عمدة القاري شرح صحيح البخاري

9 - (كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام مَوَاقِيت الصَّلَاة، وَلما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة بأنواعها الَّتِي هِيَ شَرط الصَّلَاة شرع فِي بَيَان الصَّلَاة بأنواعها الَّتِي هِيَ الْمَشْرُوط، وَالشّرط مقدم على الْمَشْرُوط، وقدمها على الزَّكَاة وَالصَّوْم وَغَيرهمَا لما أَنَّهَا تالية الْإِيمَان وثانيته فِي الْكتاب وَالسّنة، ولشدة الِاحْتِيَاج وعمومه إِلَى تعليمها لِكَثْرَة وُقُوعهَا ودورانها، بِخِلَاف غَيرهَا من الْعِبَادَات. وَهِي فِي اللُّغَة من تَحْرِيك الصلوين وهما: العظمان النابتان عِنْد العجيزة. وَقيل: من الدُّعَاء، فَإِن كَانَت من الأول: تكون من الْأَسْمَاء الْمُغيرَة شرعا، المقررة لُغَة، وَإِن كَانَت من الثَّانِي: تكون من الْأَسْمَاء المنقولة وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن الْأَركان الْمَعْلُومَة وَالْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة
والمواقيت جمع: مِيقَات، على وزن: مفعال، وَأَصله موقات قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وإنكسار مَا قبلهَا، من وَقت الشَّيْء يقته إِذا بَين حَده، وَكَذَا وقته يُوَقت، ثمَّ اتَّسع فِيهِ فَأطلق على الْمَكَان فِي الْحَج، والتوقيت أَن يَجْعَل للشَّيْء وَقت يخْتَص بِهِ، وَهُوَ بَيَان مِقْدَار الْمدَّة، وَكَذَلِكَ: التَّأْقِيت. وَقَالَ السفاقسي: الْمِيقَات هُوَ الْوَقْت الْمَضْرُوب للْفِعْل والموضع. وَفِي (الْمُنْتَهى) : كل مَا جعل لَهُ حِين وَغَايَة فَهُوَ موقت، وَوَقته ليَوْم كَذَا أَي أَجله وَفِي (الْمُحكم) : وَقت موقوت وموقت مَحْدُود. وَفِي (نَوَادِر الهجري) ، قَالَ القردي: أيقتوا موقتا آتيكم فِيهِ
ثمَّ قَوْله: كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَبعده الْبَسْمَلَة، ولرفيقيه الْبَسْمَلَة مُقَدّمَة وَبعدهَا بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة وفضلها، وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، لَكِن بِلَا بَسْمَلَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لَكِن بِلَا: بَاب.

1 - (بابُ مَوَاقِيتِ الصلاَةِ وفَضْلِهَا)

من الْعَادة المستمرة عِنْد المصنفين أَن يذكرُوا الْأَبْوَاب والفصول بعد لفظ: الْكتاب، فَإِن الْكتاب يَشْمَل الْأَبْوَاب والفصول، وَالْبَاب هُوَ النَّوْع، وَأَصله: البوب، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَيجمع على: أَبْوَاب، وَقد قَالُوا: أبوبة وَإِنَّمَا جمع فِي قَول الْقِتَال الْكلابِي:
(هتَّاك أخبية ولاَّج أبوبة)

للازدواج، وَلَو أفرده لم يجز، وَيُقَال: أَبْوَاب مبوبة كَمَا يُقَال أَصْنَاف مصنفة، والبابة: الْخصْلَة، والبابات: الْوُجُوه وَقَالَ ابْن السّكيت: البابة عِنْد الْعَرَب: الْوَجْه
وَقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاَةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابا مَوْقُوتا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ
(النِّسَاء: 103) .
(وَقَوله) ، مجرور عطفا على: مَوَاقِيت الصَّلَاة، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَوَاقِيت الصَّلَاة وَبَيَان قَوْله: {إنَّ الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} (النِّسَاء: 103) وَفسّر: موقوتا، بقوله: وقته عَلَيْهِم، اي: وَقت الله تَعَالَى الْكتاب، أَي: الْمَكْتُوب الَّذِي هُوَ الصَّلَاة عَلَيْهِم، أَي: على الْمُسلمين، وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لوُجُود الْقَرِينَة، وَوَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات: موقوتا موقتا وقته عَلَيْهِم، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: موقتا، يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ وَاسْتشْكل ابْن التِّين تَشْدِيد الْقَاف من: وقته، وَقَالَ: الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة التَّخْفِيف. قلت:

(5/2)


لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال لِأَنَّهُ جَاءَ فِي اللُّغَة: وقته، بِالتَّخْفِيفِ و: وقته، بِالتَّشْدِيدِ فَكَأَنَّهُ مَا اطلع على مَا فِي (الْمُحكم) وَغَيره. . وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بقوله: موقتا، بَيَان قَوْله: موقوتا. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ لَيْسَ فِي لفظ: موقوتا، إِبْهَام حَتَّى يُبينهُ بقوله: موقتا، وَعَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله: موقوتا، يَعْنِي مَفْرُوضًا وَقيل: يَعْنِي محدودا.

521 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسلَمَةَ قالَ قَرَأْتُ علَى مالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيزِ أخَّرَّ الصَّلاَةَ يَوْما فَدَخَلَ عليهِ عُرْوَةَ بنُ الزُّبَيْرِ فأخْبَرَهُ أنَّ الْمُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ أخَّرَّ الصَّلاَةَ يَوْما وَهْوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَليْهِ أبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ فقالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ ألَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ جبْرِيلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَزَلَ فَصلَّى فَصَلَّى رَسُولُ الله ثُمَّ صلى فصلى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ صلَّى فصلَّى رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثُمَّ صلَّى فَصَلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ صَلَّى فَصلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قالَ بِهاذَا أُمِرْتُ فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أوَ إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أقَامَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقْتَ الصَّلاَةِ قَالَ عُرْوَة كذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بنُ أبي مسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَن أبِيهِ.

522 - قَالَ عُرْوَةُ وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عائِشَةُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصلِّي العَصْرَ والشمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أنْ تَظْهَرَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، نزل فصلى) إِلَى آخِره، وَهِي خمس مَرَّات، فَدلَّ أَن الصَّلَاة موقتة بِخَمْسَة أَوْقَات. فَإِن قلت: إِن الحَدِيث لَا يدل إلاَّ على عدد الصَّلَاة، لِأَنَّهُ لم يذكر الْأَوْقَات. قلت: وُقُوع الصَّلَاة خمس مَرَّات يسْتَلْزم كَون الْأَوْقَات خَمْسَة، وَاقْتصر أَبُو مَسْعُود على ذكر الْعدَد، لِأَن الْوَقْت كَانَ مَعْلُوما عِنْد الْمُخَاطب.
ذكر رِجَاله الْمَذْكُورين فِيهِ تِسْعَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، أَمِير الْمُؤمنِينَ من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام. السَّادِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة الصَّحَابِيّ. السَّابِع: أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، واسْمه: عقبَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة الخزرجي الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّامِن: ابْنه بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: التَّابِعِيّ الْجَلِيل. التَّاسِع: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي. وَفِيه: الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَفِيه: مَا قَالَ ابْن عبد الْبر وَهُوَ أَن هَذَا السِّيَاق مُنْقَطع عِنْد جمَاعَة من الْعلمَاء، لِأَن ابْن شهَاب لم يقل: حضرت مُرَاجعَة عُرْوَة لعمر بن عبد الْعَزِيز، وَعُرْوَة لم يقل: حَدثنِي بشير، لَكِن الِاعْتِبَار عِنْد الْجُمْهُور بِثُبُوت اللِّقَاء والمجالسة، لَا بالصيغ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الطَّرِيق لَيْسَ بِمُتَّصِل الْإِسْنَاد، إِذْ لم يقل أَبُو مَسْعُود: شاهدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة اللَّيْث عِنْد المُصَنّف تزيل الْإِشْكَال كُله، وَلَفظه: قَالَ عُرْوَة: سَمِعت بشير بن أبي مَسْعُود، يَقُول: سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: فَذكر الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن شهَاب قَالَ: كُنَّا مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَذكره، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: سَمِعت عُرْوَة يحدث أَن عمر بن عبد الْعَزِيز ... الحَدِيث. انْتهى. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل: رِوَايَة اللَّيْث عِنْد المُصَنّف تزيل الْإِشْكَال كُله ... الخ، غير مُسلم فِي الرِّوَايَة الَّتِي هَهُنَا لِأَنَّهَا غير مُتَّصِلَة الْإِسْنَاد بِالنّظرِ إِلَى الظَّاهِر، وَإِن كَانَت فِي نفس الْأَمر مُتَّصِلَة الْإِسْنَاد، وَكَلَام الْكرْمَانِي بِحَسب الظَّاهِر، وَإِن كَانَ الْإِسْنَاد فِي نفس الْأَمر مُتَّصِلا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن

(5/3)


اللَّيْث بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن ابْن وهب عَن أُسَامَة بن زيد عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أخر الصَّلَاة يَوْمًا) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق: (أخر الْعَصْر يَوْمًا) . وَقَوله: (يَوْمًا) بالتنكير ليدل على التقليل، وَمرَاده يَوْمًا مَا، لَا أَن ذَلِك كَانَ سجيته، كَمَا كَانَت مُلُوك بني أُميَّة تفعل، لَا سِيمَا الْعَصْر، فقد كَانَ الْوَلِيد ابْن عتبَة يؤخرها فِي زمن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ ابْن مَسْعُود يُنكر عَلَيْهِ، وَقَالَ عَطاء: أخر الْوَلِيد مرّة الْجُمُعَة حَتَّى أَمْسَى، وَكَذَا كَانَ الْحجَّاج يفعل، وَأما عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ أَخّرهَا عَن الْوَقْت الْمُسْتَحبّ المرغب فِيهِ، لَا عَن الْوَقْت، وَلَا يعْتَقد ذَلِك فِيهِ لجلالته وإنكاره عُرْوَة عَلَيْهِ إِنَّمَا وَقع لتَركه الْوَقْت الْفَاضِل الَّذِي صلى فِيهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؛ وَقَالَ ابْن عبد الْبر، المُرَاد أَنه أَخّرهَا حَتَّى خرج الْوَقْت الْمُسْتَحبّ لَا أَنه أَخّرهَا حَتَّى غربت الشَّمْس. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق يزِيد بن أبي حبيب عَن أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ عَن ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: (دَعَا الْمُؤَذّن لصَلَاة الْعَصْر فأمسى عمر بن عبد الْعَزِيز قبل أَن يُصليهَا) . قلت: مَعْنَاهُ أَنه قَارب الْمسَاء لَا أَنه دخل فِيهِ. قَوْله: (وَهُوَ بالعراق) جملَة أسمية وَقعت حَالا عَن الْمُغيرَة، وَأَرَادَ بِهِ: عراق الْعَرَب، وَهُوَ من عبادان إِلَى الْموصل طولا وَمن الْقَادِسِيَّة إِلَى حلوان عرضا. وَفِي رِوَايَة القعْنبِي وَغَيره، عَن مَالك: وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة عَن القعْنبِي، والكوفة من جملَة عراق الْعَرَب، وَكَانَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة إِذْ ذَاك أَمِيرا على الْكُوفَة من قبل مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (فَقَالَ: مَا هَذَا؟) أَي: التَّأْخِير. قَوْله: (أَلَيْسَ قد علمت؟) الرِّوَايَة وَقعت كَذَا: أَلَيْسَ، وَكَانَ مُقْتَضى الْكَلَام: أَلَسْت، بِالْخِطَابِ. قَالَ الْقشيرِي: قَالَ بعض فضلاء الْأَدَب: كَذَا الرِّوَايَة وَهِي جَائِزَة، إلاَّ أَن الْمَشْهُور فِي الِاسْتِعْمَال: أَلَسْت، يَعْنِي بِالْخِطَابِ، وَقَالَ عِيَاض: يدل ظَاهر قَوْله: قد علمت على علم الْمُغيرَة بذلك، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك على سَبِيل الظَّن من أبي مَسْعُود لعلمه بِصُحْبَة الْمُغيرَة. قلت: لأجل ذَلِك ذكره بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام فِي قَوْله: أَلَيْسَ، وَلَكِن يُؤَيّد الْوَجْه الأول رِوَايَة شُعَيْب عَن ابْن شهَاب عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا فِي غَزْوَة بدر بِلَفْظ: فَقَالَ لقد علمت، بِغَيْر حرف الِاسْتِفْهَام، وَنَحْوه عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر وَابْن جريج جَمِيعًا. قَوْله: (إِن جِبْرِيل نزل) بيّن ابْن اسحاق فِي الْمَغَازِي أَن ذَلِك كَانَ صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي فرضت فِيهَا الصَّلَاة، وَهِي لَيْلَة الْإِسْرَاء. قَوْله: (فصلى فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الْكَلَام هُنَا فِي موضِعين: أَحدهمَا فِي كلمة: (ثمَّ صلى فصلى) ، وَالْآخر فِي كلمة: الْفَاء، أما الأول: فقد قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: قَالَ فِي صَلَاة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (ثمَّ صلى) بِلَفْظ: ثمَّ، وَفِي صَلَاة الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فصلى بِالْفَاءِ؟ قلت: لِأَن صَلَاة الرَّسُول كَانَت متعقبة لصَلَاة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِخِلَاف صلَاته، فَإِن بَين كل صَلَاتَيْنِ زَمَانا، فَنَاسَبَ كلمة التَّرَاخِي. وَأما الثَّانِي: فقد قَالَ عِيَاض: ظَاهره أَن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت بعد فرَاغ صَلَاة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَكِن الْمَنْصُوص فِي غَيره أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أمَّ النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيحمل قَوْله: (صلى فصلى) ، على أَن جِبْرِيل كَانَ كلما فعل جزأً من الصَّلَاة تَابعه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَفعله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: صلى فصلى، مكررا هَكَذَا خمس مَرَّات، مَعْنَاهُ أَنه كلما فعل جزأً من أَجزَاء الصَّلَاة فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى تكاملت صلاتهما. انْتهى. قلت: مبْنى كَلَام عِيَاض على أَن الْفَاء، فِي الأَصْل للتعقيب، فَدلَّ على أَن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت عقيب فرَاغ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من صلَاته. وَحَاصِل جَوَابه أَنه جعل: الْفَاء، على أَصله وأوله بالتأويل الْمَذْكُور. وَبَعْضهمْ ذهب إِلَى أَن: الْفَاء، هُنَا بِمَعْنى: الْوَاو، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ائتم بِجِبْرِيل يجب أَن يكون مُصَليا مَعَه لَا بعده. وَإِذا حملت: الْفَاء، على حَقِيقَتهَا وَجب أَن لَا يكون مُصَليا مَعَه، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن: الْفَاء، إِذا كَانَ بِمَعْنى الْوَاو، يحْتَمل أَن يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى قبل جِبْرِيل، لِأَن: الْوَاو، لمُطلق الْجمع، و: الْفَاء، لَا تحْتَمل ذَلِك قلت: فجيء: الْفَاء، بِمَعْنى: الْوَاو، لَا يُنكر كَمَا فِي قَوْله:
(بَين الدُّخُول فحومل)

