عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 91 - (بابُ المَنَّانِ بِمَا أعْطَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ المنان بِمَا أعْطى أَي:
بِمَا أعطَاهُ، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن لفظ
المنان يشْعر بالذم لِأَنَّهُ لَا يذكر إلاَّ فِي مَوضِع
الذَّم فِي حق بني آدم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا
تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) .
فَإِذا كَانَ الْمَنّ مُبْطلًا للصدقات يكون من
الْأَشْيَاء الذميمة. قَالَ ابْن بطال: الامتنان مُبْطل
لأجر الصَّدَقَة. قَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا
صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) . وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: لَا يكون الْمَنّ غَالِبا إلاَّ عَن
الْبُخْل وَالْكبر وَالْعجب ونسيان منَّة الله تَعَالَى
فِيمَا أنعم الله عَلَيْهِ، فالبخيل تعظم فِي نَفسه
الْعَطِيَّة، وَإِن كَانَت حقيرة فِي نَفسهَا، وَالْعجب
يحملهُ على النّظر لنَفسِهِ بِعَين العظمه وَأَنه منعم
بِمَالِه عَن الْمُعْطِي، وَالْكبر يحملهُ على أَن يحقر
الْمُعْطى لَهُ وَإِن كَانَ فِي نَفسه فَاضلا، وَمُوجب
ذَلِك كُله الْجَهْل ونسيان منَّة الله تَعَالَى فِيمَا
أنعم عَلَيْهِ، وَلَو نظر مصيره لعلم أَن الْمِنَّة للآخذ
لما يزِيل عَن الْمُعْطِي من إِثْم الْمَنْع وذم الْمَانِع
وَلما يحصل لَهُ من الْأجر الجزيل وَالثنَاء الْجَمِيل.
انْتهى. وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالوعيد الشَّديد فِي حق المنان فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من
حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (ثَلَاثَة لَا
يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة: المنان الَّذِي لَا يُعْطي
شَيْئا إِلَّا منَّة، والمنفق سلْعَته بِالْحلف، والمسبل
إزَاره) . وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود وَأبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأبي أُمَامَة
بن ثَعْلَبَة وَعمْرَان بن حُصَيْن وَمَعْقِل بن يسَار.
فَإِن قلت: لم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب
حَدِيثا؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يتَّفق لَهُ حَدِيث على شَرطه،
فَلذَلِك اكْتفى بِذكر الْآيَة الْمَذْكُورَة. وَفِي
(التَّلْوِيح) : وَالَّذِي يُقَارب شَرطه حَدِيث أبي ذَر
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ذَكرْنَاهُ،
وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ
مُسلم من حَدِيث أبي ذَر مَرْفُوعا. قلت: هَذَا كَلَام غير
موجه، لِأَنَّهُ كَيفَ يُشِير إِلَى شَيْء لَيْسَ بموجود
وَالْإِشَارَة إِنَّمَا تكون للحاضر؟ وَلِهَذَا لم تثبت
هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده
بِغَيْر حَدِيث.
لِقَوْلِهِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أنْفَقُوا}
(الْبَقَرَة: 262) . الْآيَة.
علل التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الْآيَة، وَوجه ذَلِك أَن الله
تَعَالَى مدح الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبيله
ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا من الْخيرَات وَالصَّدقَات
منّا على مَا أَعْطوهُ، وَلَا يمنون بِهِ على أحد لَا بقول
وَلَا بِفعل، وَالَّذين يتبعُون مَا أَنْفقُوا منّا وأذىً
يكونُونَ مذمومين وَلَا يسْتَحقُّونَ من الْخيرَات مَا
يسْتَحق الَّذين لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منّا وَلَا
أَذَى، فَيكون وَجه التَّعْلِيل هَذَا، وَالشَّيْء
يتَبَيَّن بضده، قَوْله: (وَلَا أَذَى) أَي: وَلَا
يَفْعَلُونَ مَعَ من أَحْسنُوا إِلَيْهِ مَكْرُوها يحبطون
بِهِ مَا سلف من الْإِحْسَان، ثمَّ وعدهم الله بالجزاء
الْجَمِيل على ذَلِك، فَقَالَ: لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم،
أَي: ثوابهم على الله لَا على أحد سواهُ، وَلَا خوف
عَلَيْهِم فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ من أهوال الْقِيَامَة
وَلَا هم يَحْزَنُونَ، أَي: على مَا خلفوه من الْأَوْلَاد
وَلَا مَا فاتهم من الْحَيَاة الدُّنْيَا وزهرتها، وَذكر
الواحدي عَن الْكَلْبِيّ، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي
عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، جَاءَ عبد الرَّحْمَن
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأَرْبعَة
آلَاف دِرْهَم، نصف مَاله، وَقَالَ عُثْمَان: عَليّ جهاز
من لَا جهاز لَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك، فَجهز الْمُسلمين
بِأَلف بعير بأقتابها وأحلاسها، فَنزلت فيهمَا هَذِه
الْآيَة الْكَرِيمَة، وَالله أعلم. وَقَالَ ابْن بطال: ذكر
أهل التَّفْسِير أَنَّهَا نزلت فِي الَّذِي يُعْطي مَاله
الْمُجَاهدين فِي
(8/297)
سَبِيل الله تَعَالَى مَعُونَة لَهُم على
جِهَاد الْعَدو، ثمَّ يمن عَلَيْهِم بِأَنَّهُ قد صنع
إِلَيْهِم مَعْرُوفا إِمَّا بِلِسَان أَو بِفعل، وَلَا
يَنْبَغِي لَهُ أَن يمن بِهِ على أحد، لِأَن ثَوَابه على
الله تَعَالَى.
