عمدة القاري شرح صحيح البخاري

34 - (كتَابٌ فِي الاسْتِقْرَاضِ وأدَاءِ الدُّيُونِ وَالْحَجْرِ والتَّفْلِيسِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان حكم الاستقراض، وَهُوَ طلب الْقَرْض. قَوْله: (وَالْحجر) ، وَهُوَ لُغَة: الْمَنْع، وَشرعا: منع عَن التَّصَرُّف، وأسبابه كَثِيرَة محلهَا الْفُرُوع. قَوْله: (والتفليس) ، من: فلسه الْحَاكِم تفليساً يَعْنِي: يحكم بِأَنَّهُ يصير إِلَى أَن يُقَال: لَيْسَ مَعَه فلس، وَيُقَال: الْمُفلس من تزيد دُيُونه على موجوده، سمي مُفلسًا لِأَنَّهُ صَار ذَا فلوس بعد أَن كَانَ ذَا دَرَاهِم ودنانير، وَقيل: سمي بذلك لِأَنَّهُ يمْنَع التَّصَرُّف إلاَّ فِي الشَّيْء التافه، لأَنهم لَا يتعاملون بِهِ فِي الْأَشْيَاء الخطيرة، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَكِن بِلَا بَسْمَلَة فِي أَولهَا، وَعند غَيره الْبَسْمَلَة فِي أَولهَا، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب، بدل: كتاب، وَلَكِن عطف التَّرْجَمَة الَّتِي تليه عَلَيْهِ بِغَيْر بَاب.

1 - (بابُ مَنِ اشْتَراي بِالدَّيْنِ ولَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من اشْترى بِالدّينِ، وَالْحَال أَنه لَيْسَ عِنْده ثمن الَّذِي اشْتَرَاهُ. قَوْله: (أَو لَيْسَ) أَي: الثّمن بِحَضْرَتِهِ وَقت الشِّرَاء، وَهَذَا أخص من الأول لِأَن الأول: يحْتَمل أَن لَا يكون الثّمن عِنْده أصلا، لَا بِحَضْرَتِهِ وَلَا فِي منزله. وَالثَّانِي: لَا يسْتَلْزم نفي الثّمن إلاَّ بِحَضْرَتِهِ، فَقَط وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز، وَقد أَجمعُوا على أَن الشِّرَاء بِالدّينِ جَائِز لقَوْله تَعَالَى: {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} (الْبَقَرَة: 282) . فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم من طَرِيق سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (لَا أَشْتَرِي مَا لَيْسَ عِنْدِي ثمنه) . فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث ضَعَّفُوهُ، وَاخْتلف فِي وَصله وإرساله، وَيحْتَمل أَن البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى ضعف هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور.

5832 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرنَا جَرِيرٌ عنِ المغيرَةِ عنِ الشِّعْبِيِّ عَن جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَيْفَ تَراى بَعيرَك أتَبِيعُنِيهِ قُلْتُ نَعَمْ فَبِعْتُهُ إيَّاهُ فلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إلَيْهِ بِالْبَعِيرِ فأعْطَاني ثَمَنَهُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اشْترى جمل جَابر وَلم يكن الثّمن حَاضرا، وَلم يُعْطه إلاَّ بِالْمَدِينَةِ. وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام، وَقَالَ الغساني: وَمَا وَقع فِي بعض النّسخ: مُحَمَّد بن يُوسُف، فَلَيْسَ بِشَيْء. قلت: قد وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، والمغيرة هُوَ ابْن مقسم، بِكَسْر الْمِيم، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة، وَهَذَا الحَدِيث أخرجه هُنَا مُخْتَصرا، وَقد أخرجه فِي الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الدَّوَابّ، مطولا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (أتبيعنيه؟) بنُون الْوِقَايَة، ويروى: (أتبيعه؟) .

6832 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حدَّثنا عبْدُ الوَاحِد حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ تَذَاكَرْنا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ حدَّثني الأسْوَدُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرَى

(12/225)


طَعَاماً مِنْ يَهُودِيٍّ إلاى أجَلٍ ورَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ الشِّرَاء بِالدّينِ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الطَّعَام إِلَى أجل، واليهودي اسْمه: أَبُو الشَّحْم، وَالْمرَاد من السّلم: السّلف، لَا السّلم المصطلح، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.

2 - (بابُ مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أوْ إتْلافَهَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من أَخذ شَيْئا من أَمْوَال النَّاس بطرِيق الْقَرْض، أَو بِوَجْه من وُجُوه الْمُعَامَلَات، حَال كَونه يُرِيد أَدَاء هَذِه الْأَمْوَال، أَو حَال كَونه يُرِيد إتلافها، يَعْنِي: قَصده مُجَرّد الْأَخْذ، وَلَا ينظر إِلَى الْأَدَاء وَجَوَاب: من، مَحْذُوف حذفه اكْتِفَاء بِمَا فِي نفس الحَدِيث، لَكِن تَقْدِيره: من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أداءها أدّى الله عَنهُ، يَعْنِي: يسر لَهُ مَا يُؤَدِّيه من فَضله لحسن نِيَّته، وَمن أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد إتلافها على صَاحبهَا أتْلفه الله، يَعْنِي: يذهبه من يَده فَلَا ينْتَفع بِهِ لسوء نِيَّته، وَيبقى عَلَيْهِ الدّين، ويعاقب بِهِ يَوْم الْقِيَامَة. وروى الْحَاكِم مصححاً من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت تدان، فَقيل لَهَا: مَا لَك وَالدّين وَلَيْسَ عنْدك قَضَاء؟ قَالَت: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (مَا من عبد كَانَت لَهُ نِيَّة فِي أَدَاء دينه إلاَّ كَانَ لَهُ من الله عز وَجل عون، فَأَنا ألتمس ذَلِك العون) . وَعَن أبي أُمَامَة يرفعهُ: (من تداين وَفِي نَفسه وفاؤه، ثمَّ مَاتَ، تجَاوز الله عَنهُ وأرضى غَرِيمه بِمَا شَاءَ، وَمن تداين بدين وَلَيْسَ فِي نَفسه وفاؤه، ثمَّ مَاتَ، اقْتصّ الله لغريمه مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة) . وَعَن مُحَمَّد بن جحش: صَحِيح الْإِسْنَاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (سُبْحَانَ الله! مَا أنزل الله من التَّشْدِيد، فَسئلَ عَن ذَلِك التَّشْدِيد، قَالَ: الدّين، وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو قتل رجل فِي سَبِيل الله ثمَّ عَاشَ، وَعَلِيهِ دين مَا دخل الْجنَّة) ، وَعَن ثَوْبَان على شَرطهمَا مَرْفُوعا (من مَاتَ وَهُوَ بَرِيء من ثَلَاث: الْكبر والغلول وَالدّين، دخل الْجنَّة) .