فَإِن: الْفَاء، فِيهِ بِمَعْنى: الْوَاو، وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذكره الْمُعْتَرض يدْفع بِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، هُنَا مُبين لهيئة الصَّلَاة الَّتِي فرضت لَيْلَة الْإِسْرَاء، فَلَا يُمكن أَن تكون صلَاته بعد صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وإلاَّ لَا يبْقى لصَلَاة جِبْرِيل فَائِدَة. وَيُمكن أَن تكون: الْفَاء، هُنَا للسَّبَبِيَّة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 15) قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بأَدَاء الصَّلَاة فِي هَذِه الْأَوْقَات. قَوْله: (أمرت، رُوِيَ بِضَم التَّاء وَفتحهَا، وعَلى الْوَجْهَيْنِ هُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: نزل جِبْرِيل،

(5/4)


عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا مُكَلّفا بتعليم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بِأَصْل الصَّلَاة، وَأقوى الرِّوَايَتَيْنِ فتح التَّاء، يَعْنِي: أَن الَّذِي أمرت بِهِ من الصَّلَاة البارحة مُجملا، هَذَا تَفْسِيره الْيَوْم مفصلا. قلت: فعلى هَذَا الْوَجْه يكون الْخطاب من جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما وَجه الضَّم: فَهُوَ أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يخبر عَن نَفسه أَنه أَمر بِهِ هَكَذَا، فعلى الْوَجْهَيْنِ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي قَوْله: ثمَّ قَالَ: يرجع إِلَى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمن قَالَ فِي وَجه الضَّم: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر عَن نَفسه أَنه أَمر بِهِ، هَكَذَا، وَأَن الضَّمِير فِي: قَالَ، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقدأُبعد، وَإِن كَانَ التَّرْكِيب يَقْتَضِي هَذَا أَيْضا. قَوْله: (إعلم مَا تحدث بِهِ) ، بِصِيغَة الْأَمر، تَنْبِيه من عمر بن عبد الْعَزِيز لعروة على إِنْكَاره إِيَّاه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره الْإِنْكَار لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده خبر من إِمَامَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِمَّا لِأَنَّهُ لم يبلغهُ، أَو بلغه فنسيه، وَالْأولَى عِنْدِي أَن حجَّة عُرْوَة عَلَيْهِ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا رَوَاهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكر لَهُ حَدِيث جِبْرِيل موطئا لَهُ ومعلما لَهُ بِأَن الْأَوْقَات (إِنَّمَا ثَبت أَصْلهَا بإيقاف جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهَا. قَوْله: (أَو أَن جِبْرِيل) قَالَ السفاقسي: الْهمزَة حرف الِاسْتِفْهَام دخلت على: الْوَاو، فَكَانَ ذَلِك تَقْديرا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْوَاو، مَفْتُوحَة، وَأَن هَهُنَا تفتح وتكسر، وَقَالَ صَاحب (الاقتضاب) كسر الْهمزَة أظهر لِأَنَّهُ اسْتِفْهَام مُسْتَأْنف إلاَّ أَنه ورد: بِالْوَاو، وَالْفَتْح على تَقْدِير: أَو علمت أَو حدثت أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نزل؟ قلت: لم يذكر أحد مِنْهُم أنَّ: الْوَاو، أَي: وَاو هِيَ، وَهِي: وَاو، الْعَطف على مَا ذكره بَعضهم، وَلكنه قَالَ: والعطف على شَيْء مُقَدّر، وَلم يبين مَا هُوَ الْمُقدر. قَوْله: (وَقت الصَّلَاة) بإفراد الْوَقْت فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وقوت الصَّلَاة، بِلَفْظ الْجمع. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا إِمَّا مقول ابْن شهَاب أَو تَعْلِيق من البُخَارِيّ. قلت: فَكيف يكون تَعْلِيقا وَقد ذكره مُسْندًا عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب وَقت الْعَصْر، فَحِينَئِذٍ يكون مقول ابْن شهَاب؟ قَوْله: (فِي حُجْرَتهَا) ، قَالَ ابْن سَيّده: الْحُجْرَة من الْبيُوت مَعْرُوفَة، وَقد سميت بذلك لمنعها الدَّاخِل من الْوُصُول إِلَيْهَا، يُقَال: استحجر الْقَوْم واحتجروا: اتَّخذُوا حجرَة، وَفِي (الْمُنْتَهى) و (الصِّحَاح) : الْحُجْرَة حَظِيرَة الْإِبِل، وَمِنْه حجرَة الدَّار. تَقول: احتجرت حجرَة أَي: اتخذتها، وَالْجمع: حجر مثل غرفَة وغرف وحجرات بِضَم الْجِيم. قَوْله: (أَن تظهر) ذكر فِي (الموعب) : يُقَال: ظهر فلَان السَّطْح إِذا علاهُ، وَعَن الزّجاج فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَطَاعُوا أَن يظهروه} (الْكَهْف: 97) أَي: مَا قدرُوا أَن يعلوا عَلَيْهِ لارتفاعه وإملاسه، وَفِي (الْمُنْتَهى) : ظَهرت الْبَيْت علوته، وأظهرت بفلان: أعليت بِهِ، وَفِي كتاب ابْن التِّين وَغَيره: ظهر الرجل فَوق السَّطْح إِذا علا فَوْقه، قيل: وَإِنَّمَا قيل لَهُ كَذَلِك لِأَنَّهُ إِذا علا فَوْقه فقد ظهر شخصه لمن تَأمله، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن يخرج الظل من قاعة حُجْرَتهَا فَيذْهب، وكل شَيْء خرج فقد ظهر، وَالتَّفْسِير الأول أقرب وأليق بِظَاهِر الحَدِيث، لِأَن الضَّمِير فِي قَوْله: (تظهر) إِنَّمَا هُوَ رَاجع إِلَى: الشَّمْس، وَلم يتَقَدَّم للظل ذكر فِي الحَدِيث، وسنستوفي الْكَلَام فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن قريب فِي بَاب وَقت الْعَصْر، إِن شَاءَ الله.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ دَلِيل على أَن وَقت الصَّلَاة من فرائضها وَأَنَّهَا لَا تجزي، قبل وَقتهَا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء إلاَّ شَيْء رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَعَن بعض التَّابِعين: أجمع الْعلمَاء على خِلَافه وَلَا وَجه لذكره هَهُنَا لِأَنَّهُ لَا يَصح عَنْهُم وَصَحَّ عَن أبي مُوسَى خِلَافه مِمَّا وَافق الْجَمَاعَة فَصَارَ اتِّفَاقًا صَحِيحا. الثَّانِي: فِيهِ الْمُبَادرَة بِالصَّلَاةِ فِي أول وَقتهَا وَهَذَا هُوَ الأَصْل وَأَن رُوِيَ: الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ والإسفار بِالْفَجْرِ بالأحاديث الصَّحِيحَة. الثَّالِث: فِيهِ دُخُول الْعلمَاء على الْأُمَرَاء وإنكارهم عَلَيْهِم مَا يُخَالف السّنة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز مُرَاجعَة الْعَالم لطلب الْبَيَان وَالرُّجُوع عِنْد التَّنَازُع إِلَى السّنة. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْحجَّة فِي الحَدِيث الْمسند دون الْمَقْطُوع، وَلذَلِك لم يقنع عمر بِهِ، فَلَمَّا أسْند إِلَى بشير بن أبي مَسْعُود قنع بِهِ. السَّادِس: اسْتدلَّ بِهِ قوم مِنْهُم ابْن الْعَرَبِيّ على جَوَاز صَلَاة المفترض خلف المتنفل من جِهَة أَن الْمَلَائِكَة لَيْسُوا مكلفين بِمثل مَا كلف بِهِ الْإِنْس قلت: هَذَا اسْتِدْلَال غير صَحِيح، لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ مُكَلّفا بتبليغ تِلْكَ الصَّلَاة وَلم يكن متنفلاً، فَتكون صَلَاة مفترض خلف مفترض. وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَن لَا تكون تِلْكَ الصَّلَاة وَاجِبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ، ورد بِأَنَّهَا كَانَت صَبِيحَة لَيْلَة فرض الصَّلَاة، وَاعْترض عَلَيْهِ بِاحْتِمَال

(5/5)


