عمدة القاري شرح
صحيح البخاري (بَاب رفع النَّاس أَيْديهم مَعَ الإِمَام
فِي الاسْتِسْقَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن النَّاس يرفعون أَيْديهم
عِنْد رفع الإِمَام يَدَيْهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الرَّد على من زعم أَنه يكْتَفى بِدُعَاء الإِمَام
(وَقَالَ أَيُّوب بن سُلَيْمَان حَدثنِي أَبُو بكر بن أبي
أويس عَن سُلَيْمَان بن هِلَال. قَالَ يحيى بن سعيد سَمِعت
أنس بن مَالك قَالَ أَتَى رجل أَعْرَابِي من أهل البدو
إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ يَا رَسُول الله هَلَكت
الْمَاشِيَة هلك الْعِيَال هلك النَّاس فَرفع رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ يَدْعُو
وَرفع النَّاس أَيْديهم مَعَه يدعونَ. قَالَ فَمَا خرجنَا
من الْمَسْجِد حَتَّى مُطِرْنَا فَمَا زلنا نمطر حَتَّى
كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى فَأتى الرجل إِلَى نَبِي
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا
رَسُول الله بشق الْمُسَافِر وَمنع الطَّرِيق بشق أَي مل)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة هَذَا تَعْلِيق ذكره
البُخَارِيّ عَن شَيْخه أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن هِلَال
وَوَصله أَبُو نعيم الْحَافِظ قَالَ حَدثنَا أَبُو أَحْمد
مُحَمَّد بن أَحْمد حَدثنَا مُوسَى بن الْعَبَّاس
وَإِسْحَق الْحَرْبِيّ قَالَا حَدثنَا مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ حَدثنَا أَيُّوب عَن سُلَيْمَان
حَدثنَا أَبُو بكر فَذكره وَقَالَ ذكره البُخَارِيّ
فَقَالَ وَقَالَ أَيُّوب بن سُلَيْمَان بِلَا رِوَايَة
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ أخبرنَا مُوسَى بن الْعَبَّاس
حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان
وَعِنْده " حبس الْمُسَافِر وَانْقطع الطَّرِيق " وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبد الْخَالِق
الْمُؤَذّن أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن خنب
البُخَارِيّ أخبرنَا أَبُو إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ
حَدثنَا أَيُّوب عَن سُلَيْمَان وَفِيه " فَأتى الرجل
إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَقَالَ يَا رَسُول الله بشق الْمُسَافِر وَمنع الطَّرِيق
" الحَدِيث قَوْله " أَبُو بكر بن أبي أويس " هُوَ أَبُو
بكر عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله ابْن أبي أويس بن
مَالك بن عَامر الأصبحي الْمدنِي وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيل
ابْن أبي أويس قَوْله " عَن سُلَيْمَان " هُوَ أَبُو
أَيُّوب الْمَذْكُور وَيحيى بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ
وَأَبُو سعيد الْمدنِي القَاضِي قَوْله " يَدْعُو " من
الْأَحْوَال الْمقدرَة وَكَذَلِكَ قَوْله " يدعونَ "
قَوْله " مُطِرْنَا " بِضَم الْمِيم على صِيغَة
الْمَجْهُول قَوْله " فَأتى الرجل " أَي الْمَذْكُور إِذْ
اللَّام فِي مثله للْعهد عَن النكرَة السَّابِقَة قَالَ
الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) قد مر أَن أنسا قَالَ " لَا
أَدْرِي أهوَ الرجل الأول أَو غَيره " (قلت) لَا مُنَافَاة
إِذْ رُبمَا نسي ثمَّ تذكر أَو كَانَ ذَاكِرًا ثمَّ نسي
قَوْله " بشق الْمُسَافِر " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره قَاف وَفَسرهُ
البُخَارِيّ بقوله " بشق أَي مل " وَقَالَ الْخطابِيّ بشق
لَيْسَ بِشَيْء إِنَّمَا هُوَ لثق الْمُسَافِر من اللثق
بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الوحل يُقَال لثق الثَّوْب
إِذا أَصَابَهُ ندى الْمَطَر ولطخ الطين وَيحْتَمل أَن
يكون مشق بِالْمِيم فحسبه السَّامع بشق لتقارب مخرجي
الْبَاء وَالْمِيم يُرِيد أَن الطّرق صَارَت مزلة زلقا
وَمِنْه مشق الْخط وَقَالَ ابْن بطال وَذكر الروَاة فِي
هَذَا الحَدِيث بشق الْمُسَافِر بِالْبَاء الْمُوَحدَة
وَلم أجد لَهُ فِي اللُّغَة معنى وَوجدت فِي نَوَادِر
اللحياني نشق بالنُّون وَكسر الشين بِمَعْنى نشب وعَلى
هَذَا يَصح الْمَعْنى فِي قَوْله " وَمنع الطَّرِيق "
قَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَفِيه نظر لما ذكره أَبُو
مُحَمَّد فِي الْكتاب الواعي فِي الحَدِيث بشق الْمُسَافِر
وَرَوَاهُ الْمُسْتَمْلِي فِي صَحِيح البُخَارِيّ كَذَا
يَعْنِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَمعنى بشق مل قَالَ وَفِي
المنضد لكراع بشق تَأَخّر وَلم يتَقَدَّم قَالَ فَمَعْنَى
بشق الْمُسَافِر ضعف عَن السّفر وَعجز مِنْهُ لِكَثْرَة
الْمَطَر كضعف الباشق وعجزه عَن التصيد لِأَنَّهُ ينفر
الصَّيْد وَلَا يصيد وَقَالَ صَاحب الْمُجْمل بشق الظبي
فِي الحبالة علق وَرجل بشق يَقع فِي الْأَمر لَا يكَاد
يتَخَلَّص مِنْهُ قَالُوا رفع الْيَد مُسْتَحبّ فِي
الاسْتِسْقَاء لِأَنَّهُ خضوع وتضرع إِلَى الله تَعَالَى
رُوِيَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- قَالَ " إِن الله حييّ يستحيي إِذا رفع العَبْد إِلَيْهِ
يَدَيْهِ أَن يردهما صفرا " وَكَانَ مَالك يرى رفع
الْيَدَيْنِ فِي الاسْتِسْقَاء وبطونهما إِلَى الأَرْض
وَذَلِكَ الْعَمَل عِنْد الاستكانة وَالْخَوْف وَهُوَ
الرهب وَأما عِنْد الرَّغْبَة وَالسُّؤَال فَبسط
الْأَيْدِي وَهُوَ الرغب وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى
{ويدعوننا رغبا ورهبا} وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ جمَاعَة
من أَصْحَابنَا وَغَيرهم السّنة فِي كل دُعَاء لدفع بلَاء
كالقحط أَن يرفع يَدَيْهِ وَيجْعَل ظهر كفيه إِلَى
السَّمَاء فَإِذا دَعَا
(7/51)
لسؤال شَيْء وتحصله جعل بطُون كفيه إِلَى
السَّمَاء
(وَقَالَ الأويسي حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن يحيى بن
سعيد وَشريك سمعا أنسا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه رفع يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْت
بَيَاض إبطَيْهِ) الأويسي بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة هُوَ
عبد الْعَزِيز بن عبد الله وَقد تقدم وَمُحَمّد بن جَعْفَر
بن أبي كثير الْمدنِي أَخُو إِسْمَاعِيل وَقد تقدم وَشريك
بن عبد الله وَقد تقدم وَهَذَا التَّعْلِيق هُنَا ثَابت
فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَثَبت لأبي الْوَقْت وكريمة
فِي آخر الْبَاب الَّذِي بعده وَسقط بِالْكُلِّيَّةِ عِنْد
الْبَقِيَّة وَهُوَ مَذْكُور عِنْد الْجَمِيع فِي كتاب
الدَّعْوَات وَوصل أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج هَذَا
التَّعْلِيق وَسَيَأْتِي هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(بَاب رفع الإِمَام يَده فِي الاسْتِسْقَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الإِمَام يَده هَذِه