7832 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله الأُوَيْسِيُّ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ عنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدَ عنْ أبِي الْغَيْثِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى الله عنهُ ومَنْ أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ الله.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا سبكت مِنْهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عَمْرو بن أويس، بِضَم الْهمزَة: ونسبته إِلَيْهِ. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب الْقرشِي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: ثَوْر، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن زيد أخي عَمْرو الديلِي، بِكَسْر الدَّال، وَهُوَ غير ثَوْر بن يزِيد، بِلَفْظ الْفِعْل، فَإِنَّهُ شَامي كلاعي. الرَّابِع: أَبُو الْغَيْث، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة: مولى أبي عبد الله بن الْمُطِيع. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَرُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن يَعْقُوب بن حميد عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن ثَوْر بِبَعْضِه: (من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد إتلافها أتْلفه الله) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أداءها) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: ردهَا إِلَى الْمقْرض. قلت: تَخْصِيص الْمقْرض لَيْسَ بِشَيْء، بل مَعْنَاهُ: أدّى أَمْوَال النَّاس الَّتِي أَخذهَا، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الْأَمْوَال من جِهَة الْقَرْض أَو من جِهَة مُعَاملَة من وُجُوه الْمُعَامَلَات. قَوْله: (أدّى الله عَنهُ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَدَّاهَا الله عَنهُ) ، وروى ابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث مَيْمُونَة: (مَا من مُسلم يدان دينا يعلم الله أَنه يُرِيد أداءه إلاَّ أَدَّاهُ الله عَنهُ فِي الدُّنْيَا) . قَوْله: (أتْلفه الله) أَي: فِي معاشه أَو فِي نَفسه، وَقيل: المُرَاد بِالْإِتْلَافِ: عَذَاب الْآخِرَة، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ آنِفا بِغَيْر هَذَا الْوَجْه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الثَّوَاب قد يكون من جنس الْحَسَنَة، وَأَن الْعقُوبَة قد تكون من جنس الذَّنب، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(12/226)


قد جعل مَكَان أَدَاء الْإِنْسَان أَدَاء الله عَنهُ، وَمَكَان إِتْلَافه إِتْلَاف الله لَهُ. وَفِيه: الحض على ترك إستئكال أَمْوَال النَّاس، وَالتَّرْغِيب فِي حسن التأدية إِلَيْهِم عِنْد المداينة، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي تَحْسِين النِّيَّة، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ. وَفِيه: أَن من اشْترى شَيْئا بدين وَتصرف فِيهِ وَأظْهر أَنه قَادر على الْوَفَاء، ثمَّ تبين الْأَمر بِخِلَافِهِ، أَن البيع لَا يرد بل ينْتَظر بِهِ حُلُول الْأَجَل لاقتصاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الدُّعَاء، وَلم يلْزمه برد البيع. قيل: وَفِيه التَّرْغِيب فِي الدّين لمن يَنْوِي الْوَفَاء، وروى ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَليّ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه كَانَ يستدين، فَسئلَ، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الله مَعَ الدَّائِن حَتَّى يقْضِي دينه، وَإِسْنَاده حسن. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَفِيه: أَن من عَلَيْهِ دين لَا يعْتق وَلَا يتَصَدَّق، وَإِن فعل رد. قلت: الحَدِيث لَا يدل عَلَيْهِ بِوَجْه من وُجُوه الدلالات.

