عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 11 - (بابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيلِ وَنَوْمِهِ وَمَا نُسْخَ مِنْ
قِيامِ اللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قيام النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَي: صلَاته بِاللَّيْلِ. قَوْله: (من
نَومه) وَفِي بعض النّسخ: (ونومه) ، بواو الْعَطف. قَوْله:
(وَمَا نسخ) أَي: بَاب أَيْضا فِي بَيَان مَا نسخ من قيام
اللَّيْل.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {يَا أيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ
اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً نِصْفُهُ أوُ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً أوْ زِدْ عَليهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً
إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إنَّ ناشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أشَدُّ وِطاءً وَأقْوَمُ قِيلاً إنَّ لَكَ
فِي النَّهَارِ سَبْحا طَوِيلاً (ع المزمل: 1 7) .
وقَوْلُهُ: {عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
فاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ عَلِمَ أنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فاقْرَؤا مَا تَيَسَّرَ
مِنْهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأقْرِضُوا الله قَرْضا حَسَنا وَمَا تُقَدِّمُوا
لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هُوَ
خَيْرا وَأعْظَمَ أجْرا وَاسْتَغْفِرُوا الله إنَّ الله
غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المزمل: 02) .
وَقَوله: بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (وَمَا نسخ من قيام
اللَّيْل) وَهُوَ إِلَى آخِره دَاخل فِي التَّرْجَمَة.
قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا المزمل} يَعْنِي: الملتف فِي
ثِيَابه، وَأَصله المتزمل، وَهُوَ الَّذِي يتزمل فِي
الثِّيَاب، وكل من التف فِي ثَوْبه فقد تزمل، قلبت التَّاء
زايا وأدغمت الزَّاي فِي الزَّاي، وروى ابْن أبي حَاتِم
عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ: {يَا أَيهَا المزمل} أَي: يَا مُحَمَّد قد
زملت الْقُرْآن، وقرىء المتزمل على الأَصْل، والمزمل،
بتَخْفِيف الزَّاي وَفتح الْمِيم وَكسرهَا، على أَنه اسْم
فَاعل، أَو اسْم مفعول من زمله، وَهُوَ الَّذِي زمله غَيره
أَو زمل نَفسه، وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، نَائِما بِاللَّيْلِ متزملاً فِي قطيفة،، فنبه
وَنُودِيَ بهَا. وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، أَنَّهَا سُئِلت: مَا كَانَ تزميله؟ قَالَت:
كَانَ مِرْطًا طوله أَربع عشرَة ذِرَاعا وَنصفه عَليّ
وَأَنا نَائِمَة، وَنصفه عَلَيْهِ، وَهُوَ يُصَلِّي،
فَسُئِلت: مَا كَانَ؟ فَقَالَت: وَالله مَا كَانَ خَزًّا
وَلَا قَزًّا وَلَا مرعزا وَلَا إبْريسَمًا وَلَا صُوفًا،
وَكَانَ سداه شعرًا وَلحمَته وَبرا، قَالَه
الزَّمَخْشَرِيّ، ثمَّ قَالَ: وَقيل: دخل على خَدِيجَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد جِئْت فرقا أول مَا
أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وبوادره ترْعد،
فَقَالَ: زَمِّلُونِي، وحسبت أَنه عرض لَهُ، فَبَيْنَمَا
هوكذلك إِذْ ناداه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، يَا
أَيهَا المزمل. وَعَن عِكْرِمَة: أَن الْمَعْنى: يَا
أَيهَا الَّذِي زمل أمرا عَظِيما، أَي: حمله، والزمل:
الْحمل، وازدمله: احتمله. انْتهى. وَفِي (تَفْسِير
النَّسَفِيّ) أَشَارَ إِلَى أَن القَوْل الأول نِدَاء
بِمَا يهجن إِلَيْهِ الْحَالة الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا من التزميل فِي قطيفة،
واستعداده للاشتغال فِي النّوم، كَمَا يفعل من لَا يهمه
أَمر وَلَا يعنيه شَأْن، فَأمر أَن يخْتَار على الهجود
والتهجد، وعَلى التزمل التشمر، والتخفف لِلْعِبَادَةِ
والمجاهدة فِي الله عز وَجل، فَلَا جرم أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تشمر لذَلِك مَعَ أَصْحَابه حق
التشمر، وَأَقْبلُوا على إحْيَاء لياليهم، ورفضوا لَهُ
الرقاد والدعاة وَجَاهدُوا
(7/188)
فِيهِ حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، واصفرت
ألوانهم، وَظَهَرت السيماء فِي وُجُوههم، وترقى أَمرهم
إِلَى حد رَحِمهم لَهُ رَبهم، فَخفف عَنْهُم. وَأَشَارَ
إِلَى أَن القَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: وَعَن
عَائِشَة، لَيْسَ بتهجين بل هُوَ ثَنَاء عَلَيْهِ وتحسين
لحالته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَأمره أَن يَدُوم على
ذَلِك. قَوْله: {قُم اللَّيْل إلاَّ قَلِيلا} أَي: مِنْهُ،
قَالَ أَبُو بكر الأدفوي: للْعُلَمَاء فِيهِ أَقْوَال:
الأول: أَنه لَيْسَ بِفَرْض، يدل على ذَلِك أَن بعده:
{نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ} وَلَيْسَ
كَذَلِك يكون الْفَرْض، وَإِنَّمَا هُوَ ندب. وَالثَّانِي:
أَنه هُوَ حتم. وَالثَّالِث: أَنه فرض على النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: وَقَالَ
الْحسن وَابْن سِيرِين: صَلَاة اللَّيْل فَرِيضَة على كل
مُسلم، وَلَو قدر حلب شَاة. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن
إِسْحَاق: قَالَا ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: {فاقرأوا مَا
تيَسّر مِنْهُ} ، وَقَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله:
سَمِعت بعض الْعلمَاء يَقُول: إِن الله تَعَالَى أنزل فرضا
فِي الصَّلَاة قبل فرض الصَّلَوَات الْخمس، فَقَالَ: {يَا
أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} الْآيَة، ثمَّ
نسخ هَذَا بقوله: {فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} ثمَّ احْتمل
قَوْله: {فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَن يكون فرضا
ثَانِيًا، لقَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ
نَافِلَة لَك} (الْإِسْرَاء: 97) . فَوَجَبَ طلب الدَّلِيل
من السّنة على أحد الْمَعْنيين، فوجدن سنة النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا وَاجِب من الصَّلَوَات إلاّ
الْخمس. قَالَ أَبُو عمر: قَول بعض التَّابِعين: قيام
اللَّيْل فرض وَلَو قدر حلب شَاة، قَول شَاذ مَتْرُوك
لإِجْمَاع الْعلمَاء أَن قيام اللَّيْل نسخ بقوله: {علم
إِن لن تحصوه. .} الْآيَة. وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث
عَائِشَة: افْترض الْقيام فِي أول هَذِه الصُّورَة على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَصْحَابه حولا
حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، وَأمْسك الله خاتمتها إثني عشر
شهرا، ثمَّ نزل التَّخْفِيف فِي آخرهَا، فَصَارَ قيام
اللَّيْل تَطَوّعا بعد أَن كَانَ فَرِيضَة، وَهُوَ قَول
ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَزيد بن أسلم وَآخَرين، فِيمَا حكى
عَنْهُم النّحاس، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : {قُم
اللَّيْل} يَعْنِي: قُم اللَّيْل كُله إلاّ قَلِيلا
مِنْهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وعَلى أَصْحَابه وَقَامُوا اللَّيْل كُله وَلم
يعرفوا مَا حد الْقَلِيل، فَأنْزل الله تَعَالَى: {نصفه
أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا} فَاشْتَدَّ ذَلِك أَيْضا على
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أَصْحَابه
فَقَامُوا اللَّيْل كُله حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم،
وَذَلِكَ قبل الصَّلَوَات الْخمس، فَفَعَلُوا ذَلِك سنة،
فَأنْزل الله تَعَالَى ناسختها فَقَالَ: {علم أَن لن
تحصوه} يَعْنِي: قيام اللَّيْل من الثُّلُث وَالنّصف،
وَكَانَ هَذَا قبل أَن تفرض الصَّلَوَات الْخمس، فَلَمَّا
فرضت الْخمس نسخت هَذِه كَمَا نسخت الزَّكَاة كل صَدَقَة،
وَصَوْم رَمَضَان كل صَوْم، وَفِي (تَفْسِير ابْن
الْجَوْزِيّ) : كَانَ الرجل يسهر طول اللَّيْل مَخَافَة
أَن يقصر فِيمَا أَمر بِهِ من قيام ثُلثي اللَّيْل أَو
نصفه أَو ثلثه، فشق عَلَيْهِم ذَلِك، فَخفف الله عَنْهُم
بعد سنة، وَنسخ وجوب التَّقْدِير بقوله: {علم أَن لن تحصوه
فَتَابَ عَلَيْكُم فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَي: صلوا
مَا تيَسّر من الصَّلَاة، وَلَو قدر حلب شَاة، ثمَّ نسخ
وجوب قيام اللَّيْل بالصلوات الْخمس بعد سنة أُخْرَى،
فَكَانَ بَين الْوُجُوب وَالتَّخْفِيف سنة، وَبَين
الْوُجُوب والنسخ بِالْكُلِّيَّةِ سنتَانِ.
ثمَّ إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى: {قُم اللَّيْل إِلَّا
قَلِيلا} على مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ: {نصفه} بدل {من
اللَّيْل} و {إِلَّا قَلِيلا} اسْتثِْنَاء من النّصْف،
كَأَنَّهُ قَالَ: قُم أقل من نصف اللَّيْل وَالضَّمِير فِي
{مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} لِلنِّصْفِ، وَالْمعْنَى
التَّخْيِير بَين أَمريْن: بَين أَن يقوم أقل من نصف
اللَّيْل على الْبَتّ، وَبَين أَن يخْتَار أحد
الْأَمريْنِ، وهما النُّقْصَان من النّصْف وَالزِّيَادَة
عَلَيْهِ، وَإِن شِئْت جعلت: نصفه، بَدَلا من: قَلِيلا،
وَكَانَ تخييرا بَين ثَلَاث: بَين قيام النّصْف
بِتَمَامِهِ، وَبَين النَّاقِص، وَبَين قيام الزَّائِد
عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وصف النّصْف بالقلة بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْكل.
قَوْله: {ورتل الْقُرْآن ترتيلاً} يَعْنِي ترسل فِيهِ.
وَقَالَ الْحسن: بَينه، إِذا قرأته. وَقَالَ الضَّحَّاك:
إقرأ حرفا حرفا، وروى مُسلم من حَدِيث حَفْصَة: أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرتل السُّورَة
حَتَّى تكون أطول من أطول مِنْهَا، وَعَن مُجَاهِد: رتل
بعضه على إِثْر بعض على تؤدة، وَعَن ابْن عَبَّاس: بَينه
بَيَانا، وَعنهُ: إقرأه على هينتك ثَلَاث آيَات وأربعا
وخمسا، وَقَالَ قَتَادَة: تثبت فِيهِ تثبتا، وَقيل: فَصله
تَفْصِيلًا وَلَا تعجل فِي قِرَاءَته. وَقَالَ أَبُو بكر
بن طَاهِر: تدبر فِي لطائف خطابه، وطالب نَفسك بِالْقيامِ
بأحكامه، وقلبك بفهم مَعَانِيه، وسرك بالإقبال عَلَيْهِ.
قَوْله: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلاً} أَي:
الْقُرْآن يثقل الله فَرَائِضه وحدوده، وَيُقَال: هُوَ
ثقيل على من خَالفه، وَيُقَال: هُوَ ثقيل فِي الْمِيزَان،
خَفِيف على اللِّسَان، وَيُقَال: إِن نُزُوله ثقيل كَمَا
قَالَ: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل} (الْحَشْر:
12) . الْآيَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يَعْنِي
بالْقَوْل الثقيل: الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من الْأَوَامِر
والنواهي الَّتِي هِيَ تكاليف شاقة ثَقيلَة على
الْمُكَلّفين، خَاصَّة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِأَنَّهُ متحملها بِنَفسِهِ ومحملها لأمته، فَهِيَ
أثقل عَلَيْهِ وأنهض لَهُ. قَوْله: {إِن ناشئة اللَّيْل}
قَالَ السَّمرقَنْدِي: يَعْنِي سَاعَات اللَّيْل، وَهِي
مَأْخُوذَة من: نشأت أَي: ابتدأت شَيْئا بعد شَيْء،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِن سَاعَات اللَّيْل الناشئة فَاكْتفى
(7/189)
بِالْوَصْفِ عَن الِاسْم. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: ناشئة اللَّيْل النَّفس الناشئة
بِاللَّيْلِ الَّتِي تنشأ من مضجعها إِلَى الْعِبَادَة،
أَي: تنهض وترفع من نشأت السَّحَاب إِذا ارْتَفَعت،
وَنَشَأ من مَكَانَهُ وَنشر إِذا نَهَضَ، أَو: قيام
اللَّيْل، على أَن الناشئة مصدر من نَشأ إِذا أَقَامَ ونهض
على فاعلة كالعاقبة. قَوْله: {هِيَ أَشد وطأ} قَالَ
السَّمرقَنْدِي: يَعْنِي: أثقل على الْمُصَلِّي من سَاعَات
النَّهَار، فَأخْبر أَن الثَّوَاب على قدر الشدَّة، قَرَأَ
أَبُو عَمْرو وَابْن عَامر: أَشد وطاء، بِكَسْر الْوَاو
وَمد الْألف، وَالْبَاقُونَ بِنصب الْوَاو بِغَيْر مد،
فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ يَعْنِي: أَشد مواطاة، أَي:
مُوَافقَة بِالْقَلْبِ والسمع، يَعْنِي: أَن الْقِرَاءَة
فِي اللَّيْل يتواطأ فِيهَا قلب الْمُصَلِّي وَلسَانه
وسَمعه على التفهم، وَمن قَرَأَ بِالنّصب أبلغ فِي الْقيام
وَأبين فِي القَوْل. قَوْله: {وأقوم قيلا} يَعْنِي: أثبت
للْقِرَاءَة، وَعَن الْحسن: أبلغ فِي الْخَبَر وَأَمْنَع
من هَذَا الْعَدو. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أقوم قيلاً.
أَشد مقَالا وَأثبت قِرَاءَة لهدوِّ الْأَصْوَات. وَعَن
أنس: أَنه قَرَأَ: وأصوب قيلاً د فَقيل لَهُ: يَا أَبَا
حَمْزَة إِنَّمَا هِيَ أقوم قيلاً. فَقَالَ: إِن أقوم
وأهيأ وَاحِد. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : أقوم قيلاً،
أصح قولا وَأَشد استقامة وصوابا بالفراغ الْقلب، وَقيل:
أعجل إِجَابَة للدُّعَاء. قَوْله: {إِن لَك فِي النَّهَار
سبحا طَويلا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: سبحا: تَصرفا وتقلبا
فِي مهماتك وشواغلك، وَقَالَ السَّمرقَنْدِي: سبحا فراغا
طَويلا تقضي حوائجك فِيهِ، ففرغ نَفسك لصَلَاة اللَّيْل.
وَعَن السّديّ: سبحا طَويلا أَي: تَطَوّعا كثيرا كَأَنَّهُ
جعله من السبحة، وَهِي النَّافِلَة. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: أما الْقِرَاءَة بِالْخَاءِ فاستعارة من:
سبخ الصُّوف، وَهُوَ نفشه وَنشر أَجْزَائِهِ لانتشار الْهم
وتفرق الْقلب بالشواغل، كلفه بِقِيَام اللَّيْل، ثمَّ ذكر
الْحِكْمَة فِيمَا كلفه مِنْهُ، وَهُوَ: أَن اللَّيْل
أَهْون على المواطأة وَأَشد للْقِرَاءَة لهدوِّ الرجل
وخفوت الصَّوْت، وَأَنه أجمع للقلب وأهم لنشر الْهم من
النَّهَار، لِأَنَّهُ وَقت تَفْرِيق الهموم وتوزع الخواطر
والتقلب فِي حوائج المعاش والمعاد. قَوْله: {علم أَن لن
تحصوه} هَذَا مُرْتَبِط بِمَا قبله، وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي
اللَّيْل وَنصفه وَثلثه وَطَائِفَة من الَّذين مَعَك
وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار علم أَن لن تحصوه} أَي:
علم الله أَن لن تُطِيقُوا قيام اللَّيْل، وَقيل:
الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى مصدر مُقَدّر،
أَي: علم أَن لَا يَصح مِنْكُم ضبط الْأَوْقَات، وَلَا
يَتَأَتَّى حِسَابهَا بالتعديل والتسوية إلاّ أَن
تَأْخُذُوا بالأوسع للِاحْتِيَاط، وَذَلِكَ شاق عَلَيْكُم
بَالغ مِنْكُم. قَوْله: {فَتَابَ عَلَيْكُم} عبارَة عَن
الترخيص فِي ترك الْقيام الْمُقدر. قَوْله: {فاقرأوا مَا
تيَسّر} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: عبر عَن الصَّلَاة
بِالْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا بعض أَرْكَانهَا، كَمَا عبر
عَنْهَا بِالْقيامِ وَالرُّكُوع وَالسُّجُود، يُرِيد:
فصلوا مَا تيَسّر عَلَيْكُم من صَلَاة اللَّيْل، وَهَذَا
نَاسخ للْأولِ، ثمَّ نسخا جَمِيعًا بالصلوات الْخمس،
وَقيل: هِيَ قِرَاءَة الْقُرْآن بِعَينهَا. قيل: يقْرَأ
مائَة آيَة، وَمن قَرَأَ مائَة آيَة فِي لَيْلَة لم يحاجه
الْقُرْآن. وَقيل: من قَرَأَ مائَة آيَة كتب من القانتين.
وَقيل: خمسين آيَة، وَقد بَين الْحِكْمَة فِي النّسخ
بقوله: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} لَا يقدرُونَ على
قيام اللَّيْل {وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض}
يَعْنِي: يسافرون فِي الأَرْض {يَبْتَغُونَ من فضل الله}
يَعْنِي: فِي طلب الْمَعيشَة يطْلبُونَ الرزق من الله
تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله}
يَعْنِي: يجاهدون فِي طَاعَة الله تَعَالَى. قَوْله:
{فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَي: من الْقُرْآن. قيل: فِي
صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء. قَوْله: {وَأقِيمُوا
الصَّلَاة} أَي: الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة. {وَآتوا
الزَّكَاة} الْوَاجِبَة، وَقيل: زَكَاة الْفطر، وَإِنَّمَا
وَجَبت بعد ذَلِك، وَمن فَسرهَا بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَة
جعل آخر السُّورَة مدنيا. قَوْله: {وأقرضوا الله قرضا
حسنا} قيل: يُرِيد سَائِر الصَّدقَات المستحبة، وَسَماهُ
قرضا تَأْكِيدًا للجزاء. وَقيل: تصدقوا من أَمْوَالكُم
بنية خَالِصَة من مَال حَلَال. قَوْله: {وَمَا تقدمُوا
لأنفسكم من خير} يَعْنِي: مَا تَعْمَلُونَ من الْأَعْمَال
الصَّالِحَة وتتصدقون بنية خَالِصَة {تَجِدُوهُ عِنْد
الله} يَعْنِي: تَجِدُونَ ثَوَابه فِي الْآخِرَة. قَوْله:
(هُوَ خيرا} ثَانِي مفعولي: وجد، وَهُوَ فصل، وَجَاز وَإِن
لم يَقع بَين معرفتين، لِأَن أفعل من أشبه فِي امْتِنَاعه
من حُرُوف التَّعْرِيف بالمعرفة. قَوْله: {وَاسْتَغْفرُوا
الله} يَعْنِي: أطلبوا من الله لذنوبكم الْمَغْفِرَة،
وَقيل: اسْتَغْفرُوا الله من تَقْصِير وذنب وَقع مِنْكُم.
{إِن الله غَفُور} لمن تَابَ {رَحِيم} لمن اسْتغْفر.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَشَأَ
قامَ بالحَبَشِيَّة
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد الْكَجِّي فِي
(تَفْسِيره) بِسَنَد صَحِيح عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن
إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير (عَن
ابْن عَبَّاس: {إِن ناشئة اللَّيْل} (المزمل: 6) . قَالَ
هُوَ بِكَلَام الحبشية: نَشأ قَامَ) . وأنبأنا عبد الْملك
بن عَمْرو عَن رَافع
(7/190)
ابْن عَمْرو عَن ابْن أبي مليكَة: (سُئِلَ
ابْن عَبَّاس عَن قَوْله تَعَالَى: {إِن ناشئة اللَّيْل}
(المزمل: 6) . فَقَالَ أَي اللَّيْل قُمْت فقد أنشأت)
وَفِي عبد أَيْضا: عَن أبي ميسرَة، قَالَ: هُوَ كَلَام
الْحَبَشَة: نَشأ قَامَ، وَعَن أبي مَالك: قيام اللَّيْل
بِلِسَان الْحَبَشَة: ناشئة، وَعَن قَتَادَة وَالْحسن
وَأبي مجلز: كل شَيْء بعد الْعشَاء: ناشئة، وَقَالَ
مُجَاهِد: إِذا قُمْت من اللَّيْل تصلي فَهِيَ ناشئة،
وَفِي رِوَايَة: أَي سَاعَة تهجد فِيهَا. وَقَالَ
مُعَاوِيَة بن قُرَّة: هِيَ قيام اللَّيْل. وَعَن عَاصِم:
ناشئة اللَّيْل، مَهْمُوزَة الْيَاء، وَفِي (الْمجَاز)
لأبي عُبَيْدَة: ناشئة اللَّيْل ناشئة بعد ناشئة. وَفِي
(الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: ناشئة اللَّيْل: أول
ساعاته. وَيُقَال: أول مَا ينشأ من اللَّيْل من الطَّاعَات
هِيَ النشيئة. وَفِي (الْمُحكم) : الناشئة أول النَّهَار
وَاللَّيْل. وَقيل: الناشئة إِذا نمت من أول اللَّيْل
نومَة، ثمَّ قُمْت، وَفِي (كتاب الْهَرَوِيّ) : كل مَا حدث
بِاللَّيْلِ وبدا فَهُوَ ناشىء، وَقد نَشأ وَالْجمع:
ناشئة.
وَاخْتلف الْعلمَاء، هَل فِي الْقُرْآن شَيْء بِغَيْر
الْعَرَبيَّة؟ فَذهب بَعضهم، إِلَى أَن غير الْعَرَبيَّة
مَوْجُود فِي الْقُرْآن: كسجيل وفردوس وناشئة، وَذهب
الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَيْسَ الْقُرْآن شَيْء بِغَيْر
الْعَرَبيَّة، وَقَالُوا: مَا ورد من ذَلِك فَهُوَ من
توَافق اللغتين، فعلى هَذَا لفظ، ناشئة، إِمَّا مصدر على
وزن: فاعلة، كعاقبة من نَشأ إِذا قَامَ، أَو هُوَ: اسْم
فَاعل، صفة لمَحْذُوف تَقْدِيره: النَّفس الناشئة، كَمَا
نقلنا عَن الزَّمَخْشَرِيّ عَن قريب.
وِطَاءً قَالَ مُوَاطأةَ القُرآنِ أشَدُّ مُوَافَقَةً
لِسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وقَلْبِهِ لِيُوَاطِؤُا
لِيُوَافِقُوا
وَفِي بعض النّسخ: وطاءً قَالَ مواطأة أَي: قَالَ
البُخَارِيّ: معنى: وطأ مواطأة لِلْقُرْآنِ، وَفِي بعض
النّسخ: مواطأة لِلْقُرْآنِ يَعْنِي: إِن ناشئة اللَّيْل،
هُوَ أَشد مواطاة لِلْقُرْآنِ، وَهَذَا التَّعْلِيق أَيْضا
وَصله عبد بن حميد من طَرِيق مُجَاهِد. وَقَالَ أَشد وطاء،
أَي: يُوَافق سَمعك وبصرك وقلبك بعضه بَعْضًا، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (ليواطؤا ليوافقوا)
هَذَا من تَفْسِير بَرَاءَة من قَوْله تَعَالَى: {يحلونه
عَاما ويحرمونه عَاما ليواطؤا عدَّة مَا حرم الله}
(التَّوْبَة: 73) . الْآيَة، وَذكر أَن مَعْنَاهُ:
ليوافقوا، وَإِنَّمَا ذكره هَهُنَا تَأْكِيدًا لتفسيره:
وطاء، وَقد وَصله الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، لَكِن
بِلَفْظ: (ليشابهوا) .
1411 - عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني
محَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ أنَّهُ سَمِعَ أنسا
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُولُ كانَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى
نَظُنُّ أنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ شَيْئا ويَصُومُ حَتَّى
نَظُنُّ أنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئا وكانَ لاَ تَشَاءُ
أنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَليا إلاَّ رَأيْتَهُ
نائِما إلاَّ رَأيْتَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ لإنشاء أَن
ترَاهُ من اللَّيْل مُصَليا إلاّ رَأَيْته) ، وَهُوَ قيام
اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الْعَزِيز عبد
الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير ضد الْقَلِيل
مر فِي كتاب الْحيض. الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن
أبي حميد الطَّوِيل. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين مَاضِيا ومضارعا.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَهُوَ وَمُحَمّد بن
جَعْفَر مدنيان، وَحميد بَصرِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن عبد
الْعَزِيز بن مُحَمَّد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن لَا يَصُوم مِنْهُ) ، كلمة:
أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: يظنّ،
قَوْله: (مِنْهُ شَيْئا) ، أَي: من الشَّهْر شَيْئا من
الصَّوْم، وَلَفظه: شَيْئا، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي
ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا لَيْسَ فِيهِ هَذَا
اللَّفْظ. قَوْله: (وَكَانَ) أَي: رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (وَلَا نَائِما) أَي: وَلَا تشَاء
أَن ترَاهُ من اللَّيْل نَائِما إلاّ رَأَيْته نَائِما.