التَّرْجَمَة ثبتَتْ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي قيل ذكر هَذِه التَّرْجَمَة وَإِن كَانَت
التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا تتضمنها الْفَائِدَة أُخْرَى
وَهِي أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم
يفعل ذَلِك إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَقيل الأولى لبَيَان
اتِّبَاع الْمَأْمُومين الإِمَام فِي رفع الْيَدَيْنِ
وَالثَّانيَِة لإِثْبَات رفع الْيَدَيْنِ للْإِمَام فِي
الاسْتِسْقَاء (قلت) الأولى تَتَضَمَّن الثَّانِيَة فَلَا
وَجه لهَذَا وَقيل قد قصد بِالثَّانِيَةِ كَيْفيَّة رفع
الإِمَام يَده لقَوْله " حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ "
70 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا يحيى وَابْن
أبي عدي عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك قَالَ
كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إِلَّا فِي
الاسْتِسْقَاء وَإنَّهُ يرفع حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَيحيى بن سعيد الْقطَّان
وَابْن أبي عدي هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَأَبُو عدي
كنية إِبْرَاهِيم وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن عبد الْأَعْلَى
بن حَمَّاد وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِسْقَاء عَن أبي
مُوسَى وَعَن عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى وَيحيى بن
سعيد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن شُعَيْب بن يُوسُف
عَن يحيى بن سعيد وَعَن حميد بن مسْعدَة وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِيهِ عَن نصر بن عَليّ بِهِ قَوْله " أبطيه "
بِسُكُون الْبَاء قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا الحَدِيث ظَاهره
يُوهم أَنه لم يرفع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يَدَيْهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَلَيْسَ الْأَمر
كَذَلِك بل قد ثَبت رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء فِي
مَوَاطِن غير الاسْتِسْقَاء وَهِي أَكثر من أَن تحصى
فيتؤول هَذَا الحَدِيث على أَنه لم يرفع الرّفْع البليغ
بِحَيْثُ يرى بَيَاض أبطيه إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء أَو
أَن المُرَاد لم أره يرفع وَقد رَآهُ غَيره فَتقدم
رِوَايَة المثبتين فِيهِ
(بَاب مَا يُقَال إِذا مطرَت)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يُقَال إِذا مطرَت أَي
السَّمَاء وَفِي بعض النّسخ إِذا مطرَت السَّمَاء
بِإِظْهَار الْفَاعِل وَقَالَ الْكرْمَانِي كلمة مَا
مَوْصُولَة أَو مَوْصُوفَة أَو استفهامية وَأَخذه بَعضهم
فِي شَرحه وَلم يبين وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقَة هَذَا
الْكَلَام فَنَقُول إِذا كَانَت مَوْصُولَة يكون
التَّقْدِير بَاب فِي بَيَان الَّذِي يُقَال عِنْد
الْمَطَر وَأما إِذا كَانَت مَوْصُوفَة فَيكون التَّقْدِير
بَاب فِي بَيَان شَيْء يُقَال إِذا مطرَت فَيكون مَا
الَّذِي بِمَعْنى شَيْء قد اتّصف بقوله يُقَال إِذا مطرَت
وَذَلِكَ كَمَا فِي قَول الشَّاعِر
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فُرْجَة كحل
العقال)
أَي رب شَيْء تكرره النُّفُوس وَأما الاستفهامية فَيكون
التَّقْدِير بَاب فِي بَيَان أَي شَيْء يُقَال إِذا مطرَت
قَوْله " مطرَت " بِلَا ألف من الثلاثي الْمُجَرّد
رِوَايَة أبي ذَر وَعند الْبَقِيَّة " إِذا أمْطرت "
بِالْألف من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ يُقَال مطرَت
السَّمَاء تمطر ومطرتهم تمطرهم مَطَرا وأمطرتهم
أَصَابَتْهُم بالمطر وأمطرهم الله فِي الْعَذَاب خَاصَّة
ذكره ابْن سَيّده قَالَ الْفراء مطرَت السَّمَاء تمطر
مَطَرا أَو مَطَرا فالمطر الْمصدر والمطر الِاسْم وناس
يَقُولُونَ مطرَت السَّمَاء وأمطرت بِمَعْنى
(7/52)
(وَقَالَ ابْن عَبَّاس كصيب الْمَطَر) أَي
قَالَ ابْن عَبَّاس الصيب الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فِي
قَوْله تَعَالَى {أَو كصيب من السَّمَاء} المُرَاد مِنْهُ
الْمَطَر وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا لمناسبته
لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صيبا
نَافِعًا " وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو جَعْفَر
الطَّبَرِيّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا
أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ عَن ابْن
عَبَّاس قَالَ الصيب الْمَطَر وَعَن قَتَادَة وَمُجاهد
وَعَطَاء وَالربيع بن أنس الصيب الْمَطَر وَقَالَ عبد
الرَّحْمَن بن زيد {أَو كصيب من السَّمَاء} قَالَ أَو كغيث
من السَّمَاء وَفِي تَفْسِير الضَّحَّاك الصيب الرزق
وَقَالَ سُفْيَان الصيب الَّذِي فِيهِ الْمَطَر (وَقَالَ
غَيره صاب وَأصَاب يصوب) أَي قَالَ غير ابْن عَبَّاس
كَأَنَّهُ يُشِير بِهِ إِلَى أَن اشتقاقه من الأجوف الواوي
وَلَكِن لَا يُقَال أصَاب يصوب وَإِنَّمَا يُقَال صاب يصوب
وَأصَاب يُصِيب وَقَالَ بَعضهم لَعَلَّه كَانَ فِي الأَصْل
صاب وانصاب كَمَا حَكَاهُ صَاحب الْمُحكم فَسَقَطت النُّون
(قلت) لَا يَزُول بِهَذَا الْإِشْكَال بل زَاد الْإِشْكَال
إشْكَالًا لِأَنَّهُ لَا يُقَال انصاب يصوب بل يُقَال
انصاب ينصاب انصبابا وَالظَّاهِر أَن النساخ قدمُوا
لَفْظَة أصَاب على لَفْظَة يصوب وَمَا كَانَ إِلَّا صاب
يصوب وَأصَاب وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الثلاثي الْمُجَرّد
والمزيد فِيهِ وَقد قُلْنَا أَنه أجوف واوي وأصل صاب صوب
قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا ويصوب أَصله
يصوب بِسُكُون الصَّاد وَضم الْوَاو فاستثقلت الضمة على
الْوَاو فنقلت إِلَى مَا قبلهَا فَصَارَ يصوب وأصل صيب
صيوب اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا
بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي
الْيَاء كسيد وميت وَيُقَال مطر صيب وصيوب وَصوب
71 - (حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ ابْن مقَاتل أَبُو الْحسن
الْمروزِي قَالَ أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا عبيد الله
عَن نَافِع عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة أَن
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
إِذا رأى الْمَطَر قَالَ اللَّهُمَّ صيبا نَافِعًا)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ مَا يُقَال
عِنْد رُؤْيَة الْمَطَر. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة الأول
مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي وَقد مر ذكره.
الثَّانِي عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك. الثَّالِث عبيد
الله بن عمر الْعمريّ. الرَّابِع نَافِع مولى ابْن عمر.
