عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 51 - (بابُ قَوْلِ الله جَلَّ ذِكْرُهُ
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى
نِسَائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ
عَلِمٍ الله أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُمْ
فَتابَ عَلَيْكُمْ وعَفَا عَنْكُمْ فاَلآنَ باشِرُوهُنَّ
وابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} (الْبَقَرَة: 781) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل وَمَا
يتَعَلَّق بِهِ من الْأَحْكَام، وَهَذِه الْآيَة إِلَى
قَوْله تَعَالَى: {مَا كتب الله لكم} (الْبَقَرَة: 781) .
رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى آخر الْآيَة
{لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} (الْبَقَرَة: 781) . وَجعل
البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة تَرْجَمَة لبَيَان مَا كَانَ
الْحَال عَلَيْهِ قبل نزُول هَذِه الْآيَة، وَسبب
نُزُولهَا فِي عمر بن الْخطاب وصرمة بن قيس، قَالَ
الطَّبَرِيّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن كَعْب بن
مَالك يحدث عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ النَّاس فِي رَمَضَان
إِذا صَامَ الرجل فأمسى فَنَامَ حرمه عَلَيْهِ الطَّعَام
وَالشرَاب وَالنِّسَاء حَتَّى يفْطر من الْغَد، فَرجع عمر
بن الْخطاب من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ذَات لَيْلَة وَقد سمر عِنْده، فَوجدَ امْرَأَته قد
نَامَتْ، فأرادها، فَقَالَت: إِنِّي قد نمت، فَقَالَ: مَا
نمت؟ ثمَّ وَقع بهَا، وصنع كَعْب بن مَالك مثله، فغدا عمر
بن الْخطاب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَأخْبرهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {علم الله أَنكُمْ
تختانون أَنفسكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا عَنْكُم
فَالْآن باشروهن} (الْبَقَرَة: 781) . الْآيَة، وَهَكَذَا
رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَالسُّديّ
وَقَتَادَة وَغَيرهم فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة فِي
عمر بن الْخطاب، وَمن صنع كَمَا صنع، وَفِي صرمة بن قيس،
فأباح الْجِمَاع وَالطَّعَام وَالشرَاب فِي جَمِيع
اللَّيْل رَحْمَة ورخصة ورفقا. وَحَدِيث الْبَاب يقْتَصر
على قَضِيَّة صرمة بن قيس. قَوْله: (الرَّفَث) هُوَ
الْجِمَاع، هُنَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد
وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس وَسَالم بن عبد الله وَعَمْرو
بن دِينَار وَالْحسن وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ وَالضَّحَّاك
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالسُّديّ وَعَطَاء
الْخُرَاسَانِي وَمُقَاتِل ابْن حَيَّان، وَقَالَ الزّجاج:
الرَّفَث، كُله جَامع لكل مَا يُريدهُ الرجل من النِّسَاء
قَوْله: {هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ}
(الْبَقَرَة: 781) . قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَسَعِيد
بن جُبَير وَالْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَمُقَاتِل بن
حَيَّان: يَعْنِي هن سكن لكم وَأَنْتُم سكن لَهُنَّ،
وَقَالَ الرّبيع بن أنس: هن لِحَاف لكم وَأَنْتُم لِحَاف
لَهُنَّ، وَحَاصِله أَن الرجل وَالْمَرْأَة كل مِنْهُمَا
يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فَنَاسَبَ أَن يرخص لَهُم فِي
المجامعة فِي ليل رَمَضَان لِئَلَّا يشق ذَلِك عَلَيْهِم
ويحرجوا، وَقيل: كل قرن مِنْكُم يسكن إِلَى قرنه ويلابسه،
وَالْعرب تسمي الْمَرْأَة لباسا وإزارا قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا مَا الضجيع ثنى جيدها ... تداعت، فَكَانَت عَلَيْهِ
لباسا)
(10/289)
وَقَالَ آخر:
(ألاَ بلِّغ أَبَا حَفص رَسُولا ... فِدًى لَك من أخي
ثِقَة إزَارِي)
قَالَ أهل اللُّغَة: مَعْنَاهُ فدى لَك امْرَأَتي، وَذكر
ابْن قُتَيْبَة وَغَيره أَن المُرَاد بقوله: إزَارِي، فدى
لَك امْرَأَتي، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ نَفسه أَي: فدى
لَك نَفسِي. وَفِي (كتاب الْحَيَوَان) للجاحظ: لَيْسَ
شَيْء من الْحَيَوَان يتبطن طروقته أَي: يَأْتِيهَا من
جِهَة بَطنهَا غير الْإِنْسَان والتمساح، وَفِي (تَفْسِير
الواحدي) : والدب. وَقيل الْغُرَاب. قَوْله: {تختانون
أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 781) . يَعْنِي: تجامعون النِّسَاء
وتأكلون وتشربون فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ حَرَامًا
عَلَيْكُم، ذكره الطَّبَرِيّ. وَفِي (تَفْسِير) ابْن أبي
حَاتِم عَن مُجَاهِد: {تختانون أَنفسكُم} (الْبَقَرَة:
781) . قَالَ: تظْلمُونَ أَنفسكُم. قَوْله: {فَالْآن
باشروهن} (الْبَقَرَة: 781) . أَي: جامعوهن، كنى الله
عَنهُ، قَالَه ابْن عَبَّاس: وَرُوِيَ نَحوه عَن مُجَاهِد
وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَالسُّديّ
وَالربيع بن أنس وَزيد بن أسلم. قَوْله: {وابتغوا مَا كتب
الله لكم} (الْبَقَرَة: 781) . قَالَ مُجَاهِد: فِيمَا
ذكره عبد بن حميد فِي تَفْسِيره: الْولدَان لم تَلد هَذِه،
فَهَذِهِ، وَذكره أَيْضا الطَّبَرِيّ عَن الْحسن
وَالْحَاكِم وَعِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس وَالسُّديّ
وَالربيع بن أنس، وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره
عَن أنس بن مَالك، وَشُرَيْح وَعَطَاء وَالضَّحَّاك
وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة. قَالَ الطَّبَرِيّ، وَعَن
ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {وابتغوا مَا
كتب الله لكم} (الْبَقَرَة: 781) . قَالَ: لَيْلَة الْقدر،
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ آخَرُونَ: بل مَعْنَاهُ مَا
أحله الله لكم ورخصه، قَالَ ذَلِك قَتَادَة، وَعَن زيد بن
أسلم: هُوَ الْجِمَاع.