أَن الْوُجُوب عَلَيْهِ كَانَ مُعَلّقا بِالْبَيَانِ، فَلم يتَحَقَّق الْوُجُوب إِلَّا بعد تِلْكَ الصَّلَاة. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْبُنيان، وَلَكِن يَنْبَغِي الِاقْتِصَار فِيهِ، أَلا ترى أَن جِدَار الْحُجْرَة كَانَ قَصِيرا؟ . قَالَ الْحسن: كنت أَدخل فِي بيُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا محتلم وَأَنا أسقفها بيَدي. الثَّامِن: اسْتدلَّ بِهِ من يرى جَوَاز الائتمام بِمن يأتم بِغَيْرِهِ، وَالْجَوَاب عَنهُ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ مبلغا فَقَط كَمَا فِي قصَّة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي صلَاته خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصَلَاة النَّاس خَلفه. وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي أَبْوَاب الْإِمَامَة. التَّاسِع: فِيهِ فَضِيلَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْعَاشِر: فِيهِ: مَا قَالَ ابْن بطال فِيهِ دَلِيل على ضعف الحَدِيث الْوَارِد فِي أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أم بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي يَوْمَيْنِ لوقتين مُخْتَلفين لكل صَلَاة، قَالَ: لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لم يُنكر عُرْوَة على عمر صلَاته فِي آخر الْوَقْت، محتجا بِصَلَاة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَعَ أَن جِبْرِيل قد صلى فِي الْيَوْم الثَّانِي فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ: الْوَقْت مَا بَين هذَيْن. وَأجِيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن تكون صَلَاة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَت خرجت عَن وَقت الِاخْتِيَار وَهُوَ مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ لَا عَن وَقت الْجَوَاز وَهُوَ مغيب الشَّمْس، فَحِينَئِذٍ يتَّجه إِنْكَار عُرْوَة، وَلَا يلْزم مِنْهُ ضعف الحَدِيث أَو يكون إِنْكَار عُرْوَة لأجل مُخَالفَة عمر مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، وَرَأى أَن الصَّلَاة بعد ذَلِك إِنَّمَا هِيَ لبَيَان الْجَوَاز فَلَا يلْزم مِنْهُ ضعف الحَدِيث أَيْضا. وَفِي قَوْله: مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت نظر لَا يخفى. فَإِن قلت: ذكر حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد ذكر حَدِيث أبي مَسْعُود مَا وَجهه؟ قلت: لِأَن عُرْوَة احْتج بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا، وَهِي الصَّلَاة الَّتِي وَقع الْإِنْكَار بِسَبَبِهَا، وَبِذَلِك تظهر مُنَاسبَة ذكره بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد حَدِيث أبي مَسْعُود، لِأَن حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، يشْعر بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر فِي أول الْوَقْت، وَحَدِيث أبي مَسْعُود يشْعر بِأَن أصل بَيَان الْأَوْقَات كَانَ بتعليم جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: مَا معنى قَوْلهَا: قبل أَن تظهر؟ وَالشَّمْس ظَاهِرَة على كل شَيْء من أول طُلُوعهَا إِلَى غُرُوبهَا؟ قلت: إِنَّهَا أَرَادَت: والفيء فِي حُجْرَتهَا. قبل أَن يَعْلُو على الْبيُوت، فَكَنَتْ بالشمس عَن الْفَيْء، لِأَن الْفَيْء عَن الشَّمْس، كَمَا سمي الْمَطَر: سَمَاء، لِأَنَّهُ من السَّمَاء ينزل. ألاَ تَرى أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة: لم يظْهر الْفَيْء من حُجْرَتهَا. وَفِي لفظ: (وَالشَّمْس طالعة فِي حُجْرَتي) . فَافْهَم.

2 - (بابٌ قَوْلُ الله تَعَالَى {مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الرّوم: 31)

أَي: هَذَا بَاب، فباب: بِالتَّنْوِينِ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب قَوْله تَعَالَى، بِالْإِضَافَة، ثمَّ الْكَلَام فِي هَذِه الْآيَة على أَنْوَاع:
الأول: أَن هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة الرّوم وَقبلهَا قَوْله تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطرت الله} (الرّوم: 30) الْآيَة.
الثَّانِي: فِي مَعْنَاهَا وإعرابها، فَقَوله: {فأقم وَجهك للدّين} (الرّوم: 30) أَي: قوم وَجهك لَهُ غير ملتفت يَمِينا وَشمَالًا، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَعَن الضَّحَّاك والكلبي: أَي: أقِم عَمَلك. قَوْله: {حَنِيفا} (الرّوم: 30) أَي: مُسلما، قَالَه الضَّحَّاك. وَقيل: مخلصا، وانتصابه على الْحَال من الدّين. قَوْله: {فطرت الله} (الرّوم: 30) أَي: وَعَلَيْكُم فطْرَة الله أَي: الزموا فطْرَة الله، وَهِي الْإِسْلَام. وَقيل: عهد الله فِي الْمِيثَاق. قَوْله: {منيبين} (الرّوم: 30) نصب على الْحَال من الْمُقدر، وَهُوَ: إلزموا فطْرَة الله، مَعْنَاهُ: منقلبين، واشتقاقه من: نَاب يَنُوب، إِذا رَجَعَ، وَعَن قَتَادَة: مَعْنَاهُ: تَائِبين، وَعَن ابْن زيد مَعْنَاهُ مُطِيعِينَ، والإنابة الِانْقِطَاع إِلَى الله بالإنابة أَي: الرُّجُوع عَن كل شَيْء.
الثَّالِث: فِي بَيَان وَجه عطف قَوْله: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} (الرّوم: 31) هُوَ الْإِعْلَام بِأَن الصَّلَاة من جملَة مَا يَسْتَقِيم بِهِ الْإِيمَان لِأَنَّهَا عماد الدّين، فَمن أَقَامَهَا فقد أَقَامَ الدّين، وَمن تَركهَا فقد هدم الدّين.

523 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا عَبَّادٌ هُوَ ابنُ عَبَّادٍ عنْ أبي جَمْرَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ قدِمَ وَفْدُ عبْدٍ القَيْسِ علَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا إنَّا مِنْ هاذَا الحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ وَلَسْنَانَصلُ إلَيْكَ إلاَّ فِي الشهْرِ الحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيءٍ نَأخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُوا إلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا فقالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وأنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَعٍ الإيمَانُ بِاللَّه ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ الله وأنِّي رسُولُ الله وإقامُ

(5/6)


الصَّلاَةِ وإيتَاءُ الزَّكاةِ وأَنْ تُؤَدُّوا إلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَى عنِ الدُّبَّاءِ والحنتم وَالمُقَيَّرِ والنَّقِيرِ.

مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة اقتران نفي الشّرك بِإِقَامَة الصَّلَاة، وَفِي الحَدِيث: اقتران إِثْبَات التَّوْحِيد بإقامتها؟ فَإِن قلت: كَيفَ الْمُنَاسبَة بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات؟ قلت: من جِهَة التضاد لِأَن ذكر أحد المتضادين فِي مُقَابلَة الآخر يعد مُنَاسبَة من هَذِه الْجِهَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: قُتَيْبَة، وَعباد بن عباد المهلبي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وَالرَّاء واسْمه: نصر بن عمرَان، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، لِأَن هَذَا الحَدِيث ذكر فِيهِ لكنه رَوَاهُ هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، قَالَ: (كنت أقعد مَعَ ابْن عَبَّاس فيجلسني على سَرِيره، فَقَالَ: أقِم عِنْدِي حَتَّى أجعَل لَك سَهْما من مَالِي، فأقمت مَعَه شَهْرَيْن، ثمَّ قَالَ: إِن وَفد عبد الْقَيْس) الحَدِيث، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث فِي عشرَة مَوَاضِع وَذكرنَا أَيْضا من أخرجه غَيره.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: عباد وَهُوَ ابْن عباد، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة غَيره عباد هُوَ ابْن عباد بِدُونِ: الْوَاو. وَفِيه: من وَافق اسْمه اسْم أَبِيه. وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغلاني، وبغلان قَرْيَة من بَلخ، وَهُوَ: قُتَيْبَة. وبصري وَهُوَ: عباد، وَأَبُو جَمْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ مُخْتَصرا: قَوْله: (إِن وَفد عبد الْقَيْس) ، الْوَفْد: قوم يَجْتَمعُونَ فيردون الْبِلَاد، وَقَالَ القَاضِي: هم الْقَوْم يأْتونَ الْملك ركبا، وَهُوَ اسْم الْجمع، وَعبد الْقَيْس: أَبُو قَبيلَة، وَهُوَ ابْن أفصى، بِالْفَاءِ: ابْن دعمى، بِالضَّمِّ: ابْن جديلة بن اسد بن ربيعَة بن نذار. قَوْله: (إِنَّا هَذَا الْحَيّ) بِالنّصب على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (من الربيعة خبرلان وَرَبِيعَة هُوَ ابْن نزار بن معد بن عدنان وانما قَالُوا ربيعَة لَان عبد الْقَيْس من اولاده قَوْله (إلاَّ فِي الشَّهْر الْحَرَام) ، المُرَاد بِهِ الْجِنْس، فَيتَنَاوَل الْأَشْهر الْحرم الْأَرْبَعَة: رَجَب، وَذَا الْقعدَة وَذَا الْحجَّة وَالْمحرم. قَوْله: (تَأْخُذهُ) ، بِالرَّفْع على أَنه اسْتِئْنَاف، وَلَيْسَ جَوَابا لِلْأَمْرِ بِقَرِينَة عطف نَدْعُو عَلَيْهِ مَرْفُوعا. قَوْله: (من وَرَاءَنَا) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: نَدْعُو. قَوْله: (ثمَّ فَسرهَا) ، إِنَّمَا أَنْت الضَّمِير نظرا إِلَى أَن المُرَاد من الْإِيمَان الشَّهَادَة وَإِلَى أَنه خصْلَة، إِذا التَّقْدِير: آمركُم بِأَرْبَع خِصَال. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الصَّوْم هَهُنَا؟ مَعَ أَنه ذكر فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان حَيْثُ قَالَ: (وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصِيَام رَمَضَان)) ، وَالْحَال أَن الصَّوْم كَانَ وَاجِبا حينئذٍ لِأَن وفادتهم كَانَت عَام الْفَتْح، وَإِيجَاب الصَّوْم فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة. قلت: قَالَ ابْن الصّلاح: وَأما عدم ذكر الصَّوْم فِيهِ فَهُوَ إغفال من الرَّاوِي وَلَيْسَ من الِاخْتِلَاف الصَّادِر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (الدُّبَّاء) ، بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد، وَقد تقصر وَقد تكسر الدَّال: وَهُوَ اليقطين الْيَابِس، وَهُوَ جمع، والواحدة: دباءة، وَمن قصر قَالَ: دباة و: (الحنتم) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهِي الجرار الْخضر تضرب الى الْحمرَة، و: (النقير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف، وَهُوَ جذع ينقر وَسطه وينبذ فِيهِ، و: (المقير) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ المطلى بالقار، وَهُوَ الزفت وَفِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان: الحنتم والدباء والنقير والمزفت، وَرُبمَا قَالَ: المقير.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة نَهْيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الظروف الْمَذْكُورَة وَأمره بأَدَاء الْخمس بمقارنة أمره بِالْإِيمَان وَمَا ذكره مَعَه قلت كَانَ هَؤُلَاءِ الْوَفْد يكثرون الانتباذ فِي الظروف الْمَذْكُورَة فعرفهم مَا يهمهم، ويخشى مِنْهُم مواقعته، وَكَذَلِكَ كَانَ يخْشَى مِنْهُم الْغلُول فِي الْفَيْء فَلذَلِك نَص عَلَيْهِ.

3 - (بابُ البَيْعَةِ عَلَى إقَامَةِ الصَّلاَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبيعَة على إِقَامَة الصَّلَاة. وَقَوله: (إِقَامَة الصَّلَاة) بِالتَّاءِ رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا بَاب الْبيعَة على إقَام الصَّلَاة، بِدُونِ: التَّاء، وَهُوَ الأَصْل. والبيعة: هُوَ الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْبيعَة عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره.

524 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدَّثنا قَيْسٌ عنْ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ بايَعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى إقَامِ الصَّلاَة وَإيتَاءِ الزَّكاةِ

(5/7)


والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث يشْتَمل على ثَلَاثَة أَشْيَاء، والترجمة على الْجُزْء الأول مِنْهَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة، تقدم، وَيحيى هُوَ الْقطَّان. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد. وَقيس ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مَعَ هَذَا الاسناد، غير مُحَمَّد بن الْمثنى، قد مضى فِي بَاب قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ فِي آخر كتاب الْإِيمَان، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بلطائف الْإِسْنَاد، وَمعنى الحَدِيث وَغير ذَلِك مُسْتَوفى مستقصىً.