3 - (بابُ أدَاءِ الدُّيُونِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب أَدَاء الدُّيُون. قَوْله: (الدُّيُون) ، بِلَفْظ الْجمع هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب أَدَاء الدّين، بِالْإِفْرَادِ.
وَقَالَ الله تعَالى: {إنَّ الله يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلاى أهْلِها وإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْلِ إنَّ الله نَعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ الله كانَ سَمِيعَاً بَصِيراً} (النِّسَاء: 85) .
سَاق الْأصيلِيّ وَغَيره الْآيَة كلهَا، وَأَبُو ذَر اقْتصر على قَوْله: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأَكْثَرهم على أَنَّهَا نزلت فِي شَأْن عُثْمَان بن طَلْحَة الحَجبي الْعَبدَرِي، سَادِن الْكَعْبَة حِين أَخذ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِفْتَاح الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح، ذكره إِبْنِ سعد وَغَيره، وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب وَزيد ابْن أسلم وَشهر بن حَوْشَب: إِنَّهَا نزلت فِي الإمراء، يَعْنِي الْحُكَّام بَين النَّاس. وَفِي الحَدِيث: إِن الله تَعَالَى مَعَ الْحَاكِم مَا لم يَجُرْ، فَإِذا جَاءَ وَكله الله إِلَى نَفسه. وَقيل: نزلت فِي السُّلْطَان يعظ النِّسَاء. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء 85) . قَالَ: يدْخل فِيهِ وعظ السُّلْطَان النِّسَاء يَوْم الْعِيد، وَقَالَ شُرَيْح، رَحمَه الله لأحد الْخَصْمَيْنِ: أعْط حَقه، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . قَالَ شُرَيْح: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} (الْبَقَرَة: 082) . إِنَّمَا هَذَا فِي الرِّبَا خَاصَّة، وربط الْمديَان إِلَى سَارِيَة. وَمذهب الْفُقَهَاء: إِن الْآيَة عَامَّة فِي الرِّبَا وَغَيره، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة عَامَّة، قَالُوا هَذَا يعم جَمِيع الْأَمَانَات الْوَاجِبَة على الْإِنْسَان من حُقُوق الله، عز وَجل، على عباده من الصَّلَوَات والزكوات وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور وَالصِّيَام وَغير ذَلِك، فَهُوَ مؤتمن عَلَيْهِ، وَلَا يطلع عَلَيْهِ الْعباد، وَمن حُقُوق الْعباد بَعضهم على بعض: كالودائع وَغَيرهَا، مِمَّا يأتمنون فِيهِ بَعضهم على بعض، فَأمر الله تَعَالَى بأدائها، فَمن لم يفعل ذَلِك فِي الدُّنْيَا أَخذ مِنْهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة، كَمَا ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لتؤدن الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا حَتَّى يقتض للشاة الْجَمَّاء من القرناء، ثمَّ إِن البُخَارِيّ أَدخل الدّين فِي الْأَمَانَة لثُبُوت الْأَمر بِأَدَائِهِ، لِأَن الْأَمَانَة فسرت فِي الْآيَة بالأوامر والنواهي، فَيدْخل فِيهَا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالذِّمةِ وَمَا لَا يتَعَلَّق. قَوْله: {أَن تحكموا بِالْعَدْلِ} (النِّسَاء: 85) . أَي: بِأَن تحكموا بِالْعَدْلِ. قَوْله: {إِن الله نعمَّا يعظكم بِهِ} (النِّسَاء: 85) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: نعما يعظكم بِهِ، إِمَّا أَن تكون مَنْصُوبَة مَوْصُوفَة: بيعظكم بِهِ، وَإِمَّا أَن تكون مَرْفُوعَة مَوْصُولَة، كَأَنَّهُ قيل: نعم شَيْئا يعظكم بِهِ، أَو: نعم الشَّيْء الَّذِي يعظكم بِهِ، والمخصوص بالمدح مَحْذُوف أَي: نعم مَا يعظكم بِهِ ذَاك، وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ من أَدَاء الْأَمَانَات وَالْعدْل فِي الحكم، وقرىء: نعما، بِفَتْح النُّون. قَوْله: {إِن الله كَانَ سميعاً بَصيرًا} (النِّسَاء: 85) . هما من أَوْصَاف الذَّات، والسمع إِدْرَاك المسموعات حَال وحدوثها، وَقيل: إنَّهُمَا فِي حَقه تَعَالَى صفتان تكشف بهما المسموعات والمبصرات انكشافاً تَاما، وَلَا يحْتَاج فيهمَا إِلَى آلَة لِأَن صِفَاته مُخَالفَة لصفات المخلوقين بِالذَّاتِ. فَافْهَم.

(12/227)


8832 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدَّثنا أبُو شِهَابٍ عنِ الأعْمَشِ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمَّا أبْصَرَ يَعْنِي أُحُداً قَالَ مَا أُحِبُ أنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَباً يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينارٌ فَوقَ ثَلاثً إلاَّ دِيناراً أرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ثُمَّ قل إنَّ الأكْثَرِينَ هُمُ الأقَلُّونَ إلاَّ مَنْ قالَ بالْمَالِ هاكذَا وهاكَذَا وأشارَ أبُو شِهَابً بيْنَ يَدَيْهِ وعنْ يَمِينِهِ وعنْ شِمَالِهِ وقَلِيلٌ مَّا هُمْ وقالَ مَكَانَكَ وتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَسَمِعْتُ صَوْتاً فأرَدْتُ أنْ آتِيَهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ مَكانَكَ حَتَّى آتِيكَ فَلَمَّا جاءَ قُلْتُ يَا رسولَ الله الذِي سَمِعْتُ أَو قالَ الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ قَالَ وهَلْ سَمِعْتَ قلْتُ نَعَمْ قَالَ أتَانِي جبريلُ عليهِ السَّلامُ فَقَالَ مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّه شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وإنْ فَعَلَ كَذا وكَذا قَالَ نَعَمْ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَا يدل على الاهتمام بأَدَاء الدّين، وَهُوَ قَوْله: إلاَّ دِينَارا أرصده لدين، وَفِيه مَا يدل على شدَّة أَمر الدّين، والمديون إِذا نوى أداءه يرزقه الله تَعَالَى مَا يُؤَدِّيه مِنْهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يوسن، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: أَبُو شهَاب، واسْمه: عبد ربه الحناط، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون الْمَشْهُور: بِالْأَصْغَرِ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ. الْخَامِس: أَبُو ذَر، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة فِي الْأَشْهر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسم جده، وَأَنه وَالْأَعْمَش وَزيد بن وهب كوفيون، وَأَن أَبَا شهَاب مدائني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: راو مَذْكُور بكنيته وَآخر بلقبه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن عمر بن حَفْص، وَفِي الرفاق عَن حسن بن الرّبيع، وَفِيه عَن قُتَيْبَة، وَفِي بَدْء الْخلق عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَمُحَمّد بن عبد الله وَأبي بكر وَأبي كريب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَبدة بن عبد الرَّحِيم، وَعَن بشر بن خَالِد وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وَعَن عمرَان بن بطال، وَعَن أبي قدامَة عَن معَاذ بن هِشَام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّه) أَي: أَن أُحُداً. قَوْله: (تحوَّل) بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق على وزن: تفعل، فِي رِوَايَة أبي ذَر، هَكَذَا وَفِي رِوَايَة غَيره، بِضَم التَّاء آخر الْحُرُوف على صِيغَة الْمَجْهُول، من بَاب التفعيل. وَمعنى تحول: صَار، فيستدعي إسماً مَرْفُوعا وخبراً مَنْصُوبًا، فالإسم هُوَ الضَّمِير فِي تحول الَّذِي يرجع إِلَى أحدا. وَالْخَبَر هُوَ قَوْله: (ذَهَبا) . قَوْله: (يمْكث) ، فعل وفاعله هُوَ قَوْله: (دِينَار) أَي: دِينَار وَاحِد، وَهُوَ جملَة فِي مَحل النصب، لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (ذَهَبا) . قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الذَّهَب. قَوْله: (فَوق ثَلَاث) ، أَي: فَوق ثَلَاث لَيَال، وَهِي ظرف، وَالْعَامِل فِيهِ يمْكث. قَوْله: (إلاَّ دِينَارا) ، مُسْتَثْنى مِمَّا قبله. قَوْله: (أرصده) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله دِينَارا، وأرصده، بِضَم الْهمزَة، من الإرصاد يُقَال: أرصدته أَي: هيأته وأعددته، وَحكى ابْن التِّين أَنه روى أرصده، بِفَتْح الْهمزَة من قَوْلك: رصدته، أَي: رقبته. وَقَالَ ابْن قرقول: قَوْله: (إلاَّ دِينَارا أرصده) أَي: أعده، بِضَم الْهمزَة وَفتحهَا ثلاثي ورباعي، يُقَال: أرصدته ورصدته أرصده بِالْخَيرِ وَالشَّر: أعددته لَهُ. وَقيل: رصدته ترقبته، وأرصدته أعددته. قَالَ الله تَعَالَى: {وأرصاداً لمن حَارب الله} (التَّوْبَة: 701) . وَقَالَ تَعَالَى: {شهاباً رصداً} (الْجِنّ: 9) . وَمِنْه: من يرصد لي عير قُرَيْش، والرصد الطّلب. قَوْله: (إِن الْأَكْثَرين هم الأقلون) أَي: أَن الْأَكْثَرين مَالا هُوَ الأقلون ثَوابًا. قَوْله: (إِلَّا من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا) ، مَعْنَاهُ: إلاَّ من صرف المَال على النَّاس يَمِينا وَشمَالًا، وأماماً. وَقَالَ هُنَا: لَيْسَ من القَوْل، بِمَعْنى الْكَلَام، بل مَعْنَاهُ: صرف أَو فرق أَو أعْطى، وَنَحْو

