عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 52 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي الخِفَافِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْخفاف
أَي: بالخفاف. وَهُوَ جمع خف.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
78335 - ح دّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنه
الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عنْ
هَمّامِ بنُ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلى
خفَّيْهِ ثُمَّ قامَ فَصَلى فَسُئِلَ فَقالَ رَأَيْتُ
النبيَّ صَنَعَ مِثْلَ هذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ فَكانَ
يُعْجِبُهُمْ لأَنَّ جَرِيراً كانَ مِنْ آخِرِ مَنْ
أسْلَمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمسح على خفيه ثمَّ
قَامَ فصلى) لِأَنَّهُ صلى وَهُوَ لابس خفيه، إِذْ لَو
نزعهما بعد الْغسْل لوَجَبَ غسل رجلَيْهِ، وَلَو غسلهمَا
لنقل فِي الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: آدم بن أبي إِيَاس، وَشعْبَة بن
الْحجَّاج، وَسليمَان الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد
النَّخعِيّ، وَهَمَّام: على وزن فعال بِالْفَتْح
وَالتَّشْدِيد، كَانَ من الْعباد مَاتَ فِي زمن الْحجَّاج،
وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد االبجلي
الصَّحَابِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمُضَارع.
وَفِيه: السماع
(4/119)
فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل وَالرِّوَايَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا
بَين بغدادي وكوفي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين:
الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم، وَعلي بن خشرم وَعَن يحيى بن
يحيى وَإِسْحَاق وَأبي كريب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَعَن ابْن أبي شيبَة وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن منْجَاب
بن الْحَارِث. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن
وَكِيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَفِي
الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن مُحَمَّد، الْكل عَن
الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ
وَاحِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن
عبد ابْن دَاوُد عَن بكير بن عَامر عَن أبي زرْعَة بن
عَمْرو بن جرير: (أَن جَرِيرًا بَال ثمَّ تَوَضَّأ فَمسح
على خفيه، قَالَ: مَا يَمْنعنِي أَن أَمسَح وَقد رَأَيْت
رَسُول الله يمسح؟ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك قبل
نزُول الْمَائِدَة. قَالَ: مَا أسلمت إِلَّا بعد نزُول
الْمَائِدَة) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط
من حَدِيث ربعي بن حِرَاش عَنهُ، قَالَ: (وضأت رَسُول الله
فَمسح على خفيه بعد مَا نزلت سُورَة الْمَائِدَة) . ثمَّ
قَالَ: لم يروه عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن ربعي
إلاَّ ياسين الزيات، تفرد بِهِ عبد الرَّزَّاق، وَيَاسِين
مُتَكَلم فِيهِ، وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث مُحَمَّد
بن سِيرِين عَنهُ أَنه كَانَ مَعَ رَسُول الله فِي حجَّة
الْوَدَاع فَذهب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
يتبرز فَرجع فَتَوَضَّأ وَمسح على خفيه، ثمَّ قَالَ: لم
يروه عَن مُحَمَّد بن سِيرِين إلاَّ خَالِد الْحذاء، وَلَا
عَن خَالِد إلاَّ حَارِث بن شُرَيْح، تفرد بِهِ سِنَان بن
فروخ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ قَامَ فصلى) ، ظَاهره أَنه
صلى فِي خفيه كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَسئلَ) ،
على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: سُئِلَ جرير عَن الْمسْح عل
الْخُفَّيْنِ وَالصَّلَاة فيهمَا، وَقد بَين
الطَّبَرَانِيّ فِي حَدِيثه من طَرِيق جَعْفَر بن
الْحَارِث عَن الْأَعْمَش أَن السَّائِل لَهُ عَن ذَلِك
هُوَ همام بن الْحَارِث الْمَذْكُور، وَله من طَرِيق
زَائِدَة عَن الْأَعْمَش، فعاب عَلَيْهِ ذَلِك رجل من
الْقَوْم. قَوْله: (مثل هَذَا) أَي: من الْمسْح على خفيه
وَالصَّلَاة فيهمَا. قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم) أَي:
الْمَذْكُور، وَهُوَ النَّخعِيّ. قَوْله: (فَكَانَ) أَي:
فَكَانَ حَدِيث جرير يعجبهم، أَي: يعجب الْقَوْم لِأَنَّهُ
من جملَة الَّذين أَسْلمُوا فِي آخر حَيَاة رَسُول ا، وَقد
أسلم فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا رَسُول ا، وَفِي
رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش:
كَانَ يعجبهم هَذَا الحَدِيث، وَمن طَرِيق عِيسَى بن
يُونُس، فَكَانَ أَصْحَاب عبد ابْن مَسْعُود يعجبهم.
قَوْله: (من آخر من أسلم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لِأَن
إِسْلَام جرير كَانَ بعد نزُول الْمَائِدَة) .
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِنَّمَا كَانَ ذَلِك) أَي:
مسح النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على
الْخُفَّيْنِ بعد نزُول الْمَائِدَة. فَقَالَ جرير: مَا
أسلمت إلاَّ بعد نزُول الْمَائِدَة، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن
قريب. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، من طَرِيق شهر بن
حَوْشَب: (قَالَ: رَأَيْت جرير بن عبد ا) فَذكر نَحْو
حَدِيث الْبَاب، قَالَ: (فَقلت لَهُ: أقبل الْمَائِدَة أم
بعْدهَا؟ قَالَ: مَا أسلمت إلاَّ بعد الْمَائِدَة) . قَالَ
التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث مُفَسّر، لِأَن بعض من أنكر
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ تَأَول أَن مسح النَّبِي على
الْخُفَّيْنِ كَانَ قبل نزُول آيَة الْوضُوء الَّتِي فِي
الْمَائِدَة، فَيكون مَنْسُوخا: فَذكر جرير فِي حَدِيثه
أَنه رَآهُ يمسح بعد نزُول الْمَائِدَة، فَكَانَ أَصْحَاب
ابْن مَسْعُود يعجبهم حَدِيث جرير لِأَن فِيهِ ردا على
أَصْحَاب التَّأْوِيل الْمَذْكُور. قلت: قَالَ اتعالى فِي
سُورَة الْمَائِدَة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ
إِلَى الْمرَافِق} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) الْآيَة،
فَلَو كَانَ إِسْلَام جرير مُتَقَدما على نزُول
الْمَائِدَة لاحتمل كَون حَدِيثه فِي مسح الْخُف مَنْسُوخا
بِآيَة الْمَائِدَة، فَلَمَّا كَانَ إِسْلَامه
مُتَأَخِّرًا علمنَا أَن حَدِيثه يعْمل بِهِ، وَهُوَ مُبين
أَن المُرَاد بِآيَة الْمَائِدَة غير صَاحب الْخُف، فَتكون
السّنة مخصصة لِلْآيَةِ. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ) : عَن
إِبْرَاهِيم بن أدهم رَضِي اعنه، قَالَ: مَا سَمِعت فِي
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ أحسن من حَدِيث جرير رَضِي اعنه،
وَقد ورد مؤرخاً بِحجَّة الْوَدَاع فِي حَدِيث
الطَّبَرَانِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَاعْلَم أَنه وَردت فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ عدَّة
أَحَادِيث تبلغ التَّوَاتُر على رَأْي كثير من الْعلمَاء.
قَالَ الْمَيْمُونِيّ: عَن أَحْمد: فِيهَا سَبْعَة
وَثَلَاثُونَ صحابياً. وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُحَمَّد
عَنهُ: أَرْبَعُونَ، كَذَا قَالَه الْبَزَّار فِي
(مُسْنده) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أحد وَأَرْبَعُونَ
صحابياً. وَفِي (الْأَشْرَاف) عَن الْحسن: حَدثنِي بِهِ
سَبْعُونَ صحابياً. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مسح على
الْخُفَّيْنِ سَائِر أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة، وَغَيرهم
من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَسَائِر الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار وَعَامة أهل الْعلم
والأثر، وَلَا يُنكره إلاَّ مخذول مُبْتَدع خَارج عَن
جمَاعَة الْمُسلمين. وَفِي (الْبَدَائِع) : الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عَامَّة الْفُقَهَاء وَعَامة
الصَّحَابَة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّه
لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ قَالَ: رُوِيَ عَن
الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ:
(4/120)
أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة
رَضِي اتعالى عَنْهُم، كلهم يرَوْنَ الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من شَرَائِط
السّنة وَالْجَمَاعَة، فَقَالَ: مِنْهَا أَن تفضل
الشَّيْخَيْنِ، وتحب الختنين، وَترى الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ، وَأَن لَا تحرم نَبِيذ الْجَرّ يَعْنِي
المثلث. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ
حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا
على كبار الصَّحَابَة، ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ
فَكَانَ بِدعَة، وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف
الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْبَوْل بمشهد
الرجل وَإِن كَانَت السّنة الاستتار عَنهُ. وَفِيه:
الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. وَفِيه:
الْإِعْجَاب بِبَقَاء حكم من الْأَحْكَام، وَهُوَ يدل على
عدم النّسخ، وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا الْبَاب كالباب
الَّذِي قبله فِي أَن الْخُف لَو كَانَ فِيهِ قذر فَحكمه
حكم النَّعْل.
62 - (بابٌ إذَا لَمْ يُتِم السُّجُودَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي حكم الْمُصَلِّي إِذا لم يتم سُجُوده
فِي صلَاته، يَعْنِي أَنه: لَا يجوز لترتب الْوَعيد
الشَّديد فِي حَقه. هَذَا الْبَاب، وَالْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ لم يقعا هَهُنَا أصلا عِنْد الْمُسْتَمْلِي، لِأَن
مَحلهمَا فِي أَبْوَاب صفة الْوضُوء، وَإِنَّمَا وَقعا
عِنْد الْأصيلِيّ، وَلَكِن قبل بَاب الصَّلَاة فِي
النِّعَال، وَقَالَ بَعضهم: إِعَادَة هَاتين الترجمتين
هُنَا، وَفِي بَاب السُّجُود، الْحمل فِيهِ عِنْدِي على
النساخ بِدَلِيل سَلامَة رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي من ذَلِك
وَهُوَ أحفظهم. قلت: تكْرَار هَذَا الْبَاب وإعادته لَهُ
وَجه، لِأَن عَادَته التّكْرَار عِنْد وجود الْفَائِدَة،
وَهِي مَوْجُودَة فِيهِ لِأَنَّهُ ترْجم هُنَا بقوله:
(بَاب إِذا لم يتم السُّجُود) ، وَهُنَاكَ ترْجم بقوله:
(بَاب إِذا لم يتم الرُّكُوع) . وَشَيْخه هُنَا: الصَّلْت
ابْن مُحَمَّد يروي عَن مهْدي عَن وَاصل عَن أبي وَائِل
عَن حُذَيْفَة أَنه رأى رجلا ... وَهُنَاكَ شَيْخه: حَفْص
بن عمر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان، قَالَ: سَمِعت زيد بن
وهب، قَالَ: رأى حُذَيْفَة رجلا. وَفِي بَقِيَّة الْمَتْن
أَيْضا تغاير. وَأما الْبَاب الثَّانِي فَلَيْسَ لذكره
مَحل هَهُنَا، لِأَنَّهُ كَمَا هُوَ مَذْكُور هَهُنَا
مَذْكُور هُنَاكَ، كَذَلِك: تَرْجَمَة ورواةً ومتناً.
فَإِن قلت: على مَا ذكره الْأصيلِيّ: مَا وَجه
الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين بَاب السُّجُود
على الثَّوْب فِي شدَّة الْحر؟ قلت: ظَاهر، لِأَن كلاًّ
مِنْهُمَا فِي حكم السُّجُود.
55 - (أخبرنَا الصَّلْت بن مُحَمَّد أخبرنَا مهْدي عَن
وَاصل عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة أَنه رأى رجلا لَا يتم
رُكُوعه وَلَا سُجُوده فَلَمَّا قضى صلَاته قَالَ لَهُ
حُذَيْفَة مَا صليت قَالَ وَأَحْسبهُ قَالَ لَو مت مت على
غير سنة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
(4/121)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر
رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول الصَّلْت بن مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن الخاركي الْبَصْرِيّ ونسبته إِلَى خارك
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالْكَاف وَهُوَ من
سواحل الْبَصْرَة. الثَّانِي مهْدي بِلَفْظ الْمَفْعُول
ابْن مَيْمُون أَبُو يحيى الْأَزْدِيّ مَاتَ سنة
اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة. الثَّالِث وَاصل بن حبَان
الأحدب. الرَّابِع أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
الْخَامِس حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع
وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي النّصْف الأول
بَصرِي وَالنّصف الثَّانِي كُوفِي وَحَدِيث حُذَيْفَة
هَذَا مُعَلّق من إِفْرَاد البُخَارِيّ قَوْله " لَا يتم
رُكُوعه " جملَة وَقعت صفة لقَوْله " رجلا " قَوْله "
فَلَمَّا قضى صلَاته " أَي فَلَمَّا أدّى صلَاته
وَالْقَضَاء يَجِيء بِمَعْنى الْأَدَاء كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي
الأَرْض} قَوْله " مَا صليت " قد نفى الصَّلَاة عَنهُ
لِأَن الْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْجُزْء فانتفاء
إتْمَام الرُّكُوع مُسْتَلْزم لانْتِفَاء الرُّكُوع
المستلزم لانْتِفَاء الصَّلَاة وَكَذَا حكم السُّجُود
قَوْله " وَأَحْسبهُ " أَي قَالَ أَبُو وَائِل وأحسب
حُذَيْفَة قَالَ أَيْضا لَو مت ويروى فِيهِ كسر الْمِيم من
مَاتَ يمات وَضمّهَا من مَاتَ يَمُوت وَالْمرَاد من السّنة
الطَّرِيقَة المتناولة للْفَرض وَالنَّفْل وَقَالَ ابْن
بطال مَا صليت يَعْنِي صَلَاة كَامِلَة وَنفى عَنهُ
الْعَمَل لقلَّة التجويد فِيهَا كَمَا تَقول للصانع إِذا
لم يجد مَا صنعت شَيْئا تُرِيدُ نفي الْكَمَال وَهُوَ يدل
على أَن الطُّمَأْنِينَة سنة (قلت) هَذَا التَّأْوِيل لمن
يَدعِي أَن الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود سنة
وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف
وَالشَّافِعِيّ فرض على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ
الله تَعَالَى
72 - (بابٌ يُبْدِي ضَبْعَيْهِ ويُجَافِي فِي السجُودِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن السّنة للْمُصَلِّي أَن
يُبْدِي ضبعيه. قَوْله: (يُبْدِي) ، بِضَم الْيَاء من
الإبداء، وَهُوَ: الْإِظْهَار. قَوْله: (ضبعيه) تَثْنِيَة:
ضبع، بِفَتْح الضَّاد وَسُكُون الْبَاء. وَفِي (الموعب) :
الضبع مِثَال صقر: الْعَضُد، مُذَكّر وَيُقَال: الْإِبِط.
وَقيل: مَا بَين الْإِبِط إِلَى نصف الْعَضُد من
أَعْلَاهُ. وَفِي (الْمُخَصّص) : قيل: الضبع هُوَ إِذا
أدخلت يدك تَحت إبطَيْهِ من خَلفه واحتملته، والعضد يذكر
وَيُؤَنث. وَفِي (الْمُحكم) : الضبع يكون للْإنْسَان
وَغَيره. وَفِي (الْجَامِع) ، للقزاز و (الجمهرة) لِابْنِ
دُرَيْد: الضبعان رَأس الْمَنْكِبَيْنِ، الْوَاحِد ضبع،
سَاكن الْبَاء. وَفِي (الْجَامِع) و (الصِّحَاح) : الْجمع
أضباع. وَقَالَ السفاقسي: الضبع مَا تَحت الْإِبِط،
وَمعنى: يُبْدِي ضبعيه، لَا يلصق عضديه بجنبيه. قَوْله:
(ويجافي) أَي: يباعد عضديه عَن جَنْبَيْهِ ويرفعهما
عَنْهُمَا، ويجافي: من الْجفَاء، وَهُوَ الْبعد عَن
الشَّيْء. يُقَال: جفاه إِذا بعد عَنهُ، وأجفاه إِذا أبعده
ويجافي بِمَعْنى يجفي أَي: يبعد جَنْبَيْهِ، وَلَيْسَت
المفاعلة هَهُنَا على بَابهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وسارعوا} (آل عمرَان: 331) أَي: أَسْرعُوا.
فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ على
تَقْدِير ثُبُوت هَذَا الْبَاب هَهُنَا. قلت: من حَيْثُ
إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق حكم
الطُّمَأْنِينَة فِي السُّجُود، وَهَهُنَا إبداء الضبعين
ومجافاة الجنبين فِي السُّجُود، وَكلهَا من أَحْكَام
السُّجُود.