4 - (بابٌ الصَّلاَةُ كَفَّارَةٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّلَاة كَفَّارَة، هَكَذَا: الصَّلَاة كَفَّارَة، فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بَاب تَكْفِير الصَّلَاة الْكَفَّارَة عبارَة عَن الفعلة والخصلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة أَي: تسترها وتمحوها، وَهِي على وزن: فعالة بِالتَّشْدِيدِ للْمُبَالَغَة، كقتالة وضرابة، وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة فِي بَاب الإسمية، واشتقاقها من الْكفْر بِالْفَتْح وَهُوَ تَغْطِيَة الشَّيْء بالاستهلاك، والتكفير مصدر من: كفر، بِالتَّشْدِيدِ.
4 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن الْأَعْمَش قَالَ حَدثنِي شَقِيق قَالَ سَمِعت حُذَيْفَة قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ أَيّكُم يحفظ قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْفِتْنَة قلت أَنا كَمَا قَالَه قَالَ إِنَّك عَلَيْهِ أَو عَلَيْهَا لجريء قلت فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله وَولده وجاره تكفرها الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْأَمر وَالنَّهْي قَالَ لَيْسَ هَذَا أُرِيد وَلَكِن الْفِتْنَة الَّتِي تموج كَمَا يموج الْبَحْر قَالَ لَيْسَ عَلَيْك مِنْهَا بَأْس يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن بَيْنك وَبَينهَا بَابا مغلقا قَالَ أيكسر أم يفتح قَالَ يكسر قَالَ إِذا لَا يغلق أبدا قُلْنَا أَكَانَ عمر يعلم الْبَاب قَالَ نعم كَمَا أَن دون الْغَد اللَّيْلَة إِنِّي حدثته بِحَدِيث لَيْسَ بالأغاليط فهبنا أَن نسْأَل حُذَيْفَة فَأمرنَا مسروقا فَسَأَلَهُ فَقَالَ الْبَاب عمر) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " تكفرها الصَّلَاة " (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي يحيى الْقطَّان. الثَّالِث سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي أَبُو وَائِل الْكُوفِي. الْخَامِس حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه حَدثنِي حُذَيْفَة رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره سَمِعت حُذَيْفَة وَفِيه بصريان وهما مُسَدّد وَيحيى وكوفيان الْأَعْمَش وشقيق (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن جرير وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن عمر بن حَفْص قَالَه الْمزي فِي الْأَطْرَاف وَهُوَ وهم وَإِنَّمَا أخرجه عَن عمر بن حَفْص فِي الْفِتَن وَفِي الصَّوْم عَن عَليّ بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن ابْن نمير وَأبي بكر كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة قَالَه الْمزي وَهُوَ وهم وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن ابْن نمير وَأبي كريب وَمُحَمّد بن الْمثنى ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة فَوَهم فِي ذكره لأبي بكر وَفِي إِسْقَاطه لِابْنِ الْمثنى وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن أَيْضا عَن مَحْمُود بن غيلَان وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ أَيْضا عَن ابْن نمير عَن أَبِيه وَأبي مُعَاوِيَة كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش

(5/8)


(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " كُنَّا جُلُوسًا " أَي جالسين قَوْله " فِي الْفِتْنَة " وَهِي الْخِبْرَة والإعجاب بالشَّيْء فتنه يفتنه فتنا وفتونا وأفتنه وأباها الْأَصْمَعِي وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ فتنه جعل فِيهِ فتْنَة وأفتنه أوصل الْفِتْنَة إِلَيْهِ قَالَ إِذا قَالَ أفتنته فقد تعرض الْفِتَن وَإِذا قَالَ فتنته فَلم يتَعَرَّض الْفِتَن وَحكى أَبُو زيد أفتن الرجل بِصِيغَة مَا لم يسم فَاعله أَي فتن والفتنة الضلال وَالْإِثْم وَفتن الرجل أماله عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} والفتنة الْكفْر قَالَ تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} والفتنة الفضيحة والفتنة الْعَذَاب والفتنة مَا يَقع بَين النَّاس من الْقِتَال ذكره ابْن سَيّده والفتنة البلية وأصل ذَلِك كُله من الاختبار وَأَنه من فتنت الذَّهَب فِي النَّار إِذا اختبرته وَفِي الغريبين الْفِتْنَة الغلو فِي التَّأْوِيل المظلم وَقَالَ ابْن طريف فتنته وأفتنته وَفتن بِكَسْر التَّاء فُتُونًا تحول من حسن إِلَى قَبِيح وَفتن إِلَى النِّسَاء وَفتن فِيهِنَّ أَرَادَ الْفُجُور بِهن وَفِي الجمهرة فتنت الرجل أفتنه وأفتنته إفتانا وَفِي الصِّحَاح قَالَ الْفراء أهل الْحجاز يَقُولُونَ (مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين) وَأهل نجد يَقُولُونَ بمفتنين من أفتنت وَزعم عِيَاض أَنَّهَا الِابْتِلَاء والامتحان قَالَ وَقد صَار فِي عرف الْكَلَام لكل أَمر كشفه الاختبار عَن سوء وَيكون فِي الْخَيْر وَالشَّر قَالَ تَعَالَى {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة} قَوْله " قلت أَنا كَمَا قَالَه " أَي أحفظ كَمَا قَالَه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) الْكَاف هَهُنَا لماذا وَهُوَ حَافظ لنَفس قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا كمثله (قلت) يجوز أَن تكون الْكَاف هُنَا للتَّعْلِيل لِأَنَّهَا اقترنت بِكَلِمَة مَا المصدرية أَي أحفظ لأجل حفظ كَلَامه وَيجوز أَن تكون للاستعلاء يَعْنِي أحفظ على مَا عَلَيْهِ قَوْله وَقَالَ الْكرْمَانِي لَعَلَّه نَقله بِالْمَعْنَى فاللفظ مثل لَفظه فِي أَدَاء ذَلِك الْمَعْنى (قلت) حَاصِل كَلَامه يؤول إِلَى معنى المثلية وَهُوَ فِي سُؤَاله نفي المثلية فَانْتفى بذلك أَن تكون الْكَاف للتشبيه وَقَالَ بَعضهم الْكَاف زَائِدَة (قلت) هَذَا أَخذه من الْكرْمَانِي وَلم يبين وَاحِد مِنْهُمَا أَن الْكَاف إِذا كَانَت زَائِدَة مَا تكون فَائِدَته (فَإِن قلت) لفظ أَنا مُفْرد وَهُوَ مقول قَوْله (قلت) وَقد علم أَن مقول القَوْل يكون جملَة (قلت) أَنا مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره أَنا أحفظ أَو أضبط أَو نَحْوهمَا قَوْله " عَلَيْهِ " أَي قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " أَو عَلَيْهَا " أَي أَو على مقَالَته وَالشَّكّ من حُذَيْفَة قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) يجوز أَن يكون مِمَّن دونه قَوْله " لجريء " خبر أَن فِي قَوْله " إِنَّك " وَاللَّام للتَّأْكِيد والجريء على وزن فعيل من الجراءة وَهِي الْإِقْدَام على الشَّيْء قَوْله " فتْنَة الرجل فِي أَهله " قَالَ ابْن بطال فتْنَة الرجل فِي أَهله أَن يَأْتِي من أَجلهم مَا لَا يحل لَهُ من القَوْل أَو الْعَمَل مِمَّا لم يبلغ كَبِيرَة وَقَالَ الْمُهلب يُرِيد مَا يعرض لَهُ مَعَهُنَّ من شَرّ أَو حزن أَو شُبْهَة قَوْله " وَمَاله " فتْنَة الرجل فِي مَاله أَن يَأْخُذهُ من غير مأخذه ويصرفه فِي غير مصرفه أَو التَّفْرِيط بِمَا يلْزمه من حُقُوق المَال فتكثر عَلَيْهِ المحاسبة قَوْله " وَولده " فتْنَة الرجل فِي وَلَده فرط محبتهم وشغله بهم عَن كثير من الْخَيْر أَو التوغل فِي الِاكْتِسَاب من أَجلهم من غير اكتراث من أَن يكون من حَلَال أَو حرَام قَوْله " وجاره " فتْنَة الرجل فِي جَاره أَن يتَمَنَّى أَن يكون حَاله مثل حَاله إِن كَانَ متسعا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة} قَوْله " تكفرها الصَّلَاة " أَي تكفر فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله وَولده وجاره أَدَاء الصَّلَاة قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} يَعْنِي الصَّلَوَات الْخمس إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر هَذَا قَول أَكثر الْمُفَسّرين وَقَالَ مُجَاهِد هِيَ قَول العَبْد سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَقَالَ ابْن عبد الْبر قَالَ بعض المنتسبين إِلَى الْعلم من أهل عصرنا أَن الْكَبَائِر والصغائر تكفرها الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَاسْتدلَّ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث وَبِحَدِيث الصنَابحِي " إِذا تَوَضَّأ خرجت الْخَطَايَا من فِيهِ " الحَدِيث وَقَالَ أَبُو عمر هَذَا جهل وموافقة للمرجئة وَكَيف يجوز أَن تحمل هَذِه الْأَخْبَار على عمومها وَهُوَ يسمع قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} فِي آي كثير فَلَو كَانَت الطَّهَارَة وَأَدَاء الصَّلَوَات وأعمال الْبر مكفرة لما احْتَاجَ إِلَى التَّوْبَة وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْأَمر وَالنَّهْي فَإِن الْمَعْنى أَنَّهَا تكفر إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر قَوْله " وَالْأَمر " أَي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة (فَإِن قلت) مَا النُّكْتَة فِي تعْيين هَذِه الْأَشْيَاء الْخَمْسَة (قلت) الْحُقُوق لما كَانَت فِي الْأَبدَان وَالْأَمْوَال والأقوال فَذكر من أَفعَال الْأَبدَان أَعْلَاهَا وَهُوَ الصَّلَاة وَالصَّوْم قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين} وَذكر من حُقُوق الْأَمْوَال أَعْلَاهَا وَهِي الصَّدَقَة وَمن الْأَقْوَال أَعْلَاهَا وَهِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر قَوْله " تموج " من ماج الْبَحْر أَي تضطرب وَيدْفَع بَعْضهَا بَعْضهَا لعظمها وَكلمَة مَا فِي كَمَا تموج مَصْدَرِيَّة أَي كموج الْبَحْر وَهُوَ تَشْبِيه غير بليغ قَوْله " قَالَ " أَي قَالَ حُذَيْفَة قَوْله " بَأْس " أَي شدَّة قَوْله

(5/9)