(12/228)


ذَلِك، لِأَن الْعَرَب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال وتطلقه على غير الْكَلَام، وَاللِّسَان، فَتَقول: قَالَ بِيَدِهِ، أَي: أَخذه، وَقَالَ بِرجلِهِ أَي: مَشى، وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة)

أَي: أَوْمَأت. وَقَالَ بِالْمَاءِ على يَده، أَي: قلب، وَقَالَ بِثَوْبِهِ أَي: رَفعه، وكل ذَلِك على الْمجَاز والاتساع، كَمَا روى فِي حَدِيث السَّهْو قَالَ: مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: صدق. رُوِيَ أَنهم أومأوا برؤوسهم. أَي: نعم، وَلم يتكلموا. وَيُقَال: قَالَ، بِمَعْنى: أقبل، وَبِمَعْنى: مَال واستراح وَضرب وَغلب، وَغير ذَلِك. قَوْله: (وَأَشَارَ أَبُو شهَاب) ، هُوَ عبد ربه الرَّاوِي الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث. قَوْله: (وَقَلِيل ماهم) ، جملَة إسمية لِأَن قَوْله: هم، مُبْتَدأ وَقَوله: قَلِيل، مقدما خَبره، وَكلمَة: مَا، زَائِدَة أَو صفة. قَوْله: (مَكَانك) ، بِالنّصب أَي: إلزم مَكَانك. قَوْله: (الَّذِي سَمِعت) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره مَا هُوَ الَّذِي سَمِعت؟ قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي أَي: مَا هُوَ الصَّوْت الَّذِي سَمِعت؟ قَوْله: (هَل سَمِعت) ، اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (وَإِن فعل كَذَا وَكَذَا) ، أَي: وَإِن زنى وسرق وَنَحْوهمَا، وَالرِّوَايَة الَّتِي فِي الرقَاق تفسر هَذَا، وَهِي قَوْله: وَإِن زنى وسرق، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وَمن فعل كَذَا وَكَذَا، عوض؛ وَإِن، الشّرطِيَّة.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: الاهتمام بِأَمْر الدّين وتهيئته لأدائه، وَصرف المَال إِلَى وُجُوه القربان عِنْد الْقُدْرَة عَلَيْهِ، وَالْخَوْف من استغراق الدّين لِأَن الْمَدْيُون إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف، والاحتراز من المطل عِنْد الْقُدْرَة لِأَنَّهُ فِي معنى الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَة، وَقد جَاءَ فِي: خِيَانَة الْأَمَانَة من الْوَعيد، مَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق من حَدِيث ذاذان عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: إِن الْقَتْل فِي سَبِيل الله يكفر كل ذَنْب إلاَّ الدّين وَالْأَمَانَة. قَالَ: وَأعظم ذَلِك الْأَمَانَة تكون عِنْد الرجل فيخونها، فَيُقَال لَهُ يَوْم الْقِيَامَة: أدِّ أمانتك، فَيَقُول: من أَيْن وَقد ذهبت الدُّنْيَا؟ فَيُقَال: نَحن نريكها، فيمثل لَهُ فِي قَعْر جَهَنَّم، فَيُقَال لَهُ: إنزل فأخرجها، فَينزل فيحملها على عُنُقه حَتَّى إِذا كَاد، زلت فهوت وَهوى فِي إثْرهَا أبدا. وَفِيه: مَا يدل على فضل أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