02 - (بابُ مَنْ أحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ
يَوْمِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من أحب تَعْجِيل
الصَّدَقَة وَلم يؤخرها من وَقتهَا، ثمَّ الصَّدَقَة أَعم
من أَن تكون من الصَّدقَات الْمَفْرُوضَة أَو من صدقَات
التَّطَوُّع، فعلى، فعلى كل حَال خِيَار الْبر عاجله.
0341 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدٍ عنِ
ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ عُقْبَةَ بنَ الحَارِثِ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ قَالَ صَلَّى بِنَا النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَصْرَ فأسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ
البَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أوْ قِيلَ
لَهُ فَقَالَ كنْتُ خَلَّفْتُ فِي البَيْتِ تِبْرا مِنَ
الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما فرغ من صلَاته أسْرع وَدخل
الْبَيْت وَفرق تبرا كَانَ فِيهِ، ثمَّ أخبر أَنه كره
تبييته عِنْده، فَدلَّ ذَلِك على اسْتِحْبَاب تَعْجِيل
الصَّدَقَة. والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة
فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ، فَذكر حَاجَة فتخطاهم،
فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن عبيد عَن
عِيسَى بن يُونُس، وَهَهُنَا رَوَاهُ: عَن أبي عَاصِم
النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد عَن عمر بن سعيد
النَّوْفَلِي الْقرشِي الْمَكِّيّ عَن عبد الله بن أبي
مليكَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
والتبر جمع تبرة، وَهِي الْقطعَة من الذَّهَب أَو الْفضة
غير مصوغة، وَقيل: قطع الذَّهَب فَقَط. قَوْله: (إِن
أبيته) أَي: أتركه يدْخل عَلَيْهِ اللَّيْل.
12 - (بابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ والشَّفَاعَةِ
فِيهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب التحريض على
الصَّدَقَة، وَبَيَان: ثَوَاب الشَّفَاعَة فِي الصَّدَقَة،
وَمعنى الشَّفَاعَة فِي الصَّدَقَة السُّؤَال والتقاضي
للإجابة.
1341 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا عَدِيٌّ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى
ركْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ مالَ
عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلالٌ فَوعَظَهُنَّ
وأمَرَهُنَّ أنْ يتَصَدَّقْنَ فجَعَلَتِ المَرْأَةُ
تُلْقِي القُلْبَ والخُرْصَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فوعظهن وأمرهن أَن
يتصدقن) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما وعظهن
بمواعظ حرضهن فِيهَا أَيْضا على الصَّدَقَة، وَقد مضى
الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الْخطْبَة
بعد الْعِيد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سُلَيْمَان بن
حَرْب عَن شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت ... إِلَى آخِره،
وَبَين متنيهما بعض التَّفَاوُت، وَقد مضى الْكَلَام
فِيهِ.
قَوْله: (الْقلب) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون اللَّام وَفِي
آخِره بَاء مُوَحدَة، وَهُوَ: السوار، وَقيل: هُوَ
مَخْصُوص بِمَا كَانَ من عظم (والخرص) ، بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة:
الْحلقَة.
2341 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا أبُو بُرْدَةَ بنُ عَبْدِ
الله بن أبِي بُرْدَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو بُرْدَةَ بنُ
أبِي مُوسى عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ
كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا جاءَهُ
السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حاجَةٌ قَالَ اشْفَعُوا
تُؤْجَرُوا ويَقْضِي الله عَلى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَا شَاءَ.
.
(8/298)
مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة فِي
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشفعوا) حِين يَجِيء
سَائل أَو طَالب حَاجَة. .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
الْمنْقري تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن
زِيَاد. الثَّالِث: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: اسْمه بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح
الرَّاء: ابْن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ. الرَّابِع: أَبُو بردة أَيْضا، بِضَم
الْبَاء: اسْمه عَامر، وَقيل: الْحَارِث. الْخَامِس: أَبُو
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَبُو بردة الأول الَّذِي اسْمه بريد يرْوى عَن
جده أبي بردة الَّذِي اسْمه عَامر أَو حَارِث وَهُوَ يروي
عَن أَبِيه عبد الله بن قيس وَفِيه الرِّوَايَة عَن الْأَب
وَعَن الْجد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَعبد الْوَاحِد بصريان
والبقية كوفيون. وَفِيه: المكنى بِأبي بردة اثْنَان وهما
الْأَب وجده كل مِنْهُمَا كنيته أَبُو بردة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْأَدَب وَفِي التَّوْحِيد عَن أبي كريب عَن
أبي أُسَامَة وَعَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي بكر عَن
عَليّ بن مسْهر وَحَفْص بن غياث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُسَدّد وَفِي السّنة عَن أبي معمر. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن الْحسن بن عَليّ الْحَلَال
ومحمود بن غيلَان وَغير وَاحِد، كلهم عَن أبي أُسَامَة
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن
بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَو طلبت) على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (اشفعوا) ، وَفِي رِوَايَة أبي
الْحسن: (شفعوا) ، بِحَذْف الْألف ليشفع بَعْضكُم فِي بعض
يكن لكم الْأجر فِي ذَلِك، وأنكم إِذا شفعتم إِلَيّ فِي حق
طَالب الْحَاجة فَقضيت حَاجته بِمَا يقْضِي الله على لساني
فِي تَحْصِيل حَاجته حصل للسَّائِل الْمَقْصُود، وَلكم
الْأجر، والشفاعة مرغب فِيهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا، قَالَ
تَعَالَى: {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب
مِنْهَا} (النِّسَاء: 58) . قَوْله: (وَيَقْضِي الله على
لِسَان نبيه مَا شَاءَ) ، بَيَان أَن السَّاعِي مأجور على
كل حَال، وَإِن خَابَ سَعْيه، قَالَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (وَالله فِي عون العَبْد مَا كَانَ
العَبْد فِي عون أَخِيه) . وَلَا يَأْبَى كَبِير أَن يشفع
عِنْد صَغِير فَإِن شفع عِنْده وَلم يقضها لَهُ لَا
يَنْبَغِي لَهُ أَن يُؤْذِي الشافع، فقد شفع رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد بُرَيْدَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، لِترد زَوجهَا فَأَبت.
