عمدة القاري شرح صحيح البخاري

01 - (بابٌ المَدِينَةُ تَنْفي الخَبَثَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث أَي: تطرده وتخرجه.
3881 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ أعْرَابِيٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَايَعَهُ عَلَى الإسلامِ فَجاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُوما فَقَالَ أقِلْنِي فَأبى ثَلاثَ مِرَارٍ فَقَالَ المَدِينَةُ كالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا ويَنْصَعُ طِيبُها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كالكير تَنْفِي خبثها) ، وَعَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر فِي فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْمهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي نعيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
قَوْله: (عَن جَابر) ، وَقع فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا. قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) : إِنَّه قيس بن أبي حَازِم، قيل: هُوَ مُشكل لِأَنَّهُ تَابِعِيّ كَبِير مَشْهُور، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتَ، وَفِي (الذيل) لأبي مُوسَى: فِي الصَّحَابَة قيس بن أبي حَازِم الْمنْقري، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ هَذَا، قَوْله: (فَبَايعهُ على الْإِسْلَام) ، من الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده مَا صَاحبه وَأَعْطَاهُ خُلَاصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره. قَوْله: (محموما) ، نصب على الْحَال من: حم الرجل من الْحمى، وأحمه الله فَهُوَ مَحْمُوم، وَهُوَ من الشواذ. قَوْله: (أَقلنِي) من الْإِقَالَة أَي: أَقلنِي من الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: امْتنع، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثَلَاث مرار) يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد من قَوْله: (فَقَالَ) ، وَقَوله: (فَأبى) وَهُوَ من تنَازع العاملين فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ: الْمَدِينَة) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (ينصع) ، بِفَتْح يَاء المضارعة وَسُكُون النُّون وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره عين مُهْملَة من النصوع، وَهُوَ الخلوص، والناصع الْخَالِص. قَوْله: (طيبها) ، بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه فَاعل. لقَوْله: (ينصع) ، لِأَن النصوع لَازم، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: ينصع، بِضَم الْيَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الصَّاد من التنصيع، وَقَوله: (طيبها) ، بتَشْديد الْيَاء مَفْعُوله بِالنّصب، هَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: من التنصيع، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه من الإنصاع من: بَاب الافعال، وَسَوَاء كَانَ من التنصيع أَو الإنصاع فَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَلذَلِك نصب: طيبها. فَافْهَم. وَقَالَ الْقَزاز: قَوْله: (ينصع) لم أجد لَهُ فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا الْكَلَام: يتضوع طيبها أَي: يفوح، وَقَالَ: ويروى: (ينضخ) بضاد وخاء معجمتين، قَالَ: ويروى بحاء مُهْملَة، وَهُوَ أقل من النضخ، يَعْنِي بالضاد الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : يبضع، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: من أبضعة بضَاعَة إِذا دَفعهَا إِلَيْهِ، مَعْنَاهُ: أَن الْمَدِينَة تُعْطِي طيبها لمن سكنها. ورد عَلَيْهِ الصَّاغَانِي بِأَن

(10/245)


قَالَ: وَقد خَالف الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا القَوْل جَمِيع الروَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَشْهُور بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة. فَإِن قلت: لما قَالَ الْأَعرَابِي أَقلنِي لِمَ لَمْ يُقِلْهُ؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز لمن أسلم أَن يتْرك الْإِسْلَام، وَلَا لمن هَاجر إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يتْرك الْهِجْرَة وَيذْهب إِلَى وَطنه، وَهَذَا الْأَعرَابِي كَانَ مِمَّن هَاجر وَبَايع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمقَام عِنْده، قَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن بيعَته كَانَت بعد الْفَتْح وَسُقُوط الْهِجْرَة إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَايع على الْإِسْلَام وَطلب الْإِقَالَة فَلم يقلهُ، وَقَالَ ابْن بطال: وَالدَّلِيل على أَنه لم يرد الإرتداد عَن الْإِسْلَام أَنه لم يرد حل مَا عقده إلاَّ بموافقة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَلَو كَانَ خُرُوجه عَن الْمَدِينَة خُرُوجًا عَن الْإِسْلَام لقَتله حِين ذَاك، وَلكنه خرج عَاصِيا. وَرَأى أَنه مَعْذُور لما نزل بِهِ من الْحمى، وَلَعَلَّه لم يعلم أَن الْهِجْرَة فرض عَلَيْهِ، وَكَانَ من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {وأجدر ألاَّ يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} (التَّوْبَة: 79) . فَإِن قلت: إِن الْمُنَافِقين قد سكنوا الْمَدِينَة وماتوا فِيهَا وَلم تنفهم؟ قلت: كَانَت الْمَدِينَة دَارهم أصلا وَلم يسكنوها بِالْإِسْلَامِ وَلَا حباله، وَإِنَّمَا سكنوها لما فِيهَا من أصل معاشهم، وَلم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب الْمثل إلاَّ من عقد الْإِسْلَام رَاغِبًا فِيهِ ثمَّ خبث قلبه.
456 - (حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت عَن عبد الله بن يزِيد قَالَ سَمِعت زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ يَقُول لما خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أحد رَجَعَ نَاس من أَصْحَابه فَقَالَت فرقة نقتلهم وَقَالَت فرقة لَا نقتلهم فَنزلت {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَال كَمَا تَنْفِي النَّار خبث الْحَدِيد) . مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " كَمَا تَنْفِي النَّار خبث الْحَدِيد " وَهُوَ ظَاهر. وَرِجَاله قد تقدمُوا وَعبد الله بن يزِيد الخطمي الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ فِي نسق وَاحِد وَكِلَاهُمَا أنصاريان والْحَدِيث أخرجه فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْوَلِيد وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار وَأخرجه فِي الْمَنَاسِك وَقد ذكر الْمُنَافِقين عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَفِي ذكر الْمُنَافِقين عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي بكر بن نَافِع عَن غنْدر الْكل عَن شُعْبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر بِهِ قَوْله " إِلَى أحد " كَانَت غَزْوَة أحد يَوْم السبت فِي منتصف شَوَّال عَام ثَلَاث من الْهِجْرَة وَقَالَ البلاذري لتسْع خلون مِنْهُ وَالْأول أشهر وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة ومُوسَى بن عقبَة قَوْله " رَجَعَ نَاس من أَصْحَابه " أَي من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمسلمون فسلكوا على الْبَدَائِع وهم ألف رجل وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَة آلَاف فَمضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى نزل بِأحد وَرجع عَنهُ عبد الله ابْن أبي بن سلول فِي ثَلَاثمِائَة فَبَقيَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَبْعمِائة قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد أهل الْمَغَازِي أَنهم بقوا فِي سَبْعمِائة قَالَ وَالْمَشْهُور عَن الزُّهْرِيّ أَنهم بقوا فِي أَرْبَعمِائَة مقَاتل وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة وَكَانَ على خيل الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ مَعَهم مائَة فرس وَكَانَ لواؤهم مَعَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة قَالَ وَلم يكن مَعَ الْمُسلمين فرس وَاحِد وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وعدة أَصْحَاب رَسُول الله سَبْعمِائة ذِرَاع وَلم يكن مَعَهم من الْخَيل سوى فرسين فرس لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفرس لأبي بردة قَوْله " قَالَت فرقة نقتلهم " أَي نقْتل الراجعين وَقَالَت فرقة لَا نقتلهم فَلَمَّا اخْتلفُوا أنزل الله تَعَالَى {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} وَهَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي النِّسَاء وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نُزُولهَا فَقيل فِي هَؤُلَاءِ الَّذين رجعُوا من غَزْوَة أحد بعد أَن خَرجُوا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقيل فِي قوم استئذنوا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخُرُوج إِلَى البدو معتلين باجتواء الْمَدِينَة فَلَمَّا خَرجُوا لم يزَالُوا راحلين مرحلة حَتَّى لَحِقُوا بالمشركين فَاخْتلف الْمُسلمُونَ فيهم فَقَالَ بَعضهم هم كفار وَقَالَ بَعضهم هم مُسلمُونَ وَقيل كَانُوا قوما هَاجرُوا من مَكَّة ثمَّ بدا لَهُم فَرَجَعُوا وَكَتَبُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّا على دينك وَمَا أخرجنَا إِلَّا اجتواء الْمَدِينَة والاشتياق إِلَى بلدنا وَقيل هم العرنيون الَّذين أَغَارُوا على السَّرْح وَقتلُوا يسارا وَقيل هم قوم أظهرُوا الْإِسْلَام وقعدوا عَن الْهِجْرَة