وَالَّذِي يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث: أَن صلَاته ونومه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْتَلف بِاللَّيْلِ، وَلَا
يَتَرَتَّب وقتا معينا بل بِحَسب مَا تيَسّر لَهُ الْقيام.
فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث عَائِشَة: (كَانَ إِذا سمع
الصَّارِخ قَامَ) . قلت: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، أخْبرت بِحَسب مَا اطَّلَعت عَلَيْهِ، لِأَن
صَلَاة اللَّيْل غَالِبا كَانَت تقع مِنْهُ فِي الْبَيْت،
وَخبر أنس مَحْمُول على مَا وَرَاء ذَلِك.
تابَعَهُ سُلَيْمَانُ وأبُو خالِدٍ الأحْمَرُ عنْ حُمَيْدٍ
أَي: تَابع مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن حميد سُلَيْمَان ذكر
خلف أَنه ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو
مُحَمَّد الْقرشِي التَّيْمِيّ وَلَاء.
(7/191)
قَوْله: (وَأَبُو خَالِد) عطف عَلَيْهِ،
أَي: وتابع مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن حميد أَبُو خَالِد
سُلَيْمَان بن حبَان الملقب بالأحمر، وَهَكَذَا وَقع فِي
جَمِيع النّسخ، بواو الْعَطف، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن
يكون سُلَيْمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَيحْتَمل أَن تكون
الْوَاو زَائِدَة فَإِن أَبَا خالدٍ الْأَحْمَر اسْمه
سُلَيْمَان. قلت: هَذَا كَلَام غير موجه، لِأَن زِيَادَة:
وَاو، الْعَطف نادرة، بِخِلَاف الأَصْل، سِيمَا الحكم بذلك
بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يلْزم من كَون اسْم أبي خَالِد
سُلَيْمَان أَن يكون سُلَيْمَان الْمَعْطُوف عَلَيْهِ
إِيَّاه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: وَأَبُو
خَالِد بِالْوَاو، فَلَا بُد أَن يُقَال: سُلَيْمَان
الْمَذْكُور غير سُلَيْمَان المكنى بِأبي خَالِد، ولولاه
لَكَانَ شخصا وَاحِدًا مَذْكُورا بالإسم والكنية وَالصّفة،
أما مُتَابعَة سُلَيْمَان فَقَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب
الصَّوْم فِي: بَاب مَا يذكر من صَوْم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: حَدثنِي عبد الْعَزِيز بن عبد الله،
قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن حميد (عَن أنس أَن
أنسا يَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يفْطر من الشَّهْر) الحَدِيث، وَفِي آخِره قَالَ
سُلَيْمَان عَن حميد إِنَّه سَأَلَ أنسا فِي الصَّوْم،
وَأما مُتَابعَة أبي خَالِد فقد ذكرهَا البُخَارِيّ فِي
كتاب الصّيام، وَنَذْكُر مَا فِيهَا إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
21 - (بابُ عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قافِيَةِ الرَّأسِ
إذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عقد الشَّيْطَان على قافية
رَأس النَّائِم إِذا نَام، وَلم يصل، وقافية الرَّأْس:
قَفاهُ، وقافية كل شَيْء آخِره، قَالَه الْأَزْهَرِي
وَغَيره.
2411 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِك عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى
قافِيةِ رَأسِ أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ
يَضْرِبُ كلَّ عُقْدَةٍ علَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ
فإنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ الله انْحلَّتْ عُقْدَةٌ فانْ
تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ
عُقْدَةٌ فأصْبَحَ نَشِيطا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإلاَّ
أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ.
(الحَدِيث 2411 طرفه فِي: 9623) .
اعْترض بِأَنَّهُ لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة،
لِأَن الحَدِيث مُطلق والترجمة مُقَيّدَة، وَأجِيب: بِأَن
مُرَاده أَن اسْتِدَامَة العقد إِنَّمَا يكون على ترك
الصَّلَاة، وَجعل من صلى وانحلت عقده كمن لم يعْقد
عَلَيْهِ لزوَال أَثَره، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن تكون
الصَّلَاة المنفية فِي التَّرْجَمَة صَلَاة الْعشَاء،
فَيكون التَّقْدِير: إِذا لم يصل الْعشَاء، فَكَأَنَّهُ
يرى أَن الشَّيْطَان إِنَّمَا يفعل ذَلِك لمن نَام قبل
صَلَاة الْعشَاء، بِخِلَاف من صلاهَا، وَلَا سِيمَا فِي
الْجَمَاعَة. انْتهى. قلت: قَوْله: (إِذا لم يصل) أَعم من
أَن لَا يُصَلِّي الْعشَاء أَو غَيرهَا من صَلَاة
اللَّيْل، وَلَا قرينَة لتقييدها بالعشاء، وَظَاهر
الحَدِيث يدل على أَن العقد يكون عِنْد النّوم، سَوَاء صلى
قبله أَو لم يصل، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن
زَنْجوَيْه فِي كتاب الْفَضَائِل من حَدِيث أبي لَهِيعَة
عَن أبي عشانة، سمع عقبَة بن عَامر يَقُول عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يقوم أحدكُم من اللَّيْل
يعالج طهوره وَعَلِيهِ عقد، فَإِذا وضأ يَده انْحَلَّت
عقدَة، فَإِذا وضأ وَجهه انْحَلَّت عقدَة، فَإِذا مسح
بِرَأْسِهِ انْحَلَّت عقدَة، فَإِذا وضأ رجلَيْهِ
انْحَلَّت عقدَة) . وَمن حَدِيث ابْن لَهِيعَة أَيْضا عَن
أبي الزبير (عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سَمِعت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَيْسَ فِي
الأَرْض نفس من ذكر وَأُنْثَى إلاّ وعَلى رَأسه جرير
معقدة، فَإِن اسْتَيْقَظَ فَتَوَضَّأ انْحَلَّت عقدَة،
وَإِن اسْتَيْقَظَ وَصلى حلت العقد كلهَا، وَإِن لم يصل
وَلم يتَوَضَّأ أَصبَحت العقد كَمَا هِيَ) . والجرير:
بِفَتْح الْجِيم: الْحَبل. وَفِي (كتاب الثَّوَاب) لآدَم
بن أبي إِيَاس الْعَسْقَلَانِي، من حَدِيث الرّبيع بن
صبيح: عَن الْحسن قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (مَا من عبد ينَام إلاّ وعَلى رَأسه ثَلَاث عقد،
فَإِن هُوَ تعار من اللَّيْل فسبح الله وحمده وَهَلله
وَكبره حلت عقدَة، وَإِن عزم الله لَهُ فَقَامَ وَتَوَضَّأ
وَصلى رَكْعَتَيْنِ حلت العقد كلهَا، وَإِن لم يفعل شَيْئا
من ذَلِك حَتَّى يصبح أصبح وَالْعقد كلهَا كَمَا هِيَ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا غير مرّة،
وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز،. والْحَدِيث
أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا.
(7/192)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يعْقد
الشَّيْطَان) الْكَلَام فِي العقد والشيطان. أما العقد فقد
اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ على الْحَقِيقَة
بِمَعْنى السحر للْإنْسَان، وَمنعه من الْقيام كَمَا يعْقد
السَّاحر من سحره، وَأكْثر مَا يَفْعَله النِّسَاء تَأْخُذ
إِحْدَاهُنَّ الْخَيط فتعقد مِنْهُ عقدا وتتكلم عَلَيْهَا
بالكلمات فيتأثر المسحور عِنْد ذَلِك، كَمَا أخبر الله
تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم {وَمن شَرّ النفاثات فِي
العقد} (الفلق: 4) . فَالَّذِي خذل يعْمل فِيهِ وَالَّذِي
وفْق يصرف عَنهُ، وَالدَّلِيل على كَونه على الْحَقِيقَة
مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَمُحَمّد بن نصر من طَرِيق صَالح
عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (على قافية رَأس أحدكُم حَبل
فِيهِ ثَلَاث عقد) ، وروى أَحْمد من طَرِيق الْحسن عَن أبي
هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا نَام أحدكُم عقد على رَأسه
بجرير) ، وروى ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من حَدِيث
جَابر مَرْفُوعا: (مَا من ذكر وَلَا أُنْثَى إلاّ على
رَأسه جرير مَعْقُود حِين يرقد) ، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ
على الْمجَاز كَأَنَّهُ شبه فعل الشَّيْطَان بالنائم بِفعل
السَّاحر بالمسحور، وَقيل: هُوَ من عقد الْقلب وتصميمه
فَكَأَنَّهُ يوسوس بِأَن عَلَيْك لَيْلًا طَويلا
فَيتَأَخَّر عَن الْقيام بِاللَّيْلِ، وَقَالَ صَاحب
(النِّهَايَة) : المُرَاد مِنْهُ تثقيله فِي النّوم
وإطالته، فَكَأَنَّهُ قد سد عَلَيْهِ سدا وَعقد عَلَيْهِ
عقدا. وَقَالَ ابْن بطال: قد فسر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، معنى العقد بقوله: (عَلَيْك ليل طَوِيل) ،
فَكَأَنَّهُ يَقُولهَا إِذا أَرَادَ النَّائِم الاستيقاظ.
وَقَالَ ابْن بطال أَيْضا: وَرَأَيْت لبَعض من فسر هَذَا
الحَدِيث العقد الثَّلَاث هِيَ: الْأكل وَالشرب
وَالنَّوْم. وَقَالَ أَلا يرى أَنه من أَكثر الْأكل
وَالشرب أَنه يكثر النّوم لذَلِك؟ واستبعد بَعضهم هَذَا
القَوْل لقَوْله فِي الحَدِيث: (إِذا هُوَ نَام) ، فَجعل
العقد حِينَئِذٍ، وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ مثل، واستعاره
من عقد بني آدم، وَلَيْسَ المُرَاد العقد نَفسهَا، وَلَكِن
لما كَانَ بَنو آدم يمْنَعُونَ بعقدهم ذَلِك تصرف من يحاول
فِيمَا عقده كَأَن هَذَا مثله من الشَّيْطَان للنائم
الَّذِي لَا يقوم من نَومه إِلَى مَا يحب من ذكر الله
تَعَالَى وَالصَّلَاة.
وَأما الشَّيْطَان: فَيجوز أَن يُرَاد بِهِ الْجِنْس،
وَيكون فَاعل ذَلِك القرين أَو غَيره من أعوان
الشَّيْطَان. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ
رَأس الشَّيَاطِين وَهُوَ إِبْلِيس لَعنه الله. قلت:
يُعَكر عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَحدهمَا: أَن النائمين عَن
قيام اللَّيْل كثير لَا يُحْصى، فإبليس لَا يلحقهم بذلك
إلاّ أَن يكون جَوَاز نِسْبَة ذَلِك إِلَيْهِ لكَونه آمرا
لأعوانه بذلك، وَهُوَ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَالْآخر: أَن
مَرَدَة الشَّيَاطِين يصفدون فِي شهر رَمَضَان وأكبرهم
إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة.
قَوْله: (على قافية رَأس أحدكُم) أَي: مُؤخر عُنُقه، وَقد
ذكرنَا أَن قافية كل شَيْء مؤخره، وَمِنْه قافية القصيدة،
وَفِي (الْمُحكم) : القافية: هِيَ الْقَفَا، وَقيل: هِيَ
وسط الرَّأْس. قَوْله: (إِذا هُوَ نَام) ، أَي: حِين نَام،
وَرِوَايَة الْأَكْثَرين هَكَذَا: (إِذا هُوَ نَام) ،
وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي (إِذا هُوَ
نَائِم) على وزن اسْم الْفَاعِل، وَقَالَ بَعضهم: وَالْأول
أصوب وَهُوَ الَّذِي فِي (الْمُوَطَّأ) قلت: رِوَايَة
(الْمُوَطَّأ) لَا تدل على أَن ذَلِك أصوب، بل الظَّاهِر
أَن رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي أصوب لِأَنَّهَا جملَة إسمية
وَالْخَبَر فِيهَا إسم. قَوْله: (ثَلَاث عقد) كَلَام إضافي
مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: (يعْقد) ، وَالْعقد،
بِضَم الْعين وَفتح الْقَاف: جمع عقدَة. قَوْله: (يضْرب
على كل عقدَة) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (على مَكَان
كل عقدَة) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عِنْد مَكَان كل
عقدَة) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عِنْد مَكَان كل
عقدَة) ، وَمعنى يضْرب، يضْرب بِيَدِهِ على كل عقدَة، ذكر
هَذَا تَأْكِيدًا وإحكاما لما يَفْعَله، وَقيل: يضْرب
بالرقاد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فضربنا على آذانهم فِي
الْكَهْف} (الْكَهْف: 11) . وَمَعْنَاهُ: حجب الْحس عَن
النَّائِم حَتَّى لَا يَسْتَيْقِظ. قَوْله: (عَلَيْك ليل
طَوِيل) أَي: يضْرب قَائِلا: عَلَيْك ليل طَوِيل، وَوَقع
فِي جَمِيع رِوَايَات البُخَارِيّ هَكَذَا: (ليل طَوِيل)
بِالرَّفْع فيهمَا، فارتفاع: ليل، بِالِابْتِدَاءِ، و:
عَلَيْك، خَبره مقدما وارتفاع: طَوِيل، بالوصفية. وَيجوز
أَن يكون ارْتِفَاع: ليل، بِفعل مَحْذُوف وَتَقْدِيره:
بَقِي عَلَيْك ليل طَوِيل، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل
الْمَحْذُوف، أَي: يضْرب كل عقدَة قَائِلا هَذَا
الْكَلَام، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي مُصعب فِي
(الْمُوَطَّأ) عَن مَالك: (عَلَيْك لَيْلًا طَويلا) ،
وَهِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد
فِي رِوَايَة مُسلم. قَالَ عِيَاض: رِوَايَة الْأَكْثَرين
عَن مُسلم بِالنّصب على الإغراء. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
الرّفْع أولى من جِهَة الْمَعْنى لِأَنَّهُ الأمكن فِي
الْغرُور من حَيْثُ إِنَّه يُخبرهُ عَن طول اللَّيْل: ثمَّ
يَأْمُرهُ بالرقاد بقوله: (فارقد) ، وَإِذا نصب على
الإغراء لم يكن فِيهِ إلاّ الْأَمر بملازمة طول الرقاد،
وَحِينَئِذٍ يكون قَوْله: (فارقد) ضائعا. قلت: لَا نسلم
أَنه يكون ضائعا، بل يكون تَأْكِيدًا ثمَّ إِن مَقْصُود
الشَّيْطَان بذلك تسويفه بِالْقيامِ والإلباس عَلَيْهِ.
قَوْله (فَذكر الله انْحَلَّت عقدَة) بِالْإِفْرَادِ
وَكَذَلِكَ قَوْله: (فَإِن تَوَضَّأ انْحَلَّت عقدَة)
بِالْإِفْرَادِ. وَقَوله: (فَإِن صلى انْحَلَّت عقدَة)
بِضَم الْعين بِلَفْظ الْجمع هَذَا الاخلاف فِيهِ فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ وَوَقع لبَعض رُوَاة الْمُوَطَّأ
بِالْإِفْرَادِ وَذكر ابْن قرقول انه اخْتلف فِي
الْأَخِيرَة مِنْهَا، فَوَقع فِي رِوَايَة (الْمُوَطَّأ)
لِابْنِ وضاح
(7/193)
انْحَلَّت عقد) على الْجمع، وَكَذَا ضبطناه
فِي البُخَارِيّ وَفِي غَيرهمَا: (عقدَة) ، وَكِلَاهُمَا
صَحِيح، وَالْجمع أولى لَا سِيمَا وَقد جَاءَ مُسلم فِي
الأولى: عقدَة وَفِي الثَّانِيَة: عقدان، وَفِي
الثَّالِثَة: انْحَلَّت العقد. قَوْله: (أصبح نشيطا) أَي:
لسروره بِمَا وَفقه الله تَعَالَى من الطَّاعَة وَطيب
النَّفس لما بَارك الله لَهُ فِي نَفسه وتصرفه فِي كل
أُمُوره، وَبِمَا زَالَ عَنهُ من عقد الشَّيْطَان. قَوْله:
(وإلاّ أصبح خَبِيث النَّفس) يَعْنِي: بِتَرْكِهِ مَا
كَانَ اعتاده أَو نَوَاه من فعل الْخَيْر. قَوْله: (كسلان)
يَعْنِي: بِبَقَاء أثر تثبيط الشَّيْطَان عَلَيْهِ. قَالَ
الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَن مُقْتَضى (وإلاَّ أصبح) أَن من
لم يجمع الْأُمُور الثَّلَاثَة: الذّكر وَالْوُضُوء
وَالصَّلَاة، فَهُوَ دَاخل تَحت من يصبح خبيثا كسلان وَإِن
أَتَى بِبَعْضِهَا. قلت: فعلى هَذَا تَقْدِير الْكَلَام:
وَإِن لم يذكر وَلم يتَوَضَّأ وَلم يصل يصبح خَبِيث
النَّفس كسلان.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: إِن أَبَا بكر وَأَبا
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَا يوتران
أول اللَّيْل وينامان آخِره؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد:
الَّذِي ينَام وَلَا نِيَّة لَهُ فِي الْقيام، وَأما من
صلى من النَّافِلَة مَا قدر لَهُ ونام بنية الْقيام فَلَا
يدْخل فِي ذَلِك، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : بِدَلِيل
قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من امرىء يكون لَهُ
صَلَاة بلَيْل فغلبه عَلَيْهَا نوم إلاَّ كتب لَهُ أجر
صلَاته، وَكَانَ نَومه صَلَاة) . ذكره ابْن التِّين قلت:
روى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) فِي: بَاب من نوى أَن
يُصَلِّي من اللَّيْل، من حَدِيث شُعْبَة، قَالَ أَبُو ذَر
وَأَبُو الدَّرْدَاء، شكّ شُعْبَة: قَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من عبد يحدث نَفسه بِقِيَام
سَاعَة من اللَّيْل فينام عَنْهَا إلاَّ كَانَ نَومه
صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْهِ وَكتب لَهُ أجر مَا نوى)
.
وَمِنْهَا مَا قيل: فِي هَذَا الحَدِيث مَا يُعَارض
قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَقُولَن أحدكُم
خبثت نَفسِي؟) وَأجِيب: بِأَن النَّهْي إِنَّمَا ورد عَن
إِضَافَة الْمَرْء ذَلِك إِلَى نَفسه كَرَاهَة لتِلْك
الْكَلِمَة، وَهَذَا الحَدِيث وَقع ذما لفعله، وَلكُل من
الْخَبَرَيْنِ وَجه، وَقَالَ الْبَاجِيّ: لَيْسَ بَين
الْحَدِيثين اخْتِلَاف لِأَنَّهُ نهي عَن إِضَافَة ذَلِك
إِلَى النَّفس، لكَون الْخبث فَمَعْنَى فَسَاد الدّين،
وَوصف بعض الْأَفْعَال بذلك تحذيرا مِنْهَا وتنفيرا.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة تَقْيِيد العقد
بِالثلَاثِ؟ وَأجِيب: بإنه أما تَأْكِيد وَإِمَّا لِأَن
مَا ينْحل بِهِ العقد ثَلَاثَة أَشْيَاء: الذّكر
وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة، فَكَانَ الشَّيْطَان منع عَن كل
وَاحِد مِنْهَا بعقدة عقدهَا على قافيته.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تَخْصِيص قافية الرَّأْس
بِضَرْب العقد عَلَيْهَا. وَأجِيب بِأَنَّهَا مَحل الواهمة
وَمحل تصرفها، وَهِي أطوع القوى للشَّيْطَان وأسرعها
إِجَابَة لدعوته.
وَمِنْهَا مَا قيل: أَنه قد يظنّ أَن بَين هَذَا الحَدِيث
وَبَين مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره أَن قارىء آيَة
الْكُرْسِيّ عِنْد نَومه لَا يقربهُ شَيْطَان تعَارض؟
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد من العقد إِن كَانَ أمرا معنويا،
وَمن الْقرب أمرا حسيا أَو بِالْعَكْسِ، فَلَا إِشْكَال،
وَإِن كَانَ كِلَاهُمَا معنويا أَو بِالْعَكْسِ فَيكون
أَحدهمَا مَخْصُوصًا، وَالْأَقْرَب أَن يكون حَدِيث
الْبَاب مَخْصُوصًا بِمن لم يقْرَأ آيَة الْكُرْسِيّ لطرد
الشَّيْطَان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الذّكر يطرد
الشَّيْطَان، وَكَذَا الْوضُوء وَالصَّلَاة، وَلَا
يتَعَيَّن للذّكر شَيْء مَخْصُوص لَا يجزىء غَيره، بل كل
مَا يصدق عَلَيْهِ، ذكر الله تَعَالَى أَجزَأَهُ، وَيدخل
فِيهِ تِلَاوَة الْقُرْآن، وَأولى مَا يذكر فِيهِ مَا
سَيَجِيءُ فِي: بَاب فضل من تعار من اللَّيْل، إِن شَاءَ
الله تَعَالَى فَإِن قلت: كَيفَ حكم الْجنب؟ فَهَل تحل
عقدته بِالْوضُوءِ؟ قلت: لَا تحل إلاّ بالاغتسال
وَتَخْصِيص الْوضُوء بِالذكر لكَونه الْغَالِب،
وَالتَّيَمُّم يقوم مقامهما عِنْد جَوَازه، وَالله أعلم.
3411 - حدَّثنا مُؤَمِّلُ بنُ هِشَامٍ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا عَوفٌ قَالَ حدَّثنا أبُو
رَجَاءٍ قَالَ حدَّثَنَا سَمْرَةُ بنُ جُنْدَبٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
الرُّؤيَا قَالَ أمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأسُهُ
بِالحَجَرِ فإنَّهُ يَأخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ
ويَنَامُ عنِ الصَّلاَة المَكْتُوبَةِ..
زعم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن حَدِيث سَمُرَة هَذَا لَا يدْخل
فِي هَذَا الْبَاب لِأَن رفض الْقُرْآن لَيْسَ ترك
الصَّلَاة بِاللَّيْلِ. قلت: حفظ شَيْئا وَغَابَ عَنهُ مَا
هُوَ أعظم مِنْهُ، فَفِي الحَدِيث: (وينام عَن الصَّلَاة
الْمَكْتُوبَة) ، وَالْمرَاد مِنْهَا الْعشَاء الْآخِرَة،
فَأَي مُنَاسبَة تطلب بِأَكْثَرَ من هَذَا؟
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُؤَمل، بِلَفْظ اسْم
الْمَفْعُول: ابْن هِشَام الْبَصْرِيّ ختن شَيْخه
إِسْمَاعِيل بن علية، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
اللَّام، وَعليَّة اسْم أمه، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن
إِبْرَاهِيم بن سهم الْأَسدي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة
ثَلَاث أَو أَربع وَتِسْعين وَمِائَة بِبَغْدَاد.
الثَّالِث: عَوْف الْأَعرَابِي، مر فِي: بَاب اتِّبَاع
الْجَنَائِز من الْإِيمَان. الرَّابِع: أَبُو رَجَاء، بخفة
الْجِيم وبالمد: اسْمه عمرَان بن ملْحَان العطاردي.
(7/194)
الْخَامِس: سَمُرَة بن جُنْدُب، بِفَتْح
الدَّال وَضمّهَا، مر فِي آخر كتاب الْحيض.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: الْإِسْنَاد كُله بِصِيغَة
التحديث فِي صُورَة الْجمع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم
بصريون. وَفِيه: سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعنعنة. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: إِسْمَاعِيل مَذْكُور باسم أمه. وَفِيه: عَوْف
مَذْكُور بِغَيْر نِسْبَة. وَفِيه: أَبُو رَجَاء مَذْكُور
بكنيته.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
مقطعا فِي مَوَاضِع، وَتَمَامه يَأْتِي فِي أَوَاخِر كتاب
الْجَنَائِز، وَأخرجه فِي الْبيُوع وَالْجهَاد وبدء الْخلق
وَالْأَدب وَأَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَفِي التَّفْسِير وَفِي التَّعْبِير.
وَأخرجه مُسلم فِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد بن بشار
وَبُنْدَار مُخْتَصرا كَمَا هَهُنَا. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن
مُعْتَمر عَن عَوْف بِتَمَامِهِ وَفِي التَّفْسِير عَن
جمَاعَة عَن عَوْف بِأَكْثَرَ الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يثلغ) ، بِضَم الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح اللَّام
وبالغين الْمُعْجَمَة أَي: يكسر، قَالَ الْجَوْهَرِي: أَي
ثلغ رَأسه يثلغه، بِفَتْح اللَّام فيهمَا: ثلغا أَي: شدخه،
والشدخ: كسر الشَّيْء الأجوف. قلت: كلمة: أما، لَا بُد
لَهَا من قسيم فَمَا هُوَ هَهُنَا؟ قلت: قد قلت لَك أَن
البُخَارِيّ قد قطع هَذَا الحَدِيث، وَسَيَأْتِي تَمَامه
فِي: بَاب الْجَنَائِز، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (فيرفضه) ،
بِضَم الْفَاء وَكسرهَا أَي: يتْرك حفظه وَالْعَمَل بِهِ،
وَأما الَّذِي يتْرك حفظ حرفه وَيعْمل بمعاني فَلَيْسَ
برافض لَهُ، وَأما الَّذِي يرفض كليهمَا فَذَاك لعقد
الشَّيْطَان فِيهِ، فَوَقَعت الْعقُوبَة فِي مَوضِع
الْمعْصِيَة. قَوْله: (وينام عَن الصَّلَاة) ، يَعْنِي
ذاهلاً عَنْهَا حَتَّى يخرج وَقتهَا وتفوت مِنْهُ. قَوْله:
(الْمَكْتُوبَة) أَي: الْمَفْرُوضَة، وَأَرَادَ بهَا:
صَلَاة الْعشَاء. وَقيل: أَرَادَ بهَا صَلَاة الصُّبْح
لِأَنَّهَا الَّتِي تبطل بِالنَّوْمِ.
