عمدة القاري شرح صحيح البخاري

4 - (بابٌ لاَ يُعِينُ الْمُحْرِمُ الحَلاَلَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا يعين الْمحرم الْحَلَال بقول أَو فعل فِي قتل الصَّيْد، وَقَالَ بَعضهم: قيل: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على من فرق من أهل الرَّأْي بَين الْإِعَانَة الَّتِي لَا يتم الصَّيْد إلاَّ بهَا فَيحرم، وَبَين الْإِعَانَة الَّتِي يتم الصَّيْد بِدُونِهَا فَلَا يحرم. قلت: لَا وَجه لهَذَا الْكَلَام، لِأَن التَّرْجَمَة تَشْمَل كلا الْوَجْهَيْنِ.

3281 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ محَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا صَالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنْ أبِي مُحَمَّدٍ نافِعٍ موْلَى أبي قَتادَةَ سَمِعَ أبَا قَتادَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْقَاحَةِ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى ثَلاثٍ ح وحدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا صَالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنْ أبِي مُحَمَّدٍ عنْ أبِي قَتادَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْقاحَةِ ومِنَّا الْمُحْرِمُ ومِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِم فَرَأيْتُ أصْحَابِي يَتَراءَوْنَ شَيْئا فَنَظَرْتُ فإذَا حِمَارُ وَحْشٍ يَعْنِي وقَعَ سَوطُهُ فقالُوا لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشيءٍ إنَّا مُحْرِمُونَ فتَنَاوَلْتُهُ فأخَذْتُهُ ثُمَّ أتَيْتُ الحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أكَمَةٍ فَعَقَرْتُهُ فأتَيْتُ بِهِ لأصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَأكُلُوا فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ أمامَنَا فسَألْتُهُ فَقَالَ كُلُوهُ حَلالٌ قَالَ لَنا عَمْرٌ واذْهَبُوا إلَى صَالِحٍ فسَلُوهُ عنْ هَذَا وغَيْرِهِ وقَدِمَ علَيْنَا هَهُنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالُوا: لَا نعينك عَلَيْهِ بِشَيْء) . فَأخْرج هَذَا بطريقين أَحدهمَا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد أبي جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن صَالح بن كيسَان مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز عَن أبي مُحَمَّد نَافِع مولى أبي قَتَادَة الْمدنِي، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم عَن صَالح سَمِعت أَبَا مُحَمَّد مولى أبي قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من طَرِيق سعد

(10/171)


ابْن إِبْرَاهِيم: سَمِعت رجلا كَانَ يُقَال لَهُ مولى أبي قَتَادَة، وَلم يكن مولى لأبي قَتَادَة، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن عبد الله ابْن أبي سَلمَة أَن نَافِعًا مولى بني غفار، فَظهر من ذَلِك أَنه لم يكن مولى أبي قَتَادَة حَقِيقَة، وَقد صرح بذلك ابْن حبَان، فَقَالَ: هُوَ مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، وَكَانَ يُقَال لَهُ: مولى أبي قَتَادَة نسب إِلَيْهِ وَلم يكن مَوْلَاهُ. قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يكون وَجه ذَلِك أَنه قيل: مولى أبي قَتَادَة لِكَثْرَة لُزُومه إِيَّاه وقيامه بِقَضَاء مَا يهمه من بَاب الْخدمَة، كَأَنَّهُ صَار مَوْلَاهُ، فَتكون نسبته بِهَذَا الْوَجْه على سَبِيل الْمجَاز. وَقد وَقع مثل ذَلِك كثيرا، فَمِنْهُ مَا وَقع لقاسم مولى ابْن عَبَّاس. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان إِلَى آخِره. وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا حول المُصَنّف الْإِسْنَاد إِلَى رِوَايَة عَليّ للتصريح فِيهِ عَن سُفْيَان بقوله: حَدثنَا صَالح بن كيسَان. قلت: فِي كثير من النّسخ: حَدثنَا صَالح، فِي الطَّرِيقَيْنِ فَلَا يحْتَاج إِلَى مَا قَالَه.
قَوْله: (بالقاحة) ، بقاف وحاء مُهْملَة خَفِيفَة: على ثَلَاثَة مراحل من الْمَدِينَة قبل السقيا بِنَحْوِ ميل: قَالَ عِيَاض: كَذَا قَيده النَّاس كلهم، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن البُخَارِيّ بِالْفَاءِ وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب بِالْقَافِ، وَزعم ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي أَنَّهَا بفاء وجيم، ورد ذَلِك عَلَيْهِ ابْن هِشَام: قيل: وَقع عِنْد الجوزقي من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن سُفْيَان: بالصفاح، بدل: القاحة، بِكَسْر الصَّاد بعْدهَا فَاء، وَنسب ذَلِك إِلَى التَّصْحِيف لِأَن الصفاح مَوضِع بِالرَّوْحَاءِ وَبَين الروحاء وَبَين السقيا مَسَافَة طَوِيلَة وَقَالَ الْبكْرِيّ الروحاء قَرْيَة جَامِعَة لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا والسقيا أَيْضا قَرْيَة جَامِعَة. قَوْله: (على ثَلَاث) أَي: ثَلَاث مراحل. قَوْله: (يتراؤن) على وزن يتفاعون صِيغَة جمع مُذَكّر من الرُّؤْيَة. قَوْله: (فَإِذا حمَار وَحش) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة وحمار مُضَاف إِلَى وَحش. قَوْله: (يَعْنِي: وَقع سَوْطه) قَالَ الْكرْمَانِي: لفظ: يَعْنِي، كَلَام الرَّاوِي تَفْسِير لما يدل عَلَيْهِ: (لَا نعينك عَلَيْهِ) يَعْنِي: قَالُوا: لَا نعينك على أَخذ السَّوْط حِين وَقع سَوْطك. قلت: هَذَا التَّرْكِيب لَا يَتَّضِح إلاَّ بأَشْيَاء مقدرَة، تَقْدِيره: فَإِذا حمَار وَحش، فركبت فرسي وَأخذت الرمْح وَالسَّوْط، فَسقط مني السَّوْط، فَقلت ناولوني! فَقَالُوا: لَا نعينك عَلَيْهِ. وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ. قَوْله: (فتناولته فَأَخَذته) . قَوْله: (من وَرَاء أكمة) بِفَتَحَات، وَهِي التل من حجر وَاحِد. قَوْله: (أمامنا) أَي: قدامنا. قَوْله: (حَلَال) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ حَلَال، وَقد ظهر الْمُبْتَدَأ فِي رِوَايَة أبي عوَانَة. (فَقَالَ: كلوه فَهُوَ حَلَال) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (هُوَ حَلَال فكلوه) ، ويروى: (حَلَالا) ، بِالنّصب. فَإِن صحت الرِّوَايَة بِهِ فَهُوَ مَنْصُوب على أَنه صفة مصدر مَحْذُوف، أَي: أكلا حَلَالا. قَوْله: (قَالَ لنا عَمْرو) أَي: عَمْرو بن دِينَار، وَصرح بِهِ أَبُو عوَانَة فِي رِوَايَته، وَالْقَائِل سُفْيَان، وَالْغَرَض بذلك تَأْكِيد ضَبطه لَهُ وسماعه لَهُ من صَالح وَهُوَ ابْن كيسَان. قَوْله: (فسلوه) أَصله: فَاسْأَلُوهُ. قَوْله: (وَقدم علينا هَهُنَا) ، يَعْنِي: مَكَّة، وَمرَاده أَن صَالح بن كيسَان مدنِي قدم مَكَّة، فَدلَّ عَمْرو بن دِينَار أَصْحَابه عَلَيْهِ ليسمعوا مِنْهُ هَذَا وَغَيره.
وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْمسَائِل الفرعية، وَالِاخْتِلَاف فِيهَا.

5 - (بابٌ لاَ يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الحَلاَلُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يُشِير ... إِلَى آخِره، وَاللَّام فِي قَوْله: (لكَي) ، للتَّعْلِيل، وَلَفْظَة: كي، بِمَنْزِلَة: أَن، المصدرية معنى وَعَملا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ صِحَة حُلُول أَن محلهَا، وَأَنَّهَا لَو كَانَت حرف تَعْلِيل لم يدْخل عَلَيْهَا حرف تَعْلِيل، فَافْهَم.

4281 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ قَالَ حدَّثنا عُثْمَانُ هُوَ ابنُ مَوْهَبٍ قَالَ أخبرَنِي عَبْدُ الله بنُ أبي قَتادَةَ أنَّ أبَاهُ أخبرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ حَاجا فخَرَجُوا معَهُ فصَرَفَ طائِفةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أبُو قتَادَةَ فَقال خُذُوا ساحِلَ البَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ فأخذُوا ساحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أحْرَمُوا كُلُّهُمْ إلاَّ أبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رأَوْا حُمُرَ

(10/172)


وحْشٍ فَحَمَلَ أَبُو قَتادَةَ عَلَى الحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْها أَتَانَا فنَزَلُوا فأكلُوا مِنْ لَحْمِهَا وقالُوا أنأكُلُ لَحمَ صَيْدٍ ونَحْنُ محْرِمُونَ فحَمَلْنا مَا بَقِي مِنْ لَحمِ الأتانِ فلَمَّا أتَوْا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالُوا يَا رسولَ الله إنَّا كُنَّا أحْرَمْنَا وقَدْ كانَ أبُو قَتَادةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فحَمَلَ عَلَيْهَا أبُو قَتادَةَ فعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَا فنَزَلْنَا فأكلْنا منْ لَحْمِهَا ثُمَّ قُلْنَا أنأكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ ونَحْنُ مُحْرِمُونَ فحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا قَالَ أمِنْكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْها أوْ أشَارَ إلَيْهَا قَالُوا لاَ قَالَ فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو أَشَارَ إِلَيْهَا) ، وَالْمَفْهُوم مِنْهُ أَن إِشَارَة الْمحرم للْحَلَال إِلَى الصَّيْد ليصطاده لَا تجوز، فَلَو أَشَارَ لَهُ وَقتل صيدا لَا يجوز للْمحرمِ أَن يَأْكُل مِنْهُ، وَقد ذكرنَا مَا فِيهِ من الْخلاف. ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل هُوَ الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة بِالْفَتْح هُوَ الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَعُثْمَان هُوَ ابْن عبد الله بن وهب، بِفَتْح الْمِيم وَالْهَاء: الْأَعْرَج الطلحي، وَقد مر فِي أول الزَّكَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة بدل عُثْمَان: غَسَّان، وَهُوَ خطأ قطعا. قلت: هُوَ من الْكَاتِب، فَإِنَّهُ طمس الْمِيم فَصَارَ عُثْمَان غسانا، وَعُثْمَان هَذَا تَابِعِيّ ثِقَة، روى عَنَّا عَن تَابِعِيّ.
قَوْله: (خرج حَاجا) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا غلط، فَإِن الْقِصَّة كَانَت فِي عمْرَة، وَأما الْخُرُوج إِلَى الْحَج فَكَانَ فِي خلق كثير، وَكَانُوا كلهم على الجادة لَا على سَاحل الْبَحْر، وَلَعَلَّ الرَّاوِي أَرَادَ: خرج محرما فَعبر عَن الْإِحْرَام بِالْحَجِّ غَلطا. وَقَالَ بَعضهم: لَا غلط فِي ذَلِك، بل هُوَ من الْمجَاز السائغ، وَأَيْضًا فالحج فِي الأَصْل قصد الْبَيْت، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خرج قَاصِدا للبيت، وَلِهَذَا يُقَال للْعُمْرَة الْحَج الْأَصْغَر. قلت: لَا نسلم أَنه من الْمجَاز، فَإِن الْمجَاز لَا بُد لَهُ من علاقَة، وَمَا العلاقة هَهُنَا؟ وَكَون معنى الْحَج فِي الأَصْل قصدا لَا يكون علاقَة لجَوَاز ذكر الْحَج، وَإِرَادَة الْعمرَة، فَإِن كل فعل مُطلقًا لَا بُد فِيهِ من معنى الْقَصْد، ثمَّ أيد هَذَا الْقَائِل كَلَامه بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن أبي عوَانَة بِلَفْظ: (خرج حَاجا أَو مُعْتَمِرًا) . انْتهى. وَأَبُو عوَانَة شكّ، وبالشك لَا يثبت مَا ادَّعَاهُ من الْمجَاز، على أَن يحيى بن أبي كثير الَّذِي هُوَ أحد رُوَاة حَدِيث أبي قَتَادَة قد جزم بِأَن ذَلِك كَانَ فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (فيهم أَبُو قَتَادَة) ، من بَاب التَّجْرِيد، وَكَذَا قَوْله: (إلاَّ أَبُو قَتَادَة) ، لِأَن مُقْتَضى الْكَلَام أَن يُقَال: وَأَنا فيهم، وإلاَّ أَنا، وَلَا يَنْبَغِي إِن يَجْعَل هَذَا من قَول ابْن أبي قَتَادَة، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم أَن يكون الحَدِيث مُرْسلا. قَوْله: (إلاَّ أَبُو قَتَادَة) ، هَكَذَا هُوَ بِالرَّفْع عِنْد الْأَكْثَرين، وَعند الْكشميهني (إلاَّ أَبُو قَتَادَة) بِالنّصب، وَكَذَا وَقع عِنْد مُسلم بِالنّصب، وَقَالَ ابْن مَالك: حق الْمُسْتَثْنى بإلاَّ من كَلَام تَامّ مُوجب أَن ينصب مُفردا، كَانَ، أَو مكملاً مَعْنَاهُ بِمَا بعده، فالمفرد نَحْو قَوْله تَعَالَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إلاَّ الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 76) . والمكمل نَحْو: {إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ إلاَّ امرأَتَه قَدرنَا أَنَّهَا لمن الغابرين} (الْحجر: 95، 06) . وَلَا يعرف أَكثر المتأخيرن من الْبَصرِيين فِي هَذَا النَّوْع إلاَّ النصب، وَقد اغفلوا وُرُوده مَرْفُوعا مَعَ ثُبُوت الْخَبَر وَمَعَ حذفه، فَمن أَمْثِلَة الثَّابِت الْخَبَر قَول ابْن أبي قَتَادَة: (أَحْرمُوا كلهم إلاَّ أَبُو قَتَادَة لم يحرم) ، فإلاَّ بِمَعْنى: لَكِن، وَأَبُو قَتَادَة مُبْتَدأ، و: لم يحرم، خَبره، وَنَظِيره من كتاب الله تَعَالَى: {وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إلاَّ امْرَأَتك أَنه مصيبها مَا أَصَابَهُم} (هود: 18) . فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يَجْعَل: امْرَأَتك، بَدَلا من: أحد، لِأَنَّهَا لم تسر مَعَهم فيتضمنها ضمير المخاطبين، وتكلف بَعضهم بِأَنَّهُ، وَإِن لم يسر بهَا، لَكِنَّهَا شَعرت بِالْعَذَابِ فتبعتهم ثمَّ التفتت فَهَلَكت. قَالَ: وَهَذَا على تَقْدِير صِحَّته لَا يُوجب دُخُولهَا فِي المخاطبين، وَمن أَمْثِلَة الْمَحْذُوف الْخَبَر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل أمتِي معافىً إلاَّ المجاهرون) . أَي: لَكِن المجاهرون بِالْمَعَاصِي لَا يعافون، وَمِنْه من كتاب الله تَعَالَى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} (الْبَقَرَة: 942) . أَي: لَكِن قَلِيل مِنْهُم لم يشْربُوا، قَالَ: وللكوفيين فِي هَذَا الثَّانِي مَذْهَب آخر، وَهُوَ أَن يجْعَلُوا الأحرف عطف وَمَا بعْدهَا مَعْطُوفًا على مَا قبلهَا. انْتهى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو هُوَ، أَي: الرّفْع على مَذْهَب من جوز أَن يُقَال: عَليّ بن أَبُو طَالب. قَوْله: (حمر وَحش) ، الْحمر بِضَمَّتَيْنِ جمع: حمَار. قَوْله: (أَتَانَا) هَذَا بَين أَن المُرَاد بالحمار فِي سَائِر الرِّوَايَات الْأُنْثَى مِنْهُ. قَوْله: (فحملنا مَا بَقِي من لحم الأتان) ، وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم فِي: بَاب الْهِبَة، سَيَأْتِي: (فرحنا وخبأت الْعَضُد معي) ، وَفِيه: (مَعكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ فناولته الْعَضُد فَأكلهَا حَتَّى تعرقها) . وللبخاري أَيْضا فِي الْجِهَاد سَيَأْتِي: (مَعنا رجله، فَأخذ فَأكلهَا) . وَفِي رِوَايَة الْمطلب: (قد رفعنَا لَك الذِّرَاع، فَأكل مِنْهَا) . قَوْله: (مِنْكُم أحد أمره؟) أَي: أمنكم أحد أمره؟ أَي: أَمر

(10/173)


أَبَا قَتَادَة، ويروى: (أمنكم؟) بِإِظْهَار همزَة الِاسْتِفْهَام، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (هَل مِنْكُم أحد أمره أَو أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْء؟) وَلمُسلم فِي رِوَايَته من طَرِيق شُعْبَة عَن عُثْمَان: (هَل أشرتم أَو أعنتم أَو اضطررتم؟) وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من هَذَا الْوَجْه: (هَل أشرتم أَو اصطدتم أَو قتلتم؟) . قَوْله: (فَكُلُوا) ، قد ذكرنَا أَن الْأَمر للْإِبَاحَة لَا للْوُجُوب، وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أكل من لَحمهَا، وَذكره فِي روايتي أبي حَازِم عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة كَمَا ترَاهُ، وَلم يذكر ذَلِك من الروَاة عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة غَيره، وَوَافَقَهُ صَالح بن حسان عِنْد أَحْمد وَأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَأبي عوَانَة، وَلَفظه: (فَقَالَ: كلوا وأطعموا) . فَإِن قلت: روى إِسْحَاق وَابْن خُزَيْمَة وَالدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة معمر عَن يحيى بن أبي كثير هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: (فَذكرت شَأْنه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقلت: إِنَّمَا اصطدته لَك! فَأمر أَصْحَابه، فأكلوه وَلم يَأْكُل مِنْهُ حِين أخْبرته أَنِّي اصطدت لَهُ) . فَهَذِهِ الرِّوَايَة تضَاد روايتي أبي حَازِم. قلت: قَالَ ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو بكر النَّيْسَابُورِي وَالدَّارَقُطْنِيّ والجوزقي، تفرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة معمر، فَإِن كَانَت هَذِه الزِّيَادَة مَحْفُوظَة تحمل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل من لحم ذَلِك الْحمار قبل أَن يُعلمهُ أَبُو قَتَادَة أَنه اصطاده لأَجله، فَلَمَّا أعلمهُ بذلك امْتنع. فَإِن قلت: الرِّوَايَات متظاهرة بِأَن الَّذِي تَأَخّر من الْحمار هُوَ الْعَضُد، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكلهَا حَتَّى تغرقها، أَي: لم يبْق مِنْهَا إلاَّ الْعظم، وَوَقع للْبُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة، ستأتي: (حَتَّى نفدها) ، أَي فرغها) فَأَي شَيْء بَقِي مِنْهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَأْمر أَصْحَابه بِالْأَكْلِ؟ قلت: فِي رِوَايَة أبي مُحَمَّد فِي الصَّيْد ستأتي: (أُبْقِي مَعكُمْ شَيْء؟ قلت: نعم، فَقَالَ: كلوا فَهُوَ طعمة أطعمكموها الله) ، وَهَذَا يشْعر بِأَنَّهُ بَقِي مِنْهَا شَيْء غير الْعَضُد.
وَفِيه من الْفَوَائِد: تَفْرِيق الإِمَام أَصْحَابه للملحة، وَاسْتِعْمَال الطليعة فِي الْغَزْو. وَفِيه: جَوَاز صيد الْحمار الوحشي. وَجَوَاز أحكل الْمحرم من لحم الصَّيْد الَّذِي اصطاده الْحَلَال إِذا لم يدل عَلَيْهِ وَلم يشر إِلَيْهِ وَلم يَعْنِي صائده وَفِيه: أَن عقر الصَّيْد ذَكَاته. وَفِيه: جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اجْتِهَاد بِالْقربِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا فِي حَضرته، وَفِيه الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد، وَلَو تضَاد المجتهدان، وَلَا يعاب وَاحِد مِنْهُمَا على ذَلِك.