5191 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى عنْ إسْرَائِيلَ
عنْ أبي إسْحَاقَ عَن البَرَاءِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ كانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إذَا كانَ الرَّجُلُ صَائِما فحَضَرَ الإفْطَارُ فنامَ
قَبْلَ أنْ يُفْطَر لَمْ يَأكُلْ لَيْلَتَهُ ولاَ يَوْمَهُ
حَتَّى يُمْسِي وَإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصَارِيَّ
كانَ صائِما فَلَمَّا حضَرَ الإفْطَارُ أتَى امْرَأتَهُ
فَقَالَ لَهَا أعِنْدَكِ طَعَامٌ قالَتْ لاَ ولَكِنْ
أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ وكانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ
فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأتُهُ فلَمَّا
رَأَتْهُ قالَتْ خَيْبةً لَكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ
النَّهَارُ غشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى
نِسَائِكُمْ} ففَرِحُوا بِهَا فَرَحا شَدِيدا ونَزَلَتْ
{وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ
الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ} . (الْبَقَرَة: 781) .
(الحَدِيث 5191 طرفه فِي: 8054) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين سَبَب
نُزُولهَا وَعبيد الله بن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد
الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن
أبي إِسْحَاق السبيعِي وَهُوَ يروي عَن جده أبي إِسْحَاق،
واسْمه عَمْرو بن عبد الله.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم أَيْضا عَن
نصر بن عَليّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن
عبد بن حميد.
قَوْله: (كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) أَي: فِي أول مَا افْترض الصّيام، وبيَّن ذَلِك
ابْن جرير فِي رِوَايَته من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي
ليلى مُرْسلا. قَوْله: (فَنَامَ قبل أَن يفْطر) إِلَى
آخِره. وَفِي رِوَايَة زُهَيْر: (كَانَ إِذا نَام قبل أَن
يتعشى لم يحل لَهُ أَن يَأْكُل شَيْئا وَلَا يشرب ليله
وَلَا يَوْمه حَتَّى تغرب الشَّمْس) . وَفِي رِوَايَة أبي
الشَّيْخ من طَرِيق زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة عَن أبي
إِسْحَاق: (كَانَ الْمُسلمُونَ إِذا أفطروا يَأْكُلُون
وَيَشْرَبُونَ ويأتون النِّسَاء مَا لم يَنَامُوا، فَإِذا
نَامُوا لم يَفْعَلُوا شَيْئا من ذَلِك إِلَى مثلهَا) .
فَإِن قلت: الرِّوَايَات كلهَا فِي حَدِيث الْبَراء على
أَن الْمَنْع من ذَلِك كَانَ مُقَيّدا بِالنَّوْمِ،
وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيث غَيره، وَقد روى أَبُو دَاوُد من
حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ النَّاس على عهد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلوا الْعَتَمَة
حرم عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّسَاء، وصاموا
إِلَى الْقَابِلَة) الحَدِيث. وَالْمَنْع فِي هَذَا
مُقَيّد بِصَلَاة الْعشَاء. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذكر
صَلَاة الْعشَاء لكَون مَا بعْدهَا مَظَنَّة النّوم
غَالِبا، وَالتَّقْيِيد فِي الْحَقِيقَة بِالنَّوْمِ كَمَا
فِي سَائِر الْأَحَادِيث. وبيَّن السّديّ وَغَيره أَن
ذَلِك الحكم كَانَ على وفْق مَا كتب على أهل الْكتاب،
كَمَا أخرجه ابْن حزم من طَرِيق السّديّ، وَلَفظه: (كتب
على النَّصَارَى الصّيام، وَكتب عَلَيْهِم أَن لَا
يَأْكُلُوا وَلَا يشْربُوا وَلَا ينكحوا بعد النّوم، وَكتب
على الْمُسلمين أَولا مثل ذَلِك حَتَّى أقبل رجل من
الْأَنْصَار) فَذكر الْقِصَّة. وَمن طَرِيق إِبْرَاهِيم
التَّيْمِيّ: كَانَ الْمُسلمُونَ فِي أول الْإِسْلَام
يَفْعَلُونَ كَمَا يفعل أهل الْكتاب إِذا نَام أحدهم لم
يطعم حَتَّى الْقَابِلَة. قَوْله: (وَإِن قيس بن
(10/290)
صرمة) قيس بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: وصرمة،
بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح
الْمِيم، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَتَابعه
على ذَلِك التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن حبَان فِي
(معرفَة الصَّحَابَة) وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه)
والدارمي فِي (مُسْنده) وَأَبُو دَاوُد فِي (كتاب
النَّاسِخ والمنسوخ) والإسماعيلي وَأَبُو نعيم فِي
(مستخرجيهما) وَقَالَ أَبُو نعيم فِي (كتاب الصَّحَابَة)
تأليفه: صرمة بن أبي أنس، وَقيل: ابْن قيس الخطمي
الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا قيس، كَانَ شَاعِرًا نزلت فِيهِ
{وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط
الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) .
