عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 42 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى:
{ويَسْألُونَكَ عنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاَحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ وإنْ تخالِطُوهُم فاخْوَانكُمْ وَالله يَعْلَمُ
المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ ولَوْ شاءَ الله لأعْنَتَكُمْ
إنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الْبَقَرَة: 022) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {ويسألونك}
(الْبَقَرَة: 022) . وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا سُفْيَان
بن وَكِيع حَدثنَا جرير عَن عَطاء ابْن السَّائِب عَن سعيد
بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما نزلت: {لَا
تقربُوا مَال الْيَتِيم إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أحسن وَإِن
الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما ... }
(النِّسَاء: 01) . الْآيَة، انْطلق من كَانَ عِنْده يَتِيم
يعْزل طعامة من طَعَامه وَشَرَابه من شرابه، فَجعل يفضل
لَهُ الشَّيْء من طَعَامه فَيحْبس لَهُ حَتَّى يَأْكُلهُ
أَو يفْسد، فَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِم، فَذكرُوا ذَلِك
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأنْزل الله:
{ويسألونك عَن الْيَتَامَى؟ قل: إصْلَاح لَهُم خير وَإِن
تخالطوهم فإخوانكم} (الْبَقَرَة: 022) . فخلطوا طعامهم
بطعامهم وشرابهم بشرابهم، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه
وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من طرق عَن عَطاء بن
السَّائِب بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن
ابْن عَبَّاس، وَكَذَا رَوَاهُ السّديّ عَن أبي مَالك
وَعَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مرّة عَن ابْن
مَسْعُود بِمثلِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ غير وَاحِد فِي سَبَب
نزُول هَذِه الْآيَة، كمجاهد وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَابْن
أبي ليلى وَقَتَادَة وَغير وَاحِد من السّلف وَالْخلف.
قَوْله: {قل إصْلَاح لَهُم خير} (الْبَقَرَة: 022) . أَي:
على حِدة: {وَإِن تخالطوهم فإخوانكم} (الْبَقَرَة: 022) .
أَي: وَإِن خلطتم طَعَامكُمْ بطعامهم وشرابكم بشرابهم
فَلَا بَأْس عَلَيْكُم، لأَنهم إخْوَانكُمْ فِي الدّين،
وَلِهَذَا قَالَ: {وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح}
(الْبَقَرَة: 022) . أَي: يعلم من قَصده وَنِيَّته
الْإِفْسَاد أَو الْإِصْلَاح. وَيُقَال: وَإِن تخالطوهم
أَي: فِي الطَّعَام وَالشرَاب وَالسُّكْنَى واستخدام
العبيد فإخوانكم. وَقَالُوا لرَسُول الله: بقيت الْغنم لَا
راعي لَهَا، وَالطَّعَام لَيْسَ لَهُ صانع، فَنزلت، وَنسخ
ذَلِك. قَوْله: {وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم} (الْبَقَرَة:
022) . أَي: لَو شَاءَ لضيق عَلَيْكُم وأحرجكم، وَلكنه وسع
عَلَيْكُم وخفف عَنْكُم وأباح لكم مخالطتهم بِالَّتِي هِيَ
أحسن، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وعَلى هَذَا
اجْتِمَاع الرّفْقَة فِي السّفر على خلط المَال، ثمَّ
اتِّخَاذ الْأَطْعِمَة بِهِ، وَتَنَاول الْكل مِنْهَا مَعَ
وهم التَّفَاوُت، فَرخص لَهُم اسْتِدْلَالا بِهَذِهِ
الْآيَة.
لأعْنَتَكُمْ لأحْرَجَكُمْ وضَيَّقَ علَيْكُمْ. وعَنَتْ
خَضَعَتْ
هَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن الْمُنْذر من
طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَزَاد بعد قَوْله:
ضيق عَلَيْكُم، وَلكنه وسع وَيسر. قَوْله: (لأعنتكم) من
الإعنات، واشتقاقه من: الْعَنَت، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَالنُّون وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق
والهمزة فِيهِ للتعدية أَي: لأوقعكم فِي الْعَنَت، وَهُوَ:
الْمَشَقَّة، وَيَجِيء بِمَعْنى الْفساد والهلاك
وَالْإِثْم والغلط وَالْخَطَأ وَالزِّنَا، كل ذَلِك قد
جَاءَ، وَيسْتَعْمل كل وَاحِد بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ
الْكَلَام. قَوْله: (وعنت: خضعت) ، لَيْسَ لَهُ دخل هُنَا،
لِأَن التَّاء فِيهِ للتأنيث، ومذكره
(14/64)
عَنَّا، إِذا خضع، وكل من ذل وخضع واستكان
فقد عَنَّا يعنو، وَهُوَ عانٍ، وَالْمَرْأَة عانية،
وَجَمعهَا: عوان، وَكَأَنَّهُ ظن أَن التَّاء فِي عنت
أَصْلِيَّة، فَلذَلِك ذكره هُنَا عقيب. قَوْله: (لأعنتكم)
، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن التَّاء فِي: لأعنتكم،
أَصْلِيَّة، وَقيل: لَعَلَّه ذكره اسْتِطْرَادًا، وَلَا
يَخْلُو عَن تعسف.