الْخَامِس الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
السَّادِس أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه الْإِخْبَار كَذَلِك فِي
موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه
القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده
وَفِيه أَنه بَينه بقوله هُوَ ابْن مقَاتل وَفِيه عبد الله
بِالتَّكْبِيرِ وَعبيد الله بِالتَّصْغِيرِ وَفِيه أَن
نَافِعًا من جملَة من روى عَن عَائِشَة وَفِيه نزل عَنْهَا
وَفِيه عبيد الله من جملَة من سمع عَن الْقَاسِم وَفِيه
نزل عَنهُ مَعَ أَن معمرا قد رَوَاهُ عَن عبيد الله بن عمر
عَن الْقَاسِم نَفسه بِإِسْقَاط نَافِع من السَّنَد أخرجه
عبد الرَّزَّاق عَنهُ وَفِيه أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه
رازيان وَالثَّلَاثَة الْبَقِيَّة مدنيون وَفِيه رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية (ذكر من أخرجه
غَيره) أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن
مَحْمُود بن خَالِد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب وَعَن
عَبدة بن عبد الرَّحِيم وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الدُّعَاء عَن هِشَام بن عمار (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " اللَّهُمَّ صيبا نَافِعًا " كَذَا فِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة لَيست لَفْظَة
اللَّهُمَّ وصيبا مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره يَا
الله اجْعَل صيبا نَافِعًا ونافعا صفة صيبا وَقَالَ
الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات " صبا نَافِعًا " من
الصب أَي اصببه صبا نَافِعًا وَاحْترز بقوله " نَافِعًا "
عَن الصيب الضار وَقَالَ ابْن قرقول ضَبطه الْقَابِسِيّ
صيبا بِالتَّخْفِيفِ وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " كَانَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا رأى
ناشئا فِي أفق السَّمَاء ترك الْعَمَل وَإِن كَانَ فِي
صَلَاة ثمَّ يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرها
فَإِن مُطِرْنَا قَالَ اللَّهُمَّ صيبا هَنِيئًا " وَعند
النَّسَائِيّ " كَانَ إِذا مُطِرُوا قَالَ اللَّهُمَّ
اجْعَلْهُ سيبا نَافِعًا " وَعند ابْن مَاجَه " إِذا رأى
سحابا مُقبلا من أفق من الْآفَاق ترك مَا هُوَ فِيهِ وَإِن
كَانَ فِي صَلَاة حَتَّى يستقبله فَيَقُول اللَّهُمَّ
إِنَّا نَعُوذ بك من شَرّ من أرسل بِهِ فَإِن أمطر قَالَ
اللَّهُمَّ سيبا نَافِعًا مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا
(7/53)
وَإِن كشفه الله تَعَالَى وَلم يمطروا حمد
الله على ذَلِك " وَقَالَ الْخطابِيّ السيب الْعَطاء
والسيب مجْرى المَاء وَالْجمع سيوب وَقد سَاب يسوب إِذا
جرى
(تَابعه الْقَاسِم بن يحيى عَن عبيد الله وَرَوَاهُ
الْأَوْزَاعِيّ وَعقيل عَن نَافِع) الْقَاسِم بن يحيى بن
عَطاء بن مقدم أَبُو مُحَمَّد الْهِلَالِي الوَاسِطِيّ
مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْمَذْكُور
وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح هَذِه الْمُتَابَعَة ذكرهَا
الدَّارَقُطْنِيّ فِي الغرائب عَن الْمحَامِلِي حَدثنَا
حَفْص بن عمر أخبرنَا يحيى عَن عبيد الله وَلَفظه " صيبا
هَنِيئًا " انْتهى (قلت) لم يظْهر لي وَجه هَذِه
الْمُتَابَعَة قَوْله " وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ " أَي
روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عمل
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن خَالِد عَن
الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع وَلَفظه
" هَنِيئًا " بدل " نَافِعًا " (فَإِن قلت) الْوَلِيد
مُدَلّس (قلت) رُوِيَ فِي الغيلانيات من طَرِيق دُحَيْم
عَن الْوَلِيد وَشُعَيْب بن إِسْحَق قَالَا حَدثنَا
الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي نَافِع وَأمن بِهَذَا عَن تَدْلِيس
الْوَلِيد واستبعد صِحَة سَماع الْأَوْزَاعِيّ من نَافِع
خلافًا لمن نَفَاهُ قَوْله " وَعقيل " بِالرَّفْع عطف على
الْأَوْزَاعِيّ أَي وَرَوَاهُ أَيْضا عقيل بن خَالِد عَن
نَافِع وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ وَذكر فِيهِ اخْتِلَافا
كثيرا فَمرَّة ذكر رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع
وَمرَّة عَن رجل عَنهُ وَمرَّة عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد
عَن نَافِع وَذكره مرّة عَن عقيل عَن نَافِع وَقَالَ
الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) لم قَالَ أَولا تَابعه وَثَانِيا
رَوَاهُ وَمَا فَائِدَة تَغْيِير الأسلوب (قلت) إِمَّا
لإِرَادَة التَّعْمِيم لِأَن الرِّوَايَة أَعم من أَن تكون
على سَبِيل الْمُتَابَعَة أم لَا وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا لم
يرويا عَن نَافِع بِوَاسِطَة عبيد الله بِخِلَاف الْقَاسِم
فَلَا يَصح عطفهما عَلَيْهِ وَالله المتعال سُبْحَانَهُ
هُوَ يعلم بِحَقِيقَة الْحَال
(بَاب من تمطر فِي الْمَطَر حَتَّى يتحادر على لحيته)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من تمطر إِلَى آخِره قَوْله "
تمطر " بتَشْديد الطَّاء على وزن تفعل وَبَاب تفعل يَأْتِي
لمعان للتكلف كتشجع لِأَن مَعْنَاهُ كلف نَفسه الشجَاعَة
وللاتخاذ نَحْو توسدت التُّرَاب أَي أَخَذته وسَادَة
وللتجنب نَحْو تأثم أَي جَانب الْإِثْم وللعمل يَعْنِي
فَيدل على أَن أصل الْفِعْل حصل مرّة بعد مرّة نَحْو
تجرعته أَي شربته جرعة بعد جرعة وَقَالَ بَعضهم أليق
الْمعَانِي هُنَا أَنه بِمَعْنى مُوَاصلَة الْعَمَل فِي
مهلة نَحْو تفكر وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه مُسلم
من طَرِيق جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن ثَابت " عَن أنس
قَالَ حسر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - ثَوْبه حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَر " وَقَالَ لِأَنَّهُ
حَدِيث عهد بربه قَالَ الْعلمَاء مَعْنَاهُ قريب الْعَهْد
بتكوين ربه فَكَأَن المُصَنّف أَرَادَ أَن يبين أَن تحادر
الْمَطَر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- لم يكن اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا كَانَ قصدا فَلذَلِك ترْجم
بقوله " من تمطر " أَي قصد نزُول الْمَطَر عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ لَو لم يكن بِاخْتِيَارِهِ لنزل عَن الْمِنْبَر
أول مَا وكف السّقف لكنه تَمَادى فِي خطبَته حَتَّى كثر
نُزُوله بِحَيْثُ تحادر على لحيته انْتهى (قلت) الَّذِي
ذكره أهل الصّرْف فِي مَعَاني تفعل هُوَ الَّذِي
ذَكرْنَاهُ وَالَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل يقرب من
الْمَعْنى الرَّابِع وَلَكِن لَا يدل على هَذَا شَيْء
مِمَّا فِي حَدِيث الْبَاب وَقَوله وَلَعَلَّه أَشَارَ
إِلَى أَن مَا أخرجه مُسلم لَا يساعده لِأَن حَدِيث مُسلم
لَا يدل على مُوَاصلَة الْعَمَل فِي مهلة وَإِنَّمَا
الَّذِي يدل هُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - كشف ثَوْبه ليصيبه الْمَطَر لما ذكره من الْمَعْنى
وَهَذَا لَا يدل على أَنه وَاصل ذَلِك وَتَمَادَى فِيهِ
حَتَّى يُطلق عَلَيْهِ أَنه تمطر وَقصد هَذَا الْمَعْنى
فِي الحَدِيث غير صَحِيح وَلَا وضع التَّرْجَمَة
الْمَذْكُورَة على هَذَا الْمَعْنى وَقَوله " تحادر
الْمَطَر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- " لم يكن اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا كَانَ قصدا غَيره مُسلم
من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الَّذِي تحادر على لحيته -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن إِلَّا من
المَاء النَّازِل من وكف السّقف وَإِن كَانَ هُوَ من
الْمَطَر فِي الأَصْل وَلم يكن فِي الْمَطَر الَّذِي أصَاب
ثَوْبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث
مُسلم حاجز بَينه وَبَين الْموضع الَّذِي وصل إِلَيْهِ
وَالْآخر أَن قَوْله إِنَّمَا كَانَ قصدا دَعْوَى بِلَا
برهَان وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك واستدلاله
على مَا ادَّعَاهُ بقوله لِأَنَّهُ لَو لم يكن
بِاخْتِيَارِهِ لنزل عَن الْمِنْبَر إِلَى آخِره لَا
يساعده لِأَن لقَائِل أَن يَقُول عدم نُزُوله من
الْمِنْبَر إِنَّمَا كَانَ لِئَلَّا تَنْقَطِع الْخطْبَة
72 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل قَالَ أخبرنَا عبد الله
قَالَ أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق بن
(7/54)
عبد الله بن أبي طَلْحَة الْأنْصَارِيّ
قَالَ حَدثنِي أنس بن مَالك قَالَ أَصَابَت النَّاس سنة
على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- فَبينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - يخْطب على الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة قَامَ
أَعْرَابِي فَقَالَ يَا رَسُول الله هلك المَال وجاع
الْعِيَال فَادع الله لنا أَن يسقينا قَالَ فَرفع رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ
وَمَا فِي السَّمَاء قزعة قَالَ فثار سَحَاب أَمْثَال
الْجبَال ثمَّ لم ينزل عَن منبره حَتَّى رَأَيْت الْمَطَر
يتحادر على لحيته قَالَ فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك وَفِي
الْغَد وَمن بعد الْغَد وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى
الْجُمُعَة الْأُخْرَى فَقَامَ ذَلِك الْأَعرَابِي أَو رجل
غَيره فَقَالَ يَا رَسُول الله تهدم الْبناء وغرق المَاء
فَادع الله لنا فَرفع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ
حوالينا وَلَا علينا. قَالَ فَمَا جعل يُشِير بِيَدِهِ
إِلَى نَاحيَة من السَّمَاء إِلَّا تفرجت حَتَّى صَارَت
الْمَدِينَة فِي مثل الجوبة حَتَّى سَالَ الْوَادي وَادي
قناة شهرا قَالَ فَلم يَجِيء أحد من نَاحيَة إِلَّا حدث
بالجود) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " حَتَّى رَأَيْت
الْمَطَر يتحادر على لحيته " وَلكنهَا غير ظَاهِرَة لِأَن
هَذَا الْكَلَام لَا يدل على التمطر الَّذِي هُوَ من
التفعل الدَّال على التَّكَلُّف وَقد مر هَذَا الحَدِيث
فِي كتاب الْجُمُعَة وَكتاب الاسْتِسْقَاء مطولا ومختصرا
برواة مُخْتَلفَة ومتون مُتَغَايِرَة بِزِيَادَة ونقصان
وَقد استقصينا الْكَلَام فِي تَفْسِيره بِجَمِيعِ مَا
يتَعَلَّق بِهِ قَوْله " بالجود " بِفَتْح الْجِيم
وَسُكُون الْوَاو الْمَطَر الْكثير
(بَاب إِذا هبت الرّيح)
أَي هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا هبت الرّيح وَجَوَاب إِذا
مُقَدّر تَقْدِيره إِذا هبت الرّيح مَا يصنع من قَول أَو
فعل وَوجه دُخُول هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب
الاسْتِسْقَاء أَن المُرَاد من الاسْتِسْقَاء نزُول
الْمَطَر وَالرِّيح فِي الْغَالِب يَأْتِي بِهِ لِأَن
الرِّيَاح على أَقسَام مِنْهَا الرّيح الَّذِي يَسُوق
السحب الممطرة
72 - (حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد
بن جَعْفَر قَالَ أَخْبرنِي حميد أَنه سمع أنسا يَقُول
كَانَت الرّيح الشَّدِيدَة إِذا هبت عرف ذَلِك فِي وَجه
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة
قَوْله " عرف ذَلِك " أَي هبوبها أَي أَثَره يَعْنِي تغير
وَجهه وَظهر فِيهِ عَلامَة الْخَوْف. وَالْحَاصِل أَنه
أطلق السَّبَب وَأَرَادَ الْمُسَبّب إِذْ الهبوب سَبَب
الْخَوْف من أَن يكون عذَابا سلطه الله على أمته قيل كَانَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْشَى
أَن تصيبهم عُقُوبَة ذنُوب الْعَامَّة كَمَا أصَاب الَّذين
قَالُوا {هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} وروى أَبُو يعلى
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن قَتَادَة " عَن أنس أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا هَاجَتْ
ريح شَدِيدَة قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير مَا
أمرت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرّ مَا أمرت بِهِ " وَهَذِه
زِيَادَة على رِوَايَة حميد يجب قبُولهَا لثقة رواتها
وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس
وَعَائِشَة وَأبي بن كَعْب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي
سنَنه أَنه قَالَ " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول الرّيح من روح الله قَالَ
سَلمَة فَروح الله عز وَجل تَأتي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي
بِالْعَذَابِ فَإِذا رأيتموها فَلَا تسبوها وسلوا الله
خَيرهَا واستعيذوا بِاللَّه من شَرها ". وَأما حَدِيث ابْن
عَبَّاس فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ " كَانَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا هَاجَتْ
ريح اسْتَقْبلهَا بِوَجْهِهِ وجثى على رُكْبَتَيْهِ
وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير هَذِه وَخير مَا
أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا أرْسلت بِهِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَة وَلَا تجعلها عذَابا
اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا ". وَأما
حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ مُسلم أَنَّهَا قَالَت " كَانَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا
عصفت الرّيح قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك خَيرهَا
وَخير مَا فِيهَا وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من
شَرها وَشر مَا فِيهَا وَشر مَا أرْسلت بِهِ قَالَت فَإِذا
تَخَيَّلت السَّمَاء تغير لَونه وَخرج وَدخل وَأَقْبل
وَأدبر فَإِذا مطرَت
(7/55)
سرى عَنهُ فَعرفت ذَلِك عَائِشَة فَسَأَلته
فَقَالَ لَعَلَّه يَا عَائِشَة كَمَا قَالَ قوم عَاد
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ قَالُوا
هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} . وَأما حَدِيث أبي بن كَعْب
رَضِي الله تعنه فَرَوَاهُ. وَأما حَدِيث عُثْمَان بن
الْعَاصِ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ " كَانَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اشتدت
الرّيح الشمَال قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرّ
مَا أرْسلت بِهِ ". (وَمن فَوَائِد حَدِيث الْبَاب)
الاستعداد بالمراقبة لله عز وَجل والالتجاء إِلَيْهِ عِنْد
اخْتِلَاف الْأَحْوَال وحدوث مَا يخَاف بِسَبَبِهِ وَالله
أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
(بَاب قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- نصرت بالصبا)
أَي هَذَا بَاب قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - نصرت بالصبا وَذكر أَبُو حنيفَة فِي كتاب
الأنواء أَن خَالِد بن صَفْوَان قَالَ الرِّيَاح أَربع
الصِّبَا ومهبها فِيمَا بَين مطلع الشَّرْطَيْنِ إِلَى
القطب ومهب الشمَال فِيمَا بَين القطب إِلَى مسْقط
الشَّرْطَيْنِ وَمَا بَين مسْقط الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب
الْأَسْفَل مهب الدبور وَمَا بَين القطب الْأَسْفَل إِلَى
مطلع الشَّرْطَيْنِ مهب الْجنُوب وَحكي عَن جَعْفَر بن سعد
بن سَمُرَة أَنه قَالَ الرِّيَاح سِتّ الْقبُول وَهِي
الصِّبَا مخرجها مَا بَين المشرقين وَمَا بَين المغربين
الدبور وَزَاد النكباء ومحوة وَقَالَ الْجَوْهَرِي
الصِّبَا ريح مهبها المستوى مَوضِع مطلع الشَّمْس إِذا
اسْتَوَى اللَّيْل وَالنَّهَار وَالدبور الرّيح الَّذِي
يُقَابل الصِّبَا وَيُقَال الصِّبَا مَقْصُورَة الرّيح
الشرقية وَالدبور بِفَتْح الدَّال الرّيح الغربية وَيُقَال
الصِّبَا الَّتِي تَجِيء من ظهرك إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة
وَالدبور الَّتِي تَجِيء من قبل وَجهك إِذا استقبلتها
وَعَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه قَالَ مهب الصِّبَا من مطلع
الثريا إِلَى بَنَات نعش ومهب الدبور من مسْقط النسْر