6 - (بابٌ إذَا أهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارا وَحْشِيا حَيّا لَمْ يَقْبَلْ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أهْدى الْحَلَال للْمحرمِ حمارا وحشيا. قَوْله: (حَيا) ، صفة لحِمَار بعد صفة، وَلَيْسَت هَذِه الصّفة بموجودة فِي أَكثر النّسخ، وَقَالَ بَعضهم: كَذَا قَيده فِي التَّرْجَمَة بِكَوْنِهِ حَيا، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الرِّوَايَة الَّتِي تدل على أَنه كَانَ مذبوحا موهومة. انْتهى. قلت: لم يذكر هَذَا الْقَيْد فِي حَدِيث الْبَاب صَرِيحًا، وَلَكِن قَوْله: (أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمارا وحشيا) ، يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْحمار حَيا، وَيحْتَمل أَن يكون مذبوحا، وَلَكِن مُسلما صرح فِي إِحْدَى رواياته عَن الزُّهْرِيّ: من لحم حمَار وَحش، وَفِي رِوَايَة مَنْصُور عَن الحكم: (أهْدى رجل حمَار وَحش) . وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَن الحكم: (عجز حمَار وَحش يقطر دَمًا) ، وَفِي رِوَايَة زيد بن أَرقم: أهدي لَهُ عُضْو من لحم صيد، وَهَذِه الرِّوَايَات كلهَا تدل على أَن الْحمار غير حَيّ، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الرِّوَايَة الَّتِي تدل على أَنه كَانَ مذبوحا موهومة. قَوْله: (لم يقبلْ) ، بِمَعْنى: لَا يقبل.
400 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن عبد الله بن عَبَّاس عَن الصعب بن جثامة اللَّيْثِيّ أَنه أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمارا وحشيا وَهُوَ بالأبواء أَو بودان فَرده عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجهه قَالَ إِنَّا لم نرده عَلَيْك إِلَّا أَنا حرم) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِلَى قَوْله " فَرده عَلَيْهِ ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي وَمَالك بن أنس وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب وَعبد الله بن عَبَّاس وَكلهمْ قد ذكرُوا غير مرّة. السَّادِس الصعب ضد السهل ابْن جثامة بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة

(10/174)


ابْن قيس اللَّيْثِيّ الْحِجَازِي أَخُو محلم بن جثامة مَاتَ فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ ينزل أَرض ودان بِأَرْض الْحجاز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَفِيه الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَهُوَ من مُسْند الصعب إِلَّا أَنه وَقع فِي موطأ ابْن وهب عَن ابْن عَبَّاس أَن الصعب بن جثامة أهْدى فَجعله من مُسْند ابْن عَبَّاس وَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أهْدى لَهُ الصعب وَكَذَا رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن أبي شيبَة وَعند مُسلم أَيْضا من حَدِيث طَاوس قَالَ قدم زيد بن أَرقم فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس يستذكره كَيفَ أَخْبَرتنِي عَن لحم صيد أهدي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ حرَام قَالَ أهدي لَهُ عضد من لحم صيد فَرده قَالَ إِنَّا لَا نأكله إِنَّا حرم " فَجعله من مُسْند طَاوس عَن زيد وَالْمَحْفُوظ هُوَ الأول وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْهِبَة للْبُخَارِيّ من بُخَارى من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي عبيد الله أَن ابْن عَبَّاس أخبرهُ أَنه سمع الصعب وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخبر أَنه أهْدى لَهُ وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَن ابْن شهَاب كَمَا رَوَاهُ مَالك وَمعمر وَابْن جريج وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث وَصَالح بن كيسَان وَابْن أخي ابْن شهَاب وَاللَّيْث وَيُونُس وَمُحَمّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة كلهم قَالَ فِيهِ " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمَار وَحش " كَمَا قَالَ مَالك وَخَالفهُم ابْن عُيَيْنَة وَابْن اسحق فَقَالَا " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحم حمَار وَحش " قَالَ ابْن جريج فِي حَدِيثه قلت لِابْنِ شهَاب الْحمار عقير قَالَ لَا أَدْرِي فقد بَين ابْن جريج أَن ابْن شهَاب شكّ فَلم يدر أَكَانَ عقيرا أم لَا إِلَّا أَن فِي مساق حَدِيثه " أهديت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمَار وَحش فَرده عَليّ " وروى القَاضِي إِسْمَاعِيل عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن صَالح بن كيسَان عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس " عَن الصعب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقبل حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد أهدي إِلَيْهِ بعض حمَار فَرده وَقَالَ إِنَّا حرم لَا نَأْكُل الصَّيْد " هَكَذَا قَالَ عَن صَالح عَن عبيد الله وَلم يذكر ابْن شهَاب وَقَالَ بعض حمَار وَحش وَعند حَمَّاد بن زيد فِي هَذَا أَيْضا عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس " عَن الصعب أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحِمَار وَحش " وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح عَن ابْن شهَاب كَمَا قدمنَا وَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ عِنْد أهل الْعلم وَقَالَ الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث مُضْطَرب قد رَوَاهُ قوم على مَا ذكرنَا وَالَّذِي ذكره هُوَ قَوْله حَدثنَا يُونُس قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عَبَّاس " عَن الصعب بن جثامة قَالَ مر بِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا بالأبواء أَو بودان فأهديت لحم حمَار وَحش فَرده عَليّ فَلَمَّا رأى الْكَرَاهَة فِي وَجْهي قَالَ لَيْسَ بِنَا رد عَلَيْك وَلَكنَّا حرم " قَالَ وَرَوَاهُ آخَرُونَ فَقَالُوا " إِنَّمَا أهْدى إِلَيْهِ حمارا وحشيا " ثمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ " أَن الْحمار كَانَ مذبوحا " وروى أَيْضا أَنه " كَانَ عجز حمَار وَحش أَو فَخذ حمَار " وروى أَيْضا " عجز حمَار وَحش وَهُوَ بِقديد يقطر دَمًا فَرده " ثمَّ قَالَ فقد اتّفقت الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس فِي حَدِيث الصعب عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي رده الْهَدِيَّة عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَت فِي لحم صيد غير حَيّ فَذَلِك حجَّة لمن كره للْمحرمِ أكل لحم الصَّيْد وَإِن كَانَ الَّذِي تولى صَيْده وذبحه حَلَال وَقَالَ ابْن بطال اخْتِلَاف رِوَايَات حَدِيث الصعب تدل على أَنَّهَا لم تكن قَضِيَّة وَاحِدَة وَإِنَّمَا كَانَت قضايا فَمرَّة أهْدى إِلَيْهِ الْحمار كُله وَمرَّة عَجزه وَمرَّة رجله لِأَن مثل هَذَا لَا يذهب على الروَاة ضَبطه حَتَّى يَقع فِيهِ التضاد فِي النَّقْل والقصة وَاحِدَة وَقَالَ الطَّبَرِيّ بوب البُخَارِيّ على هَذَا الحَدِيث وَفهم مِنْهُ الْحَيَاة وَالرِّوَايَات الْأُخَر تدل على أَنه كَانَ مَيتا وَأَنه أَتَاهُ بعضو مِنْهُ وَطَرِيق الْجمع أَنه جَاءَ بالحمار مَيتا فَوَضعه بِقرب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قطع مِنْهُ ذَلِك الْعُضْو فَأَتَاهُ بِهِ فَصدق اللفظان أَو يكون أطلق اسْم الْحمار وَهُوَ يُرِيد بعضه وَهَذَا من بَاب التَّوَسُّع وَالْمجَاز أَو نقُول أَن الْحمار كَانَ حَيا فَيكون قد أَتَاهُ بِهِ فَلَمَّا رده وَأقرهُ بِيَدِهِ ذكاه ثمَّ أَتَاهُ بالعضو الْمَذْكُور وَلَعَلَّ الصعب ظن أَنه إِنَّمَا رده لِمَعْنى يخص الْحمار بجملته فَلَمَّا جَاءَ بجزئه أعلمهُ بامتناعه أَن حكم الْجُزْء من الصَّيْد لَا يحل للْمحرمِ وقبوله وَلَا تملكه (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَعَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح ثَلَاثَتهمْ عَن

(10/175)


اللَّيْث وَعَن عمر بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار وَابْن أبي شيبَة. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأَصْل فِي أهْدى التَّعَدِّي بإلى وَقد تعدى بِاللَّامِ وَيكون بِمَعْنَاهُ قيل أَن يحْتَمل أَن تكون اللَّام بِمَعْنى أجل وَهُوَ ضَعِيف قَوْله " وَهُوَ بالأبواء " جملَة وَقعت حَالا والأبواء بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد جبل من عمل الْفَرْع بِضَم الْفَاء بَينهمَا وَبَين الْجحْفَة مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ميلًا وَفِي الْمطَالع سميت بذلك لما فِيهَا من الوباء وَلَو كَانَ كَمَا قيل لقيل الْأَبْوَاء أَو يكون مقلوبا مِنْهُ وَبِه توفيت أم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّحِيح أَنَّهَا سميت بذلك لتبوء السُّيُول بهَا قَالَه ثَابت قَوْله " أَو بودان " شكّ من الرَّاوِي وبالشك جزم أَكثر الروَاة وَجزم ابْن اسحق وَصَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ " بودان " وَجزم معمر وَعبد الرَّحْمَن بن اسحق وَمُحَمّد بن عَمْرو بالأبواء وَالظَّاهِر أَن الشَّك فِيهِ من ابْن عَبَّاس لِأَن الطَّبَرَانِيّ أخرج الحَدِيث من طَرِيق عَطاء عَنهُ على الشَّك أَيْضا وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون مَوضِع بِقرب الْجحْفَة وَيُقَال هُوَ قَرْيَة جَامِعَة من نَاحيَة الْفَرْع بَينه وَبَين الْأَبْوَاء ثَمَانِيَة أَمْيَال ينْسب إِلَيْهِ الصعب بن جثامة اللَّيْثِيّ الوداني وَفِي الْمطَالع هُوَ من عمل الْفَرْع بَينه وَبَين هرشي نَحْو سِتَّة أَمْيَال قَوْله " فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجهه " وَفِي رِوَايَة شُعَيْب " فَلَمَّا عرف فِي وَجْهي رده هديتي " وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عِنْد التِّرْمِذِيّ " فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجهه من الْكَرَاهَة " وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن جريج قَوْله " لم نردده عَلَيْك " هَذَا بفك الْإِدْغَام رِوَايَة الْكشميهني وَقَالَ عِيَاض ضَبطنَا فِي الرِّوَايَات لم نرده بِفَتْح الدَّال ورده محققوا شُيُوخنَا من أهل الْعَرَبيَّة وَقَالُوا لم نرده بِضَم الدَّال وَكَذَا وجدته بِخَط بعض الْأَشْيَاخ أَيْضا وَهُوَ الصَّوَاب عِنْدهم على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فِي مثل هَذَا فِي المضاعف إِذا دخله الْهَاء أَن يضم مَا قبلهَا فِي الْأَمر وَنَحْوه من المجزوم مُرَاعَاة للواو الَّتِي توجبها ضمة الْهَاء بعْدهَا لخفاء الْهَاء فَكَأَن مَا قبلهَا ولى الْوَاو وَلَا يكون مَا قبل الْوَاو إِلَّا مضموما هَذَا فِي الْمُذكر وَأما فِي الْمُؤَنَّث مثل لم تردها فمفتوح الدَّال مُرَاعَاة للألف (قلت) فِي مثل هَذِه الصِّيغَة قبل دُخُول الْهَاء عَلَيْهَا أَرْبَعَة أوجه الْفَتْح لِأَنَّهُ أخف الحركات وَالضَّم اتبَاعا لضمة عين الْفِعْل وَالْكَسْر لِأَنَّهُ الأَصْل فِي تَحْرِيك السَّاكِن والفك وَأما بعد دُخُول الْهَاء فَيجوز فِيهِ غير الْكسر قَوْله " إِلَّا أَنا حرم " بِفَتْح الْهمزَة فِي أَنا على أَنه تعدى إِلَيْهِ الْفِعْل بِحرف التَّعْلِيل فَكَأَنَّهُ قَالَ لأَنا وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي أَنا مكسور الْهمزَة لِأَنَّهَا ابتدائية وَقَالَ الْكرْمَانِي لَام التَّعْلِيل محذوفة والمستثنى مِنْهُ مُقَدّر أَي لَا نرده لعِلَّة من الْعِلَل إِلَّا لأننا حرم وَالْحرم بِضَمَّتَيْنِ جمع حرَام أَي محرمون وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من رِوَايَة صَالح بن كيسَان " إِلَّا أَنا حرم لَا نَأْكُل الصَّيْد " وَفِي رِوَايَة سعيد عَن ابْن عَبَّاس " لَوْلَا أَنا محرمون لقبلناه مِنْك ". (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) مِنْهُ أَنه احْتج بِهِ الشّعبِيّ وَطَاوُس وَمُجاهد وَجَابِر بن زيد وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَمَالك فِي رِوَايَة واسحق فِي رِوَايَة على أَن الْمحرم لَا يحل لَهُ أكل صيد ذبحه حَلَال قيل لِأَنَّهُ اقْتصر فِي التَّعْلِيل على كَونه محرما فَدلَّ على أَنه سَبَب الِامْتِنَاع خَاصَّة وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَقَالَ عَطاء فِي رِوَايَة وَسَعِيد ابْن جُبَير وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة الصَّيْد الَّذِي اصطاده الْحَلَال لَا يحرم على الْمحرم وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب قَالَ حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر " عَن معَاذ بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ عَن أَبِيه قَالَ كُنَّا مَعَ طَلْحَة بن عبيد الله وَنحن حرم فأهدى لَهُ طير وَطَلْحَة رَاقِد فمنا من أكل وَمنا من تورع فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَة وفْق من أكله قَالَ وأكلنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفْق من أكله " أَي دَعَا لَهُ بالتوفيق أَي قَالَ لَهُ وفقت أَي أصبت الْحق وَبِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة وَابْن مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث عَن عِيسَى بن طَلْحَة " عَن عُمَيْر بن سَلمَة عَن الْبَهْزِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج يُرِيد مَكَّة وَهُوَ محرم حَتَّى إِذا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ إِذا حمَار وَحش عقير فَذكر ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ دَعوه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يَأْتِي صَاحبه فجَاء الْبَهْزِي وَهُوَ صَاحبه فَقَالَ يَا رَسُول الله

(10/176)