(10/246)


وَقَالَ زيد بن أسلم عَن ابْن سعد بن معَاذ أَنَّهَا نزلت فِي تقاول الْأَوْس والخزرج فِي شَأْن عبد الله بن أبي حِين استعذر مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْمِنْبَر فِي قَضِيَّة الْإِفْك وَهَذَا غَرِيب قَوْله {فَمَا لكم} يَعْنِي مَا لكم اختلفتم فِي شَأْن قوم نافقوا نفَاقًا ظَاهرا وتفرقتم فِيهِ فرْقَتَيْن وَمَا لكم لم تثبتوا القَوْل فِي كفرهم وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فئتين نصب على الْحَال كَقَوْلِك مَا لَك قَائِما قَوْله {وَالله أركسهم} أَي ردهم فِي حكم الْمُشْركين كَمَا كَانُوا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَي أوقفهم وأوقعهم فِي الْخَطَأ وَقَالَ قَتَادَة أهلكهم وَقَالَ السّديّ أضلهم قَوْله {بِمَا كسبوا} أَي بِسَبَب عصيانهم ومخالفتهم الرَّسُول واتباعهم الْبَاطِل {أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله} أَي من جعله من جملَة الضلال وقرىء ركسهم قَوْله (فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا) أَي لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْهدى وَلَا مخلص لَهُ إِلَيْهِ قَوْله " إِنَّهَا " أَي أَن الْمَدِينَة تَنْفِي الرِّجَال جمع رجل وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد عَن شرارهم وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الدَّجَّال بِالدَّال وَالْجِيم الْمُشَدّدَة قيل هُوَ تَصْحِيف وَالْمَقْصُود من النَّفْي الْإِظْهَار والتمييز بِقَرِينَة الْمُشبه بِهِ وَفِيه من الْفِقْه أَن من عقد على نَفسه أَو على غَيره عهدا لله تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي لَهُ حلّه لِأَن فِي حلّه خُرُوجًا عَمَّا عقد وَفِيه أَن الارتداد عَن الْهِجْرَة من أكبر الْكَبَائِر وَلذَلِك دَعَا لَهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " اللَّهُمَّ امْضِ لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم على أَعْقَابهم " وَفِيه جَوَاز ضرب الْمثل وَفِيه أَن النَّفْي كَالْقَتْلِ -