56 - (أخبرنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا بكر بن مُضر عَن
جَعْفَر عَن ابْن هُرْمُز عَن عبد الله بن مَالك بن
بُحَيْنَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا صلى فرج بَين يَدَيْهِ حَتَّى
يَبْدُو بَيَاض إبطَيْهِ) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " كَانَ إِذا صلى " لِأَن
المُرَاد من قَوْله صلى سجد من قبيل إِطْلَاق الْكل
وَإِرَادَة الْجُزْء. وَإِذا فرج بَين يَدَيْهِ لَا بُد من
إبداء ضبعيه والمجافاة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة يحيى بن
بكير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَبكر بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة ابْن مُضر بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد
الْمُعْجَمَة وروى غير منصرف للعلمية وَالْعدْل مثل عمر
وَقَالَ الْكرْمَانِي أما بِاعْتِبَار العجمة (قلت) هَذَا
بعيد لِأَنَّهُ لفظ عَرَبِيّ خَالص من مُضر اللَّبن يمضر
مضورا وَهُوَ الَّذِي يحذي اللِّسَان قبل أَن يروب وَقَالَ
أَبُو عبيد قَالَ أَبُو الْوَلِيد اسْم مُضر مُشْتَقّ
مِنْهُ وَهُوَ مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وجعفر هُوَ
ابْن ربيعَة بن شُرَحْبِيل الْمصْرِيّ توفّي سنة خمس
وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَابْن هُرْمُز بِضَم الْهَاء
وَالْمِيم هُوَ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج الْمَشْهُور
بالرواية عَن أبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَالك بن القشب
بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وبالباء
الْمُوَحدَة الْأَزْدِيّ وبحينة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة
وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفتح النُّون وَهُوَ اسْم أم عبد الله فَهُوَ مَنْسُوب
إِلَى الْوَالِدين أسلم قَدِيما وَصَحب النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ ناسكا فَاضلا
يَصُوم الدَّهْر مَاتَ زمن مُعَاوِيَة وَقَالَ النَّوَوِيّ
الصَّوَاب فِيهِ أَن ينون مَالك
(4/122)
وَيكْتب ابْن بِالْألف لِأَن ابْن
بُحَيْنَة لَيْسَ صفة لمَالِك بل صفة لعبد الله اسْم
أَبِيه مَالك وَاسم أمه بُحَيْنَة فبحينة امْرَأَة مَالك
وَأم عبد الله فَلَيْسَ الابْن وَاقعا بَين علمين متناسبين
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن
رُوَاته مَا بَين مصري ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن
أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن قُتَيْبَة عَن
بكر بن مُضر وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة
بِهِ وَعَن عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ
وَمَا اخْتلف من أَلْفَاظه) قَوْله " فرج بَين يَدَيْهِ "
مَعْنَاهُ فرج بَين يَدَيْهِ وجنبيه وَفرج الله الْغم
بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف وَهُوَ من بَاب ضرب يضْرب
وَهُوَ لفظ مُشْتَرك بَين الْفرج الْعَوْرَة والثغر
وَمَوْضِع المخافة وَالْحكمَة فِيهِ أَنه أشبه بالتواضع
وأبلغ فِي تَمْكِين الْجَبْهَة من الأَرْض وَأبْعد من
هيئات الكسالى قَوْله " بَين يَدَيْهِ " على حَقِيقَته
يَعْنِي قدامه وَأَرَادَ يبعد قدامه من الأَرْض حَتَّى
يَبْدُو بَيَاض إبطَيْهِ وَيُؤَيّد هَذَا مَا فِي رِوَايَة
مُسلم " إِذا سجد يجنح فِي سُجُوده حَتَّى يرى وضح
إبطَيْهِ " وَفِي رِوَايَة اللَّيْث " كَانَ إِذا سجد فرج
يَدَيْهِ عَن إبطَيْهِ حَتَّى أَنِّي لأرى بَيَاض إبطَيْهِ
" وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث مَيْمُونَة " كَانَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد لَو شَاءَت بهمة
أَن تمر بَين يَدَيْهِ لمرت " وَفِي رِوَايَة " خوى
بيدَيْهِ " يَعْنِي جنح " حَتَّى يرى وضح إبطَيْهِ من
وَرَائه " وَعند التِّرْمِذِيّ محسنا وَعند الْحَاكِم
مصححا عَن عبد الله بن أقرم فَكنت أنظر إِلَى عفرتي
إبطَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد
وَعند الْحَاكِم مصححا عَن ابْن عَبَّاس " أتيت النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من خَلفه فَرَأَيْت
بَيَاض إبطَيْهِ وَهُوَ مجخ قد فرج يَدَيْهِ " وَعند
الدَّارَقُطْنِيّ ملزما للْبُخَارِيّ تَخْرِيجه عَن أَحْمد
بن جُزْء أَنه قَالَ " كُنَّا لنأوي لرَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّا يُجَافِي مرفقيه عَن
جَنْبَيْهِ إِذا سجد " وَعند أَحْمد وَصَححهُ أَبُو زرْعَة
الرَّازِيّ وَابْن خُزَيْمَة عَن جَابر " كَانَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد جافى
حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن
عدي بن عميرَة " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - إِذا سجد يرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَفِي صَحِيح
ابْن خُزَيْمَة أَيْضا عَن الْبَراء " كَانَ النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد جنح "
وَعند الْحَاكِم على شَرطهمَا عَن أبي هُرَيْرَة " إِذا
سجد يرى وضح إبطَيْهِ " وَعند مُسلم من حَدِيث أبي حميد
فِي عشرَة من الصَّحَابَة " إِذا سجد جافى بَين يَدَيْهِ "
وَعند أبي دَاوُد عَن أبي مَسْعُود وَوصف صلَاته - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه " ثمَّ جافى بَين
مرفقيه حَتَّى اسْتَقر كل شَيْء مِنْهُ " قَوْله " يجنح "
من التجنيح وَهُوَ أَن يرفع ساعديه فِي السُّجُود عَن
الأَرْض فيصيران لَهُ مثل جناحي الطير فَكَذَلِك التجنح
قَوْله " وضح إبطَيْهِ " أَي بياضهما وَهُوَ بِفَتْح
الْوَاو وَالضَّاد الْمُعْجَمَة قَوْله " بهمة " بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ الْجَوْهَرِي البهمة من
أَوْلَاد الضَّأْن خَاصَّة وَتطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى
والسخال أَوْلَاد المعزى وَقَالَ أَبُو عبيد وَغَيره
البهمة وَاحِد البهم وَهِي أَوْلَاد الْغنم من الذُّكُور
وَالْإِنَاث وَجمع البهم البهام بِكَسْر الْبَاء وَفِي
رِوَايَة الْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ بَهِيمَة بالصغير
وَقيل هُوَ الصَّوَاب وَفتح الْبَاء خطأ قَوْله " خوى "
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة
أَي جافى بَطْنه عَن الأَرْض ورفعها وجافى عضديه عَن
جَنْبَيْهِ حَتَّى يخوى مَا بَين ذَلِك قَوْله " مجخ "
بِضَم الْمِيم وَكسر الْجِيم وبالخاء الْمُعْجَمَة
الْمُشَدّدَة من جخ بِفَتْح الْجِيم وَالْخَاء
الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة إِذا فتح عضديه عَن جَنْبَيْهِ
ويروى جخي بِالْيَاءِ وَهُوَ أشهر وَهُوَ مثل جخ وَقيل
كَانَ إِذا صلى جخ يَعْنِي تحول من مَكَان إِلَى مَكَان
قَوْله " لنأوى " أَي نرق لَهُ ونرثي يُقَال أويت الرجل
أَوَى لَهُ إِذا أَصَابَهُ شَيْء فرثيت لَهُ والعفرة بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء الْبيَاض وَزعم أَبُو
نعيم فِي دَلَائِل النُّبُوَّة أَن بَيَاض إبطَيْهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عَلَامَات نبوته
(ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ التَّفْرِيج بَين يَدَيْهِ
وَهُوَ سنة للرِّجَال وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى تضمان
لِأَن الْمَطْلُوب فِي حَقّهمَا السّتْر وَحكي عَن بَعضهم
أَن السّنة فِي حق النِّسَاء التربع وَبَعْضهمْ خَيرهَا
بَين الانفراج والانضمام وَقَالَ ابْن بطال وشرعت المجافاة
فِي الْمرْفق ليخف على الأَرْض وَلَا يثقل عَلَيْهَا كَمَا
روى أَبُو عُبَيْدَة عَن عَطاء أَنه قَالَ خففوا على
الأَرْض وَفِي المُصَنّف وَمِمَّنْ كَانَ يُجَافِي أنس بن
مَالك وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَقَالَهُ الْحسن
الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم وَعلي بن أبي طَالب قَالَ
وَمِمَّنْ رخص أَن يعْتَمد الْمُصَلِّي بمرفقيه أَبُو ذَر
وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن سِيرِين وَقيس بن سعد
قَالَ وَحدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن سمي عَن النُّعْمَان
(4/123)
ابْن أبي عَيَّاش قَالَ " شَكَوْنَا إِلَى
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْإِدْغَام والاعتماد فِي الصَّلَاة فَرخص لَهُم أَن
يَسْتَعِين الرجل بمرفقيه على رُكْبَتَيْهِ أَو فَخذيهِ "
وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة " أَنه اشْتَكَى
أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مشقة السُّجُود عَلَيْهِم فَقَالَ اسْتَعِينُوا بالركب "
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا وَلَفظه " اشْتَكَى أَصْحَاب
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مشقة
السُّجُود عَلَيْهِم إِذا انفرجوا فَقَالَ اسْتَعِينُوا
بالركب وَفِي المُصَنّف حَدثنَا يزِيد بن هَارُون عَن ابْن
عون قَالَ " قلت لمُحَمد الرجل يسْجد إِذا اعْتمد بمرفقيه
على رُكْبَتَيْهِ قَالَ مَا أعلم بِهِ بَأْسا حَدثنَا
عَاصِم عَن ابْن جريج عَن نَافِع قَالَ كَانَ ابْن عمر يضم
يَدَيْهِ إِلَى جَنْبَيْهِ إِذا سجد حَدثنَا ابْن نمير
حَدثنَا الْأَعْمَش عَن حبيب قَالَ " سَأَلَ رجل ابْن عمر
أَضَع مرفقي على فَخذي إِذا سجدت فَقَالَ اسجد كَيفَ
تيَسّر عَلَيْك " حَدثنَا وَكِيع عَن أَبِيه عَن أَشْعَث
بن أبي الشعْثَاء عَن قيس بن السكن قَالَ كل ذَلِك قد
كَانُوا يَفْعَلُونَ ويضمون ويتجافون كَانَ بَعضهم يضم
وَبَعْضهمْ يتجافى. وَفِي الْأُم للشَّافِعِيّ يسن للرجل
أَن يُجَافِي مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ وَيرْفَع بَطْنه عَن
فَخذيهِ وتضم الْمَرْأَة بَعْضهَا إِلَى بعض وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ وَحكم الْفَرَائِض والنوافل فِي هَذَا
سَوَاء
(وَقَالَ اللَّيْث حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة نَحوه) هَذَا
التَّعْلِيق أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه فَقَالَ حَدثنَا
عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث
وَاللَّيْث بن سعد كِلَاهُمَا عَن جَعْفَر بن ربيعَة وَفِي
رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث " إِذا سجد يجنح فِي سُجُوده
حَتَّى يرى وضح إبطَيْهِ " وَفِي رِوَايَة اللَّيْث "
كَانَ إِذا سجد فرج يَدَيْهِ عَن إبطَيْهِ حَتَّى أَنِّي
لأرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَقَالَ الْكرْمَانِي وَقَالَ
اللَّيْث عطف على بكر أَي حَدثنَا يحيى قَالَ اللَّيْث
حَدثنِي جَعْفَر بِلَفْظ التحديث وَمَا روى بكر عَنهُ
بطرِيق العنعنة
82 - (بابُ فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)
لما فرغ من بَيَان أَحْكَام ستر الْعَوْرَة بأنواعها شرع
فِي بَيَان اسْتِقْبَال الْقبْلَة على التَّرْتِيب، لِأَن
الَّذِي يُرِيد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة يحْتَاج أَولا
إِلَى ستر الْعَوْرَة، ثمَّ إِلَى اسْتِقْبَال الْقبْلَة،
وَذكر مَا يتبعهَا من أَحْكَام الْمَسَاجِد.
يَسْتَقْبِلُ بِأطْرَافِ رِجْلَيْهِ قالَهُ أبُو حُمَيْدٍ
عنِ النبيِّ.
0 - أَي: يسْتَقْبل الْمُصَلِّي برؤوس أَصَابِع رجلَيْهِ
نَحْو الْقبْلَة، هَذَا تَعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل
فِي صفة الصَّلَاة، رَوَاهُ أَبُو حميد عَن النَّبِي،
وخرجه البُخَارِيّ مُسْندًا فِيمَا بعد فِي بَاب سنة
الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد، وَجعل هَذِه الْقطعَة
تَرْجَمَة لباب آخر فِيمَا بعد، حَيْثُ قَالَ: بَاب
يسْتَقْبل الْقبْلَة بأطراف رجلَيْهِ، قَالَ أَبُو حميد
عَن النَّبِي، وَاسم أبي حميد: عبد الرَّحْمَن بن سعد
السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، قيل: اسْمه
الْمُنْذر، غلبت عَلَيْهِ كنيته، مَاتَ فِي آخر زمن
مُعَاوِيَة.
فَإِن قلت: مَا مُطَابقَة هَذِه الْقطعَة للتَّرْجَمَة؟
قلت: إِذا عرف فرض الِاسْتِقْبَال وَعرف فَضله عرفت
الْمُطَابقَة؛ أما فَرْضه فَهُوَ توجه الْمُصَلِّي بكليته
إِلَى الْقبْلَة، وَأما فَضله فَهُوَ استقباله بِجَمِيعِ
مَا يُمكن من أَعْضَائِهِ حَتَّى بأطراف أَصَابِع رجلَيْهِ
فِي التَّشَهُّد، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ،
فَقَالَ: الِاسْتِقْبَال بأطراف أَصَابِع الْقدَم
الْقبْلَة عِنْد الْقعُود للتَّشَهُّد، ثمَّ روى حَدِيث
عبد ابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، قَالَ: من سنة
الصَّلَاة أَن تنصب الْقدَم الْيُمْنَى، واستقباله
بأصابعها الْقبْلَة وَالْجُلُوس على الْيُسْرَى. وَقَالَ
بَعضهم: أَرَادَ بِذكرِهِ بَيَان مَشْرُوعِيَّة
الِاسْتِقْبَال بِجَمِيعِ مَا يُمكن من الْأَعْضَاء. قلت:
لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن التَّرْجَمَة فِي فضل
الِاسْتِقْبَال لَا فِي مشروعيته، على مَا لَا يخفى.
19375 - ح دّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدّثنا ابنُ
مَهْدِيَ قَالَ حدّثنا مَنْصُورُ بنُ سَعْدٍ عنْ مَيْمُونِ
بنِ سِيَاهٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ قَالَ رسولُ
اللَّهِ (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا
وأكَلَ ذَبيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الذِي لَهُ
ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تُخْفِرُوا
اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) . (الحَدِيث 193 طرفاه فِي: 293،
393) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
(واستقبل قبلتنا) ، بَيَانه أَنه أفرد بِذكر اسْتِقْبَال
الْقبْلَة بعد قَوْله: (من صلى
(4/124)
صَلَاتنَا) مَعَ كَونه دَاخِلا فِيهَا،
لِأَنَّهُ من شرائطها، وَذَلِكَ للتّنْبِيه على تَعْظِيم
شَأْن الْقبْلَة وَعظم فضل استقبالها، وَهُوَ غير مقتصر
على حَالَة الصَّلَاة، بل أَعم من ذَلِك على مَا لَا يخفى.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِالْوَاو: ابْن
عَبَّاس، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو عُثْمَان
الْأَهْوَازِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن
حسان أَبُو سعيد الْبَصْرِيّ اللؤْلُؤِي. الثَّالِث:
مَنْصُور بن سعد، وَهُوَ صَاحب اللؤْلُؤِي الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: مَيْمُون بن سياه، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف هَاء،
وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: الْأسود، وَيجوز
فِيهِ الصّرْف وَمنعه، أما مَنعه فللعلمية والعجمة، وَأما
صرفه فلعدم شَرط الْمَنْع، وَهُوَ أَن يكون علما فِي
الْعَجم. وَلَفظ: سياه، لَيْسَ بِعلم فِي الْعَجم،
فَلذَلِك يكون صرفه أولى. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ فَارسي،
وَقيل: عَرَبِيّ. قلت: قَوْله: وَقيل عَرَبِيّ، غير صَحِيح
لعدم تصرف وُجُوه الِاشْتِقَاق فِيهِ. الْخَامِس: أنس بن
مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن
حَفْص بن عمر عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (من صلى
صَلَاتنَا) أَي: صلى كَمَا نصلي، وَلَا يُوجد إلاَّ من
معترف بِالتَّوْحِيدِ والنبوة، وَمن اعْترف بنبوة مُحَمَّد
فقد اعْترف بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ عَن اتعالى، فَلهَذَا
جعل الصَّلَاة علما لإسلامه، وَلم يذكر الشَّهَادَتَيْنِ
لِأَنَّهُمَا داخلتان فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا ذكر
اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَالصَّلَاة متضمنة لَهُ مَشْرُوطَة
بِهِ، لِأَن الْقبْلَة أعرف من الصَّلَاة، فَإِن كل أحد
يعرف قبلته وَإِن كَانَ لَا يعرف صلَاته، وَلِأَن من
أَعمال صَلَاتنَا مَا هُوَ يُوجد فِي صَلَاة غَيرنَا:
كالقيام وَالْقِرَاءَة، واستقبال قبلتنا مَخْصُوص بِنَا،
ثمَّ لما ذكر من الْعِبَادَات مَا يُمَيّز الْمُسلم من
غَيره أعقبه بِذكر مَا يميزه عَادَة وَعبادَة: فَقَالَ:
(وَأكل ذبيحتنا) ، فَإِن التَّوَقُّف عَن أكل الذَّبَائِح
كَمَا هُوَ من الْعَادَات، فَكَذَلِك هُوَ من الْعِبَادَات
الثَّابِتَة فِي كل مِلَّة. قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَأَقُول،
وَا أعلم، إِذا أجري الْكَلَام على الْيَهُود سهل تعَاطِي
عطف الِاسْتِقْبَال على الصَّلَاة بعد الدُّخُول فِيهَا،
ويعضده اخْتِصَاص ذكر الذَّبِيحَة، لِأَن الْيَهُود
خُصُوصا يمتنعون من أكل ذبيحتنا، وهم الَّذين حِين تحولت
الْقبْلَة شنعوا بقَوْلهمْ: {مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا} (الْبَقَرَة: 241) أَي: صلوا صَلَاتنَا
وَتركُوا الْمُنَازعَة فِي أَمر الْقبْلَة والامتناع عَن
أكل الذَّبِيحَة، لِأَنَّهُ من بَاب عطف الْخَاص على
الْعَام، فَلَمَّا ذكر الصَّلَاة عطف مَا كَانَ الْكَلَام
فِيهِ وَمَا هُوَ مهتم بِشَأْنِهِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنه
يجب عَلَيْهِم أَيْضا عِنْد الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَن
يقرُّوا بِبُطْلَان مَا يخالفون بِهِ الْمُسلمين فِي
الِاعْتِقَاد بعد إقرارهم بِالشَّهَادَتَيْنِ.
قَوْله: (صَلَاتنَا) ، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، وَهُوَ
فِي نفس الْأَمر صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: من صلى صَلَاة
كصلاتنا، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَذَلِك الْمُسلم) ،
جَوَاب الشَّرْط، وَذَلِكَ، مُبْتَدأ وَخَبره: الْمُسلم،
وَقَوله: (الَّذِي) صفته، وَقَوله: (ذمَّة ا) ، كَلَام
إضافي مُبْتَدأ وَخَبره. هُوَ قَوْله: لَهُ، وَالْجُمْلَة
صلَة الْمَوْصُول. قَوْله: (ذمَّة ا) ، الذِّمَّة: الْأمان
والعهد، وَمَعْنَاهُ فِي أَمَان اوضمانه، وَيجوز أَن
يُرَاد بهَا الذمام وَهُوَ الْحُرْمَة. وَيُقَال:
الذِّمَّة الْحُرْمَة أَيْضا. قَالَ الْقَزاز: الذمام كل
حُرْمَة تلزمك مِنْهَا مذمة، تَقول: ألزمني لفُلَان ذمام
وَذمَّة ومذمة، هَذَا بِكَسْر الذَّال، وَكَذَا لزمتني
لَهُ ذمَامَة، مَفْتُوح الأول. وَفِي (الْمُحكم) : الذمام
والمذمة: الْحق، وَالْجمع: أذمة، والذمة: الْعَهْد
وَالْكَفَالَة، وَالْجمع: ذمم، وَفِي (الغريبين) : قَالَ
ابْن عَرَفَة: الذِّمَّة الضَّمَان وَبِه سمي أهل
الذِّمَّة لدخولهم فِي ضَمَان الْمُسلمين. قَالَ
الْأَزْهَرِي فِي قَوْله تَعَالَى: {إلاًّ وَلَا ذمَّة}
أَي: وَلَا أَمَانًا. قَوْله: (فَلَا تخفروا ا) ، قَالَ
ثَعْلَب فِي (فصيحه) : خفرت الرجل إِذا أجرته وأخفرته إِذا
نقضت عَهده. وَقَالَ كرَاع فِي (الْمُجَرّد) وَابْن القطاع
فِي كتاب (الْأَفْعَال) أخفرته بعثت مَعَه خفيراً، وَقَالَ
الْقَزاز، خفر فلَان بفلان وأخفره إِذا غدر بِهِ، وَقَالَ
ابْن سَيّده: خفره خفراً وخفراً وأخفره: نقض عَهده وغدره،
وأخفر الذِّمَّة: لم يَفِ بهَا. قلت: لَا تخفروا، بِضَم
التَّاء من الإخفار، والهمزة فِيهِ للسلب، أَي: لسلب
الْفَاعِل عَن الْمَفْعُول أصل الْفِعْل نَحْو أشكيته،
أَي: أزلت شكايته، وَكَذَلِكَ: أخفرته، أَي: أزلت خفارته.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فَلَا تخفروا ا، مَعْنَاهُ: وَلَا
تخونوا افي تَضْييع حق من هَذَا سَبيله، وَإِنَّمَا اكْتفى
فِي النَّهْي بِذِمَّة اوحده، وَلم يذكر الرَّسُول كَمَا
ذكر أَولا، لِأَنَّهُ ذكر الأَصْل لحُصُول الْمَقْصُود
بِهِ ولاستلزامه عدم إخفاره ذمَّة الرَّسُول، وَأما ذكره
أَولا فللتأكيد وَتَحْقِيق عصمته مُطلقًا، وَالضَّمِير فِي
ذمَّته يرجع إِلَى الْمُسلم أَو إِلَى اتعالى، فَافْهَم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: أَن أُمُور النَّاس
مَحْمُولَة على الظَّاهِر دون بَاطِنهَا، فَمن أظهر
شَعَائِر الدّين أجريت عَلَيْهِ أَحْكَام أَهله مَا لم
يظْهر مِنْهُ خلاف ذَلِك، فَإِذا دخل رجل غَرِيب فِي بلد
من بِلَاد الْمُسلمين بدين أَو مَذْهَب فِي الْبَاطِن
(4/125)
غير أَنه عَلَيْهِ زِيّ الْمُسلمين حمل على
ظَاهر أمره على أَنه مُسلم حَتَّى يظْهر خلاف ذَلِك.