شَأْنكُمْ بِهَذَا الْحمار فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَسمهُ بَين الرفاق ثمَّ مضى حَتَّى إِذا كَانَ بالأثاية بَين الرُّوَيْثَة وَالْعَرج إِذا ظَبْي حَاقِف فِي ظلّ وَفِيه سهم فَزعم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر رجلا يقف عِنْده لَا يرِيبهُ أحد من النَّاس حَتَّى يُجَاوِزُوهُ " ثمَّ قَالَ تَابعه يزِيد بن هَارُون عَن يحيى بِهِ وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا وَغَيره وصححوه وَأخرجه الطوسي أَيْضا محسنا وَفِيه " فَلم يلبث أَن جَاءَ رجل من طَيء فَقَالَ يَا رَسُول الله هَذِه رميتي فشأنك بهَا " وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَلَفظه " فَإِذا هُوَ بِحِمَار وَحش عقير فِيهِ سهم وَهُوَ حَيّ قد مَاتَ " وَلَفظه أَيْضا " إِذا هُوَ بِظَبْيٍ مستظل فِي حقف جبل فِيهِ سهم وَهُوَ حَيّ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرجل قف هَهُنَا لَا يرِيبهُ أحد حَتَّى يمْضِي الرفاق " قلت عُمَيْر بن سَلمَة لَهُ صُحْبَة والبهزي بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء بعْدهَا الزَّاي نِسْبَة إِلَى بهز هُوَ تيم بن امريء الْقَيْس بن بهتة بن سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان وَقَالَ أَبُو عمر اسْمه زيد بن كَعْب السّلمِيّ ثمَّ الْبَهْزِي. قَوْله بِالرَّوْحَاءِ هُوَ مَوضِع بَينه وَبَين الْمَدِينَة ميل وَفِي حَدِيث جَابر " إِذا أذن الْمُؤَذّن هرب الشَّيْطَان بِالرَّوْحَاءِ " وَهِي من الْمَدِينَة يكون ميلًا رَوَاهُ أَحْمد وَقَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي كتاب الْمَمْدُود والمقصور الروحاء مَوضِع على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة وَفِي الْمطَالع الروحاء من عمل الْفَرْع على نَحْو من أَرْبَعِينَ ميلًا وَفِي مُسلم على سِتَّة وَثَلَاثِينَ وَفِي كتاب ابْن أبي شيبَة على ثَلَاثِينَ. قَوْله " بالأثاية " بِفَتْح الْهمزَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة مَوضِع بطرِيق الْجحْفَة بَينه وَبَين الْمَدِينَة سَبْعَة وَسَبْعُونَ ميلًا وَرَوَاهُ بَعضهم بِكَسْر الْهمزَة وَبَعْضهمْ يَقُول الأثاثة بثاءين وَبَعْضهمْ الأثانة بالنُّون بعد الْألف وَالصَّوَاب بِالْفَتْح وَالْكَسْر والرويثة بِضَم الرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره هَاء وَهُوَ منزل بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَالْعَرج بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء وبالجيم قَرْيَة جَامِعَة من عمل الْفَرْع على نَحْو من ثَمَانِيَة وَسبعين ميلًا من الْمَدِينَة وَهُوَ أول تهَامَة. قَوْله " حَاقِف " أَي نَائِم قد انحنى فِي نَومه والحقف بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف مَا اعوج من الرمل واستطال وَيجمع على أحقاف قَوْله " لَا يرِيبهُ أحد " أَي لَا يتَعَرَّض لَهُ أحد ويزعجه وَأَصله من رَابَنِي الشَّيْء وأرابني إِذا شككني وَأَجَابُوا عَن حَدِيث الْبَاب بِمَا ذَكرْنَاهُ عَن الطَّحَاوِيّ عَن قريب وَقَالَ عَطاء فِي رِوَايَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد واسحق وَأَبُو ثَوْر الصَّيْد الَّذِي لأجل الْمحرم حرَام على الْمحرم لم يجز أكله وَمَا لم يصد من أَجله جَازَ لَهُ أكله وروى هَذَا القَوْل عَن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي الإسْكَنْدراني الْقَارِي عَن عَمْرو عَن الْمطلب " عَن جَابر بن عبد الله قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول صيد الْبر حَلَال لكم مَا لم تصيدوه أَو يصد لكم " وَأخرجه التِّرْمِذِيّ حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب إِلَى آخِره وَلَكِن فِي رِوَايَته " حَلَال لكم وَأَنْتُم حرم " وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْمطلب لَا نَعْرِف لَهُ سَمَاعا من جَابر وَعنهُ أَنه لم يسمع من جَابر وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي وَقَالَ ابْن سعد كَانَ كثير الحَدِيث وَلَيْسَ يحْتَج بحَديثه وَقَالَ النَّسَائِيّ عَمْرو بن أبي عَمْرو لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث وَإِن كَانَ قد روى عَنهُ مَالك وَقَالَ مَالك مَا ذبحه الْمحرم فَهُوَ ميتَة لَا يحل لمحرم وَلَا لحلال وَقد اخْتلف قَوْله فِيمَا صيد لمحرم بِعَيْنِه كالأمير وَشبهه هَل لغير ذَلِك الَّذِي صيد لأَجله أَن يَأْكُلهُ وَالْمَشْهُور من مذْهبه عِنْد أَصْحَابه أَن الْمحرم لَا يَأْكُل مَا صيد لمحرم معِين أَو غير معِين. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب جَوَاز كل مَا صَاده الْحَلَال للْمحرمِ وَمِنْه جَوَاز الحكم بعلامة لقَوْله " فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجْهي " وَمِنْه جَوَاز رد الْهَدِيَّة لعِلَّة. وَمِنْه الِاعْتِذَار عَن رد الْهَدِيَّة تطييبا لقلب الْمهْدي. وَمِنْه أَن الْهَدِيَّة لَا تدخل فِي الْملك إِلَّا بِالْقبُولِ. وَمِنْه أَن على الْمحرم أَن يُرْسل مَا فِي يَده من الصَّيْد الْمُمْتَنع عَلَيْهِ اصطياده -
7 - (بابُ مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشَّيْء الَّذِي يقتل الْمحرم، يَعْنِي: مَاله قَتله من الدَّوَابّ، وَهُوَ جمع دَابَّة، وَهِي مَا يدب على وَجه الأَرْض. وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) : كل ماشٍ على الأَرْض دَابَّة ودبيب، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة، وَالدَّابَّة فِي الَّتِي تركب أشهر. وَفِي (الْمُحكم) : الدَّابَّة تقع على

(10/177)


الْمُذكر والمؤنث، وَحَقِيقَته الصّفة. قلت: الدَّابَّة فِي الأَصْل كَا مَا يدب على وَجه الأَرْض، ثمَّ نَقله الْعرف الْعَام إِلَى ذَات القوائم الْأَرْبَع من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَيُسمى هَذَا مَنْقُولًا عرفيا. فَإِن قلت: فِي أَحَادِيث الْبَاب الْغُرَاب والحداءة وليسا من الدَّوَابّ، وَلَو قَالَ من الْحَيَوَان لَكَانَ أصوب قلت: أَكثر مَا ذكر فِي أَحَادِيث الْبَاب الدَّوَابّ فَنظر إِلَى هَذَا الْجَانِب.

6281 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُناحٌ.
(الحَدِيث 6281 طرفه فِي: 5133) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَا للْمحرمِ قَتله من الدَّوَابّ، وَلَكِن أوردهُ مُخْتَصرا، وأحال بِهِ على طَرِيق سَالم على مَا يَأْتِي عَن قريب، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (خمس من الدَّوَابّ لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح: الْغُرَاب والحدءة وَالْعَقْرَب والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور) . وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي قتل خمس من الدَّوَابّ للْمحرمِ: الْغُرَاب والحدأة والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور وَالْعَقْرَب.
قَوْله: (خمس) ، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وتخصص بِالصّفةِ. وَهِي قَوْله: (من الدَّوَابّ) . قَوْله: (لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح) خَبره، والجناح: الْإِثْم والحرج، وارتفاع: جنَاح، على أَنه اسْم: لَيْسَ، تَأَخّر عَن خَبره.
وعَنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ

وَعَن عبد الله عطف على نَافِع، أَي: قَالَ مَالك عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَأخرجه مُسلم بِتَمَامِهِ: حَدثنَا يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَابْن حجر، قَالَ يحيى: أخبرنَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عبد الله بن دِينَار أَنه سمع عبد الله بن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من قتلهن وَهُوَ حرَام فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فِيهِنَّ: الْفَأْرَة وَالْعَقْرَب وَالْكَلب الْعَقُور والغراب والحديا) . وَاللَّفْظ ليحيى.
قَوْله: (قَالَ) ، مقوله مَحْذُوف، تَقْدِيره: خمس من الدَّوَابّ ... إِلَى آخِره.

7281 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو عُوَانَةَ عنْ زَيْدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ حدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ.
(الحَدِيث 7281 طرفه فِي: 8281) .
هَذَا طَرِيق آخر سَاق مِنْهُ هَذَا الْقدر، وأحال بِهِ على الطَّرِيق الَّذِي بعده.
وَأخرجه عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن زيد بن جُبَير، بِضَم الحيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن حرمل الْجُشَمِي الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح رِوَايَة عَن غير ابْن عمر، وَلَا لَهُ فِيهِ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث آخر تقدم فِي الْمَوَاقِيت، وَقد خَالف نَافِعًا وَعبد الله بن دِينَار فِي إِدْخَال الْوَاسِطَة بَين ابْن عمر وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث، وَوَافَقَ سالما، إِلَّا أَن زيدا أبهم الْوَاسِطَة، وسالما سَمَّاهَا. وَأخرجه مُسلم: حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: (حَدثنَا زيد بن جُبَير إِن رجلا سَأَلَ ابْن عمر: مَا يقتل الْمحرم من الدَّوَابّ؟ فَقَالَ: أَخْبَرتنِي إِحْدَى نسْوَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر أَو أَمر: أَن تقتل الْفَأْرَة وَالْعَقْرَب والحدأة وَالْكَلب العقوب والغراب) . هُوَ من الرِّوَايَة عَن المجاهيل، لِأَنَّهُ بَينه فِي الطَّرِيق الآخر بقوله: حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالْأولَى أَن يُقَال: الْجَهْل فِي الصَّحَابَة لَا يضر، لِأَن كلهم عدُول.

8281 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أخبرنِي عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ حَفْصَةُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ الْغُرَابُ والحِدأةُ والفأرةُ والعَقْربُ والْكَلْبُ الْعَقُورُ.
(انْظُر الحَدِيث 7281) .

(10/178)


هَذَا طَرِيق آخر فِيهِ تَمام مَا فِي الطّرق الْمُتَقَدّمَة، فَلذَلِك عطفه عَلَيْهَا بِالْوَاو. وَأخرجه عَن إصبغ بن الْفرج عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عبد الله عَن أُخْته حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمن لطائف إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وَرِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية، وَرِوَايَة الْأَخ عَن أُخْته.
قَوْله: (قَالَت حَفْصَة) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن حَفْصَة، وَهَذَا وَالَّذِي قبله قد يُوهم أَن عبد الله بن عمر مَا سمع هَذَا الحَدِيث من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن وَقع فِي بعض طرق نَافِع عَنهُ: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أخرجه مُسلم من طَرِيق ابْن جريج وَتَابعه مُحَمَّد بن إِسْحَاق، ثمَّ سَاقه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع كَذَلِك حَيْثُ قَالَ: وحدثنيه فُضَيْل بن سهل، قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع وَعبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عمر، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (خمس لَا جنَاح فِي قتل مَا قتل مِنْهُنَّ فِي الْحرم) الحَدِيث. وَظهر من هَذَا أَن ابْن عمر سمع هَذَا الحَدِيث من أُخْته حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا يحدث بِهِ حِين سُئِلَ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا: حَدثنِي حَرْمَلَة بن يحيى، قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب، أخبرنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله أَن عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَت حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من الدَّوَابّ كلهَا فَاسق لَا حرج على من قتلهن: الْعَقْرَب والغراب والحدأة والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْغُرَاب) أَي: إِحْدَى الْخمس من الدَّوَابّ الْغُرَاب، قَالَ أَبُو الْمعَانِي: هُوَ وَاحِد الْغرْبَان وَجمع الْقلَّة: أغربة، وَقيل: سمي غرابا لِأَنَّهُ نأى واغترب لما تفقده نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، يستخبر أَمر الطوفان، وَيجمع على: غرب، أَيْضا وعَلى أغرب. وَفِي (الْحَيَوَان) للجاحظ: الْغُرَاب الأبقع غَرِيب، وَهُوَ غراب الْبَين، وكل غراب فقد يُقَال لَهُ: غراب الْبَين إِذا أَرَادوا بِهِ الشؤم إلاَّ غراب الْبَين نَفسه غراب صَغِير، وَإِنَّمَا قيل لكل غراب: غراب الْبَين، لسقوطه فِي مَوَاضِع مَنَازِلهمْ إِذا باتوا. وناس يَزْعمُونَ أَن تسافدها على غير تسافد الطير، وَإِنَّهَا تزلق بالمناقير وتلقح من هُنَالك. وَقيل: إِنَّهُم يتسافدون كبني آدم، أخبر بذلك جمَاعَة شاهدوه. وَفِي (الموعب) : الْغُرَاب الأبقع هُوَ الَّذِي فِي صَدره بَيَاض. وَفِي (الْمُحكم) : غراب أبقع يخالط سوَاده بَيَاض، وَهُوَ أخبثهما، وَبِه يضْرب الْمثل لكل خَبِيث، وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ الَّذِي فِي بَطْنه وظهره بَيَاض. قَوْله: (والحدأة) بِكَسْر الْحَاء وَبعد الدَّال ألف ممدودة بعْدهَا همزَة مَفْتُوحَة، وَجَمعهَا: جدء، مثل عِنَب، وحدآن، كَذَا فِي (الدستور) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَلَا يُقَال: حداة، وَفِي (الْمطَالع) : الحدأة لَا يُقَال فِيهَا إلاَّ بِكَسْر الْحَاء، وَقد جَاءَ الحداء يَعْنِي بِالْفَتْح، وَهُوَ جمع حدأة، وَجَاء الحديا على وزن الثريا. قَوْله: (والفأرة) وَاحِدَة الفيران وفيرة، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) : أَكثر الْعَرَب على همزها. قَوْله: (وَالْعَقْرَب) قَالَ ابْن سَيّده: الْعَقْرَب يكون للذّكر وَالْأُنْثَى، وَقد يُقَال للْأُنْثَى عقربة، والعقربان الذّكر مِنْهَا. وَفِي (الْمُنْتَهى) : الْأُنْثَى عقرباء، مَمْدُود غير مَصْرُوف، وَقيل: العقربان دويبة كَثِيرَة القوائم غير الْعَقْرَب، وعقربة شَاذَّة، وَمَكَان معقرب بِكَسْر الرَّاء ذُو عقارب، وَأَرْض معقربة، وَبَعْضهمْ يَقُول: معقرة، كَأَنَّهُ رد الْعَقْرَب إِلَى ثَلَاثَة أحرف ثمَّ بنى عَلَيْهِ، وَفِي (الْجَامِع) : ذكر العقارب عقربان، وَالدَّابَّة الْكَثِيرَة القوائم عقربان، بتَشْديد الْبَاء. قَوْله: (وَالْكَلب الْعَقُور) ، قَالَ أَبُو الْمعَانِي: جمع الْكَلْب أكلب وكلاب وكليب، وَهُوَ جمع عَزِيز لَا يكَاد يُوجد إلاَّ الْقَلِيل، نَحْو: عبد وَعبيد، وَجمع الْأَكْلُب أكالب، وَفِي (الْمُحكم) : وَقد قَالُوا فِي جمع الْكلاب كلابات، والكالب كالجامل جمَاعَة الْكلاب، والكلبة أُنْثَى الْكلاب، وَجَمعهَا كلبات وَلَا يكسر، وَسَنذكر معنى الْعَقُور وَمَا المُرَاد مِنْهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: أَنه يُسْتَفَاد من الحَدِيث جَوَاز قتل هَذِه الْخَمْسَة من الدَّوَابّ للْمحرمِ، فَإِذا أُبِيح للْمحرمِ فللحلال بِالطَّرِيقِ الأولى، ثمَّ التَّقْيِيد بالخمس، وَإِن كَانَ مَفْهُومه اخْتِصَاص الْمَذْكُورَات بذلك، وَلكنه مَفْهُوم عدد، وَلَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَكْثَرين، وعَلى تَقْدِير اعْتِبَاره فَيحْتَمل أَن يكون قَالَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَولا ثمَّ بَين بعد ذَلِك أَن غير الْخمس يشْتَرك مَعهَا فِي الحكم فقد ورد فِي حَدِيث أخرجه مُسلم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (أَربع كُلهنَّ فَاسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم: الحدأة، والغراب والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور) . انْتهى. وَأسْقط الْعَقْرَب، وَورد عَنْهَا أَيْضا: سِتّ، أخرجه

(10/179)