01 - (بابٌ المَدِينَةُ تَنْفي الخَبَثَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث أَي: تطرده وتخرجه.
3881 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ أعْرَابِيٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَايَعَهُ عَلَى الإسلامِ فَجاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُوما فَقَالَ أقِلْنِي فَأبى ثَلاثَ مِرَارٍ فَقَالَ المَدِينَةُ كالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا ويَنْصَعُ طِيبُها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كالكير تَنْفِي خبثها) ، وَعَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر فِي فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْمهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي نعيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
قَوْله: (عَن جَابر) ، وَقع فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا. قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) : إِنَّه قيس بن أبي حَازِم، قيل: هُوَ مُشكل لِأَنَّهُ تَابِعِيّ كَبِير مَشْهُور، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتَ، وَفِي (الذيل) لأبي مُوسَى: فِي الصَّحَابَة قيس بن أبي حَازِم الْمنْقري، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ هَذَا، قَوْله: (فَبَايعهُ على الْإِسْلَام) ، من الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده مَا صَاحبه وَأَعْطَاهُ خُلَاصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره. قَوْله: (محموما) ، نصب على الْحَال من: حم الرجل من الْحمى، وأحمه الله فَهُوَ مَحْمُوم، وَهُوَ من الشواذ. قَوْله: (أَقلنِي) من الْإِقَالَة أَي: أَقلنِي من الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: امْتنع، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثَلَاث مرار) يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد من قَوْله: (فَقَالَ) ، وَقَوله: (فَأبى) وَهُوَ من تنَازع العاملين فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ: الْمَدِينَة) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (ينصع) ، بِفَتْح يَاء المضارعة وَسُكُون النُّون وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره عين مُهْملَة من النصوع، وَهُوَ الخلوص، والناصع الْخَالِص. قَوْله: (طيبها) ، بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه فَاعل. لقَوْله: (ينصع) ، لِأَن النصوع لَازم، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: ينصع، بِضَم الْيَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الصَّاد من التنصيع، وَقَوله: (طيبها) ، بتَشْديد الْيَاء مَفْعُوله بِالنّصب، هَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: من التنصيع، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه من الإنصاع من: بَاب الافعال، وَسَوَاء كَانَ من التنصيع أَو الإنصاع فَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَلذَلِك نصب: طيبها. فَافْهَم. وَقَالَ الْقَزاز: قَوْله: (ينصع) لم أجد لَهُ فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا الْكَلَام: يتضوع طيبها أَي: يفوح، وَقَالَ: ويروى: (ينضخ) بضاد وخاء معجمتين، قَالَ: ويروى بحاء مُهْملَة، وَهُوَ أقل من النضخ، يَعْنِي بالضاد الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : يبضع، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: من أبضعة بضَاعَة إِذا دَفعهَا إِلَيْهِ، مَعْنَاهُ: أَن الْمَدِينَة تُعْطِي طيبها لمن سكنها. ورد عَلَيْهِ الصَّاغَانِي بِأَن قَالَ: وَقد خَالف الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا القَوْل جَمِيع الروَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَشْهُور بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة. فَإِن قلت: لما قَالَ الْأَعرَابِي أَقلنِي لِمَ لَمْ يُقِلْهُ؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز لمن أسلم أَن يتْرك الْإِسْلَام، وَلَا لمن هَاجر إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يتْرك الْهِجْرَة وَيذْهب إِلَى وَطنه، وَهَذَا الْأَعرَابِي كَانَ مِمَّن هَاجر وَبَايع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمقَام عِنْده، قَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن بيعَته كَانَت بعد الْفَتْح وَسُقُوط الْهِجْرَة إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَايع على الْإِسْلَام وَطلب الْإِقَالَة فَلم يقلهُ، وَقَالَ ابْن بطال: وَالدَّلِيل على أَنه لم يرد الإرتداد عَن الْإِسْلَام أَنه لم يرد حل مَا عقده إلاَّ بموافقة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَلَو كَانَ خُرُوجه عَن الْمَدِينَة خُرُوجًا عَن الْإِسْلَام لقَتله حِين ذَاك، وَلكنه خرج عَاصِيا. وَرَأى أَنه مَعْذُور لما نزل بِهِ من الْحمى، وَلَعَلَّه لم يعلم أَن الْهِجْرَة فرض عَلَيْهِ، وَكَانَ من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {وأجدر ألاَّ يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} (التَّوْبَة: 79) . فَإِن قلت: إِن الْمُنَافِقين قد سكنوا الْمَدِينَة وماتوا فِيهَا وَلم تنفهم؟ قلت: كَانَت الْمَدِينَة دَارهم أصلا وَلم يسكنوها بِالْإِسْلَامِ وَلَا حباله، وَإِنَّمَا سكنوها لما فِيهَا من أصل معاشهم، وَلم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب الْمثل إلاَّ من عقد الْإِسْلَام رَاغِبًا فِيهِ ثمَّ خبث قلبه.

10 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب قد ذكرنَا أَن هَذَا بِمَعْنى فصل، وَقد ذكرنَا أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول، وَهَكَذَا بَاب بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر. فَإِن قلت: إِذا ذكر بَاب، هَكَذَا مُجَردا بِمَعْنى الْفَصْل فَيَنْبَغِي أَن يكون للمذكور بعده نوع تعلق بِمَا قبله. قلت: الْمَذْكُور فِيهِ حديثان عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَتعلق الحَدِيث الأول من حَيْثُ أَن الدُّعَاء بِتَضْعِيف الْبركَة وتكثيرها يَقْتَضِي تقليل مَا يضادها، فَنَاسَبَ ذَلِك نفي الْخبث، وَتعلق الحَدِيث الثَّانِي من حَيْثُ أَن حب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمدينة يُنَاسب طيب ذَاتهَا وَأَهْلهَا.

5881 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا وهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبِي قَالَ سَمِعْتُ يُونُسَ عَن ابنِ شِهَابٍ عنْ أنسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ.
وَجه الْمُطَابقَة قد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَأَبُو وهب هُوَ جرير بن حَازِم، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن وهب.
قَوْله: (ضعْفي مَا جعلت) ، تَثْنِيَة ضعف بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: ضعف الشَّيْء مثله، وضعفاه مثلاه، وَقَالَ الْفُقَهَاء: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثَلَاثَة أَمْثَاله. قَوْله: (من الْبركَة) ، أَي: كَثْرَة الْخَيْر، وَالْمرَاد بركَة الدُّنْيَا بِدَلِيل قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) . فَإِن قلت: اللَّفْظ أَعم من ذَلِك، فَيَقْتَضِي أَن تكون الصَّلَاة بِالْمَدِينَةِ ضعْفي ثَوَاب الصَّلَاة بِمَكَّة؟ قلت: وَلَئِن سلمنَا عُمُوم اللَّفْظ لكنه مُجمل فبينه بقوله: (أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) . أَن المُرَاد الْبركَة الدُّنْيَوِيَّة، وَخص الصَّلَاة وَنَحْوهَا بِالدَّلِيلِ الْخَارِجِي. فَإِن قلت: الِاسْتِدْلَال بِهِ على تَفْضِيل الْمَدِينَة على مَكَّة ظَاهر؟ قلت: نعم ظَاهر من هَذِه الْجِهَة، وَلَكِن لَا يلْزم من حُصُول أَفضَلِيَّة الْمَفْضُول فِي شَيْء من الْأَشْيَاء ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة على الْإِطْلَاق، فَإِن قلت: فعلى هَذَا يلْزم أَن يكون الشَّام واليمن أفضل من مَكَّة لقَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (أللهم بَارك لنا فِي شامنا، وأعادها ثَلَاثًا) ؟ قلت: التَّأْكِيد لَا يسْتَلْزم التكثير الْمُصَرّح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ ابْن حزم: لَا حجَّة فِي حَدِيث الْبَاب لَهُم، لِأَن تَكْثِير الْبركَة بهَا لَا يسْتَلْزم الْفضل فِي أُمُور الْآخِرَة، ورده القَاضِي عِيَاض بِأَن الْبركَة أَعم من أَن تكون فِي أَمر الدّين أَو الدُّنْيَا لِأَنَّهَا بِمَعْنى النَّمَاء. وَالزِّيَادَة، فَأَما فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة فَلَمَّا يتَعَلَّق بهَا من حق الله تَعَالَى من الزكوات وَالْكَفَّارَات، وَلَا سِيمَا فِي وُقُوع