9832 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ شَبِيبِ بنِ سَعِيدٍ حدَّثنا أبي عنْ يُونُسَ قَالَ ابنُ شِهابٍ حدَّثني عُبَيدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ قَالَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ كانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا يَسُرُّنِي أنْ لاَ يَمُرَّ عَليَّ ثَلاَثٌ وعِنْدِي منْهُ شَيْءٌ إلاَّ شيْءٌ أرْصِدُهُ لِدَيْنٍ.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق. وَأحمد بن شبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الحبطي الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبوهُ سعيد بن الحبطي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى الحبطات، من بني تَمِيم، وَهُوَ الْحَارِث بن عَمْرو، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق. قَوْله: (ذَهَبا) ، نصب على التَّمْيِيز، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا} (الْكَهْف: 901) . وَقَالَ ابْن مَالك: وُقُوع التَّمْيِيز بعد: مثل، قَلِيل. قَوْله: (مَا يسرني) ، جَوَاب: لَو، وَقَالَ ابْن مَالك: الأَصْل فِي وُقُوع جَوَاب: لَو، أَن يكون مَاضِيا مثبتاً، وَهنا وَقع مضارعاً منفياً، بِمَا، فَكَأَنَّهُ أوقع الْمُضَارع مَوضِع الْمَاشِي، أَو كَأَن الأَصْل: مَا كَانَ يسرني، فَحذف: كَانَ، وَهُوَ جَوَاب: لَو، وَفِيه ضمير، وَهُوَ اسْمه. وَقَوله: ويسرني خَبره. قَوْله: (أَن لَا يمر) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: مَا يسرني. قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء. لِأَن كلمة: عَليّ، دخلت على يَاء الْمُتَكَلّم. قَوْله: (ثَلَاث) أَي: ثَلَاث لَيَال، وارتفاعه على أَنه فَاعل: يمر. قَوْله: (وَعِنْدِي) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الذَّهَب. قَوْله: (شَيْء) ، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ مقدما خَبره، هُوَ قَوْله: مِنْهُ. قَوْله: (إلاَّ شَيْء) ، ارْتِفَاع: شَيْء، على أَنه بدل من: شَيْء، الأول. قَوْله: (أرصده) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لشَيْء، وَوَقع للأصيلي وكريمة: مَا يسرني أَن لَا يمْكث وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْء، وَكلمَة: لَا، زَائِدَة، قَالَه بَعضهم. قلت: إِذا كَانَت كلمة: مَا، فِي: مَا يسرني، نَافِيَة فَنعم، وَأما إِذا كَانَت مَوْصُولَة فَلَا.
رَوَاهُ صالِحٌ وعُقَيلٌ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: روى صَالح بن كيسَان وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن أبي هُرَيْرَة فِي معنى حَدِيث أبي ذَر.

(12/229)


4 - (بابُ اسْتِقْرَاضِ الإبِلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز استقراض الْإِبِل، وَهَذِه التَّرْجَمَة على مَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز استقراض الْحَيَوَان، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد أَيْضا. وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْحسن ابْن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز استقراض الْحَيَوَان، وَاحْتج المجوزون بِحَدِيث الْبَاب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْوكَالَة.

0932 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ أخبرنَا سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا سلَمَةَ بِبَيْتِنَا يُحَدِّثُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رجُلاً تَقَاضَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ أصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الْحَقِّ مقَالاً واشْتَرُوا لَهُ بَعِيراً فأعْطُوهُ إيَّاهُ وَقَالُوا لاَ نَجِدُ إلاَّ أفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ قَالَ اشْتَرُوهُ فأعْطُوهُ إيَّاهُ فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ دفع الْحَيَوَان عوض الْحَيَوَان. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث لَا يدل على أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، افْترض من الرجل سنا، وَلم يبين فِي هَذَا بِصُورَة الْقَرْض صَرِيحًا حَتَّى يُقَال: إِنَّه يدل على جَوَاز استقراض الْحَيَوَان، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: كَانَ لرجل على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حق فَأَغْلَظ لَهُ الحَدِيث، وَالْحق أَعم من الْقَرْض؛ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: كَانَ لرجل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دين فتقاضاه ... الحَدِيث، وَالدّين يَشْمَل الْقَرْض وَغَيره. قلت: صرح فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اسْتقْرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنا فَأعْطَاهُ سنا خيرا من سنه، وَجَاء فِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث أبي رَافع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسلف من رجل بكرا ... الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ لرجل على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سنّ من الْإِبِل ... الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَدلَّ أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اقْترض بَعِيرًا ثمَّ أعْطى عوضه بَعِيرًا أحسن مِنْهُ، فَدلَّ على جَوَاز الاستقراض فِي الْحَيَوَان، وَقد أجَاب المانعون من استقراض الْحَيَوَان بِمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى فِي: وكَالَة الشَّاهِد وَالْغَائِب جَائِزَة، ذكره فِي الْوكَالَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن سَلمَة عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ رجل ... الحَدِيث، وَهنا أخرجه: عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (بَينا يحدث) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن: بَينا، وبينما، ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة يضافان إِلَى جملَة، وَرَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة مقروءة: سَمِعت أَبَا سَلمَة بمنى يحدث، وعَلى هامشها: سَمِعت أَبَا سَلمَة ببيتنا يحدث، وَلم ألتزم صِحَة هذَيْن، وَالله أعلم. قَوْله: (تقاضى) ، أَي: طلب قَضَاء الدّين من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأَغْلَظ لَهُ) ، يحْتَمل إغلاظه فِي طلب حَقه وتشدده فِيهِ، لَا فِي كَلَام مؤذ يسمعهُ إِيَّاه، فَإِن ذَلِك كفر مِمَّن فعله مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد يكون الْقَائِل بِهَذَا غير مُسلم من الْيَهُود، كَمَا جَاءَ مُفَسرًا مِنْهُم فِي غير هَذَا الحَدِيث، لَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: أَنه كَانَ أَعْرَابِيًا فَكَأَنَّهُ جرى على عَادَته من جفائه وغلظه فِي الطّلب. قَوْله: (فهم بِهِ أَصْحَابه) ، أَي: عزموا أَن يوقعوا بِهِ فعلا. قَوْله: (دَعوه) أَي: اتركوه، وَهُوَ أَمر من: يدع. قَوْله: (اشْتَروا لَهُ بَعِيرًا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: التمسوا لَهُ مثل سنّ بعيره. قَوْله: (من سنه) ، السن هِيَ الْمَعْرُوفَة، ثمَّ سمى بهَا صَاحبهَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث مُسلم عَن أبي رَافع أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استسلف من رجل بكرا فَقدمت عَلَيْهِ إبل من إبل الصَّدَقَة، فَأمر أَبَا رَافع أَن يقْضِي الرجل بكره، فَرجع إِلَيْهِ أَبُو رَافع فَقَالَ: لم أجد فِيهَا إلاَّ جملا خيارا رباعياً. فَقَالَ: أعْطه إِيَّاه، إِن خِيَار النَّاس أحْسنهم قَضَاء. انْتهى. فَكيف الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: أَمر بِالشِّرَاءِ أَولا، ثمَّ قدمت إبل الصَّدَقَة فَأعْطَاهُ مِنْهَا، أَو أمره بِالشِّرَاءِ من إبل الصَّدَقَة مِمَّن اسْتحق مِنْهَا شَيْئا، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: استسلف من رجل بكرا، فَقَالَ: إِذا جَاءَت إبل الصَّدَقَة قضيناك. قَوْله: (فَإِن خَيركُمْ) أَي: أخيركم، فالخير وَالشَّر يستعملان للتفضيل على لَفْظهمَا، بِمَعْنى الأخْيَر والأشرّ، وَالله أعلم.