أَبُو عوَانَة فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق المحارمي عَن هِشَام عَن أَبِيه عَنْهَا، فَذكر الْخَمْسَة وَزَاد: الْحَيَّة. وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي غير كتاب مُسلم ذكر الأفعى فَصَارَت سبعا، وَفِيه نظر، لِأَن الأفعى تدخل فِي مُسَمّى الْحَيَّة، وروى ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر زِيَادَة على الْخمس، وَهِي: الذِّئْب والنمر، فَتَصِير بِهَذَا الإعتبار تسعر، وَلَكِن قَالَ ابْن خُزَيْمَة عَن الذهلي: أَن ذكر الذِّئْب والنمر من تَفْسِير الرَّاوِي للكلب الْعَقُور، وَقد جَاءَ حَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: يقتل الْمحرم الْحَيَّة وَالْعَقْرَب والسبع العادي وَالْكَلب الْعَقُور والفأرة الفويسقة. فَقيل لَهُ: لم قَالَ لَهَا: الفويسقة؟ قَالَ: لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَيْقَظَ لَهَا، وَقد أخذت الفتيلة لتحرق بهَا الْبَيْت، وَهَذَا لم يذكر فِيهَا الْغُرَاب والحدأة، وَذكر عوضهما الْحَيَّة والسبع العادي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَمَّا يقتل الْمحرم؟ قَالَ: الْحَيَّة وَالْعَقْرَب والفويسقة، وَيَرْمِي الْغُرَاب وَلَا يقْتله، وَالْكَلب الْعَقُور والحدأة، والسبع العادي. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا مَا أَبَاحَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْمحرمِ قَتله فِي إِحْرَامه، وأباح للْحَلَال قَتله فِي الْحرم، وعد ذَلِك خمْسا، فَذَلِك يَنْفِي أَن يكون إِشْكَال شَيْء من ذَلِك كَحكم هَذِه الْخمس إلاَّ مَا اتّفق عَلَيْهِ من ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عناه. قلت: الْحَاصِل مِمَّا قَالَه أَن التَّنْصِيص على الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة بِالْعدَدِ يُنَافِي أَن يكون أَمْثَاله وأنظاره كهذه الْخمس فِي الحكم، ألاَّ ترى أَنه ذكر الحدأة، والغراب وهما من ذَوي المخلب من الطُّيُور وعينهما؟ فَلَا يلْحق بهَا سَائِر ذَوي المخالب من الطُّيُور كالصقر والبازي والشاهين وَالْعِقَاب وَنَحْوهمَا، وَهَذَا بِلَا خلاف، إلاَّ أَن من علل بالأذى يَقُول: أَنْوَاع الْأَذَى كَثِيرَة مُخْتَلفَة، فَكَأَنَّهُ نبه بالعقرب على مَا يشاركها فِي الْأَذَى من السَّبع وَنَحْوه من ذَوَات السمُوم: كالحية والزنبور، وبالفأرة على مَا يشاركها فِي الْأَذَى بالنقب وَالْقَرْض: كَابْن عرس، وبالغراب والحدإة، على مَا يشاركهما فِي الْأَذَى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب الْعَقُور على مَا يُشَارِكهُ فِي الْأَذَى بالعدوان والعقر: كالأسد والفهد، وَمن علل بِتَحْرِيم الْأكل قَالَ: إِنَّمَا اقْتصر على الْخمس لِكَثْرَة ملابستها للنَّاس بِحَيْثُ يعم أذاها. فَإِن قلت: فعلى مَا ذكرت عَن الطَّحَاوِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يجوز قتل الْحَيَّة للْمحرمِ؟ قلت: قَوْله: إلاَّ مَا اتّفق عَلَيْهِ من ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عناه، أَشَارَ إِلَى جَوَاز قتل الْحَيَّة لِأَنَّهَا من جملَة مَا عناه من ذَلِك، وَكَيف وَقد جَاءَ عَن ابْن مَسْعُود أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم بقتل الْحَيَّة فِي منى، وَجَاء أَن إِحْدَى الْخمس هُوَ الْحَيَّة، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَقد ذَكرْنَاهُ؟
الْوَجْه الثَّانِي فِي حكم الْغُرَاب: فَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : المُرَاد بالغراب آكل الْجِيَف، وَهُوَ الأبقع، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي يُوسُف، وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم: الْحَيَّة والغراب الأبقع) ، وَقد مر عَن قريب تَفْسِير الإبقع. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا تَقْيِيد لمُطلق الرِّوَايَات الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الأبقع، وَبِذَلِك قَالَت طَائِفَة، فَلَا يجيزون إلاَّ قتل الأبقع خَاصَّة، وَطَائِفَة رَأَوْا جَوَاز قتل الأبقع وَغَيره من الْغرْبَان، وَرَأَوا أَن ذكر الأبقع إِنَّمَا جرى لِأَنَّهُ الْأَغْلَب. قلت: الرِّوَايَات الْمُطلقَة مَحْمُولَة على هَذِه الرِّوَايَة الْمقيدَة الَّتِي رَوَاهَا مُسلم، وَذَلِكَ لِأَن الْغُرَاب إِنَّمَا أُبِيح قَتله لكَونه يبتدىء بالأذى، وَلَا يبتدىء بالأذى إلاَّ الْغُرَاب الأبقع، وَأما الْغُرَاب غير الأبقع فَلَا يبتدىء بالأذى، فَلَا يُبَاح قَتله: كالعقعقق وغراب الزَّرْع. وَيُقَال لَهُ: الزاغ، وافتوا بِجَوَاز أكله، فَبَقيَ مَا عداهُ من الْغرْبَان ملتحقا بالأبقع. وَمِنْهَا: الغداف، على الصَّحِيح فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، ذكره فِي (الرَّوْضَة) بِخِلَاف مَا ذكره الرَّافِعِيّ، وسمى ابْن قدامَة الغداف: غراب الْبَين، الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة أَنه الأبقع قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: المُرَاد بالغراب فِي الحَدِيث الغداف والأبقع لِأَنَّهُمَا يأكلان الْجِيَف، وَأما غراب الزَّرْع فَلَا، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي سعيد الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَفِيه: (وَيَرْمِي الْغُرَاب وَلَا يقْتله) ، وروى ابْن الْمُنْذر وَغَيره نَحوه عَن عَليّ وَمُجاهد، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَبَاحَ كل من يحفظ عَنهُ الْعلم قتل الْغُرَاب فِي الْإِحْرَام إلاَّ مَا جَاءَ عَن عَطاء، قَالَ فِي محرم كسر قرن غراب، قَالَ: إِن أدماه فَعَلَيهِ الْجَزَاء! وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يُتَابع أحد عَطاء على هَذَا. انْتهى. وَعند الْمَالِكِيَّة اخْتِلَاف آخر فِي الْغُرَاب والحدأة: هَل يتَقَيَّد جوازهما بِأَن يبتدئا بالأذى؟ وَهل يخْتَص ذَلِك بكبارهما؟ وَالْمَشْهُور عَنْهُم مَا قَالَه ابْن شاش: لَا فرق وفَاقا لِلْجُمْهُورِ.
وَمن أَنْوَاع الْغرْبَان: العقعق، وَهُوَ قدر الْحَمَامَة على شكل الْغُرَاب، وَقيل: سمي بذلك لِأَنَّهُ يعق فِرَاخه فيتركها بِلَا طعم، وَبِهَذَا يظْهر أَنه نوع من الْغرْبَان، وَالْعرب

(10/180)


تتشاءم بِهِ أَيْضا، وَذكر فِي (فَتَاوَى قاضيخان) : من خرج لسفر فَسمع صَوت العقعق فَرجع كفر، وَقيل: حكمه حكم الأبقع. وَقيل: حكم غراب الزَّرْع، وَقَالَ أَحْمد: إِن أكل الْجِيَف وإلاَّ فَلَا بَأْس بِهِ. فَإِن قلت: قَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب لَا يعرف إلاَّ من حَدِيث سعيد، وَلم يروه عَنهُ غير قَتَادَة، وَهُوَ مُدَلّس، وثقات أَصْحَاب سعيد من أهل الْمَدِينَة لَا يُوجد عِنْدهم هَذَا الْقَيْد مَعَ مُعَارضَة حَدِيث ابْن عمر وَحَفْصَة، فَلَا حجَّة فِيهِ حِينَئِذٍ. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا تثبت هَذِه الزِّيَادَة أَعنِي: قَوْله: (والغراب الأبقع) ، وَقَالَ ابْن قدامَة: الرِّوَايَات الْمُطلقَة أصح. قلت: دَعْوَى التَّدْلِيس مَرْدُودَة لِأَن شُعْبَة لَا يروي عَن شُيُوخه المدلسين إلاَّ مَا هُوَ مسموع لَهُم، وَفِي الحَدِيث عَن شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يحدث عَن سعيد بن الْمسيب، بل صرح النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة بِسَمَاع قَتَادَة، وَنفي ثُبُوت الزِّيَادَة مَرْدُود أَيْضا بِإِخْرَاج مُسلم، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة من الثِّقَة الْحَافِظ، وَهُوَ كَذَلِك هُنَا.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي الحدأة: فَإِنَّهُ يجوز قَتلهَا سَوَاء كَانَ للْمحرمِ أَو للْحَلَال، لِأَنَّهَا تبتدىء بالأذى وتختطف اللَّحْم من أَيدي النَّاس، وَرُوِيَ عَن مَالك فِي الحدأة والغراب أَنه لَا يقتلهما إلاَّ أَن يبتدئا بالأذى، وَالْمَشْهُور من مذْهبه خِلَافه، وَعَن أبي مُصعب فِيمَا ذكره ابْن الْعَرَبِيّ قتل الْغُرَاب والحدأة، وَإِن لم يبتدئا بالأذى، ويؤكل لحمهما عِنْد مَالك. وَرُوِيَ عَنهُ الْمَنْع فِي الْحرم سدا لذريعة الِاصْطِيَاد. قَالَ أَبُو بكر: وأصل الْمَذْهَب أَن لَا يقتل من الطير إلاَّ مَا آذَى بِخِلَاف غَيره، فَإِنَّهُ يقتل ابْتِدَاء.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي الْفَأْرَة: فَإِنَّهُ يجوز قَتلهَا مُطلقًا، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر، لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز قتل الْمحرم الْفَأْرَة إلاَّ النَّخعِيّ، فَإِنَّهُ منع الْمحرم من قَتلهَا، وَهُوَ قَول شَاذ، وَقَالَ القَاضِي، وَحكى السَّاجِي عَن النَّخعِيّ أَنه لَا يقتل الْمحرم الْفَأْرَة، فَإِن قَتلهَا فداها، وَهَذَا خلاف النَّص وَخلاف جَمِيع أهل الْعلم، وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن حَمَّاد بن زيد، قَالَ: لما ذكرُوا لَهُ هَذَا القَوْل، قَالَ: مَا كَانَ بِالْكُوفَةِ أفحش ردا للآثار من إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لقلَّة مَا سمع مِنْهَا، وَلَا أحسن اتبَاعا لَهَا من الشّعبِيّ لِكَثْرَة مَا سمع، وَنقل ابْن شاش عَن الْمَالِكِيَّة خلافًا فِي جَوَاز قتل الصَّغِير مِنْهَا الَّذِي لَا يتَمَكَّن من الْأَذَى، والفأرة أَنْوَاع مِنْهَا: الجرذ، بِضَم الْجِيم على وزن: عمر، والخلد، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة. وَسُكُون اللَّام، وفأرة الْإِبِل، وفأرة الْمسك، وفأرة الغيط، وَحكمهَا فِي تَحْرِيم الْأكل وَجَوَاز قَتلهَا سَوَاء.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي الْعَقْرَب: فَإِنَّهُ يجوز قَتله مُطلقًا حَتَّى فِي الصَّلَاة، لِأَنَّهُ يقْصد اللدغ وَيتبع الْحس، وَذكر أَبُو عمر عَن حَمَّاد ابْن أبي سُلَيْمَان وَالْحكم أَن الْمحرم لَا يقتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب، رَوَاهُ عَنْهُمَا شُعْبَة، قَالَ: وحجتهما أَنَّهُمَا من هوَام الأَرْض، وَقَالَ القَاضِي: لم يخْتَلف فِي قتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب وَلَا فِي قتل الْحَلَال الوزغ فِي الْحرم، وَقَالَ أَبُو عمر: لَا خلاف عَن مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء فِي قتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب فِي الْحل وَالْحرم، وَكَذَلِكَ الأفعى.
الْوَجْه السَّادِس: فِي الْكَلْب الْعَقُور: أذكر أَبُو عمر أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: الْكَلْب الْعَقُور: كل سبع يعقر، وَلم يخص بِهِ الْكَلْب، قَالَ سُفْيَان، وَفَسرهُ لنا زيد بن أسلم، وَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد، وَعَن أبي هُرَيْرَة: الْكَلْب الْعَقُور الْأسد، وَعَن مَالك: هُوَ كل مَا عقر النَّاس وَعدا عَلَيْهِم مثل: الْأسد والنمر والفهد، فَأَما مَا كَانَ من السبَاع لَا يعدو مثل: الضبع والثعلب وشبههما، فَلَا يقْتله الْمحرم، وَإِن قَتله فدَاه. وَزعم النَّوَوِيّ أَن الْعلمَاء اتَّفقُوا على جَوَاز قتل الْكَلْب الْعَقُور للْمحرمِ والحلال فِي الْحل وَالْحرم، وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد بِهِ، فَقيل: هُوَ الْكَلْب الْمَعْرُوف، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض عَن أبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حَيّ، وألحقوا بِهِ الذِّئْب، وَحمل زفر الْكَلْب على الذِّئْب وَحده، وَذهب الشَّافِعِي وَالثَّوْري وَأحمد وَجُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَن المُرَاد كل مفترس غَالِبا. وَقَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : كل مَا عقر النَّاس وَعدا عَلَيْهِم وأخافهم مثل الْأسد والنمر والفهد وَالذِّئْب هُوَ الْعَقُور، وَكَذَا نقل أَبُو عبيد عَن سُفْيَان، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: المُرَاد بالكلب هُنَا الْكَلْب خَاصَّة، وَلَا يلْتَحق بِهِ فِي هَذَا الحكم سوى الذِّئْب، وَاحْتج أَبُو عبيد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أللهم سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك، فَقتله الْأسد) . وَهُوَ حَدِيث حسن أخرجه الْحَاكِم من طَرِيق أبي نَوْفَل بن أبي عقرب عَن أَبِيه، وَاحْتج بقول الله تَعَالَى: {وَمَا علَّمتم من الْجَوَارِح مكلبين} (الْمَائِدَة: 4) . فاشتقاقها من اسْم الْكَلْب، فَلهَذَا قيل لكل جارح: عقور. قلت: فِي (مَرَاسِيل) ذكر الْكَلْب من غير وَصفه بالعقور، فَعلم أَن المُرَاد بِهِ الْحَيَوَان الْخَاص لَا كل عَاقِر، وَقَالَ السرسقطي فِي (غَرِيبه) : الْكَلْب

(10/181)


الْعَقُور اسْم لكل عَاقِر حَتَّى اللص الْقَاتِل، وعَلى هَذَا فيستقيم قِيَاس الشَّافِعِيَّة على الْخمس مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، وَلَكِن يُعَكر على هَذَا عدم إِفْرَاده بِالذكر، فَإِن قَالُوا: إِنَّه من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَهُوَ تَأْكِيد للخاص كَقَوْلِه تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 86) . قُلْنَا: قد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات مُؤخر الذّكر ومتوسطا، هَكَذَا فِي الصَّحِيح وَغَيره، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي غير الْعَقُور مِمَّا لم يُؤمر باقتنائه، فَصرحَ بِتَحْرِيمِهِ القاضيان حُسَيْن وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا، وَوَقع للشَّافِعِيّ فِي (الْأُم) الْجَوَاز، وَاخْتلف كَلَام النَّوَوِيّ، فَقَالَ فِي البيع من (شرح الْمُهَذّب) : لَا خلاف بَين أَصْحَابنَا فِي أَنه مُحْتَرم لَا يجوز قَتله، وَقَالَ فِي التَّيَمُّم وَالْغَصْب: إِنَّه غير مُحْتَرم، وَقَالَ فِي الْحَج: يكره قَتله كَرَاهَة تَنْزِيه، وَهَذَا اخْتِلَاف شَدِيد، وعَلى كارهة قَتله اقْتصر الرَّافِعِيّ، وَتَبعهُ فِي (الرَّوْضَة) وَزَاد: إِنَّهَا كَرَاهَة تَنْزِيه، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى إِلْحَاق غير الْخمس بهَا فِي هَذَا الحكم إلاَّ أَنهم اخْتلفُوا فِي الْمَعْنى، فَقيل: لكَونهَا مؤذية فَيجوز قتل كل مؤذ، وَقيل: كَونهَا مِمَّا لَا يُؤْكَل، فعلى هَذَا كل مَا يجوز قَتله لَا فديَة على الْحرم فِي قَتله، وَهَذَا قَضِيَّة مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَقد قسم هُوَ وَأَصْحَابه الْحَيَوَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمحرم ثَلَاثَة أَقسَام: قسم يسْتَحبّ: كالخمس وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يُؤْذِي. وَقسم: يجوز: كَسَائِر مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه. وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يحصل مِنْهُ نفع وضر فَيُبَاح لما فِيهِ من مَنْفَعَة الِاصْطِيَاد، وَلَا يكره لما فِيهِ من الْعدوان. وَقسم لَيْسَ فِيهِ نفع وَلَا ضرّ، فَيكْرَه قَتله وَلَا يحرم. وَالْقسم الثَّالِث: مَا أُبِيح أكله أَو نهى عَن قَتله، فَلَا يجوز وَفِيه الْجَزَاء إِذا قَتله الْمحرم.
قلت: أَصْحَابنَا اقتصروا على الْخمس إلاَّ أَنهم ألْحقُوا بهَا: الْحَيَّة لثُبُوت الْخَبَر، وَالذِّئْب لمشاركته للكلب فِي الْكَلْبِيَّة، وألحقوا بذلك مَا ابْتَدَأَ بالعدوان والأذى من غَيرهَا، وَقَالَ بَعضهم، وَتعقب بِظُهُور الْمَعْنى فِي الْخمس وَهُوَ: الْأَذَى الطبيعي والعدوان الْمركب، وَالْمعْنَى إِذا ظهر فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ تعدى الحكم إِلَى كل مَا وجد فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى. انْتهى. قلت: نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قتل خمس من الدَّوَابّ فِي الْحرم وَالْإِحْرَام، وَبَين الْخمس مَا هن، فَدلَّ هَذَا أَن حكم غير هَذَا الْخمس غير حكم الْخمس، وَإِلَّا لم يكن للتنصيص على الْخمس فَائِدَة. وَقَالَ عِيَاض: ظَاهر قَول الْجُمْهُور أَن المُرَاد أَعْيَان مَا سمى فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ ظَاهر قَول مَالك وَأبي حنيفَة، وَلِهَذَا قَالَ مَالك: لَا يقتل الْمحرم الوزغ، وَإِن قَتله فدَاه، وَلَا يقتل خنزيرا وَلَا قردا مِمَّا لَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْكَلْب فِي اللُّغَة إِذْ فِيهِ جعل الْكَلْب صفة لَا إسما، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس) فَلَيْسَ لأحد أَن يجعلهن سِتا وَلَا سبعا، وَأما قتل الذِّئْب فَلَا يحْتَاج فِيهِ أَن نقُول: إِنَّه يقتل لمشاركته للكلب فِي الْكَلْبِيَّة، بل نقُول: يجوز قَتله بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن نَافِع، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الذِّئْب والفأرة. قَالَ يزِيد بن هَارُون، يَعْنِي: الْمحرم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا ذكر الذِّئْب من حَدِيث ابْن الْمسيب مُرْسلا جيدا، كَأَنَّهُ يُرِيد قَول ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن عمر عَن حَرْمَلَة عَن سعيد حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابْن حَرْمَلَة عَن سعيد بِهِ، قَالَ: وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن سَالم عَن سعيد عَن وبرة عَن ابْن عمر: يقتل الْمحرم الذِّئْب، وَعَن قبيصَة: يقتل الذِّئْب فِي الْحرم، وَقَالَ الْحسن وَعَطَاء: يقتل الْمحرم الذِّئْب والحية، وَأما إِذا عدا على الْمحرم حَيَوَان، أَي حَيَوَان كَانَ، وصال عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يقْتله، لِأَن حكمه حِينَئِذٍ يصير كَحكم الْكَلْب الْعَقُور.