(10/247)


الْبركَة فِي الصَّاع وَالْمدّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الظَّاهِر أَن الْبركَة حصلت فِي نفس الْكَيْل بِحَيْثُ يَكْفِي الْمَدّ فِيهَا من لَا يَكْفِيهِ فِي غَيرهَا، وَهَذَا أَمر محسوس عِنْد من سكنها، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِذا وجدت الْبركَة فِيهَا فِي وَقت حصلت إِجَابَة الدعْوَة، وَلَا يسْتَلْزم دوامها فِي كل حِين. وَلكُل شخص؟ قلت: فِيهِ مَا فِيهِ، وَقَوْلنَا: أَفضَلِيَّة مَكَّة على الْمَدِينَة وَغَيرهَا تثبت بدلائل أُخْرَى خارجية تغني عَمَّا ذَكرُوهُ كُله. فَافْهَم.
تابَعَهُ عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ عنْ يُونُسَ
أَي: تَابع جَرِيرًا أَبَا وهب عُثْمَان بن عمر أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة الذهلي فِي جمعه لحَدِيث الزُّهْرِيّ، وَلَقَد أَتَى صَاحب (التَّلْوِيح) هُنَا بِمَا لَا يُغني شَيْئا.

6881 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فنَظَرَ إلَى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ أوْضَعَ راحِلَتَهُ وإنْ كانَ عَلى دَابَّةٍ حرَّكَها مِنْ حُبَّهَا.
(انْظُر الحَدِيث 2081) .
مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا فِي أول الْبَاب، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب من أسْرع نَاقَته إِذا بلغ الْمَدِينَة، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ (والجدرات) بِضَمَّتَيْنِ جمع: الْجدر، جمع سَلامَة وَهُوَ جمع الْجِدَار. قَوْله: (أوضع) أَي: حملهَا على السّير السَّرِيع.

11 - (بابُ كَرَاهِيَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُعْرَى المَدِينَةُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تعرى، من العراء، وَهُوَ الْخُلُو، يُقَال: تَركه عراء أَي خَالِيا، والعراء بِالْمدِّ هُوَ الفضاء الَّذِي لَا ستْرَة بِهِ، وَمِنْه: أعريت الْمَكَان إِذا جعلته خَالِيا. قَوْله: (أَن تعرى الْمَدِينَة) أَي: يَجْعَل حواليها خَالِيَة.

7881 - حدَّثنا ابنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا الْفَزَارِيُّ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أنْ يَتَحَوَّلُوا إلَى قُرْبِ المَسْجِدِ فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُعْرَى المَدِينةُ وَقَالَ يَا بَنِي سلِمَةَ ألاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فأقامُوا.
(انْظُر الحَدِيث 556 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فكره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن تعرى الْمَدِينَة) ، وَابْن سَلام اسْمه مُحَمَّد وَقد تكَرر ذكره، والفزاري، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وَبعدهَا الرَّاء: واسْمه مَرْوَان بن مُعَاوِيَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب احتساب الْآثَار، فِي أَوَائِل صَلَاة الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن حميد عَن أنس الحَدِيث.
قَوْله: (بَنو سَلمَة) ، بِفَتْح السِّين وَكسر اللَّام. قَوْله: (ألاَ تحتسبون) ، كلمة: ألاَ، للتحضيض، وَمعنى: تحتسبون، تَعدونَ الْأجر فِي خطاكم إِلَى الْمَسْجِد فَإِن لكل خطْوَة أجرا، ويروى: (أَلا تحتسبوا) ، بِدُونِ نون الْجمع، وحذفه بِدُونِ الناصب والجازم فصيح شَائِع.

21 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب، وَقد مضى وَجه الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَوَقع هَذَا هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ بِلَا تَرْجَمَة.

8881 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ حدَّثني خُبَيْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ حَفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا بَيْنَ بَيْتِي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ ومنْبَرِي عَلى حَوْضِي.

(10/248)


وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا من حَيْثُ إِن لفظ: بَاب، هَذَا مُجَردا بِمَعْنى فصل وَله تعلق بِالْبَابِ السَّابِق من حَيْثُ إِن فِيهِ كَرَاهَة إعراء الْمَدِينَة، وَفِي هَذَا ترغيب فِي سكناهَا، وَهَذَا تعلق قوي مُنَاسِب، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وخبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب فضل مَا بَين الْقَبْر والمنبر، بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن عَن مُسَدّد عَن يحيى إِلَى آخِره.
قَوْله: (مَا بَين بَيْتِي ومنبري) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر وَحده: (مَا بَين قَبْرِي ومنبري) ، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه خطأ، وَاحْتج على ذَلِك بِأَن فِي (مُسْند) مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ بِلَفْظ: (بَيْتِي) وَكَذَلِكَ بِلَفْظ (بَيْتِي) فِي: بَاب فضل مَا بَين الْقَبْر والمنبر. قلت: نِسْبَة هَذَا إِلَى الْخَطَأ خطأ، لِأَنَّهُ وَقع لفظ: قَبْرِي ومنبري، فِي حَدِيث ابْن عمر أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد رِجَاله ثِقَات، وَكَذَا وَقع فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أخرجه الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح، على أَن المُرَاد بقوله: بَيْتِي، أحد بيوته لَا كلهَا، وَهُوَ بَيت عَائِشَة الَّذِي دفن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ فَصَارَ قَبره، وَقد ورد فِي حَدِيث: (مَا بَين الْمِنْبَر وَبَيت عَائِشَة رَوْضَة من رياض الْجنَّة) ، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) . قَوْله: (رَوْضَة) أَي: كروضة من رياض الْجنَّة فِي نزُول الرَّحْمَة وَحُصُول السعادات، وَحذف أَدَاة التَّشْبِيه للْمُبَالَغَة، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن الْعِبَادَة فِيهَا تُؤدِّي إِلَى الْجنَّة فَيكون مجَازًا، أَو المُرَاد أَن ذَلِك الْموضع بِعَيْنِه ينْتَقل إِلَى الْجنَّة، فعلى مَا ذكرُوا إِمَّا تَشْبِيه وَإِمَّا مجَاز وَإِمَّا حَقِيقَة. قَوْله: (ومنبري على حَوْضِي) ، أَكثر الْعلمَاء: المُرَاد أَن منبره بِعَيْنِه الَّذِي كَانَ، وَقيل: إِن لَهُ هُنَاكَ منبرا على حَوْضه، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن مُلَازمَة منبره للأعمال الصَّالِحَة تورد صَاحبهَا إِلَى الْحَوْض وَيشْرب مِنْهُ المَاء، وَهُوَ الْحَوْض المورود الْمُسَمّى بالكوثر، وَقيل: إِن ذرع مَا بَين الْمِنْبَر وَالْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْقَبْر الْآن ثَلَاث وَخَمْسُونَ ذِرَاعا، وَقيل: أَربع وَخَمْسُونَ وَسدس، وَقيل: خَمْسُونَ إلاَّ ثلي ذِرَاع، وَهُوَ الْآن كَذَلِك، فَكَأَنَّهُ نقص لما أَدخل من الْحُجْرَة فِي الْجِدَار.