الْآيَة، ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي صَالح (عَن ابْن
عَبَّاس أَن صرمة بن أبي أنس أَتَى النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، عَشِيَّة من العشيات، وَقد جهده الصَّوْم،
فَقَالَ لَهُ: مَالك يَا أَبَا قيس: أمسيت طليخا ... ؟)
الحَدِيث، قَالَ: وَرَوَاهُ جبارَة بن مُوسَى عَن أَبِيه
عَن أَشْعَث بن سوار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس،
وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن
مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان أَن صرمة بن قيس ... فَذكر
نَحوه. انْتهى. وَكَذَا ذكره أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) :
صرمة بن قيس، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: صرمة بن أبي أنس قيس
بن مَالك بن عدي النجاري، يكنى أَبَا قيس، وَقَالَ بَعضهم:
صرمة بن مَالك، نسبه إِلَى جده، وَهُوَ الَّذِي نزل فِيهِ
وَفِي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {أحل لكم لَيْلَة
الصّيام} (الْبَقَرَة: 781) . وَفِي (أَسبَاب النُّزُول)
لِلْوَاحِدِيِّ: (عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَاءَ إِلَى امْرَأَته
فَقَالَت: قد نمت، فَوَقع عَلَيْهَا، وَأمسى صرمة بن قيس
صَائِما فَنَامَ قبل أَن يفْطر. .) الحَدِيث. وَقَالَ
أَبُو جَعْفَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَحْمد بن نصر
الدَّاودِيّ وَابْن التِّين: يخْشَى أَن يكون رِوَايَة
البُخَارِيّ غير مَحْفُوظَة، إِنَّمَا هُوَ صرمة. وَأما
النَّسَائِيّ فَلَمَّا ذكره فِي (كتاب السّنَن) قَالَ: إِن
أَبَا قيس بن عمر فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ السُّهيْلي:
حَدِيث صرمة بن أبي أنس قيس بن صرمة الَّذِي أنزل الله
تَعَالَى فِيهِ وَفِي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
{أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم}
(الْبَقَرَة: 781) . إِلَى قَوْله: {وَعَفا عَنْكُم}
(الْبَقَرَة: 781) . فَهَذِهِ فِي عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. ثمَّ قَالَ: {وكلوا وَاشْرَبُوا}
(الْبَقَرَة: 781) . إِلَى آخر اللَّيْلَة، فَهَذِهِ فِي
صرمة بن أبي أنس، بَدَأَ الله بِقصَّة عمر لفضله. فَقَالَ:
{فَالْآن باشروهن} (الْبَقَرَة: 781) . ثمَّ بِقصَّة صرمة،
فَقَالَ: {وكلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 781) . وَعند
ابْن الْأَثِير، من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن
عَيَّاش: أخبرنَا أَبُو عرُوبَة عَن قيس بن سعد عَن عَطاء
(عَن أبي هُرَيْرَة: نَام ضَمرَة بن أنس الْأنْصَارِيّ
وَلم يشْبع من الطَّعَام وَالشرَاب، فَنزلت: {أحل لكم
لَيْلَة الصّيام ... } (الْبَقَرَة: 781) . الْآيَة، قيل:
إِنَّه تَصْحِيف، وَلم يتَنَبَّه لَهُ ابْن الْأَثِير،
وَالصَّوَاب صرمة بن أبي أنس، وَهُوَ مَشْهُور فِي
الصَّحَابَة، يكنى أَبَا قيس. وَالصَّوَاب فِي ذَلِك من
بَين هَذِه الرِّوَايَات مَا ذكره ابْن عبد الْبر، فَمن
قَالَ: قيس بن صرمة، قلبه كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
الدَّاودِيّ، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَكَذَا قَالَ
السُّهيْلي وَغَيره: إِنَّه وَقع مقلوبا فِي رِوَايَة
حَدِيث الْبَاب، وَمن قَالَ: صرمة بن مَالك، نسبه إِلَى
جده، وَمن قَالَ: صرمة بن أنس حذف أَدَاة الكنية من
أَبِيه، وَمن قَالَ: أَبُو قيس ابْن عَمْرو أصَاب فِي
كنيته وَأَخْطَأ فِي إسم أَبِيه، وَكَذَا من قَالَ: أَبُو
قيس بن صرمة، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يَقُول: أَبُو قيس
صرمة فزيد فِيهِ: أَيْن. فَافْهَم. فَبِهَذَا يجمع بَين
هَذِه الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة، وَالله أعلم. قَوْله:
(أعندكِ؟) بِكَسْر الْكَاف والهمزة للاستفهام. قَوْله:
(قَالَت: لَا) ، أَي: لَيْسَ عِنْد طَعَام، وَلَكِن أَنطلق
فأطلب لَك، ظَاهر هَذَا الْكَلَام أَنه لم يَجِيء مَعَه
بِشَيْء، لَكِن ذكر فِي مُرْسل السّديّ أَنه أَتَاهَا
بِتَمْر، فَقَالَ: استبدلي بِهِ طحينا واجعليه سخينا،
فَإِن التَّمْر أحرق جوفي. وَفِي مُرْسل ابْن أبي ليلى:
(فَقَالَ لأَهله: أَطْعمُونِي، فَقَالَت: حَتَّى أجعَل لَك
شَيْئا سخينا) ، وَوَصله أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن أبي
ليلى: قَالَ حَدثنَا أَصْحَاب مُحَمَّد فَذكره مُخْتَصرا.