31 - (بابُ إذَا نامَ ولَمْ يُصَلِّ بالَ الشَّيْطَانُ فِي
أذُنِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا نَام ... إِلَى آخِره.
وَوَقعت هَذِه التَّرْجَمَة للمستملي وَحده، وللباقين:
بَاب، فَقَط من غير ذكر شَيْء، فَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة
فصل للباب السَّابِق، وتعلقه بِهِ ظَاهر، وَهُوَ فِي
قَوْله فِي الحَدِيث السَّابِق: (وينام عَن الصَّلَاة
الْمَكْتُوبَة) ، وَهنا فِي قَوْله: مَا زَالَ نَائِما
حَتَّى أصبح) .
4411 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الأحْوَصِ
قَالَ حدَّثنا مَنْصُورٌ عنْ أبِي وائِلٍ عنْ عَبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ ذُكِرَ عِنْدَ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلُ فَقِيلَ مَا زَالَ نائِما
حَتَّى أصْبَحَ مَا قامَ إلَى الصَّلاَةِ فقالَ بالَ
الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ.
(الحَدِيث 4411 طرفه فِي: 0723) .
مطابقته للباب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين ظَاهِرَة، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي أظهر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو
الْأَحْوَص: سَلام بن سليم، وَمَنْصُور ابْن الْمُعْتَمِر،
وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله بن مَسْعُود،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي
موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي، وَأَبُو الْأَحْوَص
وَمَنْصُور وَأَبُو وَائِل كوفيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي صفة إِبْلِيس عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة،
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عُثْمَان وَإِسْحَاق
كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
إِسْحَاق وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن عبد الْعَزِيز عبد
الصَّمد عَنهُ بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن الصَّباح عَن جرير بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَقيل: مَا زَالَ نَائِما) أَي:
قَالَ رجل مِمَّن كَانَ فِي الْمجْلس: مَا زَالَ هَذَا
الرجل نَائِما حَتَّى أصبح. وَفِي رِوَايَة جرير عَن
مَنْصُور فِي بَدْء الْخلق: (رجل نَام لَيْلَة حَتَّى
أصبح) . قَوْله: (مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة) ، اللَّام
فِيهِ للْجِنْس، وَيجوز أَن تكون للْعهد، وَيُرَاد بهَا
الْمَكْتُوبَة، وَهُوَ الظَّاهِر كَمَا قَالَ سُفْيَان
الثَّوْريّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا عندنَا نَام عَن
الْفَرِيضَة. وَأخرج ابْن حبَان من طَرِيق سُفْيَان،
قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن حَدثنَا عَليّ
بن حَرْب أخبرنَا الهاشم بن يزِيد الحرمي عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن سَلمَة بن كهيل عَن أبي الْأَحْوَص (عَن
عبد الله، قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن رجل نَام حَتَّى أصبح
(7/195)
قَالَ: بَال الشَّيْطَان فِي أُذُنه) .
قَوْله: (فِي أُذُنه) بِضَم الذَّال وسكونها، وَفِي
رِوَايَة جرير: (فِي أُذُنَيْهِ) ، بالتثنية. وَاخْتلفُوا
فِي معنى قَوْله: (بَال الشَّيْطَان) ، فَقيل: هُوَ على
حَقِيقَته. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا مَانع من حَقِيقَته
لعدم الإحالة فِيهِ لِأَنَّهُ ثَبت أَنه يَأْكُل وَيشْرب
وينكح، فَلَا مَانع من أَن يَبُول. وَقَالَ الْخطابِيّ:
هُوَ تَمْثِيل، شبه تثاقل نَومه وإغفاله عَن الصَّلَاة
بِحَال من يبال فِي أُذُنه فيثقل سَمعه وَيفْسد حسه.
قَالَ: وَإِن كَانَ المُرَاد حَقِيقَة عين الْبَوْل من
الشَّيْطَان نَفسه فَلَا يُنكر ذَلِك إِن كَانَت لَهُ
هَذِه الصّفة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هُوَ اسْتِعَارَة عَن
تحكمه فِيهِ وانقياده لَهُ. وَقَالَ التوريشتي: يحْتَمل
أَن يُقَال: إِن الشَّيْطَان مَلأ سَمعه بالأباطيل فأحدث
فِي أُذُنه وقرا عَن اسْتِمَاع دَعْوَة الْحق، وَقيل: هُوَ
كِنَايَة عَن استهانة الشَّيْطَان وَالِاسْتِخْفَاف بِهِ،
فَإِن من عَادَة المستخف بالشَّيْء أَن يَبُول عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ من شدَّة استخفافه بِهِ يَتَّخِذهُ كالكنيف
الْمعد للبول. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أفسد،
يُقَال: بَال فِي كَذَا أَي: أفسد، وَالْعرب تكنى عَن
الْفساد بالبول. قَالَ الراجز:
(بَال سُهَيْل فِي الفضيخ ففسد)
وَوَقع فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا
الحَدِيث عِنْد أَحْمد، قَالَ الْحسن: إِن بَوْله وَالله
لثقيل، وروى مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق قيس ابْن أبي
حَازِم (عَن ابْن مَسْعُود: حسب رجل من الخيبة وَالشَّر
أَن ينَام حى يصبح وَقد بَال الشَّيْطَان فِي أُذُنه) ،
وَهُوَ مَوْقُوف صَحِيح الْإِسْنَاد. فَإِن قلت: لم خص
الْأذن بِالذكر وَالْعين أنسب بِالنَّوْمِ؟ قلت: قَالَ
الطَّيِّبِيّ: إِشَارَة إِلَى ثقل النّوم، فَإِن المسامع
هِيَ موارد الانتباه، وَخص الْبَوْل من الأخبثين لِأَنَّهُ
أسهل مدخلًا فِي التجاويف وأوسع نفوذا فِي الْعُرُوق فيورث
الكسل فِي جَمِيع الْأَعْضَاء.
41 - (بابُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ مِنْ آخِرِ
اللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء فِي الصَّلَاة من
آخر اللَّيْل، وَهُوَ الثُّلُث الْأَخير مِنْهُ. قَوْله:
(فِي الصَّلَاة) ، بِكَلِمَة: فِي، رِوَايَة أبي ذَر،
وَفِي رِوَايَة غَيره، بَاب الدُّعَاء وَالصَّلَاة، بِحرف:
وَاو، الْعَطف.
وقَالَ الله عزَّ وجَلَّ {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ} أَي مَا يَنَامُونَ {وبِالأسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 71، 81) .
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَقَول الله، عز وَجل، فعلى
هَذِه تكون هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة من جملَة
التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى، وَزَاد الْأصيلِيّ بعد
قَوْله: {مَا يهجعون} (الذاريات: 71، 81) . أَي: مَا
ينامون، يُقَال: هجع يهجع هجوعا، وَهُوَ: النّوم
بِاللَّيْلِ دون النَّهَار، وَرجل هاجع من قوم هجع وهجوع،
وَامْرَأَة هاجعة من نسْوَة هجع وهواجع وهاجعات. وَفِي
(الْمُحكم) : قد يكون الهجوع بَين نوم، وَقوم هجع وهجوع
وَنسَاء هجع وهجوع وهواجع وهاجعات جمع الْجمع. وَقَالَ
أَبُو عَمْرو: الهاجع كل نَائِم. وَفِي (الْكَامِل) :
التهجاع النومة الْخَفِيفَة.
5411 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ أبِي
شِهَابٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ وأبِي عَبْدِ الله الأغَرِّ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ الله عنْهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ
وتَعَالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ
يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ مَنْ يَدْعُونِي
فأسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْألُنِي فأُعْطِيَهُ مَنْ
يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ لَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَن التَّرْجَمَة فِي
الدُّعَاء فِي آخر اللَّيْل، والْحَدِيث يخبر أَن من دَعَا
فِي ذَلِك الْوَقْت يستجيب الله تَعَالَى دعاءه.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مسلمة
القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد
ابْن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة
بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو عبد الله الْأَغَر،
بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء: واسْمه سلمَان
الثَّقَفِيّ والأغر لقبه. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون، غير أَن ابْن سَلمَة سكن
الْبَصْرَة. وَفِيه: ابْن شهَاب مَذْكُور بنسبته إِلَى
جده. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بالكنية وَوَاحِد
(7/196)
مِنْهُم باللقب أَيْضا. وَفِيه: اخْتلف
عَليّ ابْن شهَاب، فَرَوَاهُ عَنهُ مَالك وحفاظ أَصْحَابه
كَمَا هُوَ الْمَذْكُور هَهُنَا، وَاقْتصر بَعضهم فِي
الرِّوَايَة عَنهُ على أحد الرجلَيْن، وَقَالَ بعض
أَصْحَاب مَالك: عَن سعيد بن الْمسيب بدل أبي سَلمَة،
وَأبي عبد الله الْأَغَر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ: عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ،
فَقَالَ: الْأَعْرَج بدل الْأَغَر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ: عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ،
فَقَالَ: الْأَعْرَج بدل الْأَغَر. قيل: هَذَا تَصْحِيف.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، وَقد
رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من أوجه كَثِيرَة عَن أبي هُرَيْرَة
(عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ينزل
الله تَعَالَى حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر) ، وَهَذَا
أصح الرِّوَايَات.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَقد روى فِي
ذَلِك خمس رِوَايَات. أَصَحهَا: مَا صَححهُ التِّرْمِذِيّ،
وَقد اتّفق عَلَيْهَا مَالك بن أنس وَإِبْرَاهِيم بن سعد
وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَمعمر بن رَاشد وَيُونُس بن
يزِيد ومعاذ بن يحيى الصَّدَفِي وَعبيد الله بن أبي زِيَاد
وَعبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان وَصَالح بن أبي
الْأَخْضَر، كلهم عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة وَأبي
سَلمَة وَأبي عبد الله، إلاَّ أَن ابْن سمْعَان وَابْن أبي
الْأَخْضَر لم يذكرَا أَبَا سَلمَة فِي الْإِسْنَاد،
وَزَاد ابْن أبي الْأَخْضَر بدله: عَطاء بن يزِيد
اللَّيْثِيّ، كلهم عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَكَذَا رَوَاهُ
الْأَعْمَش: عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَمُحَمّد
ابْن عَمْرو: عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَيحيى بن
أبي كثير: عَن أبي جَعْفَر عَن أبي هُرَيْرَة. وَقد قيل:
إِن أَبَا جَعْفَر هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن
الْحُسَيْن.
الرِّوَايَة الثَّانِيَة: هِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ:
حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن
الإسْكَنْدراني عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه (عَن
أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: ينزل الله إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كل لَيْلَة حِين
يمْضِي ثلث اللَّيْل الأول. .) الحَدِيث، وَهَكَذَا فِي
رِوَايَة مَنْصُور وَشعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي
مُسلم الْأَغَر عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد عِنْد مُسلم.
الرِّوَايَة الثَّالِثَة: حِين يبْقى نصف اللَّيْل الآخر،
وَهِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن
عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَكَذَا
رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن
أبي سَلمَة عَنهُ بِلَفْظ: (إِذا كَانَ شطر اللَّيْل. .)
الحَدِيث، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن سعيد
المَقْبُري عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا مضى شطر
اللَّيْل) .
الرِّوَايَة الرَّابِعَة: التَّقْيِيد بالشطر أَو الثُّلُث
الْأَخير إِمَّا على الشَّك أَو وُقُوع هَذَا مرّة وَهَذَا
مرّة، وَهِي رِوَايَة سعيد، بن مرْجَانَة (عَن أبي
هُرَيْرَة: ينزل الله تَعَالَى شطر اللَّيْل أَو ثلث
اللَّيْل الآخر) ، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ
عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة:
أَو ثلث اللَّيْل الآخر.
الرِّوَايَة الْخَامِسَة: لتقييد بِمُضِيِّ نصف اللَّيْل
أَو ثلثه، وَهِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن سعيد
المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا مضى نصف اللَّيْل أَو
ثلث اللَّيْل) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر
بن أبي كثير عَن سُهَيْل ابْن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن
أبي هُرَيْرَة: (إِذا ذهب ثلث اللَّيْل أَو نصفه) .
فَإِن قلت: كَيفَ طَرِيق الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات
الَّتِي ظَاهرهَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: أما رِوَايَة من لم
يعين الْوَقْت فَلَا تعَارض بَينهَا وَبَين من عين، وَأما
من عين الْوَقْت وَاخْتلفت ظواهر رواياتهم فقد صَار بعض
الْعلمَاء إِلَى التَّرْجِيح، كالترمذي على مَا ذكرنَا،
إلاّ أَنه عبر بالأصح، فَلَا يَقْتَضِي تَضْعِيف غير
تِلْكَ الرِّوَايَة لما تَقْتَضِيه صِيغَة: أفعل، من
الِاشْتِرَاك. وَأما القَاضِي عِيَاض فَعبر فِي
التَّرْجِيح بِالصَّحِيحِ، فَاقْتضى ضعف الرِّوَايَة
الْأُخْرَى، ورده النَّوَوِيّ بِأَن مُسلما رَوَاهَا فِي
(صَحِيحه) بِإِسْنَاد لَا يطعن فِيهِ عَن صحابيين، فَكيف
يضعفها؟ وَإِذا أمكن الْجمع وَلَو على وَجه فَلَا يُصَار
إِلَى التَّضْعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيحْتَمل أَن
يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعلم بِأحد
الْأَمريْنِ فِي وَقت فَأخْبر بِهِ، ثمَّ أعلم بِالْآخرِ
فِي وَقت آخر فَأعْلم بِهِ، وَسمع أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، الْخَبَرَيْنِ فنقلهما جَمِيعًا،
وَسمع أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
خبر الثُّلُث الأول فَقَط، فأخبريه مَعَ أبي هُرَيْرَة
كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة، وَهَذَا
ظَاهر.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله،
وَفِي الدَّعْوَات عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله. وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ وَفِي السّنة عَن القعْنبِي. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي النعوت عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن
مَالك بِهِ، فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي دَاوُد
الْحَرَّانِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن أبي
مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني.
ذكر من أخرجه من غير أبي هُرَيْرَة: قَالَ التِّرْمِذِيّ،
بعد أَن أخرج هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة: وَفِي
الْبَاب عَن عَليّ بن أبي طَالب، وَأبي سعيد وَرِفَاعَة
الْجُهَنِيّ وَجبير بن مطعم وَابْن مَسْعُود وَأبي
الدَّرْدَاء وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ. قلت: وَفِي
الْبَاب، عَن جَابر بن عبد الله وَعبادَة بن
(7/197)
الصَّامِت وَعقبَة بن عَامر وَعَمْرو بن
عَنْبَسَة وَأبي الْخطاب وَأبي بكر الصّديق وَأنس بن مَالك
وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ومعاذ ابْن جبل وَأبي
ثَعْلَبَة الْخُشَنِي وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس ونواس بن
سمْعَان وَأمه سَلمَة وجد عبد الحميد بن سَلمَة.
أما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب (السّنة) من طَرِيق مُحَمَّد بن
إِسْحَاق عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي
لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة، ولأخرت الْعشَاء
الْآخِرَة إِلَى ثلث اللَّيْل، فَإِنَّهُ إِذا مضى ثلث
اللَّيْل الأول هَبَط الله إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا
فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى يطلع الْفجْر، فَيَقُول
الْقَائِل: ألاَ سَائل يعْطى سُؤَاله؟ ألاَ دَاع يُجَاب؟)
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من طَرِيق أهل الْبَيْت من
رِوَايَة الْحُسَيْن بن مُوسَى بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن
جده جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ بن
الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن على، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن الله ينزل فِي كل لَيْلَة جُمُعَة من أول
اللَّيْل إِلَى آخِره إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا، وَفِي
سَائِر اللَّيَالِي من الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْل
فيأمر ملكا يُنَادي: هَل من سَائل فَأعْطِيه؟ هَل من تائب
فأتوب عَلَيْهِ؟ هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ؟ يَا
طَالب الْخَيْر أقبل، وَيَا طَالب الشَّرّ أقصر) . وَفِي
إِسْنَاده من يجهل.
وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة من رِوَايَة الْأَغَر أبي مُسلم
(عَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة: إِن الله يُمْهل حَتَّى
إِذا ذهب ثلث اللَّيْل الأول ينزل إِلَى سَمَاء
الدُّنْيَا) الحَدِيث.
وَأما حَدِيث رِفَاعَة الْجُهَنِيّ، فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه
من رِوَايَة عَطاء بن يسَار عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله يُمْهل حَتَّى إِذا
ذهب من اللَّيْل نصفه أَو ثُلُثَاهُ، قَالَ: لَا يسْأَل
عَن عبَادي غَيْرِي) الحَدِيث، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَنهُ.
وَأما حَدِيث جُبَير بن مطعم فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى
سَمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: هَل من سَائل فَأعْطِيه؟ هَل
من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ؟) وَرَوَاهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) من هَذَا الْوَجْه وَزَاد: (حَتَّى يطلع
الْفجْر) .
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة
أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن
مَسْعُود: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (إِذا كَانَ ثلث اللَّيْل الْبَاقِي يهْبط الله، عز
وَجل، إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ تفتح أَبْوَاب
السَّمَاء، ثمَّ يبسط يَده فَيَقُول: هَل من سَائل يعْطى
سُؤَاله؟ وَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يسطع الْفجْر) .
وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) و (الْوسط) من رِوَايَة زِيَاد
بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ عَن مُحَمَّد بن كَعْب
الْقرظِيّ عَن فضَالة بن عبيد عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ:
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ينزل الله تَعَالَى فِي
آخر ثَلَاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل، فَينْظر فِي
السَّاعَة الأولى مِنْهُنَّ فِي الْكتاب الَّذِي لَا ينظر
فِيهِ غَيره، فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت، وَينظر فِي
السَّاعَة الثَّانِيَة فِي جنَّة عدن وَهِي مَسْكَنه
الَّذِي يسكن لَا يكون مَعَه فِيهَا إلاّ الْأَنْبِيَاء
وَالشُّهَدَاء وَالصِّدِّيقُونَ، وفيهَا مَا لم يره أحد
وَلَا خطر على قلب بشر، ثمَّ يهْبط آخر سَاعَة من اللَّيْل
فَيَقُول: ألاَ مُسْتَغْفِر يستغفرني فَأغْفِر لَهُ؟ ألاَ
سَائل يسألني فَأعْطِيه؟ ألاَ دَاع يدعوني فأستجيب لَهُ
حَتَّى يطلع الْفجْر؟ قَالَ الله تَعَالَى: {وَقُرْآن
الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} (الْإِسْرَاء:
87) . فيشهده الله وَمَلَائِكَته) ، قَالَ الطَّبَرَانِيّ:
وَهُوَ حَدِيث مُنكر.
وَأما حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَرَوَاهُ أَحْمد
وَالْبَزَّار من رِوَايَة عَليّ بن زيد عَن الْحسن عَن
عُثْمَان ابْن أبي الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُنَادي منادٍ كل لَيْلَة: هَل من
دَاع فيستجاب لَهُ؟ هَل من سَائل فَيعْطى؟ هَل من
مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ؟ حَتَّى يطلع الْفجْر) ،
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) بِلَفْظ: (تفتح
أَبْوَاب السَّمَاء نصف اللَّيْل فينادي منادٍ) فَذكره.
وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب
السّنة) وَأَبُو الشيح ابْن حبَان أَيْضا فِي (كتاب
السّنة) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك
(عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء
الدُّنْيَا لثلث اللَّيْل فَيَقُول: ألاَ عبد من عبَادي
يدعوني فأستجيب لَهُ؟ أَلا ظَالِم لنَفسِهِ يدعوني
فَأغْفِر لَهُ؟ ألاَ مقتر عَلَيْهِ فأرزقه؟ ألاَ مظلوم
يستعز بِي فأنصره؟ ألاَ عان يدعوني فأفك عَنهُ؟ فَيكون
ذَاك مَكَانَهُ حَتَّى يضيء الْفجْر، ثمَّ يَعْلُو ب
(رَبنَا عز وَجل إِلَى السَّمَاء الْعليا على كرسيه) ،
وَهُوَ حَدِيث مُنكر، فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل الْجَعْفَرِي، يرويهِ عَن عبد الله بن سَلمَة
بن أسلم، بِضَم اللَّام، والجعفري مُنكر الحَدِيث، قَالَه
أَبُو حَاتِم، وَعبد الله بن سَلمَة ضعفه
الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ أَبُو نعيم: مَتْرُوك.
وَأما حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت فَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) من
رِوَايَة يحيى بن إِسْحَاق (عَن عبَادَة، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ينزل رَبنَا، تبَارك
وَتَعَالَى، إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث
اللَّيْل، فَيَقُول: ألاَ عبد من عبَادي؟) الحَدِيث نَحْو
حَدِيث جَابر، وَفِي آخِره، حَتَّى يصبح
(7/198)
الصُّبْح ثمَّ يَعْلُو، عز وَجل، على
كرسيه) ، وَفِي إِسْنَاده فُضَيْل بن سُلَيْمَان النميري،
وَهُوَ وَإِن أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فقد قَالَ فِيهِ ابْن
معِين لَيْسَ بِثِقَة.
وَأما حَدِيث عقبَة بن عَامر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ
من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَنهُ، قَالَ: (أَقبلنَا
مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِذا مضى
ثلث اللَّيْل، أَو قَالَ نصف اللَّيْل، ينزل الله عز وَجل،
إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: لَا أسأَل عَن
عبَادي أحدا غَيْرِي) ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَفِيه
نظر.
وَأما حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة فَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي (كتاب السّنة) من رِوَايَة
جرير بن عُثْمَان، قَالَ: حَدثنَا سليم بن عَامر بن عَمْرو
بن عَنْبَسَة، قَالَ: (أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقلت: يَا رَسُول الله. .) الحَدِيث، وَفِيه: (إِن
الرب، عز وَجل، يتدلى من جَوف اللَّيْل) ، زَاد فِي
رِوَايَة الآخر: (فَيغْفر إلاّ مَا كَانَ من الشّرك) ،
زَاد فِي رِوَايَة: (وَالْبَغي وَالصَّلَاة مَشْهُودَة
حَتَّى تطلع الشَّمْس) .
وَأما حَدِيث أبي الْخطاب فَرَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد
فِي (كتاب السّنة) بِإِسْنَادِهِ (عَن رجل من أَصْحَاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَال لَهُ أَبُو
الْخطاب، أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن الْوتر، فَقَالَ: أحب إِلَيّ أَن أوتر نصف اللَّيْل،
إِن الله يهْبط من السَّمَاء الْعليا إِلَى السَّمَاء
الدُّنْيَا فَيَقُول: هَل من مذنب؟ هَل من مُسْتَغْفِر؟
هَل من دَاع؟ حَتَّى إِذا طلع الْفجْر ارْتَفع) . قَالَ
أَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَابْن عبد الْبر أَبُو الْخطاب،
لَهُ صُحْبَة وَلَا يعرف اسْمه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ينزل) ، بِفَتْح الْيَاء، فعل
مضارع: وَالله، مَرْفُوع بِهِ. وَقَالَ ابْن فورك: ضبط لنا
بعض أهل النَّقْل هَذَا الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِضَم الْيَاء من: ينزل، يَعْنِي: من
الْإِنْزَال. وَذكر أَنه ضبط عَمَّن سمع مِنْهُ من
الثِّقَات الضابطين. وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ: قد
قَيده بعض النَّاس بذلك فَيكون معدى إِلَى مفعول مَحْذُوف،
أَي: ينزل الله ملكا. قَالَ: وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا
مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الْأَغَر عَن أبي
هُرَيْرَة وَأبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله، عز وَجل، يُمْهل حَتَّى يمْضِي
شطر اللَّيْل الأول ثمَّ يَأْمر مناديا يَقُول: هَل من
دَاع فيستجاب لَهُ. .؟) الحَدِيث، وَصَححهُ عبد الْحق
وَحمل صَاحب (الْمُفْهم) الحَدِيث على النُّزُول
الْمَعْنَوِيّ على رِوَايَة مَالك عَنهُ عِنْد مُسلم،
فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: (يتنزل رَبنَا) ، بِزِيَادَة:
تَاء، بعد: يَاء المضارعة، فَقَالَ: كَذَا صحت الرِّوَايَة
هُنَا، وَهِي ظَاهِرَة فِي النُّزُول الْمَعْنَوِيّ وإليها
يرد (ينزل) ، على أحد التأويلات، وَمعنى ذَلِك أَن
مُقْتَضى عَظمَة الله وجلاله واستغنائه أَن لَا يعبأ بحقير
ذليل فَقير، لَكِن ينزل بِمُقْتَضى كرمه ولطفه لِأَن
يَقُول: من يقْرض غير عدوم وَلَا ظلوم، وَيكون قَوْله:
(إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا) ، عبارَة عَن الْحَالة
الْقَرِيبَة إِلَيْنَا، وَالدُّنْيَا بِمَعْنى:
الْقُرْبَى، وَالله أعلم.
ثمَّ الْكَلَام هُنَا على أَنْوَاع. الأول: احْتج بِهِ قوم
على إِثْبَات الْجِهَة لله تَعَالَى، وَقَالُوا: هِيَ
جِهَة الْعُلُوّ، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك: ابْن قُتَيْبَة
وَابْن عبد الْبر، وَحكي أَيْضا عَن أبي مُحَمَّد بن أبي
زيد القيرواني، وَأنكر ذَلِك جُمْهُور الْعلمَاء لِأَن
القَوْل بالجهة يُؤَدِّي إِلَى تحيز وإحاطة، وَقد تَعَالَى
الله عَن ذَلِك.