الطَّائِر إِلَى سُهَيْل وَالصبَا ريح الْبرد وَالدبور ريح
الصَّيف وَعَن أبي عُبَيْدَة الصِّبَا للإلذاذ وَالدبور
للبلاء وأهونه أَن يكون غبارا عاصفا يقذي الْأَعْين وَهِي
أقلهن هبوبا وَفِي التَّفْسِير ريح الصِّبَا هِيَ الَّتِي
حملت ريح يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل
البشير إِلَيْهِ فإليها يستريح كل محزون وَالدبور هِيَ
الرّيح الْعَقِيم يُقَال صبا وصبيان وصبوات وأصباء
وكتابتها بِالْألف لقَولهم صبَّتْ الرّيح تصبو أصبا إِذا
هبت وَقَالَ أَبُو عَليّ الصِّبَا وَالدبور يكونَانِ اسْما
وَصفَة وَالدبور يجمع على دبر وأدبار ودبائر وَيجمع قبُول
على قبائل يُقَال قبلت الرّيح تقبل قبولا ودبرت تدبر دبورا
وَيُقَال أَقبلنَا من الْقبُول وأصبينا من الصِّبَا
وأدبرنا من الدبور فَنحْن مصبون ومدبرون فَإِذا أردْت
أَنَّهَا أصابتنا قلت قبلنَا فَنحْن مقبولون وصبينا فَنحْن
مصبون ومصبيون ودبرنا فَنحْن مدبرون -
5301 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَة عنِ
الحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ
النَّبِيَّ قَالَ نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عادٌ
بِالدَّبُورِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَالْحكم
بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عتيبة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن آدم
وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، عَن مُحَمَّد بن عرْعرة وَفِي الْمَغَازِي
عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي مُوسَى وَبُنْدَار،
ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (نصرت بالصبا) ، ونصرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالصبا كَانَ يَوْم الخَنْدَق، بعث الله الصِّبَا ريحًا
بَارِدَة على الْمُشْركين فِي ليَالِي شَاتِيَة شَدِيدَة
الْبرد، فأطفأت النيرَان وَقطعت الْأَوْتَاد والأطناب
وَأَلْقَتْ الْمضَارب والأخبية، فَانْهَزَمُوا بِغَيْر
قتال لَيْلًا، قَالَ الله تَعَالَى: {إِذا جاءتكم جنود
فارسلنا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا}
(الْأَحْزَاب: 9) . وَأما عَاد فَإِنَّهُ: ابْن عوص بن أرم
بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فتفرعت
أَوْلَاده، فَكَانُوا ثَلَاث عشرَة قَبيلَة ينزلون
الْأَحْقَاف وبلادها، وَكَانَت دِيَارهمْ بالدهناء وعالج
وبثرين ووبار إِلَى حَضرمَوْت، وَكَانَت أخصب الْبِلَاد،
فَلَمَّا سخط الله تَعَالَى عَلَيْهِم جعلهَا مفاوز،
فَأرْسل الله عَلَيْهِم الدبور فأهلكتهم، وَكَانَت
{عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما}
(الحاقة: 7) . أَي: متتابعة ابتدأت غدْوَة الْأَرْبَعَاء
وسكنت فِي آخر الثَّامِن، وَاعْتَزل هود نَبِي الله،
عَلَيْهِ السَّلَام، وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ فِي
حَظِيرَة لَا يصيبهم مِنْهَا إلاّ مَا يلين الْجُلُود وتلذ
الْأَعْين، وَقَالَ مجاهذ: وَكَانَ قد آمن مَعَه أَرْبَعَة
آلَاف، فَذَلِك
(7/56)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا
نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه} (هود: 85) . وَكَانَت
الرّيح تقلع الشّجر وتهدم الْبيُوت، وَمن لم يكن فِي بَيته
مِنْهُم أهلكته فِي البراري وَالْجِبَال، وَكَانَت ترفع
الظعينة بَين السَّمَاء وَالْأَرْض حَتَّى ترى كَأَنَّهَا
جَرَادَة، وترميهم بِالْحِجَارَةِ فتدق أَعْنَاقهم.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: دخلُوا الْبيُوت وَأَغْلقُوا
أَبْوَابهَا فَجَاءَت الرّيح ففتحت الْأَبْوَاب وَسَفتْ
عَلَيْهِم الرمل فبقوا تَحْتَهُ سبع لَيَال وَثَمَانِية
أَيَّام، وَكَانَ يسمع أنينهم تَحت الرمل، وماتوا. وَقَالَ
ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لم تجر
الرِّيَاح قطّ بِمِكْيَال إلاّ فِي قصَّة عَاد، فَإِنَّهَا
عَصَتْ عل الْخزَّان فَغَلَبَتْهُمْ فَلم يعلمُوا مِقْدَار
مكيالها، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فأهلكوا برِيح صَرْصَر
عَاتِيَة} (الحاقة: 6) . والصرصر ذَات الصَّوْت الشَّديد
{كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} (الحاقة: 7) . منقعرا من
أَصله.
وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذَا الحَدِيث تَفْضِيل
الْمَخْلُوقَات بَعْضهَا على بعض. وَفِيه: إِخْبَار
الْمَرْء عَن نَفسه بِمَا فَضله الله بِهِ على جِهَة
التحديث بِنِعْمَة الله وَالشُّكْر لَهُ لَا على الْفَخر.
وَفِيه: الْإِخْبَار عَن الْأُمَم الْمَاضِيَة وإهلاكها.
72 - (بابُ مَا قِيلَ فِي الزَّلاَزِلِ وَالآيَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي الزلازل، وَهُوَ
جمع الزلزلة، والآيات جمع آيَة، وَهِي الْعَلامَة
وَأَرَادَ بهَا: عَلَامَات الْقِيَامَة أَو عَلَامَات
قدرَة الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب فِي
أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء، لِأَن وجود الزلزلة وَنَحْوهَا
يَقع غَالِبا مَعَ نزُول الْمَطَر.
6301 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
قَالَ أخبرنَا أبُو الزِّنَادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ
الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى
يُقْبَضَ العِلْمُ وتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ ويَتَقَارَبَ
الزَّمَانُ وتَظْهَرَ الفِتَنُ ويَكْثُرَ الهَرْجُ وَهُوَ
القَتْلُ القَتْلُ حتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المالُ
فَيَفِيضُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم،
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي
حَمْزَة أَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن
ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، وَقد
ذكر هَذَا الحَدِيث مطولا فِي كتاب الْفِتَن، وَذكر مِنْهُ
قطعا هُنَا وَفِي الزَّكَاة وَفِي الرقَاق.
قَوْله: (لَا تقوم السَّاعَة) أَرَادَ بهَا يَوْم
الْقِيَامَة. قَوْله: (حَتَّى يقبض الْعلم) ، وَذَلِكَ
بِمَوْت الْعلمَاء وَكَثْرَة الجهلاء، وَقَالَ السفاقسي:
يَعْنِي أَكْثَرهم، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا
تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى
يَأْتِي أَمر الله) . قَوْله: (وتكثر الزلازل) ، قَالَ
الْمُهلب: ظُهُور الزلازل والآيات وَعِيد من الله تَعَالَى
لأهل الأَرْض، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا نرسل
بِالْآيَاتِ إلاّ تخويفا} (الْإِسْرَاء: 95) . والتخويف
والوعيد بِهَذِهِ الْآيَات إِنَّمَا يكون عِنْد المجاهرة
والإعلان بِالْمَعَاصِي، أَلا ترى أَن عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين زلزلت الْمَدِينَة فِي
أَيَّامه، قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة مَا أسْرع مَا
أحدثتم، وَالله لَئِن عَادَتْ لأخْرجَن من بَين أظْهركُم،
فخشي أَن تصيبه الْعقُوبَة مَعَهم، كَمَا قيل لرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أنهلك وَفينَا الصالحون؟ قَالَ:
نعم إِذا كثر الْخبث، وَيبْعَث الله الصَّالِحين على
نياتهم) . قَوْله: (ويتقارب الزَّمَان) . قَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه قرب
الْقِيَامَة، ثمَّ الْمَعْنى: إِذا قربت الْقِيَامَة كَانَ
من شَرطهَا الشُّح والهرج. وَالثَّانِي: أَنه قصر مُدَّة
الْأَزْمِنَة عَمَّا جرت بِهِ الْعَادة، كَمَا جَاءَ:
حَتَّى تكون السّنة كالشهر، والشهر كَالْجُمُعَةِ،
وَالْجُمُعَة كَالْيَوْمِ. قيل: وَالْيَوْم كالساعة،
والساعة كالضرمة بالنَّار. وَالثَّالِث: أَنه قصر
الْأَعْمَار بقلة الْبركَة فِيهَا. وَالرَّابِع: تقَارب
أَحْوَال النَّاس فِي غَلَبَة الْفساد عَلَيْهِم، وَيكون
الْمَعْنى: ويتقارب أهل الزَّمَان، أَي تتقارب صفاتهم فِي
القبائح، وَلِهَذَا ذكر على أَثَره الْهَرج وَالشح.