" لبابا " ويروى " بَابا " بِدُونِ اللَّام قَوْله " مغلقا " صفة الْبَاب قَالَ ثَعْلَب فِي الفصيح أغلقت الْبَاب فَهُوَ مغلق وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه والعامة تَقول غلقت بِغَيْر ألف وَهُوَ خطأ وَذكره أَبُو عَليّ الدينَوَرِي فِي بَاب مَا تحذف مِنْهُ الْعَامَّة الْألف وَقَالَ ابْن سَيّده فِي العويص والجوهري فِي الصِّحَاح فأغلقت قَالَ الْجَوْهَرِي وَهِي لُغَة رَدِيئَة متروكة وَقَالَ ابْن هِشَام فِي شَرحه الْأَفْصَح غلقت بِالتَّشْدِيدِ قَالَ الله تَعَالَى {وغلقت الْأَبْوَاب} وَفِيه نظر لِأَن غلقت مُشَدّدَة للتكثير قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره وَفِي الْمُحكم غلق الْبَاب وأغلقه وغلقه الأولى من ابْن دريرد عزاها إِلَى أبي زيد وَهِي نادرة وَالْمَقْصُود من هَذَا الْكَلَام أَن تِلْكَ الْفِتَن لَا يخرج مِنْهَا شَيْء فِي حياتك قَوْله " قَالَ أيكسر " أَي قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أيكسر هَذَا الْبَاب أم يفتح قَوْله " قَالَ يكسر " أَي قَالَ حُذَيْفَة يكسر قَوْله " قَالَ إِذا لَا يغلق أبدا " أَي قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا لَا يغلق أبدا هَذَا الْبَاب وَإِذا هُوَ جَوَاب وَجَزَاء أَي إِذا انْكَسَرَ لَا يغلق أبدا لِأَن المكسور لَا يُعَاد بِخِلَاف المفتوح وَالْكَسْر لَا يكون غَالِبا إِلَّا عَن إِكْرَاه وَغَلَبَة وَخلاف عَادَة وَلَفظ لَا يغلق رُوِيَ مَرْفُوعا ومنصوبا وَجه الرّفْع أَن يُقَال أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير الْبَاب إِذا لَا يغلق وَوجه النصب أَن لَا يقدر ذَلِك فَلَا يكون مَا بعده مُعْتَمدًا على مَا قبله وَالْحَاصِل أَنه فعل مُسْتَقْبل مَنْصُوب بِإِذن وَأذن تعْمل النصب فِي الْفِعْل الْمُسْتَقْبل بِثَلَاثَة أَشْيَاء وَهِي أَن يعْتَمد مَا قبلهَا على مَا بعْدهَا وَأَن يكون الْفِعْل فعل حَال وَأَن لَا يكون مَعهَا وَاو الْعَطف وَهَذِه الثَّلَاثَة مَعْدُومَة فِي النصب قَوْله " قُلْنَا " هُوَ مقول شَقِيق قَوْله " كَمَا أَن دون الْغَد اللَّيْلَة " أَي كَمَا يعلم أَن الْغَد أبعد منا من اللَّيْلَة يُقَال هُوَ دون ذَلِك أَي أقرب مِنْهُ قَوْله " إِنِّي حدثته " مقول حُذَيْفَة قَوْله " لَيْسَ بالأغاليط " جمع أغلوطة وَهِي مَا يغالط بهَا قَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ حدثته حَدِيثا صدقا محققا من أَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا من اجْتِهَاد رَأْي وَنَحْوه وغرضه أَن ذَلِك الْبَاب رجل يقتل أَو يَمُوت كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون حُذَيْفَة علم أَن عمر يقتل وَلكنه كره أَن يُخَاطب عمر بِالْقَتْلِ فَإِن عمر كَانَ يعلم أَنه هُوَ الْبَاب فَأتى بِعِبَارَة يحصل مِنْهَا الْغَرَض وَلَا يكون إِخْبَارًا صَرِيحًا بقتْله قَالَ وَالْحَاصِل أَن الْحَائِل بَين الْفِتْنَة وَالْإِسْلَام عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ الْبَاب فَمَا دَامَ عمر حَيا لَا تدخل الْفِتَن فِيهِ فَإِذا مَاتَ دخلت وَكَذَا كَانَ قَوْله " فهبنا " أَي خفنا من هاب وَهُوَ مقول شَقِيق أَيْضا قَوْله " مسروقا " هُوَ مَسْرُوق بن الأجدع وَقد تقدم ذكره قَوْله " فَقَالَ الْبَاب عمر " أَي قَالَ مَسْرُوق الْبَاب هُوَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (فَإِن قلت) قَالَ أَولا أَن بَيْنك وَبَينهَا بَابا فالباب يكون بَين عمر وَبَين الْفِتْنَة وَهنا يَقُول الْبَاب هُوَ عمر وَبَين الْكَلَامَيْنِ مُغَايرَة (قلت) لَا مُغَايرَة بَينهمَا لِأَن المُرَاد بقوله " بَيْنك وَبَينهَا " أَي بَين زَمَانك وَبَين زمَان الْفِتْنَة وجود حياتك وَقَالَ الْكرْمَانِي أَو المُرَاد بَين نَفسك وَبَين الْفِتْنَة بدنك إِذْ الرّوح غير الْبدن أَو بَين الْإِسْلَام والفتنة وَقَالَ أَيْضا (فَإِن قلت) من أَيْن علم حُذَيْفَة أَن الْبَاب عمر وَهل علم من هَذَا السِّيَاق أَنه مُسْند إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل كل مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب لم يسند مِنْهُ شَيْء إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) الْكل ظَاهر مُسْند إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَرِينَة السُّؤَال وَالْجَوَاب وَلِأَنَّهُ قَالَ حدثته بِحَدِيث وَلَفظ الحَدِيث الْمُطلق لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي حَدِيثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) كَيفَ سَأَلَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن الْفِتْنَة الَّتِي تَأتي بعده خوفًا أَن يُدْرِكهَا مَعَ علمه بِأَنَّهُ هُوَ الْبَاب (قلت) من شدَّة خَوفه خشى أَن يكون نسي فَسَأَلَ من يذكرهُ
526 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عنْ أبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ أنَّ رَجُلاً أصَابَ منَ امْرَأةٍ قُبْلَةً فَأتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {أقِمِ الصَّلاَةَ طرَفَيِ النَّهَارِ وزُلفا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) فقالَ الرَّجُلُ يَا رسولَ الله أَلِي هذَا قالَ لَجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ (الحَدِيث 526 طرفه فِي: 4687) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات) ، لِأَن المُرَاد من الْحَسَنَات: الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا أَقَامَهَا تكفر عَنهُ الذُّنُوب إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر، كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. وَالثَّانِي: يزِيد، من الزِّيَادَة: ابْن

(5/10)


زُرَيْع بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة. وَالثَّالِث: سُلَيْمَان بن طرخان أَبُو الْمُعْتَمِر، وَقد مر فِي بَاب من خص بِالْعلمِ. وَالرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل، بِكَسْر الْمِيم وَضمّهَا وَتَشْديد اللَّام: النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء وَكسر الدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى نهد بن زيد بن لَيْث بن أسلم، بِضَم اللَّام: ابْن الحاف بن قضاعة، أسلم على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه، وَلكنه أدّى إِلَيْهِ الصَّدقَات، عَاشَ نَحوا من مائَة وَثَلَاثِينَ سنة، وَمَات سنة خمس وَتِسْعين، وَأَنه كَانَ ليُصَلِّي حَتَّى يغشى عَلَيْهِ. وَالْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون مَا خلا قُتَيْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن قُتَيْبَة وَأبي كَامِل كِلَاهُمَا عَن يزِيد بن زُرَيْع وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر بن سلمَان وَعَن عُثْمَان بن جرير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَابْن أبي عدي وَعَن اسماعيل بن مَسْعُود عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن سُفْيَان بن وَكِيع وَفِي الزَّاهِد عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ: أَبُو الْيُسْر، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، وَقد صرح بِهِ التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته: حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أخبرنَا يزِيد بن هَارُون قَالَ: أخبرنَا قيس بن الرّبيع عَن عُثْمَان ابْن عبد الله بن موهب عَن مُوسَى بن طَلْحَة، عَن أبي الْيُسْر، قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَة تبْتَاع تَمرا، فَقلت: إِن فِي الْبَيْت تَمرا أطيب مِنْهُ، فَدخلت معي فِي الْبَيْت، فَأَهْوَيْت إِلَيْهَا فَقَبلتهَا، فَأتيت أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: اسْتُرْ على نَفسك وَتب، فَأتيت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أستر على نَفسك وَتب وَلَا تخبر أحدا، فَلم أَصْبِر، فَأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: أخلفت غازيا فِي سَبِيل الله فِي أَهله بِمثل هَذَا؟ حَتَّى تمنى أَنه لم يكن أسلم إِلَى تِلْكَ السَّاعَة، حَتَّى ظن أَنه من أهل النَّار. قَالَ: فَأَطْرَقَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَويلا. حَتَّى أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ: {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114) . قَالَ أَبُو الْيُسْر: فَأَتَيْته فقرأها عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أَصْحَابه: يَا رَسُول الله أَلِهَذَا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟ قَالَ: بل للنَّاس عَامَّة) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَقيس بن الرّبيع ضعفه. وَكِيع وَغَيره، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو الْيُسْر: كَعْب بن عَمْرو السّلمِيّ بَدْرِي. قَوْله: (فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أَتَى الرجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا أَصَابَهُ. قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114) يُشِير بِهَذَا إِلَى أَن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة فِي أبي الْيُسْر الْمَذْكُور.
وَفِي تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه: (عَن أبي أُمَامَة أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أقِم فيَّ حد الله، مرّة أَو مرَّتَيْنِ، فَأَعْرض عَنهُ، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة) ، وروى أَبُو عَليّ الطوسي فِي (كتاب الْأَحْكَام) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: وَلم يسمع مِنْهُ (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت رجلا لَقِي امْرَأَة وَلَيْسَ بَينهمَا معرفَة، فَلَيْسَ يَأْتِي الرجل شَيْئا إِلَى امْرَأَته إلاَّ قد أَتَاهُ إِلَيْهَا إلاَّ أَنه لم يُجَامِعهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة، فَأمره أَن يتَوَضَّأ وَيُصلي. قَالَ معَاذ: فَقلت يَا رَسُول الله أَهِي لَهُ خَاصَّة أم للْمُؤْمِنين عَامَّة؟ قَالَ: بل للْمُؤْمِنين عَامَّة) . وروى مُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (يَا رَسُول الله إِنِّي عَالَجت امْرَأَة فِي أقْصَى الْمَدِينَة، وَإِنِّي أصبت مِنْهَا مَا دون أَن أَمسهَا، فَأَنا هَذَا فَاقْض فيَّ بِمَا شِئْت. فَقَالَ عمر: لقد سترك الله لَو سترت على نَفسك، وَلم يرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا. فَانْطَلق الرجل فَأتبعهُ رجلا فَتلا عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة) . وَاعْلَم أَن فِي كَون الرجل فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: أَبَا الْيُسْر، هُوَ أصح الْأَقْوَال السِّتَّة. القَوْل الثَّانِي: إِنَّه عَمْرو بن غزيَّة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، أَبُو حَبَّة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، التمار، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: (جَاءَت امْرَأَة إِلَى عَمْرو بن غزيَّة تبْتَاع تَمرا، فَقَالَ: إِن فِي بَيْتِي تَمرا فانطلقي أبيعك مِنْهُ، فَلَمَّا دخلت الْبَيْت بَطش بهَا، فَصنعَ بهَا كل شَيْء إلاّ أَنه لم يَقع عَلَيْهَا، فَلَمَّا ذهب عَنهُ الشَّيْطَان نَدم على مَا صنع، وأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله تناولت امْرَأَة فصنعت بهَا كل شَيْء يصنع الرجل بامرأته إلاَّ أَنِّي لم أقع عَلَيْهَا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أَدْرِي، وَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا

(5/11)


فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ حضرت الصَّلَاة فصلوا، فَنزلت الْآيَة: {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114) .
القَوْل الثَّالِث: إِنَّه ابْن معتب، رجل من الْأَنْصَار ذكره ابْن أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه) من حَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، قَالَ: (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: معتب) ، فَذكر الحَدِيث.
القَوْل الرَّابِع: إِنَّه أَبُو مقبل، عَامر بن قيس الْأنْصَارِيّ ذكره مقَاتل فِي (نَوَادِر التَّفْسِير) وَقَالَ: هُوَ الَّذِي نزل فِيهِ: {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114)
القَوْل الْخَامِس: هُوَ نَبهَان التمار، وَزعم الثَّعْلَبِيّ أَن نَبهَان لم ينزل فِيهِ إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم} (آل عمرَان: 135) . الْآيَة.
القَوْل السَّادِس: إِنَّه عباد، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره.
قَوْله: {طرفِي النَّهَار} (هود: 114) . قَالَ الثَّعْلَبِيّ: طرفِي النَّهَار: الْغَدَاة والعشي، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي صَلَاة الصُّبْح وَصَلَاة الْمغرب. وَقَالَ مُجَاهِد: صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعشي. وَقَالَ الضَّحَّاك: الْفجْر وَالْعصر، وَقَالَ مقَاتل: صَلَاة الْفجْر وَالظّهْر طرف، وَصَلَاة الْمغرب وَالْعصر طرف، وانتصاب: (طرفِي النَّهَار) على الظّرْف لِأَنَّهُمَا مضافان إِلَى الْوَقْت، كَقَوْلِك: أَقمت عِنْده جَمِيع النَّهَار، وَهَذَا على إِعْطَاء الْمُضَاف حكم الْمُضَاف إِلَيْهِ. قَوْله: {وَزلفًا من اللَّيْل} : (هود: 114) : صَلَاة الْعَتَمَة. وَقَالَ الْحسن: هما الْمغرب وَالْعشَاء، وَقَالَ الْأَخْفَش: يَعْنِي صَلَاة اللَّيْل، وَقَالَ الز (جاج: مَعْنَاهُ الصَّلَاة الْقَرِيبَة من أول اللَّيْل، والزلف: جمع زلفة، وَقَرَأَ الْجُمْهُور، بِضَم الزَّاي وَفتح اللَّام، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بضمهما، وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن بِضَم الزَّاي وَجزم اللَّام، وَقَرَأَ مُجَاهِد زلفى مثل قربى، وَفِي (الْمُحكم) زلف اللَّيْل: سَاعَات من أَوله. وَقيل: هِيَ سَاعَات اللَّيْل الْأَخِيرَة من النَّهَار وساعات النَّهَار الْأَخِيرَة من اللَّيْل. وَفِي (جَامع) الْقَزاز: الزلفة: الْقرْبَة من الْخَيْر وَالشَّر، وانتصاب: زلفى، على أَنه عطف على: الصَّلَاة، أَي: أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار، وأقم زلفى من اللَّيْل. قَوْله: {إِن الْحَسَنَات} (هود: 114) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لم يخْتَلف أحد من أهل التَّأْوِيل أَن الصَّلَاة فِي هَذِه الْآيَة يُرَاد بهَا الْفَرَائِض. قَوْله: (أَلِي هَذَا؟) الْهمزَة للاستفهام، وَقَوله: هَذَا، مُبْتَدأ، وَقَوله، لي، مقدما خَبره. وَفَائِدَة التَّقْدِيم التَّخْصِيص. قَوْله: (كلهم) ، لَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: عدم وجوب الْحَد فِي الْقبْلَة وَشبههَا من الْمس وَنَحْوه من الصَّغَائِر، وَهُوَ من اللمم المعفو عَنهُ باجتناب الْكَبَائِر بِنَصّ الْقُرْآن. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد يسْتَدلّ بِهِ على أَنه لَا حد وَلَا أدب على الرجل وَالْمَرْأَة، وَإِن وجدا فِي ثوب وَاحِد، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن الْمُنْذر. انْتهى قلت سلمنَا فِي نفي الْحَد، وَلَا نسلم فِي نفي الْأَدَب، سِيمَا فِي هَذَا الزَّمَان.
وَفِيه: أَن إِقَامَة الصَّلَوَات الْخمس تجْرِي مجْرى التَّوْبَة فِي ارْتِكَاب الصَّغَائِر.
وَفِيه: أَن بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح، وَالتَّوْبَة مَقْبُولَة وَفِي الْآي الْمَذْكُورَة دَلِيل على قَول أبي حنيفَة فِي أَن التَّنْوِير بِصَلَاة الْفجْر أفضل، وَذَلِكَ لِأَن ظَاهر الْآيَة يدل على وجوب إِقَامَة الصَّلَاة فِي طرف النَّهَار، وبيَّنا أَن طرفِي النَّهَار: الزَّمَان الأول بِطُلُوع الشَّمْس، وَالزَّمَان الأول بغروبها. وأجمعت الْأمة على أَن إِقَامَة الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت من غير ضَرُورَة غير مَشْرُوع، فقد تعذر الْعَمَل بِظَاهِر هَذِه الْآيَة، فَوَجَبَ حملهَا على الْمجَاز، وَهُوَ أَن يكون المُرَاد إِقَامَة الصَّلَاة فِي الْوَقْت الَّذِي يقرب من طرفِي النَّهَار، لِأَن مَا يقرب من الشَّيْء يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ اسْمه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكل وَقت كَانَ أقرب إِلَى طُلُوع الشَّمْس، وَإِلَى غُرُوبهَا كَانَ أقرب إِلَى ظَاهر اللَّفْظ، وَإِقَامَة صَلَاة الْفجْر عِنْد التَّنْوِير أقرب إِلَى وَقت الطُّلُوع من إِقَامَتهَا عِنْد الْغَلَس، وَكَذَلِكَ إِقَامَة صَلَاة الْعَصْر عِنْدَمَا يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ أقرب إِلَى وَقت الْغُرُوب من إِقَامَتهَا عِنْدَمَا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، وَالْمجَاز: كلما كَانَ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة كَانَ حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ أولى.
وفيهَا: دَلِيل أَيْضا على وجوب الْوتر، لِأَن قَوْله {وَزلفًا} (هود: 114) . يَقْتَضِي الْأَمر بِإِقَامَة الصَّلَاة فِي زلف من اللَّيْل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عطف على الصَّلَاة فِي قَوْله: {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} (هود: 114) . فَيكون التَّقْدِير: وأقم الصَّلَاة فِي زلف من اللَّيْل، والزلف جمع، وَأَقل الْجمع ثَلَاثَة، فَالْوَاجِب إِقَامَة الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الثَّلَاثَة، فالوقتان للمغرب وَالْعشَاء، وَالْوَقْت الثَّالِث للوتر، فَيجب الحكم بِوُجُوبِهِ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) ذكر هَذَا شَيخنَا قطب الدّين، وَتَبعهُ شَيخنَا عَلَاء الدّين، وَهِي نزغة وَلَا نسلم لَهما قلت: لَا نسلم لَهُ لِأَن عدم التَّسْلِيم بعد إِقَامَة الدَّلِيل مُكَابَرَة.