7672 - وَقَالَ لَنا سُلَيْمَانُ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ
أيُّوبَ عنْ نافِعٍ قَالَ مَا رَدَّ ابنُ عُمَرَ عَلِيِّ
على أحَدٍ وصِيَّةً.
سُلَيْمَان هُوَ ابْن حَرْب أَبُو أَيُّوب الواشجي قَاضِي
مَكَّة، وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ، قَالَ
الْكرْمَانِي: وَإِنَّمَا قَالَ بِلَفْظ: قَالَ، لِأَنَّهُ
لم يذكرهُ على سَبِيل النَّقْل والتحميل، وَقَالَ بَعضهم:
هُوَ مَوْصُول، وَجَرت عَادَته الْإِتْيَان بِهَذِهِ
الصِّيغَة فِي الْمَوْقُوفَات غَالِبا، وَفِي المتابعات
نَادرا، وَلم يصب من قَالَ: إِنَّه لَا يَأْتِي بهَا إلاَّ
فِي المذاكرة، وَأبْعد من قَالَ: إِنَّهَا للإجازة.
انْتهى. قلت: كَيفَ يَقُول: هُوَ مَوْصُول وَلَيْسَ فِيهِ
لفظ من الْأَلْفَاظ الَّتِي تدل على الِاتِّصَال؟ نَحْو:
التحديث والإخبار وَالسَّمَاع والعنعنة؟ وَالَّذِي قَالَه
الْكرْمَانِي هُوَ الْأَظْهر. قَوْله: (مَا ردَّ ابْن عمر
على أحد وَصِيَّة) يَعْنِي: أَنه كَانَ يقبل وَصِيَّة من
يُوصي إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: كَأَنَّهُ كَانَ
يَبْتَغِي الْأجر بذلك، لحَدِيث: (أَنا وكافل الْيَتِيم
كهاتين) الحَدِيث.
وكانَ ابنُ سِيرينَ أحَبَّ الأشْياءِ إلَيْهِ فِي مالِ
الْيَتِيمِ أنْ يَجْتَمِعَ إلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ
وأوْلِيَاؤُهُ فَيَنْظُرُوا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد. قَوْله: (أحب الْأَشْيَاء) ،
بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (أَن
يجْتَمع) ، و: كَانَ، بِمَعْنى: وجد، قَوْله: (أَن يجْتَمع
إِلَيْهِ) ، ويروى أَن يخرج إِلَيْهِ. قَوْله: (نصحاؤه) ،
بِضَم النُّون: جمع نصيح بِمَعْنى نَاصح. قَوْله:
(فينظروا، ويروى: فَيَنْظُرُونَ، على الأَصْل.
وكانَ طَاوُوسٌ إذَا سُئِلَ عنْ شَيْءٍ مِنْ أمْرِ
اليَتَامَى قَرَأ {وَالله يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ
المُصْلِحِ} (الْبَقَرَة: 022) .
طَاوُوس بن كيسَان الْيَمَانِيّ، وَهَذَا وَصله سُفْيَان
بن عُيَيْنَة فِي (تَفْسِيره) عَن هِشَام بن حُجَيْر، بحاء
مُهْملَة ثمَّ جِيم مصغر، عَن طَاوُوس أَنه كَانَ، إِذا
سُئِلَ عَن مَال الْيَتِيم يقْرَأ: {ويسألونك عَن
الْيَتَامَى قل إصْلَاح لم خير، وَالله يعلم الْمُفْسد من
المصلح} (الْبَقَرَة: 022) .