3341 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قَالَ أخبرنَا
عبْدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ فَاطِمَةَ عنْ أسْمَاءَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ لِيَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى لِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الإيكاء، وَهُوَ لَا يفعل
إلاَّ للإدخار، فَكَانَ الْمَعْنى: لَا تدخري وتصدقي.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: صَدَقَة بن الْفضل أَبُو
الْفضل، مر فِي: بَاب الْعلم. الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح
الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير. الرَّابِع:
فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير. الْخَامِس: أَسمَاء بنت
أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع
وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن شَيْخه مروزي وَعَبدَة كُوفِي والبقية مدنيون. وَفِيه:
رِوَايَة التابعية عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَفِي الْهِبَة عَن عبيد
الله ابْن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن
آدم وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن هناد عَن عَبدة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا توكي) من أوكى يوكي إيكاءً،
يُقَال: أوكى مَا فِي سقائه إِذا شده بالوكاء، وَهُوَ
الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة، وأوكى علينا
أَي: بخل. وَفِي (التَّلْوِيح) قَوْله: (لَا توكي) أَي:
لَا تدخري وتمنعي مَا فِي يدك. قلت: هَذَا لَيْسَ بتفسيره
لُغَة، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَا توكي للادخار. قَوْله:
(فيوكى عَلَيْك) بِفَتْح الْكَاف: فيوكى، على صِيغَة
الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة مُسلم (فيوكي الله عَلَيْك) ،
وَالْمعْنَى: لَا توكي مَالك عَن الصَّدَقَة خشيَة نفاده
فيوكي الله عَلَيْك أَو يمنعك وَيقطع مَادَّة الرزق عَنْك.
(8/299)
فَدلَّ الحَدِيث على أَن الصَّدَقَة تنمي
المَال وَتَكون سَببا إِلَى الْبركَة وَالزِّيَادَة فِيهِ
وَأَن من شح وَلم يتَصَدَّق فَإِن الله يوكي عَلَيْهِ
ويمنعه من الْبركَة فِي مَاله والنماء فِيهِ.
حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ عنْ عَبْدَةَ وَقَالَ
لَا تُحْصَى فَيُحْصِيَ الله عَلَيْكِ
هَذَا طَرِيق آخر عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن عَبدة
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَالظَّاهِر أَن عَبدة روى
الحَدِيث باللفظين أَحدهمَا: (لَا توكي فيوكى عَلَيْك) ،
وَالْآخر: (لَا تحصى فيحصي الله عَلَيْك) ، وروى
النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام
باللفظين مَعًا، وَسَيَأْتِي فِي الْهِبَة عِنْد
البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن نمير عَن هِشَام باللفظين،
لَكِن لَفظه: لَا توعي، بِعَين مُهْملَة بدل: لَا توكى،
من: أوعيت الْمَتَاع فِي الْوِعَاء أوعيه، إِذا جعلته
فِيهِ. ووعيت الشَّيْء حفظته. قَوْله: (لَا تحصى) من
الإحصاء، وَهُوَ معرفَة قدر الشَّيْء أَو وَزنه أَو عدده،
وَهَذَا مُقَابلَة اللَّفْظ بِاللَّفْظِ، وتجنيس الْكَلَام
فِي مثله فِي جَوَابه أَي: يمنعك كَمَا منعت، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} (آل عمرَان: 45) . وَقيل:
مَعْنَاهُ لَا تحصي مَا تُعْطِي فتستكثريه فَيكون سَببا
لانقطاعه. وَقيل: قد يُرَاد بالإحصاء والوعي عَنَّا عده
خوف أَن تَزُول الْبركَة مِنْهُ، كَمَا قَالَت عَائِشَة:
حَتَّى كلناه، ففني. وَقيل: إِن عَائِشَة عددت مَا أنفقته
فَنَهَاهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن
ذَلِك.
22 - (بابُ الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تنبغي
فِي قدر مَا اسْتَطَاعَ الْمُتَصَدّق.