9281 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني ابْن وهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فاسِقٌ يَقْتُلُهُنَّ فِي الحَرَمِ. الْغُرَابُ والحِدَأةُ والْعَقْرَبُ والْفَأرَةُ والْكَلْبُ الْعَقُورُ. [/ نه
(الحَدِيث 9281 طرفه فِي: 4133) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن بن يحيى بن سعيد الْجعْفِيّ الْمقري، قدم مصر وَحدث بهَا، وَتُوفِّي بهَا سنة ثَمَان أَو سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه كُوفِي وَأَن ابْن وهب مصري وَأَن يُونُس أيلي وَأَن ابْن شهَاب

(10/182)


وَعُرْوَة مدنيان. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ يروي عَن يحيى بن سُلَيْمَان بقوله: حَدثنَا، ويروي، وحَدثني، يحيى، بالْعَطْف وَصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: يروي ابْن وهب عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: يروي ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن عبد الله ابْن عمر عَن حَفْصَة، فَظهر من ذَلِك أَن لِابْنِ وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ إسنادين: سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة، وَعُرْوَة عَن عَائِشَة. وَقد كَانَ ابْن عُيَيْنَة يُنكر طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. قَالَ الْحميدِي عَن سُفْيَان: حَدثنَا وَالله الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، فَقيل لَهُ: فَإِن معمرا يرويهِ: عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، فَقَالَ: حَدثنَا وَالله الزُّهْرِيّ، وَلم يذكر عُرْوَة. انْتهى. وَطَرِيق معمر الَّذِي ذكره رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَنهُ، وَرَوَاهُ أَيْضا سعيد بن أبي حَمْزَة عِنْد أَحْمد وَأَبَان بن صَالح عِنْد النَّسَائِيّ، وَمن حفظ حجَّة على من لم يحفظ، وَقد تَابع الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن هِشَام بن عُرْوَة. وَأخرجه مُسلم عَن الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خمس فواسق يقتلن فِي الْحرم: الْعَقْرَب والفأرة والحديا والغراب وَالْكَلب الْعَقُور.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، كلهم عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَالح عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (خمس كُلهنَّ فاسقة يقتلهن الْمحرم ويقتلن فِي الْحرم: الْحَيَّة والفأرة. .) الحَدِيث. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يقتل الْمحرم السَّبع العادي وَالْكَلب الْعَقُور والفأرة وَالْعَقْرَب والحدأة والغراب) . وروى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن الْأسود (عَن ابْن مَسْعُود: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر محرما بقتل حَيَّة بمنى) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَاسق) ، مَرْفُوع على أَنه خبر لمبتدأ، وَهُوَ قَوْله: (كُلهنَّ) ، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر لقَوْله: (خمس) ، وَهُوَ قد تخصص بِالصّفةِ. قَوْله: (يقتلن) ، الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (خمس) ، وَلَيْسَ يرجع إِلَى معنى: كل، كَمَا قَالَه بَعضهم. وَفِي رِوَايَة مُسلم من هَذَا الْوَجْه: (كلهَا فواسق) ، وَفِي رِوَايَته الَّتِي تَأتي فِي بَدْء الْخلق: (خمس فواسق) . قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بِإِضَافَة: خمس، لَا بتنوينه، وَجوز ابْن دَقِيق الْعِيد الْوَجْهَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيح الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: رِوَايَة الْإِضَافَة تشعر بالتخصيص فيخالفها غَيرهَا فِي الخكم من طَرِيق الْمَفْهُوم، وَرِوَايَة التَّنْوِين تَقْتَضِي وصف الْخمس بِالْفِسْقِ من جِهَة الْمَعْنى، فيشعر بِأَن الحكم الْمُرَتّب على ذَلِك وَهُوَ الْقَتْل مُعَلل بِمَا جعل وَصفا وَهُوَ الْفسق فَيدْخل فِيهِ كل فَاسق من الدَّوَابّ. قلت: هَذَا مَبْنِيّ على معرفَة معنى الْفسق، فَإِن كَانَ الْمَعْنى فِي وصف الدَّوَابّ الْمَذْكُورَة بِالْفِسْقِ خُرُوجهَا عَن حكم غَيرهَا من الْحَيَوَان فِي تَحْرِيم قَتله يكون معنى الْكَلْبِيَّة فِيهِ ظَاهرا. وَإِن كَانَ الْمَعْنى خُرُوجهَا عَن حكم غَيرهَا بالإيذاء والإفساد لَا يكون معنى الْكَلْبِيَّة فِيهِ ظَاهرا. فَافْهَم. وَالْفِسْق فِي أصل كَلَام الْعَرَب: الْخُرُوج، وَمِنْه فسقت الرّطبَة إِذا خرجت عَن قشرها، وَقَوله تَعَالَى: {ففسق عَن أَمر ربه} (الْكَهْف: 05) . أَي: خرج، وَسمي الرجل فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ عَن طَاعَة ربه، وَهُوَ خُرُوج مَخْصُوص، وَسميت هَذِه الْخمس فواسق لخروجها عَن الْحُرْمَة الَّتِي لغيرهن وَأَن قتلهن للْمحرمِ وَفِي الْحرم مُبَاح، فالغراب ينقر ظهر الْبَعِير وَينْزع عينه إِذا كَانَ مسيرًا، ويختلس أَطْعِمَة النَّاس، والحدأة كَذَلِك تختلس اللَّحْم والفراريج، وَالْعَقْرَب تلدغ وتؤلم، والفأرة تسرق الْأَطْعِمَة وتفسدها وتقرض الثِّيَاب وَتَأْخُذ الفتيلة من السراج وتضرم بهَا الْبَيْت، وَالْكَلب الْعَقُور يجرح النَّاس. قَوْله: (يقتلن فِي الْحرم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد تقدم فِي رِوَايَة نَافِع فِي أول الْبَاب: (لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح) ، وَفِي رِوَايَة زيد بن جُبَير: (يقتل الْمحرم) ، وَفِي رِوَايَة حَفْصَة: (لَا حرج على من قتلهن) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بِلَفْظ: (يقتلن فِي الْحل وَالْحرم) ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد أبي دَاوُد: (خمس قتلهن حَلَال) ، وَعند مُسلم فِي حَدِيث زيد بن جُبَير أَنه أَي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَمر أَو أَمر أَن تقتل الْفَأْرَة) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كَانَ يَأْمر بقتل الْكَلْب الْعَقُور) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (خمس من قتلهن وَهُوَ حرَام فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فِيهِنَّ: الْفَأْرَة) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ: (إِذن) ، وَحَاصِل الْكل يرجع إِلَى أَن قتل هَذِه الْخَمْسَة فَلَيْسَ فِيهِ إِثْم على الْمحرم وَفِي الْحرم، وعَلى الْحَلَال بِالطَّرِيقِ الأولى، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت عَن قريب.

(10/183)


0381 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غَيَاثٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ بَيْنَما نَحْنُ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غارٍ بِمِنىً إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ {والمُرْسَلاَتِ} (المرسلات: 1) . وإنَّهُ لَيَتْلُوهَا وإنِّي لأتلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتُلُوها فابْتَدَرْنَاها فذَهَبَتْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اقتلوها) فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِيمَا يقتل الْمحرم وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه أَمر بقتل الْحَيَّة فِي حَالَة الْإِحْرَام؟ قلت: كَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة عَرَفَة، وَبِذَلِك صرح الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق ابْن نمير عَن حَفْص بن غياث. وَقَوله: (فِي غَار بمنى) ، يدل على أَنه كَانَ فِي الْحرم، وَعند ابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة أبي كريب (عَن حَفْص بن غياث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر محرما بقتل حَيَّة فِي الْحرم بمنى) .
وَرِجَال الحَدِيث قد مروا غير مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَالْأسود هُوَ ابْن يزِيد، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة عَن جرير وَعَن عمر بن حَفْص أَيْضا. وَقَالَ فِي التَّفْسِير وَغَيره، وَقَالَ حَفْص وَأَبُو مُعَاوِيَة وَسليمَان بن قرم أربعتهم عَن الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن عمر بن حَفْص بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَعُثْمَان بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَفِي الْحَج عَن أبي كريب عَن حَفْص بن غياث بِبَعْضِه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل حَيَّة بمنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج، وَفِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الرهاوي عَن يحيى بن آدم عَن حَفْص بن غياث بِهِ.
قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن: بَيْنَمَا، وَبينا، ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَابه هُنَا هُوَ قَوْله: (إِذْ نزل عَلَيْهِ) ، والأفصح أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا، وَقد جَاءَ أَحدهمَا فِي الْجَواب كثيرا. قَوْله: (إِذْ نزل عَلَيْهِ) أَي: على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: {والمرسلات} (المرسلات: 1) . أَي سُورَة {والمرسلات} (المرسلات: 1) . وَهُوَ فَاعل لقَوْله: (نزل) ، وَالْفِعْل إِذا أسْند إِلَى مؤنث غير حَقِيقِيّ يجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث. قَوْله: (وَإِنِّي لأتلقاها) أَي: لأتلقنها. قَوْله: (من فِيهِ) أَي: من فَمه قَوْله: (وَإِن فَاه) أَي: وَإِن فَمه. قَوْله: (لرطب بهَا) أَي: لم يجِف رِيقه بهَا. وَقَالَ التَّيْمِيّ: الرطب عبارَة عَن الغض الطري، كَأَن مَعْنَاهَا: قبل أَن يجِف رِيقه بهَا. قَوْله: (إِذْ وَثَبت) كلمة إِذْ، للمفاجأة. قَوْله: (فابتدرناها) أَي: أَسْرَعنَا إِلَى أَخذهَا، وَهُوَ من بدرت إِلَى الشَّيْء أبدر بدورا: أسرعت، وَكَذَلِكَ: بادرت إِلَيْهِ، وَيُقَال: ابتدروا السِّلَاح، أَي: تسارعوا إِلَى أَخذه. قَوْله: (وقيت) ، أَي: حفظت ومنعت. قَوْله: (شركم) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان للْفِعْل الْمَجْهُول، أَي: إِن الله سلمهَا مِنْكُم كَمَا سلمكم مِنْهَا، وَلم يلْحقهَا ضرركم كَمَا لم يلحقكم ضررها. قَوْله: (كَمَا وقيتم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا، (وشرها) بِالنّصب مفعول ثَان لَهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْأَمر بقتل الْحَيَّة سَوَاء كَانَ محرما أَو حَلَالا أَو فِي الْحرم، وَالْأَمر مُقْتَضَاهُ الْوُجُوب. وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على جَوَاز قتل الْحَيَّة فِي الْحل وَالْحرم، قَالَ: وَأَجَازَ مَالك قتل الأفعى وَهِي دَاخِلَة عِنْده فِي معنى الْكَلْب الْعَقُور، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلمهُمْ اخْتلفُوا فِي جَوَاز قتل الْعَقْرَب، وَقَالَ نَافِع: لما قيل: فالحية لَا يخْتَلف فِيهَا، وَفِي رِوَايَة: وَمن يشك فِيهَا؟ ورد عَلَيْهِ ابْن عبد الْبر بِمَا أخرجه ابْن أبي شيبَة من طَرِيق شُعْبَة: أَنه سَأَلَ الحكم وحمادا فَقَالَا: لَا يقتل الْمحرم الْحَيَّة وَلَا الْعَقْرَب. قَالَ: وَمن حجتهما أَنَّهُمَا من هوَام الأَرْض، فَيلْزم من أَبَاحَ قَتلهمَا مثل ذَلِك فِي سَائِر الْهَوَام. قلت: نعم، يُبَاح قتل سَائِر الْهَوَام القتَّالة: كالرتيلاء وَأم الْأَرْبَعَة وَالْأَرْبَعِينَ، والسام الأبرص، والوزغة، والنمل المؤذية وَنَحْوهَا. وَأما نَهْيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن قتل حيات الْبيُوت فقد اخْتلف السّلف قبلنَا فِي ذَلِك، فَقَالَ بَعضهم: بِظَاهِر الْأَمر، يقتل الْحَيَّات كلهَا من غير اسْتثِْنَاء شَيْء مِنْهَا، كَمَا روى أَبُو إِسْحَاق عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اقْتُلُوا الْحَيَّات كُلهنَّ فَمن خَافَ ثأرهن فَلَيْسَ مني) ، وروى أَيْضا هَذَا عَن عَمْرو ابْن مَسْعُود، وَقَالَ أَبُو عمر: روى شُعْبَة عَن مُخَارق بن عبد الله عَن طَارق بن شهَاب، قَالَ: اعْتَمَرت فمررت بالرمال، فَرَأَيْت حيات فَجعلت أقتلهن، وَسَأَلت عمر فَقَالَ: هن عدونا فاقتلوهن) . قَالَ ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت الزُّهْرِيّ يحدث عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر سُئِلَ عَن الْحَيَّة يَقْتُلهَا الْمحرم؟ فَقَالَ:

(10/184)


هِيَ عَدو فاقتلوها حَيْثُ وجدتموها. وَقَالَ زيد بن أسلم: أَي كلب أعقر من الْحَيَّة؟ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَنْبَغِي أَن تقتل عوامر الْبيُوت وسكانها إلاَّ بعد مناشدة الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِنَّ، فَإِن ثَبت بعد إنشاده قتل، وَذَلِكَ حذار الْإِصَابَة فيلحقه مَا لحق الْفَتى المعرس بأَهْله، حَيْثُ وجد حَيَّة على فرَاشه فَقَتلهَا قبل مناشدته إِيَّاهَا، وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (أَن بِالْمَدِينَةِ جنا قد أَسْلمُوا، فَإِن رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فآذنوه ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن بدا لكم بعد ذَلِك فَاقْتُلُوهُ) . وَلَا تخَالف بَينهمَا، وَرُبمَا تمثل بعض الْجِنّ بِبَعْض صور الْحَيَّات فَيظْهر لأعين بني آدم، كَمَا روى ابْن أبي مليكَة (عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة أَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَأَتْ فِي مغتسلها حَيَّة فقتلتها، فَأتيت فِي منامها، فَقيل لَهَا: إِنَّك قتلت مُسلما، فَقَالَت: لَو كَانَ مُسلما مَا دخل على أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟ فَقيل: مَا دخل عَلَيْك إلاَّ وَعَلَيْك ثِيَابك، فَأَصْبَحت فزعة، ففرقت فِي الْمَسَاكِين إثني عشر ألفا) . قَالَ ابْن نَافِع: لَا تنذر عوامر الْبيُوت إلاَّ بِالْمَدِينَةِ خَاصَّة على ظَاهر الحَدِيث، وَقَالَ مَالك: تنذر بِالْمَدِينَةِ وَغَيرهَا، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أوجب، وَلَا تنذر فِي الصحارى، وَقَالَ غَيره: بِالسَّوِيَّةِ بَين الْمَدِينَة وَغَيرهَا، لِأَن الْعلَّة إِسْلَام الْجِنّ، وَلَا يحل قتل مُسلم جني وَلَا أنسي. وَمِمَّا يُؤَكد قتل الْحَيَّة مَا ذكره البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن مَسْعُود، وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ذَر (عَن عبد الله: من قتل حَيَّة أَو عقربا فقد قتل كَافِرًا) . وَقَالَ: الْمَوْقُوف أشبه بِالصَّوَابِ.

1381 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ ولَمْ أسْمَعْهُ أمَرَ بِقَتْلِهِ.
(الحَدِيث 1381 طرفه فِي: 6033) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فويسق) ، لِأَن تَسْمِيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه فويسقا يَقْتَضِي أَن يكون قَتله مُبَاحا. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس عبد الله أَبُو عَامر الْأَشْجَعِيّ الْمدنِي، ابْن أُخْت مَالك بن أنس.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن وهب بن بَيَان عَن ابْن وهب عَن مَالك بِهِ مُخْتَصرا: (الوزغ فويسق) .
قَوْله: (قَالَ للوزغ) اللَّام فِيهِ بِمَعْنى: (عَن، نَحْو: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} (مَرْيَم: 37، وَالْعَنْكَبُوت: 21، يس: 74، والأحقاف: 11) . أَي: عَن الَّذين آمنُوا، وَالْمعْنَى هُنَا، قَالَ عَن الوزغ: فويسق. قلت: وَيجوز أَن يكون للتَّعْلِيل، وَالْمعْنَى: قَالَ لأجل الوزغ: فويسق، والوزغ، بِفَتْح الْوَاو وَالزَّاي وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: جمع وزغة، وَيجمع أَيْضا على: وزغان وأزغان على الْبَدَل. وَقَالَ ابْن سَيّده: عِنْدِي أَن الوزغان إِنَّمَا هُوَ جمع وزغ الَّذِي هُوَ جمع وزغة، كورل وورلان. وَفِي (الصِّحَاح) : وَالْجمع أوزاغ وَفِي (المغيث) : وَالْجمع أوزاغ. قَوْله: (فويسق) ، تَصْغِير: فَاسق، تَصْغِير تحقير. وهوانٍ، وَمُقْتَضَاهُ الذَّم لَهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الوزغ دَابَّة لَهَا قَوَائِم تعدو فِي أصُول الْحَشِيش، قيل: إِنَّهَا تَأْخُذ ضرع النَّاقة وتشرب من لَبنهَا، وَقيل: كَانَت تنفخ فِي نَار إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لتلتهب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الوزغة دويبة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَهِي الَّتِي يُقَال: سَام أبرص. قلت: هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَهِي الَّتِي تكون فِي الجدران والسقوف وَلها صَوت تصيح بِهِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (لما أحرق بَيت الْمُقَدّس كَانَت الأوزاغ تنفخه) . قَوْله: (وَلم أسمعهُ أَمر بقتْله) ، هُوَ كَلَام عَائِشَة أَي: لم أسمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر بقتل الوزغ، وَإِنَّمَا ذكرت الضَّمِير فِي: بقتْله، نظرا إِلَى ظَاهر اللَّفْظ وَإِن كَانَ جمعا فِي الْمَعْنى، وَقَول عَائِشَة هَذَا لَا يدل على منع قَتله، لِأَنَّهُ قد سَمعه غَيرهَا. وَفِي مُسلم من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا (أَمر بقتل الأوزاغ) . وَفِي حَدِيث عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتْله) . وَقَالَ أَبُو الْحسن الباغندي فِي (علله) : أَنه وهم، وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، وروى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعد بن أبي وَقاص أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتْله، وَفِيه انْقِطَاع بَين الزُّهْرِيّ وَسعد، وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز عَن مَالك، قَالَ: سَمِعت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل الوزغ، وَعَن أم شريك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتلها، على مَا سَيَأْتِي، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (من قتل وزغا فَلهُ صَدَقَة) . وَقَالَ ابْن عمر: (اقْتُلُوا الوزغ فَإِنَّهُ شَيْطَان) ، وَعَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تقتل الوزغ فِي بَيت الله تَعَالَى، وَسَأَلَ إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَطاء عَن قَتله فِي الْحرم؟ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَنقل ابْن عبد الْبر الِاتِّفَاق على جَوَاز قَتله فِي الْحل وَالْحرم، لَكِن نقل ابْن عبد الحكم