وَفِيه: مَا يدل على تَعْظِيم شان الْقبْلَة، وَهِي من
فَرَائض الصَّلَاة، وَالصَّلَاة أعظم قربات الدّين، وَمن
ترك الْقبْلَة مُتَعَمدا فَلَا صَلَاة لَهُ، وَمن لَا
صَلَاة لَهُ فَلَا دين لَهُ. وَفِيه: أَن اسْتِقْبَال
الْقبْلَة شَرط للصَّلَاة مُطلقًا، إلاَّ فِي حَالَة
الْخَوْف، ثمَّ من كَانَ بِمَكَّة شرفها اتعالى فالفرض فِي
حَقه إِصَابَة عينهَا سَوَاء كَانَ بَين الْمُصَلِّي
وَبَين الْكَعْبَة حَائِل بجدار أَو لم يكن، حَتَّى لَو
اجْتهد وَصلى فَبَان خَطؤُهُ، فَقَالَ الرَّازِيّ: يُعِيد،
وَنقل ابْن رستم عَن مُحَمَّد بن الْحسن: لَا يُعِيد إِذا
بَان خَطؤُهُ بِمَكَّة أَو بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهُوَ
الأقيس لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وَسعه، وَذكر أَبُو
الْبَقَاء أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
وضع محراب رَسُول الله مسامت الْكَعْبَة، وَقيل: كَانَ
ذَلِك بالمعاينة، بِأَن كشف الْحَال وأزيلت الحوائل،
فَرَأى رَسُول الله الْكَعْبَة فَوضع قبْلَة مَسْجده
عَلَيْهَا، وَأما من كَانَ غَائِبا عَن الْكَعْبَة ففرضه
جِهَة الْكَعْبَة لَا عينهَا، وَهُوَ قَول الْكَرْخِي
وَأبي بكر الرَّازِيّ وَعَامة مَشَايِخ الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَ أَبُو عبد االجرجاني، شيخ أبي الْحسن الْقَدُورِيّ
الْفَرْض إِصَابَة عينهَا فِي حق الْحَاضِر وَالْغَائِب،
وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي. قَالَ النوووي: الصَّحِيح عَن
الشَّافِعِي فرض الْمُجْتَهد مطلوبية عينهَا. وَفِي تعلم
أَدِلَّة الْقبْلَة ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه فرض
كِفَايَة. الثَّانِي: فرض عين وَلَا يَصح. الثَّالِث: فرض
كِفَايَة إلاَّ أَن يُرِيد سفرا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ
فِي (الْمعرفَة) : وَالَّذِي رُوِيَ مَرْفُوعا:
(الْكَعْبَة قبْلَة من يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام،
وَالْمَسْجِد الْحَرَام قبْلَة أهل مَكَّة مِمَّن يُصَلِّي
فِي بَيته أَو فِي الْبَطْحَاء، وَمَكَّة قبْلَة أهل
الْحرم، وَالْحرم قبْلَة لأهل الْآفَاق) . فَهُوَ حَدِيث
ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. وَفِيه: أَن من جملَة الشواهد
بِحَال الْمُسلم أكل ذَبِيحَة الْمُسلمين، وَذَلِكَ أَن
طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون من أكل ذَبَائِح
الْمُسلمين، والوثني الَّذِي يعبد الوثن أَي الصَّنَم.
29385 - ح دّثنا نُعَيْمٌ قَالَ حدّثنا ابنُ المبارَك عِنْ
حُمَيْدِ الطَّوِيل عنْ أنسَ بن مالكٍ قَالَ قَالَ رَسُول
الله أَمرتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لاَ
إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فإِذَا قالُوها وصَلَّوْا صَلاَتَنا
واسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا
فَقَدْ حَرُمَتْ عَليْنا دِماؤُهُمْ وأمْوالُهُمْ إلاَّ
بِحَقِّها وحسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. .
حَدِيث أنس هَذَا أخرجه البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب من
ثَلَاثَة أوجه. الأول: مُسْند عَن عَمْرو بن عَبَّاس الخ،
وَقد مر. وَالثَّانِي: فِيهِ خلاف بَين الروَاة من
أَرْبَعَة أوجه. الأول: حَدثهُ البُخَارِيّ عَن نعيم بن
حَمَّاد الْخُزَاعِيّ، ونعيم خرجه مُعَلّقا من حَيْثُ
قَالَ: قَالَ ابْن الْمُبَارك، وَهُوَ عبد ابْن
الْمُبَارك، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي نسختنا.
الثَّانِي: قَالَ ابْن شَاكر رَاوِي البُخَارِيّ عَنهُ:
قَالَ نعيم بن حَمَّاد: فَالْبُخَارِي علقه. وَالثَّالِث:
رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، قَالَ ابْن الْمُبَارك
بِغَيْر ذكر نعيم: فَالْبُخَارِي أَيْضا علقه.
وَالرَّابِع: وَقع مُسْندًا حَيْثُ قَالَ فِي بعض النّسخ:
حدّثنا نعيم حدّثنا ابْن الْمُبَارك ... الخ. وَالثَّالِث
من الْأَوْجه: الَّتِي ذكرهَا البُخَارِيّ: مُعَلّق
مَوْقُوف على مَا يَأْتِي عَن قريب.
وَأخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث فِي الْجِهَاد
وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن سعيد بن يَعْقُوب عَن
ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة
عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك.
قَوْله: (أمرت) أَي: أَمرنِي اتعالى، وَإِنَّمَا طوى ذكر
الْفَاعِل لشهرته ولتعظيمه. قَوْله: (أَن أقَاتل النَّاس)
أَي: بِأَن أقَاتل، وكملة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَأَرَادَ
بِالنَّاسِ: الْمُشْركين. قَوْله: (حَتَّى يَقُولُوا لَا
إِلَه إلاَّ ا) ، إِنَّمَا اكْتفى بِذكر هَذَا الشَّرْط من
غير انضمام: مُحَمَّد رَسُول ا، لِأَنَّهُ عبر على طَرِيق
الْكِنَايَة عَن الْإِقْرَار برسالته بِالصَّلَاةِ
والاستقبال وَالذّبْح، لِأَن هَذِه الثَّلَاثَة من خَواص
دينه، لِأَن الْقَائِلين: لَا إِلَه إِلَّا ا، كاليهود
فصلاتهم بِدُونِ الرُّكُوع، وقبلتهم غير الْكَعْبَة،
وذبيحتهم لَيست كذبيحتنا. وَقد يُجَاب بِأَن هَذَا
الشَّرْط الأول من كلمة الشَّهَادَة شعار لمجموعها، كَمَا
يُقَال قَرَأت: {ألم ذَلِك الْكتاب} (الْبَقَرَة: 1 2)
وَالْمرَاد كل السُّورَة، لَا يُقَال: فعلى هَذَا لَا
يحْتَاج إِلَى الْأُمُور الثَّلَاثَة، لِأَن مُجَرّد هَذِه
الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ شعار الْإِسْلَام مُحرمَة للدماء
وَالْأَمْوَال، لأَنا نقُول: الْغَرَض مِنْهُ بَيَان
تَحْقِيق القَوْل بِالْفِعْلِ وتأكيد أمره، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: إِذا قالوها وحققوا مَعْنَاهَا بموافقة الْفِعْل
لَهَا فَتكون مُحرمَة. وَأما تَخْصِيص هَذِه الثَّلَاثَة
من بَين سَائِر الْأَركان وواجبات الدّين فلكونها أظهرها
وَأَعْظَمهَا وأسرعها علما بهَا، إِذْ فِي الْيَوْم الأول
من الملاقاة مَعَ الشَّخْص يعلم صلَاته وَطَعَامه،
غَالِبا، بِخِلَاف نَحْو الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يظْهر
الامتياز بَيْننَا وَبينهمْ بِهِ وَنَحْو الْحَج فَإِنَّهُ
قد يتَأَخَّر إِلَى شهور وسنين، وَقد لَا يجب عَلَيْهِ
أصلا. قَوْله: (وذبحوا ذبيحتنا) أَي: ذَبَحُوا الْمَذْبُوح
مثل مذبوحنا،
(4/126)
والذبيحة على وزن: فعيلة بِمَعْنى:
الْمَذْبُوح. فَإِن قلت: فعيل: إِذا كَانَ بِمَعْنى
الْمَفْعُول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فَلَا تدخله
التَّاء. قلت: لما زَالَ عَنهُ معنى الوصفية وغلبت الإسمية
عَلَيْهِ واستوى فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فدخله التَّاء،
وَقد يُقَال: إِن الاسْتوَاء فِيهِ عِنْد ذكر الْمَوْصُوف
مَعَه، وَأما إِذا انْفَرد عَنهُ فَلَا. قَوْله: (إِلَّا
بِحَقِّهَا) . أَي: إلاَّ بِحَق الدِّمَاء وَالْأَمْوَال،
وَفِي حَدِيث ابْن عمر: (فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إلاَّ بِحَق الْإِسْلَام) .
قَوْله: (وحسابهم على ا) ، على سَبِيل التَّشْبِيه أَي:
هُوَ كالواجب على افي تحقق الْوُقُوع، وإلاَّ فَلَا يجب
على اشيء، وَكَانَ الأَصْل فِيهِ أَن يُقَال: وحسابهم أَو
إِلَى ا، وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب
مُسْتَوفى فِي بَاب {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة
وَآتوا الزَّكَاة} (التَّوْبَة: 5، 11) .
وقالَ عَلِيُّ بنُ عبْدِ اللَّهِ حدّثنا خالِدُ بنُ
الْحَارِثِ قَالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلَ مَيْمُونُ
بْنُ سِيَاهٍ أنَسَ بْنَ مالِكٍ قَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ
وَمَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ ومالَهُ فَقَالَ مَنْ
شَهِدَ أنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ واسْتَقْبَلَ
قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلاَتَنا وأكَلَ ذَبِيحَتَنا فَهْوَ
الْمُسْلِمُ لهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وعلَيْهِ مَا عَلَى
الْمُسْلِمِ.
هَذَا مُعَلّق وَمَوْقُوف أما التَّعْلِيق فَإِنَّهُ
قَالَ: قَالَ عَليّ بن عبد اهو ابْن الْمَدِينِيّ. وفاعل
قَالَ الأول: هُوَ: البُخَارِيّ، وفاعل قَالَ الثَّانِي:
ظَاهر وَهُوَ شَيْخه عَليّ بن الْمَدِينِيّ. وَأما
الْوَقْف فَإِن أنسا لم يرفعهُ. قَوْله: (يَا با حَمْزَة)
أَصله: يَا أَبَا حَمْزَة، فحذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف،
وَأَبُو حَمْزَة كنية أنس. قَوْله: (وَمَا يحرم؟) ،
بِالتَّشْدِيدِ من التَّحْرِيم، وَكلمَة: مَا، استفهامية.
فَإِن قلت: و: مَا يحرم، عطف على: مَاذَا؟ قلت: على شَيْء
مَحْذُوف كَأَنَّهُ سَأَلَ عَن شَيْء قبل هَذَا، ثمَّ
قَالَ: وَمَا يحرم، وَلم تقع: الْوَاو، فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ وكريمة. وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو استئنافية.
قلت: الِاسْتِئْنَاف كَلَام مُبْتَدأ فعلى هَذَا لَا يبْقى
مقول لقَالَ، فَيحْتَاج إِلَى تَقْدِير. فَإِن قلت:
الْجَواب: يَنْبَغِي أَن يكون مطابقاً للسؤال، وَالسُّؤَال
هُنَا عَن سَبَب التَّحْرِيم، فَالْجَوَاب كَيفَ يطابقه؟
قلت: الْمُطَابقَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: من شهد، الخ
هُوَ الْجَواب وَزِيَادَة، لِأَنَّهُ لما ذكر الشَّهَادَة
وَمَا عطف عَلَيْهَا علم أَن الَّذِي يفعل هَذَا هُوَ
الْمُسلم، وَالْمُسلم يحرم دَمه وَمَاله إِلَّا بِحقِّهِ.
قَوْله: (لَهُ) أَي: من النَّفْع، و: (عَلَيْهِ) أَي: من
الْمضرَّة، والتقديم يُفِيد الْحصْر أَي: لَهُ ذَلِك لَا
لغيره.
(393) قَالَ ابنُ أبي مَرْيَمَ أخْبَرَنَا يَحْيَى قالَ
حدّثنا حُمَيْدٌ قالَ حدّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ.
هَذَا أَيْضا مُعَلّق رَوَاهُ ابْن أبي مَرْيَم، وَهُوَ
سعيد بن الحكم الْمصْرِيّ عَن يحيى بن أَيُّوب الغافقي
الْمصْرِيّ عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس بن مَالك، وَقد
وَصله أَبُو نعيم: حدّثنا أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ
حدّثنا، إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدّثنا إِبْرَاهِيم بن
هانىء حدّثنا عَمْرو بن الرّبيع (ح) وحدّثنا إِبْرَاهِيم
بن مُحَمَّد حدّثنا أَبُو عرُوبَة حدّثنا عمر بن الْخطاب
حدّثنا ابْن أبي مَرْيَم، قَالَا: حدّثنا يحيى بن أَيُّوب
أَخْبرنِي حميد سمع أنسا ... فَذكره، وَفِي هَذَا فَائِدَة
وَهِي: تَصْرِيح حميد بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من أنس، وَلَكِن
طعن فِيهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ: الحَدِيث حَدِيث
مَيْمُون وَإِنَّمَا سَمعه حميد مِنْهُ، وَلَا يحْتَج
بِيَحْيَى بن أَيُّوب فِي قَوْله: عَن حميد حدّثنا أنس
قَالَ، وَيدل على ذَلِك مَا أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن
البحتري حدّثنا عبيد ابْن معَاذ حدّثنا أبي عَن حميد عَن
مَيْمُون، قَالَ: (سَأَلت أنسا مَا يحرم مَال الْمُسلم
وَدَمه؟) الحَدِيث
قلت: رِوَايَة معَاذ لَا دَلِيل فِيهَا على أَن حميدا لم
يسمعهُ من أنس، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سَمعه من أنس ثمَّ
استثبت فِيهِ عَن مَيْمُون، فَكَأَنَّهُ تَارَة يحدث بِهِ
عَن أنس لأجل الْعُلُوّ، وَتارَة عَن مَيْمُون للاستثبات،
وَقد جرت عَادَة حميد وَغَيره بِهَذِهِ الطَّرِيقَة. فَإِن
قلت: جَاءَ عَن أبي هُرَيْرَة: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس
حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا ا، فَإِذا قالوها
عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) .
وَجَاء عَن ابْن عمر: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى
يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا
الزَّكَاة، فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالهمْ) ، وَجَاء عَن أنس الْمَذْكُور فِي هَذَا
الْبَاب، فَمَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات
الثَّلَاث؟ قلت: إِنَّمَا اخْتلفت هَذِه الْأَلْفَاظ فزادت
ونقصت لاخْتِلَاف الْأَحْوَال والأوقات الَّتِي وَقعت
هَذِه الْأَقْوَال فِيهَا، وَكَانَت أُمُور الشَّرِيعَة
تشرع شَيْئا فَشَيْئًا فَخرج كل قَول فِيهَا على شَرط
الْمَفْرُوض فِي حِينه، فَصَارَ كل مِنْهَا فِي زَمَانه
شرطا لحقن الدَّم وَحُرْمَة المَال، وَلَا مُنَافَاة بَين
الرِّوَايَات وَلَا اخْتِلَاف.
(4/127)
92 - (بابُ قِبْلَةِ أهْلِ المَدِينةِ
وأهْلِ الشَّأَمِ والمَشْرِقِ لَيْسَ فِي المَشْرِقِ ولاَ
فِي المَغْرِبِ قِبْلَة)
هَذَا الْموضع يحْتَاج إِلَى تَحْرِير قوي، فَإِن أَكثر من
تصدى لشرحه لم يغنِ شَيْئا بل بَعضهم ركب البعاد وخرط
القتاد، فَنَقُول، وبا التَّوْفِيق: إِن قَوْله: بَاب،
إِمَّا أَن يُضَاف إِلَى مَا بعده أَو يقطع عَنهُ، وَإِن
لَفْظَة: قبْلَة، بعد قَوْله: وَلَا فِي الْمغرب، إِمَّا
أَن تكون مَوْجُودَة أَو لَا، وَلكُل وَاحِد من ذَلِك
وَجه.
فَفِي الْقطع وَعدم وجود لَفْظَة: قبْلَة، يكون لَفْظَة.
بَاب، منوناً على تَقْدِير: هَذَا بَاب. وَيجوز أَن يكون
سَاكِنا مثل تعداد الْأَسْمَاء لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون
إلاَّ بِالْعقدِ والتركيب، وَيكون قَوْله: قبْلَة أهل
الْمَدِينَة، الَّذِي هُوَ كَلَام إضافي مُبْتَدأ، أَو،
قَوْله: وَأهل الشَّام، بِالْجَرِّ عطفا على الْمُضَاف
إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله: والمشرق، بِالْجَرِّ.
وَقَوله: لَيْسَ فِي الْمشرق، خبر الْمُبْتَدَأ. وَلَكِن
لَا بُد فِيهِ من تقديرين: أَحدهمَا: أَن يقدر لفظ:
قبْلَة، الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأ بِلَفْظ: مُسْتَقْبل
أهل الشَّام، لوُجُوب التطابق بَين الْمُبْتَدَأ
وَالْخَبَر فِي التَّذْكِير والتأنيث. وَالثَّانِي: أَن
يؤول لفظ: الْمشرق، بالتشريق، وَلَفظ: الْمغرب، بالتغريب،
وَالْعرب تطلق الْمشرق وَالْمغْرب لِمَعْنى التَّشْرِيق
والتغريب، قَالَه ثَعْلَب وَأنْشد.
أبعد مغربهم بَغْدَاد ساحتها
وَقَالَ ثَعْلَب: مَعْنَاهُ أبعد تغريبهم؟ فَإِن قلت: لم
لم يذكر: الْمغرب، بعد قَوْله: والمشرق، مَعَ أَن الْعلَّة
فيهمَا مُشْتَركَة؟ قلت: اكْتفى بذلك عَنهُ كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 18)
أَي: وَالْبرد، وَأما تَخْصِيص الْمشرق فَلِأَن أَكثر
بِلَاد الْإِسْلَام فِي جِهَة الْمشرق.
