شرح النووي على
مسلم (
كتاب الرقاق)
باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء (وبيان
الفتنة بالنساء)
[2736] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَإِذَا أَصْحَابُ الجد محبوسون) هوبفتح الْجِيمِ قِيلَ
الْمُرَادُ بِهِ أَصْحَابُ الْبَخْتِ وَالْحَظِّ فِي
الدُّنْيَا وَالْغِنَى وَالْوَجَاهَةِ بِهَا وَقِيلَ
الْمُرَادُ أَصْحَابُ الْوِلَايَاتِ وَمَعْنَاهُ
مَحْبُوسُونَ لِلْحِسَابِ
(17/52)
وَيَسْبِقُهُمُ الْفُقَرَاءُ
بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إلاأصحاب
النار فقد أمربهم إِلَى النَّارِ) مَعْنَاهُ مَنِ
اسْتَحَقَّ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى النَّارَ بِكُفْرِهِ أَوْ
مَعَاصِيهِ وَفِي هَذَا
(17/53)
الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ الْفَقْرِ عَلَى
الْغِنَى وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ
[2739] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ
وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ)
الْفَجْأةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ
مَقْصُورَةٌ عَلَى وَزْنِ ضَرْبَةٍ وَالْفُجَاءَةُ بِضَمِّ
الْفَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمَدِّ لُغَتَانِ وَهِيَ
الْبَغْتَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَدْخَلَهُ مُسْلِمٌ
بَيْنَ أَحَادِيثِ النِّسَاءِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يُقَدِّمَهُ عَلَيْهَا كُلَّهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أَحَدِ
حُفَّاظِ الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرِهِمْ حِفْظًا وَلَمْ
يَرْوِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ غَيْرَ هَذَا
الْحَدِيثِ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ مُسْلِمٍ تُوُفِّي
بَعْدَ مُسْلِمٍ بِثَلَاثِ سِنِينَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ قوله
(17/54)
[2742] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ
مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ) هَكَذَا
هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا
وَمَعْنَاهُ تَجَنَّبُوا الِافْتِتَانَ بِهَا
وَبِالنِّسَاءِ وَتَدْخُلُ فِي النِّسَاءِ الزَّوْجَاتُ
وغيرهن وأكثرهن فتنة الزوجات ودوام فِتْنَتِهِنَّ
وَابْتِلَاءِ أَكْثَرِ النَّاسِ بِهِنَّ وَمَعْنَى
الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا حُسْنُهَا لِلنُّفُوسِ
وَنَضَارَتُهَا وَلَذَّتُهَا كَالْفَاكِهَةِ الْخَضْرَاءِ
الْحُلْوَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَطْلُبُهَا طَلَبًا
حَثِيثًا فَكَذَا الدُّنْيَا وَالثَّانِي سُرْعَةُ
فَنَائِهَا كَالشَّيْءِ الْأَخْضَرِ فِي هَذَيْنِ
الْوَصْفَيْنِ وَمَعْنَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا
جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ مِنَ الْقُرُونِ الَّذِينَ
قَبْلَكُمْ فَيَنْظُرُ هَلْ تَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ أَمْ
بِمَعْصِيَتِهِ وَشَهَوَاتِكُمْ
(بَاب قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ الثَّلَاثَةِ
وَالتَّوَسُّلِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ
[2743] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جبل) الغار النقب فى الجبل
وأووا بقصر الهمزة)
(17/55)
وَيَجُوزُ فَتْحُهَا فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ
سَبَقَ بَيَانُهَا قَرِيبًا قَوْلُهُ (انْظُرُوا
أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ
بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا) اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا
بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَدْعُوَ فِي حَالِ كَرْبِهِ وَفِي دُعَاءِ
الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ بِصَالِحِ عَمَلِهِ
وَيَتَوَسَّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ
هَؤُلَاءِ فَعَلُوهُ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ وَذَكَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَجَمِيلِ فَضَائِلِهِمْ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَفَضْلِ خِدْمَتِهِمَا وَإِيثَارِهِمَا عَمَّنْ