4341 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ وحدَّثني
محَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عنْ حَجَّاجِ بنِ
مُحَمَّدٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ. قَالَ أَخْبرنِي ابنُ أبِي
مُلَيْكَةَ عنْ عَبَّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ
أخْبَرَهُ عنْ أسْمَاءَ بنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُما أنَّهَا جاءَتْ إلَى النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لاَ تُوعِى فَيُوعِيَ الله
عَلَيْكِ ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ارضخي مَا اسْتَطَعْت)
.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك
بن مخلد. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم. الرَّابِع: حجاج بن
مُحَمَّد الْأَعْوَر. الْخَامِس: عبد الله بن أبي مليكَة،
بِضَم الْمِيم. السَّادِس: عباد بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله
بن الزبير بن الْعَوام من سَادَات التَّابِعين. السَّابِع:
أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
صِيغَة الْإِخْبَار عَن مَاض مُفْرد فِي موضِعين. وَفِيه:
العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من
أَفْرَاده، وَأَنه بغدادي وَابْن جريج مكي وحجاج ابْن
مُحَمَّد ترمذي سكن المصيصة وَابْن أبي مليكَة وَعباد
مكيان. . وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الزَّكَاة وَالْهِبَة عَن أبي عَاصِم. وَأخرجه
مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَهَارُون بن
عبد الله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي عشرَة
النِّسَاء عَن الْحسن بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا توعي) خطاب لأسماء، وَقد مر
تَفْسِيره آنِفا. قَوْله: (فيوعَي) ، بِضَم الْيَاء وَكسر
الْعين وَنصب الْيَاء: لِأَنَّهُ جَوَاب النَّهْي
بِالْفَاءِ، وَإِسْنَاده إِلَى الله تَعَالَى مجَاز عَن
الْإِمْسَاك. فَإِن قلت: مَا معنى النَّهْي إِذْ لَيْسَ
الإيعاء حَرَامًا؟ قلت: لَازمه وَهُوَ الْإِمْسَاك حرَام
أَو النَّهْي لَيْسَ للتَّحْرِيم بِالْإِجْمَاع. قَالَ
التَّيْمِيّ: المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْإِمْسَاك
وَالْبخل وَجمع الْمَتَاع فِي الْوِعَاء وشده وَترك
الْإِنْفَاق مِنْهُ. قَوْله: (ارضخي) من الرضخ بالضاد
وَالْخَاء المعجمتين وَهُوَ الْعَطاء لَيْسَ بالكثير
وَألف: ارضخي، ألف وصل. قَوْله: (مَا اسْتَطَعْت) أَي: مَا
دمت مستطيعة قادرة على الرضخ، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
مَعْنَاهُ الَّذِي استطعته أَو
(8/300)
شَيْئا استطعته، فَمَا: موصوله. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ مِمَّا يرضى بِهِ الزبير، وَهُوَ
زَوجهَا، وَتَقْدِيره: إِن لَك فِي الرضخ مَرَاتِب وَكلهَا
يرضاها الزبير فافعلي أَعْلَاهَا، وَالله أعلم.
32 - (بابٌ الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّدَقَة تكفر الْخَطِيئَة،
فباب منون، وَالصَّدَََقَة مُبْتَدأ، وتكفر الْخَطِيئَة،
خَبره، وَيجوز بِإِضَافَة الْبَاب إِلَى الصَّدَقَة،
تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة تكفر
الْخَطِيئَة.
5341 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ
الأعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ أيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عنِ الفِتْنَةِ قَالَ قُلْتُ أَنا
أحْفَظُهُ كَما قَالَ إنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرىءٌ فَكَيْفَ
قَالَ قُلْتُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ وَوَلَدِهِ
وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ
والمَعْرُوفُ. قَالَ سُلَيْمَانُ قَدْ كانَ يَقُولُ
الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ والأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيُ عنِ المُنْكَرِ قَالَ لَيْسَ هاذِهِ أُرِيدُ
وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ
قَالَ قُلْتُ لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أمِيرَ
المُؤْمِنِينَ بأْسٌ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا بابٌ مُغْلَقٌ
قَالَ فَيُكْسَرُ البَابُ أوْ يُفْتَحُ قَالَ قُلْتُ لاَ
بَلْ يُكْسَرُ قَالَ فإنَّهُ إذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقُ
أبَدا قَالَ قُلْتُ أجَلْ فَهِبْنَا أنْ نَسْألَهُ مَنِ
البَابُ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ سَلْهُ قَالَ فَسَألَهُ
فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قُلْنَا
فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي قَالَ نَعَمْ كَما أنَّ
دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذالِكَ أنِّي حَدَّثْتُهُ حدِيثا
لَيْسَ بالأغَالِيظِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فتْنَة الرجل) إِلَى
قَوْله: (وَالْمَعْرُوف) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وقتيبة بن سعيد، وَجَرِير،
بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش
سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. وَقد مضى
الحَدِيث فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة
كَفَّارَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى
عَن الْأَعْمَش، إِلَى آخِره، وَبَينهمَا تفَاوت يسير،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (الجريء) من الجراءة، قَالَ ابْن بطال: إِنَّك
لجريء أَي: إِنَّك لَكُنْت كثير السُّؤَال عَن الْفِتْنَة
فِي أَيَّامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنت الْيَوْم
جرىء على ذكره عَالم بِهِ. قَوْله: (وَالْمَعْرُوف) ، أَي:
الْخَيْر، وَهُوَ تَعْمِيم بعد تَخْصِيص. قَوْله: (قَالَ
سُلَيْمَان) يَعْنِي: الْأَعْمَش الْمَذْكُور فِي
السَّنَد. قَوْله: (قد كَانَ يَقُول) أَي: قد كَانَ يَقُول
أَبُو وَائِل فِي بعض الْأَوْقَات بدل (الْمَعْرُوف)
(الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر) .