(12/230)


5 - (بابُ حُسْنِ التَّقَاضِي)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب حسن التقاضي، أَي: حسن الْمُطَالبَة.

1932 - حدَّثنا مُسْلِمٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ ماتَ رَجُلٌ فَقيلَ لَهُ قَالَ كُنْتُ أبايِعُ النَّاسَ فأتَجَوَّزُ عَنِ الْمُوسِرِ وأُخَفِّفُ عنِ الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ لَهُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كنت أبايع النَّاس) إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن حسن التقاضي، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ القصاب، وَعبد الْملك هُوَ ابْن عُمَيْر الْقرشِي الْكُوفِي، ورِبْعِي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن جراش، مر فِي: بَاب إِثْم من كذب على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب من أنظر مُعسرا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن مَنْصُور أَن ربعي بن حِرَاش حَدثهُ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (فَقيل لَهُ) : قَالَ: فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَقيل لَهُ مَا كنت تصنع؟ قَالَ: كنت ... وَوَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فَقيل لَهُ: مَا كنت تَقول؟
قَالَ أبُو مَسْعُودٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو مَسْعُود البدري اسْمه عقبَة بن عَمْرو. قَوْله: (سمعته) ، أَي: سَمِعت هَذَا الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قيل: هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَكِن صورته صُورَة التَّعْلِيق. وَأخرجه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن حجر وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَاللَّفْظ لِابْنِ حجر، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن الْمُغيرَة عَن نعيم بن أبي هِنْد عَن ربعي بن حِرَاش، قَالَ: اجْتمع حُذَيْفَة وَأَبُو مَسْعُود، قَالَ حُذَيْفَة: لَقِي رجل ربه، فَقَالَ: مَا عملت؟ قَالَ: مَا عملت من الْخَيْر إلاَّ أَنِّي كنت رجلا ذَا مَال، قَالَ: فَكنت أطالب بِهِ النَّاس، فَكنت أقبل الميسور وأتجاوز عَن المعسور، قَالَ: تجاوزوا عَن عَبدِي. قَالَ أَبُو مَسْعُود: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول.

6 - (بابٌ هَلْ يُعْطى أكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُعْطي الْمُسْتَقْرض للمقرض أكبر من السن الَّذِي اقترضه؟ وَجَوَاب هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: نعم يُعْطي.

2932 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى اعنْ سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني سلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَقَاضَاهُ بَعيراً فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطُوهُ فَقَالُوا مَا نَجِدُ إلاَّ سِنَّاً مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أوْفَيْتَنِي أوْفَاكَ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطُوهُ فإنَّ مِنْ خِيارِ النَّاسِ أحْسَنُهُمْ قَضَاءً. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقد مضى الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا بِبَاب. قَوْله: (أوفيتني) ، أَي: أَعْطَيْت حَقي وافياً كَامِلا، وَالْفرق بَين أوفاك الله، وأوفى بك الله، أَن الأول: الْإِكْمَال، وَالثَّانِي: بِمَعْنى: ضد الْغدر، يُقَال: وفى بعهده وأوفى.

7 - (بابُ حُسْنِ الْقَضَاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب حسن الْقَضَاء، أَي: قَضَاء الدّين، أَي: أَدَائِهِ.

(12/231)


3932 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفيانُ عنْ سَلَمَة عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانِ لِرَجُلٍ علَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِنٌّ مِنَ الإبِلِ فَجاءَهُ يَتَقاضاهُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطُوهُ فَطَلبوا سِنَّهُ فلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلاَّ سِنّاً فوْقَهَا فَقَالَ أعْطُوهُ فَقَالَ أوْفَيْتَنِي وفَى الله بِكَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خِيَارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (فَوْقهَا) أَي: أغْلى مِنْهَا ثمنا من حَيْثُ الْحسن وَالسّن. قَوْله: (إِن خياركم) وَفِي رِوَايَة أبي الْوَلِيد الَّتِي مَضَت: فَإِن خَيركُمْ أحسنكم قَضَاء، وَفِي رِوَايَة تَأتي فِي الْهِبَة: فَإِن من خَيركُمْ وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك: أفضلكم أحسنكم قَضَاء.