وَأما فِي الْإِضَافَة، وَتَقْدِير وجود لفظ: قبْلَة، بعد
قَوْله: وَلَا فِي الْمغرب، فتقديره؛ هَذَا بَاب فِي
بَيَان قبْلَة أهل الْمَدِينَة وقبلة أهل الشَّام وقبلة
أهل الْمشرق، ثمَّ بَين ذَلِك بِالْجُمْلَةِ الاستئنافية،
وَهِي قَوْله: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب
قبْلَة، وَلِهَذَا ترك العاطف، وَالْجُمْلَة الاستئنافية
فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، وَهُوَ أَنه:
لما قَالَ: بَاب قبْلَة أهل الْمَدِينَة وَأهل الشَّام
والمشرق، انتصب سَائل فَقَالَ: كَيفَ قبْلَة هَذِه
الْمَوَاضِع؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي
الْمغرب قبْلَة. وَقَالَ السفاقسي: يُرِيد أَن قبْلَة
هَؤُلَاءِ الْمُسلمين لَيست فِي الْمشرق مِنْهُم وَلَا فِي
الْمغرب، بِدَلِيل أَن النَّبِي، أَبَاحَ لَهُم قَضَاء
الْحَاجة فِي جِهَة الْمشرق مِنْهُم وَالْمغْرب. قلت:
مَعْنَاهُ: الْقبْلَة مَا بَينهمَا، لما روى التِّرْمِذِيّ
بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ النَّبِي:
(مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) . ثمَّ قَالَ: وَقد
رُوِيَ عَن غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي: مَا بَين
الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة، مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَعلي
بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن عمر: (إِذا
جعلت الْمغرب عَن يَمِينك والمشرق عَن يسارك فَمَا
بَينهمَا قبْلَة إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة) وَقَوله: (مَا
بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) ، لَيْسَ عَاما فِي
سَائِر الْبِلَاد، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَدِينَة الشَّرِيفَة، وَمَا وَافق قبلتها، وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) : وَالْمرَاد، وَا أعلم،
أهل الْمَدِينَة. وَمن كَانَت قبلته على سمت أهل
الْمَدِينَة. وَقَالَ أَحْمد بن خَالِد الذَّهَبِيّ: قَول
عمر بن الْخطاب، رَضِي اتعالى عَنهُ: مَا بَين الْمشرق
وَالْمغْرب قبْلَة، قَالَه بِالْمَدِينَةِ، فَمن كَانَت
قبلته مثل قبْلَة الْمَدِينَة فَهُوَ من سَعَة مَا بَين
الْمشرق وَالْمغْرب، ولسائر الْبلدَانِ من السعَة فِي
الْقبْلَة مثل ذَلِك بَين الْجنُوب وَالشمَال، وَنَحْو
ذَلِك؛ وَقَالَ ابْن بطال: تَفْسِير هَذِه التَّرْجَمَة
يَعْنِي: وقبلة مشرق الأَرْض كلهَا إلاَّ مَا قَابل مشرق
مَكَّة من الْبِلَاد الَّتِي تكون تَحت الْخط الْمَار
عَلَيْهَا من الْمشرق إِلَى الْمغرب، فَحكم مشرق الأَرْض
كلهَا كَحكم مشرق أهل الْمَدِينَة وَالشَّام فِي الْأَمر
بالانحراف عِنْد الْغَائِط، لأَنهم إِذا شرقوا أَو غربوا
لم يستقبلوا الْقبْلَة وَلم يستدبروها. قَالَ: وَأما مَا
قَابل مشرق مَكَّة من الْبِلَاد الَّتِي تكون تَحت الْخط
الْمَار عَلَيْهَا من مشرقها، إِلَى مغْرِبهَا فَلَا يجوز
لَهُم اسْتِعْمَال هَذَا الحَدِيث، وَلَا يَصح لَهُم أَن
يشرقوا. وَلَا أَن يغربوا لأَنهم إِذا شرقوا استدبروا
الْقبْلَة، وَإِذا غربوا استقبلوها، وَكَذَلِكَ من كَانَ
موازياً بمغرب مَكَّة إِن غرب استدبر الْقبْلَة، وَإِن
شَرق اسْتَقْبلهَا، وَإِنَّمَا ينحرف إِلَى الْجنُوب أَو
الشمَال، فَهَذَا هُوَ تغريبه وتشريقه.
قَالَ: وَتَقْدِير التَّرْجَمَة: بَاب قبْلَة أهل
الْمَدِينَة وَأهل الشَّام والمشرق وَالْمغْرب لَيْسَ فِي
التَّشْرِيق وَلَا فِي التَّغْرِيب يَعْنِي أَنهم عِنْد
الانحراف للتشريق والتغريب لَيْسُوا مواجهين للْقبْلَة
وَلَا مستدبرين لَهَا.
لقوْلِ النَّبيِّ (لاَ تسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ بِغَائِطٍ
أوْ بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا) . هَذَا
التَّعْلِيق رَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْصُولا. فَقَالَ:
أخبرنَا مَنْصُور، قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ
عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَن
النَّبِي، قَالَ: (لَا تستقبلوا الْقبْلَة بغائط وَلَا
بَوْل وَلَكِن شرقوا أَو غربوا) . وَاحْتج البُخَارِيّ
(4/128)
بِعُمُوم هَذَا الحَدِيث، وَسوى بَين
الصَّحَارِي والأبنية، وَجعله دَلِيلا للتَّرْجَمَة
الَّتِي وَضعهَا، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن فِي نفس حَدِيثه
الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَالْبُخَارِيّ
أَيْضا على مَا يَجِيء الْآن، مَا يدل على عكس مَا
أَرَادَهُ وَذَلِكَ أَن أَبَا أَيُّوب رَضِي اتعالى عَنهُ،
قَالَ فِي حَدِيثه، (فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد
بنيت نَحْو الْكَعْبَة، لَكنا ننحرف عَنْهَا، ونستغفر اعز
وَجل) . قلت: لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا أصلا لِأَن الْمَنْع
لأجل تَعْظِيم الْقبْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء
والبنيان، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوب: (لَكنا ننحرف
عَنْهَا ونستغفر اعز وَجل) ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذهب
إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة،
وَذهب الشَّافِعِي وَمَالك إِلَى أَنه يحرم اسْتِقْبَال
الْقبْلَة فِي الصَّحرَاء بالبول وَالْغَائِط، وَلَا يحرم
ذَلِك فِي الْبُنيان، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي
كتاب الْوضُوء.
49395 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا
سُفْيانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ عَطاءِ بنِ
يَزِيدَ عنْ أبي أيُّوب الأَنْصارِيِّ أنَّ النبيَّ قَالَ:
(إِذَا أَتَيْتُمُ الْغائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبلوا
القِبْلَةَ ولاَ تَسْتَدْبِرُوها ولَكنْ شَرِّقُوا أوْ
غَرِّبُوا) قَالَ أبُو أيُّوبَ فَقَدِمْنا الشَّأَمَ
فَوَجَدْنا مَراحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ
فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. (انْظُر
الحَدِيث 441) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (شرقوا
أَو غربوا) لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَيْسَ فِي الْمشرق
وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة، فَإِذا لم تكن فيهمَا قبْلَة
يتَوَجَّه المستنجي إِلَيْهَا إِمَّا يشرق وَإِمَّا يغرب.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عَليّ بن عبد االمديني،
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد
بن مُسلم بن شهَاب، وَاسم أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد رَضِي
اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن ابْن
أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه مُسلم فِيهَا عَن يحيى
بن يحيى وَزُهَيْر وَابْن نمير، وَأَبُو دَاوُد فِيهَا
أَيْضا عَن مُسَدّد، وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن سعيد بن
عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ،
وَالنَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن
سُفْيَان بِهِ، وَابْن مَاجَه كَذَلِك عَن أبي الطَّاهِر
بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ
نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (الْغَائِط) ، اسْم للْأَرْض
المطمئنة لقَضَاء الْحَاجة. قَوْله: (فقدمنا الشَّام) ،
وَهُوَ إقليم مَشْهُور يذكر وَيُؤَنث، وَيُقَال مهموزاً
ومسهلاً، وَسميت بسام بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ أول من نزلها، فَجعلت السِّين
شيناً مُعْجمَة تغييراً للفظ الأعجمي، وَقيل: سميت بذلك
لِكَثْرَة قراها وتداني بَعْضهَا من بعض فشبهت بالشامات.
قَوْله: (مراحيض) ، بِفَتْح الْمِيم وَبِالْحَاءِ
الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: جمع مرحاض، بِكَسْر
الْمِيم، وَهُوَ الْبَيْت الْمُتَّخذ لقَضَاء حَاجَة
الْإِنْسَان، أَي: التغوط، قَوْله: (قبل الْكَعْبَة) ،
بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، أَي: مقابلها.
قَوْله: (فننحرف) أَي: عَن جِهَة الْقبْلَة من الانحراف.
ويروى: (فنتحرف) من التحرف. قَوْله: (ونستغفر اتعالى) ،
قيل: نَسْتَغْفِر الْمَنّ بناها فَإِن الاسْتِغْفَار
للمذنبين سنة. وَقيل: نَسْتَغْفِر امن الِاسْتِقْبَال،
وَقيل: نَسْتَغْفِر امن ذنُوبه. وَيُقَال: لَعَلَّ أَبَا
أَيُّوب لم يبلغهُ حَدِيث ابْن عمر فِي ذَلِك وَلم يره
مُخَصّصا. وَحمل مَا رَوَاهُ على الْعُمُوم، وَهَذَا
الاسْتِغْفَار لنَفسِهِ لَا للنَّاس على هَذِه الْهَيْئَة.
فَإِن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إِثْمًا فَلَا حَاجَة
فِيهِ إِلَى الاسْتِغْفَار. قلت: أهل الْوَرع والمناصب
الْعلية فِي التَّقْوَى قد يَفْعَلُونَ مثل هَذَا بِنَاء
على نسبتهم التَّقْصِير إِلَى أنفسهم فِي التحفظ
ابْتِدَاء، وَقد مر مَا يستنبط مِنْهُ فِيمَا مضى فِي كتاب
الْوضُوء.
وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَطاءٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
أيُّوبَ عنِ النبيِّ مِثْلَهُ.
قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) عطف على قَوْله: (حدّثنا
سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد
الْمَذْكُور، سَمِعت أَبَا أَيُّوب. وَفَائِدَة ذكره
مكرراً أَن فِي الطّرق الأول عنعن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء
عَن أبي أَيُّوب، وَفِي هَذَا الطَّرِيق صرح عَطاء
بِالسَّمَاعِ عَن أبي أَيُّوب، وَالسَّمَاع أقوى من
العنعنة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: السماع أقوى من العنعنة.
وَهِي أقوى من أَن، لَكِن فِيهِ ضعف من جِهَة التَّعْلِيق
عَن الزُّهْرِيّ. قلت: الظَّاهِر مَعَ الْكرْمَانِي،
وَلَكِن الحَدِيث بِهَذَا
(4/129)
الطَّرِيق مُسْندًا فِي مُسْند إِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه عَن سُفْيَان. إِلَى آخِره. وَا أعلم.
03
- (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {واتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى}
(الْبَقَرَة: 521) .)
أَي هَذَا بَاب قَول اتعالى إِنَّمَا بوب بِهَذِهِ الْآيَة
الْكَرِيمَة لِأَن فِيهَا بَيَان الْقبْلَة على مَا
نذكرهُ، وَهَذَا أَيْضا هُوَ وَجه الْمُنَاسبَة فِي ذكر
هَذَا الْبَاب بَين هَذِه الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة
هَهُنَا الْمُتَعَلّقَة بالقبلة وأحكامها. قَوْله:
(وَاتَّخذُوا) بِلَفْظ الْأَمر على الْقِرَاءَة
الْمَشْهُورَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَاتَّخذُوا على
إِرَادَة القَوْل أَي: وَقُلْنَا: اتَّخذُوا مِنْهُ مَوضِع
صَلَاة تصلونَ فِيهِ، وَهُوَ على وَجه الِاخْتِيَار
والاستحباب دون الْوُجُوب. وَقَالَ غَيره: وقرىء بِلَفْظ
الْمَاضِي عطفا على {جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا
وَاتَّخذُوا} (الْبَقَرَة: 521) وَقد اخْتلف
الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا هُوَ؟ فَقَالَ
ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا عَمْرو بن شيبَة النميري حدّثنا
أَبُو خلف، يَعْنِي: عبد ابْن عِيسَى، حدّثنا دَاوُد بن
أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس {وَاتَّخذُوا من
مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) قَالَ: مقَام
إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء
مثل ذَلِك. وَقَالَ السّديّ: الْمقَام: الْحجر الَّذِي
وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل تَحت قدم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ
وَضَعفه وَرجح غَيره، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي
(تَفْسِيره) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع
بن أنس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا الْحسن بن
مُحَمَّد بن الصَّباح حدّثنا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن
ابْن جريج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا
يحدث عَن حجَّة النَّبِي قَالَ: (لما طَاف النَّبِي قَالَ
لَهُ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ: هَذَا مقَام أَبينَا
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَفلا
نتخذه مصلى؟ فَأنْزل اعز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام
إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) .
وَقَالَ عُثْمَان بن أبي شيبَة: حدّثنا أَبُو أُسَامَة عَن
زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي ميسرَة، قَالَ: قَالَ
عمر: (قلت: يَا رَسُول اهذا مقَام خَلِيل رَبنَا؟ قَالَ:
نعم. قَالَ: أَفلا نتخذه مصلى؟ فَنزلت: {وَاتَّخذُوا من
مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . وَقَالَ ابْن
مرْدَوَيْه؛ حدّثنا دعْلج بن أَحْمد حدّثنا غيلَان بن عبد
الصَّمد حدّثنا مَسْرُوق بن الْمَرْزُبَان حدّثنا
زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو
بن مَيْمُون: (عَن عمر بن الْخطاب أَنه مر بمقام
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: يَا رَسُول األيس
تقوم مقَام خَلِيل ا؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: أَفلا نتخذه
مصلى؟ فَلم يلبث إلاَّ يَسِيرا حَتَّى نزلت: (وَاتَّخذُوا
من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى) (الْبَقَرَة: 521) وَحكى ابْن
بطال عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْحَج كُله مقَام
إِبْرَاهِيم، وَقَالَ مُجَاهِد: الْحرم كُله مقَام
إِبْرَاهِيم، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن أبي
نجيح عَنهُ قَالَ: هُوَ عَرَفَة وَجمع وَمنى. وَقَالَ
عَطاء: مقَام، إِبْرَاهِيم عَرَفَة والمزدلفة والجمار،
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: {مصلى} (الْبَقَرَة: 521) فَقَالَ
مُجَاهِد: مدعى، كَأَنَّهُ أَخذه من: صليت، بِمَعْنى:
دَعَوْت. وَقَالَ الْحسن؛ قبْلَة، وَقَالَ السّديّ
وَقَتَادَة: أمروا أَن يصلوا عِنْده، وَلَا شكّ أَن من صلى
إِلَى الْكَعْبَة من غير الْجِهَات الثَّلَاث الَّتِي لَا
تقَابل مقَام إِبْرَاهِيم فقد أدّى فَرْضه، فالفرض إِذا
الْبَيْت لَا الْمقَام، وَقد صلى الشَّارِع خَارِجهَا،
وَقَالَ: هَذِه الْقبْلَة، وَلم يسْتَقْبل الْمقَام حِين
صلى داخلها، ثمَّ اسْتقْبل الْمقَام فَإِن الْمقَام
إِنَّمَا يكون قبْلَة، إِذا جعله الْمصلى بَينه وَبَين
الْقبْلَة.