قَوْله: (قَالَ لَيْسَ هَذِه) أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: لَيْسَ هَذِه الْفِتْنَة أريدها. قَوْله:
(أُرِيد الَّتِي) أَي: الْفِتْنَة الَّتِي. قَوْله:
(قَالَ: قلت) أَي: قَالَ حُذَيْفَة: قلت. قَوْله: (بهَا) ،
ويروى: (فِيهَا) أَي: فِي الْفِتْنَة. قَوْله: (لَا بَأْس)
، مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: لَيْسَ، قَوْله: (فيكسر
الْبَاب أَو يفتح) ، ويروى: (أم تفتح) ، أَشَارَ بِهِ
إِلَى مَوته بِدُونِ الْقَتْل، كَانَ يَرْجُو أَن
الْفِتْنَة، وَإِن بَدَت تسكن أَي: كَانَ ذَلِك بِسَبَب
مَوته دون قَتله، وَأما إِن ظهر بِسَبَب قَتله فَلَا تسكن
أبدا. قَوْله: (بل يكسر) ، وَأَشَارَ حُذَيْفَة بِهَذِهِ
اللَّفْظَة إِلَى قتل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (قَالَ: فَإِنَّهُ) أَي: قَالَ عمر: فَإِن الْبَاب
إِذا كسر لم يغلق أبدا، وَأَشَارَ بِهِ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، إِلَى أَنه إِذا قتل ظَهرت الْفِتَن فَلَا
تسكن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانَ كَمَا قَالَ،
لِأَنَّهُ كَانَ سدا أَو بَابا دون الْفِتْنَة، فَلَمَّا
قتل كثرت الْفِتْنَة. وَعلم عمر أَنه الْبَاب. قَوْله:
(فهبنا) ، بِكَسْر الْهَاء أَي: خفنا أَن نسْأَل
حُذَيْفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ حُذَيْفَة
مهيبا، فهاب أَصْحَابه أَن يسألوه مَن الْبَاب؟ يَعْنِي:
مَن المُرَاد بِالْبَابِ؟ وَكَانَ مَسْرُوق أجرأ على
سُؤَاله لِكَثْرَة علمه وعلو مَنْزِلَته، فَسَأَلَهُ،
فَقَالَ: هُوَ عمر، أَي: الْبَاب الَّذِي كني بِهِ عَنهُ،
ثمَّ قَالُوا: فَعلم عمر من تَعْنِي؟ أَي: من تقصد من
الْبَاب؟ قَالَ حُذَيْفَة: نعم علم علما لَا شكّ فِيهِ،
كَمَا أَن دون غَد لَيْلَة، يَعْنِي: كَمَا لَا شكّ أَن
الْيَوْم الَّذِي أَنْت فِيهِ يسْبق الْغَد الَّذِي
يَأْتِي بعْدهَا. قَوْله: (لَيْلَة) ، بِالنّصب اسْم: إِن
و: (دون غَد) خَبره، ثمَّ علل ذَلِك بقوله: (وَذَلِكَ
أَنِّي حدثته) أَي: حدثت عمر بِحَدِيث وَاضح لَا شُبْهَة
فِيهِ عَن مَعْدن الصدْق وَرَأس الْعلم، وَهُوَ معنى
قَوْله: (حَدِيثا لَيْسَ بالأغاليط)
(8/301)
وَهُوَ جمع أغلوطة، وَهِي مَا يغلط بِهِ
عَن الشَّارِع، وَنهى الشَّارِع عَن الأغلوطات، وَهَذَا
مِنْهُ. وَقَالَ ابْن قرقول: الأغاليط. صعاب الْمسَائِل
ودقاق النَّوَازِل الَّتِي يغلط فِيهَا. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: لَيْسَ بالأغاليط لَيْسَ بالصغير من الْأَمر
واليسير الرزية.
وَفِيه: من الْفَوَائِد: ضرب الْأَمْثَال فِي الْعلم
وَالْحجّة لسد الذرائع. وَفِيه: قد يكون عِنْد الصَّغِير
من الْعلم مَا لَيْسَ عِنْد الْعَالم المبرز. وَفِيه: أَن
الْعَالم قد يرمز بِهِ رمزا ليفهم المرموز لَهُ دون غَيره،
لِأَنَّهُ لَيْسَ كل الْعلم تَحت إِبَاحَته إِلَى من
لَيْسَ بمتفهم لَهُ وَلَا عَالم بِمَعْنَاهُ. وَفِيه: أَن
الْكَلَام فِي الجريان مُبَاح إِذا كَانَ فِيهِ أثر عَن
النُّبُوَّة، وَمَا سوى ذَلِك مَمْنُوع، لِأَنَّهُ لَا
يصدق مِنْهُ إلاَّ أقل من عشر الْعشْر، كَمَا قَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: تِلْكَ الْكَلِمَة من الْحق يحفظها
الجني فيضيف إِلَيْهَا أَزِيد من مائَة كذبة، وَالله أعلم.
42 - (بابُ مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أسْلَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من تصدق فِي حَالَة
الشّرك، ثمَّ أسلم وَلم يذكر الْجَواب. قيل: لقُوَّة
الِاخْتِلَاف فِيهِ، تَقْدِيره: ثمَّ أسلم هَل يعْتد لَهُ
بِثَوَاب تِلْكَ الصَّدَقَة بعد الْإِسْلَام أم لَا؟ قلت:
إِنَّمَا لم يذكر الْجَواب اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث،
وَالْجَوَاب أَنه: يعْتد بِهِ.
