شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
31 - كِتَاب الشُّفْعَةِ
- بَاب الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ
/ 1 - فيه: جَابِر، قَضَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. اتفق جماعة الفقهاء على القول بهذا الحديث، وأوجبوا الشفعة للشريك فى المشاع من الرباع، وكل ما تأخذه الحدود وتحتمله القسمة، وإنما اختلفوا فى غير الشريك. فذهب مالك والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا شفعة إلا فى المشاع بين الشركاء على ظاهر حديث جابر، وروى مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وربيعة، وأبى الزناد. وقال أهل العراق بالشفعة للجار الملاصق غير الشريك، وأوجبها بعضهم إذا كانت الطرق واحدة. وفى هذا الحديث ما ينفى الشفعة للجار؛ لأن ضرب الحدود إذا نفى الشفعة كان الجار أبعد من ذلك. وفيه أيضًا ما ينفى الشفعة فى كل ما لا يحتمل قسمة ولا تضرب فيه الحدود، وذلك ينفى الشفعة فى العروض والحيوان، وهو قول شاذ يروى عن عطاء، والسنة المجتمع عليها بالمدينة ألا شفعة إلا فى الأرضين والرباع.

(6/376)


قال ابن القصار: واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أن المسلم والذمى فى أخذ الشفعة من المسلم سواء، وحكى عن الشعبى أنه لا شفعة للذمى، لأنه صاغر، وهو قول الثورى وأحمد بن حنبل، وحجة من أجاز ذلك عموم قوله عليه السلام: (الشفعة فى كل ما لم يقسم) ، ولم يفرق بين مسلم وذمى، وأيضًا فإن ما يجب بالشركة لا يختلف فيه المسلم والذمى كالعتق، ألا ترى أنه لو أعتق شقصًا من عبد بينهما، قوم عليه كما يقوم على شريكه المسلم؟ والشفعة حق من حقوق الآدميين كسائر الحقوق التى هى له، مثل البيع والإجارة وغيرها، والشفعة حق يتعلق بالمال وضع لإزالة الضر كالرد بالعيب، فما وجب للمسلم فيه وجب للذمى مثله، وليس الصغار يدل على بطلان حقه؛ لأنه لا فرق بين المسلم والذمى فى الحقوق المتعلقة بالأموال، كخيار الشرط والأجل، وإمساك الرهن.
- بَاب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ
وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ، وَهْوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا، فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. / 2 - فيه: أَبُو رَافِعٍ، مَوْلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أنه قَالَ لسعد: ابْتَعْ مِنِّى بَيْتَىَّ فِى دَارِكَ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ

(6/377)


لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً، أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلاَ أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ) ، مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. قال المؤلف: عرض الشفعة على الشريك قبل البيع مندوب إليه كما فعل أبو رافع، ألا ترى أنه حط من ثمن البيتين كثيرًا رغبة فى العمل بالسنة؟ وفيه ما كانوا عليه من الحرص على موافقة السنن والعمل بها، والسماحة بأموالهم فى جنب ذلك، فإن عرض عليه الشفعة وأذن له الشريك فى بيع نصيبه، ثم رجع فطالبه بالشفعة، فقالت طائفة: لا شفعة له. هذا قول الحكم والثورى وأبى عبيد وطائفة من أهل الحديث، واحتجوا بحديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (من كان له شريك فى ربعة، فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن رضى أخذ، وإن كره ترك) قالوا: فدل هذا الحديث على أن تركه ترك تنقطع به شفعته، ومحال أن يقول له النبى: (إن شاء أخذ، وإن شاء ترك) ، فإذا ترك لا يكون لتركه معنى. وقالت طائفة: إن عرض عليه الأخذ بالشفعة قبل البيع فأبى أن يأخذ ثم باع، فأراد أن يأخذ بشفعته فذلك له. هذا قول مالك والكوفيين، ورواية عن أحمد، ويشبه مذهب الشافعى، واحتج أحمد فقال: لا تجب له الشفعة حتى يقع البيع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك وقد احتج بمثله ابن أبى ليلى.