قَوْله: (وَكَانَ يَوْمه) ، بِالنّصب أَي: وَكَانَ قيس بن
صرمة فِي يَوْمه يعْمل أَي: فِي أرضه، وَصرح بهَا أَبُو
دَاوُد فِي رِوَايَته، وَفِي مُرْسل السّديّ: (كَانَ يعْمل
فِي حيطان الْمَدِينَة بِالْأُجْرَةِ) ، فعلى هَذَا
فَقَوله: فِي أرضه إِضَافَة اخْتِصَاص. قَوْله: (فغلبته
عَيناهُ) أَي: نَام، لِأَن غَلَبَة الْعَينَيْنِ عبارَة
عَن النّوم، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عينه)
بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (خيبة لَك) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول مُطلق يجب حذف عَامله، وَقيل: إِذا كَانَ بِدُونِ
اللَّام يجب نَصبه، وَإِذا كَانَ مَعَ اللَّام جَازَ
نَصبه، والخيبة: الحرمان، يُقَال: خَابَ الرجل إِذا لم ينل
مَا طلبه. قَوْله: (فَلَمَّا انتصف النَّهَار غشي
عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَأصْبح صَائِما،
فَلَمَّا انتصف النَّهَار) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد:
(فَلم ينتصف النَّهَار حَتَّى غشي عَلَيْهِ) . وَفِي
رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق: (فَلم يطعم شَيْئا
وَبَات حَتَّى أصبح صَائِما حَتَّى انتصف النَّهَار فَغشيَ
عَلَيْهِ) . وَفِي مُرْسل السّديّ: (فأيقظته
(10/291)
فكره أَن يعْصى الله تَعَالَى، وَأبي أَن
يَأْكُل) . وَفِي مُرْسل مُحَمَّد بن يحيى، فَقَالَ:
(إِنِّي قد نمت، فَقَالَت لَهُ: لم تنم فَأبى فَأصْبح
جائعا مجهودا) . قَوْله: (فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، وَزَاد فِي رِوَايَة زَكَرِيَّاء عِنْد
أبي الشَّيْخ: (وأتى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
امْرَأَته وَقد نَامَتْ، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (فَنزلت هَذِه الْآيَة) وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينهمَا
وَبَين حِكَايَة قيس؟ قلت: لما صَار الرَّفَث حَلَالا
فالأكل وَالشرب بِالطَّرِيقِ الأولى، وَحَيْثُ كَانَ حلهما
بِالْمَفْهُومِ نزلت بعده: {كلوا وَاشْرَبُوا}
(الْبَقَرَة: 781) . ليعلم بالمنطوق تَصْرِيحًا بتسهيل
الْأَمر عَلَيْهِم، ودفعا لجنس الضَّرَر الَّذِي وَقع لقيس
وَنَحْوه، أَو المُرَاد بِالْآيَةِ: هِيَ بِتَمَامِهَا
إِلَى آخِره، حَتَّى يتَنَاوَل: كلوا وَاشْرَبُوا، فالغرض
من ذكر نزلت ثَانِيًا هُوَ بَيَان نزُول لفظ {من الْفجْر}
(الْبَقَرَة: 781) . بعد ذَلِك. انْتهى. قلت: اعْتمد
السُّهيْلي على الْجَواب الثَّانِي، وَقَالَ: إِن الْآيَة
نزلت بِتَمَامِهَا فِي الْأَمريْنِ مَعًا، وَقدم مَا
يتَعَلَّق بعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لفضله.
قَوْله: (فَفَرِحُوا بهَا) ، أَي: بِالْآيَةِ وَهِي
قَوْله: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} (الْبَقَرَة:
781) . وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَنزلت {أحل لكم
لَيْلَة الصّيام} إِلَى قَوْله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة:
781) . فَهَذَا يبين أَن مَحل قَوْله: (فَفَرِحُوا بهَا)
بعد قَوْله: {الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . وَوَقع
ذَلِك صَرِيحًا فِي رِوَايَة زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة،
وَلَفظ: (فَنزلت {أحل لكم} (الْبَقَرَة: 781) . إِلَى
قَوْله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . ففرح
الْمُسلمُونَ بذلك.
61 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالى: {وكُلُوا واشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ
الخيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا
الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَة: 781)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل مُخَاطبا
للْمُسلمين بقوله: {وكلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 781)
. بعد أَن كَانُوا ممنوعين مِنْهُمَا بعد النّوم، وَبَين
فِيهِ غَايَة وَقت الْأكل بقوله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم
الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781)
. وَالْمرَاد بالخيط الْأَبْيَض أول مَا يَبْدُو من
الْفجْر الْمُعْتَرض فِي الْأُفق كالخيط الْمَمْدُود،
وَالْخَيْط الْأسود مَا يَمْتَد مَعَه من غبش اللَّيْل
شبها بخيطين أَبيض وأسود. وَقَوله: {من الْفجْر}
(الْبَقَرَة: 781) . بَيَان للخيط الإبيض وَاكْتفى بِهِ
عَن بَيَان الْخَيط الْأسود، لِأَن بَيَان أَحدهمَا بَيَان
للثَّانِي، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن تكون من
للتَّبْعِيض لِأَنَّهُ بعض الْفجْر، وَقَالَ: وَقَوله: {من
الْفجْر} أخرجه من بَاب الِاسْتِعَارَة، كَمَا أَن قَوْلك
رَأَيْت أسدا مجَاز، فَإِذا زِدْت من فلَان، رَجَعَ
تَشْبِيها. انْتهى. وَلما نزل قَوْله: {كلوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط
الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . أَولا وَلم ينزل: {من
الْفجْر} كَانَ رجال إِذا أَرَادوا الصَّوْم ربط أحدهم فِي
رجلَيْهِ الْخَيط الْأَبْيَض وَالْخَيْط الْأسود، فَلَا
يزَال يَأْكُل وَيشْرب وَيَأْتِي أَهله حَتَّى يظْهر لَهُ
الْخيطَان، ثمَّ لما نزل قَوْله: {من الْفجْر} علمُوا أَن
المُرَاد من الْخَيْطَيْنِ اللَّيْل وَالنَّهَار، فالأسود
سَواد اللَّيْل والأبيض بَيَاض الْفجْر، كَمَا يَأْتِي
الْآن بَيَانه فِي حَدِيث الْبَاب. قَوْله: {ثمَّ أَتموا
الصّيام إِلَى اللَّيْل} (الْبَقَرَة: 781) . أَي: من بعد
انْشِقَاق الْفجْر الصَّادِق كفوا عَن الْأكل وَالشرب
وَالْجِمَاع إِلَى أَن يَأْتِي اللَّيْل، وَهُوَ غرُوب
الشَّمْس، قَالُوا: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز النبية
بِالنَّهَارِ فِي صَوْم رَمَضَان، وعَلى جَوَاز تَأْخِير
الْغسْل إِلَى الْفجْر، وعَلى نفي صَوْم الْوِصَال.