الثَّانِي: أَن الْمُعْتَزلَة أَو أَكْثَرهم: كجهم بن
صَفْوَان وَإِبْرَاهِيم بن صَالح وَمَنْصُور بن طَلْحَة
والخوارج، أَنْكَرُوا صِحَة تِلْكَ الْأَحَادِيث
الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ مُكَابَرَة،
وَالْعجب أَنهم أولُوا مَا ورد من ذَلِك فِي الْقُرْآن
وأنكروا مَا ورد فِي الحَدِيث إِمَّا جعلا وَإِمَّا عنادا.
وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) :
عَن مُوسَى بن دَاوُد، قَالَ: قَالَ لي عباد ابْن عوام،
قدم علينا شريك بن عبد الله مُنْذُ نَحْو من خمسين سنة،
قَالَ: فَقل: يَا أَبَا عبد الله إِن عندنَا قوما من
الْمُعْتَزلَة يُنكرُونَ هَذِه الْأَحَادِيث؟ قَالَ:
فَحَدثني نَحْو عشرَة أَحَادِيث فِي هَذَا، وَقَالَ: أما
نَحن فقد أَخذنَا ديننَا هَذَا عَن التَّابِعين عَن
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم عَمَّن
أخذُوا؟ وَقد وَقع بَين إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَبَين
إِبْرَاهِيم بن صَالح المعتزلي، وَبَينه وَبَين مَنْصُور
بن طَلْحَة أَيْضا مِنْهُم كَلَام، بعضه عِنْد عبد الله بن
طَاهِر بن عبد الله المعتزلي، وَبَعضه عِنْد أَبِيه طَاهِر
بن عبد الله. قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: جمعني وَهَذَا
المبتدع، يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن صَالح، مجْلِس الْأَمِير
عبد الله بن طَاهِر، فَسَأَلَنِي الْأَمِير عَن أَخْبَار
النُّزُول فسردتها، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: كفرت بِرَبّ ينزل
من سَمَاء إِلَى سَمَاء. فَقلت: آمَنت بِرَبّ يفعل مَا
يَشَاء. قَالَ: فَرضِي عبد الله كَلَامي وَأنكر عَليّ
آبراهيم، وَقد أَخذ إِسْحَاق كَلَامه هَذَا من الفضيل بن
عِيَاض، رَحمَه الله، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا قَالَ الجهمي:
أَنا أكفر بِرَبّ ينزل ويصعد، فَقلت: آمَنت بِرَبّ يفعل
مَا يَشَاء، ذكره أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب
السّنة) ذكر فِيهِ: عَن أبي زرْعَة، قَالَ: هَذِه
الْأَحَادِيث المتواترة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء
الدُّنْيَا، قد رَوَاهُ عدَّة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي عندنَا صِحَاح قَوِيَّة. قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ينزل) وَلم يقل:
كَيفَ ينزل، فَلَا نقُول: كَيفَ ينزل؟ نقُول، كَمَا قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وروى الْبَيْهَقِيّ
فِي (كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) أخبرنَا أَبُو عبد
الله الْحَافِظ قَالَ: سَمِعت أَبَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن
عبد الله الْمُزنِيّ يَقُول:
(7/199)
حَدِيث النُّزُول قد ثَبت عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وُجُوه صَحِيحَة، وَورد فِي
التَّنْزِيل مَا يصدقهُ، وَهُوَ قَوْله: {وَجَاء رَبك
وَالْملك صفا صفا} (الْفجْر: 22) . الثَّالِث: أَن قوما
أفرطوا فِي تَأْوِيل هَذِه الْأَحَادِيث حَتَّى كَاد أَن
تخرج إِلَى نوع من التحريف، وَمِنْهُم من فصل بَين مَا
يكون تَأْوِيله قَرِيبا مُسْتَعْملا فِي كَلَام الْعَرَب،
وَبَين مَا يكون بَعيدا مَهْجُورًا، وَأولُوا فِي بعض
وفوضوا فِي بعض، وَنقل ذَلِك عَن مَالك.
الرَّابِع: أَن الْجُمْهُور سلكوا فِي هَذَا الْبَاب
الطَّرِيق الْوَاضِحَة السالمة، وأجروا على مَا ورد
مُؤمنين بِهِ منزهين لله تَعَالَى عَن التَّشْبِيه
والكيفية، وهم: الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن
الْمُبَارك وَمَكْحُول وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن
عُيَيْنَة وَاللَّيْث بن سعد وَحَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد
بن سَلمَة وَغَيرهم من أَئِمَّة الدّين. وَمِنْهُم
الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة: مَالك وَأَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب
الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) : قَرَأت بِخَط الإِمَام أبي
عُثْمَان الصَّابُونِي، عقيب حَدِيث النُّزُول: قَالَ
الاستاذ أَبُو مَنْصُور يَعْنِي الجمشاذي: وَقد اخْتلف
الْعلمَاء فِي قَوْله: (ينزل الله) ، فَسئلَ أَبُو حنيفَة
فَقَالَ: بِلَا كَيفَ، وَقَالَ حَمَّاد بن زيد: نُزُوله
إقباله. وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الِاعْتِقَاد)
بِإِسْنَادِهِ إِلَى يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، قَالَ:
قَالَ لي مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي: لَا يُقَال
للْأَصْل: لِمَ وَلَا كَيفَ، وروى بِإِسْنَادِهِ إِلَى
الرّبيع بن سُلَيْمَان، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: الأَصْل
كتاب أَو سنة أَو قَول بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَو إِجْمَاع النَّاس قلت: لَا شكّ أَن
النُّزُول انْتِقَال الْجِسْم من فَوق إِلَى تَحت، واا
منزه عَن ذَلِك، فَمَا ورد من ذَلِك فَهُوَ من المتشابهات،
فَالْعُلَمَاء فِيهِ على قسمَيْنِ: الأول: المفوضة:
يُؤمنُونَ بهَا ويفوضون تَأْوِيلهَا إِلَى الله، عز وَجل،
مَعَ الْجَزْم بتنزيهه عَن صِفَات النُّقْصَان.
وَالثَّانِي: المؤولة: يؤولون بهَا على مَا يَلِيق بِهِ
بِحَسب المواطن، فأولوا بِأَن معنى: ينزل الله: ينزل ى مره
أَو مَلَائكَته، وَبِأَنَّهُ اسْتِعَارَة، وَمَعْنَاهُ:
التلطف بالداعين والإجابة لَهُم وَنَحْو ذَلِك، وَقَالَ
الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث من أَحَادِيث الصِّفَات،
مَذْهَب السّلف فِيهِ الْإِيمَان بهَا وإجراؤها على
ظَاهرهَا وَنفي الْكَيْفِيَّة عَنهُ: لَيْسَ كمثله شَيْء
وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير، وَقَالَ القَاضِي
الْبَيْضَاوِيّ، لما ثَبت بالقواطع الْعَقْلِيَّة أَنه
منزه عَن الجسمية والتحيز امْتنع عَلَيْهِ النُّزُول على
معنى الِانْتِقَال من مَوضِع أَعلَى إِلَى مَا هُوَ أَخفض
مِنْهُ، فَالْمُرَاد دنو رَحمته، وَقد رُوِيَ: يهْبط الله
من السَّمَاء الْعليا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، أَي:
ينْتَقل من مُقْتَضى صِفَات الْجلَال الَّتِي تَقْتَضِي
الأنفة من الأراذل وقهر الْأَعْدَاء والانتقام من العصاة
إِلَى مُقْتَضى صِفَات الْإِكْرَام للرأفة وَالرَّحْمَة
وَالْعَفو، وَيُقَال: لَا فرق بَين الْمَجِيء والإتيان
وَالنُّزُول إِذا أضيف إِلَى جسم يجوز عَلَيْهِ الْحَرَكَة
والسكون والنقلة الَّتِي هِيَ تَفْرِيغ مَكَان وشغل غَيره،
فَإِذا أضيف ذَلِك إِلَى من لَا ليق بِهِ الِانْتِقَال
وَالْحَرَكَة، كَانَ تَأْوِيل ذَلِك على حسب مَا يَلِيق
بنعته وَصفته تَعَالَى. فالنزول: لُغَة، يسْتَعْمل لمعان
خَمْسَة مُخْتَلفَة: بِمَعْنى الِانْتِقَال: {وأنزلنا من
السَّمَاء مَاء طهُورا} (الْفرْقَان: 84) . و: الْإِعْلَام
{نزل بِهِ الرّوح الْأمين} (الشُّعَرَاء: 391) . أَي: أعلم
بِهِ الرّوح الْأمين مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَبِمَعْنى: القَوْل {سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله}
(الْأَنْعَام: 39) . أَي سأقول مثل مَا قَالَ، والإقبال
على الشَّيْء، وَذَلِكَ مُسْتَعْمل فِي كَلَامهم جَار فِي
عرفهم، يَقُولُونَ: نزل فلَان من مَكَارِم الأخلاف إِلَى
دنيها، وَنزل قدر فلَان عِنْد فلَان إِذا انخفض،
وَبِمَعْنى: نزُول الحكم، من ذَلِك قَوْلهم: كُنَّا فِي
خير وَعدل حَتَّى نزل بِنَا بَنو فلَان، أَي: حكم،
وَذَلِكَ كُله مُتَعَارَف عِنْد أهل اللُّغَة: وَإِذا
كَانَت مُشْتَركَة فِي الْمَعْنى وَجب حمل مَا وصف بِهِ
الرب، جلّ جَلَاله، من النُّزُول على مَا يَلِيق بِهِ من
بعض هَذِه الْمعَانِي، وَهُوَ: إقباله على أهل الأَرْض
بِالرَّحْمَةِ والاستيقاظ بالتذكير والتنبيه الَّذِي يلقى
فِي الْقُلُوب، والزواجر الَّتِي تزعجهم إِلَى الإقبال على
الطَّاعَة. ووجدناه، تَعَالَى، خص بالمدح المستغفرين
بالأسحار، فَقَالَ تَعَالَى: {وبالأسحار هم
يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 81) [/ ح.
قَوْله: (عز وَجل) ، وَفِي بعض النّسخ: (تبَارك
وَتَعَالَى) ، وهما جملتان معترضتان بَين الْفِعْل
وَالْفَاعِل وظرفه: لما أسْند مَا لَا يَلِيق إِسْنَاده
بِالْحَقِيقَةِ إِلَى الله تَعَالَى، وأتى بِمَا يدل على
التَّنْزِيه على سَبِيل الِاعْتِرَاض. قَوْله: (حِين يبْقى
ثلث اللَّيْل الآخر) ، وَعند مُسلم: (ثلث اللَّيْل الأول)
، وَفِي لفظ: (شطر اللَّيْل أَو ثلث اللَّيْل الْأَخير) ،
وَهَهُنَا سِتّ رِوَايَات: الأولى: هِيَ الَّتِي هَهُنَا
وَهِي: ثلث اللَّيْل الأول. الثَّانِيَة: إِذا مضى
الثُّلُث الأول. الثَّالِثَة: الثُّلُث الأول أَو النّصْف.
الرَّابِعَة: النّصْف. الْخَامِسَة: النّصْف أَو الثُّلُث
الْأَخير. السَّادِسَة: الْإِطْلَاق، والمطلقة مِنْهَا
تحمل على الْمقيدَة، وَالَّتِي بِحرف الشَّك، فالمجزوم
بِهِ مقدم على الْمَشْكُوك فِيهِ. فَإِن قلت: إِذا كَانَت
كلمة: أَو، للترديد بَين حَالين، كَيفَ يجمع بذلك بَين
الرِّوَايَات؟ قلت: يجمع بِأَن ذَلِك يَقع بِحَسب
اخْتِلَاف الْأَحول، لكَون أَوْقَات اللَّيْل تخْتَلف فِي
الزَّمَان وَفِي الْآفَاق باخْتلَاف تقدم دُخُول اللَّيْل
عِنْد قوم وتأخره عَنهُ آخَرين، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
من وَجه آخر عَن قريب. فَإِن قلت: مَا وَجه التحصيص
بِالثُّلثِ الْأَخير الَّذِي
(7/200)
رَجحه جمَاعَة على غَيره من الرِّوَايَات
الْمَذْكُورَة؟ قلت: لِأَنَّهُ وَقت التَّعَرُّض لنفحات
رَحْمَة الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ زمَان عبَادَة أهل
الْإِخْلَاص، وروى أَن آخر اللَّيْل أفضل للدُّعَاء
وَالِاسْتِغْفَار، وروى محَارب بن دثار عَن عَمه أَنه
كَانَ يَأْتِي الْمَسْجِد فِي السحر ويمر بدار ابْن
مَسْعُود، فَسَمعهُ يَقُول: أللهم إِنَّك أَمرتنِي فأطعت،
وَدَعَوْتنِي فأجبت، وَهَذَا سحر فَاغْفِر لي، فَسئلَ ابْن
مَسْعُود عَن ذَلِك؟ فَقَالَ: إِن يَعْقُوب صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أخر الدُّعَاء لِبَنِيهِ إِلَى السحر.
فَقَالَ: {سَوف اسْتغْفر لكم} (يُوسُف: 89) . وروى أَن
دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام: أَي اللَّيْل أسمع؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، غير
أَن الْعَرْش يَهْتَز فِي السحر. قَوْله: (الآخر) ،
بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وارتفاعه على أَنه صفة
للثلث. قَوْله: (من يدعوني) الْمَذْكُور هَهُنَا الدُّعَاء
وَالسُّؤَال وَالِاسْتِغْفَار، وَالْفرق بَين هَذِه
الثَّلَاثَة أَن الْمَطْلُوب: إِمَّا لدفع الْمضرَّة،
وَإِمَّا لجلب الْخَيْر، وَالثَّانِي إِمَّا ديني أَو
دنياوي، فَفِي لفظ الاسْتِغْفَار إِشَارَة إِلَى الأول،
وَفِي السُّؤَال إِشَارَة إِلَى الثَّانِي وَفِي الدُّعَاء
إِشَارَة إِلَى الثَّالِث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: مَا الْفرق بَين الدُّعَاء وَالسُّؤَال؟ قلت:
الْمَطْلُوب إِمَّا لدفع غير الملائم، وَإِمَّا لجلب
الملائم، وَذَلِكَ إِمَّا دُنْيَوِيّ وَإِمَّا ديني،
فالاستغفار وَهُوَ طلب ستر الذُّنُوب، إِشَارَة إِلَى
الأول، وَالسُّؤَال إِلَى الثَّانِي، وَالدُّعَاء إِلَى
الثَّالِث، لَا وَالدُّعَاء مَا لَا طلب فِيهِ نَحْو
قَوْلنَا: يَا الله يَا رَحْمَن، وَالسُّؤَال هُوَ الطّلب،
وَالْمَقْصُود وَاحِد، وَاخْتِلَاف الْعبارَات لتحقيق
الْقَضِيَّة وتأكيدها. قَوْله: (فأستجيب لَهُ) ، يجوز
فِيهِ النصب وَالرَّفْع: أما النصب فعلى جَوَاب
الِاسْتِفْهَام، وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف تَقْدِيره: فَأَنا أستجيب لَهُ، وَكَذَا
الْكَلَام فِي قَوْله: فَأعْطِيه فَأغْفِر لَهُ) . وَأعلم
أَن السِّين فِي: (فأستجيب) لَيْسَ للطلب، بل هُوَ
بِمَعْنى: أُجِيب وَذَلِكَ، لتحول الْفَاعِل إِلَى أصل
الْفِعْل نَحْو: استحجر الطين فَإِن قلت: لَيْسَ فِي وعد
الله خلف وَكثير من الداعين لَا يُسْتَجَاب لَهُم؟ قلت:
إِنَّمَا ذَاك لوُقُوع الْخلَل فِي شَرط من شُرُوط
الدُّعَاء مثل: الِاحْتِرَاز فِي الْمطعم وَالْمشْرَب
والملبس، أَو لاستعجال الدَّاعِي، أَو يكون الدُّعَاء بإثم
أَو قطيعة رحم، أَو تحصل الْإِجَابَة ويتأخر الْمَطْلُوب
إِلَى وَقت آخر يُرِيد الله وُقُوع الْإِجَابَة فِيهِ
إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة.
51 - (بابُ منْ نامَ أوَّلَ اللَّيْلِ وَأحْيَا آخِرَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من نَام أول اللَّيْل
وأحي آخِره بِالصَّلَاةِ أَو بِقِرَاءَة الْقُرْآن أَو
بِالذكر.
وقالَ سَلْمَانُ لأِبِي الدَّرّدَاءِ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا نَمْ فَلَمَّا كانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ
قُمْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَ
سَلْمَانُ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن سلمَان الْفَارِسِي
أَمر لأبي الدَّرْدَاء بِالنَّوْمِ فِي أول اللَّيْل،
ويالقيام فِي آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق مُخْتَصر من
حَدِيث طَوِيل أوردهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب من
حَدِيث أبي جُحَيْفَة، قَالَ: (آخى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَين سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء، أقرى
سلمَان أَبَا الدَّرْدَاء فَرَأى أم الدَّرْدَاء مبتذلة،
فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنك، قَالَت: أَخُوك أَبُو
الدَّرْدَاء لَيْسَ لَهُ حَاجَة فِي الدُّنْيَا، فجَاء
أَبُو الدَّرْدَاء فَصنعَ لَهُ طَعَاما، فَقَالَ: كل
فَإِنِّي صَائِم، قَالَ: مَا أَنا بآكل حَتَّى تَأْكُل،
فَأكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل ذهب أَبُو الدَّرْدَاء
يقوم، فَقَالَ: نم، فَنَامَ فَذهب يقوم، فَقَالَ: نم،
فَلَمَّا كَانَ آخر اللَّيْل قَالَ سلمَان: قُم الْآن.
قَالَ: فصلينا، فَقَالَ سلمَان: إِن لِرَبِّك عَلَيْك
حَقًا. وَلِنَفْسِك حَقًا، ولأهلك عَلَيْك حَقًا، فأعط كل
ذِي حق حَقه، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: صدق سلمَان) .
6411 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ
وحدَّثني سُلَيْمَانُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي
إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ قَالَ سألْتُ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا كَيْفَ كانَ صَلاةُ النبيِّ بِاللَّيْلِ
قالَتْ كانَ يَنامُ أوَّلَهُ ويَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي
ثُمَّ يرْجِعُ إلَى فِراشِهِ فإذَا أذَّنَ المُؤَذَّنُ
وَثَبَ فَإِن كانَ بِهِ حاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإلاَّ
تَوَضِّأَ وخَرَجَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ ينَام أَوله
وَيقوم آخِره) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام
بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.
(7/201)
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثالثٍّ
سُلَيْمَان بن حَرْب الواشحي. الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق
السبيعِي عَمْرو بن عبد الله. الْخَامِس: الْأسود بن
يزِيد. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: شَيْخَانِ للْبُخَارِيّ
كِلَاهُمَا بصريان وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق
وَالْأسود كوفيان. وَفِيه: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد: وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر قَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَهَذَا يدل على
شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه مُعَلّق. وَالثَّانِي: أَن
سِيَاق البُخَارِيّ الحَدِيث على لفظ سُلَيْمَان بن حَرْب،
وَالتَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة
عَن أبي الْوَلِيد.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل
عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى، كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة،
وَأخرجه مُسلم: حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا
زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق (ح) وَحدثنَا يحيى
بن يحيى قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة (عَن أبي إِسْحَاق
قَالَ: سَأَلت الْأسود بن يزِيد عَمَّا حدثته عَائِشَة عَن
صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَت:
كَانَ ينَام أول اللَّيْل ويحيي آخِره، ثمَّ إِن كَانَت
لَهُ حَاجته ثمَّ ينَام، فَإِذا كَانَ عِنْد النداء الأول
قَالَت: وثب، وَلَا وَالله مَا قَالَت: قَامَ، فَأَفَاضَ
عَلَيْهِ المَاء، وَلَا وَالله مَا قَالَت: اغْتسل، وَأَنا
أعلم مَا تُرِيدُ، وَإِن لم يكن جنبا تَوَضَّأ وضوء الرجل
للصَّلَاة ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَإِن كَانَ لَهُ حَاجَة قضى
حَاجته) ، يَعْنِي: الْجِمَاع، وَجَوَاب: إِن الَّذِي هُوَ
جَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف، تَقْدِيره: فَإِن كَانَت لَهُ
حَاجَة قضى حَاجته. وَقَوله: (اغْتسل) ، لَيْسَ بِجَوَاب،
وَإِنَّمَا هُوَ يدل على الْمَحْذُوف، وَفِي رِوَايَة
مُسلم الْجَواب مَذْكُور كَمَا ترَاهُ، وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا حَدِيث يغلط فِي مَعْنَاهُ
الْأسود، فَإِن الْأَخْبَار الْجِيَاد: (كَانَ إِذا
أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب تَوَضَّأ وَأمر بذلك من
سَأَلَهُ) . قيل: لم يرد الْإِسْمَاعِيلِيّ بِهَذَا أَن
حَدِيث الْبَاب غلط، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن أَبَا
إِسْحَاق حدث بِهِ عَن الْأسود بِلَفْظ آخر غلط فِيهِ،
وَالَّذِي أنكرهُ الْحفاظ على أبي إِسْحَاق فِي هَذَا
الحَدِيث هُوَ مَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَنهُ بِلَفْظ:
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينَام وَهُوَ
جنب من غير أَن يمس مَاء) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
يرَوْنَ هَذَا غَلطا من أبي إِسْحَاق.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ ينَام جنبا قبل أَن يغْتَسل. وَفِيه: الاهتمام فِي
الْعِبَادَة والإقبال عَلَيْهَا بالنشاط، وَلَفْظَة
الْوُثُوب تدل عَلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: وَكلمَة:
الْفَاء، تدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يقْضِي حَاجته من نِسَائِهِ بعد إحْيَاء اللَّيْل، وَهُوَ
الجدير بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ الْعِبَادَة
مُقَدّمَة على غَيرهَا.
61 - (بابُ قِيَامِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قيام النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَي: صلَاته بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَان
أَي: فِي ليَالِي رَمَضَان وَغَيره.
7411 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ سَعِيدِ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ
عَبْدِ الرِّحْمانِ أنَّهُ سَألَ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا كَيْفَ كانَتْ صَلاَةُ رسولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَمَضَانَ فقَالَتْ مَا كانَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ
وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً
يُصَلِّي أرْبَعا فَلاَ تَسَلْ عنْ حُسْنِهِنَّ
وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أرْبَعا فَلاَ تَسَلْ عنْ
حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثا قَالَتْ
عائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أتنَامُ قَبْلَ أنْ
تُوتِرَ فَقَالَ يَا عائشَةُ إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ
وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن إِسْمَاعِيل،
وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن
عِيسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد وَعَن
مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث
(7/202)
بن مِسْكين.
ذكر من أخرجه من غير عَائِشَة: وَفِي هَذَا الْبَاب عَن
أنس وَجَابِر بن عبد الله وحجاج بن عَمْرو وَحُذَيْفَة
وَزيد بن خَالِد وَصَفوَان بن الْمُعَطل وَعبد الله بن
عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب وَالْفضل بن
عَبَّاس وَمُعَاوِيَة ابْن الحكم السّلمِيّ وَأبي أَيُّوب
وخباب وَأم سَلمَة وصحابي لم يسم. أما حَدِيث أنس:
فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة
جُنَادَة بن مَرْوَان، قَالَ: حَدثنَا الْحَارِث بن
النُّعْمَان، قَالَ: سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحيى اللَّيْل بثمان
رَكْعَات ركوعهن كقراءتهن وسجودهن كقراءتهن، وَيسلم بَين
كل رَكْعَتَيْنِ، وجنادة اتهمه أَبُو حَاتِم. وَأما حَدِيث
جَابر فَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى من
رِوَايَة شُرَحْبِيل بن سعد أَنه سمع جَابر بن عبد الله
قَالَ: (أَقبلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة) ، وَفِيه: (ثمَّ صلى بعْدهَا)
أَي: بعد الْعَتَمَة، (ثَلَاث عشرَة سَجْدَة) وشرحبيل
وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَضَعفه غير وَاحِد. وَأما حَدِيث
حجاج بن عَمْرو فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير)
و (الْأَوْسَط) من رِوَايَة كثير بن الْعَبَّاس عَنهُ،
قَالَ: (أيحسب أحدكُم إِذا قَامَ من اللَّيْل يُصَلِّي
حَتَّى يصبخ أَن قد تهجد، إِنَّمَا التَّهَجُّد الصَّلَاة
بعد رقدة ثمَّ الصَّلَاة بعد رقدة ثمَّ الصَّلَاة بعد
رقدة، تِلْكَ كَانَت صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) . وَأما حَدِيث حُذَيْفَة، فَرَوَاهُ مُحَمَّد بن
نصر فِي (كتاب قيام اللَّيْل) من رِوَايَة عبد الْملك بن
عُمَيْر عَن ابْن عَم حُذَيْفَة (عَن حُذَيْفَة، قَالَ:
قُمْت إِلَى جنب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَرَأَ السَّبع الطوَال فِي سبع رَكْعَات. .) الحَدِيث.