4932 - حدَّثنا خَلاَّدٌ قَالَ حدَّثنا مِسْعَرٌ قَالَ حدَّثنا مُحارِبُ بنُ دِثار عنْ جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ قَالَ ضُحىً فَقَالَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وكانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وزَادني. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فقضاني وَزَادَنِي) لِأَن الْقَضَاء مَعَ زِيَادَة هُوَ حسن الْقَضَاء، وخلاد، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: ابْن يحيى بن صَفْوَان أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَفِي بعض النّسخ مَذْكُور بِأَبِيهِ، ومسعر، بِكَسْر الْمِيم: ابْن كدام، ومحارب، بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء: ابْن دثار، بِكَسْر الدَّال وبالثاء الْمُثَلَّثَة، مر فِي: الصَّلَاة إِذا قدم من سفر، والْحَدِيث بِعَيْنِه وبعين الْإِسْنَاد الْمَذْكُور قد مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة إِذا قدم من سفر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.

8 - (بابٌ إذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أوْ حَلَّلَهُ فَهْوَ جائِزٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قضى الْمَدْيُون دون حق صَاحب الدّين أَو حلله فَهُوَ جَائِز، وَقَالَ ابْن بطال: وَقع فِي التَّرْجَمَة فِي النّسخ كلهَا بِكَلِمَة: أَو، وَالصَّوَاب الْوَاو، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقْضِي دون حَقه، وَتسقط مُطَالبَته بِالْبَاقِي إلاَّ أَن يحلل مِنْهُ، وَلَا خلاف فِيهِ أَنه لَو حلله من جَمِيع الدّين وأبرأه مِنْهُ جَازَ ذَلِك، فَكَذَلِك إِذا حلله من بعضه.

5932 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يونسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني ابنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ جابِرَ بنَ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبَرَهُ أنَّ أباهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهيداً وعلَيْهِ دَيْنٌ فاشْتَدَّ الغُرَماءُ فِي حُقُوقِهِمْ فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُمْ أنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حائِطِي ويُحَلِّلُوا أبي فأبَوْا فلَمْ يُعْطِهِم النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حائِطي وَقَالَ سَنَغْدُو علَيْكَ فَغدَا عَلَيْنا حينَ أصْبَحَ فَطافَ فِي النَّخْلِ ودعا فِي ثَمَرِها بالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُها فَقَضَيْتُهُمْ وبَقِيَ لَنا مِنْ ثَمَرِهَا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَسَأَلَهُمْ أَن يقبلُوا تمر حائطي ويحللوا أبي) بَيَان ذَلِك أَن تمر حَائِط جَابر كَانَ أقل من دين أَبِيه، فَسَأَلَهُمْ أَن يقْضِي دون حَقهم ويحللوا أَبَاهُ، فَلَمَّا أَبَوا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَبِيحَة غَد ذَلِك الْيَوْم، وَشَاهد النّخل ودعا فِي ثَمَرهَا بِالْبركَةِ، فجده جَابر وَقضى دينهم، وَبَقِي من ذَلِك الثَّمر شَيْء ببركة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ، وَهُوَ عبد الله بن عُثْمَان، وعبدان لقبه. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: ابْن كَعْب بن مَالك، وَاخْتلف فِيهِ. فَذكر أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَخلف الوَاسِطِيّ فِي (الْأَطْرَاف) ، والطرقي: أَنه عبد الرَّحْمَن، وتبعهم

(12/232)


الْحميدِي فِي ذَلِك، وَذكر الْحَافِظ الْمزي: أَنه عبد الله، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَلم يسْتَدلّ على ذَلِك، وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) فِي ذَلِك. قلت: بل اسْتدلَّ بِأَن وهباً روى الحَدِيث عَن يُونُس بِسَنَد الْبَاب، فَسَماهُ عبد الله، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ. السَّادِس: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِي مَوضِع بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان وَأَن يُونُس أيلي وَابْن كَعْب مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
قَوْله: (فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاء) ، يَعْنِي: فِي الطّلب. قَوْله: (ويحللوا أبي) ، يَعْنِي: يجعلونه فِي حل ويبرؤنه عَن الدّين. قَوْله: (فَأَبَوا) ، أَي: امْتَنعُوا عَن أَخذ ثَمَر الْحَائِط، لِأَنَّهُ كَانَ أقل من الدّين. قَوْله: (فجددتها) ، من الجداد، بالمهملتين، وَهُوَ صرام النّخل، وَهُوَ قطع تمرتها، يُقَال: جد التمرة يجدهَا جدا. قَوْله: (من ثَمَرهَا) أَي: من ثَمَر النّخل.
وَفِيه من الْفَوَائِد: تَأْخِير الْغَرِيم إِلَى الْغَد وَنَحْوه بالعذر، كَمَا أخر جَابر غرماءه رَجَاء بركَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ وعده أَن يمشي مَعَه، فحقق الله رَجَاءَهُ وَظَهَرت بركته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَثَبت مَا هُوَ من أَعْلَام نبوته. وَفِيه: مشي الإِمَام فِي حوائج النَّاس لأجل استشفاعه فِي الدُّيُون.

9 - (بابٌ إِذا قاصَّ أوْ جازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْراً بِتَمْرٍ أوْ غَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا قاصَّ، بتَشْديد الصَّاد، من: المقاصصة. وَهِي أَن يقاص كل وَاحِد من الْإِثْنَيْنِ أَو أَكثر صَاحبه فِيمَا هم فِيهِ من الْأَمر الَّذِي بَينهم، وَهَهُنَا المقاصصة فِي الدّين. قَوْله: (أَو جازفه) من المجازفة، وَهِي الحدس بِلَا كيل وَلَا وزن. قَوْله: (فِي الدّين) ، يرجع إِلَى كل وَاحِد من قَوْله: قاص، وَقَوله: أَو جازفه، وَالضَّمِير فِي: قاص، يرجع إِلَى الْمَدْيُون بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: جازفه، يرجع إِلَيْهِ. وَأما الضَّمِير الْمَنْصُوب فَيرجع إِلَى صَاحب الدّين. قَوْله: (تَمرا بِتَمْر أَو غَيره) ، أَي: سَوَاء كَانَت المقاصصة أَو المجازفة تَمرا بِتَمْر أَو غير التَّمْر، نَحْو: قَمح بقمح أَو شعير بشعير، وَنَحْو ذَلِك، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز. .