فيهِ الْبَرَاءُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث رَوَاهُ الْبَراء بن عَازِب
الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: يَعْنِي فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب
حَدِيث رَوَاهُ الْبَراء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لَكِن لما لم يكن على شَرط البُخَارِيّ لم يذكرهُ
فِيهِ. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل أَشَارَ بِهِ إِلَى
الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مَوْصُولا عَن الْبَراء الَّذِي
سبق ذكره فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
6191 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ قَالَ حدَّثنا
هُشَيْمٌ قَالَ أخبرَنِي حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ
عَن الشَّعْبِيِّ عنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ لمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يتبَيَّنَ
لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ
عَمَدْتُ إلَى عِقَالٍ أسْوَدَ وإلَى عِقالٍ أبْيَضَ
فجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فجَعَلْتُ أنْظُرُ فِي
اللَّيْلِ فَلاَ يَسْتَبِينُ لِي فغَدَوْتُ عَلى رسولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذكَرْتُ لَهُ ذالِكَ
فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ سَوادُ اللَّيْلِ وبيَاضُ
النَّهار.
(10/292)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حجاج، على وزن فعال
بِالتَّشْدِيدِ، ابْن منهال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون
النُّون: السّلمِيّ مَوْلَاهُم الْأنمَاطِي. الثَّانِي:
هشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن بشير،
بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة:
السّلمِيّ مَوْلَاهُم أَبُو مُعَاوِيَة. الثَّالِث:
حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ:
ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، يكنى أَبَا الْهُذيْل.
الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: عدي
بن حَاتِم الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي
موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَن هشيما واسطي
وَأَصله من بَلخ وَأَن حصينا وَالشعْبِيّ كوفيان وَأَن
فِيهِ: أَخْبرنِي حُصَيْن، ويروى: أخبرنَا، وَزَاد
الطَّحَاوِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن هشيم:
أخبرنَا حُصَيْن ومجالد عَن الشّعبِيّ، فالطحاوي أخرج
هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن
خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج بن منهال إِلَى آخِره،
نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ. وَالْآخر: عَن أَحْمد بن
دَاوُد عَن إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن هشيم عَن حُصَيْن
ومجالد عَن الشّعبِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي
عوَانَة، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُسَدّد عَن حُصَيْن بن نمير، وَعَن عُثْمَان بن
أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن
أَحْمد بن منيع عَن هشيم، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عدي بن حَاتِم) ، فِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: أَخْبرنِي عدي بن حَاتِم) ،
وَكَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة عَن أَحْمد بن منيع، وَكَذَا
أوردهُ أَبُو عوَانَة من طَرِيق أبي عبيد عَن هشيم عَن
حُصَيْن. قَوْله: (عَمَدت) ، أَي: قصدت من عمد يعمد عمدا
إِذا قصد، وَهُوَ من بَاب: ضرب يضْرب، وَأما عَمَدت
الشَّيْء فانعمد فَمَعْنَاه: أقمته، فَالْأول بِاللَّامِ
وَإِلَى؛ وَالثَّانِي بدونهما. قَوْله: (إِلَى عقال) ،
بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالقاف، وَهُوَ الْحَبل
الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير، وَالْجمع: عُقل، وَفِي
رِوَايَة مجَالد: (فَأخذت خيطين من شعر) . قَوْله: (فَلَا
يستبين لي) ، أَي: فَلَا يظْهر لي، وَفِي رِوَايَة مجَالد:
(فَلَا أستبين الْأَبْيَض من الْأسود) . قَوْله:
(وِسَادَتِي) ، الوساد والوسادة المخدة، وَالْجمع: وسائد
ووسد. قَوْله: (إِنَّمَا ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من
قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من
الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . وَرِوَايَة
البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير، قَالَ: (أَخذ عدي عقَالًا
أَبيض وَعِقَالًا أسود حَتَّى إِذا كَانَ بعض اللَّيْل نظر
فَلم يَسْتَبِينَا، فَلَمَّا أصبح قَالَ: يَا رَسُول الله
{جعلت تَحت وِسَادَتِي. . قَالَ: إِن وِسَادَتك إِذا
لَعَرِيض) . وَفِي رِوَايَة: (قلت: يَا رَسُول الله} مَا
الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود؟ أَهما الْخيطَان؟