وَأما حَدِيث زيد بن خَالِد، فَرَوَاهُ مُسلم وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ فِي
الشَّمَائِل من رِوَايَة عبد الله بن قيس بن مخرمَة (عَن
زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، أَنه قَالَ: لأرمقن صَلَاة
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فصلى رَكْعَتَيْنِ
خفيفتين، ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ طويلتين طويلتين، ثمَّ صلى
رَكْعَتَيْنِ وهما دون اللَّتَيْنِ قبلهمَا، ثمَّ صلى
رَكْعَتَيْنِ وهما دون اللَّتَيْنِ قبلهمَا، ثمَّ صلى
رَكْعَتَيْنِ وهما دون اللَّتَيْنِ قبلهمَا، ثمَّ صلى
رَكْعَتَيْنِ وهما دون اللَّتَيْنِ قبلهمَا، ثمَّ أوتر
فَذَلِك ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَأما حَدِيث صَفْوَان بن
الْمُعَطل فَرَوَاهُ أَحْمد فِي زياداته على الْمسند
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة أبي بكر
ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث (عَن صَفْوَان بن
الْمُعَطل السّلمِيّ، قَالَ: كنت مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر. .) الحَدِيث، وَفِي آخِره:
(حَتَّى صلى إِحْدَى عشرَة رَكْعَة) . وَأما حَدِيث عبد
الله بن عَبَّاس فَرَوَاهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة،
فَرَوَاهُ البُخَارِيّ ذكره فِي: بَاب كَيفَ صَلَاة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما حَدِيث عبد الله
بن عمر فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) وَابْن مَاجَه
من رِوَايَة عَامر الشّعبِيّ، قَالَ: (سَأَلت عبد الله بن
عَبَّاس وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِاللَّيْلِ فَقَالَا: ثَلَاث عشرَة، مِنْهَا ثَمَان
بِاللَّيْلِ ويوتر بِثَلَاث وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْفجْر) .
وَأما حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، فَرَوَاهُ أَحْمد فِي
زياداته على الْمسند من رِوَايَة أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم
بن ضَمرَة (عَن عَليّ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل سِتّ عشرَة رَكْعَة
سوى الْمَكْتُوبَة) ، وَإِسْنَاده حسن. وَأما حَدِيث
الْفضل بن عَبَّاس فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة
شريك بن عبد الله بن أبي نمر عَن كريب (عَن الْفضل بن
عَبَّاس، قَالَ: بت لَيْلَة عِنْد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لأنظر كَيفَ يُصَلِّي، فَقَامَ فَتَوَضَّأ
وَصلى رَكْعَتَيْنِ قِيَامَة مثل رُكُوعه وركوعه مثل
سُجُوده، ثمَّ نَام فَذكره، وَفِيه: فَلم يزل يفعل هَذَا
حَتَّى صلى عشر رَكْعَات، ثمَّ قَامَ فصلى سَجْدَة
وَاحِدَة فأوتر بهَا) . وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم
فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث أبي
سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن مُعَاوِيَة بن الحكم قَالَ
مثل حَدِيث مَالك فِي صَلَاة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، واضطجاعه على شقَّه
الْأَيْمن. وَأما حَدِيث أبي أَيُّوب فَرَوَاهُ أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة وَاصل بن
السَّائِب عَن أبي سُورَة (عَن أبي أَيُّوب: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا قَامَ يُصَلِّي
من اللَّيْل صلى أَربع رَكْعَات فَلَا يتَكَلَّم وَلَا
يَأْمر بِشَيْء وَيسلم من كل رَكْعَتَيْنِ) . وَأما حَدِيث
خباب بن الْأَرَت فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد
الله بن خباب عَن أَبِيه، وَكَانَ شهد بَدْرًا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه راقب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّيْلَة كلهَا حَتَّى كَانَ مَعَ
الْفجْر، فَلَمَّا سلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من صلَاته جَاءَهُ خباب فَقَالَ: (يَا رَسُول الله
بِأبي أَنْت وَأمي لقد صليت اللَّيْلَة صَلَاة مَا
رَأَيْتُك صليت نَحْوهَا؟ قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أجل إِنَّهَا صَلَاة رغب ورهب) . وَأما
حَدِيث أم سَلمَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
فِي فَضَائِل الْقُرْآن وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن
أبي مليكَة (عَن يعلى بن مَالك أَنه سَأَلَ أم سَلمَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن قِرَاءَة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: وَمَا لكم وَصلَاته؟
كَانَ يُصَلِّي وينام قدر مَا صلى، ثمَّ يُصَلِّي قدر مَا
نَام، ثمَّ ينَام قدر مَا يُصَلِّي حَتَّى يصبح) ، ولأم
سَلمَة حَدِيث آخر رَوَاهُ البُخَارِيّ وَسَيَأْتِي فِي
أَبْوَاب الْوتر. وَأما حَدِيث الرجل الَّذِي لم يسم
(7/203)
فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة حميد
بن عبد الرَّحْمَن: (أَن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قلت وَأَنا فِي سفر مَعَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالله لأرمقن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للصَّلَاة حَتَّى أرى فعله)
، الحَدِيث: (ثمَّ قَامَ فصلى حَتَّى قلت: صلى قدر مَا
نَام، ثمَّ اضْطجع حَتَّى قلت: قد نَام قدر مَا صلى، ثمَّ
اسْتَيْقَظَ فَفعل كَمَا فعل أول مرّة، وَقَالَ مثل مَا
قَالَ، فَفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث
مرار قبل الْفجْر) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي رَمَضَان) ، أَي: فِي ليَالِي
رَمَضَان، قَوْله: (فَلَا تسْأَل عَن حسنهنَّ) ،
مَعْنَاهُ: هن فِي نِهَايَة من كَمَال الْحسن والطول
مستغنيان لظُهُور حسنهنَّ وطولهن عَن السُّؤَال عَنْهُن
وَالْوَصْف. قَوْله: (أَرْبعا) أَي: أَربع رَكْعَات.
قَوْله: (أتنام؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل
الاستخبار والاستعلام. قَوْله: (وَلَا ينَام قلبِي) لَيْسَ
فِيهِ مُعَارضَة لما مضى فِي: بَاب الصَّعِيد الطّيب وضوء
الْمُسلم، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَام حَتَّى
فَاتَت صَلَاة الصُّبْح، وطلعت الشَّمْس لِأَن طُلُوع
الشَّمْس مُتَعَلق بِالْعينِ لَا بِالْقَلْبِ، إِذْ هُوَ
من المحسوسات لَا من المعقولات.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن عمله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ دِيمَة شهر رَمَضَان وَغَيره، وَأَنه
كَانَ إِذا عمل عملا أثْبته وداوم عَلَيْهِ. وَفِيه:
تَعْمِيم الْجَواب عِنْد السُّؤَال عَن شَيْء لِأَن أَبَا
سَلمَة إِنَّمَا سَأَلَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي رَمَضَان خَاصَّة، فأجابت عَائِشَة بأعم من ذَلِك،
وَذَلِكَ لِئَلَّا يتَوَهَّم السَّائِل أَن الْجَواب
مُخْتَصّ بِمحل السُّؤَال دون غَيره، فَهُوَ كَقَوْلِه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ والحل ميته)
د لما سَأَلَهُ السَّائِل عَن حَالَة ركُوب الْبَحْر
وَمَعَ رَاكِبه مَاء قَلِيل يخَاف الْعَطش إِن تَوَضَّأ،
فَأجَاب بطهورية مَاء الْبَحْر حَتَّى لَا يخْتَص الحكم
بِمن هَذِه حَاله، وَفِي قَوْلهَا: (يُصَلِّي أَرْبعا) ،
حجَّة لأبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَن
الْأَفْضَل فِي التَّنَفُّل بِاللَّيْلِ أَربع رَكْعَات
بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة، وَفِيه حجَّة عَن منع ذَلِك كمالك
رَحمَه الله وَفِي قَوْلهَا ثمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا حجَّة
لاصطحابنا فِي أَن الْوتر ثَلَاث رَكْعَات بِتَسْلِيمَة
وَاحِدَة لِأَن ظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِي ذَلِك فَلَا
يعدل عَن الظَّاهِر إلاَّ بِدَلِيل فَإِن قلت: قد ثَبت
إيتار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَكْعَة
وَاحِدَة، وَثَبت أَيْضا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(وَمن شَاءَ أوتر بِوَاحِدَة) قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلكنه
إِن تِلْكَ الرَّكْعَة الْوَاحِدَة توتر الشفع
الْمُتَقَدّم لَهَا، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ: أخبرنَا
مَالك عَن نَافِع وَعبد الله بن دِينَار (عَن ابْن عمر:
أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
صَلَاة اللَّيْل؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، فَإِذا خشِي أحدكُم
الصُّبْح صلى رَكْعَة وَاحِدَة توتر لَهُ مَا قد صلى) .
وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِي مَوْضِعه مستقصىً إِن شَاءَ
الله تَعَالَى، وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا
ينْتَقض وضوؤه بِالنَّوْمِ لكَون قلبه لَا ينَام، وَهَذَا
من خَصَائِص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح من قَوْله:
(وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء تنام أَعينهم وَلَا تنام
قُلُوبهم) ، وَفِيه: أَن النّوم نَاقض للطَّهَارَة.
وَفِيه: تَفْصِيل قد مر بَيَانه. وَفِيه: أَن صلَاته صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت مُتَسَاوِيَة فِي جَمِيع
السّنة بَين مَا يستفتح بِهِ الصَّلَاة وَمَا بعد ذَلِك.
فَإِن قلت: فِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث عَائِشَة وَزيد
ابْن خَالِد وَأبي هُرَيْرَة استفتاح صَلَاة اللَّيْل
بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين. وَثَبت أَيْضا فِي الصَّحِيح من
حَدِيث حُذَيْفَة صلَاته فِي أول قِيَامه من اللَّيْل
بِسُورَة الْبَقَرَة وَآل عمرَان؟ قلت: يجمع بَينهمَا
بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يفعل كلا من
الْأَمريْنِ بالتسوية بَين الرَّكْعَات.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا: أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح من
حَدِيث عَائِشَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ان إِذا
دخل الْعشْر الْأَوَاخِر يجْتَهد فِيهِ مَا لَا يجْتَهد
فِي غَيره) ، وَفِي الصَّحِيح أَيْضا من حَدِيثهَا: (كَانَ
إِذا دخل الْعشْر أَحَي اللَّيْل وَأَيْقَظَ أَهله وجد
وَشد المئزر) ، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يزِيد فِي
الْعشْر الْأَخير على عَادَته، فَكيف يجمع بَينه وَبَين
حَدِيث الْبَاب؟ فَالْجَوَاب أَن الزِّيَادَة فِي الْعشْر
الْأَخير تحمل على التَّطْوِيل دون الزِّيَادَة فِي
الْعدَد. وَمِنْهَا: أَن الرِّوَايَات اخْتلفت عَن
عَائِشَة فِي عدد رَكْعَات صَلَاة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ، وَفِي مِقْدَار مَا يجمعه
مِنْهَا بِتَسْلِيم، فَفِي حَدِيث الْبَاب: إِحْدَى عشرَة
رَكْعَة، وَفِي رِوَايَة هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه:
(كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل ثَلَاث عشرَة رَكْعَة يُوتر
من ذَلِك بِخمْس لَا يجلس فِي شَيْء إلاَّ فِي آخرهَا) ،
وَفِي رِوَايَة مَسْرُوق: (أَنه سَأَلَهَا عَن صَلَاة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: سبع وتسع
وَإِحْدَى عشرَة سوى رَكْعَتي الْفجْر) ، وَفِي رِوَايَة
إِبْرَاهِيم عَن الْأسود (عَن عَائِشَة: أَنه كَانَ
يُصَلِّي بِاللَّيْلِ تسع رَكْعَات) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَالْجَوَاب: إِن من عدهَا
ثَلَاث عشرَة أَرَادَ بركعتي الْفجْر، وَصرح بذلك فِي
رِوَايَة الْقَاسِم (عَن عَائِشَة: كَانَت صلَاته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل عشر رَكْعَات ويوتر
(7/204)
بِسَجْدَة ويركع رَكْعَتي الْفجْر) ، فَتلك
ثَلَاث عشرَة رَكْعَة. وَأما رِوَايَة سبع وتسع فَهِيَ فِي
حَالَة كبره، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
وَأما مِقْدَار مَا يجمعه من الرَّكْعَات بِتَسْلِيمِهِ
فَفِي رِوَايَة: كَانَ يسلم بَين رَكْعَتَيْنِ ويوتر
بِوَاحِدَة، وَفِي رِوَايَة: (يُوتر من ذَلِك بِخمْس لَا
يجلس فِي شَيْء إلاَّ فِي آخرهَا) ، وَفِي رِوَايَة:
(يُصَلِّي تسع رَكْعَات لَا يجلس فِيهَا إلاَّ فِي
الثَّامِنَة) ، وَالْجمع بَين هَذَا الِاخْتِلَاف أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فعل جَمِيع ذَلِك فِي أَوْقَات
مُخْتَلفَة. وَمِنْهَا: أَنه اخْتلفت أَيْضا الْأَحَادِيث
الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب فِي عدد صلَاته، فَفِي
حَدِيث زيد بن خَالِد وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأم
سَلمَة: ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، وَفِي حَدِيث الْفضل
وَصَفوَان بن الْمُعَطل وَمُعَاوِيَة ابْن الحكم وَابْن
عمر وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس: إِحْدَى
عشرَة، وَفِي حَدِيث أنس: ثَمَان رَكْعَات، وَفِي حَدِيث
حُذَيْفَة: سبع رَكْعَات، وَفِي حَدِيث أبي أَيُّوب: أَربع
رَكْعَات، وَكَذَلِكَ فِي بعض طرق حَدِيث حُذَيْفَة،
وَأكْثر مَا فِيهَا حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، سِتّ عشرَة رَكْعَة. الْجَواب: بِأَن ذَلِك بِحَسب
مَا شَاهد الروَاة كَذَلِك، فَرُبمَا زَاد وَرُبمَا نقص،
وَرُبمَا فرق قيام اللَّيْل مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَمن
عد ذَلِك تسعا أسقط رَكْعَة الْوتر، وم زَاد على ثَلَاث
عشرَة رَكْعَة فَيكون قد عد سنة الْعشَاء أَو رَكْعَتي
الْفجْر أَو عدهما جَمِيعًا، وَعَلِيهِ يحمل مَا رَوَاهُ
ابْن الْمُبَارك فِي (الزّهْد وَالرَّقَائِق) فِي حَدِيث
مُرْسل: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي من
اللَّيْل سبع عشرَة رَكْعَة.
8411 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّي قَالَ حَدثنَا
يَحْيى بنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ مَا رَأيْتُ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاةِ
اللَّيْلِ جالِسا حَتَّى إذَا كَبِرَ قرَأ جالِسا فإذَا
بَقِيَ عَلَيْهِ منَ السُّورَةِ ثَلاَثُونَ أوْ أرْبَعُونَ
آيَة قامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من صَلَاة اللَّيْل) ،
وَهِي: قيام اللَّيْل الَّذِي سَمَّاهُ فِي التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن
عبيد، يعرف بالزمن. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان
الْأَحول. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع:
أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس:
عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه
بصريان وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن
يحيى بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَالِسا) نصب على الْحَال فِي
موضِعين. قَوْله: (كبر) ، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة
أَي: أسن، وَكَانَ ذَلِك قبل مَوته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعام، وَأما: كبر، بِضَم الْبَاء فَهُوَ بِمَعْنى:
عظم. قَوْله: (أَو أَرْبَعُونَ) شكّ من الرَّاوِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: فِي قَوْله: (حَتَّى
إِذا بَقِي عَلَيْهِ) إِلَى آخِره، رد على من اشْترط على
من افْتتح النَّفْل قَاعِدا أَن يرْكَع قَاعِدا، وَإِذا
افْتتح قَائِما أَن يرْكَع قَائِما، وَهُوَ محكي عَن أَشهب
الْمَالِكِي. وَفِيه: جَوَاز النَّافِلَة جَالِسا،
وَاخْتلف فِي كيفيته، فَعَن أبي حنيفَة: يقْعد فِي حَال
الْقِرَاءَة كَمَا يقْعد فِي سَائِر الصَّلَاة، وَإِن
شَاءَ تربع وَإِن شَاءَ احتبى، وَعَن أبي يُوسُف: يحتبي،
وَعنهُ: يتربع إِن شَاءَ، وَعَن مُحَمَّد: يتربع وَعَن
زفر: يقْعد كَمَا فِي التَّشَهُّد، وَعَن أبي حنيفَة، فِي
صَلَاة اللَّيْل: يتربع من أول الصَّلَاة إِلَى آخرهَا،
وَعَن أبي يُوسُف: إِذا جَاءَ وَقت الرُّكُوع وَالسُّجُود
يقْعد كَمَا يقْعد فِي تشهد الْمَكْتُوبَة، وَعنهُ: يرْكَع
متربعا. قَالَ فِي (الْمُغنِي) : الْأَمْرَانِ جائزان،
جَاءَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا روته
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، والإقعاء مَكْرُوه
والافتراض عِنْد الشَّافِعِيَّة أفضل من التربع على أظهر
الْأَقْوَال، وَفِي رِوَايَة: ينصب ركبته اليمني كالقارىء
بَين يَدي المقرىء، وَعند مَالك: يتربع، ذكره الْقَرَافِيّ
فِي (الذَّخِيرَة) وَفِي (الْمُغنِي) : عِنْد أَحْمد يقْعد
متربعا فِي حَال الْقيام، ويثني رجلَيْهِ فِي الرُّكُوع
وَالسُّجُود. وَقَالَ: الْقعُود فِي حق النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كالقيام فِي حَالَة الْقُدْرَة، تَشْرِيفًا
لَهُ وتخصيصا.
71 - (بابُ فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وفَضْلِ الصَّلاةِ بعْدَ الوُضُوءِ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَانه فَضِيلَة الطّهُور، وَهُوَ
الْوضُوء بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: بَاب فضل الطّهُور بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار
وَفضل الصَّلَاة عِنْد الطّهُور بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار،
وَفِي بعض النّسخ: بعد الْوضُوء، مَوضِع: عِنْد الطّهُور،
وَفِي بَعْضهَا: بَاب
(7/205)
فضل الصَّلَاة عِنْد الطّهُور بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَار، وَهُوَ الشق الثَّانِي من رِوَايَة
الْكشميهني، وَعَلِيهِ اقْتصر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأكْثر
الشُّرَّاح.
9411 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدَّثنا أبُو
أُسَامةَ عنْ أبِي حَيَّانَ عَنْ أبِي زُرْعَةَ عَنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاةِ
الفَجْرِ يَا بِلالُ حَدِّثْنِي بِأرْجى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ
فِي الإسْلاَمِ فإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ
يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أرْجى
عِنْدِي أنِّي لَمْ أتَطَهَّرْ طُهُورا فِي ساعَةِ لَيْلٍ
أوْ نَهَارٍ إلاَّ صَلَّيْتُ بِذالِكَ الطُّهُورِ مَا
كُتِبَ لِي أنْ أُصَلِّيَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تتأتى إلاَّ فِي الشق الثَّانِي
من رِوَايَة الْكشميهني، وَهُوَ قَوْله: (وَفضل الصَّلَاة
عِنْد الطّهُور بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن نصر، وَهُوَ
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، فَالْبُخَارِي يروي عَنهُ
فِي (الْجَامِع) فِي غير مَوضِع، لكنه تَارَة يَقُول:
حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، وَتارَة يَقُول:
حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر فينسبه إِلَى جده. الثَّانِي:
أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. الثَّالِث: أَبُو
حَيَّان، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه يحيى بن
سعيد، وَوَقع فِي (التَّوْضِيح) : يحيى بن حَيَّان وَهُوَ
غلط. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة، اسْمه هرم بن جرير بن عبد
الله البَجلِيّ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: ذكر الرَّاوِي باسم
جده. وَفِيه: ثَلَاثَة من الروَاة مذكورون بالكنية وَآخر
من الصَّحَابَة. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَبُو
أُسَامَة وَأَبُو حَيَّان وَأَبُو زرْعَة كوفيون.
وَقَالَ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : أخرجه مُسلم فِي
الْفَضَائِل عَن عبيد بن يعِيش وَأبي كريب مُحَمَّد بن
الْعَلَاء، كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة، وَعَن مُحَمَّد
بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن أبي حَيَّان بِهِ،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن عبد
الله المَخْزُومِي عَن أبي أُسَامَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ لِبلَال) ، هُوَ: ابْن
رَبَاح الْمُؤَذّن. قَوْله: (فِي صَلَاة الْفجْر) ،
إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك وَقع فِي الْمَنَام، لِأَن
عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يقص مَا رَآهُ
غَيره من أَصْحَابه بعد صَلَاة الْفجْر، على مَا يَأْتِي
فِي كتاب التَّعْبِير. قَوْله: (بأرجى عمل) أَرْجَى: على
وزن: أفعل التَّفْضِيل، بِمَعْنى الْمَفْعُول، لَا
بِمَعْنى الْفَاعِل، وأضيف إِلَى الْعَمَل لِأَنَّهُ
الدَّاعِي إِلَيْهِ. وَهُوَ السَّبَب فِيهِ. قَوْله: (فِي
الْإِسْلَام) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (حَدثنِي بأرجى عمل
عملته عنْدك فِي الْإِسْلَام مَنْفَعَة) ، قَوْله:
(فَإِنِّي سَمِعت دف نعليك بَين يَدي فِي الْجنَّة) وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (فَإِنِّي سَمِعت اللَّيْلَة خشف نعليك
بَين يَدي) قَوْله: (فِي الْجنَّة) ، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (حفيف نعليك) ، وَفِي رِوَايَة
الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ: (يَا بِلَال، بِمَ
سبقتني إِلَى الْجنَّة؟) دخلت البارحة فَسمِعت خشخشتك
أَمَامِي) ، وَعند أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ. (فَإِنِّي
سَمِعت خشخشة نعليك) والخشخشة الْحَرَكَة الَّتِي لَهَا
صَوت كصوت السِّلَاح، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن: دوِي
نعليك) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة، يَعْنِي: صوتهما.
وَأما الدُّف فَهُوَ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْفَاء. قَالَ ابْن سَيّده: الدفيف، سير لين،
دف يدف دفيفا، ودف الْمَاشِي على وَجه الأَرْض إِذا جد،
ودف الطَّائِر وأدف: ضرب جَنْبَيْهِ بجناحيه. وَقيل: هُوَ
إِذا حرك جناحيه وَرجلَاهُ فِي الأَرْض. وَزعم أَبُو
مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي (المغيث) : أَن حَدِيث بِلَال
هَذَا: (سَمِعت دف نعليك) أَي: حفيفهما، وَمَا يحس من
صوتهما عِنْد وطئهما، وَذكره صَاحب (التَّتِمَّة)
بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَأَصله: السّير السَّرِيع، وَقد
يُقَال: دف نعليك، بِالدَّال الْمُهْملَة ومعناهما: قريب.
قَوْله: (أَنِّي) بِفَتْح الْهمزَة، وَكلمَة: من، مقدرَة
قبلهَا ليَكُون صلَة أفعل التَّفْضِيل، وَجَاز الفاصلة
بالظرف بَين أفعل وصلته، هَذَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي،
وتحريره: أَن أفعل التَّفْضِيل لَا يسْتَعْمل فِي
الْكَلَام إلاَّ بِأحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة وَهِي:
الْألف وَاللَّام، وَالْإِضَافَة، وَكلمَة: من. وَهَهُنَا
لفظ: (أَرْجَى) ، أفعل التَّفْضِيل كَمَا قُلْنَا، وَهِي
خَالِيَة عَن هَذِه الْأَشْيَاء فَقدر كلمة: من،
تَقْدِيره: مَا عملت عملا أرجىء من أَنِّي لم أتطهر
طهُورا، أَي: لم أتوضأ وضُوءًا، وَهُوَ يتَنَاوَل الْغسْل
أَيْضا. قَوْله: وَجَاز الفاصلة بالظرف، أَرَادَ بالفاصلة
هُنَا قَوْله: (عِنْدِي) فَإِنَّهُ ظرف فصل بِهِ بَين
كلمة: (أرجىء) وَبَين كلمة: من، الْمقدرَة. فَافْهَم.
قَوْله: (طهُورا) ، بِضَم الطَّاء، وَفِي رِوَايَة مُسلم:
(طهُورا تَاما) ، ويحترز بالتمام عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ
وَهُوَ: غسل الْيَدَيْنِ، لِأَنَّهُ قد يفعل ذَلِك لطرد
النّوم. قَوْله: (فِي سَاعَة) ، بِالتَّنْوِينِ. قَوْله:
(7/206)
(ليل) ، بِالْجَرِّ بدل من: سَاعَة، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (من ليل أَو نَهَار) . قَوْله: (مَا كتب
لي) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهُوَ جملَة فِي مَحل النصب،
وَفِي رِوَايَة: (مَا كتب الله لي) ، أَي: مَا قدر، وَهُوَ
أَعم من الْفَرْض وَالنَّفْل. قَوْله: (أَن أُصَلِّي) فِي
مَحل الرّفْع على رِوَايَة البُخَارِيّ، وعَلى رِوَايَة
مُسلم فِي مَحل النصب. ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ:
أَن الصَّلَاة أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان، لقَوْل
بِلَال: إِنَّه مَا عمل عملا أَرْجَى مِنْهُ. وَفِيه:
دَلِيل على أَن الله تَعَالَى يعظم المجازاة على مَا يسر
بِهِ العَبْد بَينه وَبَين ربه مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ
أحد، وَقد اسْتحبَّ ذَلِك الْعلمَاء ليدخرها وليبعدها عَن
الرِّيَاء. وَفِيه: فَضِيلَة الْوضُوء وفضيلة الصَّلَاة
عَقِيبه لِئَلَّا يبْقى الْوضُوء خَالِيا عَن مَقْصُوده.