(10/185)


وَغَيره عَن مَالك: لَا يقتل الْمحرم الوزغ، زَاد ابْن الْقَاسِم: وَإِن قَتله يتَصَدَّق لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْخمس الْمَأْمُور بقتلها، وَذكر ابْن بزيزة فِي (أَحْكَامه) : قَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يقتل الْمحرم الْحَيَّة وَلَا الوزغ شَيْئا غير الحدأة والغراب وَالْكَلب الْعَقُور والفأرة وَالْعَقْرَب. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنه قَالَ: للْمحرمِ قتل الْحَيَّة، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من قتل وزغة فِي أول ضَرْبَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة، وَمن قَتلهَا فِي الثَّانِيَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة، دون الأولى، وَمن قَتلهَا فِي الضَّرْبَة الثَّالِثَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة دون الثَّانِيَة) . وَفِي لفظ: (من قتل وزغا فِي أول ضَرْبَة كتب لَهُ مائَة حَسَنَة، وَفِي الثَّانِيَة دون ذَلِك، وَفِي الثَّالِثَة دون ذَلِك) . وَفِي لفظ: (فِي أول ضَرْبَة سبعين حَسَنَة) ، وَقَالَ أَبُو عمر: الوزغ مجمع على تَحْرِيم أكله، وَقَالَ ابْن التِّين: أَبَاحَ مَالك قَتله فِي الْحرم، وَكره للْمحرمِ. وَقَالَ ابْن حزم، من طَرِيق سُوَيْد بن غَفلَة، قَالَ: أمرنَا عمر بن الْخطاب بقتل الزنبور وَنحن محرمون، وَعَن حبيب الْمعلم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: (لَيْسَ فِي الزنبور جَزَاء) .
وَقَالَ ابْن حزم: وَأما النَّمْل فَلَا يحل قَتله وَلَا قتل الهدهد وَلَا الصرد وَلَا النَّحْل وَلَا الضفدع لما روينَا من طَرِيق عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل أَربع من الدَّوَابّ: النملة والنحلة والهدهد والصرد) ، وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث سعيد بن خَالِد عَن سعيد بن الْمسيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان: (أَن طَبِيبا سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ضفدع يَجْعَلهَا فِي دَوَاء فَنَهَاهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، عَن قَتلهَا) . وَفِي (التَّوْضِيح) : اخْتلف المدنيون فِي الزنبور فشبهه بَعضهم بالحية وَالْعَقْرَب، فَإِن عرض لأنسان فَدفعهُ عَن نَفسه لم يكن فِيهِ شَيْء، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَأْمر بقتْله. وَقَالَ أَحْمد وَعَطَاء: لَا جَزَاء فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: يطعم شَيْئا، قَالَ إِسْمَاعِيل: وَإِنَّمَا لم يدْخل أَوْلَاد الْكَلْب الْعَقُور فِي حكمه لِأَنَّهُنَّ لَا يعقرن فِي صغرهن وَلَا فعل لَهُنَّ.

8 - (بابٌ لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الحَرَمِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يعضد شجر الْحرم، أَي: لَا يقطع، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من: عضدت الشّجر عضدا، من: بَاب ضرب يضْرب إِذا قطعته، والعضد، بِفتْحَتَيْنِ: مَا يكسر من الشّجر أَو يقطع. وَفِي (الْمُحكم) : وَالشَّجر معضود وعضيد واستعضده قطعه. وَفِي (المتهى) : أَي قطعه بالمعضد، يَعْنِي: بِالسَّيْفِ الممتهن فِي قطع الشّجر، وَالشَّجر معضود وعضد بِالتَّحْرِيكِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا عَن أبي شُرَيْح فِي هَذَا الْبَاب، وَذكره كَذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، وَسَنذكر مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
407 - (حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي أَنه قَالَ لعَمْرو بن سعيد وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير أحَدثك قولا قَامَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للغد من يَوْم الْفَتْح فَسَمعته أذناي ووعاه قلبِي وأبصرته عَيْنَايَ حِين تكلم بِهِ إِنَّه حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِن مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس فَلَا يحل لامرىء يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقولُوا لَهُ إِن الله أذن لرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَأْذَن لكم وَإِنَّمَا أذن لي سَاعَة من نَهَار وَقد عَادَتْ حرمتهَا الْيَوْم كحرمتها بالْأَمْس وليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فَقيل لأبي شُرَيْح مَا قَالَ لَك عَمْرو قَالَ أَنا أعلم بذلك مِنْك يَا أَبَا شُرَيْح إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا وَلَا فَارًّا بِدَم وَلَا فَارًّا بجزية: خربة بلية)

(10/186)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة " وَهَذَا الحَدِيث قد مر بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْعلم فِي بَاب ليبلغ الْعلم الشَّاهِد الْغَائِب وَقد ذكر هُنَاكَ أَكثر مَا يتَعَلَّق بِهِ ونستوفي هَهُنَا جَمِيع مَعَانِيه وَإِن وَقع فِيهِ تكْرَار فَإِن التّكْرَار يُفِيد النَّاظر فِيهِ خُصُوصا إِذا لم يقدر على مَا ذكر هُنَاكَ إِمَّا لبعد الْمسَافَة أَو لوجه آخر وَهَذَا الحَدِيث قد أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد وَهنا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن سعيد قَوْله " عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي " زَاد هُنَا الْعَدوي قيل نظر فِيهِ لِأَنَّهُ خزاعي من بني كَعْب بن ربيعَة بن لحي بطن من خُزَاعَة وَلِهَذَا يُقَال لَهُ الكعبي أَيْضا لَا عدوي وَلَيْسَ هُوَ من بني عدي لَا عدي قُرَيْش وَلَا عدي مُضر (قلت) يحْتَمل أَنه كَانَ حليفا لبني عدي بن كَعْب من قُرَيْش قَوْله " عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح " وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب " عَن سعيد سَمِعت أَبَا شُرَيْح " أخرجه أَحْمد وَاخْتلف فِي اسْمه فَالْمَشْهُور أَنه خويلد بن عَمْرو أسلم قبل الْفَتْح وَسكن الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وحديثين آخَرين قَوْله " لعَمْرو بن سعيد " هُوَ عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْمَعْرُوف بالأشدق لطيم الشَّيْطَان لَيست لَهُ صُحْبَة وَعرف بالأشدق لِأَنَّهُ صعد الْمِنْبَر فَبَالغ فِي شتم عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأَصَابَهُ لقُوَّة ولاه يزِيد بن مُعَاوِيَة الْمَدِينَة وَكَانَ أحب النَّاس إِلَى أهل الشَّام وَكَانُوا يسمعُونَ لَهُ ويطيعونه وَكتب إِلَيْهِ يزِيد أَن يُوَجه إِلَى عبد الله بن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جَيْشًا فوجهه وَاسْتعْمل عَلَيْهِم عَمْرو بن الزبير بن الْعَوام وَقَالَ الطَّبَرِيّ كَانَ قدوم عَمْرو بن سعيد واليا على الْمَدِينَة من قبل يزِيد بن مُعَاوِيَة فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتِّينَ وَقيل قدمهَا فِي رَمَضَان مِنْهَا وَهِي السّنة الَّتِي ولي فِيهَا يزِيد الْخلَافَة فَامْتنعَ ابْن الزبير من بيعَته وَأقَام بِمَكَّة فَجهز إِلَيْهِ عَمْرو بن سعيد جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِم عَمْرو بن الزبير وَكَانَ معاديا لِأَخِيهِ عبد الله وَكَانَ عَمْرو بن سعيد قد ولاه شرطة ثمَّ أرْسلهُ إِلَى قتال أَخِيه فجَاء مَرْوَان إِلَى عَمْرو بن سعيد فَنَهَاهُ فَامْتنعَ وجاءه أَبُو شُرَيْح فَذكر الْقِصَّة فَلَمَّا نزل الْجَيْش ذَا طوى خرج إِلَيْهِم جمَاعَة من أهل مَكَّة فهزموهم وَأسر عَمْرو بن الزبير فسجنه أَخُوهُ بسجن عَارِم وَكَانَ عَمْرو بن الزبير قد ضرب جمَاعَة من أهل الْمَدِينَة مِمَّن اتهمهم بالميل إِلَى أَخِيه فأقادهم عبد الله مِنْهُ حَتَّى مَاتَ عَمْرو من ذَلِك الضَّرْب قَوْله " وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث " جملَة حَالية والبعوث جمع الْبَعْث وَهُوَ الْجَيْش بِمَعْنى مَبْعُوث وَهُوَ من تَسْمِيَة الْمَفْعُول بِالْمَصْدَرِ وَالْمرَاد بِهِ الْجَيْش المجهز لِلْقِتَالِ قَوْله " إيذن " أَصله اأذن بهمزتين فقلبت الثَّانِيَة يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا قَوْله " أَيهَا الْأَمِير " أَصله يَا أَيهَا الْأَمِير فَحذف حرف النداء مِنْهُ قَوْله " قَامَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله " قولا " وانتصاب قولا على المفعولية قَوْله " الْغَد " بِالنّصب أَي الثَّانِي من يَوْم الْفَتْح قَوْله " سمعته أذناي " أَي حَملته عَنهُ بِغَيْر وَاسِطَة وَذكر الْأُذُنَيْنِ للتَّأْكِيد قَوْله " ووعاه قلبِي " أَي حفظه وَهُوَ تَحْقِيق لفهمه وتثبته قَوْله " وأبصرته عَيْنَايَ " زِيَادَة تَأْكِيد فِي تحقق ذَلِك قَوْله " حِين تكلم بِهِ " أَي بِذَاكَ القَوْل الْمَذْكُور وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سَمَاعه مِنْهُ لم يكن مُقْتَصرا على مُجَرّد الصَّوْت بل كَانَ مَعَ الْمُشَاهدَة والتحقق بِمَا قَالَه قَوْله " إِنَّه حمد الله " بَيَان لقَوْله " تكلم " قَوْله " حرمهَا الله " أَي حكم بتحريمها وقضاه بِهِ وَفِيه حجَّة لمن يرى الملتجىء إِلَى مَكَّة مِمَّن عَلَيْهِ دم لَا يقتل فِيهَا لِأَن معنى تَحْرِيم الله إِيَّاهَا أَن لَا يُقَاتل أَهلهَا ويؤمن من استجار بهَا وَلَا يتَعَرَّض لَهُ وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {وَمن دخله كَانَ آمنا} (فَإِن قلت) جَاءَ فِي حَدِيث أنس أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حرم مَكَّة وَسَيَجِيءُ فِي الْجِهَاد (قلت) قيل إِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حرم مَكَّة بِأَمْر الله تَعَالَى لَا بِاجْتِهَادِهِ وَقيل إِن الله تَعَالَى قضى يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سيحرم مَكَّة وَقيل أَن إِبْرَاهِيم أول من أظهر تَحْرِيمهَا بَين النَّاس وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ مَعْنَاهُ أَن الله حرم مَكَّة ابْتِدَاء من غير سَبَب ينْسب لأحد وَلَا لأحد فِيهِ مدْخل قَالَ وَلأَجل هَذَا أكد الْمَعْنى بقوله " وَلم يحرمها النَّاس " وَالْمرَاد بقوله " وَلم يحرمها النَّاس " أَن تَحْرِيمهَا ثَابت بِالشَّرْعِ لَا مدْخل لِلْعَقْلِ فِيهِ وَقيل المُرَاد أَنَّهَا من مُحرمَات الله فَيجب امْتِثَال ذَلِك وَلَيْسَ من مُحرمَات النَّاس يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّة كَمَا حرمُوا أَشْيَاء من عِنْد أنفسهم وَقيل مَعْنَاهُ أَن حرمتهَا مستمرة من أول الْخلق وَلَيْسَت مِمَّا اخْتصّت بِهِ شَرِيعَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَلَا يعضد " بِصِيغَة الْمَعْلُوم وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى امرىء أَي وَلَا يقطع قَوْله " بهَا " أَي بِمَكَّة وَوَقع فِي رِوَايَة معمر بن شبة بِلَفْظ " لَا يخضد " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة بدل الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ يرجع إِلَى معنى يعضد لِأَن أصل الخضد الْكسر وَيسْتَعْمل فِي الْقطع وَكلمَة لَا فِي " وَلَا يعضد " زَائِدَة لتأكيد النَّفْي قَوْله " فَإِن أحد

(10/187)


ترخص " ارْتِفَاع أحد بِفعل مُضْمر يفسره مَا بعده وَتَقْدِيره فَإِن ترخص أحد وَقَوله " ترخص " على وزن تفعل من الرُّخْصَة وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عِنْد أَحْمد " فَإِن ترخص مترخص " وَهُوَ الْمُتَكَلف للرخصة قَوْله " لقِتَال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يتَعَلَّق بقوله " ترخص " أَي لأجل قتال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا يَعْنِي لَا يَقُول أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل وَأَنا أَيْضا أقتل فَإِذا قَالَ كَذَلِك فَقولُوا لَهُ أَن الله أذن لرَسُوله وَلم يَأْذَن لَك قَوْله " وَإِنَّمَا أذن لي " بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الذَّال على بِنَاء الْفَاعِل وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الله ويروى بِضَم الْهمزَة على الْبناء للْمَجْهُول قَوْله " سَاعَة من نَهَار " قد مضى فِي كتاب الْعلم أَن مِقْدَار هَذِه السَّاعَة مَا بَين طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة الْعَصْر وَكَانَ قتل من قتل بِإِذن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَابْن خطل وَقع فِي هَذَا الْوَقْت الَّذِي أُبِيح فِيهِ الْقِتَال للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يحمل الحَدِيث على ظَاهره حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْجَواب عَن قصَّة ابْن خطل قَوْله " الْيَوْم " المُرَاد بِهِ الزَّمن الْحَاضِر يَعْنِي عَادَتْ حرمتهَا كَمَا كَانَت بالْأَمْس حَرَامًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلم يبين غَايَة الْحُرْمَة هُنَا وَبَينهَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي يَأْتِي بعد بَاب بقوله " فَهُوَ حرَام بِحرْمَة الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَوْله " فَقيل لأبي شُرَيْح " لم يدر هَذَا الْقَائِل لأبي شُرَيْح الْمَذْكُور من هُوَ وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَق أَنه بعض قومه من خُزَاعَة قَوْله " مَا قَالَ لَك عَمْرو " وَهُوَ عَمْرو بن سعيد الْمَذْكُور فِي السَّنَد قَوْله " قَالَ أَنا أعلم " أَي قَالَ عَمْرو بن سعيد أَنا أعلم بذلك أَي بالمذكور من قَول أبي شُرَيْح أَن مَكَّة حرمهَا الله تَعَالَى إِلَى قَوْله فَقيل لأبي شُرَيْح وَالْعجب من عَمْرو بن سعيد حَيْثُ سَاق الحكم مساق الدَّلِيل وخصص الْعُمُوم بِلَا دَلِيل قَوْله " لَا يعيذ " بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي لَا يجير عَاصِيا وَلَا يعصمه قَوْله " وَلَا فَارًّا " بِالْفَاءِ من الْفِرَار وَهُوَ الهروب وَالْمرَاد من وَجب عَلَيْهِ الْحَد لقَتله ثمَّ هرب إِلَى مَكَّة مستجيرا بِالْحرم قَوْله " بخربة " بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتحهَا وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي الْمُحكم الخربة يَعْنِي بِالْفَتْح والخربة يَعْنِي بِالضَّمِّ والخرب والخرب الْفساد فِي الدّين والخربة الذلة يُقَال مَا لفُلَان خربة قَالَ أَبُو الْمعَانِي الخارب اللص والخرابة اللصوصية وَقَالَ الْأَصْمَعِي الخارب سَارِق الْبَعِير خَاصَّة وَالْجمع خراب وَخرب فلَان بِإِبِل فلَان يخرب خرابة مثل كتب يكْتب كِتَابَة والخربة الفعلة مِنْهُ وَقَالَ اللحياني خرب فلَان بِإِبِل فلَان يخرب بهَا خربا وخروبا وخرابا وخرابا أَي سَرَقهَا كَذَا حَكَاهُ مُتَعَدِّيا بِالْبَاء وَقَالَ مرّة خرب فلَان أَي صَار لصا وَأَشَارَ ابْن الْعَرَبِيّ إِلَى ضَبطه بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الزَّاي بدل الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف بدل الْبَاء الْمُوَحدَة قيل الْمَعْنى صَحِيح وَلَكِن لَا تساعده على ذَلِك الرِّوَايَة (قلت) لم يظْهر لي صِحَة الْمَعْنى مَعَ عدم الرِّوَايَة وَحكى الْكرْمَانِي جِزْيَة بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الزَّاي وَهُوَ أَيْضا بعيد قَوْله " قَالَ أَبُو عبد الله " هُوَ البُخَارِيّ نَفسه فسر الخربة بقوله " بلية " قَالَ بَعضهم هُوَ تَفْسِير من الرَّاوِي ثمَّ قَالَ وَالظَّاهِر أَنه المُصَنّف " قلت " صرح بقوله " قَالَ أَبُو عبد الله " وَلم يبْق وَجه أَن يُقَال تَفْسِير من الرَّاوِي على الْإِبْهَام وَمن الْفَوَائِد هُنَا أَن تعلم أَن من عد كَلَام عَمْرو بن سعيد الْمَذْكُور حَدِيثا وَاحْتج بِمَا تضمنه كَلَامه فقد وهم وهما فَاحِشا وَعَن هَذَا قَالَ ابْن حزم لَا كَرَامَة للطيم الشَّيْطَان أَن يكون أعلم من صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) أَرَادَ من لطيم الشَّيْطَان هُوَ عَمْرو بن سعيد فَإِنَّهُ كَانَ يلقب بِهِ وَأَرَادَ بِصَاحِب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ أَبُو شُرَيْح الْعَدوي الْمَذْكُور فِيهِ (فَإِن قلت) قَالَ ابْن بطال سكُوت أبي شُرَيْح عَن جَوَاب عَمْرو بن سعيد يدل على أَنه رَجَعَ إِلَيْهِ فِي التَّفْصِيل الْمَذْكُور (قلت) يرد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده أَنه قَالَ فِي آخِره " قَالَ أَبُو شُرَيْح فَقلت لعَمْرو قد كنت شَاهدا وَكنت غَائِبا وَقد أمرنَا أَن يبلغ شاهدنا غائبنا وَقد بلغتك " فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَنه لم يُوَافقهُ وَإِنَّمَا ترك المشافهة مَعَه لعَجزه عَنهُ لأجل شوكته وَقَالَ ابْن بطال أَيْضا لَيْسَ قَول عَمْرو جَوَابا لأبي شُرَيْح لِأَنَّهُ لم يخْتَلف مَعَه أَن من أصَاب حدا فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ أَنه يجوز إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ فِي الْحرم فَإِن أَبَا شُرَيْح أنكر بعث عمر والجيش إِلَى مَكَّة وَنصب الْحَرْب عَلَيْهَا فَأحْسن فِي استدلاله بِالْحَدِيثِ وحاد عَمْرو عَن جَوَابه وأجابه عَن غير سُؤَاله وَاعْترض الطَّيِّبِيّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يحد فِي جَوَابه وَإِنَّمَا أجَاب بِمَا يَقْتَضِيهِ القَوْل بِالْمُوجبِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ صَحَّ سماعك وحفظك لَكِن الْمَعْنى المُرَاد بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكرته خلاف مَا فهمته مِنْهُ قَالَ فَإِن ذَلِك التَّرَخُّص كَانَ بِسَبَب الْفَتْح وَلَيْسَ بِسَبَب قتل من اسْتحق الْقَتْل خَارج الْحرم