9881 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عَنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أبُو بَكْرٍ وبِلالٌ فكَانَ أبُو بَكْرٍ إذَا أخَذَتْهُ الحمَّى يَقُولُ:
(كُلُّ امْرىءٍ مُصَبَّحٌ فِي أهلِهِ ... والْمَوْتُ أدْنَى مِنْ شِرَاكِ)

وكانَ بِلاَلٌ إذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولَ:
(ألاَ لَيْتَ شَعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلٌ)

(وهَلْ أرِدَنْ يَوْما مِياهَ مَجَنَّةٍ ... وهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ وطَفِيلُ)

قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كمَا أخْرَجُونَا مِنْ أرْضِنَا إلَى أرْضِ الوَباءِ ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدُّ أللَّهُمَّ بارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وفِي مُدِّنا وصَحِّحْها لَنا وانْقُلْ حُمَّاهَا إلَى الجُحْفَةِ قالَتْ وقَدِمْنَا المَدِينَةَ وهْيَ أوْبَأُ أرْضِ الله قالَتْ فَكانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً تَعْنِي مَاء آجِنا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فهم من الَّذين قدمُوا الْمَدِينَة القلق بِسَبَب نزولهم فِيهَا وَهِي وبيئة، دَعَا الله تَعَالَى أَن يحببهم الْمَدِينَة كحبهم مَكَّة، وَأَن يُبَارك فِي صاعهم وَفِي مدهم، وَأَن ينْقل الْحمى مِنْهَا إِلَى الْجحْفَة لِئَلَّا تعرى الْمَدِينَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبيد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي، قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ فِي شهر ربيع الأول يَوْم الْجُمُعَة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.

(10/249)


ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأمه وَأَبُو أُسَامَة كوفيان وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب، وَأخرج الحَدِيث مُسلم أَيْضا فِي الْحَج.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة) ، كَانَ قدومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ قَرِيبا من وَقت الزَّوَال، قَالَ الْوَاقِدِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لثنتي عشرَة لَيْلَة خلت مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور من السّنة الأولى من التَّارِيخ الإسلامي. قَوْله: (وعك) ، جَوَاب: لما، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أَصَابَهُ الوعك وَهُوَ الْحمى، وَقَالَ ابْن سَيّده: رجل وعك ووعك موعوك، وَهَذِه الصِّيغَة على توهم فعل كألم، والوعك لم يجده الْإِنْسَان من شدَّة التَّعَب، وَفِي (الْجَامِع) : وعك إِذا أَخَذته الْحمى، والواعك الشَّديد من الْحمى، وَقد وعكته الْحمى تعكه إِذا أَدْرَكته وَفِي (الْمُجْمل) : الوعك الْحمى، وَقيل: هُوَ مغث الْحمى. قَوْله: (كل امرىء. .) إِلَى آخِره رجز مسدس. قَوْله: (مصبح) ، بِلَفْظ الْمَفْعُول أَي: يُقَال لَهُ: صبحك الله بِالْخَيرِ، وأنعم الله تَعَالَى صباحك، وَالْمَوْت قد يفجؤه فَلَا يُمْسِي حَيا. قَوْله: (أدنى) أَي: أقرب. (من شِرَاك نَعله) ، بِكَسْر الشين: أحد سيور النَّعْل الَّتِي تكون على وَجههَا. قَوْله: (إِذا أقلع) بِلَفْظ الْمَعْلُوم من الإقلاع عَن الْأَمر، وَهُوَ الْكَفّ عَنهُ، ويروى بِلَفْظ الْمَجْهُول. قَوْله: (عقيرته) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف: وَهُوَ الصَّوْت إِذا غنى بِهِ، أَو بَكَى، وَيُقَال: أَصله أَن رجلا قطعت إِحْدَى رجلَيْهِ فَرَفعهَا وصرخ، فَقيل لكل رَافع صَوته: قد رفع عقيرته، وَعَن أبي زيد يُقَال: رفع عقيرته إِذا قَرَأَ أَو غنى، وَلَا يُقَال فِي غير ذَلِك. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: أَصله أَن رجلا أُصِيب عُضْو من أَعْضَائِهِ وَله إبل اعْتَادَ حداءها، فانتشرت عَلَيْهِ إبِله، فَرفع صَوته بالأنين لما أَصَابَهُ من الْعقر فِي يَده، فَسمِعت لَهُ إبِله فحسبته يَحْدُو بهَا فاجتمعت إِلَيْهِ، فَقيل لكل من رفع صَوته: رفع عقيرته. وَفِي (الْمُحكم) : عقيرة الرجل صَوته إِذا غنى أَو قَرَأَ أَو بَكَى. قَوْله: (أَلا لَيْت شعري) إِلَى آخِره من الْبَحْر الطَّوِيل، وَأَصله: فعولن مفاعيلن، ثَمَان مَرَّات، وَفِيه الْقَبْض، وَكلمَة: ألاَ، هُنَا لِلتَّمَنِّي وَمعنى: لَيْت شعري، لَيْتَني أشعر. قَوْله: (وحولى) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (إذخر) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَقد مر تَفْسِيره فِي: بَاب لَا ينفر صيد الْحرم وَفِي غَيره. قَوْله: (وجليل) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسر اللَّام الأولى وَهُوَ: الثمام، وَهُوَ نبت ضَعِيف يحشى بِهِ حصاص الْبَيْت. قَوْله: (وَهل أردن) بالنُّون الْخَفِيفَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَهل يبدُوَن) قَوْله: (مياه مجنة) ، الْمِيَاه جمع مَاء، و: المجنة، بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَتَشْديد النُّون: مَاء عِنْد عكاظ على أَمْيَال يسيرَة من مَكَّة بِنَاحِيَة مر الظهْرَان، وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: هِيَ على بريد من مَكَّة، وَقَالَ أَبُو الْفَتْح: يحْتَمل أَن تسمى مجنة ببساتين تتصل بهَا، وَهِي الْجنان، وَأَن يكون وَزنهَا: فعلة من مجن يمجن، سميت بذلك لِأَن ضربا من المجون كَانَ بهَا، وَزعم ابْن قرقول أَن ميمها تكسر. قَوْله: (وَهل يبدُوَن) أَي: هَل يظهرن لي: شامة، بالشين الْمُعْجَمَة و: طفيل، بِفَتْح الطَّاء وَكسر الْفَاء. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هما جبلان، وَقَالَ غَيره: طفيل جبل من حُدُود هرشي مشرف هُوَ وشامة على مجنة. وَقَالَ الْخطابِيّ: كنت أَحسب أَنَّهُمَا جبلان حَتَّى أنبئت أَنَّهُمَا عينان، وَذكر ابْن الْأَثِير والصاغاني: أَن شَابة بِالْبَاء الْمُوَحدَة بعد الْألف، وَقيل: إِن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ اللَّذين أنشدهما بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليسَا لَهُ، بل هما لبكر بن غَالب بن عَامر بن الْحَارِث ابْن مضاض الجرهمي، أنشدهما عِنْدَمَا نفتهم خُزَاعَة من مَكَّة، شرفها الله، وَقيل لغيره. قَوْله: (كَمَا أخرجونا) مُتَعَلق بقوله: (أللهم) فَقَوله: (أللهم الْعَن) مَعْنَاهُ: أللهم أبعدهم من رحمتك كَمَا أبعدونا من مَكَّة. قَوْله: (إِلَى أَرض الوباء) ، هُوَ مَقْصُور يهمز وَلَا يهمز، وَهُوَ الْمَرَض الْعَام، قَالَه بَعضهم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الوباء، يمد وَيقصر، وَيُقَال: الوباء الْمَوْت الذريع، وَقَالَ الْأَطِبَّاء: هُوَ عفونة الْهَوَاء. قَوْله: (حبب) ، أَمر من حبب يحبب. وَقَوله: (الْمَدِينَة) مَفْعُوله. قَوْله: (أَو أَشد) ، أَي أَو حبا أَشد من حبنا لمَكَّة. قَوْله: (فِي صاعنا) أَي: فِي صَاع الْمَدِينَة، وَهُوَ كيل يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ رَطْل وَثلث رَطْل عِنْد أهل الْحجاز، ورطلان عِنْد أهل الْعرَاق، وَالْأول قَول الشَّافِعِي، وَالثَّانِي قَول أبي حنيفَة. وَقيل: إِن أصل الْمَدّ مُقَدّر بِأَن يمد الرجل يَدَيْهِ فَيمْلَأ كفيه طَعَاما. وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق عَن هِشَام عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أللهم إِن إِبْرَاهِيم عَبدك وخليلك دعَاك لأهل مَكَّة، وَأَنا عَبدك وَرَسُولك أَدْعُوك لأهل الْمَدِينَة بِمثل مَا دعَاك إِبْرَاهِيم لأهل مَكَّة: أللهم بَارك لنا فِي مدينتنا) الحَدِيث. قَوْله: (وصححها) أَي: صحّح الْمَدِينَة من الْأَمْرَاض. وَزَاد فِي دُعَائِهِ بقوله: (وانقل حماها) أَي: حمى الْمَدِينَة، وَكَانَت وبيئة، وخصص بِهَذَا فِي الدُّعَاء لِأَن أَصْحَابه حِين

(10/250)