وَفِيه: فَضِيلَة بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فَلذَلِك بوب عَلَيْهِ مُسلم حَيْثُ قَالَ: بَاب فَضَائِل
بِلَال بن رَبَاح مولى أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، ثمَّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور. وَفِيه: سُؤال
الصَّالِحين عَن عمل تِلْمِيذه ليحضه عَلَيْهِ ويرقبه
فِيهِ إِن كَانَ حسنا وإلاَّ فينهاه. وَفِيه: أَن الْجنَّة
مخلوقة مَوْجُودَة الْآن، خلاف وَمِنْهُم: لمن أنكر ذَلِك
من الْمُعْتَزلَة. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على
جَوَاز هَذِه الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة،
وَهُوَ عُمُوم قَوْله: (فِي سَاعَة) ، بالتنكير أَي: فِي
كل سَاعَة، ورد بِأَن الْأَخْذ بِعُمُوم هَذَا لَيْسَ
بِأولى من الْأَخْذ بِعُمُوم النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي
الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة. وَقَالَ ابْن التِّين: لَيْسَ
فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّة فَيحمل على تَأْخِير
الصَّلَاة قَلِيلا ليخرج وَقت الْكَرَاهَة، أَو أَنه كَانَ
يُؤَخر الطّهُور إِلَى خُرُوج وَقت الْكَرَاهَة، وَاعْترض
بَعضهم بقوله: لَكِن عِنْد التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة
من حَدِيث بُرَيْدَة فِي نَحْو هَذِه الْقَضِيَّة: (مَا
أصابني حدث قطّ إلاَّ تَوَضَّأت عِنْده) ، وَلأَحْمَد من
حَدِيثه: (مَا أحدثت إلاَّ تَوَضَّأت وَصليت رَكْعَتَيْنِ)
، فَدلَّ على أَنه كَانَ يعقب الْحَدث بِالْوضُوءِ،
وَالْوُضُوء بِالصَّلَاةِ فِي أَي وَقت كَانَ. انْتهى قلت:
حَدِيث بُرَيْدَة الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ ذكره
التِّرْمِذِيّ فِي مَنَاقِب عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن حُرَيْث
أَبُو عمار الْمروزِي، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن الْحُسَيْن
بن وَاقد، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن
بُرَيْدَة، قَالَ: (حَدثنِي أَبُو بُرَيْدَة، قَالَ: أصبح
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَا بِلَالًا.
فَقَالَ: يَا بِلَال بِمَ سبقتني إِلَى الْجنَّة؟ مَا دخلت
الْجنَّة قطّ إلاَّ سَمِعت خشخشتك أَمَامِي؟ قَالَ، دخلت
البارحة الْجنَّة فَسمِعت خشخشتك أَمَامِي، فَأتيت على قصر
مربع مشرف من ذهب، فَقلت: لمن هَذَا الْقصر؟ قَالُوا: لرجل
من الْعَرَب. فَقلت: أَنا عَرَبِيّ، لمن هَذَا الْقصر،
قَالُوا: لرجل من قُرَيْش، فَقلت: أَنا قرشي، لمن هَذَا
الْقصر؟ قَالُوا: لرجل من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَقلت: أَنا مُحَمَّد، لمن هَذَا الْقصر؟ قَالُوا:
لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَقَالَ
بِلَال: يَا رَسُول الله: مَا أَذِنت قطّ إلاَّ صليت
رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أصابني حدث قطّ إلاَّ تَوَضَّأت
عِنْدهَا، وَرَأَيْت أَن لله عَليّ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بهما) . وَأما
جَوَاب هَذَا الْمُعْتَرض فَمَا مر ذكره الْآن، وَهُوَ
قَوْلنَا: ورد بِأَن الْأَخْذ بِعُمُوم هَذَا ... إِلَى
آخِره، وَيجوز أَن تكون أَخْبَار النَّهْي عَن الصَّلَاة
فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة بعد هَذَا الحَدِيث.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: هَذَا السماع لَا بُد أَن يكون فِي النّوم، إِذْ لَا
يدْخل أحد الْجنَّة إلاَّ بعد الْمَوْت؟ قلت: يحْتَمل
كَونه فِي حَال الْيَقَظَة، وَقد صرح فِي أول كتاب
الصَّلَاة أَنه: دخل فِيهَا لَيْلَة الْمِعْرَاج. انْتهى.
قلت: فِي كلاميه تنَاقض لَا يخفى لِأَنَّهُ ذكر أَولا أَن
دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجنَّة فِي حَال
اليقظمة مُحْتَمل، ثمَّ قَالَ ثَانِيًا: فالتحقيق أَنه
دَخلهَا لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن
قَوْله: لَا يدْخل أحد الْجنَّة إلاَّ بعد الْمَوْت،
لَيْسَ على عُمُومه، أَو نقُول: هَذَا على عُمُومه وَلكنه
فِي حق من كَانَ من عَالم الْكَوْن وَالْفساد وَالنَّبِيّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جَاوز السَّمَوَات السَّبع
وَبلغ إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى خرج من أَن يكون من أهل
هَذَا الْعَالم، فَلَا يمْتَنع بعد هَذَا دُخُوله الْجنَّة
قبل الْمَوْت، وَقد تفردت بِهَذَا الْجَواب. وَمِنْهَا مَا
قيل: كَيفَ يسْبق بِلَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي دُخُول الْجنَّة، وَالْجنَّة مُحرمَة على من يدْخل
فِيهَا قبل دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَالْجَوَاب
فِيمَا ذكره الْكرْمَانِي بقوله: وَأما بِلَال فَلم يلْزم
مِنْهُ أَنه دخل فِيهَا، إِذْ فِي الْجنَّة طرق السماع
والدف بَين يَدَيْهِ، وَقد يكون خَارِجا عَنْهَا. واستبعد
بَعضهم هَذَا الْجَواب بقوله: لِأَن السِّيَاق يشْعر
بِإِثْبَات فَضِيلَة بِلَال لكَونه جعل السَّبَب الَّذِي
بلغه إِلَى ذَلِك مَا ذكره من مُلَازمَة التطهر
وَالصَّلَاة، وَإِنَّمَا تثبت لَهُ الْفَضِيلَة بِأَن يكون
رئي دَاخل الْجنَّة لَا خَارِجا عَنْهَا، ثمَّ أكد كَلَامه
بِحَدِيث بُرَيْدَة الْمَذْكُور. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ
أَن رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه فِي
الْجنَّة حق، لِأَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء حق. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: ويروى أَن رُؤْيا
(7/207)
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَحي. وَأما سبق بِلَال النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الدُّخُول فِي هَذِه الصُّورَة
فَلَيْسَ هُوَ من حَيْثُ الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ
بطرِيق التَّمْثِيل لِأَن عَادَته فِي الْيَقَظَة أَنه
كَانَ يمشي أَمَامه، فَلذَلِك تمثل لَهُ فِي الْمَنَام،
وَلَا يلْزم من ذَلِك السَّبق الْحَقِيقِيّ فِي الدُّخُول.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن دُخُول بِلَال الْجنَّة وَحُصُول
هَذِه المنقبة لَهُ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب تطهره عِنْد كل
حدث وَصلَاته عِنْد كل وضوء بِرَكْعَتَيْنِ، كَمَا صرح
بِهِ فِي آخر حَدِيث بُرَيْدَة، بقوله: (بهما) ، أَي:
بالتطهر عِنْد كل حدث وَالصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ عِنْد كل
وضوء، وَقد جَاءَ: (إِن أحدكُم لَا يدْخل الْجنَّة
بِعَمَلِهِ؟) قلت: أصل الدُّخُول برحمة الله تَعَالَى،
وَزِيَادَة الدَّرَجَات والتفاوت فِيهَا بِحَسب
الْأَعْمَال، وَكَذَا يُقَال فِي قَوْله تَعَالَى:
{ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (النَّحْل:
23) .
81 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي
العِبَادَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة التَّشْدِيد، وَهُوَ
تحمل الْمَشَقَّة الزَّائِدَة فِي الْعِبَادَة، وَذَلِكَ
لمخافة الفتور والإملال، وَلِئَلَّا يَنْقَطِع الْمَرْء
عَنْهَا، فَيكون كَأَنَّهُ رَجَعَ فِيمَا بذله من نَفسه
وتطوع بِهِ.
0511 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عنْ أنَسِ
بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَخَلَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ
السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ مَا هاذا الحَبْلُ قالُوا هاذا
حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فإذَا فَتَرَتْ تعَلَّقَتْ فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ حُلْوهُ لِيُصَلِّ
أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فإذَا فعترَ فَلْيَقْعُد.
مطابقته للتَّرْجَمَة وَهُوَ إِنْكَاره صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على فعل زَيْنَب فِي شدها الْحَبل لتتعلق عِنْد
الفتور.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين، واسْمه عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد.
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التنوري أَبُو
عُبَيْدَة. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب
الْبنانِيّ الْأَعْمَى. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
رِجَاله كلهم بصريون. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بكنيته،
وَشَيخ شَيْخه مَذْكُور بِلَا نِسْبَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن
شَيبَان بن فروخ. وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه،
كِلَاهُمَا فِيهِ عَن عمرَان بن مُوسَى، وَذكر الْحميدِي
هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك
فَإِن مُسلما أَيْضا أخرجه كَمَا ذكرنَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) أَي: الْمَسْجِد، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم.
قَوْله: (فَإِذا حَبل) كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله:
(بَين الساريتين) أَي: الاسطوانتين، وكأنهما كَانَتَا
معهودتين، فَلذَلِك ذكرهمَا بِالْألف وَاللَّام الَّتِي
للْعهد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (بَين ساريتين) ، بِلَا ألف
وَلَام. قَوْله: (لِزَيْنَب) ، ذكر الْخَطِيب فِي مبهماته
أَن زَيْنَب هَذِه هِيَ: زَيْنَب بنت جحش الأَسدِية
المدنية زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي
الَّتِي أنزل الله تَعَالَى فِي شَأْنهَا: {فَلَمَّا قضى
زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} (الْأَحْزَاب: 73) .
مَاتَت سنة عشْرين، وَتَبعهُ الْكرْمَانِي، وَذكره
هَكَذَا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أَن ابْن أبي
شيبَة رَوَاهُ كَذَلِك، وَلَيْسَ فِي (مُسْنده) وَلَا فِي
(مُصَنفه) غير ذكر زَيْنَب مُجَرّدَة، وروى أَبُو دَاوُد
هَذَا الحَدِيث عَن شيخين لَهُ، عَن إِسْمَاعِيل بن علية
فَقَالَ أَحدهمَا: زَيْنَب، وَلم ينسبها، وَقَالَ الآخر:
حمْنَة بنت جحش، وَهِي أُخْت زَيْنَب بنت جحش زوج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد
عَن حميد عَن أنس أَنَّهَا: حمْنَة بنت جحش، وَوَقع فِي
صَحِيح ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق شُعْبَة عَن عبد
الْعَزِيز فَقَالُوا: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَهِي
رِوَايَة شَاذَّة قلت: لَا مَانع من تعدد الْقَضِيَّة.
قَوْله: (فَإِذا فترت) ، بِفَتْح الْفَاء وَالتَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، أَي: إِذا كسلت عَن الْقيام
(تعلّقت) أَي: بالحبل، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَإِذا فترت
أَو كسلت) بِالشَّكِّ. قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لَا) يحْتَمل أَن تكون كلمة: لَا، هَذِه
للنَّفْي أَي: لَا يكون هَذَا الْحَبل أَو لَا يمد،
وَيحْتَمل أَن تكون للنَّهْي، أَي: لَا تفعلوه، وَسَقَطت
هَذِه الْكَلِمَة فِي رِوَايَة مُسلم، قَوْله: (حلوة)
بِضَم الْحَاء وَاللَّام الْمُشَدّدَة، أَمر للْجَمَاعَة
من الْحل. قَوْله: (ليصل) ، بِكَسْر اللَّام. قَوْله:
(نشاطه) ، بِفَتْح النُّون، أَي: ليصل أحدكُم مُدَّة
نشاطه، فَيكون انتصابه بِنَزْع الْخَافِض. وروى: (بنشاطه)
، أَي: ملتبسا بِهِ. قَوْله: (فَإِذا فتر فليقعد) ، وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد:
(7/208)
(فَإِذا كسل أَو فتر فليقعد) ، ظَاهر
السِّيَاق يدل على أَن الْمَعْنى أَنه: إِذا عيى عَن
الْقيام، وَهُوَ يُصَلِّي فليقعد. فيستفاد مِنْهُ جَوَاز
الْقعُود فِي أثْنَاء الصَّلَاة بعد افتتاحها قَائِما.
وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون أَمر بالقعود عَن
الصَّلَاة، يَعْنِي ترك مَا عزم عَلَيْهِ من التَّنَفُّل
قلت: هَذَا احْتِمَال بعيد غير ناشيء عَن دَلِيل، وَظَاهر
الْكَلَام يُنَافِيهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْحَث على الاقتصاد
فِي الْعِبَادَة وَالنَّهْي عَن التعمق وَالْأَمر بالإقبال
عَلَيْهَا بنشاطه. وَفِيه: أَنه إِذا فتر فِي الصَّلَاة
يقْعد حَتَّى يذهب عَنهُ الفتور. وَفِيه: إِزَالَة
الْمُنكر بِالْيَدِ لمن يتَمَكَّن مِنْهُ. وَفِيه: جَوَاز
تنفل النِّسَاء فِي الْمَسْجِد، فَإِن زَيْنَب كَانَت تصلي
فِيهِ فَلم يُنكر عَلَيْهَا. وَفِيه: كَرَاهَة التَّعَلُّق
بالحبل فِي الصَّلَاة. وَفِيه: دَلِيل على أَن الصَّلَاة
جَمِيع اللَّيْل مَكْرُوهَة، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور،
وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنه: لَا بَأْس بِهِ،
وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، إِذا لم
ينم عَن الصُّبْح.
1511 - قَالَ وقَال عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ
عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَتْ عِنْدِي امْرَأةٌ
مِنْ بَنِي أسَدٍ فدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَنْ هاذِهِ قُلْتُ فُلاَنَةُ لاَ
تَنَامُ اللَّيْلَ فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا فَقَالَ مَهْ
عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ فإنَّ الله لاَ
يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا.
(أنظر الحَدِيث 34) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ زجرهصلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (مَه) إِلَى آخِره، فَإِن حَاصِل
مَعْنَاهُ النَّهْي عَن التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة،
وَرِجَاله على هَذَا الْوَجْه قد مروا غير مرّة، وَهَذَا
تَعْلِيق رَوَاهُ فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب أحب
الدّين إِلَى الله أَدْوَمه، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا يحيى عَن هِشَام، قَالَ:
أَخْبرنِي أبي (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل
عَلَيْهَا وَعِنْدهَا امْرَأَة. .) الحَدِيث. قَوْله:
قَالَ عبد الله) هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: حَدثنَا عبد الله،
وَهَكَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) رِوَايَة القعْنبِي. وَقَالَ
ابْن عبد الْبر: تفرد القعْنبِي بروايته عَن مَالك فِي
(الْمُوَطَّأ) دون بَقِيَّة رُوَاته، فَإِنَّهُم اقتصروا
مِنْهُ على طرف مُخْتَصر، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث
مُحَمَّد بن غَالب عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك،
وَوَقع فِي آخِره: رَوَاهُ البُخَارِيّ، قَالَ: قَالَ عبد
الله بن مسلمة، وأسنده الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يُونُس
عَن ابْن وهب عَن مَالك، وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن
وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة.
قَوْله: (فُلَانَة) ، غير منصرف، وَاسْمهَا: حولاء،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالمد. وَكَانَت عطارة.
قَوْله: (اللَّيْل) نصب على الظَّرْفِيَّة، ويروى:
(بِاللَّيْلِ) أَي: فِي اللَّيْل. قَوْله: (فَذكر) ، بفاء
الْعَطف، و: ذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي،
وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: بِصِيغَة الْمَعْلُوم من الْمُضَارع،
وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ على صِيغَة الْمَجْهُول للمذكر
من الْمُضَارع، وَلكُل وَاحِد مِنْهَا وَجه، فرواية
الْمُسْتَمْلِي من قَول عُرْوَة أَو من دونه، وَفِي
رِوَايَة الآخرين يحْتَمل أَن يكون من كَلَام عَائِشَة،
وعَلى كل حَال هُوَ تَفْسِير لقولها: (لَا تنام اللَّيْل)
. قَوْله: (مَه) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء،
وَمَعْنَاهُ: أكفف،. قَوْله: (عَلَيْكُم) ، اسْم فعل
مَعْنَاهُ: الزموا. قَوْله: (مَا تطيقون) ، مَرْفُوع أَو
مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (الْأَعْمَال) عَام فِي الصَّلَاة
وَغَيرهَا، وَحمله الْبَاجِيّ وَغَيره على الصَّلَاة
خَاصَّة، لِأَن الحَدِيث ورد فِيهَا، وَحمله على الْعُمُوم
أولى. لِأَن الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ. قَوْله: (لَا
يمل) ، بِفَتْح الْمِيم: أَي لَا يتْرك الثَّوَاب حَتَّى
تتركوا الْعَمَل بالملل، وَهُوَ من بَاب المشاكلة، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الْمَذْكُور مُسْتَوفى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الاقتصاد فِي
الْعِبَادَة والحث عَلَيْهِ. وَفِيه: النَّهْي عَن التعمق.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تغلوا فِي دينكُمْ} (النِّسَاء:
171، الْمَائِدَة: 77) . وَالله أرْحم بِالْعَبدِ من نَفسه
وَإِنَّمَا كره التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة خشيَة الفتور،
والملالة. وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا
وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) . وَقَالَ: {وَمَا جعل
عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} (الْحَج: 87) . وَفِيه: مدح
الشَّخْص بِالْعَمَلِ الصَّالح.
91 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ
لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة ترك قيام اللَّيْل،
وَهُوَ الصَّلَاة فِيهِ لمن كَانَ لَهُ عَادَة بِالْقيامِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يشْعر بِالْإِعْرَاضِ عَن الْعِبَادَة.
2511 - حدَّثنا عَبَّاسُ بنُ الحُسَيْنِ قَالَ حدَّثَنَا
مُبَشِّرٌ عنِ الأَوْزَاعِيِّ ح وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ
(7/209)
مُقَاتِلٍ أبُو الحَسَنِ قَالَ
أخبرناعَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ
حدَّثني يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ قَالَ حدَّثني أبُو
سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرحْمانِ قَالَ حدَّثنِي عَبْدُ الله
بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالَ قَالَ لي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا
عَبْدَ الله لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كانَ يَقُومُ مِنَ
اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (يَا عبد الله
لَا تكن مثل فلَان. .) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: عَبَّاس، بِالْبَاء
الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة وبالسين الْمُهْملَة: ابْن
الْحُسَيْن، بِالتَّصْغِيرِ: أَبُو الْفضل الْبَغْدَادِيّ
الْقَنْطَرِي، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: مُبشر، بِلَفْظ إسم الْفَاعِل، ضد الْمُنْذر
ابْن إِسْمَاعِيل الْحلَبِي، مَاتَ سنة مِائَتَيْنِ.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي
المجاور بِمَكَّة. الْخَامِس: عبد الله بن الْمُبَارك.
السَّادِس: يحيى بن أبي كثير. السَّابِع: أَبُو سَلمَة
ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّامِن: عبد الله بن
عَمْرو بن الْعَاصِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: إسنادان أَحدهمَا عَن عَبَّاس
وَالْآخر عَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَفِيه: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: فِي سِيَاق عبد الله التَّصْرِيح بِالْحَدِيثِ فِي
جَمِيع الْإِسْنَاد فَحصل الْأَمْن من تَدْلِيس
الْأَوْزَاعِيّ وَشَيْخه. وَفِيه: القَوْل فِي سِتَّة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه عَبَّاس بغدادي، ومبشر
حَلَبِيّ، وَالْأَوْزَاعِيّ شَامي، وَمُحَمّد بن مقَاتل
وَشَيْخه عبد الله مروزيان وَيحيى بن أبي كثير يمامي
وطائي، وَاسم أبي كثير: صَالح، وَقيل: دِينَار، وَقيل غير
ذَلِك، وَأَبُو سَلمَة مدنِي. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ
أخرج عَن عَبَّاس ابْن الْحُسَيْن هُنَا وَفِي الْجِهَاد
فَقَط. وَفِيه: أَن شَيْخه مُحَمَّد بن مقَاتل من أَفْرَاد
البُخَارِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أَحْمد
بن يُوسُف الْأَزْدِيّ عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة بِهِ،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن سُوَيْد بن نصر
عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَعَن الْحَارِث بن أَسد عَن
بشر بن بكر عَن الْأَوْزَاعِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن
مُحَمَّد بن الصَّباح عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن
الْأَوْزَاعِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل فلَان) ، لم يدر من هُوَ،
وَالظَّاهِر أَن الْإِبْهَام من أحد الروَاة. وَقَالَ
بَعضهم: وَكَانَ إِبْهَام مثل هَذَا لقصد السّتْر
عَلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يقْصد شَيخا معينا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تنفير عبد
الله بن عَمْرو من الصَّنِيع الْمَذْكُور. قلت: كل ذَلِك
غير موجه. أما قَوْله: السّتْر عَلَيْهِ، فَغير سديد،
لِأَن قيام اللَّيْل لم يكن فرضا على فلَان الْمَذْكُور،
فَلَا يكون بِتَرْكِهِ عَاصِيا حَتَّى يستر عَلَيْهِ.
وَأما قَوْله: وَيحْتَمل إِلَى آخِره، فأبعد من الأول على
مَا لَا يخفى، لِأَن الشَّخْص إِذا لم يكن معينا كَيفَ
ينفر غَيره من صَنِيعه؟ وَأما قَوْله: أَرَادَ تنفير عبد
الله، فَكَانَ الْأَحْسَن فِيهِ أَن يُقَال: أَرَادَ ترغيب
عبد الله فِي قيام اللَّيْل حَتَّى لَا يكون مثل من كَانَ
قَائِما مِنْهُ ثمَّ تَركه. قَوْله: (من اللَّيْل) ،
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين لفظ: من، مَوْجُودا،
بل اللَّفْظ: كَانَ يقوم اللَّيْل، أَي: فِي اللَّيْل،
وَالْمرَاد فِي جُزْء من أَجْزَائِهِ فَتكون: من،
بِمَعْنى: فِي، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِذا نُودي
للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) . أَي:
فِي يَوْم الْجُمُعَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: فِي
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن قيام اللَّيْل لَيْسَ
بِوَاجِب، إِذْ لَو كَانَ وَاجِبا لم يكتف لتاركه بِهَذَا
الْقدر، بل كَانَ يذمه أبلغ الذَّم، وَقَالَ ابْن حبَان:
فِيهِ جَوَاز ذكر الشَّخْص بِمَا فِيهِ من عيب إِذا قصد
بذلك التحذير من صَنِيعه. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدَّوَام
على مَا اعتاده الْمَرْء من الْخَيْر من غير تَفْرِيط.
وَفِيه: الْإِشَارَة إِلَى كَرَاهَة قطع الْعِبَادَة وَإِن
لم تكن وَاجِبَة.
وَقَالَ هِشَامٌ حدَّثنا ابنُ أبي العِشْرِين قَالَ
حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني يَحْيى عنْ عُمَرَ
بنِ الحَكَمِ بنِ ثَوْبَانَ قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ
بِهاذا مِثْلَهُ
هِشَام: هُوَ ابْن عمار الدِّمَشْقِي الْحَافِظ، خطيب
دمشق، مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَاسم ابْن أبي الْعشْرين: عبد
الحميد بن حبيب ضد الْعَدو كَاتب الْأَوْزَاعِيّ، كنيته
أَبُو سعيد الدِّمَشْقِي ثمَّ الْبَيْرُوتِي، وَقد تكلم
فِيهِ غير وَاحِد. وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير الْمَذْكُور
فِي السَّنَد الأول، وَعمر بن الحكم، بِفَتْح الْكَاف:
ابْن ثَوْبَان، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون
(7/210)
الْوَاو وبالباء الْمُوَحدَة وبالنون:
الْحِجَازِي الْمدنِي مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَة،
وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن
أبي حسان وَمُحَمّد بن مُحَمَّد، قَالَا: حَدثنَا هِشَام
بن عمار حَدثنَا عبد الحميد بن أبي الْعشْرين حَدثنَا
الْأَوْزَاعِيّ فَذكره، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) :
ومتابعة هِشَام أسندها الْإِسْمَاعِيلِيّ. قلت: لَيْسَ
هَذَا بمتابعة، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيق كَمَا
ذَكرْنَاهُ، وَفَائِدَته التَّنْبِيه على أَن زِيَادَة عمر
بن الحكم بن ثَوْبَان بن يحيى وَأبي سَلمَة من الْمَزِيد
فِي مُتَّصِل الْأَسَانِيد لِأَن يحيى قد صرح بِسَمَاعِهِ
من أبي سَلمَة وَلَو كَانَ بَينهمَا وَاسِطَة لم يُصَرح
بِالتَّحْدِيثِ. قَوْله: (بِهَذَا مثله) ، هَذَا رِوَايَة
كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: بِهَذَا،
فَقَط.
وَتَابَعَهُ عَمْرُو بنُ أبِي سَلَمَةَ عنِ الأَوْزَاعِيِّ
أَي: تَابع ابْن أبي الْعشْرين على زِيَادَة عمر بن الحكم
عَمْرو بن أبي سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: أَبُو حَفْص
الشَّامي، توفّي سنة ثِنْتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَوصل
هَذِه الْمُتَابَعَة مُسلم عَن أَحْمد بن يُوسُف بن
مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن أبي
سَلمَة عَن الْأَوْزَاعِيّ قِرَاءَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى
بن أبي كثير عَن ابْن الحكم بن ثَوْبَان، قَالَ: حَدثنِي
أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله ابْن عَمْرو
بن الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (يَا عبد الله لَا تكن مثل فلَان، كَانَ يقوم
اللَّيْل، فَترك قيام اللَّيْل.