قَالَ: إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا، إِن أَبْصرت
الْخَيْطَيْنِ، ثمَّ قَالَ: لَا بل هُوَ سَواد اللَّيْل
وَبَيَاض النَّهَار) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (قَالَ: يَا
رَسُول الله! إِنَّنِي جعلت تَحت وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ:
عقَالًا أَبيض وَعِقَالًا أسود أعرف اللَّيْل من
النَّهَار، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِن وِسَادك لَعَرِيض، إِنَّمَا هُوَ سَواد اللَّيْل
وَبَيَاض النَّهَار) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد (قَالَ:
أخذت عقَالًا أَبيض وَعِقَالًا أسود فوضعتهما تَحت
وِسَادَتِي، فَنَظَرت فَلم أتبين، فَذكرت ذَلِك لرَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضَحِك، وَقَالَ: إِن
وِسَادك إِذا لَعَرِيض طَوِيل، إِنَّمَا هُوَ اللَّيْل
وَالنَّهَار) . وَفِي لفظ: (إِنَّمَا هما سَواد اللَّيْل
وَبَيَاض النَّهَار) ، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من
طَرِيق إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مطرف: (فَضَحِك،
وَقَالَ: لَا يَا عريض الْقَفَا) . انْتهى. قَوْله: (إِن
وِسَادك لَعَرِيض) ، كنى بالوساد عَن النّوم، لِأَن
النَّائِم يتوسد، أَي: إِن نومك لطويل كثير، وَقيل: كنى
بالوساد عَن مَوضِع الوساد من رَأسه وعنقه، وَتشهد لَهُ
الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا) ،
فَإِن عرض الْقَفَا كِنَايَة عَن السّمن، وَقيل: أَرَادَ
من أكل مَعَ الصُّبْح فِي صَوْمه أصبح عريض الْقَفَا،
لِأَن الصَّوْم لَا يُؤثر فِيهِ، وَيُقَال: يكنى عَن
الأبله بعريض الْقَفَا، فَإِن عرض الْقَفَا وَعظم الرَّأْس
إِذا أفرطا قيل: إِنَّه دَلِيل الغباوة والحماقة، كَمَا
أَن استواءه دَلِيل على علو الهمة وَحسن الْفَهم، وَهَذَا
من قبيل الْكِنَايَة الْخفية، وَالْفرق بَين الْكِنَايَة
وَالْمجَاز أَن الِانْتِقَال فِي الْكِنَايَة من اللَّازِم
إِلَى الْمَلْزُوم، وَفِي الْمجَاز من الْمَلْزُوم إِلَى
اللَّازِم، وَهَكَذَا فرق السكاكي وَغَيره، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّمَا عرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قفا عدي لِأَنَّهُ غفل عَن الْبَيَان، وتعريض
الْقَفَا مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على قلَّة الفطنة، قيل:
أنكر ذَلِك غير وَاحِد، مِنْهُم: الْقُرْطُبِيّ، فَقَالَ:
حمله بعض النَّاس على الذَّم لَهُ على ذَلِك الْفَهم،
وَكَأَنَّهُم فَهموا أَنه نسبه إِلَى الْجَهْل والجفا
وَعدم الْفِقْه، وعضدوا ذَلِك بقوله: (إِنَّك لَعَرِيض
الْقَفَا)
(10/293)
وَلَيْسَ الْأَمر على مَا قَالُوهُ، لِأَن
من حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته اللسانية الَّتِي هِيَ
الأَصْل إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ دَلِيل التَّجَوُّز لم
يسْتَحق ذما وَلَا ينْسب إِلَى جهل، وَإِنَّمَا عَنى
وَالله أعلم إِن وِسَادك إِن كَانَ يُغطي الْخَيْطَيْنِ
اللَّذين أَرَادَ الله فَهُوَ إِذا عريض وَاسع، ولهذه
قَالَ فِي إِثْر ذَلِك: إِنَّمَا هُوَ سَواد اللَّيْل
وَبَيَاض النَّهَار، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَكيف يدخلَانِ
تَحت وِسَادَتك؟ وَقَوله: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا) ،
أَي: إِن الوساد الَّذِي يُغطي اللَّيْل وَالنَّهَار لَا
يرقد عَلَيْهِ إلاَّ قفا عريض للمناسبة.
ذكر الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله:
{حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض ... }
(الْبَقَرَة: 781) . إِلَى آخِره، يَقْتَضِي ظَاهره أَن
عدي بن حَاتِم كَانَ حَاضرا لما نزلت هَذِه الْآيَة،
وَهُوَ يَقْتَضِي تقدم إِسْلَامه، وَلَيْسَ الْأَمر
كَذَلِك، لِأَن نزُول فرض الصَّوْم كَانَ مُتَقَدما فِي
أَوَائِل الْهِجْرَة، وَإِسْلَام عدي كَانَ فِي
التَّاسِعَة أَو الْعَاشِرَة، كَمَا ذكره ابْن إِسْحَاق
وَغَيره من أهل الْمَغَازِي قلت: أجابوا بأَرْبعَة أجوبة:
الأول: إِن الْآيَة الَّتِي فِي حَدِيث الْبَاب تَأَخّر
نُزُولهَا عَن نزُول فرض الصَّوْم، وَهَذَا بعيد جدا.
الثَّانِي: أَن يؤول قَول عدي هَذَا على أَن المُرَاد
بقوله: (لما نزلت) ، أَي: لما تليت عَليّ عِنْد إسلامي.
الثَّالِث: أَن الْمَعْنى: لما بَلغنِي نزُول الْآيَة
عَمَدت إِلَى عِقَالَيْنِ. الرَّابِع: يقدر فِيهِ حذف
تَقْدِيره، لما نزلت الْآيَة، ثمَّ قدمت وَأسْلمت وتعلمت
الشَّرَائِع، عَمَدت، وَهَذَا أحسن الْوُجُوه،
وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق مجَالد
بِلَفْظ: (عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الصَّلَاة وَالصِّيَام، فَقَالَ: صل كَذَا وصم كَذَا،
فَإِذا غَابَتْ الشَّمْس فَكل حَتَّى يتَبَيَّن لَك
الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود، قَالَ: فَأخذت
خيطين) الحَدِيث.