60 - (حَدثنَا الْحميدِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ
حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار قَالَ سَأَلنَا ابْن عمر عَن
رجل طَاف بِالْبَيْتِ للْعُمْرَة وَلم يطف بَين الصَّفَا
والمروة أَيَأتِي امْرَأَته فَقَالَ قدم النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا
وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ وَطَاف بَين الصَّفَا
والمروة وَقد لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة
وَسَأَلنَا جَابر بن عبد الله فَقَالَ لَا يقربنها حَتَّى
يطوف بَين الصَّفَا والمروة) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي
قَوْله " وَصلى خلف الْمقَام " (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول الْحميدِي بِضَم الْحَاء وَفتح الْمِيم وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف واسْمه عبد الله بن الزبير الْقرشِي
الْأَسدي أَبُو بكر الْمَكِّيّ ونسبته إِلَى بطن من
قُرَيْش يُقَال لَهُ حميد بن زُهَيْر بن الْحَارِث بن أَسد
بن عبد الْعُزَّى. الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث عَمْرو بن دِينَار الْمَكِّيّ. الرَّابِع عبد
الله بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس جَابر بن عبد الله
الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (ذكر لطائف
إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع وَفِيه السُّؤَال فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته
الثَّلَاثَة مكيون وَلَا يدْخل هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند
جَابر لِأَنَّهُ لم يرفعهُ إِنَّمَا هُوَ من مُسْند ابْن
عمر قَالَه خلف
(4/130)
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره)
أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا وَفِي الْحَج عَن الْحميدِي
وَفِي الْحَج أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَعلي بن عبد الله
فرقهم ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان وَعَن آدم عَن شُعْبَة
وَعَن مكي بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جريج وَأخرجه مُسلم فِي
الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن سُفْيَان وَعَن يحيى بن
يحيى وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي كِلَاهُمَا عَن
حَمَّاد بن زيد وَعَن عبد الله بن حميد عَن مُحَمَّد بن
بكر عَن ابْن جريج وَأخرج النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور وَعبد الله بن مُحَمَّد
بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ فرقهم ثَلَاثَتهمْ عَن
سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَعَمْرو
بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن وَكِيع (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله
" طَاف بِالْبَيْتِ للْعُمْرَة " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي "
طَاف بِالْبَيْتِ للْعُمْرَة " بِحَذْف اللَّام من قَوْله
" للْعُمْرَة " وَلَا بُد من تَقْدِيره إِذْ الْمَعْنى لَا
يَصح بِدُونِهِ قَوْله " وَلم يطف " أَي لم يسع بَين
الصَّفَا والمروة فَأطلق الطّواف على السَّعْي إِمَّا
لِأَن السَّعْي نوع من الطّواف وَإِمَّا للمشاكلة ولوقوعه
فِي مصاحبة طواف الْبَيْت قَوْله " يَأْتِي امْرَأَته "
الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستفسار أَي
أَيجوزُ لَهُ الْجِمَاع يَعْنِي أحصل لَهُ التَّحَلُّل من
الْإِحْرَام قبل السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة أم لَا
قَوْله " فَقَالَ " أَي ابْن عمر فِي جَوَابه قدم النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى آخِره
فَأجَاب ابْن عمر بِالْإِشَارَةِ إِلَى وجوب اتِّبَاع
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا
سِيمَا فِي أَمر الْمَنَاسِك لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "
وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا
تحلل قبل السَّعْي فَيجب التأسي بِهِ وَهُوَ معنى قَوْله "
وَقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة " والأسوة
بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا أَي قدوة قَوْله " لَا يقربنها "
جملَة فعلية مضارعية مأكدة بالنُّون الثَّقِيلَة وَهَذَا
جَوَاب جَابر بن عبد الله بِصَرِيح النَّهْي عَنهُ
وَإِنَّمَا خص إتْيَان الْمَرْأَة بِالذكر وَإِن كَانَ
الحكم سَوَاء فِي جَمِيع الْمُحرمَات لِأَن إتْيَان
الْمَرْأَة من أعظم الْمُحرمَات (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ)
فِيهِ أَن السَّعْي وَاجِب فِي الْعمرَة وَهُوَ مَذْهَب
الْعلمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ عِيَاض عَن ابْن
عَبَّاس أَنه أجَاز التَّحَلُّل بعد الطّواف وَإِن لم يسع
وَهُوَ ضَعِيف ومخالف للسّنة. وَفِيه أَن الطّواف لَا بُد
فِيهِ من سَبْعَة أَشْوَاط. وَفِيه الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ
خلف الْمقَام فَقيل أَنَّهَا سنة وَقيل وَاجِبَة وَقيل
تَابِعَة للطَّواف إِن كَانَ الطّواف سنة فَالصَّلَاة سنة
وَإِن كَانَ وَاجِبا فَالصَّلَاة وَاجِبَة
61 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن سيف قَالَ
سَمِعت مُجَاهدًا قَالَ أُتِي ابْن عمر فَقيل لَهُ هَذَا
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل
الْكَعْبَة فَقَالَ ابْن عمر فَأَقْبَلت وَالنَّبِيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد خرج وَأَجد
بِلَالًا قَائِما بَين الْبَابَيْنِ فَسَأَلت بِلَالًا
فَقلت أصلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- فِي الْكَعْبَة قَالَ نعم رَكْعَتَيْنِ بَين الساريتين
اللَّتَيْنِ على يسَاره إِذا دخلت ثمَّ خرج فصلى فِي وَجه
الْكَعْبَة رَكْعَتَيْنِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله
" فصلى فِي وَجه الْكَعْبَة " أَي مواجه بَاب الْكَعْبَة
وَهُوَ مقَام إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (ذكر
رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي
يحيى الْقطَّان. الثَّالِث سيف بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
فَاء ابْن سُلَيْمَان أَو ابْن أبي سُلَيْمَان
المَخْزُومِي الْمَكِّيّ ثَبت صَدُوق مَاتَ سنة إِحْدَى
وَخمسين وَمِائَة. الرَّابِع مُجَاهِد الإِمَام الْمُفَسّر
تكَرر ذكره. الْخَامِس عبد الله بن عمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع
وَاحِد وَفِيه السماع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي
ومكي. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع هُنَا عَن مُسَدّد عَن يحيى
وَأخرجه أَيْضا عَن أبي نعيم عَن يحيى عَن سيف وَفِي
الْحَج عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن
سَالم وَحَدِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صلى بَين العمودين أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
فِي الصَّلَاة وَفِي الْأَطْرَاف للمزي فِي الْمَغَازِي
عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر وَعَن ابْن
(4/131)
مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك وَعَن عبد
الله بن يُوسُف عَن مَالك وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
وَعَن مُحَمَّد بن شُرَيْح بن النُّعْمَان وَفِي الْجِهَاد
عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث وَفِي الصَّلَاة عَن أبي
النُّعْمَان وقتيبة كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد وَأخرجه
مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح
كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث وَعَن حَرْمَلَة وَعَن يحيى بن
يحيى وَعَن أبي الرّبيع وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن أبي بكر
ابْن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن
زُهَيْر بن حَرْب وَعَن حميد بن مسْعدَة. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي وَعَن عبد الله بن
مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد
بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَعَن عَمْرو بن
عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " أَتَى ابْن عمر " بِضَم الْهمزَة على
صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " خرج " أَي من الْكَعْبَة
قَوْله " وَأَجد " على صِيغَة الْمُتَكَلّم وَحده من
الْمُضَارع وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول وَوجدت بعد
قَوْله " فَأَقْبَلت " لكنه عدل عَن الْمَاضِي إِلَى
الْمُضَارع حِكَايَة عَن الْحَال الْمَاضِيَة واستحضارا
لتِلْك الْحَالة قَوْله " بِلَالًا " مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول أجد وَقَائِمًا مَنْصُوب لِأَنَّهُ حَال من بِلَال
قَوْله " بَين الْبَابَيْنِ " قَالَ الْكرْمَانِي أَي
مصارعي الْبَاب إِذا الْكَعْبَة لم يكن لَهَا حِينَئِذٍ
إِلَّا بَاب وَاحِد وَأطلق ذَلِك بِاعْتِبَار مَا كَانَ من
الْبَابَيْنِ لَهَا فِي زمن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلَام أَو أَنه كَانَ فِي زمَان رِوَايَة الرَّاوِي
لَهَا بَابَانِ لِأَن ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ جعل لَهَا بَابَيْنِ وَقَالَ بَعضهم بَين
الْبَابَيْنِ أَي المصراعين وَحمله الْكرْمَانِي على
حَقِيقَة التَّثْنِيَة وَقَالَ أَرَادَ بِالْبَابِ
الثَّانِي الْبَاب الَّذِي لم تفتحه قُرَيْش حِين بنت
الْكَعْبَة وَهَذَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون ابْن عمر وجد
بِلَالًا فِي وسط الْكَعْبَة وَفِيه بعد (قلت)
الْكرْمَانِي فسر قَوْله بَين الْبَابَيْنِ بِثَلَاثَة
أوجه فَأخذ هَذَا الْقَائِل الْوَجْه الأول من تَفْسِيره
وَلم يعزه إِلَيْهِ ثمَّ نسب إِلَيْهِ مَا لم تشهد بِهِ
عِبَارَته لِأَن عبارَة الْكرْمَانِي فِي شَرحه مَا ذكرته
الْآن ثمَّ قَالَ وَهَذَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون ابْن عمر
وجد بِلَالًا فِي وسط الْكَعْبَة (قلت) هَذِه الْمُلَازمَة
مَمْنُوعَة لِأَن عبارَة الْكَلَام لَا تَقْتَضِي ذَلِك
ثمَّ قَالَ وَفِيه بعد (قلت) مَا فِيهِ بعد بل الْبعد فِي
الَّذِي اخْتَارَهُ من التَّفْسِير وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى
فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ " وَأَجد بِلَالًا قَائِما بَين
النَّاس " بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة قَوْله " أصلى
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
الْهمزَة فِيهِ للاستفهام قَوْله " قَالَ نعم رَكْعَتَيْنِ
" أَي نعم صلى رَكْعَتَيْنِ قَوْله " بَين الساريتين "
تَثْنِيَة سَارِيَة وَهِي الأسطوانة قَوْله " على يسَاره "
الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الدَّاخِل بِقَرِينَة إِذا
دخلت وَفِي بعض النّسخ " يسارك " وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسب
أَو كَانَ يَقُول إِذا دخل وَوجه الأول أَن يكون من
الِالْتِفَات أَو يكون الضَّمِير فِيهِ عَائِدًا إِلَى
الْبَيْت قَوْله " ثمَّ خرج " أَي من الْبَيْت قَوْله "
فِي وَجه الْكَعْبَة " أَي مواجه بَاب الْكَعْبَة وَهُوَ
مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَو يكون الْمَعْنى
فِي جِهَة الْكَعْبَة فَيكون أَعم من جِهَة الْبَاب قَوْله
" رَكْعَتَيْنِ " مفعول قَوْله " فصلى " (ذكر مَا يستنبط
مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الدُّخُول فِي الْبَيْت وَفِي
الْمُغنِي وَيسْتَحب لمن حج أَن يدْخل الْبَيْت وَيُصلي
فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يدْخل الْبَيْت بنعليه وَلَا
خفيه وَلَا يدْخل الْحجر أَيْضا لِأَن الْحجر من الْبَيْت.
وَفِيه اسْتِحْبَاب الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْت
فَإِن بِلَالًا أخبر فِي هَذَا الحَدِيث أَنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ
قَالَ النَّوَوِيّ أجمع أهل الحَدِيث على الْأَخْذ
بِرِوَايَة بِلَال لِأَنَّهُ مُثبت وَمَعَهُ زِيَادَة علم
فَوَجَبَ تَرْجِيحه وَأما نفي من نفى كأسامة فسببه أَنهم
لما دخلُوا الْكَعْبَة أغلقوا الْبَاب وَاشْتَغلُوا
بِالدُّعَاءِ فَرَأى أُسَامَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو فاشتغل هُوَ أَيْضا
بِالدُّعَاءِ فِي نَاحيَة من نواحي الْبَيْت وَرَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَاحيَة
أُخْرَى وبلال قريب مِنْهُ ثمَّ صلى النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَآهُ بِلَال بِقُرْبِهِ
وَلم يره أُسَامَة لبعده مَعَ خفَّة الصَّلَاة وإغلاق
الْبَاب واشتغاله بِالدُّعَاءِ وَجَاز لَهُ نَفيهَا عملا
بظنه وَقَالَ بعض الْعلمَاء يحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت مرَّتَيْنِ فَمرَّة
صلى فِيهِ وَمرَّة دَعَا فَلم يُصَلِّي وَلم تتضاد
الْأَخْبَار (قلت) روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن
عَبَّاس قَالَ " دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْت فصلى بَين الساريتين
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرج فصلى بَين الْبَاب وَالْحجر
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ هَذِه الْقبْلَة ثمَّ دخل مرّة
أُخْرَى فَقَامَ فِيهِ يَدْعُو ثمَّ خرج وَلم يصل (فَإِن
قلت) روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ "
مَا أحب أَن أُصَلِّي فِي الْكَعْبَة من صلى فِيهَا فقد
ترك شَيْئا خَلفه وَلَكِن حَدثنِي أخي أَن رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين دَخلهَا خر
بَين العمودين سَاجِدا ثمَّ قعد فَدَعَا وَلم يصل " (قلت)
هَذَانِ نفي وَإِثْبَات فِي رِوَايَتَيْنِ فرواية
الْإِثْبَات مُقَدّمَة كَمَا ذكرنَا وَكَيف
(4/132)
وَقد صرح بِلَال فِي الحَدِيث الْمَذْكُور
بقوله " نعم رَكْعَتَيْنِ " (فَإِن قلت) قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ الْمَشْهُور عَن ابْن عمر من طَرِيق
نَافِع وَغَيره عَنهُ أَنه قَالَ " ونسيت أَن أسأله كم صلى
" فَدلَّ على أَنه أخبرهُ بالكيفية وَهِي تعْيين الْموقف
فِي الْكَعْبَة وَلم يُخبرهُ بالكمية وَنسي هُوَ أَن
يسْأَله عَنْهَا (قلت) أُجِيب بِأَن المُرَاد من قَوْله
صلى الصَّلَاة الْمَعْهُودَة وأقلها رَكْعَتَانِ لِأَنَّهُ
لم ينْقل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَنه تنفل فِي النَّهَار بِأَقَلّ من رَكْعَتَيْنِ
فَكَانَت الركعتان متحققا وقوعهما وأصرح من هَذَا مَا
رَوَاهُ عَمْرو بن أبي شيبَة فِي كتاب مَكَّة من طَرِيق
عبد الْعَزِيز بن أبي دَاوُد عَن نَافِع عَن ابْن عمر
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي هَذَا الحَدِيث "
فاستقبلني بِلَال فَقلت مَا صنع رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَهُنَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ
أَن صلى رَكْعَتَيْنِ بالسبابة وَالْوُسْطَى " فعلى هَذَا
يحمل قَوْله " نسيت أَن أسأله كم صلى " على أَنه لم
يسْأَله بِاللَّفْظِ وَلم يجبهُ بِاللَّفْظِ وَإِنَّمَا
اسْتُفِيدَ مِنْهُ صلَاته الرَّكْعَتَيْنِ بِالْإِشَارَةِ
لَا بالنطق وَقد قيل يجمع بَين الْحَدِيثين بِأَن ابْن عمر
نسي أَن يسْأَل بِلَالًا ثمَّ لقِيه مرّة أُخْرَى فَسَأَلَ
وَقَالَ بَعضهم فِيهِ نظر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن
الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد لِأَنَّهُ أَتَى فِي السُّؤَال
بِالْفَاءِ المعقبة فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ
فِي هَذِه فَأَقْبَلت ثمَّ قَالَ فَسَأَلت بِلَالًا
وَقَالَ فِي الْأُخْرَى فبدرت فَسَأَلت بِلَالًا فَدلَّ
على أَن السُّؤَال عَن ذَلِك كَانَ وَاحِدًا فِي وَقت
وَاحِد وَثَانِيهمَا أَن رَاوِي قَول ابْن عمر ونسيت هُوَ
نَافِع مَوْلَاهُ وَيبعد مَعَ طول ملازمته لَهُ إِلَى وَقت
مَوته أَن يسْتَمر على حِكَايَة النسْيَان وَلَا يتَعَرَّض
لحكاية الذّكر أصلا (قلت) فِي نظره نظر من وُجُوه. الأول
أَن قَوْله أَن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد دَعْوَى بِلَا
برهَان فَمَا الْمَانِع من تعددها. وَالثَّانِي أَنه علل
على ذَلِك بِالْفَاءِ لكَونهَا للتعقيب وَلقَائِل أَن
يَقُول لَهُ فَلم لَا يجوز أَن تكون الْفَاء هَهُنَا
بِمَعْنى ثمَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ خلقنَا
النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة} فَإِن الْفَاء
فِي {فخلقنا المضغة} وَفِي {فكسونا} بِمَعْنى ثمَّ لتراخي
معطوفاتها وَتارَة تكون بِمَعْنى الْوَاو كَمَا فِي قَول
الشَّاعِر
(بَين الدُّخُول فحومل ... )
. وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا للتعقيب وَهُوَ فِي كل شَيْء
بِحَسبِهِ أَلا ترى أَنه يُقَال تزوج فلَان فولد لَهُ إِذا
لم يكن بَينهمَا إِلَّا مُدَّة الْحمل وَإِن كَانَ مُدَّة
متطاولة وَدخلت الْبَصْرَة فبغداد إِذا لم يقم فِي
الْبَصْرَة وَلَا بَين البلدتين. وَالثَّالِث أَن قَوْله
وَيبعد مَعَ طول ملازمته إِلَى آخِره غير بعيد فَإِن
الْإِنْسَان مَأْخُوذ من النسْيَان (فَإِن قلت) قَالَ
عِيَاض أَن قَوْله رَكْعَتَيْنِ غلط من يحيى بن سعيد
الْقطَّان لِأَن ابْن عمر قد قَالَ نسيت أَن أسأله كم صلى
وَإِنَّمَا دخل الْوَهم عَلَيْهِ من ذكر الرَّكْعَتَيْنِ
(قلت) لم ينْفَرد يحيى بن سعيد بذلك حَتَّى يغلط فقد
تَابعه أَبُو نعيم عِنْد البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ
وَأَبُو عَاصِم عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَعمر بن عَليّ بن
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَعبد الله بن نمير عِنْد أَحْمد عَنهُ
كلهم عَن سيف وَلم ينْفَرد بِهِ سيف أَيْضا فقد تَابعه
عَلَيْهِ خصيف عَن مُجَاهِد عِنْد أَحْمد وَلم ينْفَرد
بِهِ مُجَاهِد عَن ابْن عمر فقد تَابعه عَلَيْهِ ابْن أبي
مليكَة عِنْد أَحْمد. وَالنَّسَائِيّ وَعَمْرو بن دِينَار
عِنْد أَحْمد أَيْضا بِاخْتِصَار وَمن حَدِيث عُثْمَان بن
طَلْحَة عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد قوي
وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد الْبَزَّار وَمن حَدِيث
عبد الرَّحْمَن بن صَفْوَان قَالَ " فَلَمَّا خرج سَأَلت
من كَانَ مَعَه فَقَالُوا صلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد السارية
الْوُسْطَى " أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَمن
حَدِيث شيبَة بن عُثْمَان قَالَ " لقد صلى رَكْعَتَيْنِ
عِنْد العمودين " أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد جيد
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَكيف يقدم عِيَاض على تغليط
حَافظ جهبذ من غير تَأمل فِي بَابه. وَفِيه حجَّة لمن
يَقُول الأولى فِي نفل النَّهَار رَكْعَتَانِ
وَالشَّافِعِيّ يَقُول الْأَفْضَل فِي النَّوَافِل مثنى
مثنى فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد مثنى أفضل بِاللَّيْلِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة الْأَرْبَع أفضل فِي اللَّيْل
وَالنَّهَار وَاحْتج فِي ذَلِك بِحَدِيث ابْن عَبَّاس حِين
بَات عِنْد خَالَته مَيْمُونَة يرقب صَلَاة النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه " كَانَ
يُصَلِّي أَرْبعا لَا تسْأَل عَن حسنهنَّ وطولهن ". وَفِيه
حجَّة على ابْن جرير الطَّبَرِيّ حَيْثُ قَالَ بِعَدَمِ
جَوَاز الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة فرضا كَانَ أَو نفلا
وَقَالَ مَالك لَا تصلى فِيهِ الْفَرِيضَة وَلَا رَكعَتَا
الطّواف الْوَاجِب فَإِن صلى أعَاد فِي الْوَقْت وَيجوز
أَن يُصَلِّي فِيهِ النَّافِلَة وَفِي المسالك لِابْنِ
الْعَرَبِيّ روى مُحَمَّد عَن أصبغ أَن من صلى فِي
الْبَيْت أعَاد أبدا وَقَالَ مُحَمَّد لَا إِعَادَة
عَلَيْهِ وَقَالَ أَشهب من صلى على ظهر الْبَيْت أعَاد
أبدا وَعند أبي حنيفَة يجوز الْفَرْض وَالنَّفْل فِيهِ
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي
89326 - حدّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ عَطاءٍ قَالَ
سَمِعْتُ ابنَ عبَّاسٍ قَالَ لَمَّا دَخَلَ النبيُّ
البَيْتَ دَعا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ
(4/133)
حَتَّى خرجَ مِنْهُ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ
رَكْعَتَيْنِ فِي قُبْلِ الكَعْبَةِ وَقَالَ: (هَذِهِ
القِبْلَة) . (الحَدِيث 893 أَطْرَافه فِي: 1061، 1533،
2533، 8824) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قبل الْكَعْبَة) ،
وَالْمرَاد: مُقَابل الْكَعْبَة، وَهُوَ مقَام إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن نصر، ذكر فِي
(أَسمَاء رجال الصَّحِيحَيْنِ) إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن
نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ، وَكَانَ ينزل
الْمَدِينَة، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع فِي
كِتَابه، مرّة يَقُول: حدّثنا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن
سعد، وَمرَّة يَقُول: حدّثنا إِسْحَاق بن نصر، فينسبه
إِلَى جده. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام. الثَّالِث:
عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: عَطاء بن
أبي رَبَاح. الْخَامِس: عبد ابْن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: إِسْحَاق وَقع مَنْسُوبا فِي الرِّوَايَات كلهَا،
وَبِذَلِك جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم وَابْن
مَسْعُود وَآخَرُونَ، وَذكر أَبُو الْعَبَّاس فِي
(الْأَطْرَاف) لَهُ: أَن البُخَارِيّ أخرجه عَن إِسْحَاق
غير مَنْسُوب، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم فِي
(مستخرجيهما) من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن عبد
الرَّزَّاق شيخ إِسْحَاق بن نصر فِيهِ بِإِسْنَادِهِ
هَذَا، فَجعله من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة بن
زيد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق مُحَمَّد بن بكر
عَن ابْن جريج، وَهُوَ الْأَرْجَح. قلت: هَذَا يدل على أَن
هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل ابْن عَبَّاس، وَأَيْضًا لم
يثبت أَن ابْن عَبَّاس دخل الْكَعْبَة مَعَ النَّبِي.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي وصنعاني ومكي.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن
مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج عَن عَطاء بِهِ، وَفِيه
قصَّة، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن خشيش بن أَصْرَم عَن عبد
الرَّزَّاق عَن ابْن جريج بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ عبد
الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي دَاوُد عَن ابْن جريج
عَن عَطاء عَن أُسَامَة، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فِي نواحيه) جمع: نَاحيَة وَهِي
الْجِهَة. قَوْله: (ركع) أَي: صلى، أطلق الْجُزْء
وَأَرَادَ الْكل. قَوْله: (فِي قبل الْكَعْبَة) ، بِضَم
الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وتضم الْبَاء وتسكن أَي:
مقابلها وَمَا استقبلك مِنْهَا. قَوْله: (هَذِه الْقبْلَة)
، الْإِشَارَة إِلَى الْكَعْبَة. وَقَالَ الْخطابِيّ:
مَعْنَاهُ أَن أَمر الْقبْلَة قد اسْتَقر على اسْتِقْبَال
هَذَا الْبَيْت فَلَا ينْسَخ بعد الْيَوْم فصلوا إِلَيْهِ
أبدا، وَيحْتَمل أَنه علمهمْ سنة موقف الإِمَام فَإِنَّهُ
يقف فِي وَجههَا دون أَرْكَانهَا وجوانبها الثَّلَاثَة،
وَإِن كَانَت الصَّلَاة فِي جَمِيع جهاتها مجزئة.