6341 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ
عُرْوَةَ عنْ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ أشْيَاءَ
كُنْتُ أتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ
أوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أجْرٍ
فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْلَمْتَ عَلَى
مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أسلمت على مَا سلف من
خير) ، وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) أَن هَذَا الحَدِيث
كَذَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب من كتاب الزَّكَاة فِيمَا
رَأَيْت من النّسخ، وَفِيه أَيْضا ذكره صَاحب
الْمُسْتَخْرج، وَزعم شَيخنَا أَبُو الْحجَّاج فِي كِتَابه
(الْأَطْرَاف) تبعا لأبي مَسْعُود وَخلف أَن البُخَارِيّ
خرجه بِهَذَا السَّنَد فِي كتاب الصَّلَاة، وَلم يذكرُوا
تَخْرِيجه لَهُ هُنَا فَينْظر.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن
عبد الله أَبُو جَعْفَر المسندي. الثَّانِي: هِشَام بن
يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن، قَاضِي صنعاء. الثَّالِث:
معمر بن رَاشد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
السَّادِس: حَكِيم بن حزَام بن خويلد الْأَسدي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَشَيخ شَيْخه يماني
وَهُوَ من أَفْرَاده وَمعمر بَصرِي وَالزهْرِيّ وَعُرْوَة
مدنيان. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى أَبِيه
فَقَط، وَالزهْرِيّ إِلَى قبيلته، وَالثَّلَاثَة مجردون.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْبيُوع، وَفِي الْأَدَب عَن أبي الْيَمَان،
وَفِي الْعتْق عَن عبيد الله ابْن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه
مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن الْحسن
بن عَليّ وَعبد بن حميد وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَعبد بن حميد وَعَن أبي بكر عَن عبد الله بن نمير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي عَن
حكم أَشْيَاء كنت أَتَعبد بهَا قبل الْإِسْلَام مثل مَا
حمل مائَة بعير واعتق مائَة رَقَبَة. قَوْله: (أتحنث)
بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي: أَتَقَرَّب، وَقَالَ ابْن
قرقول: كنت أتحنث بتاء مثناة، رَوَاهُ الْمروزِي فِي: بَاب
من وصل رَحمَه، وَهُوَ غلط من جِهَة الْمَعْنى. وَأما
الرِّوَايَة فصحيحة، وَالوهم فِيهِ من شُيُوخ البُخَارِيّ
بِدَلِيل قَول البُخَارِيّ، وَيُقَال، أَي عَن أبي
الْيَمَان: أتحنث أَو أتحنت على الشَّك، وَالصَّحِيح
الَّذِي هُوَ رِوَايَة الْعَامَّة بثاء مُثَلّثَة، وَعَن
عِيَاض بالثاء الْمُثَنَّاة غلط من جِهَة الْمَعْنى،
وَيحْتَمل أَن يكون لَهَا معنى، وَهُوَ: الْحَانُوت، لِأَن
الْعَرَب كَانَت تسمي بيُوت الحمارين الحوانيت، يَعْنِي
كنت أتحنت حوانيتهم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: التحنت
التَّعَبُّد كَمَا فسره فِي الحَدِيث، وَفَسرهُ فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى
(8/302)
بالتبرر، وَهُوَ فعل الْبر، وَهُوَ
الطَّاعَة. وَقَالَ أهل اللُّغَة: أصل التحنث أَن يفعل
فعلا يخرج بِهِ من الْحِنْث وَهُوَ الْإِثْم، وَكَذَا تأثم
وتحرج وتهجد، أَي: فعل فعلا يخرج عَن الْإِثْم والحرج
والهجود. قَوْله: (من صَدَقَة) كلمة من، بَيَانِيَّة.
قَوْله: (أَو عتاقة) وَهُوَ أَنه أعتق مائَة رَقَبَة فِي
الْجَاهِلِيَّة وَحمل على مائَة بعير، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (على مَا سلف) ، أَي: على اكْتِسَاب مَا سلف لَك
من خير أَو على احتسابه، أَو على قبُول مَا سلف، وَرُوِيَ
أَن حَسَنَات الْكَافِر إِذا ختم لَهُ بِالْإِسْلَامِ
مَقْبُولَة أَو تحسب لَهُ، فَإِن مَاتَ على كفره بَطل
عمله. قَالَ تَعَالَى: {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط
عمله} (الْمَائِدَة: 5) . وَقَالَ الْمَازرِيّ: اخْتلف فِي
قَوْله: (أسلمت على مَا سلف من خير) ، ظَاهره خلاف مَا
يَقْتَضِيهِ الْأُصُول، لِأَن الْكَافِر لَا تصح مِنْهُ
قربَة فَيكون مثابا على طَاعَته، وَيصِح أَن يكون مُطيعًا
غير متقرب كَنَظِيرِهِ فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُ مُطِيع
من حَيْثُ كَانَ مُوَافقا لِلْأَمْرِ وَالطَّاعَة عندنَا
مُوَافقَة لِلْأَمْرِ، وَيصِح أَن يكون مُطيعًا غير متقرب
كَنَظِيرِهِ فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُ مُطِيع من حَيْثُ
كَانَ مُوَافقا لِلْأَمْرِ وَالطَّاعَة عندنَا مُوَافقَة
لِلْأَمْرِ، وَلكنه لَا يكون متقربا، لِأَن من شَرط
التَّقَرُّب أَن يكون عَارِفًا بالمتقرب إِلَيْهِ، وَهُوَ
فِي حِين نظره لم يحصل لَهُ الْعلم بِاللَّه تَعَالَى بعد.
فَإِذا قرر هَذَا فَاعْلَم أَن الحَدِيث متأول، وَهُوَ
يحْتَمل وُجُوهًا.
أَحدهَا: أَن يكون الْمَعْنى: أَنَّك اكْتسبت طباعا جميلَة
وَأَنت تنْتَفع بِتِلْكَ الطباع فِي الْإِسْلَام، وَتَكون
تِلْكَ الْعَادة تمهيدا لَك ومعونة على فعل الْخَيْر
والطاعات. الثَّانِي: مَعْنَاهُ: اكْتسبت بذلك ثَنَاء
جميلاً فَهُوَ بَاقٍ عَلَيْك فِي الْإِسْلَام. الثَّالِث:
أَن لَا يبعد أَن يُزَاد فِي حَسَنَاته الَّتِي يَفْعَلهَا
فِي الْإِسْلَام وَيكثر أجره لما تقدم لَهُ من الْأَفْعَال
الجميلة، وَقد قَالُوا فِي الْكَافِر: إِذا كَانَ يفعل
الْخَيْر فَإِنَّهُ يُخَفف عَنهُ بِهِ، فَلَا يبعد أَن
يُزَاد هَذَا فِي الأجور.