وَمِنْهَا مَا قيل:
إِن قَوْله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . نزل بعد
قَوْله: {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط
الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) .
وَكَانَ هَذَا بَيَانا لَهُم إِن المُرَاد بِهِ أَن
يتَمَيَّز بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل، فَكيف يجوز
تَأْخِير الْبَيَان مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِ مَعَ بَقَاء
التَّكْلِيف؟ أُجِيب: بِأَن الْبَيَان كَانَ مَوْجُودا
فِيهِ، لَكِن على وَجه لَا يُدْرِكهُ جَمِيع النَّاس،
وَإِنَّمَا كَانَ على وَجه يخْتَص بِهِ أَكْثَرهم أَو
بَعضهم، وَلَيْسَ يلْزم أَن يكون الْبَيَان مكشوفا فِي
دَرَجَة يطلع عَلَيْهَا كل أحد، أَلا ترى أَنه لم يَقع
فِيهِ إلاَّ عدي وَحده، وَيُقَال: كَانَ اسْتِعْمَال
الْخَيْطَيْنِ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار شَائِعا غير
مُحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَكَانَ ذَلِك إسما لسواد
اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار فِي الْجَاهِلِيَّة قبل
الْإِسْلَام، قَالَ أَبُو دَاوُد الْإِيَادِي:
(وَلما أَضَاءَت لنا ظلمَة ... ولاح لنا الصُّبْح خيطا
أنارا)
فَاشْتَبَهَ على بَعضهم فَحَمَلُوهُ على العقالين، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: فعل ذَلِك من لم يكن ملازما لرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من الْأَعْرَاب، وَمن لَا
فقه عِنْده أَو لم يكن من لغته اسْتِعْمَالهَا فِي
اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم
الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781)
. من بَاب الِاسْتِعَارَة أم من بَاب التَّشْبِيه؟ أُجِيب:
بِأَن قَوْله: {من الْفجْر} أخرجه من بَاب الِاسْتِعَارَة،
وَقد نقلنا هَذَا عَن الزَّمَخْشَرِيّ فِي أَوَائِل
الْبَاب.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الِاسْتِعَارَة أبلغ فَلِمَ عَدل
إِلَى التَّشْبِيه؟ أُجِيب: بِأَن التَّشْبِيه الْكَامِل
أولى من الِاسْتِعَارَة النَّاقِصَة، وَهِي نَاقِصَة
لفَوَات شَرط حسنها، وَهُوَ أَن يكون التَّشْبِيه بَين
الْمُسْتَعَار لَهُ والمستعار مِنْهُ جليا بِنَفسِهِ
مَعْرُوفا بَين سَائِر الأقوام، وَهَذَا قد كَانَ مشتبها
على بَعضهم.
7191 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا
ابنُ أبِي حازِمٍ عنْ أبِيهِ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ ح
قَالَ حدَّثني سعَيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا
أبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حدَّثني أبُو
حازِمٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ أُنْزِلَتْ {وكُلُوا
واشْرَبُوا حَتَّى يتبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيضُ
مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ} (الْبَقَرَة: 781) . ولَمْ
يَنْزِلْ مِنَ الفَجْرِ فَكانَ رِجالٌ إذَا أرَادُوا
الصَّوْمَ ربَطَ أحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الخَيْطَ
الأبْيَضَ والخَيْطَ الأسْوَدَ ولَمْ يَزَلْ يأكُلُ حَتَّى
يتَبَيَّنَ لَهُ رُؤيَتُهُمَا فأنْزَلَ الله بَعْدُ مِنَ
الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ
والنَّهَارَ.
(الحَدِيث 7191 طرفه فِي: 1154) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم
هُوَ سعيد بن مُحَمَّد الحكم بن
(10/294)
أبي مَرْيَم الجُمَحِي. الثَّانِي: ابْن
أبي حَازِم عبد الْعَزِيز. الثَّالِث: أَبوهُ أَبُو
حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سَلمَة
بن دِينَار. الرَّابِع: أَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون:
واسْمه مُحَمَّد بن طريف. الْخَامِس: سهل ابْن سعد بن
مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن
شَيْخه بَصرِي والبقية مدنيون. وَفِيه: أَن فِي الطَّرِيق
الأول روى عَن شَيْخه بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع،
وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي عَنهُ أَيْضا بِصِيغَة
الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن شَيْخه يروي عَن شيخين أَحدهمَا
ابْن أبي حَازِم، وَالْآخر أَبُو غَسَّان، وَفِي
التَّفْسِير عَن أبي غَسَّان وَحده، وَاللَّفْظ لأبي
غَسَّان، وَكَذَا أخرجه مُسلم وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو
عوَانَة والطَّحَاوِي فِي آخَرين من طَرِيق سعيد شيخ
البُخَارِيّ عَن أبي غَسَّان وَحده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن سعيد بن أبي مَرْيَم: وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق
وَمُحَمّد بن سهل بن عَسْكَر، كِلَاهُمَا عَن سعيد بن أبي
مَرْيَم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي بكر بن
إِسْحَاق بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ربط أحدهم فِي رجلَيْهِ) ، قلت:
فِي مُسلم: (جعل الرجل يَأْخُذ خيطا أَبيض وخيطا أسود
فيضعهما تَحت وسادته وَينظر مَتى يَسْتَبِينَا) . قلت: لَا
مُنَافَاة لاحْتِمَال أَن يكون بَعضهم فعل هَذَا
وَبَعْضهمْ فعل هَذَا، وَقَالَ بَعضهم: أَو يَكُونُوا
يجعلونهما تَحت الوسادة إِلَى السحر فيربطونهما حِينَئِذٍ
فِي أَرجُلهم ليشاهدوهما. انْتهى. قلت: هَذَا بعيد،
لِأَنَّهُ لَا حَاجَة حِينَئِذٍ إِلَى الرَّبْط فِي
أَرجُلهم، لأَنهم فِي يقظة حِينَئِذٍ لِأَن الْمُشَاهدَة
لَا تكون إلاَّ عَن يقظان، فَلَا يحْتَاج إِلَى الرَّبْط
فِي الرجل، فَفِي أَي: مَوضِع كَانَ تحصل الْمُشَاهدَة؟
قَوْله: (حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ) ، كَذَا هُوَ
بِالتَّشْدِيدِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (حَتَّى يستبين) ، من الإستبانة، وَذَلِكَ من
التبين من: بَاب التفعل، وَذَاكَ من بَاب الاستفعال.