02 - (بابٌ)
هَكَذَا وَقع لفظ: بَاب، بِغَيْر تَرْجَمَة، وَهُوَ
بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَقد جرت
عَادَة المصنفين أَن يكتبوا بَابا فِي حكم من الْأَحْكَام
ثمَّ يكتبوا عَقِيبه فصل فيريدوا بِهِ انْفِصَال هَذَا
الحكم عَمَّا قبله، وَلكنه مُتَعَلق بِهِ فِي نفس الْأَمر.
3511 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍ وعنْ أبِي العَبَّاسِ قَالَ
سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ قَالَ لي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ألَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ
النَّهَارَ قُلْتُ إنِّي أفْعلُ ذالِكَ قَالَ فإنَّكَ إذَا
فَعَلْتَ ذالِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ
وَإنَّ لِنَفْسِكَ حقَّا وَلأِهْلِكَ حَقّا فَصُمْ
وَأفْطِرْ وَقُمْ ونَمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أمره صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّوْمِ والإفطار وَالْقِيَام
وَالنَّوْم، وَلَا شكّ أَنه يَقْتَضِي ترك التَّشْدِيد فِي
ذَلِك.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن
عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع:
أَبُو الْعَبَّاس اسْمه السَّائِب، بِالسِّين الْمُهْملَة:
ابْن فروخ، بِفَتْح الْفَاء وَضم الرَّاء الْمُشَدّدَة
وبالخاء الْمُعْجَمَة: الشَّاعِر الْأَعْمَى. الْخَامِس:
عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سُفْيَان وعمرا وَأَبا
الْعَبَّاس مكيون، وَفِيه: عَمْرو عَن أبي الْعَبَّاس،
وَفِي رِوَايَة الْحميدِي، فِي (مُسْنده) : عَن سُفْيَان
حَدثنَا عَمْرو سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّوْم عَن عَمْرو بن عَليّ وَفِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن
خَلاد بن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة عَن سُفْيَان نَحْو حَدِيث عَليّ وَعَن مُحَمَّد
بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم
وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن أبي كريب. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع وَفِي بعض النّسخ
عَن قُتَيْبَة بدل هناد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
عَليّ بن الْحسن الدرهمي وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى
وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْحسن وَعَن مُحَمَّد بن عبيد الله
وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد بالقصة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ألم أخبر؟) الْهمزَة للاستفهام،
وَلكنه خرج من الِاسْتِفْهَام الْحَقِيقِيّ، فَمَعْنَاه
هُنَا حمل الْمُخَاطب على
(7/211)
الْإِقْرَار بِأَمْر قد اسْتَقر عِنْده
ثُبُوته. وَقَوله: (أُخبر) على صِيغَة الْمَجْهُول لنَفس
الْمُتَكَلّم وَحده. قَوْله: (أَنَّك) بِفَتْح الْهمزَة
لِأَنَّهُ مفعول ثَان للإخبار. قَوْله: (اللَّيْل)
مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، وَكَذَلِكَ: النَّهَار.
قَوْله: (هجمت) ، بِفَتْح الْجِيم أَي: غارت أَو ضعف بصرها
لِكَثْرَة السهر. قَوْله: (ونفهت) ، بِفَتْح النُّون وَكسر
الْفَاء أَي: كلت وأعيت، وَقَيده الشَّيْخ قطب الدّين
بِفَتْح الْفَاء، وَحكى الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن أَبَا يعلى
رَوَاهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق بدل النُّون،
وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف، وَزَاد الدَّاودِيّ بعد قَوْله:
(هجمت عَيْنك وَنحل جسمك ونفهت نَفسك) . قَوْله: (وَإِن
لنَفسك حَقًا) يَعْنِي: مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الضرورات
البشرية مِمَّا أَبَاحَهُ الله إِلَى الْإِنْسَان من
الْأكل وَالشرب والراحة الَّتِي يقوم بهَا بدنه لتَكون
أعون على عبَادَة ربه. قَوْله: (ولأهلك حَقًا) يَعْنِي من
النّظر لَهُم فِيمَا لَا بُد لَهُم من أُمُور الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة، وَالْمرَاد من الْأَهْل الزَّوْجَة أَو أَعم
من ذَلِك مِمَّن تلْزمهُ نَفَقَته، وَسَيَأْتِي فِي
الصّيام زِيَادَة فِيهِ من وَجه آخر نَحْو قَوْله: (وَإِن
لعينك عَلَيْك حَقًا) . وَفِي رِوَايَة: (فَإِن لزورك
عَلَيْك حَقًا) ، المُرَاد من الزُّور: الضَّيْف. قَوْله:
(حَقًا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالنّصب لِأَنَّهُ اسْم:
(إِن) ، وَخَبره مقدم عَلَيْهِ، وَهُوَ رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة بِالرَّفْع فيهمَا،
وَوَجهه أَن يكون: (حق) ، مَرْفُوعا على الِابْتِدَاء.
وَقَوله: (لنَفسك) مقدما خَبره، وَالْجُمْلَة خبر إِن،
وَاسم إِن ضمير الشَّأْن محذوفا، تَقْدِيره: إِن الشَّأْن
لنَفسك حق، وَنَظِيره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِن من أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقيام المصورون) ،
الأَصْل إِنَّه أَي: إِن الشَّأْن. قَوْله: (فَصم وَأفْطر)
أَي: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَصم فِي بعض الْأَيَّام
وَأفْطر فِي بَعْضهَا، وَكَانَ هَذَا إِشَارَة إِلَى صَوْم
دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وقم) : بِضَم
الْقَاف أَمر من: قَامَ بِاللَّيْلِ. لأجل الْعِبَادَة
أَي: فِي بعض اللَّيْل، أَو فِي بعض اللَّيَالِي. قَوْله:
(ونم) ، بِفَتْح النُّون أَمر من النّوم أَي: فِي بعض
اللَّيْل، وَهَذَا كُله أَمر ندب وإرشاد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز تحديث الْمَرْء
بِمَا عزم عَلَيْهِ من فعل الْخَيْر. وَفِيه: تفقد
الإِمَام أُمُور رَعيته كلياتها وجرئياتها، وتعليمهم مَا
يصلحهم. وَفِيه: تَعْلِيل الحكم لمن فِيهِ أَهْلِيَّة
ذَلِك. وَفِيه: أَن الأولى فِي الْعِبَادَات تَقْدِيم
الْوَاجِبَات على المندوبات. وَفِيه: أَن من تكلّف
الزِّيَادَة وَتحمل الْمَشَقَّة على مَا طبع عَلَيْهِ يَقع
لَهُ الْخلَل فِي الْغَالِب، وَرُبمَا يغلب ويعجز. وَفِيه:
الحض على مُلَازمَة الْعِبَادَة من غير تحمل الْمَشَقَّة
المؤدية إِلَى التّرْك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَعَ كراهيته التَّشْدِيد لعبد الله بن عَمْرو على نَفسه
حض على الاقتصاد فِي الْعِبَادَة، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ:
إجمع بَين المصلحتين فَلَا تتْرك حق الْعِبَادَة وَلَا
الْمَنْدُوب بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا تضيع حق نَفسك وَأهْلك
وزورك.
12 - (بابُ فَضْلِ منْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من تعار، وتعار، بِفَتْح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْعين الْمُهْملَة وَبعد
الْألف رَاء مُشَدّدَة، وَأَصله: تعارر، لِأَنَّهُ على
وزن: تفَاعل، وَلما اجْتمعت الرآن ادغمت إِحْدَاهمَا فِي
الْأُخْرَى. وَقَالَ ابْن سَيّده: عر الظليم يعر عرارا،
وعار معارة وعرارا: صَاح، والتعار: السهر والتقلب على
الْفراش لَيْلًا مَعَ كَلَام. وَفِي (الموعب) : يُقَال
مِنْهُ: تعار يتعار، وَيُقَال: لَا يكون ذَلِك إلاَّ مَعَ
كَلَام وَصَوت، وَقَالَ ابْن التِّين: ظَاهر الحَدِيث أَن
تعار: اسْتَيْقَظَ، لِأَنَّهُ قَالَ: (من تعار فَقَالَ) ،
فعطف القَوْل بِالْفَاءِ على تعار، وَقيل: تعار تقلب فِي
فرَاشه، وَلَا يكون إلاَّ يقظة مَعَ كَلَام يرفع بِهِ
صَوته عِنْد انتباهه وتمطيه، وَقيل: الأنين عِنْد التمطي
بأثر الانتباه، وَعَن ثَعْلَب: اخْتلف النَّاس فِي تعار،
فَقَالَ قوم: انتبه، وَقَالَ قوم: تكلم، وَقَالَ قوم: علم،
وَقَالَ بَعضهم: تمطى وَأَن.
4511 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قَالَ أخبرنَا
الوَلِيدُ عنِ الأوزَاعِيِّ قَالَ حدَّثني عُمَيْرُ بنُ
هانِىءٍ قَالَ حدَّثني جُنَادةُ بنُ أبِي أُمَيَّةَ قَالَ
حدَّثني عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ تعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ
لَا إِلَه إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ
المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ
الحَمْدُ لله وسُبْحَانَ الله وَلاَ إلاهَ إلاَّ الله
وَالله أكْبَرُ ولاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِالله
ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أوْ دَعَا اسْتُجِيبَ
لَهُ فإنْ تَوَضَّأ قُبِلَتْ صَلاَتُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهَا جُزْء مِنْهُ.
فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث إِلَّا الْقبُول، والترجمة
فِي فضل الصَّلَاة قلت: إِذا قبلت يثبت
(7/212)
لَهَا الْفضل.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: صَدَقَة بن الْفضل أَبُو
الْفضل الْمروزِي، مر فِي كتاب الْعلم. الثَّانِي:
الْوَلِيد بن مُسلم أَبُو الْعَبَّاس الْقرشِي
الدِّمَشْقِي، مر فِي الصَّلَاة. الثَّالِث: عبد
الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: عُمَيْر،
بِالتَّصْغِيرِ، ابْن هانىء، بالنُّون بَين الْألف
والهمزة: الدِّمَشْقِي الْعَبْسِي، قَالَ التِّرْمِذِيّ:
حَدثنَا عَليّ بن حجر، قَالَ: حَدثنَا مسلمة بن عَمْرو،
قَالَ: كَانَ عُمَيْر بن هانىء يُصَلِّي كل يَوْم ألف
سَجْدَة، ويسبح كل يَوْم مئة ألف تَسْبِيحَة، قتل سنة سبع
وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: جُنَادَة، بِضَم الْجِيم
وَتَخْفِيف النُّون: ابْن أبي أُميَّة الْأَزْدِيّ ثمَّ
الزهْرَانِي، وَيُقَال: الدوسي، أَبُو عبد الله الشَّامي،
وَاسم أبي أُميَّة: كثير، وَقَالَ خَليفَة: إسمه مَالك،
لَهُ ولأبيه صُحْبَة، وَيُقَال: لَا صُحْبَة لَهُ، وَقَالَ
الْعجلِيّ: شَامي تَابِعِيّ ثِقَة من كبار التَّابِعين،
سكن الْأُرْدُن. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ سنة
ثَمَانِينَ، وَكَذَا قَالَ خَليفَة. السَّادِس: عبَادَة بن
الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
رِجَاله كلهم شَامِيُّونَ، غير أَن شَيْخه مروزي. وَفِيه:
رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ على قَول من
يَقُول بِصُحْبَة جُنَادَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ
عَن الصَّحَابِيّ على قَول من يَقُول: لَا صُحْبَة لجنادة.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن
مصفى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن مُحَمَّد
بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزمة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الدُّعَاء عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا
شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء
قدير) روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ
فِيهِ: إِنَّه (خير مَا قلت أَنا والنبيون من قبلي) وروى
عَنهُ أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه
قَالَ: (من قَالَ ذَلِك فِي يَوْم مائَة مرّة كَانَت لَهُ
عدل عشر رِقَاب، وكتبت لَهُ مائَة حَسَنَة، ومحيت عَنهُ
مائَة سَيِّئَة، وَكَانَت لَهُ حرْزا من الشَّيْطَان
يَوْمه ذَلِك حَتَّى يُمْسِي وَلم يَأْتِ أحد بِأَفْضَل
مِمَّا جَاءَ إلاَّ أحد عمل أَكثر من عمله ذَلِك) .
قَوْله: (الْحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسُبْحَان
الله) زَاد فِي رِوَايَة كَرِيمَة: (وَلَا إِلَه إِلَّا
الله) ، وَكَذَا عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلم تخْتَلف
الرِّوَايَات فِي البُخَارِيّ على تَقْدِيم الْحَمد على
التَّسْبِيح، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ على الْعَكْس،
وَالظَّاهِر أَنه من تصرف الروَاة. وَأخرج مَالك عَن سعيد
بن الْمسيب أَنه قَالَ: (الْبَاقِيَات الصَّالِحَات) ،
قَول العَبْد ذَلِك بِزِيَادَة: (لَا إِلَه إِلَّا الله)
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: (هن) : (سُبْحَانَ الله،
وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر)
جعلهَا أَرْبعا. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر
لي أَو دَعَا) كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ، وَيحْتَمل أَن تكون
كلمة: أَو، للتنويع، وَلَكِن يعضد الْوَجْه الأول مَا
عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ بِلَفْظ: (ثمَّ قَالَ: رب اغْفِر
لي غفر لَهُ، أَو قَالَ: فَدَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ) ، شكّ
الْوَلِيد بن مُسلم. قَوْله: (اسْتُجِيبَ لَهُ) كَذَا فِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ بِزِيَادَة: لَهُ، وَلَيْسَ فِي
رِوَايَة غَيره لفظ: لَهُ. قَوْله: (فَإِن تَوَضَّأ قبل
صلَاته تَقْدِيره فَإِن تَوَضَّأ وَصلى قبلت صلَاته،
وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت: (فَإِن
تَوَضَّأ وَصلى) ، وَكَذَا عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ،
وَزَاد فِي أَوله: (فَإِن هُوَ عزم فَقُمْ فَتَوَضَّأ
وَصلى) ، وَقَالَ ابْن بطال: وعد الله تَعَالَى على لِسَان
نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن من اسْتَيْقَظَ من
نَومه لهجا لِسَانه بتوحيد الله والإذعان لَهُ بِالْملكِ
وَالِاعْتِرَاف بنعمته يحمده عَلَيْهَا وينزهه عَمَّا لَا
يَلِيق بِهِ بتسبيحه والخضوع لَهُ بِالتَّكْبِيرِ
وَالتَّسْلِيم لَهُ بِالْعَجزِ عَن الْقُدْرَة إِلَّا
بعونه أَنه إِذا دَعَاهُ أَجَابَهُ، وَإِذا صلى قبلت
صلَاته، فَيَنْبَغِي لمن بلغه هَذَا الحَدِيث أَن يغتنم
بِهِ الْعَمَل ويخلص نِيَّته لرَبه تَعَالَى.
5511 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي
الهَيْثَمُ ابنُ أبي سِنَانٍ أَنه سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَهْوَ يَقُصُّ فِي قَصَصِهِ
وَهْوَ يَذْكُرُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ
أخَا لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ يَعْنِي بِذالِكَ
عَبْدَ الله بنَ رَوَاحَةَ
(وَفِينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كِتَابَهُ ... إذَا
انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ ساطِعٌ)
(أرَانَا الهُداي بَعْدَ العَماى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ
مُوقِنَاتٌ أنَّ مَا قَالَ واقعُ)
(يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عنْ فِرَاشِهِ ... إذَا
اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ)
(الحَدِيث 5511 طرفه فِي: 1516) .
(7/213)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
((يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه))
لِأَن مجافاة جنبه عَن الْفراش وَهُوَ إبعاده عَنهُ
بِسَبَب التعار، وَكَانَ ذَلِك إِمَّا للصَّلَاة وَإِمَّا
للذّكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن بكير هُوَ يحيى
ابْن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا. الثَّانِي:
اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس:
الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره مِيم:
ابْن أبي سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالنونين
بَينهمَا ألف. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن يحيى
وَاللَّيْث مصريان وَيُونُس أيلي وَابْن شهَاب والهيثم
مدنيان. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى جده.
وَفِيه: أَن الْهَيْثَم من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن
اصبغ بن الْفرج.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ يقص) ، جملَة إسمية وَقعت
حَالا، أَي: الْهَيْثَم سمع أَبَا هُرَيْرَة حَال كَونه
يقص، من قصّ يقص قصا وقصصا، بِفَتْح الْقَاف، والقص فِي
اللُّغَة: الْبَيَان، والقاص هُوَ الَّذِي يذكر
الْأَخْبَار والحكايات. قَوْله: (فِي قصصه) ، بِكَسْر
الْقَاف جمع: قصَّة، وَيجوز الْفَتْح، وَالْمعْنَى: سمع
الْهَيْثَم أَبَا هُرَيْرَة وَهُوَ يقص فِي جملَة قصصه
أَي: مواعظه، الَّتِي كَانَ يذكر بهَا أَصْحَابه،
وَيتَعَلَّق الْجَار وَالْمَجْرُور بقوله: (سمع) . قَوْله:
(وَهُوَ يذكر) ، جملَة حَالية أَيْضا أَي: وَالْحَال أَن
أَبَا هُرَيْرَة يذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (إِن أَخا لكم) الْقَائِل لهَذَا هُوَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمعْنَى: أَن
الْهَيْثَم سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول وَهُوَ يعظ، وانجر
كَلَامه إِلَى أَن ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَذكر مَا قَالَه من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن أَخا لكم لَا يَقُول الرَّفَث) ، أَي:
الْبَاطِل من القَوْل وَالْفُحْش، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك
حِين أنْشد عبد الرَّحْمَن بن رَوَاحَة الإبيات
الْمَذْكُورَة، فَدلَّ ذَلِك أَن حسن الشّعْر مَحْمُود
كحسن الْكَلَام، فَظهر من ذَلِك أَن قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى
يرِيه خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) إِنَّمَا يُرَاد بِهِ
الشّعْر الَّذِي فِيهِ الْبَاطِل والهجو من القَوْل
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد نفى عَن ابْن
رَوَاحَة بقوله هَذِه الأبيات قَول الرَّفَث، فَإِذا لم
يكن من الرَّفَث فَهُوَ فِي حيّز الْحق، وَالْحق مَرْغُوب
فِيهِ مأجور عَلَيْهِ صَاحبه، وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ فِي
سِيَاق الحَدِيث مَا يشْعر بِأَن ذَلِك من قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ ظَاهر أَنه كَلَام أبي هُرَيْرَة
قلت: الَّذِي يسْتَخْرج المُرَاد من معنى التَّرْكِيب على
وفْق مَا يَقْتَضِيهِ من حَيْثُ الْإِعْرَاب يعلم أَن
الْقَائِل هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو
هُرَيْرَة ناقل لَهُ، وَأَنه مدح من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ رَوَاحَة، وَبَيَان: أَن من
الشّعْر مَا هُوَ حسن وَإِن كل الشّعْر لَيْسَ بمذموم.
قَوْله: (يَعْنِي بذلك) يَعْنِي: يُرِيد بقوله: (إِن أَخا
لكم عبد الله ابْن رَوَاحَة) ، وَقَائِل هَذَا التَّفْسِير
يحْتَمل أَن يكون الْهَيْثَم، وَيحْتَمل أَن يكون
الزُّهْرِيّ، وَالْأول أوجه، وَعبد الله بن رَوَاحَة،
بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْوَاو وَفتح الْحَاء
الْمُهْملَة: ابْن ثَعْلَبَة بن امرىء الْقَيْس بن عَمْرو
الْأنْصَارِيّ الخزرجي، من بني الْحَارِث، يكنى أَبَا
مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبَا رَوَاحَة، وَيُقَال: أَبَا
عَمْرو، وَكَانَ بَقِيَّة بني الْحَارِث من الْخَزْرَج،
شهد بَدْرًا وأحدا وَسَائِر الْمشَاهد مَعَ رَسُول لله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ الْفَتْح وَمَا بعده لِأَنَّهُ
قتل قبله، وَهُوَ أحد الْأُمَرَاء فِي غَزْوَة مُؤْتَة،
وَكَانَ سنة ثَمَان من الْهِجْرَة، وَاسْتشْهدَ فِيهَا.
قَوْله: (وَفينَا رَسُول الله. .) إِلَى آخِره، بَيَان لما
قَالَه عبد الله بن رَوَاحَة، وَالْمَذْكُور هُنَا
ثَلَاثَة أَبْيَات، وَهِي من الطَّوِيل، وأجزاؤه
ثَمَانِيَة: وَهِي: فعولن مفاعيلن. . إِلَى آخِره.
(وَفينَا) أَي: بَيْننَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (يَتْلُو كِتَابه) أَرَادَ بِهِ الْقُرْآن،
وَالْجُمْلَة حَالية. قَوْله: (إِذا انْشَقَّ) ، كَذَا
هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي
الْوَقْت: (كَمَا انْشَقَّ) . قَوْله: (مَعْرُوف) فَاعل
(انْشَقَّ) . قَوْله: (سَاطِع) صفة: لمعروف (وَمن الْفجْر)
بَيَان لَهُ، وَهُوَ من سَطَعَ الصُّبْح إِذا ارْتَفع،
وَكَذَا سطعت الرَّائِحَة وَالْغُبَار، وَأَرَادَ بِهِ
أَنه يَتْلُو كتاب الله وَقت انْشِقَاق الْوَقْت الساطع من
الْفجْر. قَوْله: (الْهدى) مفعول ثَان. (لأرانا) . قَوْله:
(بعد الْعَمى) ، أَي: بعد الضَّلَالَة، وَلَفظ الْعَمى
مستعار مِنْهَا. قَوْله: (بِهِ) أَي: بِالنَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يُجَافِي) أَي: يباعد،
وَهِي جملَة حَالية، ومجافاته جنبه عَن الْفراش كِنَايَة
عَن صلَاته بِاللَّيْلِ. قَوْله: (إِذا استثقلت) أَي: حِين
استثقلت بالمشركين (الْمضَاجِع) جمع مَضْجَع، وَكَأَنَّهُ
لمح بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جنُوبهم عَن
الْمضَاجِع يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} (السَّجْدَة: 61) . قَوْله:
(تَتَجَافَى) (السَّجْدَة: 61) . أَي: ترْتَفع وتتنحى {عَن
الْمضَاجِع} (السَّجْدَة: 61) . عَن الْفرش ومواضع النّوم
{يدعونَ رَبهم} (السَّجْدَة: 61) . أَي: داعين رَبهم
عابدين لَهُ لأجل خوفهم من سخطه
(7/214)
وطمعهم فِي رَحمته. وَقَالَ ابْن عَبَّاس:
{تَتَجَافَى جنُوبهم} (السَّجْدَة: 61) . لذكر الله كلما
استيقظوا ذكرُوا الله إِمَّا فِي الصَّلَاة وَإِمَّا فِي
قيام أَو قعُود وعَلى جنُوبهم فهم لَا يزالون يذكرُونَ
الله، وَعَن مَالك بن دِينَار: سَأَلت أنسا عَن قَوْله
تَعَالَى: {تَتَجَافَى جنُوبهم} (السَّجْدَة:) . فَقَالَ
أنس: كَانَ أنَاس من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يصلونَ من صَلَاة الْمغرب إِلَى صَلَاة
الْعشَاء الْآخِرَة، فَأنْزل الله تَعَالَى {تَتَجَافَى
جنُوبهم عَن الْمضَاجِع} (السَّجْدَة: 61) . وَعَن أبي
الدَّرْدَاء وَالضَّحَّاك أَنَّهَا صَلَاة الْعشَاء
وَالصُّبْح فِي جمَاعَة. قَوْله: {يُنْفقُونَ}
(السَّجْدَة: 61) . أَي: يتصدقون، وَقيل: يزكون.
تابَعَهُ عُقَيْلٌ
أَي: تَابع يُونُس عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد
الْأَيْلِي، وَفِي رِوَايَة ابْن شهَاب: عَن الْهَيْثَم،
وَرِوَايَة عقيل هَذِه أخرجهَا الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من طَرِيق سَلامَة بن روح عَن عَمه عقيل بن
خَالِد عَن ابْن شهَاب، فَذكر مثل رِوَايَة يُونُس.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبرنِي الزُّهْرِيُّ عنْ
سَعِيدٍ وَالأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ
الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الدَّال
الْمُهْملَة: هُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْحِمصِي.
وَالزهْرِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم. وَسَعِيد هُوَ ابْن
الْمسيب. والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى أَن فِي الْإِسْنَاد
الْمَذْكُور اخْتِلَافا عَن الزُّهْرِيّ فَإِن يُونُس
وعقيلاً اتفقَا على أَن شيخ الزُّهْرِيّ فِيهِ هُوَ
الْهَيْثَم ابْن أبي سِنَان وَخَالَفَهُمَا الزبيدِيّ
حَيْثُ جعل شيخ الزُّهْرِيّ فِيهِ سعيد بن الْمسيب وَعبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز، فَالطَّرِيقَانِ صَحِيحَانِ، لِأَن
كلهم حفاظ ثِقَات، وَلَكِن الطَّرِيق الأول أرجح لمتابعة
عقيل ليونس، بِخِلَاف طَرِيق الزبيدِيّ.