وَقَالَ ابْن التِّين: معنى ذَلِك قرب الْآيَات بَعْضهَا
من بعض، وَفِي (حَوَاشِي الْمُنْذِرِيّ) قيل: مَعْنَاهُ
تطيب تِلْكَ الْأَيَّام حَتَّى لَا تكَاد تستطال، بل تقصر،
قَالَ: وَقيل: على ظَاهره من قصر مددها. وَقيل: تقَارب
أَحْوَال أَهله فِي قلَّة الدّين حَتَّى لَا يكون فيهم من
يَأْمر بِمَعْرُوف وَلَا ينْهَى عَن مُنكر لغَلَبَة الْفسق
وَظُهُور أَهله. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد يكون مَعْنَاهُ
فِي ترك طلب الْعلم خَاصَّة. وَقيل: يتقارب اللَّيْل
وَالنَّهَار فِي عدم ازدياد السَّاعَات وانتقاصها بِأَن
يتساويا طولا وقصرا. قَالَ أهل الْهَيْئَة: تنطبق دَائِرَة
منْطقَة البروج على دَائِرَة معدل النَّهَار، فَحِينَئِذٍ
يلْزم تساويهما ضَرُورَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: حَتَّى
يقرب الزَّمَان من الْقِيَامَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
حَاصِل تَفْسِيره أَنه لَا تكون الْقِيَامَة حَتَّى تقرب،
وَهَذَا كَلَام مهمل لَا طائل تَحْتَهُ. قلت: هَذِه جرْأَة
من غير طَريقَة، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذكره حَاصِل
تَفْسِيره، بل معنى كَلَامه:
(7/57)
يقرب الزَّمَان الْعَام بَين الْخلق من
الْقِيَامَة الَّتِي هِيَ الزَّمَان الْخَاص، وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيّ: أَو يُرَاد أَن تتسارع الدول إِلَى
الِانْقِضَاء فتقارب أَيَّام الْمُلُوك. قَوْله: (وَيكثر
الْهَرج) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره
جِيم: وَهُوَ الْقِتَال، والاختلاط، ورأيتهم يتهارجون أَي:
يتسافدون، قَالَه صَاحب (الْعين) . وَقَالَ يَعْقُوب:
الْهَرج الْقَتْل. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الْهَرج
الْفِتْنَة فِي آخر الزَّمَان. قَالَ: وَرُوِيَ: (أَمَام
السَّاعَة هرج) . وَأَصله الْإِكْثَار من الشَّيْء. وَفِي
(الْمُحكم) : الْهَرج شدَّة الْقَتْل وكثرته، كَثْرَة
الْكَذِب وَكَثْرَة النّوم، والهرج شَيْء ترَاهُ فِي
النّوم وَلَيْسَ بصادق. قَوْله: (حَتَّى يكثر) ، وَذَلِكَ
لقلَّة الرِّجَال وَقلة الرغبات ولقصر الآمال لعلمهم بِقرب
السَّاعَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ ترك:
الْوَاو، وَلم يعْطف على مَا قبله؟ يَعْنِي: لم يقل:
وَحَتَّى يكثر؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا غَايَة لِكَثْرَة
الْهَرج، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْطُوفًا على مَا قبله،
وَالْوَاو محذوفة، وَحذف الْوَاو جَائِز فِي اللُّغَة.
قَوْله: (فيفيض) بِفَتْح حرف المضارعة، وَيجوز فِي الضَّاد
الرّفْع وَالنّصب: أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، أَي: فَهُوَ يفِيض، وَأما النصب فعلى أَنه عطف
على: أَن يكثر، يُقَال: فاض المَاء يفِيض إِذا كثر حَتَّى
سَالَ على ضفة الْوَادي أَي جَانِبه، وَيُقَال: أَفَاضَ
الرجل إناءه أَي ملأَهُ حَتَّى فاض، وَيُقَال: فيض المَال
كثرته حَتَّى يفضل مِنْهُ بأيدي ملاكه مَا لَا حَاجَة
لَهُم بِهِ، وَقيل: بل ينتشر فِي النَّاس ويعمهم، وَهُوَ
الْأَظْهر.
7301 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا
حُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ قَالَ حَدثنَا ابنُ عَوْنٍ عنْ
نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِي
شامِنَا وَفِي يَمِنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا
قَالَ قَالَ اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِي شامِنَا وَفِي
يَمِنِنا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ
هُنَاكَ الزَّلازِلُ والفِتَنُ وبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ.
(الحَدِيث 7301 طرفه فِي: 4907) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هُنَالك الزلازل
والفتن) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن
عبيد أَبُو مُوسَى، يعرف بالزمن الْعَنْبَري من أهل
الْبَصْرَة. الثَّانِي: حُسَيْن بن الْحسن بن يسَار من آل
مَالك بن يسَار ضد الْيَمين الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة ثَمَان
وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الله بن عون بن
أرطبان، بِفَتْح الْهمزَة: الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: نَافِع
مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته
بصريون مَا خلا نَافِعًا. وَفِيه: أَن هَذَا مَوْقُوف على
ابْن عمر، قَالَ الْحميدِي: اخْتلف على ابْن عون فِيهِ،
فروى عَنهُ مُسْندًا، وروى عَنهُ مَوْقُوفا على ابْن عمر
من قَوْله، وَالْخلاف إِنَّمَا وَقع من حُسَيْن بن الْحسن
فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي روى الْوَقْف، وَأما أَزْهَر
السمان وَعبيد الله بن عبد الله بن عون فروياه عَن ابْن
عون فروياه عَن ابْن عون عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . فَذكره، وَفِي
رِوَايَة: ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر
الحَدِيث. وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ الشَّيْخ أَبُو
الْحسن: سقط من سَنَده ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لِأَن مثل هَذَا لَا يدْرِي بِالرَّأْيِ وَقَالَ
النَّسَفِيّ: قَالَ أَبُو عبد الله: هَذَا الحَدِيث
مَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ أَن
ابْن عون كَانَ يوقفه.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْفِتَن عَن عَليّ بن عبد الله
عَن أَزْهَر بن سعد مُصَرحًا فِيهِ بِذكر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب
عَن بشر بن آدم بن بنت أَزْهَر السمان عَن جده أَزْهَر
مَرْفُوعا، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ مُسْندًا، وَفِيه: فَلَمَّا كَانَ فِي
الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة قَالَ: أَظُنهُ قَالَ: وَفِي
نجدنا. قَالَ الدَّاودِيّ: وَإِنَّمَا لم يقل: فِي نجدنا،
لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو بِمَا سبق فِي علم الله تَعَالَى
خِلَافه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي شامنا) ، قَالَ ابْن هِشَام
فِي (التيجان) هُوَ اسْم أعجمي من لُغَة بني حام،
وَتَفْسِيره بالعربي: خير طيب، وَذكر الْكَلْبِيّ فِي
(كتاب الْبلدَانِ) عَن الشرفي: إِنَّمَا سميت بسام بن نوح
لِأَنَّهُ أول من نزلها. قَالَ الْكَلْبِيّ: وَلم ينزلها
سَام قطّ، قَالَ: وَلما أخرج النَّاس من بابل أَخذ بَعضهم
يمنة فسميت الْيمن، وتشاءم آخَرُونَ فسميت الشَّام.
وَكَانَت الشَّام يُقَال لَهَا: أَرض كنعان، قَالَ:
وَكَانَ فالخ بن عَامر هُوَ الَّذِي قسم الأَرْض بَين بني
نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي
فِي كَلَامه على الزَّاهِر: سميت بذلك لِكَثْرَة قراها
وتداني بَعْضهَا من بعض، فشبهت بالشامات، وَقَالَ أهل
الْأَثر: سميت بذلك لِأَن قوما من كنعان بن حام خَرجُوا
عِنْد التَّفَرُّق فتشأموا إِلَيْهَا: أَي أخذُوا ذَات
الشمَال، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي (تَارِيخ دمشق) :
(7/58)
قَالَ ابْن المقفع: سميت الشَّام بسام بن
نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وسام اسْمه بالسُّرْيَانيَّة:
شام، وبالعبرانية: شيم. قَالَ ابْن عَسَاكِر. وَقيل: سميت
شاما لِأَنَّهَا عَن شمال الأَرْض. وَقَالَ بعض الروَاة:
إِن اسْم الشَّام أَولا سورية، وككانت أَرض بني
إِسْرَائِيل، قسمت على اثْنَي عشر سَهْما، فَصَارَ لسهم
مِنْهُم مَدِينَة شامرين، وَهِي من أَرض فلسطين، فَصَارَ
إِلَيْهَا متجر الْعَرَب فِي ذَلِك، وَمِنْهَا كَانَت
ميرتهم فسموا الشَّام بشامرين، ثمَّ حذفوا فَقَالُوا:
الشَّام. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الشأم، مَهْمُوز الْألف،
وَقد لَا يهمز، وَقَالَ الْفراء: فِيهَا لُغَتَانِ: شام
وشأم، وَالنّسب إِلَيْهَا شأمي وشامي، وشام على الْحَذف.