قَوْله: (رُؤْيَتهمَا) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْهمزَة
وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق، وَهُوَ من: رأى بِالْعينِ، يُقَال: رأى رَأيا ورؤية
وراءة، مثل راعة فيتعدى إِلَى مفعول وَاحِد، وَإِذا كَانَ
بِمَعْنى الْعلم يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، يُقَال: رأى
زيدا عَالما، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ
مَرْفُوع، لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله {حَتَّى يتَبَيَّن
لَهُ} (الْبَقَرَة: 781) . وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ:
رأيهما، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْهمزَة وَضم الْيَاء
آخر الْحُرُوف، وَمَعْنَاهُ: منظرهما، وَمِنْه: قَوْله
تَعَالَى: {أحسن أثاثا ورءيا} (مَرْيَم: 47) . وَفِي
رِوَايَة مُسلم: زيهما، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الْيَاء
بِلَا همز وَمَعْنَاهُ: لونهما، ويروى: (رئيهما) ، بِفَتْح
الرَّاء وَكسرهَا وَكسر الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف، قَالَ عِيَاض: هَذَا غلط لِأَن الرئي التَّابِع
من الْجِنّ، فَلَا معنى لَهُ هَهُنَا، فَإِن صحت بِهِ
الرِّوَايَة فَيكون مَعْنَاهُ: مرئيهما. قَوْله: (فَأنْزل
الله بعد) ، بِضَم الدَّال أَي: بعد نزُول: {حَتَّى
يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من
الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع على
هَذَا بَين حَدِيث عدي وَحَدِيث سهل هَذَا؟ قلت: قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: يَصح الْجمع بِأَن يكون حَدِيث عدي
مُتَأَخِّرًا عَن حَدِيث سهل، وَأَن عديا لم يسمع مَا جرى
فِي حَدِيث سهل، وَإِنَّمَا سمع الْآيَة مُجَرّدَة، وعَلى
هَذَا فَيكون: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . مُتَعَلقا
بقوله: {يتَبَيَّن} (الْبَقَرَة: 781) . وعَلى مُقْتَضى
حَدِيث سهل يكون فِي مَوضِع الْحَال مُتَعَلقا بِمَحْذُوف:
قَالَ، وَيحْتَمل أَن يكون الحديثان قَضِيَّة وَاحِدَة.
وَذكر بعض الروَاة {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) .
مُتَّصِلا بِمَا قبله، كَمَا ثَبت فِي الْقُرْآن
الْعَزِيز، وَإِن كَانَ قد نزل مُنْفَردا، كَمَا بَينه فِي
حَدِيث سهل، وَحَدِيث سهل يَقْتَضِي أَن يكون مُنْفَردا،
وَذَاكَ أَن فرض الصّيام كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة
بِلَا خلاف. وَقَالَ سهل فِي حَدِيثه: كَانَ رجال. . إِلَى
قَوْله: {وَالْخَيْط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . ثمَّ
أنزل: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . فَدلَّ هَذَا على
أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَفْعَلُونَ هَذَا إِلَى أَن أسلم
عدي فِي السّنة التَّاسِعَة، وَقيل الْعَاشِرَة، حَتَّى
أخبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك
سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار. قَوْله: (فَأنْزل الله
بعد ذَلِك {من الْفجْر} ) روى أَنه كَانَ بَينهمَا عَام،
قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا كَانَ حكم هَذِه الْآيَة قد
أشكل على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَتَّى بيّن الله لَهُم من ذَلِك مَا بَين، وَحَتَّى أنزل:
{من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . بَعْدَمَا كَانَ قد أنزل
الله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من
الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . فَكَانَ الحكم أَن
يَأْكُلُوا ويشربوا حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم، حَتَّى نسخ
الله عز وَجل بقوله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . على
مَا ذكرنَا، وَقد بَينه سهل فِي حَدِيثه، انْتهى. وَقَالَ
عِيَاض: وَلَيْسَ المُرَاد أَن هَذَا كَانَ حكم الشَّرْع
أَولا ثمَّ نسخ بقوله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) .
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
(10/295)
الطَّحَاوِيّ والداودي، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن ذَلِك
فعله وتأوله من لم يكن مخالطا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، إِنَّمَا هُوَ من الْأَعْرَاب وَمن لَا فقه عِنْده،
أَو لم يكن من لغته اسْتِعْمَال الْخَيط فِي اللَّيْل
وَالنَّهَار. انْتهى. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن ذَلِك
كَانَ اسْما لسواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار فِي
الْجَاهِلِيَّة قبل الْإِسْلَام، وَعَن هَذَا قَالَ
الدَّاودِيّ: أَحسب أَن الْمَحْفُوظ حَدِيث عدي، لِأَن
الله لَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ،
وَإِن يكن حَدِيث سهل مَحْفُوظًا فَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي
فرض عَلَيْهِم ثمَّ نسخ بِالْفَجْرِ. |