5 - (بابُ فَضْلِ الصَّلاَةِ لوَقْتِهَا)

أَي: هَذَا فِي بَيَان فضل الصَّلَاة لوَقْتهَا، وَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: فضل الصَّلَاة فِي وَقتهَا، لِأَن الْوَقْت ظرف لَهَا، ولذكره هَكَذَا وَجْهَان: الأول: أَن عِنْد الْكُوفِيّين أَن حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض. وَالثَّانِي: اللَّام، هُنَا مثل اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى: {فطلقوهن لعدتهن} (الطَّلَاق: 1) أَي: مستقبلات لعدتهن، وَمثل قَوْلهم: لَقيته لثلاث بَقينَ من الشَّهْر، وَتسَمى: بلام التَّأْقِيت، والتأريخ. وَأما

(5/12)


قيام: اللَّام، مقَام: فِي، فَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} (الْأَنْبِيَاء: 47) وَقَوله: لَا يجليها لوَقْتهَا إلاَّ هُوَ} (الْأَعْرَاف: 187) . وَقَوْلهمْ: مضى لسبيله. فَإِن قلت: فَفِي حَدِيث الْبَاب: على وَقتهَا، فالترجمة لَا تطابقه؟ قلت: اللَّام تَأتي بِمَعْنى: على، أَيْضا نَحْو قَوْله تَعَالَى: {ويخرون للأذقان} (الْإِسْرَاء: 107، 109) ، {ودعانا لجنبه} (يُونُس: 12) ، {وتله للجبين} (الصافات: 103) . وعَلى الأَصْل جَاءَ أَيْضا فِي الحَدِيث أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن بنْدَار، قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر حَدثنَا مَالك بن مغول عَن الْوَلِيد بن الْعيزَار عَن أبي عَمْرو عَن عبد الله، قَالَ: (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة فِي وَقتهَا) . وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) ، وَكَذَا أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد بِلَفْظ التَّرْجَمَة. وَأخرجه مُسلم بِالْوَجْهَيْنِ.

527 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ هشَاُم بُن عَبْدِ المَلِكِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ الوَلِيدُ بنُ العَيْزَارِ أَخْبرنِي قالَ سَمِعْتُ أبَا عَمْرٍ والشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ حدَّثنا صاحِبُ هَذِه الدَّارِ وأشَارَ إلَى دَارِ عَبْدِ الله قالَ سَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إِلَى الله قالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أيّ قَالَ ثُمَّ بِر الوَالِدَيْنِ قالَ ثُمَّ أيّ قَالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله قَالَ حَدثنِي بهنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. .

مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَتقدم الْكَلَام فِي: على وَاللَّام.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الْوَلِيد بن الْعيزَار، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالزاي قبل الْألف وبالراء بعْدهَا: ابْن حُرَيْث، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: الْكُوفِي. الرَّابِع: أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَهُوَ سعيد بن إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: المخضرم، أدْرك أهل الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة قَالَ: أذكر أَنِّي سَمِعت بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أرعى إبِلا لأهلي بكاظمة، بالظاء الْمُعْجَمَة، وتكامل شَبَابِي يَوْم الْقَادِسِيَّة فَكنت ابْن أَرْبَعِينَ سنة يَوْمئِذٍ، وَكَانَ من أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود. الْخَامِس: هُوَ عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه السماع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِلَفْظ الْإِفْرَاد فِي الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل وَالسَّمَاع وَالسُّؤَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَفِيه: قَوْله: قَالَ الْوَلِيد بن الْعيزَار: أَخْبرنِي، تَقْدِيم وَتَأْخِير تَقْدِيره: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي الْوَلِيد بن الْعيزَار، قَالَ: سَمِعت أَبَا عَمْرو.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي التَّوْحِيد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الْجِهَاد عَن الْحسن بن الصَّباح، وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن عباد بن الْعَوام. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبيد الله بن معَاذ، وَعَن مُحَمَّد بن يحيى، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْبر والصلة عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمروزِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (حَدثنَا صَاحب هَذِه الدَّار) ، لم يُصَرح فِيهِ شُعْبَة باسم عبد الله، بل رَوَاهُ مُبْهما. وَرَوَاهُ مَالك بن مغول عَن البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد، وَأَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ فِي التَّوْحِيد عَن الْوَلِيد، وصرحا باسم عبد الله، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَأحمد من طَرِيق أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه، وَمَعَ هَذَا فِي قَوْله: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى دَار عبد الله) اكْتِفَاء عَن التَّصْرِيح، لِأَن المُرَاد من: عبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. قَوْله: (أَي الْعَمَل أحب إِلَى الله؟) . وَفِي رِوَايَة مَالك بن مغول: (أَي الْعَمَل أفضل؟) وَكَذَا الْأَكْثَر الروَاة. قَوْله: (على وَقتهَا) اسْتِعْمَال لَفْظَة: على، هَهُنَا بِالنّظرِ إِلَى إِرَادَة الإستعلاء على الْوَقْت، والتمكن على أَدَائِهَا فِي أَي جُزْء من أَجْزَائِهَا، وَاتفقَ أَصْحَاب شُعْبَة على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَخَالفهُم عَليّ بن حَفْص، فَقَالَ: (الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا) . وَقَالَ الْحَاكِم: روى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة عَن شُعْبَة، وَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة غير حجاج عَن عَليّ بن حَفْص، وحجاج حَافظ ثِقَة، وَقد احْتج مُسلم بعلي بن حَفْص. قَوْله: (قَالَ: ثمَّ أَي؟) قَالَ الْفَاكِهَانِيّ: إِنَّه غير منون لِأَنَّهُ غير مَوْقُوف عَلَيْهِ فِي الْكَلَام، والسائل ينْتَظر الْجَواب، والتنوين لَا يُوقف عَلَيْهِ، فتنوينه وَوَصله بِمَا بعده خطأ، فَيُوقف

(5/13)