قَالَ الْجَوْهَرِي: يذكر وَيُؤَنث، وَلَا يُقَال: شأم،
وَمَا جَاءَ فِي ضَرُورَة الشّعْر فَمَحْمُول على أَنه
اقْتصر من النِّسْبَة على ذكر الْبَلَد، وَالْقَوْم
أشأموا، أَي: أَتَوا الشَّام أَو ذَهَبُوا إِلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن سراج مَهْمُوز مَمْدُود،
وأباء أَكْثَرهم إلاّ فِي النّسَب أَعنِي: فتح الْهمزَة،
كَمَا اخْتلف فِي إِثْبَات الْيَاء مَعَ الْهمزَة
الممدودة، فَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهٍ وَمنعه غَيره.
وَيُقَال: قَوْله: (فِي شامنا ويمننا) أَي: الإقليمين
الْمَشْهُورين، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهما: الْبِلَاد
الَّتِي فِي يميننا ويسارنا أَعم مِنْهُمَا، يُقَال: نظرت
يمنة وشامة أَي: يَمِينا ويسارا، ونجد هُوَ خلاف الْغَوْر.
والغور هُوَ تهَامَة، وكل مَا ارْتَفع عَن تهَامَة إِلَى
أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَإِنَّمَا ترك الدُّعَاء لأهل
الْمشرق ليضعفوا عَن الشَّرّ الَّذِي هُوَ مَوْضُوع فِي
جهتهم لاستيلاء الشَّيْطَان بلفتن عَلَيْهَا. قَوْله:
(وَبهَا) أَي: وبنجد يطلع قرن الشَّيْطَان، أَي: أمته
وَحزبه. وَقَالَ كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يخرج
الدَّجَّال من الْعرَاق.
82 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (الْوَاقِعَة: 28) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل ... إِلَى
آخِره، وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي أَبْوَاب
الاسْتِسْقَاء لِأَن هَذِه الْآيَة فِيمَن قَالُوا:
الاسْتِسْقَاء بالأنواء، على مَا روى عبد بن حميد الْكشِّي
فِي تَفْسِيره: حَدثنِي يحيى بن عبد الحميد عَن ابْن
عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن ابْن عَبَّاس: {وتجعلون رزقكم
أَنكُمْ تكذبون} (الْوَاقِعَة: 28) . قَالَا:
الاسْتِسْقَاء بالأنواء، أخبرنَا إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه
عَن عِكْرِمَة عَن مَوْلَاهُ {وتجعلون رزقكم}
(الْوَاقِعَة: 28) . قَالَ: تَجْعَلُونَ شكركم، وَفِي
تَفْسِير ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا:
جمع إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي، وَرِوَايَته عَن
الضَّحَّاك عَنهُ: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون}
(الْوَاقِعَة: 28) . قَالَ: وَذَلِكَ ان النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مر على رجل وَهُوَ يَسْتَسْقِي بقدح لَهُ
ويصبه فِي قربَة من مَاء السَّمَاء، وَهُوَ يَقُول: سقينا
بِنَوْء كَذَا وَكَذَا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وتجعلون
رزقكم أَنكُمْ تكذبون} (الْوَاقِعَة: 28) . يَعْنِي:
الْمَطَر، حَيْثُ يَقُولُونَ سقينا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا.
وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (قَالَ مطر
النَّاس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أصبح من
النَّاس شاكرا وَمِنْهُم كَافِرًا، قَالُوا: هَذِه رَحْمَة
وَضعهَا الله تَعَالَى، وَقَالَ بَعضهم: لقد صدق نوء كَذَا
فَنزلت هَذِه الْآيَة: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون}
(الْوَاقِعَة: 28) . وَذكر أَبُو الْعَبَّاس فِي (مقامات
التَّنْزِيل) عَن الْكَلْبِيّ أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَطش أَصْحَابه فاستسقوه، قَالَ: إِن سقيتم
قُلْتُمْ سقينا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا. قَالُوا: وَالله
مَا هُوَ بِحِين الأنواء، فَدَعَا الله تَعَالَى
فَمُطِرُوا، فَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِرَجُل يغْرف من قدح وَيَقُول: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا
وَكَذَا، فَنزلت. وروى الحكم عَن السّديّ، قَالَ: أَصَابَت
قُريْشًا سنة شَدِيدَة، فسألوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يَسْتَسْقِي، فَدَعَا فأمطروا. فَقَالَ بَعضهم:
مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا، فَنزلت الْآيَة. قَالَ
السّديّ: وحَدثني عبد خير عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه كَانَ يقْرؤهَا: وتجعلون شكركم، وَقَالَ عبد
بن حميد: حَدثنَا عمر ابْن سعد وَقبيصَة عَن سُفْيَان عَن
عبد الْأَعْلَى عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: كَانَ
عَليّ يقْرَأ: {وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون} وروى سعيد
بن الْمَنْصُور عَن هشيم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن
عَبَّاس، أَنه كَانَ يقْرَأ: {وتجعلون شكركم أَنكُمْ
تكذبون} ، وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي
(التَّفْسِير الْمسند) . وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج:
وقرئت: {وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون} ، وَلَا يَنْبَغِي
أَن يقْرَأ بهَا بِخِلَاف الْمُصحف. وَقيل: فِي
الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة حذف، تَقْدِيره: وتجعلون شكر
رزقكم. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْمَعْنى، وتجعلون الرز
الَّذِي وَجب عَلَيْكُم بِهِ الشُّكْر تكذيبكم بِهِ،
وَقيل: بل الرزق بِمَعْنى الشُّكْر فِي لُغَة أَزْد
شنُوءَة، نَقله الطَّبَرِيّ عَن الْهَيْثَم بن عدي: وَفِي
(تَفْسِير أبي الْقَاسِم الْجَوْزِيّ) : وتجعلون نصيبكم من
الْقُرْآن أَنكُمْ تكذبون.
قَالَ ابنُ عَبَّاسِ شُكْرَكُمْ
(7/59)
هَذَا التَّعْلِيق ذكره عبد بن حميد فِي
تَفْسِيره، وَقد ذَكرْنَاهُ آنِفا: أطلق الرزق وَأَرَادَ
بِهِ لَازمه وَهُوَ الشُّكْر، فَهُوَ مجَاز، أَو أَرَادَ
شكر رزقكم، فَهُوَ من بَاب الْإِضْمَار.
8301 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ
صالِحِ بنِ كَيْسَانَ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله
بنِ عُتْبَةَ ابنِ مَسْعُودٍ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ
الجُهَنِيِّ أَنه قَالَ صلَّى لَنا رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ علَى
إثْرِ سَماء كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فلمَّا انْصَرَفَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقْبَلَ علَى النَّاسِ
فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربُّكُمْ قَالُوا
الله ورسُولُهُ أعْلَمُ قَالَ أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي
مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ فَأمَّا مَنْ قالَ مُطِرْنَا
بِفَضْلِ الله ورَحْمَتِهِ فذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كافِرٌ
بِالكَوْكَبِ وأمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذَا
وَكَذَا فذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهُم كَانُوا ينسبون
الْأَفْعَال إِلَى غير الله، فيظنون أَن النَّجْم يمطرهم
ويرزقهم، فَهَذَا تكذيبهم، فنهاهم الله عَن نِسْبَة الغيوث
الَّتِي جعلهَا الله حَيَاة لِعِبَادِهِ وبلاده إِلَى
الأنواء، وَأمرهمْ أَن يضيفوا ذَلِك إِلَيْهِ لِأَنَّهُ من
نعْمَته عَلَيْهِم، وَأَن يفردوه بالشكر على ذَلِك.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن
أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس.
قَوْله: (عَن زيد بن خَالِد) ، هَكَذَا يَقُول صَالح بن
كيسَان: لم يخْتَلف عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَخَالفهُ
الزُّهْرِيّ فَرَوَاهُ عَن شيخهما عبيد الله فَقَالَ: عَن
أبي هُرَيْرَة، أخرجه مُسلم عقب رِوَايَة صَالح، وَصحح
الطَّرِيقَيْنِ، لِأَن عبيد الله سمع من زيد بن خَالِد
وَأبي هُرَيْرَة جَمِيعًا عدَّة أَحَادِيث، فَلَعَلَّهُ
سمع هَذَا مِنْهُمَا، فَحدث بِهِ تَارَة عَن هَذَا وَتارَة
عَن هَذَا، وَإِنَّمَا لم يجمعهما لاخْتِلَاف لَفْظهمَا،
وَقد صرح صَالح سَمَاعه لَهُ من عبيد الله عِنْد أبي
عوَانَة، وروى صَالح عَن عبيد الله بِوَاسِطَة الزُّهْرِيّ
عدَّة أَحَادِيث.
