا
سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ وَهُمَا لُغَتَانِ شِقْصٌ
وَشَقِيصٌ كَنِصْفٍ وَنَصِيفٍ أَيْ نَصِيبٌ قَوْلُهُ
[1668] (إِنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ
عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ
فَدَعَا بِهِمْ
(11/139)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقَرَعَ
بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً
وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ
رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ
فَأَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ قَوْلُهُ فَجَزَّأَهُمْ
هُوَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ
مَشْهُورَتَانِ ذَكَرَهُمَا بن السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ
وَمَعْنَاهُ قَسَمَهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَالَ لَهُ
قَوْلًا شَدِيدًا فَمَعْنَاهُ قَالَ فِي شَأْنِهِ قَوْلًا
شَدِيدًا كَرَاهِيَةً لِفِعْلِهِ وَتَغْلِيظًا عَلَيْهِ
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَفْسِيرُ هَذَا
الْقَوْلِ الشَّدِيدِ قَالَ لَوْ عَلِمْنَا مَا صَلَّيْنَا
عَلَيْهِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ كَانَ يَتْرُكُ
الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ
عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ وَأَمَّا أَصْلُ الصَّلَاةِ
عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا مِنْ بَعْضِ
الصَّحَابَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق وداود وبن جَرِيرٍ
وَالْجُمْهُورِ فِي إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ فِي الْعِتْقِ
وَنَحْوِهِ وَأَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَضِ
مَوْتِهِ أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ وَلَا يَخْرُجُونَ
مِنَ الثُّلُثِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَيُعْتِقُ ثُلُثَهُمْ
بِالْقُرْعَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقُرْعَةُ
بَاطِلَةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ بَلْ يُعْتِقُ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ قِسْطَهُ وَيُسْتَسْعَى فِي الْبَاقِي
لِأَنَّهَا خَطَرٌ وَهَذَا مَرْدُودٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَقَوْلُهُ فِي
الْحَدِيثِ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً
صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ قَالَ
بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ
وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وحكى أيضا عن بن الْمُسَيِّبِ
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأَخِيرِ (حَدَّثَنَا هِشَامُ
بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا
اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ فقال لم
يسمعه بن سِيرِينَ مِنْ عِمْرَانَ فِيمَا يُقَالُ
وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ عَنْ أبي المهلب
(11/140)
عن عمران قاله بن الْمَدِينِيِّ قُلْتُ
وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ بن سِيرِينَ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ وَلَوْ ثَبَتَ عَدَمُ سَمَاعِهِ
مِنْهُ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الْإِمَامِ مُسْلِمٍ فِيهِ
عَتَبٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً بَعْدَ
ذِكْرِهِ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ وَقَدْ
سَبَقَ لِهَذَا نَظَائِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(بَاب جَوَازِ بيع المدبر
[997] قول هـ (إَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ
غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
غَيْرُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي
فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) مَعْنَى
أَعْتَقَهُ عَنْ دُبُرٍ أَيْ دَبَّرَهُ فَقَالَ لَهُ
أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَسُمِّيَ هَذَا تَدْبِيرًا
لأنه يحصل العتق فيه فِي دُبُرِ الْحَيَاةِ وَأَمَّا هَذَا
الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ فَيُقَالُ لَهُ أَبُو مَذْكُورٍ
وَاسْمُ الْغُلَامِ الْمُدَبَّرِ يَعْقُوبُ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَمُوَافِقِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ
قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قِيَاسًا
عَلَى الْمُوصَى بِعِتْقِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ
بِالْإِجْمَاعِ وَمِمَّنْ جَوَّزَهُ عَائِشَةُ وَطَاوُسٌ
وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالسَّلَفِ مِنَ
الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ بَيْعُ
الْمُدَبَّرِ قَالُوا وَإِنَّمَا بَاعَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى
سَيِّدِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ
وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ اقْضِ بِهِ دَيْنَكَ
قَالُوا وَإِنَّمَا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ لِيَقْضِيَ
بِهِ دَيْنَهُ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يكن له مَالٌ غَيْرُهُ فَرَدَّ تَصَرُّفَهُ
قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَكَذَلِكَ يُرَدُّ تَصَرُّفُ مَنْ
تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ
وَالصَّوَابُ نَفَاذُ تَصَرُّفِ مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ
مَالِهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى الْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ فَعَلَ ذلك نظرا له
إذا لَمْ يَتْرُكْ لِنَفْسِهِ مَالًا وَالصَّحِيحُ مَا
قَدَّمْنَاهُ أن الحديث)
(11/141)
عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ
الْمُدَبَّرِ بِكُلِّ حال مالم يَمُتِ السَّيِّدُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
صِحَّةِ التَّدْبِيرِ ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَمَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُحْسَبُ عِتْقُهُ مِنَ
الثُّلُثِ وَقَالَ اللَّيْثُ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ نَظَرُ الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ رَعِيَّتِهِ
وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا فِيهِ الرِّفْقُ بهم
وبأبطالهم مَا يَضُرُّهُمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمُ الَّتِي
يُمْكِنُ فَسْخُهَا وَفِيهِ جَوَازُ الْبَيْعِ فِيمَنْ
يُدَبَّرُ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْآنَ وَقَدْ كَانَ
فِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ قَوْلُهُ
(وَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ الله) وفي رواية
فاشتراه بن النَّحَّامِ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ
وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ هَكَذَا هو في
جميع النسخ بن النَّحَّامِ بِالنُّونِ قَالُوا وَهُوَ
غَلَطٌ وَصَوَابُهُ فَاشْتَرَاهُ النحام فإن المشتري هُوَ
نُعَيْمٌ وَهُوَ النَّحَّامُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/142)
دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا نَحْمَةً
لِنُعَيْمٍ وَالنَّحْمَةُ الصوت وقيل هي السلعة وقيل
النحنحة والله أعلم |