قدمُوا الْمَدِينَة وعكوا. قَوْله: (إِلَى الْجحْفَة) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء، وَهِي مِيقَات أهل مصر وَالشَّام وَالْمغْرب الْآن. وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ: أَن العماليق أخرجُوا بني عنبر وهم أخوة عَاد من يثرب فنزلوا الْجحْفَة، وَكَانَ اسْمهَا: مهيعة، فَجَاءَهُمْ سيل فاجتحفهم فسميت الْجحْفَة، وَمعنى: اجتحفهم: سلب أَمْوَالهم وأخرب أبنيتهم وَلم يبْق شَيْئا، وَإِنَّمَا خص الْجحْفَة لِأَنَّهَا كَانَت يَوْمئِذٍ دَار شرك. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَكَانَ أهل الْجحْفَة إِذْ ذَاك يهودا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يَدْعُو على من لم يجبهم إِلَى دَار الْإِسْلَام إِذا خَافَ مِنْهُ مَعُونَة أهل الْكفْر، وَيسْأل الله أَن يبتليهم بِمَا يشغلهم عَنهُ، وَقد دَعَا على قومه أهل مَكَّة حِين يئس مِنْهُم. فَقَالَ: (أللهم أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف) ، ودعا على أهل الْجحْفَة بالحمى ليشغلهم بهَا فَلم تزل الْجحْفَة من يَوْمئِذٍ أَكثر بِلَاد الله حمَّى وَأَنه ليتقي شرب المَاء من عينهَا الَّذِي يُقَال لَهُ عين حم، فَقل من شرب مِنْهُ إلاَّ حُمَّ، وَلما دَعَا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك الدُّعَاء لم يبْق أحد من أهل الْجحْفَة إلاَّ أَخَذته الْحمى، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا هُوَ السِّرّ فِي أَن الطَّاعُون لَا يدْخل الْمَدِينَة، لِأَن الطَّاعُون وباء، وَسَيِّدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِنَقْل الوباء عَنْهَا، فَأجَاب الله دعاءه إِلَى آخر الْأَبَد. فَإِن قلت: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقدوم على الطَّاعُون، فَكيف قدمُوا الْمَدِينَة وَهِي وبيئة؟ قلت: كَانَ ذَلِك قبل النَّهْي، أَو أَن النَّهْي يخْتَص بالطاعون وَنَحْوه من الْمَوْت الذريع لَا الْمَرَض، وَإِن عَم. قَوْله: (قَالَت) ، يَعْنِي عَائِشَة، وَهُوَ مُتَّصِل بِمَا قبله فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا. قَوْله: (وَهِي) أَي: الْمَدِينَة (أَو بِأَرْض الله) ، وأوبأ بِالْهَمْزَةِ فِي آخِره على وزن أفعل التَّفْضِيل من الوباء أَي أَكثر وباء وَأَشد من غَيرهَا. قَوْله (فَكَانَ ب حَان بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَهُوَ وَاد فِي صحراء الْمَدِينَة قَوْله: قَوْله: (يجْرِي نجلاً) خبر كَانَ تَعْنِي مَاء آجنا، وَهُوَ من تَفْسِير الرَّاوِي، ونجلاً، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم، وَحكى ابْن التِّين فِيهِ نجلا بِفَتْح الْجِيم أَيْضا. وَقَالَ ابْن فَارس: النجل، بِفتْحَتَيْنِ سَعَة الْعين، وَقَالَ ابْن السّكيت: النجل النزُّ حِين يظْهر وينبع عين المَاء، وَقَالَ الحربن: نجلاً أَي: وَاسِعًا، وَمِنْه: عين نجلاء، أَي: وَاسِعَة. وَقيل: هُوَ الغدير الَّذِي لَا يزَال فِيهِ المَاء، وغرض عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بذلك بَيَان السَّبَب فِي كَثْرَة الوباء بِالْمَدِينَةِ، لِأَن المَاء الَّذِي هَذِه صفته يحدث عِنْده الْمَرَض. قَوْله: (تَعْنِي مَاء آجنا) ، هَذَا من كَلَام الرَّاوِي، أَي: تَعْنِي عَائِشَة من قَوْلهَا: يجْرِي مَاء آجنا: الآجن بِالْمدِّ المَاء الْمُتَغَيّر الطّعْم واللون، يُقَال فِيهِ: أجن وأجن ياجن وياجن أجنا وأجونا فَهُوَ آجن بِالْمدِّ، وأجن. قَالَ عِيَاض: هَذَا تَفْسِير خطأ مِمَّن فسره، فَلَيْسَ المُرَاد هُنَا المَاء الْمُتَغَيّر، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن عَائِشَة قَالَت: (ذَلِك فِي مقَام التَّعْلِيل لكَون الْمَدِينَة كَانَت وبيئة، وَلَا شكّ أَن النجل إِذا فسر بِكَوْن المَاء الْحَاصِل من النز فَهُوَ بصدد أَن يتَغَيَّر، وَإِذا تغير كَانَ اسْتِعْمَاله مِمَّا يحدث الوباء فِي الْعَادة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَيَانه أَن الله لما ابتلى نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْهِجْرَةِ وفراق الوطن ابتلى أَصْحَابه بالأمراض، فَتكلم كل إِنْسَان بِمَا فِيهِ، فَأَما أَبُو بكر فَتكلم بِأَن الْمَوْت شَامِل لِلْخلقِ فِي الصَّباح والمساء، وَأما بِلَال فتمنى الرُّجُوع إِلَى وَطنه، فَانْظُر إِلَى فضل أبي بكر على غَيره. وَفِيه: فِي دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يحبب الله لَهُم الْمَدِينَة حجَّة وَاضِحَة على من كذب، بِالْقدرِ، لِأَن الله عز وَجل هُوَ الْمَالِك للنفوس يحبب إِلَيْهَا مَا شَاءَ، وَيبغض، فَأجَاب الله دَعْوَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحبوا الْمَدِينَة حبا دَامَ فِي نُفُوسهم إِلَى أَن مَاتُوا عَلَيْهِ. وَفِيه: رد على الصُّوفِيَّة إِذْ قَالُوا: إِن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلاَّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِجَمِيعِ مَا نزل بِهِ، وَلَا يَدْعُو الله فِي كشف ذَلِك عَنهُ، فَإِن دَعَا فَلَيْسَ فِي الْولَايَة كَامِلا. وَفِيه: حجَّة على بعض الْمُعْتَزلَة الْقَائِلين بِأَن لَا فَائِدَة فِي الدُّعَاء مَعَ سَابق الْقدر، وَالْمذهب أَن الدُّعَاء عبَادَة مُسْتَقلَّة وَلَا يُسْتَجَاب مِنْهُ إلاَّ مَا سبق بِهِ التَّقْدِير. وَفِيه: جَوَاز هَذَا النَّوْع من الْغناء. وَفِيه مَذَاهِب: فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَعِكْرِمَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَحَمَّاد وَالثَّوْري وَجَمَاعَة من أهل الْكُوفَة: إِلَى تَحْرِيم الْغناء، وَذهب آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَته، نقل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من أَصْحَابه، وَحكي ذَلِك عَن مَالك وَأحمد، وَذهب آخَرُونَ إِلَى إِبَاحَته لَكِن بِغَيْر هَذِه الْهَيْئَة الَّتِي تعْمل الْآن، فَمن الصَّحَابَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكره أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) وَعُثْمَان، ذكره الْمَاوَرْدِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، ذكره ابْن أبي شيبَة وَسعد ابْن أبي وَقاص وَابْن عمر ذكرهمَا ابْن قُتَيْبَة، وَأَبُو مَسْعُود البدري وَأُسَامَة بن زيد، وبلال وخوات بن جُبَير ذكرهمَا الْبَيْهَقِيّ

(10/251)