وَحَدِيث الْبَاب أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب يسْتَقْبل
الإِمَام النَّاس إِذا سلم: عَن عبد الله بن مسلمة عَن
مَالك إِلَى آخِره وَنَحْوه، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على
جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَالله أعلم
بِحَقِيقَة الْحَال.
92 - (بابٌ لَا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ إلاّ الله)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته لَا يدْرِي وَقت مَجِيء
الْمَطَر إلاّ الله، وَلما كَانَ الْبَاب السَّابِق
يتَضَمَّن أَن الْمَطَر إِنَّمَا ينزل بِقَضَاء الله
تَعَالَى، وَأَنه لَا تَأْثِير للكواكب فِي نُزُوله ذكر
هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة ليبين أَن أحدا لَا
يعلم مَتى يَجِيء، وَلَا يعلم ذَلِك إلاّ الله عز وَجل،
لِأَن نُزُوله إِذا كَانَ بِقَضَائِهِ وَلَا يُعلمهُ أحد
غَيره فَكَذَلِك لَا يعلم أحد إبان مَجِيئه.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلاّ الله
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي
الْإِيمَان، وَفِي تَفْسِير لُقْمَان من طَرِيق أبي زرْعَة
عَن أبي هُرَيْرَة فِي سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، لَكِن لَفظه:
فِي خمس لَا يعلمهُنَّ إلاّ الله، وَوَقع فِي بعض
الرِّوَايَات فِي التَّفْسِير بِلَفْظ: وَخمْس، وروى ابْن
مرْدَوَيْه فِي التَّفْسِير من طَرِيق يحيى بن أَيُّوب
البَجلِيّ عَن جده عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة
رَفعه: (خمس من الْغَيْب لَا يعلمهُنَّ إلاّ الله: {إِن
الله عِنْده علم السَّاعَة ... } (لُقْمَان: 43) . إِلَى
آخِره الْآيَة.
9301 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ دِينار عنِ ابنِ عُمَرَ
قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِفْتَاحُ
الغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إلاّ الله لَا يَعْلَمْ
أحدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ ولاَ يَعْلَمُ أحَدٌ مَا
يَكُونُ فِي الأرْحَامِ وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا
تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ
وَمَا يَدْرِي أحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان
هُوَ الثَّوْريّ، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ مطولا فِي:
بَاب سُؤال جِبْرِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْإِيمَان والاسلام، وَلَفظه فِيهِ: (فِي خمس لَا
يعلمهُنَّ إِلَّا الله ثمَّ
(7/60)
تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله عِنْده
علم السَّاعَة) الْآيَة.
قَوْله: (مِفْتَاح الْغَيْب) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
(مفاتح الْغَيْب) ، ذكر الطَّبَرَانِيّ أَن: المفاتيح جمع
مِفْتَاح، والمفاتح جمع مفتح، وهما فِي الأَصْل كل مَا
يتوسل بِهِ إِلَى اسْتِخْرَاج المغلقات الَّتِي يتَعَذَّر
الْوُصُول إِلَيْهَا، وَهُوَ إِمَّا اسْتِعَارَة مكنية
بِأَن يَجْعَل الْغَيْب كالمخزن المستوثق بالإغلاق فيضاف
إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص المخزن الْمَذْكُور، وَهُوَ
الْمِفْتَاح وَهُوَ الِاسْتِعَارَة الترشيحية، وَيجوز أَن
يكون اسْتِعَارَة مصرحة بِأَن يَجْعَل مَا يتَوَصَّل بِهِ
إِلَى معرفَة الْغَيْب للمخزون، وَيكون لفظ الْغَيْب
قرينَة لَهُ، والغيب مَا غَابَ عَن الْخلق، وَسَوَاء كَانَ
محصلاً فِي الْقُلُوب أَو غير مُحَصل، وَلَا غيب عِنْد
الله عز وَجل.
وَهَهُنَا أسئلة: الأول: أَن الغيوب الَّتِي لَا يعلمهَا
إِلَّا الله كَثِيرَة، وَلَا يعلم مبلغها إِلَّا الله
تَعَالَى، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك
إلاّ هُوَ} (المدثر: 13) . فَمَا وَجه التَّخْصِيص بالخمس؟
وَأجِيب: بأوجه. . الأول: أَن التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا
يدل على نفي الزَّائِد، وَالثَّانِي: أَن ذكر هَذَا
الْعدَد فِي مُقَابلَة مَا كَانَ الْقَوْم يَعْتَقِدُونَ
أَنهم يعْرفُونَ من الْغَيْب هَذِه الْخمس. وَالثَّالِث:
لأَنهم كَانُوا يسألونه عَن هَذِه الْخمس. وَالرَّابِع:
أَن أُمَّهَات الْأُمُور هَذِه، لِأَنَّهَا إِمَّا أَن
تتَعَلَّق بِالآخِرَة وَهُوَ علم السَّاعَة، وَإِمَّا
بالدنيا، وَذَلِكَ إِمَّا مُتَعَلق بالجماد أَو
بِالْحَيَوَانِ. وَالثَّانِي إِمَّا بِحَسب مبدأ وجوده أَو
بِحَسب معاده أَو بِحَسب معاشه.
السُّؤَال الثَّانِي: من أَيْن يعلم مِنْهُ علم السَّاعَة،
وَقد ذكر الله الْخَمْسَة حَيْثُ قَالَ: {إِن الله عِنْده
علم السَّاعَة} (لُقْمَان: 43) . وَأجِيب: بِأَن الأول من
هَذِه إِشَارَة إِلَيْهِ إِذْ يحْتَمل وُقُوع أَشْرَاط
السَّاعَة فِي الْغَد.
السُّؤَال الثَّالِث: أَنه قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نفس،
وَفِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: أحد وَأجِيب: بِأَن النَّفس هِيَ
الكاسبة وَهِي المائتة، قَالَ تَعَالَى: {كل نفس بِمَا
كسبت رهينة} (المدثر: 83) . وَقَالَ تَعَالَى: {الله يتوفى
الْأَنْفس حِين مَوتهَا} (الزمر: 24) . فَلَو قيل بدلهَا
لفظ أحد، فِيهَا لاحتمل أَن يفهم مِنْهُ لَا يعلم أحد
مَاذَا تكسب نَفسه أَو بِأَيّ أَرض تَمُوت نَفسه. فتفوت
الْمُبَالغَة الْمَقْصُودَة، وَهِي: أَن النَّفس لَا تعرف
حَال نَفسهَا لَا حَالا ومآلاً وَإِذ لم يكن لَهَا طَرِيق
إِلَى مَعْرفَتهَا فَكَانَ إِلَى عدم معرفَة مَا عَداهَا
أولى.
السُّؤَال الرَّابِع: مَا الْفرق بَين الْعلم والدراية؟
وَأجِيب: بِأَن الدِّرَايَة أخص لِأَنَّهَا علم باحتيال،
أَي أَنَّهَا لَا تعرف وَإِن أعملت حيلها.
السُّؤَال الْخَامِس: لم عدل عَن لفظ: الْقُرْآن، وَهُوَ
يدْرِي إِلَى لفظ: يعلم فيماذا تكسب غَدا؟ وَأجِيب:
لإِرَادَة زِيَادَة الْمُبَالغَة، إِذْ نفي الْعَام
مُسْتَلْزم لنفي الْخَاص بِدُونِ الْعَكْس، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: لَا تعلم أصلا سَوَاء احتالت أم لَا. وَقَالَ ابْن
بطال: وَهَذَا يبطل خرص المنجمين فِي تعاطيهم علم
الْغَيْب، فَمن ادّعى علم مَا أخبر الله وَرَسُوله، وَأَن
الله مُنْفَرد بِعِلْمِهِ فقد كذب الله وَرَسُوله،
وَذَلِكَ كفر من قَائِله، وَقَالَ الزّجاج: من ادّعى أَنه
يعلم شَيْئا من هَذِه الْخمس فقد كفر بِالْقُرْآنِ
الْعَظِيم. |