(10/188)


ثمَّ استجار بِالْحرم وَالَّذِي أَنا فِيهِ من الْقَبِيل الثَّانِي. وَمن فَوَائده أَن لَا يجوز قطع أَغْصَان شجر مَكَّة الَّتِي أَنْشَأَهَا الله فِيهَا مِمَّا لَا صنع فِيهِ لبني آدم وَإِذا لم يجز قطع أَغْصَانهَا فَقطع شَجَرهَا أولى بِالنَّهْي وَقَامَ الْإِجْمَاع كَمَا قَالَ ابْن الْمُنْذر على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم. وَاخْتلفُوا فِيمَا يجب على قاطعها فَقَالَ مَالك لَا شَيْء عَلَيْهِ غير الاسْتِغْفَار وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَذكر الطَّبَرِيّ عَن عمر مثل مَعْنَاهُ وَقَالَ الشَّافِعِي عَلَيْهِ الْجَزَاء فِي الْجَمِيع الْمحرم فِي ذَلِك والحلال سَوَاء فِي الشَّجَرَة الْكَبِيرَة بقرة وَفِي الصَّغِيرَة شَاة وَفِي الْخشب وَمَا أشبهه فِيهِ قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ خص الْفُقَهَاء الشّجر الْمنْهِي عَن قطعه بِمَا ينبته الله تَعَالَى من غير صنع آدَمِيّ فَأَما مَا ينْبت بمعالجة آدَمِيّ فَاخْتلف فِيهِ وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْجَمِيع الْجَزَاء وَرجحه ابْن قدامَة وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اتَّفقُوا على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم إِلَّا أَن الشَّافِعِي أجَاز قطع السِّوَاك من فروع الشَّجَرَة كَذَا نَقله أَبُو ثَوْر عَنهُ وَأَجَازَ أَيْضا أَخذ الْوَرق وَالثَّمَر إِذا كَانَ لَا يَضرهَا وَلَا يهلكها وَبِهَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وَغَيرهمَا وأجازوا قطع الشوك بِكَوْنِهِ يُؤْذِي بطبعه فَأشبه الفواسق وَمنعه الْجُمْهُور وَقَالَ ابْن قدامَة وَلَا بَأْس بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ من الأغصان وَانْقطع من الشّجر بِغَيْر صنع آدَمِيّ وَلَا بِمَا يسْقط من الْوَرق نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا انْتهى وَأجْمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة أَخذ كل مَا ينبته النَّاس فِي الْحرم من الْبُقُول والزروع والرياحين وَغَيرهَا وَفِي التَّلْوِيح وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم فروينا عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعمر بن عُمَيْر أَنهم رخصوا فِي ذَلِك. وَمن فَوَائده جَوَاز إِخْبَار الرجل عَن نَفسه بِمَا يَقْتَضِي بِهِ ثقته وَضَبطه لما سَمعه. وَمِنْهَا إِنْكَار الْعَالم على الْحَاكِم مَا يُغَيِّرهُ من أَمر الدّين وَالْمَوْعِظَة بلطف وتدريج. وَمِنْهَا الِاقْتِصَار فِي الْإِنْكَار على اللِّسَان إِذا لم يسْتَطع بِالْيَدِ. وَمِنْهَا وُقُوع التَّأْكِيد فِي الْكَلَام البليغ. وَمِنْهَا جَوَاز المجادلة فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة. وَمِنْهَا الْخُرُوج عَن عُهْدَة التَّبْلِيغ وَالصَّبْر على المكاره إِذا لم يسْتَطع بدا من ذَلِك. وَمِنْهَا جَوَاز قبُول خبر الْوَاحِد لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن كل من شهد الْخطْبَة قد لزمَه الإبلاغ وَأَنه لم يَأْمُرهُم بإبلاغ الْغَائِب عَنْهُم أَلا وَهُوَ لَازم لَهُ فرض الْعَمَل بِمَا أبلغه كَالَّذي لزم السَّامع سَوَاء وَإِلَّا لم يكن بِالْأَمر بالتبليغ فَائِدَة. وَمِنْهَا أَن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا. وَفِيه القَوْل للْعُلَمَاء وحجج قد ذَكرنَاهَا فِي كتاب الْعلم وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآل

9 - (بابٌ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُ الحَرَمِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا ينفر صيد الْحرم، وينفر على صِيغَة الْمَجْهُول من التنفير، قيل: هُوَ كِنَايَة عَن الِاصْطِيَاد، وَقيل: على ظَاهره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحرم التنفير وَهُوَ الإزعاج عَن مَوْضِعه، فَإِن نفره عصي، سَوَاء تلف أَو لَا، فَإِن تلف فِي نفاره قبل سكونه ضمن، وإلاَّ فَلَا، وَيُسْتَفَاد من النَّهْي عَن التنفير تَحْرِيم الْإِتْلَاف بِالطَّرِيقِ الأولى.

3381 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الله حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لأِحَدٍ قَبْلِي ولاَ تَحِلُّ لأِحَدٍ بَعْدِي وَإنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلاَهَا ولاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا ولاَ يُنَفَّرْ صَيْدُهَا ولاَ تُلْتَقَطُ لُقَطتُهَا إلاَّ لِمُعَرِّفٍ وَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ الله إلاَّ الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وقُبُورِنا فَقَالَ إلاَّ الأذْخِرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا ينفر صيدها) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الْإِذْخر والحشيش فِي الْقَبْر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب عَن عبد الْوَهَّاب وَهُوَ الثَّقَفِيّ عَن خَالِد هُوَ الْحذاء، وَهَهُنَا أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ. قَوْله: (فَلم تحل لأحد بعدِي) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَلَا تحل) وَفِي الْبَاب الَّذِي بعده: (وَأَنه لم يحل الْقِتَال فِيهِ لأحد بعدِي) . وَعند البُخَارِيّ فِي أَوَائِل البيع من طَرِيق خَالِد الطَّحَّان عَن خَالِد الْحذاء بِلَفْظ: (فَلم تحل لأحد قبلي وَلَا تحل لأحد بعدِي) ، وَمثله عِنْد أَحْمد من طَرِيق وهب عَن خَالِد، وَقَالَ ابْن بطال:

(10/189)


المُرَاد بقوله: (وَلَا تحل لأحد بعدِي) الْإِخْبَار عَن الحكم فِي ذَلِك لَا الْإِخْبَار بِمَا سيقع، لوُقُوع خلاف ذَلِك فِي الشَّاهِد كَمَا وَقع من الْحجَّاج وَغَيره. قَوْله: (لَا يختلي) أَي: لَا يجز وَلَا يُؤْخَذ. قَوْله: (خَلاهَا) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة مَقْصُور: الرطب من الْكلأ. قَوْله: (وَلَا تلْتَقط) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وضعن لَا تلْتَقط معنى: لَا يحل الِالْتِقَاط، وَيجوز أَن يكون: لَا تلْتَقط، على صِيغَة الْمَعْلُوم فَتكون اللَّام حِينَئِذٍ فِي الْمُعَرّف زَائِدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حكم جَمِيع الْبِلَاد هَذَا، وَهُوَ أَن لَا تلْتَقط إلاَّ للتعريف. قلت: هَذَا للتعريف الْمُجَرّد أَي: لَا يتملكها بعد التَّعْرِيف، بل يعرفهَا أبدا. قَوْله: (لصاغتنا) جمع صائغ. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) ، بِكَسْر الْهمزَة، نبت مَعْرُوف والمستثنى مِنْهُ هُوَ قَوْله: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) ، وَمثله يُسمى بِالِاسْتِثْنَاءِ التلقيني.
وعنْ خَالِدٍ عَنْ عكْرِمَةَ قَالَ هَلْ تَدْري مَا لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا هُوَ أنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنزِلُ مَكَانَهُ

وَعَن خَالِد، عطف على قَوْله: حَدثنَا خَالِد عَن عِكْرِمَة دَاخل فِي الْإِسْنَاد الْمَذْكُور. قَوْله: (قَالَ: هَل تَدْرِي) هَذَا خطاب من عِكْرِمَة لخَالِد، يُرِيد أَن يُنَبه عِكْرِمَة بذلك على الْمَنْع من الْإِتْلَاف وَسَائِر أَنْوَاع الْأَذَى، وَهَذَا تَنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقل لَهما أفٍ} (الْإِسْرَاء: 32) . فَإِذا كَانَ الشَّخْص مَمْنُوعًا عَن القَوْل بأفٍّ لوَالِديهِ فَمَنعه عَن سبهما بطرِيق الأولى. وَقد خَالف فِي ذَلِك عَطاء وَمُجاهد عِكْرِمَة فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا بَأْس بطرده مَا لم يفض إِلَى قَتله، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، وروى أَيْضا من طَرِيق الحكم عَن شيخ من أهل مَكَّة أَن حَماما كَانَ على الْبَيْت، فذرق على يَد عمر، فَأَشَارَ عمر بِيَدِهِ فطار فَوَقع على بعض بيُوت مَكَّة، فَجَاءَت حَيَّة فأكلته، فَحكم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على نَفسه بِشَاة. وروى من طَرِيق آخر عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. نَحوه. قَوْله: (مَا لَا ينفر؟) ، أَي: مَا الشَّيْء الَّذِي ينفر صيد مَكَّة، وَكلمَة: مَا، استفهامية فيستفهم بهَا عَن مَضْمُون الْجُمْلَة الَّتِي بعْدهَا أَي: مَا الْغَرَض من لفظ: مَا لَا ينفر صيدها؟ قَوْله: (هُوَ) أَي: التنفير، دلّ عَلَيْهِ قَوْله: (ينفر) من قبيل قَوْله تَعَالَى: {اعدلوا هُوَ} (الْمَائِدَة: 8) . أَي: الْعدْل {أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . قَوْله: (أَن ينحيه) من التنحية، وَهُوَ الإبعاد من نحى ينحي بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ على صِيغَة الْغَائِب وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى المنفر الَّذِي يدل عَلَيْهِ لفظ ينفر، ويروى: تنحية بِالْخِطَابِ. وَقَوله: (ينزل) بِالْوَجْهَيْنِ أَيْضا، وَمعنى: ينزل، مَكَانَهُ، أَي: مَكَان الصَّيْد، وَهَذِه جملَة وَقعت حَالا.

01 - (بابُ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا يحل الْقِتَال بِمَكَّة أَي فِي مَكَّة. قَوْله: (الْقِتَال) ، هَكَذَا وَقع فِي لفظ الحَدِيث، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة أُخْرَى بِلَفْظ: (الْقَتْل) ، وَالْفرق بَين الْقَتْل والقتال ظَاهر، أما الْقَتْل فَنقل بَعضهم الِاتِّفَاق على جَوَاز إِقَامَة حد الْقَتْل فِيهَا على من أوقعه فِيهَا، وَخص الْخلاف بِمن قتل فِي الْحل، ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم. وَمِمَّنْ نقل الْإِجْمَاع على ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ، وَأما الْقِتَال فَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص مَكَّة أَن لَا يحارب أَهلهَا، فَلَو بغوا على أهل الْعدْل فَإِن أمكن ردهم بِغَيْر قتال لم يجز، وَإِن لم يُمكن إلاَّ بِالْقِتَالِ. فَقَالَ الْجُمْهُور: يُقَاتلُون لِأَن قتال الْبُغَاة من حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا يجوز إضاعتها، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يجوز قِتَالهمْ بل يضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة.
وَقَالَ أبُو شُرَيْحٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُسْفَكُ بِهَا دَما

أَبُو شُرَيْح: هُوَ الصَّحَابِيّ الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق، وَقد مضى فِيهِ هَذَا التَّعْلِيق مَوْصُولا.

4381 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طَاوُوس عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ ولَكنْ جِهَادً ونِيَّةٌ وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفُرُوا فإنَّ هذَا بَلَدٌ حَرَّمَ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأِحَدٍ قَبْلِي ولَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمةِ الله إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ولاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ

(10/190)


إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ولاَ يُخْتَلَى خَلاهَا. قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رسولَ الله إلاَّ الإذْخِرُ فإنَّهُ لِقَيُنِهِم ولِبُيُوتِهِمْ قَالَ إلاَّ الإذْخِرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَهُوَ حرَام بِحرْمَة الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) وَعُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ عُثْمَان بن مُحَمَّد ابْن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان أَبُو الْحسن الْعَبْسِي الْكُوفِي وَهُوَ أَخُو أبي بكر عبد الله بن أبي شيبَة، مَاتَ فِي الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أكبر من أبي بكر بِثَلَاث سِنِين، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر يروي عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، كَذَا يرويهِ مَوْصُولا، وَخَالفهُ الْأَعْمَش فَرَوَاهُ عَن مُجَاهِد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن أبي معمر عَنهُ، وَمَنْصُور ثِقَة حَافظ فَالْحكم لوصله. .
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَفِي الْجِزْيَة: عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْجِهَاد: عَن آدم عَن شَيبَان وَعَن عَليّ بن عبد الله وَعَمْرو بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج وَالْجهَاد عَن عُثْمَان بِهِ مُنْقَطِعًا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (يَوْم افْتتح مَكَّة) مَنْصُوب لِأَنَّهُ ظرف: لقَالَ. قَوْله: (لَا هِجْرَة) ، أَي: بعد الْفَتْح، وَكَذَا جَاءَ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ فِي رِوَايَته عَن جرير فِي كتاب الْجِهَاد وَالْهجْرَة من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام: بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَلم تبقَ هِجْرَة من مَكَّة بعد أَن صَارَت دَار الْإِسْلَام، وَهَذَا يتَضَمَّن معْجزَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَنَّهَا تبقى دَار الْإِسْلَام لَا يتَصَوَّر مِنْهَا الْهِجْرَة. قَوْله: (وَلَكِن جِهَاد) ، أَي: لَكِن لكم طَرِيق إِلَى تحصل الْفَضَائِل الَّتِي فِي معنى الْهِجْرَة، وَذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَنِيَّة الْخَيْر فِي كل شَيْء من لِقَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَحْوه. وارتفاع: جِهَاد، على الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف مقدما، تَقْدِيره: لكم جِهَاد. قَوْله: (وَإِذا استنفرتم) أَي: إِذا دعَاكُمْ الإِمَام إِلَى الْخُرُوج إِلَى الْغَزْو فاخرجوا إِلَيْهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (وَلَكِن جِهَاد) ، عطف على مَحل مَدْخُول: (وَلَا هِجْرَة) أَي: الْهِجْرَة من الأوطان إِمَّا هِجْرَة الْفِرَار من الْكفَّار، وَإِمَّا إِلَى الْجِهَاد، وَإِمَّا إِلَى غير ذَلِك كَطَلَب الْعلم، وانقطعت الأولى وَبقيت الأخريان فاغتنموهما وَلَا تقاعدوا عَنْهُمَا، وَإِذا استنفرتم فانفروا. قَوْله: (فَإِن هَذَا بلد) الْفَاء فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا علمْتُم ذَلِك فاعلموا أَن هَذَا بلد حرَام. قَوْله: (حرم الله) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حرمه الله) بِالْهَاءِ، قَوْله: (بِحرْمَة الله) ، أَي: بِتَحْرِيمِهِ، وَهَذَا تَأْكِيد للتَّحْرِيم. قَوْله: (وَإنَّهُ) أَي: إِن الشَّأْن (لم يحل الْقِتَال فِيهِ) هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بِلَفْظ: (لم يحل) ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (لَا يحل) ، بِلَفْظ: لَا، وَالْأول أشبه. لقَوْله: (قبلي) . قَوْله: (وَلَا يلتقط) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم وفاعله هُوَ قَوْله: (من عرفهَا) . قَوْله: (خَلاهَا) بِالْقصرِ كَمَا ذكرنَا، وَذكر ابْن التِّين أَنه وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْمدِّ، وَهُوَ: الرطب من النَّبَات، واختلاؤه وقطعه واحتشاشه، وَتَخْصِيص التَّحْرِيم بالرطب إِشَارَة إِلَى جَوَاز رعي الْيَابِس واختلائه، وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة، لِأَن النبت الْيَابِس كالصيد الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن قدامَة: لَكِن فِي اسْتثِْنَاء الْإِذْخر إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم الْيَابِس من الْحَشِيش، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (وَلَا يحتش حشيشها) . قَوْله: (قَالَ الْعَبَّاس) ، هُوَ ابْن عبد الْمطلب، كَمَا وَقع كَذَلِك فِي المغاوي من وَجه آخر. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) ، قد ذكرنَا أَنه اسْتثِْنَاء تلقيني وَالِاسْتِثْنَاء التلقيني هُوَ أَن الْعَبَّاس لم يرد بِهِ أَن يَسْتَثْنِي هُوَ بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَن يلقن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز الْفَصْل بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ، وَمذهب الْجُمْهُور اشْتِرَاط الِاتِّصَال إِمَّا لفظا وَإِمَّا حكما كجواز الْفَصْل بالتنفس مثلا، وَقد اشْتهر عَن ابْن عَبَّاس الْجَوَاز مُطلقًا، وَاحْتج لَهُ بِظَاهِر هَذِه القة. وَأجَاب الْجُمْهُور عَنهُ بِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء فِي حكم الْمُتَّصِل لاحْتِمَال أَن يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادَ أَن يَقُول: إلاَّ الْإِذْخر، فَشَغلهُ الْعَبَّاس بِكَلَامِهِ، فوصل كَلَامه بِكَلَام نَفسه، فَقَالَ: إلاَّ الْإِذْخر، وَقد قَالَ مَالك: يجوز الْفَصْل مَعَ إِضْمَار الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ. فَإِن قلت: هَل كَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إلاَّ الْإِذْخر؟) بِاجْتِهَاد أَو وَحي؟ قلت: اخْتلفُوا فِيهِ