(6/378)


واختلفوا فى المسألة التى ذكرها الشعبى فى هذا الباب، فقال مالك: إذا باع الشريك نصيبه من أجنبى وشريكه حاضر يعلم ببيعه، فله المطالبة بالشفعة متى شاء، ولا تنقطع شفعته إلا بمضى مدة يعلم أنه فى مثلها تارك. واختلف فى المدة، فذكر ابن [. .] أن الحد الذى تنقطع إليه الشفعة عند مالك مرور السنة، وقال ابن القاسم: وقفت مالكًا على مرور السنة فلم يرها كثيرًا، وذلك إذا علم الشفيع بشفعته، فإذا لم يعلم فهو على شفعته أبدًا، إن كان غائبًا فهو على شفعته وإن علم بها. وقال ابن الماجشون: لا ينقطع حق الشفعة إلا الطول، وقد سمعت مالكًا يقول: الخمس أعوام ليس بكثير. وقال أصبغ: السنتان والثلاث قليل لا ينقطع معه الشفعة. وقال أبو حنيفة: إذا وقع البيع فعلم الشفيع به، فأشهد مكانه أنه على شفعته، وألا بطلت شفعته. وبه قال الشافعى وقال: إلا أن يكون له عذر مانع من طلبها من حبس أو غيره، فهو على شفعته. واحتج الكوفيون فقالوا: إذا سكت عن المطالبة بالشفعة على الفور، كان ذلك رضى منه بتقرير النبى - عليه السلام - ملك المشترى، قياسًا على خيار البكر أنه على الفور. والحجة لمالك فى أنه على شفعته إلا أن يطول زمانه فلأن الشفعة حق للشفيع، فهو واجب له حتى يعلم أنه

(6/379)


قد تركها، وذلك بمنزلة الأمة إذا أعتقت تحت العبد، أن لها أن تختار نفسها أبدًا ما لم يعلم تركها للخيار، وذلك بأن تختار زوجها، أو يطأها بعد علمها بالعتق وهى طائعة، وكذلك المشترى للسلعة المعيبة، له ردها إلا إن يرضى بالعيب، أو يستخدم العبد أو الأمة، أو يستعمل ما اشتراه وبه عيب بعد أن يعلم به، فليس له الرد؛ لأن استعماله ذلك دليل على رضاه، وقبل أن يعلم رضاه بقوله أو دلالة الحال، فله الرد بالعيب، وكذلك الشفيع قبل أن يعلم ترك شفعته بالقول أو دلالة الحال، فله الأخذ بالشفعة. واستدل أهل العراق على وجوب الشفعة للجار بقوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) غير أنهم جعلوا الشريك فى المنزل أحق بالشفعة من الجار، فإن سلم الشفعة الشريك فى الدار، فالجار الملاصق أحق بالشفعة من غيره، فإنت كان بينهما طريق نافذة فلا حق له فى الشفعة، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه فتعلقوا بلفظة الجار فى قوله عليه السلام: (الجار أحق بصبقه) وقالوا: لا يراد بهذا الحديث الشريك؛ لأن الجار لا يقع إلا على غير الشريك، وزعموا أنه لا يوجد فى اللغة أن الشريك يسمى جارًا، فخالفوا نص الحديث، وتركوا أوله لتأويل تأولوه فى آخره، فأما خلافهم لنصه، فهو أن أبا رافع كان شريك سعد بالبيتين فى داره، ولذلك دعاه إلى الشراء بأقل مما أعطاه غيره ممن ليس شريك له وفيه: أن أبا رافع سمى شريكه جارًا حين صرف معنى قوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) إلى شريكه، وهو روى الحديث وعلم معناه، ولو كان المراد بقوله: (الجار أحق بصقبه) الجار غير الشريك كما زعم أهل العراق ما سلم