وَقَالَ عِيَاض، وَقيل: مَعْنَاهُ ببركة مَا سبق لَك من
خير هداك الله تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَام، فَإِن من ظهر
فِيهِ خير فِي أول أمره فَهُوَ دَلِيل على سَعَادَة أخراه
وَحسن عاقبته. وَذهب ابْن بطال وَغَيره من الْمُحَقِّقين
إِلَى أَن الحَدِيث على ظَاهره وَأَنه إِذا أسلم الْكَافِر
وَمَات على الْإِسْلَام يُثَاب على فعله من الْخَيْر فِي
حَال الْكفْر، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أذا أسلم الْكَافِر
فَحسن إِسْلَامه كتب الله لَهُ حَسَنَة زلفها، ومحا عَنهُ
كل سَيِّئَة كَانَ زلفها، وَكَانَ عمله بعد ذَلِك
الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف،
والسيئة بِمِثْلِهَا إلاَّ أَن يتَجَاوَز الله تَعَالَى) ،
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غَرِيب حَدِيث مَالك) ،
وَرَوَاهُ عَنهُ من تسع طرق وَثَبت فِيهَا كلهَا أَن
الْكَافِر إِذا حسن إِسْلَامه يكْتب لَهُ فِي الْإِسْلَام
كل حَسَنَة عَملهَا فِي الشّرك، وَقَالَ ابْن بطال، بعد
ذكر هَذَا الحَدِيث: وَللَّه تَعَالَى أَن يتفضل على عباده
مَا شَاءَ، لَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحكيم بن حزَام: أسلمت على مَا
أسفلت من خير. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: مَعْنَاهُ كل
مُشْرك أسلم أَنه يكْتب لَهُ كل خير عمله قبل إِسْلَامه
وَلَا يكْتب عَلَيْهِ من سيئاته شَيْء، لِأَن الْإِسْلَام
يهدم مَا قبله، وَإِنَّمَا كتب لَهُ بِهِ الْخَيْر
لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى، لأَنهم
كَانُوا مقرين بالربوبية، إلاَّ أَن عَمَلهم كَانَ مردودا
عَلَيْهِم لَو مَاتُوا على شركهم، فَلَمَّا أَسْلمُوا تفضل
الله عَلَيْهِم فَكتب لَهُم الْحَسَنَات ومحا عَنْهُم
السَّيِّئَات، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ. .) وَفِيه، وَهُوَ
الثَّالِث: (وَرجل من أهل الْكتاب آمن بِنَبِيِّهِ وآمن
بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَالَ الْمُهلب:
وَلَعَلَّ حكيما لَو مَاتَ على جاهليته أَن يكون مِمَّن
يُخَفف عَنهُ من عَذَاب النَّار، كَمَا حُكيَ فِي أبي
طَالب وَأبي لَهب. انْتهى. وَهَذَانِ لَا يُقَاس
عَلَيْهِمَا لخصوصيتهما.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقيل: إِن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، ورى عَن جَوَابه فَإِنَّهُ سَأَلَهُ: هَل
لي فِيهَا أجر؟ يُرِيد ثَوَاب الْآخِرَة؟ وَمَعْلُوم أَنه
لَا ثَوَاب فِي الْآخِرَة لكَافِر، فَقَالَ لَهُ: أسلمت
على مَا سلف لَك من خير، وَالْعِتْق فعل خير، فَأَرَادَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّك قد فعلت خيرا
وَالْخَيْر يمدح فَاعله، وَقد يجازى عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا. وَذكر حَدِيث أنس من (صَحِيح مُسلم) عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أما
الْكَافِر فيطعم بحسناته فِي الدُّنْيَا، فَإِذا لَقِي
الله لم يكن لَهُ حَسَنَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: رُوِيَ أَن
حَسَنَات الْكَافِر إِذا ختم لَهُ بِالْإِسْلَامِ محتسبة
لَهُ، فَإِن مَاتَ على كفره كَانَت هدرا. وَقَالَ أَبُو
الْفرج: فَإِن صَحَّ هَذَا كَانَ الْمَعْنى: أسلمت على
قبُول مَا سلف لَك من خير. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
الْإِسْلَام إِذا حسن هدم مَا قبله من الآثام، وأحرز مَا
قبله من الْبر. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: معنى حَدِيث حَكِيم:
مَا تقدم لَك من الْخَيْر الَّذِي عملته هُوَ لَك، كَمَا
تَقول: أسلمت لَك على ألف دِرْهَم على أَن أحوزها لنَفْسي.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْحَرْبِيّ
هُوَ أشبههَا وأولاها، وَالله أعلم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقد يعْتد بعض أَفعَال الْكَافرين
فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، فقد قَالَ الْفُقَهَاء: إِذا
وَجب على الْكَافِر كَفَّارَة ظِهَار أَو غَيرهَا، فَكفر
فِي حَال كفره أَجزَأَهُ ذَلِك، وَإِذا أسلم لَا تجب
عَلَيْهِ إِعَادَتهَا. وَاخْتلف
(8/303)
أَصْحَاب الشَّافِعِي فيماإذا أجنب واغتسل
فِي حَال كفره، ثمَّ أسلم هَل يجب عَلَيْهِ إِعَادَة
الْغسْل أم لَا؟ وَبَالغ بَعضهم فَقَالَ: يَصح من كل
كَافِر كل طَهَارَة من غسل ووضوء وَتيَمّم إِذا أسلم صلى
بهَا. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: غسل الْكَافِر إِذا
أسلم مُسْتَحبّ إِن لم يكن جنبا، وَلم يغْتَسل، فَإِن
كَانَ جنبا وَلم يغْتَسل حَتَّى أسلم فَفِيهِ اخْتِلَاف
الْمَشَايِخ، وَالله أعلم.