وَيحْتَمل أَنه دلّ بِهَذَا القَوْل على أَن حكم من شَاهد
الْبَيْت وعاينه خلاف حكم الْغَائِب عَنهُ فِيمَا يلْزمه
من مواجهته عيَانًا دون الِاقْتِصَار على الِاجْتِهَاد،
وَذَلِكَ فَائِدَة مَا قَالَ: هَذِه الْقبْلَة، وَإِن
كَانُوا قد عرفوها قَدِيما وَأَحَاطُوا بهَا علما. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَيحْتَمل معنى آخر وَهُوَ: أَن مَعْنَاهُ:
هَذِه الْكَعْبَة هِيَ الْمَسْجِد الْحَرَام أمرْتُم
باستقباله، لَا كل الْحرم وَلَا مَكَّة وَلَا الْمَسْجِد
الَّذِي هُوَ حول الْكَعْبَة، بل هِيَ الْكَعْبَة نَفسهَا
فَقَط. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار من حَدِيث عبد ابْن
حبشِي الْخَثْعَمِي قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله يُصَلِّي
إِلَى بَاب الْكَعْبَة وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس إِن
الْبَاب قبْلَة الْبَيْت) . قلت: هَذَا مَحْمُول على
النّدب لقِيَام الْإِجْمَاع على جَوَاز اسْتِقْبَال
الْبَيْت من جَمِيع جهاته، كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
وَوجه التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَة وَالَّتِي
قبلهَا قد مر مُسْتَوفى.
13 - (بابُ التَّوَجُّهِ نَحْوَ القِبْلَةِ حَيْث كانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّوَجُّه إِلَى جِهَة
الْقبْلَة حَيْثُ كَانَ الْمُصَلِّي، أَي: حَيْثُ وجد فِي
سفر أَو حضر، وَكَانَ، تَامَّة فَلذَلِك: اقْتصر على
اسْمه، وَالْمرَاد بِهِ: فِي صَلَاة الْفَرِيضَة، وَذَلِكَ
لقَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا
وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441، 051) .
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَكَبِّرْ) .
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة
الْمُسِيء فِي صلَاته، سَاقه البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ
فِي كتاب الاسْتِئْذَان.
99336 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَجاءٍ قَالَ حدّثنا
إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ
رَضِي اعنهما قَالَ كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى نَحْوَ
بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّة عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ
(4/134)
عَشَرَ شَهْراً وكانَ رسولُ اللَّهِ
يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعبَةِ فأنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وجَلَّ قدْ نَرَى تقَلَبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ
فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهاءُ مِنَ
النَّاسِ وَهُمُ اليَهُودُ مَا وَلاَّهُمْ عنْ قِبْلَتِهمُ
الَّتِي كانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ
والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ فَصَلَّى مَعَ النبيِّ رَجلٌ ثُمَّ خَرَجَ
بَعْدَما صَلَّى فَمَرَّ عَلى قَوْمٍ مِنَ الأنْصارِ فِي
صَلاَةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ فقالَ هُوَ
يَشْهَدُ أنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسولِ اللَّهِ وَأنَّهُ
تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ القَوْمُ حَتَّى
تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَتوجه نَحْو
الْكَعْبَة الَّتِي اسْتَقَرَّتْ قبْلَة أبدا) فِي أَي
حَالَة كَانَ الْمُصَلِّي صَلَاة الْفَرْض.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد ابْن رَجَاء،
بتَخْفِيف الْجِيم: الغداني، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة.
الثَّانِي: إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، جد إِسْرَائِيل
واسْمه: عَمْرو بن عبد االكوفي. الرَّابِع: الْبَراء بن
عَازِب رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان عَن عَمْرو بن
خَالِد عَن زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء،
وَأخرجه فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن أبي نعيم وَعَن
مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى عَن
وَكِيع. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى وَأبي بكر بن خَلاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقد ذكرنَا جَمِيع ذَلِك
فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (صلى نَحْو بَيت الْمُقَدّس) أَي:
بِالْمَدِينَةِ، صلى جِهَة بَيت الْمُقَدّس (سِتَّة عشر
شهرا أَو سَبْعَة عشر شهرا) فالشك من الْبَراء، وَكَذَا
وَقع الشَّك عِنْد البُخَارِيّ فِي رِوَايَة زُهَيْر وَأبي
نعيم، وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : من
رِوَايَة أبي نعيم، فَقَالَ: سِتَّة عشر، من غير شكّ،
وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم رِوَايَة الْأَحْوَص،
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة.
وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، عَن ابْن
عَبَّاس: سَبْعَة عشر، وَنَصّ النَّوَوِيّ على صِحَة
سِتَّة عشر، وَالْقَاضِي على صِحَة سَبْعَة عشر وَهُوَ
قَول أبي إِسْحَاق وَابْن الْمسيب وَمَالك بن أنس؛
وَالْجمع بَينهمَا أَن من جزم بِسِتَّة عشر أَخذ من شهر
الْقدوم وَشهر التَّحْوِيل شهرا، وألغى الْأَيَّام
الزَّائِدَة فِيهِ، وَمن جزم بسبعة عشر عدهما مَعًا، وَمن
شكّ تردد فيهمَا، وَذَلِكَ أَن قدوم النَّبِي الْمَدِينَة
كَانَ فِي شهر ربيع الأول بِلَا خلاف، وَكَانَ التَّحْوِيل
فِي نصف شهر رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة على الصَّحِيح،
وَبِه جزم الْجُمْهُور.
وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات أُخْرَى: فَفِي (سنَن) أبي
دَاوُد وَابْن مَاجَه: ثَمَانِيَة عشر شهرا، وَحكى الْمُحب
الطَّبَرِيّ: ثَلَاثَة عشر شهرا، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى
سنتَيْن، وَأغْرب مِنْهُمَا: تِسْعَة أشهر، وَعشرَة أشهر،
وهما شَاذان. قَوْله: (أَن يُوَجه) على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (وَصلى مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، رجل) واسْمه: عباد بن بشر، قَالَه
ابْن بشكوال. وَقَالَ أَبُو عمر: عباد بن نهيك، بِفَتْح
النُّون وَكسر الْهَاء، وَوَقع فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي والحموي: (فصلى مَعَ النَّبِي رجال) ،
بِالْجمعِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذِه الرِّوَايَة
إِلَى مَا يرجع الضَّمِير فِي قَوْله: (ثمَّ خرج) ؟ قلت:
إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ؛ رجال، وَهُوَ مُفْرد، أَو
مَعْنَاهُ: ثمَّ خرج خَارج. قلت: مَعْنَاهُ على هَذَا:
ثمَّ خرج خَارج مِنْهُم، فَيكون الْفَاعِل محذوفاً.
قَوْله: (بَعْدَمَا صلى) كَلمه: مَا، إِمَّا مَصْدَرِيَّة
وَإِمَّا مَوْصُولَة. قَوْله: (فِي صَلَاة الْعَصْر نَحْو
بَيت الْمُقَدّس) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فِي صَلَاة الْعَصْر يصلونَ
نَحْو بَيت الْمُقَدّس) ، أَي: جِهَته. قَوْله: (فَقَالَ)
أَي: الرجل.
قَوْله: (وَهُوَ يشْهد) أَرَادَ بِهِ نَفسه، وَلَكِن عبر
عَنْهَا بِلَفْظ الْغَيْبَة على سَبِيل التَّجْرِيد، أَو
على طَريقَة الِالْتِفَات، أَو نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى،
وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي بَاب
الْإِيمَان من الصَّلَاة بِلَفْظ: أشهد، وَوَقع هُنَا
صَلَاة الْعَصْر، وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن
عمر فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ: صَلَاة
الصُّبْح، والتوفيق بَينهمَا أَن هَذَا الْخَبَر وصل إِلَى
قوم كَانُوا يصلونَ فِي نفس الْمَدِينَة صَلَاة الْعَصْر،
ثمَّ وصل إِلَى أهل قبا فِي صبح الْيَوْم الثَّانِي،
لأَنهم
(4/135)
كَانُوا خَارِجين عَن الْمَدِينَة، لِأَن
قبا من جملَة سوادها، وَفِي حكم رساتيقها، وَقد استقصينا
الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز نسخ الْأَحْكَام
عِنْد الْجُمْهُور إلاَّ طَائِفَة لَا يَقُولُونَ بِهِ
وَلَا يعبأ بهم. وَفِيه: الدَّلِيل على نسخ السّنة
بِالْقُرْآنِ عِنْد الْجُمْهُور، وَللشَّافِعِيّ فِيهِ
قَولَانِ. وَفِيه: دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: وجوب الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة وَالْإِجْمَاع على
أَنَّهَا الْكَعْبَة. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة
الْوَاحِدَة إِلَى جِهَتَيْنِ. وَفِيه: أَن النّسخ لَا
يثبت فِي حق الْمُكَلف حَتَّى يبلغهُ، وَفِي هَذَا الْبَاب
أبحاث طَوِيلَة، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا
فَعَلَيهِ بالمراجعة إِلَى مَا ذكرنَا فِي شرح بَاب
الصَّلَاة من الْإِيمَان.
00446 - حدّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قَالَ
حدّثنا يَحْيَى بنْ أبي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْد
الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كانَ رسولُ اللَّهِ
يُصَلِّي عَلى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ فإِذَا
أرَادَ الفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ.
(الحَدِيث 004 أَطْرَافه فِي: 4901، 9901، 0414) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
(فَاسْتقْبل الْقبْلَة) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم
القصاب، الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن
أبي كثير، بالثاء الْمُثَلَّثَة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن
عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان العامري الْمدنِي. الْخَامِس:
جَابر بن عبد االأنصاري.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
ذكر مُسلم شيخ البُخَارِيّ غير مَنْسُوب وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَفِيه: ذكر هِشَام
أَيْضا غير مَنْسُوب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هِشَام
بن أبي عبد ا. وَفِيه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
ثَوْبَان وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح عَن جَابر غير هَذَا
الحَدِيث، وَفِي طبقته: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
نَوْفَل، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ عَن جَابر شَيْئا.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي تَقْصِير الصَّلَاة عَن معَاذ بن فضَالة عَن
هِشَام، وَعَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى بن أبي كثير
بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن آدم عَن ابْن
أبي ذِئْب عَن عُثْمَان بن عبد ابْن سراقَة عَن جَابر
رَضِي اتعالى عَنهُ. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (رَأَيْت
رَسُول الله يُصَلِّي على حمَار وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى
خَيْبَر) . وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث
جَابر: (بَعَثَنِي النَّبِي فِي حَاجَة فَجئْت وَهُوَ
يُصَلِّي على رَاحِلَته نَحْو الْمشرق، السُّجُود أَخفض) ،
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَفِي الْبَاب عَن أنس
عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب مَالك) وعامر بن أبي
ربيعَة عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم وَأبي سعيد عِنْد (1) .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (على رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة:
النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل، وَكَذَلِكَ الرحول،
وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو
أُنْثَى. قَوْله: (حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ) ، هَذِه
رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (تَوَجَّهت)
بِدُونِ لَفْظَة: بِهِ. قَوْله: (فَإِذا أَرَادَ
الْفَرِيضَة) أَي: إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي صَلَاة
الْفَرْض نزل عَن الرَّاحِلَة واستقبل الْقبْلَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على عدم ترك
اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الْفَرِيضَة، وَهُوَ إِجْمَاع،
وَلَكِن رخص فِي شدَّة الْخَوْف، وَفِي خُلَاصَة الفتاوي،
أما صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بالعذر فجائزة، وَمن
الْأَعْذَار: الْمَطَر، وَعَن مُحَمَّد: إِذا كَانَ الرجل
فِي السّفر فأمطرت السَّمَاء فَلم يجد مَكَانا يَابسا ينزل
للصَّلَاة، فَإِنَّهُ يقف على الدَّابَّة مُسْتَقْبل
الْقبْلَة وَيُصلي بِالْإِيمَاءِ إِذا أمكنه إيقاف
الدَّابَّة، فَإِن لم يُمكنهُ يُصَلِّي مستدبر الْقبْلَة
وَهَذَا إِذا كَانَ الطين بِحَال يغيب وَجهه، فَإِن لم يكن
بِهَذِهِ المثابة لَكِن الأَرْض ندية صلى هُنَالك، ثمَّ
قَالَ: هَذَا إِذا كَانَت الدَّابَّة تسير بِنَفسِهَا، أما
إِذا سيَّرها صَاحبهَا فَلَا يجوز التَّطَوُّع وَلَا
الْفَرْض، فَمن الْأَعْذَار كَون الدَّابَّة جموحاً لَو
نزل لَا يُمكنهُ الرّكُوب. وَمِنْهَا: اللص وَالْمَرَض
وَكَونه شَيخا كَبِيرا لَا يجد من يركبه. وَمِنْهَا:
الْخَوْف من السَّبع، وَفِي (الْمُحِيط) : تجوز الصَّلَاة
على الدَّابَّة فِي هَذِه الْأَحْوَال، وَلَا يلْزمه
الْإِعَادَة بعد زَوَال الْعذر، وَهَذَا كُله إِذا كَانَ
خَارج الْمصر. وَفِي (الْمُحِيط) : من النَّاس من يَقُول
إِنَّمَا يجوز التَّطَوُّع
(4/136)
على الدَّابَّة إِذا تَوَجَّهت إِلَى
الْقبْلَة عِنْد افتتاحها ثمَّ يتْرك التَّوَجُّه وانحرف
عَن الْقبْلَة، أما لَو افتتحها إِلَى غير الْقبْلَة لَا
تجوز، وَعند الْعَامَّة: تجوز كَيفَ مَا كَانَ، وَصرح فِي
(الْإِيضَاح) : أَن الْقَائِل بِهِ الشَّافِعِي. وَقَالَ
ابْن بطال: اسْتحبَّ ابْن حَنْبَل وَأَبُو ثوران يفتتحها
مُتَوَجها إِلَى الْقبْلَة، ثمَّ لَا يُبَالِي حَيْثُ
تَوَجَّهت. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: الْمُنْفَرد فِي
الرّكُوب على الدَّابَّة إِن كَانَت سهلة يلْزمه أَن
يُدِير رَأسهَا عِنْد الْإِحْرَام إِلَى الْقبْلَة فِي أصح
الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْمُبَارك، ذكرهَا
فِي (جَوَامِع الْفِقْه) . وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: لَا
يلْزمه، وَفِي القطار وَالدَّابَّة الصعبة لَا يلْزمه،
وَفِي الْعمادِيَّة وَفِي الْمحمل الْوَاسِع يلْزمه
التَّوَجُّه كالسفينة، وَقيل: فِي الدَّابَّة يلْزمه فِي
السَّلَام أَيْضا، وَالأَصَح أَن الْمَاشِي يتم رُكُوعه
وَسُجُوده وَيسْتَقْبل فيهمَا وَفِي إِحْرَامه وَلَا يمشي
إلاَّ فِي قِيَامه، وَمذهب أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور،
وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن الزبير وَأبي ذَر وَأنس وَابْن
عمر، وَبِه قَالَ طَاوس وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ
وَالثَّوْري وَمَالك وَاللَّيْث، وَلَا يشْتَرط أَن يكون
السّفر طَويلا عِنْد الْجُمْهُور، بل لكل من كَانَ خَارج
الْمصر فَلهُ الصَّلَاة على الدَّابَّة. وَاشْترط مَالك
مَسَافَة الْقصر، ويحكى هَذَا أَيْضا عَن بعض
الشَّافِعِيَّة، وَمذهب ابْن عمر منع التَّنَفُّل فِي
السّفر بِالنَّهَارِ جملَة. وجوازه لَيْلًا على الأَرْض
وَالرَّاحِلَة، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي (حَوَاشِيه) .
وَأما التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي الْحَضَر فَلَا يجوز
عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد والإصطخري من الشَّافِعِيَّة،
وَيجوز عِنْد أبي يُوسُف. وَعَن مُحَمَّد: يجوز وَلَكِن
يكره، وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على جَوَاز التَّنَفُّل
على الدَّابَّة وَردت فِي السّفر، فَفِي رِوَايَة جَابر:
كَانَت فِي غَزْوَة أَنْمَار، وَهِي غَزْوَة ذَات الرّقاع،
وَفِي رِوَايَة: (أَرْسلنِي رَسُول الله وَهُوَ منطلق
إِلَى بني المصطلق، فَأَتَيْته وَهُوَ يُصَلِّي على بعيره)
. وَفِي رِوَايَة ابْن عمر: (بطرِيق مَكَّة) ، وَفِي
رِوَايَة: (مُتَوَجّه إِلَى الْمَدِينَة) . وَفِي
رِوَايَة: (مُتَوَجّه إِلَى خَيْبَر) ، وَالْحَاصِل
أَنَّهَا كَانَت مَرَّات كلهَا فِي السّفر. فَإِن قلت:
رُوِيَ عَن أبي يُوسُف فِي جَوَازه فِي الْمَدِينَة
أَيْضا، فَقَالَ: حَدثنِي فلَان، وَرفع الْإِسْنَاد: (أَن
رَسُول الله ركب الْحمار فِي الْمَدِينَة يعود سعد بن
عبَادَة وَكَانَ يُصَلِّي) . قلت: هَذَا شَاذ، وَهُوَ
فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى لَا يكون حجَّة، وَلَكِن لقَائِل
أَن يَقُول: لأبي يُوسُف على مَا ذهب إِلَيْهِ أَن يحْتَج
بِمَا رَوَاهُ أنس: (أَنه صلى على حمَار فِي أَزِقَّة
الْمَدِينَة يومي إِيمَاء) ، ذكره ابْن بطال.
10456 - ح دّثنا عُثْمانُ قَالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهيمَ عنْ عَلْقَمَة قَالَ قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ صَلى النَّبيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ
أدْرِي زَادَ أوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا
رَسولَ اللَّهِ أحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ قالَ (وَمَا
ذَاكَ) قالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا فَثَنَى رِجْلَيْهِ
وَاستَقْبَلَ القِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ
سَلَّمَ فَلَمَّا أقَبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ
لإِنَّهُ لوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ
لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ وَلَكنْ إِنَّما أنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ أنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ
فَذَكِّرُونِي وَإذَا شكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ
فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عليهِ ثُمَّ
لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) . (الحَدِيث 104
أَطْرَافه فِي: 404، 6221، 1766، 9427) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَثنى
رجلَيْهِ واستقبل الْقبْلَة) لِأَنَّهُ اسْتَقْبلهَا بعد
أَن سلم سَلام الْخُرُوج من الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة.
الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد. الثَّالِث: مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد
النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ.
السَّادِس: عبد ابْن مَسْعُود، رَضِي اعنه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون وأئمة إجلاء
وَإِسْنَاده من أصح الْأَسَانِيد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي النذور عَن إِسْحَاق. وَأخرجه مُسلم عَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى وَأبي كريب وَمُحَمّد بن
حَاتِم وَعبد ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ وَمُحَمّد
بن الْمثنى وَيحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن عُثْمَان بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن عبد االمخزومي وَعَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل
وَعَن سُوَيْد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بنْدَار وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد
عَن وَكِيع بِهِ.
(4/137)
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (صلى
النَّبِي) هَذِه الصَّلَاة قيل: الظّهْر، وَقيل: الْعَصْر.
وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث طَلْحَة بن مصرف عَن
إِبْرَاهِيم بِهِ: أَنَّهَا الْعَصْر، فنقص فِي
الرَّابِعَة وَلم يجلس حَتَّى صلى الْخَامِسَة. وَمن
حَدِيث شُعْبَة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم أَنَّهَا
الظّهْر وَأَنه صلاهَا خمْسا. قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم)
أَي: النَّخعِيّ الْمَذْكُور. قَوْله: (لَا أَدْرِي زَاد
أَو نقص) مدرج، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَلَا
أَدْرِي) ، أَي: فَلَا أعلم هَل زَاد النَّبِي فِي صلَاته
أَو نقص، وَالْمَقْصُود أَن إِبْرَاهِيم شكّ فِي سَبَب
سُجُود السَّهْو الْمَذْكُور، هَل كَانَ لأجل الزِّيَادَة
أَو النُّقْصَان؟ وَهُوَ مُشْتَقّ من النَّقْص
الْمُتَعَدِّي لَا من النُّقْصَان اللَّازِم، وَالصَّحِيح
كَمَا قَالَ الْحميدِي: إِنَّه زَاد. قَوْله: (أحدث؟)
الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، وَمَعْنَاهُ السُّؤَال عَن
حُدُوث شَيْء من الْوَحْي يُوجب تَغْيِير حكم الصَّلَاة
بِالزِّيَادَةِ على مَا كَانَت معهودة، أَو بِالنُّقْصَانِ
عَنهُ. قَوْله: (حدث) بِفَتْح الدَّال مَعْنَاهُ: وَقع،
وَأما: حدث، بِضَم الدَّال فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من
الْكَلَام إلاَّ فِي قَوْلهم: أَخَذَنِي مَا قدُم وَمَا
حدُث، للازدواج.