قَوْله: (وَقَالَ الزبيدِيّ) مُعَلّق، وَصله البُخَارِيّ
فِي (التَّارِيخ الصَّغِير) وَالطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) أَيْضا من طَرِيق عبد الله بن سَالم الْحِمصِي
عَنهُ، وَلَفظه (أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول فِي
قصصه: إِن أَخَاكُم كَانَ يَقُول شعرًا لَيْسَ بالرفث،
وَهُوَ عبد الله بن رَوَاحَة. .) فَذكر الأبيات، قَالَ
بَعضهم: هُوَ يبين أَن قَوْله فِي الرِّوَايَة الأولى من
كَلَام أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا بِخِلَاف مَا جزم بِهِ
ابْن بطال. قلت: يحْتَمل أَن أَبَا هُرَيْرَة لما كَانَ
فِي أثْنَاء وعظه أجْرى ذكر مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي مدح عبد الله بن رَوَاحَة، وَلكنه طوى إِسْنَاده
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَثِيرًا مَا
كَانَت الصَّحَابَة يَفْعَلُونَ هَكَذَا، فَمثل هَذَا،
وَإِن كَانَ مَوْقُوفا فِي الصُّورَة، فَفِي الْحَقِيقَة
هُوَ مَوْصُول.
6511 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمادُ
بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رَأيْتُ عَلَى عَهْدِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كأنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ
إسْتَبْرَقٍ فكأنِّي لَا أرِيدِ مَكانا مِنَ الجَنَّةِ
إلاَّ طارَتْ إلَيْهِ وَرَأيْتُ كأنَّ اثنَيْنِ أتَيَانِي
أرَادَا أنْ يَذْهَبَا بِي إلَى النَّارَ فتَلَقَّاهُمَا
مَلَكٌ فقالَ لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ. فقَصَّتْ
حَفْصَةُ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إحْدَى
رُؤْيَايَ فَقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِعْمَ
الرَّجُلُ عَبْدُ الله لَوْ كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ.
وكانُ عبد الله رَضِي الله عَنهُ يُصَلِّي من اللَّيْل لاَ
يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الرُّؤيَا أنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ
مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ فَقالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَتْ فِي
العَشْرِ الأوَاخِرِ فَمَنْ كانَ مُتَحَرِّيهَا
فَلْيَتَحَرَّهَا مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَكَانَ عبد
الله يُصَلِّي من اللَّيْل) ، وَكَانَت صلَاته غَالِبا بعد
أَن تعار من اللَّيْل، فَهَذَا عين التَّرْجَمَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان
مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن
مُعلى بن أَسد عَن وهيب. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل
عَن خلف بن هِشَام وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأبي كَامِل
الجحدري، ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِي المناقب عَن أَحْمد بن منيع عَن إِسْمَاعِيل بن علية.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد
بن يحيى عَن أَحْمد بن عبد الله وَعَن الْحَارِث بن
عُمَيْر، أربعتهم عَنهُ بِهِ.
(7/215)
قَوْله: (استبرق) ، بِفَتْح الْهمزَة،
وَهُوَ الديباج الغليظ فَارسي مُعرب. قَوْله: (طارت
إِلَيْهِ) وَفِي التَّعْبِير بِلَفْظ: (إلاَّ طارت بِي
إِلَيْهِ) ، قَوْله: (كَأَن اثْنَيْنِ) ، بِكَسْر الْهمزَة
وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح النُّون، ويروى:
(كَأَن آتيين) على صِيغَة اسْم الْفَاعِل للتثنية من
الْإِتْيَان. قَوْله: (يذهبا بِي) من الإذهاب من بَاب
الإفعال، ويروى من الذّهاب مُتَعَدٍّ بِحرف الْجَرّ،
وَالْفرق بَينهمَا أَنه لَا بُد فِي الثَّانِي من
المصاحبة. قَوْله: (لم ترع) مَجْهُول مضارع الروع، أَي:
لَا يكون بك خوف. قَوْله: (رُؤْيَايَ) اسْم جنس مُضَاف
إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم، ويروى مثنى مُضَاف إِلَيْهِ
مدغم. قَوْله: (فَكَانَ عبد الله يُصَلِّي من اللَّيْل)
كَلَام نَافِع. قَوْله: (وَكَانُوا) ، أَي: الصَّحَابَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَوْله: (إِنَّهَا) أَي:
لَيْلَة الْقدر. قَوْله: (قد تواطت) هَكَذَا فِي جَمِيع
النّسخ، وَأَصله مَهْمُوز أَي: تواطأت، على وزن: تفاعلت،
لكنه سهل، وَفِي أصل الدمياطي: تواطأت، بِالْهَمْز
وَمَعْنَاهُ: توافقت. قَوْله: (فليتحرها فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة غَيره: (من الْعشْر الْأَوَاخِر) .
22 - (بابُ المُدَاوَمَةِ فِي رَكْعَتَيْ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المداومة فِي رَكْعَتي صَلَاة
الْفجْر سفرا وحضرا.
9511 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا
سَعِيدٌ ابنُ أبِي أيُّوبَ قَالَ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ
رَبِيعَةَ عنْ عِرَاكِ بنِ مالِكٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ
عَائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ صَلَّى
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العِشَاءُ ثُمَّ صَلَّى
ثَمَانَ رَكَعَاتٍ وَرَكْعَتَيْنِ جالِسا ورَكْعَتَيْنِ
بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ ولَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أبَدا.
(أنظر الحَدِيث 911) .
مطابقته فِي قَوْله: (وَلم يكن يدعهما أبدا) . فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن يزِيد، من
الزِّيَادَة، أَبُو عبد الرَّحْمَن، مر فِي: بَاب بَين كل
أذانين صَلَاة. الثَّانِي: سعيد بن أبي أَيُّوب، وَاسم أبي
أَيُّوب مِقْلَاص، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف
وبالصاد الْمُهْملَة: مَاتَ سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة.
الثَّالِث: جَعْفَر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل الْقرشِي،
مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع:
عرَاك، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء
وبالكاف: ابْن مَالك، مر فِي: بَاب الصَّلَاة على الْفراش.
الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن. السَّادِس: أم
الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من نَاحيَة الْبَصْرَة سكن
مَكَّة وَسَعِيد مصري وجعفر من أهل مصر وعراك وَأَبُو
سَلمَة مدنيان. قَوْله: (عَن عرَاك بن مَالك عَن أبي
سَلمَة) خَالفه اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب فَرَوَاهُ
عَن جَعْفَر بن ربيعَة عَن أبي سَلمَة لم يذكر بَينهمَا
أحدا، أخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَكَأن جعفرا أَخذه
عَن أبي سَلمَة بِوَاسِطَة ثمَّ حمله عَنهُ وليزيد شيخ
البُخَارِيّ إِسْنَاد آخر فِيهِ، رَوَاهُ عَن عرَاك بن
مَالك عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أخرجه مُسلم، فَكَانَ
لعراك فِيهِ شَيْخَانِ، وَالَّذِي رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق
عرَاك، فَقَالَ: حَدثنِي قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ:
حَدثنَا لَيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عرَاك (عَن
عُرْوَة أَن عَائِشَة أخْبرته أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي ثَلَاث عشرَة رَكْعَة
بركعتي الْفجْر) .
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن
نصر بن الْجَهْضَمِي، وجعفر بن مُسَافر التنيسِي
كِلَاهُمَا عَن أبي عبد الرَّحْمَن المقرى بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد
الْمقري عَن أَبِيه بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ صلى) ، هَذِه رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (وَصلى) ، بواو
الْعَطف. قَوْله: (ثَمَان رَكْعَات) ، بِفَتْح النُّون
وَهُوَ شَاذ وَفِي أَكثر النّسخ: (ثَمَانِي رَكْعَات) على
الأَصْل. قَوْله: (جَالِسا) ، نصب على الْحَال. قَوْله:
(بَين النداءين) أَي: الْأَذَان للصبح وَالْإِقَامَة،
وَفِي رِوَايَة اللَّيْث: (ثمَّ يُمْهل حَتَّى يُؤذن
بِالْأولَى من الصُّبْح فيركع رَكْعَتَيْنِ) ، وَلمُسلم من
رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة (يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ خفيفتين بَين النداء وَالْإِقَامَة من صَلَاة
الصُّبْح) . قَوْله: (وَلم يكن يدعهما) ، أَي: لم يكن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتْرك رَكْعَتي الصُّبْح
اللَّتَيْنِ بَين النداءين، قَوْله: (أبدا) أَي: دَائِما.
قيل: انتصابه على الظَّرْفِيَّة بِمَعْنى: دهرا، وَقيل:
هُوَ مَوْضُوع على النصب كَمَا فِي طرا وقاطبة.
(7/216)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ:
تَأْكِيد رَكْعَتي الْفجْر وأنهما من أشرف التَّطَوُّع
لمواظبته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِمَا وملازمته
لَهما، وَعند الْمَالِكِيَّة خلاف: هَل هِيَ سنة أَو من
الرغائب؟ فَالصَّحِيح عِنْدهم أَنَّهَا سنة، وَهُوَ قَول
جمَاعَة من الْعلمَاء، وَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ إِلَى
وُجُوبهَا وَهُوَ شَاذ لَا أصل لَهُ، نَقله صَاحب
(التَّوْضِيح) فَإِن قلت: الَّذِي ذكرته يدل على الْوُجُوب
كَمَا قَالَه الْحسن، وَلِهَذَا ذكر المرغيناني عَن أبي
حنيفَة أَنَّهَا وَاجِبَة. وَفِي (جَامع المحبوبي) : روى
الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: لَو صلى سنة الْفجْر
قَاعِدا بِلَا عذر لَا يجوز؟ قلت: إِنَّمَا لم يقل
بِوُجُوبِهَا لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَاقهَا
مَعَ سَائِر السّنَن فِي حَدِيث المثابرة، هَكَذَا قَالَ
أَصْحَابنَا: وَلَيْسَ فِيهِ مَا يشفي العليل، وَقد روى
أَحَادِيث كَثِيرَة فِي رَكْعَتي الْفجْر مِنْهَا: مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تدعوا
رَكْعَتي الفحر وَلَو طردتكم الْخَيل) أَي: الفرسان،
وَهَذَا كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة وحث عَظِيم على
مواظبتهما، وَبِه اسْتدلَّ أَصْحَابنَا أَن الرجل إِذا
انْتهى إِلَى الإِمَام فِي صَلَاة الْفجْر وَهُوَ لم يصل
رَكْعَتي الْفجْر إِن خشِي أَن تفوته رَكْعَة وَيدْرك
الْأُخْرَى يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر عِنْد بَاب
الْمَسْجِد ثمَّ يدْخل، وَلَا يتركهما، وَأما إِذا خشِي
فَوت الْفَرْض فَحِينَئِذٍ يدْخل مَعَ الإِمَام وَلَا
يُصَلِّي. ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي الْوَقْت الَّذِي
يقضيهما فِيهِ، فأظهر أَقْوَال الشَّافِعِي: يقْضِي
مُؤَبَّدًا وَلَو بعد الصُّبْح، وَهُوَ قَول عَطاء وطاووس،
وَرِوَايَة عَن ابْن عمر وأبى ذَلِك مَالك وَنَقله عَن
ابْن بطال عَن أَكثر الْعلمَاء، وَقَالَت طَائِفَة:
يقضيهما بعد طُلُوع الشَّمْس، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر
وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَرِوَايَة الْبُوَيْطِيّ عَن
الشَّافِعِي، وَقَالَ مَالك وَمُحَمّد بن الْحسن: يقضيهما
بعد الطُّلُوع إِن أحب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف: لَا يقضيهما. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسلم من
حَدِيث سعيد بن هِشَام (عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: رَكعَتَا الْفجْر خير من
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
نَحوه، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وروى مُسلم أَيْضا من
حَدِيث سعيد بن هِشَام (عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي شَأْن الرَّكْعَتَيْنِ
عِنْد طُلُوع الْفجْر: لَهما أحب من الدُّنْيَا جَمِيعًا)
. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي
زِيَاد الْكِنْدِيّ (عَن بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه حَدثهُ أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ليؤذنه بِصَلَاة الْغَدَاة) الحَدِيث، وَفِيه: (أَن
بِلَالًا قَالَ لَهُ: أَصبَحت جدا، قَالَ: أَصبَحت جدا؟
قَالَ: لَو أَصبَحت أَكثر مِمَّا أَصبَحت لركعتهما
وأحسنتهما وأجملتهما) وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يسَار مولى ابْن عمر عَن ابْن
عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا
صَلَاة بعد الْفجْر إلاَّ سَجْدَتَيْنِ) ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث لَا صَلَاة بعد طُلُوع
الْفجْر إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، من رِوَايَة مطر
الْوراق عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: لَا صَلَاة إِذا
طلع الْفجْر إلاَّ رَكْعَتَيْنِ) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة زيد بن مُحَمَّد عَن
نَافِع عَن ابْن عمر (عَن حَفْصَة، قَالَت: كَانَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا طلع الْفجْر لَا
يُصَلِّي إلاَّ رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) . وَمِنْهَا: مَا
رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة رشيد بن
كريب عَن أَبِيه عَن جده (عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فسبحه وإدبار النُّجُوم}
(الطّور: 94) . قَالَ: رَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ من حَدِيث قيس بن فَهد (رَآهُ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بعد صَلَاة
الْفجْر رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي لم
أكن صليت الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبلهمَا فصليتهما
الْآن، فَسكت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ
التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِمُتَّصِل، وَأخرجه
ابْن أبي خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَلَفظه: (مَا هَاتَانِ
الركعتان؟ قَالَ: يَا رَسُول الله رَكعَتَا الْفجْر لم أكن
أصليهما فهما هَاتَانِ. قَالَ: فَسكت عَنهُ) . وَمِنْهَا:
حَدِيث عَائِشَة، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
32 - (بابُ الضَّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ بَعْدَ
رَكْعَتَيِّ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الضجعة إِلَى آخِره، والضجعة
بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسرهَا، وَالْفرق بَينهمَا
أَن الْكسر يدل على الْهَيْئَة وَالْفَتْح على الْمرة، من:
ضجع يضجع ضجعا وضجوعا، إِذا وضع جنبه بِالْأَرْضِ.
0611 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا
سَعِيدُ بنُ أبِي أيُّوبَ قالَ حدَّثني أبُو الأسْوَدِ عنْ
عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إذَا صلَّى
(7/217)
رَكْعَتَيِ الفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى
شِقِّهِ الأيْمَنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَشَيْخه وَشَيخ شَيْخه قد
ذكرُوا فِي الْبَاب السَّابِق، وَأَبُو الْأسود، ضد
الْأَبْيَض: اسْمه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْمَشْهُور
بيتيم عُرْوَة مر فِي: بَاب الْجنب يتَوَضَّأ، وَعُرْوَة
بن الزبير بن الْعَوام.
الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب على أَنْوَاع: الأول: أَن
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن الِاضْطِجَاع بعد رَكْعَتي
الْفجْر، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَنْهَا: (كَانَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى رَكْعَتي الْفجْر، فَإِن
كنت مستيقظة حَدثنِي وإلاَّ اضْطجع) . فَهَذَا يدل على
أَنه تَارَة يضطجع قبل، وَتارَة بعد، وَتارَة لَا يضطجع.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي مضى فِي: بَاب مَا جَاءَ
فِي الْوتر، يدل على أَنه قبلهمَا، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ:
(ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) ، فَذكره مكررا ثمَّ قَالَ: (ثمَّ
أوتر ثمَّ اضْطجع حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذّن فَقَامَ فصلى
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرج فصلى الصُّبْح) وَهَذَا يُصَرح
بِأَن اضطجاعه كَانَ قبل رَكْعَتي الْفجْر، وَرُوِيَ عَن
ابْن عَبَّاس أَيْضا أَنه: كَانَ إِذا صلى رَكْعَتي
الْفجْر اضْطجع، والتوفيق بَين هَذِه الرِّوَايَات أَن
الرِّوَايَة الَّتِي تدل على أَنه قبل رَكْعَتي الْفجْر
لَا تَسْتَلْزِم نَفْيه بعدهمَا، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَة
الَّتِي تدل على أَنه بعدهمَا لَا تَسْتَلْزِم نَفْيه
قبلهمَا، أَو يحمل تَركه إِيَّاه قبلهمَا أَو بعدهمَا على
بَيَان الْجَوَاز إِذا ثَبت التّرْك، وَإِذا أمكن الْجمع
بَين الْأَحَادِيث الْمُخَالف بَعْضهَا بَعْضًا فِي
الظَّاهِر تحمل على وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا، لِأَن
الْعَمَل بِالْكُلِّ مَعَ الْإِمْكَان أولى من إهمال
بَعْضهَا.
النَّوْع الثَّانِي: فِي أَن هَذِه الضجعة سنة أَو
مُسْتَحبَّة أَو وَاجِبَة أَو غير ذَلِك؟ فَفِيهِ
اخْتِلَاف الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن
بعدهمْ على سِتَّة أَقْوَال. أَحدهَا: أَنه سنة،
وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَقَالَ
النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَالصَّحِيح أَو الصَّوَاب
أَن الِاضْطِجَاع بعد سنة الْفجْر سنة. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) : وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي
إِلَى أَن الِاضْطِجَاع الْمَنْقُول فِي الْأَحَادِيث
للفصل بَين النَّافِلَة وَالْفَرِيضَة، وَسَوَاء كَانَ
ذَلِك الْفَصْل بالاضطجاع أَو التحدث أَو التَّحَوُّل من
ذَلِك الْمَكَان إِلَى غَيره أَو غَيره، والاضطجاع غير
مُتَعَيّن فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح
الْمُهَذّب) : الْمُخْتَار الِاضْطِجَاع. القَوْل
الثَّانِي: أَنه مُسْتَحبّ، وروى ذَلِك عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة، وهم: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَرَافِع بن
خديج وَأنس بن مَالك وَأَبُو هُرَيْرَة، وَإِلَيْهِ ذهب
جمَاعَة من التَّابِعين، وهم: مُحَمَّد بن سِيرِين
وَعُرْوَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد
وَعُرْوَة بن الزبير وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن وخارجة
بن زيد بن ثَابت وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة
وَسليمَان بن يسَار، وَكَانُوا يضطجعون على أَيْمَانهم
بَين رَكْعَتي الْفجْر وَصَلَاة الصُّبْح. القَوْل
الثَّالِث: أَنه وَاجِب، مفترض لَا بُد من الْإِتْيَان
بِهِ، وَهُوَ قَول أبي مُحَمَّد بن حزم، فَقَالَ: وَمن ركع
رَكْعَتي الْفجْر لم تجزه صَلَاة الصُّبْح إلاَّ بِأَن
يضطجع على جنبه الْأَيْمن بَين سَلَامه من رَكْعَتي
الْفجْر وَبَين تكبيره لصَلَاة الصُّبْح، وَسَوَاء ترك
الضجعة عمدا أَو نِسْيَانا، وَسَوَاء صلاهَا فِي وَقتهَا
أَو صلاهَا قَاضِيا لَهَا من نِسْيَان أَو نوم، وَإِن لم
يصل رَكْعَتي الْفجْر لم يلْزمه أَن يضطجع، وَاسْتدلَّ
فِيهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد
وَأَبُو كَامِل وَعبيد الله بن عَمْرو بن ميسرَة، قَالُوا:
حَدثنَا عبد الْوَاحِد حَدثنَا الْأَعْمَش عَن أبي صَالح
عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صلى أحدكُم الرَّكْعَتَيْنِ قبل
الصُّبْح فليضطجع على يَمِينه. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
أَيْضا وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب، وروى ابْن
مَاجَه من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه (عَن
أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى رَكْعَتي الْفجْر
اضْطجع) ، فَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد يخبر عَن أمره،
وَمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه يخبر عَن فعله، وَأَجَابُوا عَن
هَذَا بأجوبة. الأول: أَن عبد الْوَاحِد الرَّاوِي عَن
الْأَعْمَش قد تكلم فِيهِ، فَعَن يحيى: أَنه لَيْسَ
بِشَيْء، وَعَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس: سَمِعت أَبَا
دَاوُد قَالَ: عمد عبد الْوَاحِد إِلَى أَحَادِيث كَانَ
يرسلها الْأَعْمَش فوصلها، يَقُول: حَدثنَا الْأَعْمَش
حَدثنَا مُجَاهِد فِي كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي: أَن
الْأَعْمَش قد عنعن وَهُوَ مُدَلّس. الثَّالِث: أَنه لما
بلغ ذَلِك ابْن عمر قَالَ: أَكثر أَبُو هُرَيْرَة على
نَفسه حَتَّى حدث بِهَذَا الحَدِيث. الرَّابِع: أَن
الْأَئِمَّة حملُوا الْأَمر الْوَارِد فِيهِ على
الِاسْتِحْبَاب، وَقيل فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي
صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: إِنَّه مَعْلُول لم يسمعهُ أَبُو
صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَبَين الْأَعْمَش وَبَين أبي
صَالح كَلَام، وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى ابْن
الْعَرَبِيّ، وَقَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَحْمد يسْأَل
عَن الِاضْطِجَاع؟ قَالَ: مَا أَفعلهُ أَنا. قلت: فَإِن
فعله رجل ثمَّ سكت كَأَنَّهُ لم يعبه إِن فعله، قيل لَهُ:
لِمَ لَا تَأْخُذ بِهِ؟ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث يثبت.
قلت: لَهُ حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: رَوَاهُ بَعضهم مُرْسلا. فَإِن قلت: عبد
الْوَاحِد بن زِيَاد
(7/218)
احْتج بِهِ الْأَئِمَّة السِّتَّة وَوَثَّقَهُ أَحْمد
وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَمُحَمّد بن سعد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان؟ قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن
الْأَجْوِبَة الْبَاقِيَة تَكْفِي لدفع الْوُجُوب بِحَدِيث
أبي هُرَيْرَة. القَوْل الرَّابِع: أَنه بِدعَة، وَمِمَّنْ
قَالَ بِهِ من الصَّحَابَة: عبد الله بن مَسْعُود وَابْن
عمر على اخْتِلَاف عَنهُ، فروى ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) من رِوَايَة إِبْرَاهِيم قَالَ: قَالَ عبد الله:
مَا بَال الرجل إِذا صلى الرَّكْعَتَيْنِ يتمعك كَمَا
تتمعك الدَّابَّة وَالْحمار، إِذا سلم فقد فصل، وروى
أَيْضا ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة مُجَاهِد، قَالَ:
صَحِبت ابْن عمر فِي السّفر والحضر فَمَا رَأَيْته اضْطجع
بعد الرَّكْعَتَيْنِ: وَمن رِوَايَة سعيد بن الْمسيب
قَالَ: رأى ابْن عمر رجلا يضطجع بَين الرَّكْعَتَيْنِ،
فَقَالَ: أحصبوه، وَمن رِوَايَة أبي مجلز، قَالَ: سَأَلت
ابْن عمر عَن ضجعة الرجل على يَمِينه بعد الرَّكْعَتَيْنِ
قبل صَلَاة الْفجْر؟ قَالَ: يتلعب بكم الشَّيْطَان، وَمن
رِوَايَة زيد الْعمي عَن أبي الصّديق النَّاجِي، قَالَ:
رأى ابْن عمر قوما اضطجعوا بعد رَكْعَتي الْفجْر، فَأرْسل
إِلَيْهِم فنهاهم، فَقَالُوا: نُرِيد بذلك السّنة، فَقَالَ
ابْن عمر: إرجع إِلَيْهِم فَأخْبرهُم أَنَّهَا بِدعَة.
وَمِمَّنْ كره ذَلِك من التَّابِعين: الْأسود بن زيد
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: وَقَالَ: هِيَ ضجعة
الشَّيْطَان، وَسَعِيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير،
وَمن الْأَئِمَّة: مَالك ابْن أنس وَحَكَاهُ القَاضِي
عِيَاض عَنهُ وَعَن جُمْهُور الْعلمَاء. القَوْل
الْخَامِس: إِنَّه خلاف الأولى، روى ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) : عَن الْحسن أَنه كَانَ لَا يُعجبهُ
الِاضْطِجَاع بعد رَكْعَتي الْفجْر. القَوْل السَّادِس:
أَنه لَيْسَ مَقْصُودا لذاته، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود
الْفَصْل بَين رَكْعَتي الْفجْر وَبَين الْفَرِيضَة إِمَّا
باضطجاع أَو حَدِيث أَو غير ذَلِك، وَهُوَ محكي عَن
الشَّافِعِي كَمَا ذكرنَا.
النَّوْع الثَّالِث: أَنه على قَول من يرَاهُ مُسْتَحبا
أَو سنة أَن يكون على يَمِينه لوُرُود الحَدِيث بِهِ،
كَذَلِك، وَهل تحصل سنة الِاضْطِجَاع بِكَوْنِهِ على شقَّه
الإيسر، أما مَعَ الْقُدْرَة على ذَلِك فَالظَّاهِر أَنه
لَا تحصل بِهِ السّنة لعدم مُوَافَقَته لِلْأَمْرِ، وَأما
إِذا كَانَ بِهِ ضَرَر فِي الشق الْأَيْمن لَا يُمكن مَعَه
الِاضْطِجَاع أَو يُمكن لَكِن مَعَ مشقة، فَهَل يضطجع على
الْيَسَار إو يُشِير إِلَى الِاضْطِجَاع على الْجَانِب
الْأَيْمن لعَجزه عَن كَمَاله كَمَا يفعل من عجز عَن
الرُّكُوع وَالسُّجُود فِي الصَّلَاة؟ قَالَ شَيخنَا زين
الدّين: لم أر لِأَصْحَابِنَا فِيهِ نصا وَجزم ابْن حزم
بِأَنَّهُ يُشِير إِلَى الِاضْطِجَاع على الْجَانِب
الْأَيْمن وَلَا يضطجع على الْأَيْسَر.
النَّوْع الرَّابِع: فِي الْحِكْمَة على الْجَانِب
الْأَيْمن، وَهِي أَن الْقلب فِي جِهَة الْيَسَار، فَإِذا
نَام على الْيَسَار استغرق فِي النّوم لاستراحته بذلك،
وَإِذا نَام على جِهَة الْيَمين تعلق فِي نَومه فَلَا
يسْتَغْرق. |