52 - (بابُ أجْرِ الخَادِمِ إذَا تَصَدَّقَ بِأمْرِ
صاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر الْخَادِم، وَقد قُلْنَا
إِنَّه أَعم من الْمَمْلُوك وَغَيره. قَوْله: (بِأَمْر
صَاحبه) قيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا تصدق بِغَيْر إِذن صَاحبه
لَا يجوز. قَوْله: (غير مُفسد) ، أَي: حَال كَونه غير
مُفسد فِي صدقته، وَمعنى الْإِفْسَاد: الْإِنْفَاق بِوَجْه
لَا يحل.
7341 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ
عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا تَصَدَّقَتِ المَرْأةُ
مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كانَ لَهَا
أجْرُها ولِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ
ذالِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (غير مفْسدَة) . فَإِن
قلت: الحَدِيث فِي الْمَرْأَة إِذا تَصَدَّقت من مَال
زَوجهَا غير مفْسدَة، والترجمة فِي الْخَادِم؟ قلت: لفظ
الْخَادِم يتَنَاوَل الْمَرْأَة لِأَنَّهَا مِمَّن تخْدم
الزَّوْج، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب من أَمر
خادمه فِي الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن
سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة
عَن مَسْرُوق بن الأجدع عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى هُنَاكَ.
42 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء قَالَ حَدثنَا أَبُو
أُسَامَة عَن بريد بن عبد الله عَن أبي بردة عَن أبي
مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- قَالَ الخازن الْمُسلم الْأمين الَّذِي ينفذ وَرُبمَا
قَالَ يُعْطي مَا أَمر بِهِ كَامِلا موفرا طيب بِهِ نَفسه
فيدفعه إِلَى الَّذِي أَمر لَهُ بِهِ أحد المتصدقين)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " الخازن " إِلَى آخِره
لِأَن الْخَادِم يتَنَاوَل الخازن أَيْضا (ذكر رِجَاله)
وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب
الْهَمدَانِي. الثَّانِي أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن
أُسَامَة اللَّيْثِيّ. الثَّالِث بريد بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة ابْن عبد الله وكنيته أَبُو بردة وَقد مضى عَن
قريب. الرَّابِع أَبُو بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة
واسْمه عَامر أَو الْحَارِث وَقد مر أَيْضا. الْخَامِس
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبد الله بن قيس (ذكر
لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن
رُوَاته كلهم كوفيون وَفِيه رِوَايَة الرجل عَن جده وَفِيه
رِوَايَة الابْن عَن الْأَب (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه
غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوكَالَة عَن أبي
كريب عَن أبي أُسَامَة وَفِي الْإِجَارَة عَن مُحَمَّد بن
يُوسُف عَن سُفْيَان وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي
عَامر وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَمُحَمّد بن عبد
الله بن نمير أربعتهم عَن أبي أُسَامَة وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأبي كريب
كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن عبد الله بن الْهَيْثَم بن عُثْمَان (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " الخازن الْمُسلم " إِلَى آخِره قيد
فِيهِ قيودا. الأول أَن يكون خَازِنًا لِأَنَّهُ إِذا لم
يكن خَازِنًا لَا يجوز لَهُ أَن يتَصَدَّق من مَال
الْغَيْر. الثَّانِي أَن يكون مُسلما فَأخْرج بِهِ
الْكَافِر لِأَنَّهُ لَا نِيَّة لَهُ. الثَّالِث أَن يكون
أَمينا فَأخْرج بِهِ الخائن لِأَنَّهُ مأزور. الرَّابِع
أَن يكون منفذا أَي منفذا صَدَقَة الْآمِر وَهُوَ معنى
قَوْله الَّذِي ينفذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة إِمَّا من
الإنفاذ من بَاب الْأَفْعَال وَإِمَّا من التَّنْفِيذ من
بَاب التفعيل وَهُوَ الْإِمْضَاء مثل مَا أَمر بِهِ
الْآمِر ويروى يُعْطي بدل ينفذ. الْخَامِس أَن تكون نَفسه
بذلك طيبَة لِئَلَّا يعْدم النِّيَّة فيفقد الْأجر وَهُوَ
معنى قَوْله " طيب بِهِ نَفسه " فَقَوله " طيب " خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي وَهُوَ طيب النَّفس بِهِ أَو قَوْله
نَفسه مُبْتَدأ وَطيب خَبره مقدما وَقَالَ التَّمِيمِي روى
طيبَة بِهِ نَفسه على أَن يكون حَالا للخازن وَنَفسه
مَرْفُوع بقوله طيبَة. السَّادِس أَن يكون دَفعه
الصَّدَقَة إِلَى الَّذِي أَمر لَهُ بِهِ أَي إِلَى
الشَّخْص
(8/304)
الَّذِي أَمر الْآمِر لَهُ بِهِ أَي بِالدفع فَإِن دفع
إِلَى غَيره يكون مُخَالفا فَيخرج عَن الْأَمَانَة وَهَذِه
الْقُيُود شَرط لحُصُول هَذَا الثَّوَاب فَيَنْبَغِي أَن
يعتني بهَا ويحافظ عَلَيْهَا قَوْله " أحد المتصدقين "
مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْله "
الخازن " وَقد مر الْكَلَام فِي فَتْحة الْقَاف وكسرتها
وَقَالَ التَّيْمِيّ وَمعنى أحد المتصدقين أَن الَّذِي
يتَصَدَّق من مَاله يكون أجره مضاعفا أضعافا كَثِيرَة
وَالَّذِي ينفذهُ أجره غير مضاعف لَهُ عشر حَسَنَات فَقَط
وَقَالَ النَّوَوِيّ لَهُ أجر متصدق - |