6932 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنْ هِشَامٍ عنْ وَهْبِ بنِ كَيْسانَ عنْ جابِر بنِ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ أخبرهُ أنَّ أبَاهُ تُوُفِّيَ وتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاثِينَ وسْقاً لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ فاستْتَنْظَرَهُ جابرٌ فَأبى أَن يُنْظِرَهُ فَكَلَّمَ جابِرٌ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَشْفَعَ لَهُ إلَيْهِ فَجاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِياخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِي لَهُ فَأبى فدَخلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّخْلَ فَمَشَى فِيها ثُمَّ قَالَ لِجابِرٍ جُدَّ لَهُ فأوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ فَجَدَّهُ بَعْدَما رَجعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأوفاهُ ثَلاثِينَ وسْقاً وفَضَلتْ لَهُ سَبْعةَ عَشرَ وسْقاً فجاءَ جابِرٌ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُخْبِرَهُ بالَّذِي كانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي العَصْرَ فلَمَّا انْصَرَفَ أخْبَرَهُ بالْفَضْلِ فَقَالَ أخْبِرْ ذلِكَ ابنَ الخَطَّابِ فذَهَبَ جابِرٌ إِلَى عُمَرَ فأخبرَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقدْ عَلِمْتُ حينَ مَشَى فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. .

قَالَ الْمُهلب: لَا يجوز عِنْد أحد من الْعلمَاء أَن يَأْخُذ من لَهُ دين تمر من غَرِيمه تَمرا مجازفة بدين، لما فِيهِ من الْجَهْل وَالْغرر، وَإِنَّمَا يجوز أَن يَأْخُذ مجازف فِي حَقه أقل من دينه إِذا علم الْآخِذ ذَلِك وَرَضي. انْتهى. قلت: غَرَضه من ذَلِك إِظْهَار عدم صِحَة هَذِه التَّرْجَمَة. وَأجِيب: عَن هَذَا بِأَن مَقْصُود البُخَارِيّ أَن الْوَفَاء يجوز فِيهِ مَا لَا يجوز فِي الْمُعَاوَضَات، فَإِن: مُعَاوضَة الرطب بِالتَّمْرِ لَا يجوز إلاَّ فِي الْعَرَايَا، وَقد جوزه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوَفَاء الْمَحْض.
وَأنس هُوَ ابْن عِيَاض، يكنى أَبَا ضَمرَة من أهل الْمَدِينَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، ووهب بن كيسَان أَبُو نعيم مولى عبد الله بن الزبير بن الْعَوام الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصُّلْح عَن بنْدَار،

(12/233)


وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْوَصَايَا عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي (الْأَحْكَام) عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وسْقا) ، الوسق، بِفَتْح الْوَاو: سِتُّونَ صَاعا. قَوْله: (فَأبى أَن ينظره) ، أَي: امْتنع عَن إنظاهر، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (ثَمَر نخله) ، يرْوى بالمثلثثة وبالمثناة، قَالَه الْكرْمَانِي. قَوْله: (جد لَهُ) ، بِضَم الْجِيم أَمر من: جد يجد، وَقد مر عَن قريب. قَوْله: (سَبْعَة عشر) ويروى: تِسْعَة عشر. قَوْله: (بِالَّذِي كَانَ) أَي: من الْبركَة وَالْفضل على الدّين. قَوْله: (ابْن الْخطاب) أَي: عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفَائِدَة الْإِخْبَار لَهُ زِيَادَة الْإِيمَان، لِأَنَّهُ كَانَ معْجزَة، إِذْ لم يكن يَفِي أَولا، وَزَاد آخرا، وتخصيصه عمر بذلك لِأَنَّهُ كَانَ معتنياً بقضية جَابر مهتماً بهَا، أَو كَانَ حَاضرا فِي أول الْقَضِيَّة دَاخِلا فِيهَا. قَوْله: (ليباركن) بِصِيغَة الْمَجْهُول مؤكداً بالنُّون الثَّقِيلَة. قَوْله: (فِيهَا) أَي: فِي الثَّمر، وَهُوَ جمع: ثَمَرَة.

01 - (بابُ منِ اسْتَعاذَ مِنَ الدَّيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من استعاذ بِاللَّه من ارْتِكَاب الدَّين، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الِاسْتِعَاذَة من الدّين. .

7932 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبُ عنِ الزُّهْرِيِّ ح وحدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخي عنْ سُلَيْمانَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي عَتيقٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخْبَرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ ويقولُ اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الْمَاثَمُ والْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قائلٌ مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رسولَ الله مِنَ الْمَغْرَمِ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا غرِمَ حدَّثَ فَكَذَبَ ووَعَدَ فأخْلَفَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن المغرم هُوَ الدّين. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ عبد الحميد أَبُو بكر وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ. وَالرِّجَال كلهم مدنيون. والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الدُّعَاء قبل السَّلَام. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. . إِلَى آخِره. قَوْله: (من المأثم) ، مصدر ميمي بِمَعْنى: الْإِثْم، وَكَذَلِكَ (المغرم) بِمَعْنى الغرامة، وَهِي: لُزُوم الْأَدَاء. وَأما الْغَرِيم فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الدّين. قَوْله: (ووعد) يَعْنِي بالوافاء غَدا أَو بعد غَد، مثلا والوعد، وَإِن كَانَ نوعا من التحديث، وَلَكِن التحديث يخْتَص بالماضي، والوعد بالمستقبل.
قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: وجوب قطع الذرائع، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا استعاذ من الدّين لِأَن ذَرِيعَة إِلَى الْكَذِب وَالْخلف فِي الْوَعْد مَعَ مَا فِيهِ من الذلة، وَمَا لصَاحب الدّين عَلَيْهِ من الْمقَال.