قَوْله: (وَمَا ذَاك؟) سُؤال من لم يشْعر بِمَا وَقع
مِنْهُ وَلَا يَقِين عِنْده وَلَا غَلَبَة ظن، وَهُوَ خلاف
مَا عِنْدهم حَيْثُ قَالَ: صليت كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ
إِخْبَار من يتَحَقَّق مَا وَقع. وَقَوله: (كَذَا وَكَذَا)
، كِنَايَة عَمَّا وَقع إِمَّا زَائِدا على الْمَعْهُود
أَو نَاقِصا. قَوْله: (فَثنى) ، بتَخْفِيف النُّون،
مُشْتَقّ من الثني أَي: عطف، وَالْمَقْصُود مِنْهُ:
فَجَلَسَ كَمَا هوهيئة الْقعُود للتَّشَهُّد. قَوْله:
(رجله) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
والأصيلي: (رجلَيْهِ) بالتثنية. قَوْله: (لنبأتكم بِهِ) :
لأخبرتكم بِهِ، وَهَذَا من بَاب؛ نبأ، بتَشْديد الْبَاء،
وَهُوَ مِمَّا ينصب ثَلَاثَة مفاعيل، وَكَذَلِكَ: أنبأ،
منباب أفعل، والثلاثي: نبأ، والمصدر، النبأ، مَعْنَاهُ
الْخَبَر. تَقول نبأ وأنبأ ونبأ، أَي: أخبر، وَمِنْه أَخذ
النَّبِي لِأَنَّهُ أنبأ عَن اتعالى، وللام فِيهِ لَام
الْجَواب. وتفيد التَّأْكِيد أَيْضا، وَزعم بَعضهم أَن:
اللَّام، بعد: لَو، جَوَاب قسم مُقَدّر.
فَإِن قلت: أَيْن المفاعيل الثَّلَاثَة هَهُنَا؟ قلت:
الأول: ضمير المخاطبين، وَالثَّانِي: الْجَار
وَالْمَجْرُور، أَعنِي لَفْظَة: بِهِ، وَالضَّمِير يه يرجع
إِلَى الْحُدُوث الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (لَو حدث
فِي الصَّلَاة شَيْء) ، كَمَا فِي قَوْله: {أعدلوا هُوَ
أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . وَالثَّالِث: مَحْذُوف.
قَوْله: (وَلَكِن إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ) لَا نزاع أَن
كلمة؛ إِنَّمَا، للحصر، لَكِن تَارَة تَقْتَضِي الْحصْر
الْمُطلق، وَتارَة حصراً مَخْصُوصًا، وَيفهم ذَلِك
بالقرائن والسياق، وَمعنى الْحصْر فِي الحَدِيث
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإطلاع على بوانط المخاطبين لَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل شَيْء، فَإِن لرَسُول الله أوصافاً
أخر كَثِيرَة.
قَوْله: (أنسى كَمَا تنسون) ، النسْيَان فِي اللُّغَة خلاف
الذّكر ولحفظ، وَفِي الِاصْطِلَاح: النيسان غَفلَة الْقلب
عَن الشَّيْء، وَيَجِيء النسْيَان بمنى التّرْك كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {نسوا افنسيهم} (وَلَا تنسوا الْفضل
بَيْنكُم) (التَّوْبَة: 76، وَالْبَقَرَة: 732) . قَوْله:
(فذكروني) أَي: فِي الصَّلَاة بالتسبيح وَنَحْوه. قَوْله:
(وَإِذا شكّ أحدكُم) الشَّك فِي اللُّغَة خلاف الْيَقِين،
وَفِي الِاصْطِلَاح الشَّك: مَا يَسْتَوِي فِيهِ طرف
الْعلم وَالْجهل، وَهُوَ الْوُقُوف بَين الشَّيْئَيْنِ
بِحَيْثُ لَا يمِيل إِلَى أَحدهمَا، فاذا قوي أَحدهمَا
وترجح على الآخر، وَلم يَأْخُذ بِمَا رجح وَلم يطْرَح
الآخر فَهُوَ الظَّن، وَإِذا عقد الْقلب على أَحدهمَا
وَترك الآخر فَهُوَ أكبر الظَّن، وغالب الرَّأْي، فَيكون
الظَّن أحد طرقي الشَّك بِصفة الرجحان. قَوْله: (فليتحرَّ)
الصَّوَاب التَّحَرِّي: الْقَصْد وَالِاجْتِهَاد فِي
الطّلب والعزم على تَخْصِيص الشَّيْء بِالْفِعْلِ
وَالْقَوْل، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَينْظر أَحْرَى
ذَلِك إِلَى الصَّوَاب) . وَفِي رِوَايَة: (فليتحر أقرب
ذَلِك إِلَى الصَّوَاب) . وَفِي رِوَايَة: (فليتحر الَّذِي
يرى أَنه صَوَاب. وَيعلم من هَذَا أَن التَّحَرِّي طلب أحد
الْأَمريْنِ، وأولاهما بِالصَّوَابِ. قَوْله: (فليتم
عَلَيْهِ) أَي: فليتم بانياً عَلَيْهِ، وَلَوْلَا تضمين
الْإِتْمَام معنى الْبناء لما جَازَ اسْتِعْمَاله
بِكَلِمَة الاستعلاء، وَقصد الصَّوَاب فِي الْبناء على
غَالب الظَّن عِنْد أبي حنيفَة وَعند الشَّافِعِي:
الْأَخْذ بِالْيَقِينِ. قَوْله: (ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ)
، ويروى: (ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ) يَعْنِي للسَّهْو.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على
جَوَاز النّسخ وَجَوَاز توقع الصَّحَابَة ذَلِك، دلّ على
ذَلِك استفهامهم حَيْثُ قيل لَهُ: أحدث فِي الصَّلَاة
شَيْء؟ وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز وُقُوع السَّهْو من
الْأَنْبِيَاء. عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
الْأَفْعَال. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهُوَ قَول
عَامَّة الْعلمَاء والنظار، وشذت طَائِفَة فَقَالُوا: لَا
يجوز على النَّبِي السَّهْو، وَهَذَا الحَدِيث يرد
عَلَيْهِم. قلت: هم منعُوا السَّهْو عَلَيْهِ فِي
الْأَفْعَال البلاغية، وَأَجَابُوا عَن الوظاهر
الْوَارِدَة فِي ذَلِك بِأَن السَّهْو لَا يُنَاقض
النُّبُوَّة وَإِذا لم يقر عَلَيْهِ لم تحل مِنْهُ مفْسدَة
بل تحصل فِيهِ فَائِدَة، وَهُوَ بَيَان أَحْكَام النَّاس
وَتَقْرِير الْأَحْكَام، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو إِسْحَاق
الإسفرايني، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفُوا فِي
جَوَاز السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا
تتَعَلَّق بالبلاغ وَبَيَان
(4/138)
أَحْكَام الشَّرْع من أَفعاله وعاداته
وأذكار قلبه، فجوزه الْجُمْهُور. وَأما السَّهْو فِي
الْأَقْوَال البلاغية فَأَجْمعُوا على مَنعه كَمَا
أَجمعُوا على امْتنَاع تَعَمّده. وَأما السَّهْو فِي
الْأَقْوَال الدُّنْيَوِيَّة، وَفِيمَا لَيْسَ سَبيله
الْبَلَاغ من الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق
بِالْأَحْكَامِ وَلَا أَخْبَار الْقِيَامَة وَمَا
يتَعَلَّق بهَا، وَلَا يُضَاف إِلَى وَحي فجوزه قوم، إِذْ
لَا مفْسدَة فِيهِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالْحق
الَّذِي لَا شكّ فِيهِ تَرْجِيح قَول من منع ذَلِك على
الْأَنْبِيَاء فِي كل خبر من الْأَخْبَار، كَمَا لَا يجوز
عَلَيْهِم خلف فِي خبر لَا عمدا وَلَا سَهوا، لَا فِي
صِحَة وَلَا فِي مرض، وَلَا رضى وَلَا غضب. وَأما جَوَاز
السَّهْو فِي الاعتقادات فِي أُمُور الدُّنْيَا فَغير
مُمْتَنع.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز النسْيَان فِي الْأَفْعَال
على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَاتَّفَقُوا على أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ بل يعلمهُمْ
اتعالى بِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرطه تنبيهه على
الْفَوْر أَي مُتَّصِلا بالحادثة، وجوزت طَائِفَة تَأْخِير
مُدَّة حَيَاته. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين السَّهْو
وَالنِّسْيَان؟ قيل: النسْيَان غَفلَة الْقلب عَن
الشَّيْء، والسهو غَفلَة الشَّيْء عَن الْقلب، فَفِي هَذَا
قَالَ قوم: كَانَ النَّبِي لَا يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك
نفى عَن نَفسه النسْيَان فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ،
(بقوله: لم أنس) ، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل.
وَقَالَ الْقشيرِي: يبعد الْفرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال
اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يتلوح من اللَّفْظ على أَن النيسان
عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، والسهو عدم
الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا
نسلم الْفرق، وَلَئِن سلم فقد أضَاف النسْيَان إِلَى نَفسه
فِي غير مَا مَوضِع كَقَوْلِه: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى
كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني) . وَقَالَ القَاضِي:
إِنَّمَا أنكر: نسيت الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ قد نهى عَن
هَذَا بقوله: (بئْسَمَا لأحدكم أَن يَقُول: نسيت كَذَا،
وَلكنه نسِّي) ، وَقد قَالَ أَيْضا: (لَا أنسى) على
النَّفْي، (وَلَكِن أُنسَّى (. وَقد شكّ بعض الروَاة فِي
رِوَايَته فَقَالَ: (أنسى أَو أنسَّى) . وَإِن: أَو،
للشَّكّ أَو للتقسيم، وَإِن هَذَا يكون مِنْهُ مرّة من قبل
شغله، وَمرَّة يغلب وَيجْبر عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ
السَّائِل بذلك فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ أنكرهُ،
وَقَالَ: كل ذَلِك لم يكن، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى:
(لم أنس وَلم تقصر) ، أما الْقصر فبيِّن، وَكَذَلِكَ: لم
أنس حَقِيقَة من قبل نَفسِي، وَلَكِن اأنساني. وسنتكلم فِي
هَذَا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوب فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ
اتعالى.
وَمِنْهَا: أَن بَعضهم احْتج بِهِ على أَن كَلَام
النَّاسِي لَا يبطل الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو عمر: ذهب
الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى أَن الْكَلَام وَالسَّلَام
سَاهِيا فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا، كَقَوْل مَالك
وَأَصْحَابه سَوَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهمَا أَن
مَالِكًا يَقُول: لَا يفْسد الصَّلَاة تعمد الْكَلَام
فِيهَا إِذا كَانَ فِي شَأْنهَا وإصلاحها، وَهُوَ قَول
ربيعَة وَابْن الْقَاسِم إلاَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي
الْمُنْفَرد، وَهُوَ قَول أَحْمد، ذكر الْأَثْرَم عَنهُ
أَنه قَالَ: مَا تكلم بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته
لإصلاحها لم يفْسد عَلَيْهِ صلَاته، فَإِن تكلم لغير ذَلِك
فَسدتْ عَلَيْهِ. وَذكر الْخرقِيّ عَنهُ: أَن مذْهبه
فِيمَن تكلم عَامِدًا أَو سَاهِيا بطلت صلَاته إلاَّ
الإِمَام خَاصَّة، فَإِنَّهُ إِذا تكلم لمصْلحَة صلَاته لم
تبطل صلَاته. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَمن
تَابعهمْ من أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم: إِن من تعمد
الْكَلَام وَهُوَ يعلم أَنه لم يتم الصَّلَاة وَأَنه
فِيهَا أفسد صلَاته، فَإِن تكلم نَاسِيا أَو تكلم وَهُوَ
يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة لَا تبطل، وَأَجْمعُوا على
أَن الْكَلَام عَامِدًا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يعملم أَنه
فِي الصَّلَاة وَلم يكن ذَلِك لإِصْلَاح صلَاته أَنه يفْسد
الصَّلَاة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه: من
تكلم لإحياء نفس أَو مثل ذَلِك من الْأُمُور الجسام لم
تفْسد بذلك صلَاته، وَهُوَ قَول ضَعِيف فِي النّظر. وَفِي
(الْمُغنِي) : وَقَالَ ابْن الْمُنْذر مَا ملخصه: إِن
الْكَلَام لغير مصلحَة الصَّلَاة يَنْقَسِم خَمْسَة
أَقسَام:
الأول: الْكَلَام جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فِيهَا. قَالَ
القَاضِي فِي (الْجَامِع) : لَا أعرف عَن أحد نصا فِيهِ،
وَيحْتَمل أَن لَا تبطل.
الثَّانِي: الْكَلَام نَاسِيا وَهُوَ على نَوْعَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن ينسى أَنه فِي الصَّلَاة، فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: لَا تبطل، وَهُوَ قَول مَالك
وَالشَّافِعِيّ. وَالْأُخْرَى: تبطل، وَهُوَ قَول
النَّخعِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان
وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالنَّوْع الآخر: أَن يظنّ أَن
صلَاته تمت فيتكلم، فَإِن كَانَ سَلاما لَا تبطل رِوَايَة
وَاحِدَة، وإلاَّ فالمنصوص عَن أَحْمد: إِن كَانَ لأمر
الصَّلَاة لَا تبطل، وَإِن كَانَ لغير أمرهَا مثل: إسقني
يَا غُلَام مَاء، تبطل. وَعنهُ رِوَايَة ثَانِيَة أَنَّهَا
تفْسد بِكُل حَال، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي،
وَفِيه رِوَايَة ثَالِثَة: أَنَّهَا لَا تبطل بالْكلَام
فِي تِلْكَ الْحَال بِحَال، سَوَاء كَانَ من شَأْن
الصَّلَاة أَو لم يكن، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما،
وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَتخرج رِوَايَة
رَابِعَة وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم إِن كَانَ إِمَامًا تكلم
لمصْلحَة الصَّلَاة لم تفْسد، وَإِن تكلم غَيره فَسدتْ.
الْقسم الثَّالِث: أَن يتَكَلَّم مَغْلُوبًا على
الْكَلَام، وَهُوَ ثَلَاثَة: أَنْوَاع: أَحدهَا: بِأَن
تخرج الْحُرُوف من فِيهِ بِغَيْر اخْتِيَاره، مثل: إِن
تثاوب فَقَالَ: آه، أَو تنفس
(4/139)
فَقَالَ: آه، أَو يسعل فينطق فِي السعلة
بحرفين وَمَا أشبه هَذَا، أَو يغلط فِي الْقِرَاءَة فيعدل
إِلَى كلمة من غير الْقُرْآن، أَو يَجِيئهُ بكاء فيبكي
وَلَا يقدر على رده، فَهَذَا لَا تفْسد صلَاته، نَص
عَلَيْهِ أَحْمد. وَقَالَ القَاضِي: فِيمَن تثاوب فَقَالَ:
آه، آه، فَسدتْ صلَاته: النَّوْع الثَّانِي: أَن ينَام
فيتكلم، فقد توقف أَحْمد عَن الْجَواب فِيهِ، وَيَنْبَغِي
أَن لَا تبطل. النَّوْع الثَّالِث: أَن يكره على
الْكَلَام، فَيحْتَمل أَن يخرج على كَلَام النَّاسِي،
وَالصَّحِيح إِن شَاءَ اأن هَذَا تفْسد صلَاته.
الْقسم الرَّابِع: أَن يتَكَلَّم بِكَلَام وَاجِب، مثل أَن
يخْشَى على صبي أَو ضَرِير الْوُقُوع فِي هلكة، أَو يرى
حَيَّة وَنَحْوهَا تقصد غافلاً أَو نَائِما، أَو يرى نَارا
يخَاف أَن تشتعل فِي شَيْء وَنَحْو هَذَا، فَلَا يُمكنهُ
التَّنْبِيه بالتسبيح، فَقَالَ أَصْحَابنَا: تبطل
الصَّلَاة بِهَذَا، وَهُوَ قَول بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي،
وَيحْتَمل أَن لَا تبطل، وَهُوَ ظَاهر قَول أَحْمد،
وَهَذَا ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي.
الْقسم الْخَامِس: أَن يتَكَلَّم لإِصْلَاح الصَّلَاة،
وَجُمْلَته أَن من سلم من نقص فِي صلَاته يظنّ نها قد تمت،
ثمَّ تكلم فَفِيهِ ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهَا: لَا
تفْسد إِذا كَانَ لشأن الصَّلَاة. وَالثَّانيَِة: تفْسد،
وَهُوَ قَول الْخلال وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالثَّالِثَة:
صَلَاة الإِمَام لَا تفْسد، وَصَلَاة الْمَأْمُوم الَّذِي
تكلم تفْسد انْتهى.