عَلَيْهِ وَقْفَة لَطِيفَة ثمَّ يُؤْتى بِمَا بعده. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَي، مشدد منون، كَذَلِك سَمِعت من ابْن الخشاب. وَقَالَ: لَا يجوز إلاَّ تنوينه لِأَنَّهُ مُعرب غير مُضَاف. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَنَّهُ مُضَاف تَقْديرا، والمضاف إِلَيْهِ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: ثمَّ أَي الْعَمَل أحب؟ فَيُوقف عَلَيْهِ بِلَا تَنْوِين. قلت: قَالَ النُّحَاة: إِن أيا الموصولة والشرطية والاستفهامية معربة دَائِما فَإِذا كَانَت: أَي هَذِه معربة عِنْد الْإِفْرَاد، فَكيف يُقَال: إِنَّهَا مَبْنِيَّة عِنْد الْإِضَافَة؟ وَلما نقل عَن سِيبَوَيْهٍ هَذَا هَكَذَا أنكر عَلَيْهِ الزّجاج، فَقَالَ: مَا تبين لي أَن سِيبَوَيْهٍ غلط إلاَّ فِي موضِعين: هَذَا أَحدهمَا، فَإِنَّهُ يسلم أَنَّهَا تعرب إِذا أفردت، فَكيف يَقُول ببنائها إِذا أضيفت؟ قَوْله: (قَالَ: بر الْوَالِدين) ، هَكَذَا هُوَ عِنْد أَكثر الروَاة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (قَالَ: ثمَّ بر الْوَالِدين)) ، بِزِيَادَة كلمة: ثمَّ، و: الْبر، بِكَسْر الْبَاء: الْإِحْسَان، وبر الْوَالِدين: الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا وَالْقِيَام بخدمتهما وَترك العقوق والإساءة إِلَيْهِمَا من: بر يبر فَهُوَ بار، وَجمعه: بررة. قَوْله: الْجِهَاد فِي سَبِيل الله) وَهُوَ: الْمُحَاربَة مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة الله وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام بِالنَّفسِ وَالْمَال. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الذّكر بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة؟ قلت: هَذِه الثَّلَاثَة أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان، من ضيع الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين مَعَ الْعلم بفضيلتها كَانَ لغَيْرهَا من أَمر الدّين أَشد تضييعا، وَأَشد تهاونا واستخفافا، وَكَذَا من ترك بر وَالِديهِ فَهُوَ لغير ذَلِك من حُقُوق الله أَشد تركا، وَكَذَا الْجِهَاد: من تَركه مَعَ قدرته عَلَيْهِ عِنْد تعينه، فَهُوَ لغير ذَلِك من الْأَعْمَال الَّتِي يتَقرَّب بهَا إِلَى الله تَعَالَى أَشد تركا، فالمحافظ على هَذِه الثَّلَاثَة حَافظ على مَا سواهَا، والمضيع لَهَا كَانَ لما سواهَا أضيع. قَوْله: (حَدثنِي بِهن) مقول عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَي: بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة، وَأَنه تَأْكِيد وَتَقْرِير لما تقدم، إِذْ لَا ريب أَن اللَّفْظ صَرِيح فِي ذَلِك، وَهُوَ أرفع دَرَجَات التَّحَمُّل. قَوْله: (وَلَو استزدته) أَي: وَلَو طلبت مِنْهُ الزِّيَادَة فِي السُّؤَال لزادني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَواب، ثمَّ طلبه الزِّيَادَة يحْتَمل أَن يكون أرادها من هَذَا النَّوْع، وَهِي مَرَاتِب أفضل الْأَعْمَال، وَيحْتَمل أَن يكون أرادها من مُطلق الْمسَائِل الْمُحْتَاج إِلَيْهَا. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: من طَرِيق المَسْعُودِيّ عَن الْوَلِيد: (فَسكت عني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو استزدته لزادني) ، فَكَأَنَّهُ فهم مِنْهُ السَّآمَة، فَلذَلِك قَالَ مَا قَالَه، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (فَمَا تركت أَن أستزيده إلاَّ إرعاء عَلَيْهِ) ، أَي: شَفَقَة عَلَيْهِ لِئَلَّا يسأم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن أَعمال الْبر تفضل بَعْضهَا على بعض عِنْد الله تَعَالَى. فَإِن قلت: ورد أَن إطْعَام الطَّعَام خير أَعمال الْإِسْلَام، وَورد: (إِن أحب الْأَعْمَال إِلَى الله أَدْوَمه) ، وَغير ذَلِك، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل من سَأَلَ بِمَا يُوَافق غَرَضه، أَو بِمَا يَلِيق بِهِ، أَو بِحَسب الْوَقْت، فَإِن الْجِهَاد كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام أفضل الْأَعْمَال، لِأَنَّهُ كَانَ كالوسيلة إِلَى الْقيام بهَا. والتمكن من أَدَائِهَا، أَو بِحَسب الْحَال، فَإِن النُّصُوص تعاضدت على فضل الصَّلَاة على الصَّدَقَة، وَرُبمَا تجدّد حَال يَقْتَضِي مواساة مُضْطَر فَتكون الصَّدَقَة حِينَئِذٍ أفضل، وَيُقَال: إِن أفعل، فِي: أفضل الْأَعْمَال، لَيْسَ على بَابه، بل المُرَاد بِهِ الْفضل الْمُطلق. وَيُقَال: التَّقْدِير أَن من أفضل الْأَعْمَال، فحذفت كلمة: من، وَهِي مُرَادة قلت: وَفِيه نظر. وَفِيه: مَا قَالَ ابْن بطال: إِن البدار إِلَى الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا أفضل من التَّرَاخِي فِيهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَرط فِيهَا أَن تكون أحب من الْأَعْمَال إِذا أُقِيمَت لوَقْتهَا الْمُسْتَحبّ. قلت: لفظ الحَدِيث لَا يدل على مَا ذكره على مَا لَا يخفى، وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ مَا يَقْتَضِي أَولا وَلَا آخرا، فَكَانَ الْمَقْصُود بِهِ الِاحْتِرَاز عَمَّا إِذا وَقعت قَضَاء. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن إخْرَاجهَا عَن وَقتهَا محرم، وَلَفظ: أحب، يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الِاسْتِحْبَاب، فَيكون المُرَاد الِاحْتِرَاز عَن إيقاعها آخر الْوَقْت. قلت: الَّذِي يدل ظَاهر اللَّفْظ أَن الصَّلَاة مُشَاركَة لغَيْرهَا من الْأَعْمَال فِي الْمحبَّة، فَإِذا وَقعت الصَّلَاة فِي وَقتهَا كَانَت أحب إِلَى الله تَعَالَى من غَيرهَا، فَيكون الِاحْتِرَاز عَن وُقُوعهَا خَارج الْوَقْت. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْوَقْت الأول من الصَّلَاة رضوَان الله، وَالْوَقْت الآخر عَفْو الله) . وَالْعَفو لَا يكون إلاَّ عِنْد التَّقْصِير. . قلت: قَالَ ابْن حبَان، لما رَوَاهُ فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : وَتفرد بِهِ يَعْقُوب بن الْوَلِيد، وَكَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ مَوْضُوع. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول: لَا أعرف شَيْئا يثبت فِي أَوْقَات الصَّلَاة أَولهَا كَذَا وَآخِرهَا (هَكَذَا، يَعْنِي: مغْفرَة ورضوانا. وَفِيه: تَعْظِيم الْوَالِدين وَبَيَان فَضله وَيجب الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا وَلَو كَانَا كَافِرين. وَفِيه: السُّؤَال عَن مسَائِل شَتَّى فِي وَقت وَاحِد، وَجَوَاز تَكْرِير السُّؤَال. وَفِيه: الرِّفْق بالعالم والتوقف عَن الْإِكْثَار عَلَيْهِ خشيَة ملاله. وَفِيه:

(5/14)


أَن الْإِشَارَة تنزل منزلَة التَّصْرِيح إِذا كَانَت مُعينَة للمشار إِلَيْهِ، مُمَيزَة عَن غَيره. أَلا ترى أَن الْأَخْرَس إِذا طلق امْرَأَته بِالْإِشَارَةِ المفهمة، يَقع طَلَاقه بِحَسب الْإِشَارَة، وَكَذَا سَائِر تَصَرُّفَاته.

6 - (بابٌ الصَلَوَاتُ الخَمْسُ كَفَّارَةٌ)

بَاب منون، تَقْدِيره: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة، وَهَكَذَا وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات. وَفِي بعض الرِّوَايَات التَّرْجَمَة سَقَطت، وَعَلِيهِ مَشى ابْن بطال وَمن تبعه. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بَاب الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة للخطايا إِذا صَلَّاهُنَّ لوقتهن فِي الْجَمَاعَة وَغَيرهَا) . وَقَوله: الصَّلَوَات مُبْتَدأ، و: الْخمس، صفته، و: كَفَّارَة، خَبره. وَقد مر تَفْسِير الْكَفَّارَة.
والخطايا جمع خَطِيئَة، وَهِي الْإِثْم. يُقَال: خطأ يخطأ خطأ وخطأة، على وزن: فعلة بِكَسْر الْفَاء، والخطيئة على وزن فعيلة: الْإِثْم. وَلَك أَن تشدد الْيَاء لِأَن كل يَاء سَاكِنة قبلهَا كسرة أَو: وَاو، سَاكِنة قبلهَا ضمة وهما زائدتان للمد لَا للإلحاق، وَلَا هما من نفس الْكَلِمَة، فَإنَّك تقلب الْهمزَة بعد الْوَاو واوا، وَبعد الْيَاء يَاء، وتدغم. وَتقول فِي مقروء: مقروٍّ وَفِي خَطِيئَة: خطية، وأصل الْخَطَايَا: خطائي، على وزن فعائل، فَلَمَّا اجْتمعت الهمزتان قلبت الثَّانِيَة: يَاء، لِأَن قبلهَا كسرة، ثمَّ استثقلت، وَالْجمع، ثقيل، وَهُوَ معتل مَعَ ذَلِك، فقلبت الْيَاء ألفا، ثمَّ قلبت الْهمزَة الأولى يَاء لخفائها بَين الْأَلفَيْنِ.

528 - حدَّثنا إبْرَاهيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني ابنُ أبي حازِمٍ وَالدَّرَاوَرْديُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ ابنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرا بِبابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ قالُوا لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئا قَالَ فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو الله بِهِ الخَطَايَا.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله أَعم من هَذِه التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ يتَنَاوَل الصَّلَوَات الْخمس وَغَيرهَا من أَنْوَاع الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي كتاب الايمان. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي بَاب نوم الرِّجَال. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، نِسْبَة إِلَى دراورد، بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة: وَهِي قَرْيَة بخراسان. وَقَالَ أَكْثَرهم مَنْسُوب إِلَى دَار بجرد، مَدِينَة بِفَارِس وَهِي من شواذ النّسَب. الرَّابِع: يزِيد، من الزِّيَادَة: ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ الْأَعْرَج، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن ابراهيم التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. السَّادِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، سَمَّاهُ البُخَارِيّ: عبد الله، وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ: لَا يعرف لَهُ اسْم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: اثْنَان اسْم كل مِنْهُمَا: عبد الْعَزِيز، وَفِيه: ثَلَاثَة تابعيون وهم: يزِيد وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير، وَمُحَمّد، وَأَبُو سَلمَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث وَبكر بن مُضر عَن ابْن الْهَاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ، فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَحده بِهِ. .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَرَأَيْتُم) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل التَّقْرِير، وَالتَّاء للخطاب،، وَمَعْنَاهُ: أخبروني، ويوري: (أَرَأَيْتكُم) ، بِالْكَاف وَالْمِيم، لَا مَحل لَهما من الْإِعْرَاب. قَوْله: (لَو أَن نَهرا) قَالَ الطَّيِّبِيّ: لفظ: لَو، يَقْتَضِي أَن يدْخل على الْفِعْل وَأَن يُجَاب، لكنه وضع الِاسْتِفْهَام مَوْضِعه تَأْكِيدًا أَو تقريرا، وَالتَّقْدِير، لَو ثَبت نهر صفته كَذَا لما بَقِي كَذَا، وَالنّهر، بِفَتْح الْهَاء وسكونها: مَا بَين جنبيّ الْوَادي، سمي بذلك لسعته، وَكَذَلِكَ سمي النَّهَار لسعة ضوئه. قَوْله: (مَا تَقول) أَي: أَيهَا السَّامع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا تَقولُونَ) . قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى الِاغْتِسَال، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ شَاهد على إِجْرَاء فعل القَوْل مجْرى فعل الظَّن، وَالشّرط فِيهِ أَن يكون فعلا مضارعا مُسْندًا إِلَى الْمُخَاطب مُتَّصِلا بالاستفهام، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث. ولغة سليم إِجْرَاء فعل

(5/15)


القَوْل مجْرى الظَّن بِلَا شَرّ، فَيجوز على لغتهم أَن يُقَال: قلت زيدا مُنْطَلقًا، وَنَحْوه. قَوْله: (مَا تَقول؟) ، كلمة: مَا، الاستفهامية فِي مَوضِع نصب بِلَفْظ: يبْقى، وَقدم لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام، وَالتَّقْدِير: أَي: شَيْء تظن ذَلِك الِاغْتِسَال مبقيا من درنه؟ و: تَقول، يَقْتَضِي مفعولين: أَحدهمَا هُوَ قَوْله: ذَلِك، وَالْآخر وَهُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي قَوْله: يبْقى، وَهُوَ بِضَم الْيَاء من الْإِبْقَاء. قَوْله: (من درنه) بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء وَهُوَ: الْوَسخ. قَوْله: (شَيْئا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: لَا يبْقى، بِضَم الْيَاء أَيْضا وَكسر الْقَاف، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يبْقى من درنه شَيْء) ، فشيء، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل قَوْله: لَا يبقي، بِفَتْح الْيَاء وَالْقَاف. قَوْله: (فَكَذَلِك) : الْفَاء، فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف أَي: إِذا أقررتم ذَلِك وَصَحَّ عنْدكُمْ فَهُوَ مثل الصَّلَوَات. وَفَائِدَة التَّمْثِيل التَّقْيِيد وَجعل الْمَعْقُول كالمحسوس. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَجه التَّمْثِيل أَن الْمَرْء كَمَا يتدنس بالأقذار المحسوسة فِي بدنه وثيابه ويطهره المَاء الْكثير، فَكَذَلِك الصَّلَوَات تطهر العَبْد من أقذار الذُّنُوب حَتَّى لَا تبقي لَهُ ذَنبا إِلَّا أسقطته وكفرته. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث يتَنَاوَل الصَّغَائِر والكبائر لِأَن لفظ الْخَطَايَا يُطلق عَلَيْهَا.
قلت: روى مُسلم من حَدِيث الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة لما بَينهمَا مَا اجْتنبت الْكَبَائِر) . قَالَ ابْن بطال: يُؤْخَذ من الحَدِيث أَن المُرَاد الصَّغَائِر خَاصَّة لِأَنَّهُ شبه الْخَطَايَا بالدرن والدرن صَغِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ من القروح والجراحات. فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون المُرَاد بالدرن الْحبّ؟ قلت: لَا بل المُرَاد بِهِ: الْوَسخ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبه التَّنْظِيف والتطهير، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أَرَأَيْت لَو أَن رجلا كَانَ لَهُ معتمل، وَبَين منزله ومعتمله خَمْسَة أَنهَار، فَإِذا انْطلق إِلَى معتمله عمل مَا شَاءَ الله فَأَصَابَهُ وسخ أَو عرق فَكلما مر بنهر اغْتسل مِنْهُ) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ من طَرِيق عَطاء بن يسَار عَنهُ. فَإِن قلت: الصَّغَائِر مكفرة بِنَصّ الْقُرْآن باجتناب الْكَبَائِر، فَمَا الَّذِي تكفره الصَّلَوَات الْخمس؟ قلت: لَا يتم اجْتِنَاب الْكَبَائِر إِلَّا بِفعل الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا لم يَفْعَلهَا لم يكن مجتنبا للكبائر لِأَن تَركهَا من الْكَبَائِر فَيتَوَقَّف التَّكْفِير على فعلهَا. قَوْله: (بهَا) : أَي: بالصلوات، ويروى بِهِ بتذكير الضَّمِير أَي: بأَدَاء الصَّلَوَات.