(6/380)


سعد لأبى رافع احتجاجه بالحديث ولا استدلاله به، ولقال له سعد: ليس معنى الحديث كما تأولته، وإنما الجار المراد به غير الشريك. فلما لم يرد عليه تأويله، ولا أنكره المسور، وهم الفصحاء أهل اللسان المرجوع إليهم؛ علم أن معنى الحديث ما تأوله أبو رافع، وأن الجار فيه يراد به الشريك، وأما بيع أبى رافع للبيتين من سعد بأقل مما أعطاه غيره، فإنما كان على وجه التطوع منه؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه لا يجب على الشريك أن يعطى شريكه الشقص الذى يريد بيعه بأقل من ثمنه، وكل منا قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار فى لسان العرب، ولذلك قالوا لامرأة الرجل: جارة؛ لما بينهما من الاختلاط بالزوجية، وقد جاء فى حديث دية الجنين: (أن حمل بن مالك قال: كنت بين جارتين لى) يريد امرأيته، ومنه قول الأعشى لامرأته: أجارتنا بينى فإنك طالقة فكذلك الشريك يسمى جارًا لما بينهما من الاختلاط بالشركة، وتأويل قوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) عند أهل الحجاز على وجهين: أحدهما: أن يراد به الشريك، ويكون حقه الأخذ بالشفعة دون غيره، وهو أولى الوجهين لما تقدم من الدلائل. والوجه الثانى: يحتمل أن يراد به الجار غير الشريك، ويكون حقه غير الشفعة، فيكون جار الرحبة يريد الارتفاق بها، ويريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحق بصقبه، فإن لم يكن هذا فيكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعض من حق الجوار

(6/381)


وما للأجنبيين من الكرامة والبر وسائر الحقوق الذى إذا اجتمع فيها الجار ومن ليس بجار، وجب إيثار الجار على من ليس بجار من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا من طريق الفرض اللازم، فقد أوصى الله - تعالى - بالجار فقال: (والجار ذى القربى والجار الجنب (وقال عليه السلام: (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ذكره ابن المنذر عن الشافعى. وإذا احتمل هذا كله الحديث المجمل، ثم فسره حديث آخر بقوله: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) كان المفسر أولى من المجمل. والصقب: القرب، يقال: قد أصقب فلان فلانًا، إذا قربه منه، فهو يصقبه، وقد تصاقبا: إذا تقاربا.
3 - بَاب أَىُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . لا حجة فى هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار، لأن عائشة إنما سألت النبى عمن تبدأ به من جيرانها فى الهدية، فأخبرها أنه من قرب بابه أولى بها من غيره، فدل بهذا أنه أولى بجميع حقوق الجوار وكرم العشرة والبر ممن هو أبعد منه بابًا. قال ابن المنذر: وهذا الحديث يدل أن اسم الجار يقع على غير

(6/382)


اللزيق، لأنه قد يكون له جارًا لزيقًا وبابه من سكة غير سكته، وله جار بينه وبين بابه قدر ذراعين وليس بلزيق له، وهو أدناهما بابًا، وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللزيق إذا ترك الشفعة، وطلبها الذى يليه وليس له حد إلى الدار ولا طريق، ألا شفعة له. وعوام العلماء يقولون: إذا أوصى الرجل لجيرانه بمال أُعطى اللزيق وغيره، إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللزيق وحده. وكان الأوزاعى يقول: الجار أربعين دارًا من كل ناحية. وقاله ابن شهاب. وقال على ابن أبى طالب: من سمع النداء فهو جار. قال المهلب: وإنما أمر عليه السلام بالهدية إلى من قرب بابه؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشاركه فيه، وأنه أسرع إجابة لجاره عند ما ينوبه من حاجة إليه فى أوقات الغفلة والغرة؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه، وإن كانت داره أقرب.

(6/383)