وَمذهب أَصْحَابنَا أَنه: لَا يجوز الْكَلَام فِي
الصَّلَاة إلاَّ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيح والتهليل
وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَلَا يجوز أَن يتَكَلَّم فِيهَا
لأجل شَيْء حدث من الإِمَام فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام
يبطل الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو
جَاهِلا، وَسَوَاء كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا، وَهُوَ
مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة، وَحَمَّاد بن
أبي سُلَيْمَان وَعبد ابْن وهب وَابْن نَافِع من أَصْحَاب
مَالك، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث مُعَاوِيَة بن
الحكم السّلمِيّ أخرجه مُسلم مطولا، وَفِيه: (إِن هَذِه
الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس
إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة
الْقُرْآن) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا،
وَهَذَا نَص صَرِيح على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة
سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا، لحَاجَة أَو غَيرهَا،
وَسَوَاء كَانَ لمصْلحَة الصَّلَاة أَو غَيرهَا. فَإِن
احْتَاجَ إِلَى تَنْبِيه إِمَام وَنَحْوه سبح إِن كَانَ
رجلا، وصفقت إِن كَانَت امْرَأَة، وَذَلِكَ لقَوْله: (من
نابه شَيْء فِي الصَّلَاة فَلْيقل: سُبْحَانَ ا،
وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء وَالتَّسْبِيح للرِّجَال) ،
رَوَاهُ سهل بن سعد، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ، وَأخرجه
البُخَارِيّ مطولا، وَلَفظه: (أَيهَا النَّاس مَا لكم حِين
نابكم شَيْء فِي الصَّلَاة أَخَذْتُم فِي التصفيق؟
وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء، من نابه شَيْء فِي صلَاته
فَلْيقل: سُبْحَانَ ا، فَإِنَّهُ لَا يسمعهُ أحد حِين
يَقُول: سُبْحَانَ ا، إِلَّا الْتفت) . وَأخرجه مُسلم
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
قَوْله: (من نابه) أَي من نزل بِهِ شَيْء من الْأُمُور
المهمة، وَالْمرَاد من التصفيق ضرب ظَاهر إِحْدَى يَدَيْهِ
على بَاطِن الْأُخْرَى، وَقيل: بإصبعين من أَحدهمَا على
صفحة الْأُخْرَى للإنذار والتنبيه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
إِن هَذَا الحَدِيث دلّ على أَن كَلَام ذِي الْيَدَيْنِ
لرَسُول الله بِمَا كَلمه بِهِ فِي حَدِيث عمرَان وَابْن
عمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، كَانَ قبل
تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو
سَجْدَتَانِ، وَهُوَ قَول عَامَّة الْفُقَهَاء، وَحكي عَن
الْأَوْزَاعِيّ أَنه يلْزمه لكل سَهْو سَجْدَتَانِ،
وَكَذَا حُكيَ عَن ابْن أبي ليلى. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَفِيه حَدِيث ضَعِيف.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا عل أَن سَجْدَتي السَّهْو
بعد السَّلَام، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه
فِي أَنَّهُمَا قبل السَّلَام، وَفِي (الْمُغنِي) :
السُّجُود كُله عِنْد أَحْمد قبل السَّلَام إلاَّ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذين ورد النَّص بسجودهما بعد
السَّلَام، وهما: إِذا سلم من نقص فِي صلَاته، أَو تحرى
الإِمَام فَبنى على غَالب ظَنّه، وَمَا عداهما يسْجد لَهُ
قبل السَّلَام، نَص على هَذَا فِي رِوَايَة الْأَثْرَم،
وَبِه قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد وَأَبُو خَيْثَمَة
وَابْن الْمُنْذر. وَحكى أَبُو الْخطاب عَن أَحْمد
رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ: إِحْدَاهمَا: إِن السُّجُود
كُله قبل السَّلَام، وَالثَّانيَِة: أَنَّهَا قبل
السَّلَام إِن كَانَت لنَقص، وَبعد السَّلَام إِن كَانَت
لزِيَادَة، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأبي ثَوْر، وَبِمَا
قَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة قَالَ إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ بن أبي
طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد ابْن مَسْعُود وَعبد ابْن
عَبَّاس وعمار بن يَاسر وَعبد ابْن الزبير وَأنس بن مَالك،
رَضِي اعنهم: فَإِن قلت: لَو سجد للسَّهْو قبل السَّلَام
كَيفَ يكون حكمه عَن الْحَنَفِيَّة. قلت: قَالَ
الْقَدُورِيّ: لَو سجد للسَّهْو قبل السَّلَام جَازَ
عندنَا، هَذَا فِي رِوَايَة الْأُصُول، وَرُوِيَ عَنْهُم
أَنه: لَا يجوز، لِأَنَّهُ أَدَّاهُ قبل وقته. وَفِي
(الْهِدَايَة) : وَهَذَا الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة،
وَكَذَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) وَابْن عبد
الْبر وَغَيرهم.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الرُّجُوع إِلَى الْمَأْمُومين،
وَفِيه إِشْكَال على مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَن عِنْدهم
أَنه لَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي قدر صلَاته إِلَى
قَول غَيره إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَلَا يعْمل
إلاَّ على يَقِين نَفسه، وَاعْتذر النَّوَوِيّ عَن هَذَا
بِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر،
فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ لَا أَنه رَجَعَ إِلَى
مُجَرّد قَوْلهم، وَلَو
(4/140)
جَازَ ترك يَقِين نَفسه وَالرُّجُوع إِلَى
قَول غَيره لرجع ذُو الْيَدَيْنِ حِين قَالَ: (لم تقصر
وَلم أنس) . قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب مخلص لِأَنَّهُ
لَا يَخْلُو عَن الرُّجُوع، سَوَاء كَانَ رُجُوعه للتذكر
أَو لغيره، وَعدم رُجُوع ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ لأجل
كَلَام الرَّسُول لَا لأجل يَقِين نَفسه. فَافْهَم.
وَقَالَ ابْن الْقصار: اخْتلفت الرِّوَايَة فِي هَذَا عَن
مَالك، فَمرَّة قَالَ: يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ قَول
أبي حنيفَة، لِأَنَّهُ قَالَ: يبْنى على غَالب ظَنّه.
وَقَالَ مرّة أُخْرَى: يعْمل على يقينه وَلَا يرجع إِلَى
قَوْلهم، كَقَوْل الشَّافِعِي.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْبَيَان لَا
يُؤَخر عَن وَقت الْحَاجة لقَوْله: (لَو حدث فِي الصَّلَاة
شَيْء لنبأتكم بِهِ) .
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ حجَّة لأبي حنيفَة وَلغيره من أهل
الْكُوفَة على أَن: من شكّ فِي صلَاته فِي عدد ركعاتها
تحرى لقَوْله: (فليتحر الصَّوَاب) ، وَيَبْنِي على غَالب
ظَنّه وَلَا يلْزمه الِاقْتِصَار على الْأَقَل، وَهُوَ
حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي قَوْلهم فِيمَن شكّ:
هَل صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا مثلا؟ لزمَه الْبناء على
الْيَقِين، وَهُوَ الْأَقَل فَيَأْتِي بِمَا بَقِي وَيسْجد
للسَّهْو. فَإِن قلت: أَمر الشَّارِع بِالتَّحَرِّي وَهُوَ
الْقَصْد بِالصَّوَابِ، وَهُوَ لَا يكون إلاَّ بِالْأَخْذِ
بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ الْيَقِين، على مَا بَينه فِي
حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول ا: (إِذا صلى
أحدكُم فَلم يدر أَثلَاثًا صلى أم أَرْبعا فليبن على
الْيَقِين ويدع الشَّك) الحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة. قلت: هَذَا مَحْمُول
على مَا إِذا تحرى وَلم يَقع تحريه على شَيْء، فَفِي هَذَا
نقُول: يَبْنِي على الْأَقَل لِأَن حَدِيثه ورد فِي
الشَّك، وَهُوَ مَا اسْتَوَى طرفاه وَلم يتَرَجَّح لَهُ
أحد الطَّرفَيْنِ، فَفِي هَذَا يبْنى على الْأَقَل
بِالْإِجْمَاع، فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ فِي دفع
هَذَا: إِن تَفْسِير الشَّك هَكَذَا اصْطِلَاح طَار
للأصوليين، وَأما فِي اللُّغَة فالتردد بَين وجود الشَّيْء
وَعَدَمه كُله يُسمى شكا، سَوَاء المستوي وَالرَّاجِح
والمرجوح، والْحَدِيث يحمل على اللُّغَة مَا لم يكن
هُنَاكَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو عرفية، فَلَا يجوز حمله
على مَا يطْرَأ للمتأخرين من الِاصْطِلَاح. قلت: هَذَا غير
مجدٍ وَلَا دافعٍ، لِأَن المُرَاد الْحَقِيقَة
الْعُرْفِيَّة، وَهِي أَن: الشَّك مَا اسْتَوَى طرفاه،
وَلَئِن سلمنَا أَن يكون المُرَاد مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ
فَلَيْسَ معنى الشَّك فِي اللُّغَة مَا ذكره، لِأَن صَاحب
(الصِّحَاح) فسر الشَّك فِي بَاب: الْكَاف، فَقَالَ:
الشَّك خلاف الْيَقِين، ثمَّ فسر الْيَقِين فِي بَاب:
النُّون، فَقَالَ: الْيَقِين الْعلم، فَيكون الشَّك ضد
الْعلم، وضد الْعلم الْجَهْل، وَلَا يُسمى المتردد بَين
وجود الشَّيْء وَعَدَمه جَاهِلا، بل يُسمى شاكاً، فَعلم،
أَن قَوْله: وَأما فِي اللُّغَة فالتردد بَين وجود
الشَّيْء وَعَدَمه يُسمى شكا هُوَ الْحَقِيقَة
الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو
يتداخل وَلَا يَتَعَدَّد بِتَعَدُّد أَسبَابه، فَإِن
النَّبِي تكلم بعد أَن سَهَا، وَاكْتفى فِيهِ بسجدتين،
وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء، وَمِنْهُم من
قَالَ: يَتَعَدَّد السُّجُود بِتَعَدُّد السَّهْو.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو فِي
آخر الصَّلَاة: لِأَنَّهُ لم يَفْعَله إلاَّ كَذَلِك،
وَقيل: فِي حكمته: إِنَّه أخر لاحْتِمَال سَهْو آخر فَيكون
جَابِرا للْكُلّ، وَفرع الْفُقَهَاء على أَنه لَو سجد ثمَّ
تبين أَنه لم يكن آخر الصَّلَاة لزمَه إِعَادَته فِي
آخرهَا، وصوروا ذَلِك فِي صُورَتَيْنِ. إِحْدَاهمَا: أَن
يسْجد للسَّهْو فِي الْجُمُعَة ثمَّ يخرج الْوَقْت وَهُوَ
فِي السُّجُود الْأَخير فَيلْزمهُ إتْمَام الظّهْر
وَيُعِيد السُّجُود. وَالثَّانيَِة: أَن يكون مُسَافِرًا
فَيسْجد للسَّهْو وَتصل بِهِ السَّفِينَة إِلَى الوطن أَو
يَنْوِي الْإِقَامَة فَيتم ثمَّ يُعِيد السُّجُود.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: قَوْله: (وَسجد سَجْدَتَيْنِ) دَلِيل على أَنه لم
ينقص شَيْئا من الرَّكْعَات وَلَا من السجدات وَإِلَّا
لتداركها فَكيف صَحَّ أَن يَقُول إِبْرَاهِيم: لَا
أَدْرِي؟ بل تعين أَنه زَاد إِذْ النُّقْصَان لَا يجْبر
بالسجدتين، بل لَا بُد من الْإِتْيَان بالمتروك أَيْضا؟
قلت: كل نُقْصَان لَا يسْتَلْزم الْإِتْيَان بِهِ بل كثير
مِنْهُ ينجبر بِمُجَرَّد السَّجْدَتَيْنِ، وَلَفظ: نقص،
لَا يُوجب النَّقْص فِي الرَّكْعَة وَنَحْوهَا. قلت: قد
ذكرنَا فِيمَا مضى عَن الْحميدِي أَنه قَالَ: بل زَاد،
وَكَانَت زِيَادَته أَنه صلى الظّهْر خمْسا. كَمَا ذكره
الطَّبَرَانِيّ، فحينئذٍ كَانَ سُجُوده لتأخير السَّلَام
ولزيادته من جنس الصَّلَاة، وَقَوله: إِذْ النُّقْصَان لَا
ينجبر بالسجدتين، غير مُسلم، لِأَن النُّقْصَان إِذا كَانَ
فِي الْوَاجِبَات أَو فِي تَأْخِيرهَا عَن محلهَا أَو فِي
تَأْخِير ركن من الْأَركان ينجبر بالسجدتين. وَقَوله: بل
لَا بُد من الْإِتْيَان بالمتروك، إِنَّمَا يجب إِذا كَانَ
الْمَتْرُوك ركنا، وَأما إِذا كَانَ من الْوَاجِبَات وَمن
السّنَن الَّتِي هِيَ فِي قُوَّة الْوَاجِب فَلَا يلْزمه
الْإِتْيَان بِمثلِهِ، وَإِنَّمَا ينجبر بالسجدتين.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا: فَإِن قلت:
الصَّوَاب غير مَعْلُوم، وإلاَّ لما كَانَ ثمَّة شكّ،
فَكيف يتحَرَّى الصَّوَاب؟ قلت: المُرَاد مِنْهُ: المتحقق
والمتيقن، أَي: فليأخذ بِالْيَقِينِ. قلت: هَذَا الَّذِي
قَالَه بِنَاء على مَذْهَب إِمَامه، فَإِنَّهُ فسر
الصَّوَاب بِالْأَخْذِ بِالْيَقِينِ، وَأما عِنْد أبي
حنيفَة: المُرَاد
(4/141)
مِنْهُ الْبناء على غَالب الظَّن
وَالْيَقِين فِي أَيْن هَهُنَا؟ وَمِنْهَا مَا قَالَه
الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: كَيفَ رَجَعَ إِلَى
الصَّلَاة بانياً عَلَيْهَا وَقد تكلم بقوله: وَمَا ذَاك؟
قلت: إِنَّه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة،
أَو أَنه كَانَ خطابا للنَّبِي وجواباً، وَذَلِكَ لَا يبطل
الصَّلَاة، أَو كَانَ قَلِيلا وَهُوَ فِي حكم الساهي أَو
النَّاسِي، لِأَنَّهُ كَانَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِيهَا. قلت:
مَذْهَب إِمَامه أَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ
نَاسِيا أَو سَاهِيا لَا يُبْطِلهَا، فَلَا فَائِدَة
حينئذٍ فِي قَوْله: إِنَّه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام
فِي الصَّلَاة. وَالْجَوَاب الثَّانِي: لَا يمشي بعد
النَّبِي. وَالْجَوَاب الثَّالِث: غير موجه لِأَنَّهُ
قَوْله: (وَمَا ذَاك؟) غير قَلِيل على مَا لَا يخفى.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قيل:
كَيفَ رَجَعَ النَّبِي إِلَى قَول غَيره، وَلَا يجوز
للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي حَال صلَاته إلاَّ إِلَى علمه
ويقين نَفسه؟ فَجَوَابه: أَن النَّبِي سَأَلَهُمْ ليتذكر،
فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ،
لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَول الْغَيْر، أَو أَن
قَول السَّائِل أحدث شكا عِنْد رَسُول الله فَسجدَ بِسَبَب
حُصُول الشَّك لَهُ، فَلَا يكون رُجُوعا إِلَّا إِلَى حَال
نَفسه قلت: هَذَا كَلَام فِيهِ تنَاقض، لِأَن قَوْله:
سَأَلَهُمْ إِلَى قَوْله: فَبنى عَلَيْهِ، رُجُوع إِلَى
الْغَيْر بِلَا نزاع، وَقَوله: لَا أَنه رَجَعَ إِلَى
مُجَرّد قَول الْغَيْر، يُنَاقض ذَلِك. وَقَوله: فَسجدَ
بِسَبَب حُصُول الشَّك، غير مُسلم، لِأَن سُجُوده إِنَّمَا
كَانَ للزِّيَادَة لَا للشَّكّ الْحَاصِل من كَلَامهم،
لِأَنَّهُ لَو شكّ لَكَانَ تردداً، إِذْ مُقْتَضى الشَّك
التَّرَدُّد، فحين سمع قَوْلهم: صليت كَذَا وَكَذَا ثنى
رجلَيْهِ واستقبل الْقبْلَة وَسجد سَجْدَتَيْنِ.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: آخر
الحَدِيث يدل على سُجُود السَّهْو بعدالسلام وأوله على
عَكسه. قلت: مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه يسن قبل السَّلَام،
وَتَأَول آخر الحَدِيث بِأَنَّهُ قَول، وَالْأول فعل،
وَالْفِعْل مقدم على القَوْل لِأَنَّهُ أدل على
الْمَقْصُود، أَو أَنه أَمر بِأَن يسْجد بعد السَّلَام
بَيَانا للْجُوَاز، وَفعل نَفسه قبل السَّلَام لِأَنَّهُ
أفضل. قلت: لَا نسلم أَن الْفِعْل مقدم على القَوْل، لِأَن
مُطلق القَوْل يدل على الْوُجُوب، على أَنا نقُول: يحْتَمل
أَن يكون سلم قبل أَن يسْجد سَجْدَتَيْنِ، ثمَّ سلم سَلام
سُجُود السَّهْو، فالراوي اخْتَصَرَهُ، وَلِأَن فِي
السُّجُود بعد السَّلَام تضَاعف الْأجر، وَهُوَ الْأجر
الْحَاصِل من سَلام الصَّلَاة وَمن سَلام سُجُود السَّهْو،
وَلِأَنَّهُ شرع جبرا للنقص أَو للزِّيَادَة الَّتِي فِي
غير محلهَا وَهِي أَيْضا نقص كالإصبع الزَّائِدَة، والجبر
لَا يكون إلاَّ بعد تَمام المجبور، وَمَا بَقِي عَلَيْهِ
سَلام الصَّلَاة، فَهُوَ فِي الصَّلَاة.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: لم
عدل عَن لفظ الْأَمر إِلَى الْخَبَر وَغير أسلوب
الْكَلَام؟ قلت: لَعَلَّ السَّلَام وَالسُّجُود كَانَا
ثابتين يومئذٍ، فَلهَذَا أخبر عَنْهُمَا، وَجَاء بِلَفْظ
الْخَبَر بِخِلَاف التَّحَرِّي والإتمام، فَإِنَّهُمَا
ثبتا بِهَذَا الْأَمر، أَو للإشعار بِأَنَّهُمَا ليسَا
بواجبين كالتحري والإتمام. قلت: الفصاحة من التفنن فِي
أساليب الْكَلَام، وَالنَّبِيّ أفْصح النَّاس لَا يجارى
فِي فَصَاحَته، وَقَوله: أَو للإشعار بِأَنَّهُمَا ليسَا
بواجبين، غير مُسلم، بل هما واجبان لمقْتَضى الْأَمر
الْمُطلق، وَهُوَ قَوْله: (من شكّ فِي صلَاته فليسجد
سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يسلم) ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب
هُوَ الْوُجُوب، ذكره فِي (الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) و
(الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد،
وَعند الْكَرْخِي من أَصْحَابنَا: أَنه سنة، وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي. وعَلى رِوَايَة: (فليتحر الصَّوَاب فليتم
عَلَيْهِ ثمَّ ليسلم ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ) ، لَا يرد
هَذَا السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت:
السَّجْدَة مُسلم أَنَّهَا لَيست بواجبة، لَكِن السَّلَام
وَاجِب. قلت: وُجُوبه بِوَصْف كَونه قبل السَّجْدَتَيْنِ
مَمْنُوع، وَأما نفس وُجُوبه فمعلوم من مَوضِع آخر. قلت:
قَوْله: مُسلم، غير مُسلم لما ذكرنَا الْآن، وَقَوله:
مَمْنُوع، غير مَمْنُوع أَيْضا لِأَن مَحل السَّلَام
الَّذِي هُوَ للصَّلَاة فِي آخرهَا مُتَّصِلا بهَا
فَوَجَبَ بِهَذَا الْوَصْف، وَلَا يمْتَنع أَن يكون
الشَّيْء وَاجِبا من جِهَتَيْنِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن التَّحَرِّي فِي حَدِيث الْبَاب
مَحْمُول على الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ
الْيَقِين، لِأَن التَّحَرِّي هُوَ الْقَصْد، وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى: {تحروا رشدا} (الْجِنّ: 41) وَمعنى
قَوْله (فليتحر الصَّوَاب) : فليتقصد الصَّوَاب فليعمل
بِهِ، وَقصد الصَّوَاب هُوَ مَا بَينه فِي حَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُسلم، قَالَ: قَالَ
رَسُول ا: (إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فَلَا يدْرِي كم
صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا؟ فليطرح الشَّك وليبن على
الْيَقِين) الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على مَا
إِذا تحرى وَلم يَقع تحريه على شَيْء، فحينئذٍ نقُول:
إِنَّه يَبْنِي على الْأَقَل، وَلَا يُخَالف هَذَا لما
قُلْنَا.
وَمِنْهَا مَا قيل: الْمصير إِلَى التَّحَرِّي لضَرُورَة،
وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، لِأَنَّهُ يُمكنهُ إِدْرَاك
الْيَقِين بِدُونِهِ بِأَن يَبْنِي على الْأَقَل. فَلَا
حَاجَة إِلَى التَّحَرِّي؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قد
يتَعَذَّر عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى مَا اشْتبهَ عَلَيْهِ
بِدَلِيل من الدَّلَائِل، والتحري عِنْد عدم الْأَدِلَّة
مَشْرُوع كَمَا فِي أَمر الْقبْلَة. فَإِن قيل: يسْتَقْبل.
قلت: لَا وَجه لذَلِك لِأَنَّهُ عَسى أَن يَقع لَهُ
ثَانِيًا. وَثَانِيا إِلَى مَا لَا يتناهى،
(4/142)
فَإِن قلت: يبنيه على الْأَقَل. قلت: لَا وَجه لذَلِك
أَيْضا، لِأَن ذَلِك لَا يوصله إِلَى مَا عَلَيْهِ، فَلَا
يَبْنِي على الْأَقَل إلاّ عِنْد عدم وُقُوع تحريه على
شَيْء، كَمَا ذكرنَا. |