528 - حدَّثنا إبْرَاهيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني ابنُ أبي حازِمٍ وَالدَّرَاوَرْديُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ ابنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرا بِبابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ قالُوا لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئا قَالَ فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو الله بِهِ الخَطَايَا.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله أَعم من هَذِه التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ يتَنَاوَل الصَّلَوَات الْخمس وَغَيرهَا من أَنْوَاع الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي كتاب الايمان. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي بَاب نوم الرِّجَال. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، نِسْبَة إِلَى دراورد، بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة: وَهِي قَرْيَة بخراسان. وَقَالَ أَكْثَرهم مَنْسُوب إِلَى دَار بجرد، مَدِينَة بِفَارِس وَهِي من شواذ النّسَب. الرَّابِع: يزِيد، من الزِّيَادَة: ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ الْأَعْرَج، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن ابراهيم التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. السَّادِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، سَمَّاهُ البُخَارِيّ: عبد الله، وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ: لَا يعرف لَهُ اسْم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: اثْنَان اسْم كل مِنْهُمَا: عبد الْعَزِيز، وَفِيه: ثَلَاثَة تابعيون وهم: يزِيد وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير، وَمُحَمّد، وَأَبُو سَلمَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث وَبكر بن مُضر عَن ابْن الْهَاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ، فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَحده بِهِ. .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَرَأَيْتُم) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل التَّقْرِير، وَالتَّاء للخطاب،، وَمَعْنَاهُ: أخبروني، ويوري: (أَرَأَيْتكُم) ، بِالْكَاف وَالْمِيم، لَا مَحل لَهما من الْإِعْرَاب. قَوْله: (لَو أَن نَهرا) قَالَ الطَّيِّبِيّ: لفظ: لَو، يَقْتَضِي أَن يدْخل على الْفِعْل وَأَن يُجَاب، لكنه وضع الِاسْتِفْهَام مَوْضِعه تَأْكِيدًا أَو تقريرا، وَالتَّقْدِير، لَو ثَبت نهر صفته كَذَا لما بَقِي كَذَا، وَالنّهر، بِفَتْح الْهَاء وسكونها: مَا بَين جنبيّ الْوَادي، سمي بذلك لسعته، وَكَذَلِكَ سمي النَّهَار لسعة ضوئه. قَوْله: (مَا تَقول) أَي: أَيهَا السَّامع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا تَقولُونَ) . قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى الِاغْتِسَال، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ شَاهد على إِجْرَاء فعل القَوْل مجْرى فعل الظَّن، وَالشّرط فِيهِ أَن يكون فعلا مضارعا مُسْندًا إِلَى الْمُخَاطب مُتَّصِلا بالاستفهام، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث. ولغة سليم إِجْرَاء فعل القَوْل مجْرى الظَّن بِلَا شَرّ، فَيجوز على لغتهم أَن يُقَال: قلت زيدا مُنْطَلقًا، وَنَحْوه. قَوْله: (مَا تَقول؟) ، كلمة: مَا، الاستفهامية فِي مَوضِع نصب بِلَفْظ: يبْقى، وَقدم لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام، وَالتَّقْدِير: أَي: شَيْء تظن ذَلِك الِاغْتِسَال مبقيا من درنه؟ و: تَقول، يَقْتَضِي مفعولين: أَحدهمَا هُوَ قَوْله: ذَلِك، وَالْآخر وَهُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي قَوْله: يبْقى، وَهُوَ بِضَم الْيَاء من الْإِبْقَاء. قَوْله: (من درنه) بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء وَهُوَ: الْوَسخ. قَوْله: (شَيْئا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: لَا يبْقى، بِضَم الْيَاء أَيْضا وَكسر الْقَاف، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يبْقى من درنه شَيْء) ، فشيء، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل قَوْله: لَا يبقي، بِفَتْح الْيَاء وَالْقَاف. قَوْله: (فَكَذَلِك) : الْفَاء، فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف أَي: إِذا أقررتم ذَلِك وَصَحَّ عنْدكُمْ فَهُوَ مثل الصَّلَوَات. وَفَائِدَة التَّمْثِيل التَّقْيِيد وَجعل الْمَعْقُول كالمحسوس. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَجه التَّمْثِيل أَن الْمَرْء كَمَا يتدنس بالأقذار المحسوسة فِي بدنه وثيابه ويطهره المَاء الْكثير، فَكَذَلِك الصَّلَوَات تطهر العَبْد من أقذار الذُّنُوب حَتَّى لَا تبقي لَهُ ذَنبا إِلَّا أسقطته وكفرته. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث يتَنَاوَل الصَّغَائِر والكبائر لِأَن لفظ الْخَطَايَا يُطلق عَلَيْهَا.
قلت: روى مُسلم من حَدِيث الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة لما بَينهمَا مَا اجْتنبت الْكَبَائِر) . قَالَ ابْن بطال: يُؤْخَذ من الحَدِيث أَن المُرَاد الصَّغَائِر خَاصَّة لِأَنَّهُ شبه الْخَطَايَا بالدرن والدرن صَغِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ من القروح والجراحات. فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون المُرَاد بالدرن الْحبّ؟ قلت: لَا بل المُرَاد بِهِ: الْوَسخ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبه التَّنْظِيف والتطهير، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أَرَأَيْت لَو أَن رجلا كَانَ لَهُ معتمل، وَبَين منزله ومعتمله خَمْسَة أَنهَار، فَإِذا انْطلق إِلَى معتمله عمل مَا شَاءَ الله فَأَصَابَهُ وسخ أَو عرق فَكلما مر بنهر اغْتسل مِنْهُ) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ من طَرِيق عَطاء بن يسَار عَنهُ. فَإِن قلت: الصَّغَائِر مكفرة بِنَصّ الْقُرْآن باجتناب الْكَبَائِر، فَمَا الَّذِي تكفره الصَّلَوَات الْخمس؟ قلت: لَا يتم اجْتِنَاب الْكَبَائِر إِلَّا بِفعل الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا لم يَفْعَلهَا لم يكن مجتنبا للكبائر لِأَن تَركهَا من الْكَبَائِر فَيتَوَقَّف التَّكْفِير على فعلهَا. قَوْله: (بهَا) : أَي: بالصلوات، ويروى بِهِ بتذكير الضَّمِير أَي: بأَدَاء الصَّلَوَات.

(بابُ تَضْيِيعِ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَضْييع الصَّلَوَات عَن وَقتهَا، وتضييعها: تَأْخِيرهَا إِلَى أَن يخرج وَقتهَا، وَقيل: تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا الْمُسْتَحبّ، وَالْأول أظهر لِأَن التضييع إِنَّمَا يظْهر فِيهِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة إِنَّمَا تثبت فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني، وَلَيْسَت بثابتة فِي رِوَايَة البَاقِينَ.

529 - حدَّثنا مُوسَى ابنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا مَهْدِي عَنْ غيْلاَنَ عنْ أنَسٍ قَالَ مَا أعْرِفُ شَيْئا ممَّ كانَ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِيلَ الصَّلاَةُ قالَ ألَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيها.

وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَلَيْسَ ضيعتم مَا ضيعتم فِيهَا؟) يَعْنِي: من التضييع.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: مهْدي بن مَيْمُون أَبُو يحيى، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة. الثَّالِث: غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة ابْن جرير. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن إِسْنَاده كلهم بصريون.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قيل: الصَّلَاة) ، أَي: قيل لَهُ: الصَّلَاة هِيَ شَيْء مِمَّا كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي بَاقِيَة، فَكيف تصدق الْقَضِيَّة السالبة عَامَّة؟ فَأجَاب بقوله: (أَلَيْسَ ضيعتم مَا ضيعتم فِيهَا؟) يَعْنِي من تضييعها وَهُوَ: خُرُوجهَا عَن وَقتهَا. وَقَالَ الْمُهلب: المُرَاد بتضييعها تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا الْمُسْتَحبّ لَا أَنهم أخرجوها عَن وَقتهَا، وَتَبعهُ على هَذَا جمَاعَة. قلت: الْأَصَح مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن أنسا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك حِين علم أَن الْحجَّاج والوليد بن عبد الْملك وَغَيرهمَا كَانُوا يؤخرون الصَّلَاة عَن وَقتهَا، والْآثَار فِي ذَلِك مَشْهُورَة. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: أخر الْوَلِيد الْجُمُعَة حَتَّى أَمْسَى فَجئْت فَصليت الظّهْر قبل أَن أَجْلِس، ثمَّ صليت الْعَصْر وَأَنا جَالس إِيمَاء وَهُوَ يخْطب، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك عَطاء خوفًا على نَفسه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة من طَرِيق أبي بكر بن عتبَة، قَالَ: صليت إِلَى جنب أبي جُحَيْفَة، فَمشى الْحجَّاج

(5/16)


للصَّلَاة فَقَامَ أَبُو جُحَيْفَة فصلى. وَمن طَرِيق ابْن عمر: أَنه كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْحجَّاج، فَلَمَّا أخر الصَّلَاة ترك أَن يشهدها مَعَه. وَمن طَرِيق مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل قَالَ: كنت بِمَعْنى، وصحف تقْرَأ للوليد، فأخروا الصَّلَاة فَنَظَرت إِلَى سعيد بن جُبَير وَعَطَاء يوميان إِيمَاء وهما قاعدان. مِمَّا يُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ قَوْله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة} (مَرْيَم: 59) . أخروها عَن مواقيتها وصلوها لغير وَقتهَا. قَوْله: (أَلَيْسَ؟) اسْمه ضمير الشان. قَوْله: (صَنَعْتُم مَا صَنَعْتُم فِيهَا؟) بصادين مهملتين، وَالنُّون فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بالمعجمتين وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الْعَدوي: صَنَعْتُم، بالصَّاد الْمُهْملَة. وَرِوَايَة النَّسَفِيّ بِالْمُعْجَمَةِ وبالياء الْمُثَنَّاة من تَحت. قَالَ: وَالْأول أشبه، يُرِيد: مَا أَحْدَثُوا من تَأْخِيرهَا، إلاَّ أَنه جَاءَ فِي نفس الحَدِيث مَا يبين أَنه بالضاد الْمُعْجَمَة. وَهُوَ قَوْله: (ضيعت) فِي الحَدِيث الْآتِي. قلت: وَيُؤَيّد الأول مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي عمرَان الْجونِي عَن أنس، فَذكر نَحْو هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: (أَو لم تصنعوا فِي الصَّلَاة مَا قد علمْتُم؟) .

75 - وَقَالَ بَكْرٌ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَكْرٍ البُرْسَانيُّ قَالَ أخْبَرَنا عُثْمَانُ بنُ أبي رَوَّادٍ نَحْوَهُ.

بكر بن خلف، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَاللَّام المفتوحتين. قَالَ الغساني: بكر بن خلف البرْسَانِي أَبُو بشر، ذكره البُخَارِيّ مستشهدا بِهِ فِي كتاب الصَّلَاة بعد حَدِيث ذكره عَن أبي عُبَيْدَة الْحداد، وَهُوَ ختن عبد الله بن يزِيد الْمقري، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَمُحَمّد

(5/17)


ابْن بكر البرْسَانِي، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة وبالنون: الْبَصْرِيّ مَنْسُوب إِلَى (برسان) بطن من أَزْد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ؛ وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ حَدثنَا أَبُو بشر بن بكر بن خلف حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر؛ وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو نعيم عَن أبي بكر بن خَلاد حَدثنَا أَحْمد بن عَليّ الخراز حَدثنَا بكر بن خلف أَنبأَنَا مُحَمَّد ختن المقرىء أخبرنَا مُحَمَّد بن بكر فَذكره. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو سوق عَمْرو بن زُرَارَة عَن عبد الْوَاحِد عَن عُثْمَان بن أبي رواد. إِلَى آخِره، وَالَّذِي ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ مُوَافق للَّذي قبله، وَفِيه زِيَادَة وَهِي: لَا أعرف شَيْئا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْبَاقِي سَوَاء.