سِوَاهُمَا مِنَ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَةِ وَغَيْرِهِمْ
وَفِيهِ فَضْلُ الْعَفَافِ وَالِانْكِفَافِ عن المحرمات
لاسيما بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالْهَمِّ
بِفِعْلِهَا وَيُتْرَكُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَفِيهِ
جَوَازُ الْإِجَارَةِ وَفَضْلُ حُسْنِ الْعَهْدِ وَأَدَاءِ
الْأَمَانَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَفِيهِ
إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ
أَهْلِ الْحَقِّ قَوْلُهُ (فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ
حَلَبْتُ) مَعْنَاهُ إِذَا رَدَدْتُ الْمَاشِيَةَ مِنَ
الْمَرْعِي إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَوْضِعِ مَبِيتِهَا وَهُوَ
مُرَاحُهَا بِضَمِّ الْمِيمِ يُقَالُ أَرَحْتُ
الْمَاشِيَةَ وَرَوَّحْتُهَا بِمَعْنًى قَوْلُهُ (نَأَى
بِي ذَاتَ يوم الشجر) وفى بعض ناءبى فالأول يجعل
الْهَمْزَةِ قَبْلَ الْأَلِفِ وَبِهِ قَرَأَ أَكْثَرُ
الْقُرَّاءِ السبعة والثانى عَكْسُهُ وَهُمَا لُغَتَانِ
وَقِرَاءَتَانِ وَمَعْنَاهُ بَعُدَ وَالثَّانِي الْبُعْدُ
قَوْلُهُ (فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ) هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ
وهو الإناء الذى يحلب فيه يسع حلبة ناقة ويقال له المحلب
بكسر الميم قال القاضي وقد يريد بالحلاب هنااللبن
الْمَحْلُوبُ قَوْلُهُ (وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ) أَيْ
يَصِيحُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ مِنَ الْجُوعِ قَوْلُهُ
(فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي) أى
(17/56)
حَالِي اللَّازِمَةُ وَالْفُرْجَةُ بِضَمِّ
الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا فَرْجٌ
سَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (وَقَعْتُ بَيْنَ
رِجْلَيْهَا) أَيْ جَلَسْتُ مَجْلِسَ الرَّجُلُ للوقاع
قولها (لاتفتح الخاتم الابحقه) الْخَاتَمُ كِنَايَةٌ عَنْ
بَكَارَتِهَا وَقَوْلُهُ بِحَقِّهِ أَيْ بنكاح لابزنا
قَوْلُهُ (بِفَرَقِ أُرْزٍ) الْفَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَإِسْكَانِهَا لُغَتَانِ الْفَتْحُ أَجْوَدُ وَأَشْهَرُ
وَهُوَ إِنَاءٌ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ وَسَبَقَ شَرْحُهُ
فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ قَوْلُهُ (فَرَغِبَ عَنْهُ) أَيْ
كَرِهَهُ
(17/57)
وسخطه وتركه وقوله (لاأغبق قبلهما أهلا ولا
مالا) فقوله لاأغبق بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ
أَيْ مَا كُنْتُ أُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا أَحَدًا فِي شُرْبِ
نَصِيبِهِمَا عِشَاءً مِنَ اللَّبَنِ وَالْغَبُوقُ شُرْبُ
الْعِشَاءِ وَالصَّبُوحُ شُرْبُ أول النهاريقال مِنْهُ
غَبَقْتُ الرَّجُلَ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَغْبُقُهُ
بِضَمِّهَا مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ غَبْقًا فَاغْتَبَقَ
أَيْ سَقَيْتُهُ عِشَاءً فَشَرِبَ وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرْتُهُ مِنْ ضَبْطِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ
اللُّغَةِ وَكُتُبِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالشُّرُوحِ
وَقَدْ يُصَحِّفُهُ بَعْضُ مَنْ لَا أنس لَهُ فَيَقُولُ
أُغْبِقُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَهَذَا
غَلَطٌ قَوْلُهُ (أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ) أَيْ وَقَعَتْ
فِي سَنَةٍ قَحْطٍ قَوْلُهُ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ) أَيْ
ثَمَنَهُ قَوْلُهُ (حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ
فارتجعت) هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْجِيمِ
أَيْ كَثُرَتْ حَتَّى ظَهَرَتْ حَرَكَتُهَا
وَاضْطِرَابُهَا وَمَوْجُ بَعْضِهَا فِي بعض لكثرتها
والارتعاج والإضطراب وَالْحَرَكَةُ وَاحْتَجَّ بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ
مِمَّنْ يُجِيزُ بَيْعَ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ
والتصرف فيه بغير اذن
(17/58)
|