وَعبد الله بن أَرقم ذكره أَبُو عمر، وجعفر بن أبي طَالب ذكره السهروردي فِي (عوارفه) والبراء بن مَالك ذكره أَبُو نعيم. وَابْن الزبير ذكره صَاحب (الْقُوت) وَابْن جَعْفَر وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ والنعمان بن بشير وَحسان بن ثَابت وخارجة بن زيد وَعبد الرَّحْمَن بن حسان، ذكرهم أَبُو الْفرج فِي (تَارِيخه) ، وَقُطْبَة بن كَعْب ذكره الْهَرَوِيّ، ورباح بن المغترف ذكره ابْن طَاهِر. وَمن التَّابِعين جمَاعَة ذكرهم ابْن طَاهِر.
وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّفْرِقَة بَين الْغناء الْكثير والقليل، وَنقل ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّفْرِقَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء فحرموه من الْأَجَانِب وجوزوه من غَيرهم، وَقَالَ ابْن حزم: من نوى ترويح بهالقلب ليقوى على الطَّاعَة فَهُوَ مُطِيع، وَمن نوى بِهِ التقوية على الْمعْصِيَة فَهُوَ عَاص، وَإِن لم ينْو شَيْئا فَهُوَ لَغْو مَعْفُو عَنهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: إِذا سلم من تَضْييع فرض وَلم يتْرك حفظ حُرْمَة الْمَشَايِخ بِهِ فَهُوَ مَحْمُود، وَرُبمَا أجر.
وَفِيه: أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤمنِ أَن يسْأَل ربه صِحَة جِسْمه وَذَهَاب الْآفَات عَنهُ إِذا نزلت بِهِ كسؤاله إِيَّاه فِي الرزق، وَلَيْسَ فِي دُعَاء الْمُؤمن ورغبته فِي ذَلِك إِلَى الله لوم وَلَا قدح فِي دينه. وَفِيه: تَمْثِيل الصَّالِحين والفضلاء بالشعر.

0981 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ خالِدِ بنِ يَزِيدَ عنْ سَعِيدِ بنِ أبِي هِلاَلٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ واجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رسولِكَ وَحَدِيث.
هَذَا أثر عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكره هُنَا لمناسبة بَينه وَبَين الحَدِيث السَّابِق، وَذَلِكَ أَنه لما سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه دَعَا بقوله: (أللهم حبب إِلَيْنَا الْمَدِينَة كحبنا لمَكَّة) ، سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يَجْعَل مَوته فِي الْمَدِينَة إِظْهَارًا لمحبته إِيَّاهَا كمحبته لمَكَّة، وإعلاما بصدقه فِي ذَلِك بسؤاله الْمَوْت فِيهَا، وَقيل: ذكر ابْن سعد سَبَب دُعَائِهِ بذلك، وَهُوَ مَا أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَوْف بن مَالك أَنه رأى رُؤْيا فِيهَا أَن عمر شَهِيد يستشهد، فَقَالَ لما قصها عَلَيْهِ أنَّى لي بِالشَّهَادَةِ وَأَنا بَين ظهراني جَزِيرَة الْعَرَب لست أغزو وَالنَّاس حَولي؟ ثمَّ قَالَ: بلَى وبلى يَأْتِي بهَا الله إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَال هَذَا الْأَثر سَبْعَة كَمَا ترى، وخَالِد بن يزِيد من الزِّيَادَة تقدم فِي أول الْوضُوء، وَسَعِيد بن أبي هِلَال اللَّيْثِيّ الْمدنِي، يكنى أَبَا الْعَلَاء، وَزيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْعَدوي، وَأَبوهُ أسلم مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يكنى أَبَا خَالِد وَكَانَ من سبي الْيمن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أَبُو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة، وَكَانَ من سبي عين التَّمْر، ابتاعه عمر بن الْخطاب بِمَكَّة سنة إِحْدَى عشرَة لما بَعثه أَبُو بكر الصّديق ليقيم للنَّاس الْحَج، مَاتَ قبل مَرْوَان بن الحكم، وَهُوَ الَّذِي صلى عَلَيْهِ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة وَمِائَة سنة.
قَوْله: (شَهَادَة فِي سَبِيلك) ، فَقبل الله دعاءه ورزق الشَّهَادَة، وَقَتله أَبُو لؤلؤة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة، ضربه فِي خاصرته وَهُوَ فِي صَلَاة الصُّبْح، وَكَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وَقيل: لثلاث بَقينَ مِنْهُ سنة ثَلَاث وَعشْرين، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، فِي سنّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَاجعَل موتِي فِي بلد رَسُولك) وَوَقع كَذَا، وَدفن عِنْد أبي بكر، وَأَبُو بكر عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فالثلاثة فِي بقْعَة وَاحِدَة هِيَ أشرف الْبِقَاع.
وَقَالَ ابنُ زُرَيْعٍ عنْ رَوْحِ بنِ القَاسِمِ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ أُمِّهِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ
وَابْن زُرَيْع هُوَ يزِيد بن زُرَيْع. قَوْله: (عَن أمه) قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ البُخَارِيّ: كَذَا قَالَ روح عَن أمه، وغرضه أَن الْمَشْهُور أَن زيدا يروي عَن أَبِيه لَا عَن أمه، لَكِن روح أسْند رِوَايَته إِلَى أمه. قلت: ذكر البُخَارِيّ هَذَا لتعليق وَالتَّعْلِيق الَّذِي بعده لبَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ على زيد بن أسلم، فاتفق هِشَام بن سعد، وَسَعِيد بن أبي هِلَال على أَنه: عَن زيد عَن أَبِيه أسلم عَن عمر، وَقد تابعهما حَفْص بن ميسرَة عَن زيد عَنهُ عمر بن شبة، وَانْفَرَدَ روح بن الْقَاسِم عَن زيد بقوله: عَن أمه، وَتَعْلِيق ابْن زُرَيْع وَصله، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الصَّواف حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن هَاشم حَدثنَا أُميَّة بن بسطَام حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا روح بِلَفْظ:

(10/252)


سَمِعت عمر وَهُوَ يَقُول: أللهم قتلا فِي سَبِيلك، ووفاة فِي بلد نبيك، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: قلت: وأنَّى يكون هَذَا؟ قَالَ يَأْتِي بِهِ عزوجل إِذا شَاءَ.
وَقَالَ هِشَامق عنْ زَيْدٍ عنْ أبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
هِشَام هُوَ ابْن سعد الْقرشِي الْمَدِينِيّ مولى لآل أبي لَهب بن عبد الْمطلب، يَتِيم زيد بن أسلم، يكنى أَبَا سعيد، وَيُقَال أَبُو عبَادَة. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك عَنهُ، وَلَفظه: عَن حَفْصَة أَنَّهَا سَمِعت أَبَاهَا يَقُول ... فَذكر مثله، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.