(10/191)


فَقيل: أوحى الله قبل ذَلِك أَنه إِن طلب أحد اسْتثِْنَاء شَيْء من ذَلِك فأجب سُؤَاله، وَقيل: كَانَ الله تَعَالَى فوض لَهُ الحكم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُطلقًا. وَحكى ابْن بطال عَن الْمُهلب: أَن الِاسْتِثْنَاء هُنَا للضَّرُورَة كتحليل أكل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة، وَقد بَين الْعَبَّاس ذَلِك بِأَن الْإِذْخر لَا غنى لأهل مَكَّة عَنهُ، ورد عَلَيْهِ بِأَن الَّذِي يُبَاح للضَّرُورَة يشْتَرط حُصُولهَا فِيهِ، فَلَو كَانَ الْإِذْخر مثل الْميتَة لامتنع اسْتِعْمَاله إلاَّ فِيمَن تحققت ضَرُورَته فِيهِ، وَالْإِجْمَاع على أَنه مُبَاح مُطلقًا بِغَيْر قيد الضَّرُورَة، وَقيل: الْحق أَن سُؤال الْعَبَّاس كَانَ على معنى الضراعة وترخيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تبليغا عَن الله تَعَالَى، إِمَّا بطرِيق الإلهام أَو بطرِيق الْوَحْي، وَمن ادّعى أَن نزُول الْوَحْي يحْتَاج إِلَى أمد متسع فقد وهم، وَيجوز فِي الْإِذْخر الرّفْع على أَنه بدل مِمَّا قبله، وَيجوز النصب لكَونه اسْتثِْنَاء وَقع بعد النَّهْي، وَقَالَ ابْن مَالك: وَالْمُخْتَار النصب لكَون الِاسْتِثْنَاء وَقع متراخيا عَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فبعدت المشاكلة بالبدلية، لكَون الِاسْتِثْنَاء أَيْضا عرض فِي آخر الْكَلَام، وَلم يكن مَقْصُودا. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الْإِذْخر. قَوْله: (لِقَيْنِهِم) ، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء فِي آخر الْحُرُوف بعْدهَا نون، وَهُوَ الْحداد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْقَيْن عِنْد الْعَرَب كل ذِي صناعَة يعالجها بِنَفسِهِ. قَوْله: (ولبيوتهم) يَعْنِي: لسقوف بُيُوتهم حَيْثُ يجعلونه فَوق الْخشب، وَقَالَ التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ يوقدونه فِي بُيُوتهم، وَفِي رِوَايَة الْمَغَازِي: (فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ للقين والبيوت) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة: (فَإِنَّهُ لصاغتنا وَقُبُورنَا) . وَوَقع فِي مُرْسل مُجَاهِد عِنْد عمر بن شبة الْجمع بَين الثَّلَاثَة، وَوَقع عِنْده أَيْضا، (فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله! إِن أهل مَكَّة لَا صَبر لَهُم عَن الْإِذْخر لِقَيْنِهِم وَبُيُوتهمْ) .
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز مُرَاجعَة الْعَالم فِي الْمصَالح الشَّرْعِيَّة والمبادرة إِلَى ذَلِك فِي المجامع والمشاهد. وَمِنْهَا: عظم منزلَة الْعَبَّاس عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا عنايته بِأَمْر مَكَّة لكَونه كَانَ مِنْهَا أَصله ومنشؤه. وَمِنْهَا: رفع وجوب الْهِجْرَة عَن مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وإبقاء حكمهَا من بِلَاد الْكفْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَمِنْهَا: أَنه يشْتَرط الْإِخْلَاص للْجِهَاد وَلكُل نِيَّة فِيهَا خير، وَالله أعلم.

11 - (بابُ الحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحجامَة للْمحرمِ، هَل يمْنَع مِنْهَا أَو يُبَاح لَهُ مُطلقًا أَو للضَّرُورَة؟ وَالْمرَاد فِي ذَلِك كُله المحجوم لَا الحاجم.
وكَوَى ابنُ عُمَرَ ابْنَهُ وهْوَ مُحْرُمٌ

يسْتَأْنس مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن كلاًّ من الْحجامَة والكي يسْتَعْمل للتداوي عِنْد الضَّرُورَة، وَابْن عمر هُوَ عبد الله، وَاسم ابْنه وَاقد بِالْقَافِ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق مُجَاهِد، قَالَ: أصَاب وَاقد بن عبد الله بن عمر برسام فِي الطَّرِيق وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى مَكَّة، فكواه ابْن عمر.
ويَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ

أَي: ويتداوى الْمحرم بدواء مَا لم يكن فِيهِ طيب، وَفِي بعض النّسخ: بِمَا لم يكن فِيهِ طيب، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا من تَتِمَّة التَّرْجَمَة وَلَيْسَ فِي أثر ابْن عمر كَمَا ترى، وَأما قَول الْكرْمَانِي: يتداوى، فَاعله إِمَّا الْمحرم وَإِمَّا ابْن عمر، فَكَلَام من لم يقف على أثر ابْن عمر. انْتهى. قلت: أما قَول هَذَا الْقَائِل: هَذَا من تَتِمَّة التَّرْجَمَة، فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن أثر ابْن عمر فَأصل يمْنَع أَن يكون هَذَا من التَّرْجَمَة، وَأما قَول الْكرْمَانِي: وَأما ابْن عمر فَكَذَلِك، لَيْسَ بِشَيْء لوُقُوع هَذَا أَيْضا بعد أثر ابْن عمر فِي غير مَحَله، وَمَعَ هَذَا أَشَارَ بِهِ إِلَى جَوَاز التَّدَاوِي للْمحرمِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ طيب، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي أَوَائِل الْحَج فِي: بَاب الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يشم الْمحرم الريحان، وَينظر فِي الْمرْآة ويتداوى وَيَأْكُل الزَّيْت وَالسمن، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْحسن، قَالَ: إِن أصَاب الْمحرم شجة فَلَا بَأْس بِأَن يَأْخُذ مَا حولهَا من الشّعْر ثمَّ يداويها بِمَا لَيْسَ فِيهِ طيب.

5381 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌ وأولُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ احْتَجَمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ حدَّثني طاوُوسٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.

(10/192)


الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: طَاوُوس الْيَمَانِيّ. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن مُسَدّد، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور وَفِي الْبَاب عَن أنس وَعبد الله بن بُحَيْنَة وَجَابِر وَابْن عمر. أما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة معمر (عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم على ظهر الْقدَم من وجع كَانَ بِهِ) رَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن حميد (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ محرم من وجع كَانَ فِي رَأسه) . وَأما حَدِيث عبد الله بن بُحَيْنَة فمتفق عَلَيْهِ على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة ابي الزبير (عَن جَابر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ محرم من وثي كَانَ بِهِ) . وَقَالَ ابْن مَاجَه من رهصة أَخَذته. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة مُسلم بن سَالم الْبَلْخِي عَن عبيد الله الْعمريّ (عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم صَائِم وَأعْطى الْحجام أجره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عَمْرو) أَي: عَمْرو بن دِينَار. قَوْله: (أول شَيْء) أَي: أول مرّة بِقَرِينَة، ثمَّ سمعته يَقُول: أَي روى عَطاء أَولا عَن ابْن عَبَّاس بِدُونِ الْوَاسِطَة وَثَانِيا بِوَاسِطَة طَاوُوس، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي ورد عَلَيْهِ بَعضهم، فَقَالَ: هَذَا كَلَام من لم يقف على طرق الحَدِيث، وَلَا يعلم مَعَ ذَلِك لعطاء عَن طَاوُوس رِوَايَة أصلا. قلت: الردّ لَهُ وَجه، لِأَن إِثْبَات الْوَاسِطَة ونفيها فِي رِوَايَة عَطاء لَا دخل لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَن عَمْرو بن دِينَار تَارَة يَقُول: سَمِعت عَطاء يَقُول: سَمِعت ابْن عَبَّاس، وَتارَة يَقُول: سَمِعت طاووسا عَن ابْن عَبَّاس، فَهَذَا يدل على أَن عمرا سمع من عَطاء وطاووس، وَهُوَ كَذَلِك على مَا نذكرهُ عَن مُسلم وَغَيره. قَوْله: (وَهُوَ محرم) ، جملَة حَالية. قَوْله: (ثمَّ سمعته يَقُول) ، مقول سُفْيَان وَالضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى عَمْرو، وَكَذَا قَوْله: (فَقلت لَعَلَّه سَمعه) ، أَي: لَعَلَّ عمرا سمع الحَدِيث مِنْهُمَا، أَي: من عَطاء وطاووس، وَقد بَين ذَلِك الْحميدِي عَن سُفْيَان فَقَالَ: حَدثنَا بِهَذَا الحَدِيث عَمْرو مرَّتَيْنِ فَذكره، لَكِن قَالَ: فَلَا أَدْرِي أسمعهُ مِنْهُمَا أَو كَانَت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وهما؟ وَزَاد أَبُو عوَانَة: قَالَ سُفْيَان: ذكر لي أَنه سَمعه مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن طَاوُوس وَعَطَاء عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن سُفْيَان يَعْنِي ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: قَالَ لنا عَمْرو، يَعْنِي: ابْن دِينَار: سَمِعت عَطاء قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَقُول: (احْتجم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ محرم) . ثمَّ قَالَ بعد: أَخْبرنِي طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: (احْتجم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ محرم) وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة نَحْو رِوَايَة عَليّ بن عبد الله، وَقَالَ فِي آخِره، فَظَنَنْت أَنه رَوَاهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: دلّ الحَدِيث على جَوَاز الْحجامَة للْمحرمِ مُطلقًا، وَبِه قَالَ عَطاء ومسروق وَإِبْرَاهِيم وطاووس وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَأخذُوا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: مَا لم يقطع الشّعْر. وَقَالَ قوم: لَا يحتجم الْمحرم إلاَّ من ضَرُورَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر، وَبِه قَالَ مَالك، وَحجَّة هَذَا القَوْل أَن بعض الروَاة يَقُول: (إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم لضَرَر كَانَ بِهِ) . رَوَاهُ هِشَام بن حسان عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا احْتجم وَهُوَ محرم فِي رَأسه لأَذى كَانَ بِهِ) . وَرَوَاهُ حميد الطَّوِيل (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وجع كَانَ بِهِ) . وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنه لَا يجوز لَهُ حلق شَيْء من شعر رَأسه حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر إلاَّ من ضَرُورَة، وَأَنه إِن حلقه من ضَرُورَة فَعَلَيهِ الْفِدْيَة الَّتِي قضى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كَعْب بن عجْرَة، فَإِن لم يحلق المحتجم شعرًا فَهُوَ كالعرق يقطعهُ، أَو الدمل يبطه، أَو القرحة ينكؤها، وَلَا يضرّهُ ذَلِك وَلَا شَيْء عَلَيْهِ عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء. وَعند الْحسن الْبَصْرِيّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ ابْن التِّين: الْحجامَة ضَرْبَان: مَوضِع يحْتَاج إِلَى

(10/193)


حلق الشّعْر فيفتدى من فعله، وَالْأَصْل جَوَازه لهَذَا الْخَبَر، وَفِي الْفِدْيَة قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} (الْبَقَرَة: 481 و 691) . الْآيَة، وَمَوْضِع يحْتَاج إِلَى حلق فِي غير الرَّأْس فيفتدى، قَالَ عبد الْملك فِي (الْمَبْسُوط) : شعر الرَّأْس والجسد سَوَاء، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أهل الظَّاهِر: لَا فديَة عَلَيْهِ إلاَّ أَن يحلق رَأسه، وَإِن كَانَت الْحجامَة فِي مَوضِع لَا يحْتَاج إِلَى حلق فَإِن كَانَت لضَرُورَة جَازَت وَلَا فديَة، وَإِن كَانَت لغير ضَرُورَة فَمَنعه مَالك وَأَجَازَهُ سَحْنُون، وَرُوِيَ نَحوه عَن عَطاء.

6381 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ عنْ علْقَمَةَ بنِ أبِي عَلقَمَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ الأعْرَجِ عنِ ابنِ بُحَيْنَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ احْتَجَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وسطِ رأسِهِ.
(الحَدِيث 6381 طرفه فِي: 8965) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: البَجلِيّ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو محكد الْقرشِي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة واسْمه بِلَال مولى عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، مَاتَ فِي أول خلَافَة أبي جَعْفَر. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج. الْخَامِس: عبد الله بن بُحَيْنَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: وَهُوَ عبد الله بن مَالك بن القشب، وبحينة أمه وَهِي بنت الْأَرَت.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي والبقية مدنيون. وَفِيه: أَن عَلْقَمَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، لِأَن عَلْقَمَة تَابِعِيّ صَغِير سمع أنسا. وَفِيه: سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عَلْقَمَة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد ابْن خَالِد عَن سُلَيْمَان أَخْبرنِي عَلْقَمَة. وَفِيه: عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَن ابْن بُحَيْنَة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الطِّبّ: عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن أبي أويس عَن سُلَيْمَان عَن عَلْقَمَة أَنه سمع عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج أَنه سمع عبد الله بن بُحَيْنَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن أسماعيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هِلَال بن بشر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ محرم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (بِلحي جمل) ، بِفَتْح اللامويروى بِكَسْرِهَا وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف، وَفتح الْجِيم بعْدهَا مِيم وَلَام، وَهُوَ اسْم مَوضِع بَين الْمَدِينَة وَمَكَّة، وَهُوَ إِلَى الْمَدِينَة أقرب، وَقد وَقع مُبينًا فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل (بِلحي جمل من طَرِيق مَكَّة) . وَذكر الْبكْرِيّ فِي (مُعْجَمه) فِي رسم العقيق قَالَ: هِيَ بِئْر جمل الَّتِي ورد ذكرهَا فِي حَدِيث أبي جهم، وَهُوَ الَّذِي مضى فِي التَّيَمُّم، وَقَالَ غَيره: هِيَ عقبَة الْجحْفَة على سَبْعَة أَمْيَال من السقيا، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: (بلحيي جمل) ، بِصِيغَة التَّثْنِيَة، وَوَقع لغيره بِالْإِفْرَادِ، وَمن زعم أَنه فكَّا الْجمل الْحَيَوَان الْمَعْرُوف، وَأَنه كَانَ آلَة الحجم فقد أَخطَأ، وَجزم الْحَازِمِي وَغَيره بِأَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (فِي وسط رَأسه) ، بِفَتْح السِّين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَشْهُور أَن الْوسط بِفَتْح السِّين هُوَ كمركز الدائرة، وبسكونها أَعم من ذَلِك، وَالْأول اسْم وَالثَّانِي ظرف. وَفِي حَدِيث (الْمُوَطَّأ) : (احْتجم فَوق رَأسه بِلحي جمل) ، وَرُوِيَ أَنه قَالَ: إِنَّهَا شِفَاء من النعاس والصداع والأضراس، وَقَالَ اللَّيْث: لَيست فِي وسط الرَّأْس إِنَّمَا هِيَ فِي فأس الرَّأْس، وَأما الَّتِي فِي وسط الرَّأْس فَرُبمَا أعمت، وَفِي (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد: حجمه أَبُو ظَبْيَة ليماني عشرَة من شهر رَمَضَان نَهَارا من حَدِيث جَابر، وَمن حَدِيث ابْن عَبَّاس: احْتجم بالقاحة وَهُوَ صَائِم محرم، وَفِي لفظ: (محرم من أَكلَة أكلهَا من شَاة سمتها امْرَأَة من أهل خَيْبَر) ، وَفِي حَدِيث بكير بن الْأَشَج: احْتجم فِي القمحدودة، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يسميها منقدا، وَفِي حَدِيث أنس: المغيثة، وَفِي (الْمُسْتَدْرك) على شَرطهمَا: (عَن أنس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ محرم على ظهر الْقدَم من وجع كَانَ بِهِ) . وَقد مر عَن قريب، وَفِي تَعْلِيق البُخَارِيّ: (من شَقِيقَة كَانَت بِهِ) .
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على جَوَاز الفصد وبط الْجرْح والدمل وَقطع الْعرق وَقلع الضرس وَغير ذَلِك من وُجُوه التَّدَاوِي إِذا لم يكن فِي ذَلِك ارْتِكَاب مَا نهى الْمحرم عَنهُ من تنَاول الطّيب وَقطع الشّعْر، وَلَا فديَة عَلَيْهِ فِي شَيْء من ذَلِك.

(10/194)