وَقَالَ عَطاءٌ فِي يَتَامَى الصَّغِيرُ والْكَبِيرُ
يُنْفِقُ الوَلِيُّ علَى كُلِّ إنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ
حِصَّتِهِ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا وَصله ابْن أبي شيبَة
من رِوَايَة عبد الْملك بن سُلَيْمَان، عَنهُ أَنه سُئِلَ
عَن الرجل يَلِي أَمْوَال أَيْتَام وَفِيهِمْ الصَّغِير
وَالْكَبِير، وَمَا لَهُم جَمِيع لم يقسم. قَالَ: ينْفق
على كل إِنْسَان مِنْهُم من مَاله على قدره، وَهَذَا
يُفَسر مَا ذكره من قَول عَطاء. قَوْله: (فِي يتامى) ،
وَفِي بعض النّسخ: فِي الْيَتَامَى، قَوْله: (الصَّغِير
وَالْكَبِير) أَي: الوضيع والشريف مِنْهُم. قَوْله:
(بِقَدرِهِ) ، أَي: بِقدر الْإِنْسَان، أَي: اللَّائِق
حَاله، ويروى: بِقدر حِصَّته.
52 - (بابُ اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِي السَّفَرِ
والحَضَرِ إذَا كانَ صَلاَحاً لَهُ ونَظَرِ الأمِّ أوْ
زَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِخْدَام الْيَتِيم.
قَوْله: (إِذا كَانَ صلاحاً لَهُ) أَي: إِذا كَانَ خيرا
ونفعاً للْيَتِيم فِي السّفر، قيل: هَذَا قيد للسَّفر،
لِأَن السّفر مشقة وَقطعَة من الْعَذَاب، وَرُبمَا
يتَضَرَّر الْيَتِيم فِيهِ، وَالظَّاهِر أَن هَذَا قيد
للحضر وَالسّفر جَمِيعًا، لِأَن الْيَتِيم مَحل
الرَّحْمَة، وَفِي خدمَة النَّاس مَا لَا يصلح للكبير فضلا
عَن الْيَتِيم. قَوْله: (وَنظر الْأُم) بِالْجَرِّ عطفا
على قَوْله: (اسْتِخْدَام الْيَتِيم) وَقَالَ ابْن
التِّين: أَكثر أَصْحَاب مَالك على أَن الْأُم وَغَيرهَا
لَهُم التَّصَرُّف فِي مصَالح من هم فِي كفالتهم، ويعقدون
لَهُ وَعَلِيهِ وَإِن لم يَكُونُوا أوصياء، وَيكون حكمهم
حكم الأوصياء، وَقيل: حَتَّى يكون بَينه وَبَين الطِّفْل
قرَابَة، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يفعل ذَلِك إلاَّ
إِن يكون وَصِيّا، وَوَافَقَهُمْ ابْن الْقَاسِم فِي
اللَّقِيط. قَوْله: (أَو زَوجهَا) أَي: أَو نظر زوج
الْأُم، يَعْنِي: لَهُ النّظر فِي ربيبه إِذا كَانَ
عِنْده.
(14/65)
8672 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ
بنِ كَثيرٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَلِيَّةَ قَالَ حدَّثنا
عبْدُ العَزِيزِ عنْ أنْسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
قَالَ قَدِمَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
المَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فأخذَ أبُو طَلْحَةَ
بِيَدِي فانْطَلَقَ بِي إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله إنَّ أنَساً غُلاَمٌ كَيِّسٌ
فَلْيَخْدُمْكَ قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ
والحَضَرِ مَا قَالَ لي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ
هذَا هكَذَا ولاَ لِشَيْءٍ لَمْ أصْنَعْهُ لِمَ لَمْ
تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا.
مطابقته لجَمِيع أَجزَاء التَّرْجَمَة ظَاهِرَة. أما
الْجُزْء الأول: وَهُوَ قَوْله: (فِي السّفر والحضر) فَفِي
قَوْله: (فخدمته فِي السّفر والحضر) . وَأما الْجُزْء
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: وَنظر الْأُم. فَلَا شكّ أَن
أَبَا طَلْحَة مَا ودى أنسا إِلَى النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بمشاورة أمه. وَأما الْجُزْء
الثَّالِث: وَهُوَ قَوْله: أَو زَوجهَا، فَفِي قَوْله:
(فَأخذ أَبُو طَلْحَة بيَدي) إِلَى آخِره، وَيَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم بن كثير ضد الْقَلِيل الدَّوْرَقِي، مر فِي
الْإِيمَان، وَابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم،
وَأمه علية مولاة لبني أَسد، وَقد تكَرر ذكره، وَعبد
الْعَزِيز هُوَ ابْن صُهَيْب أَبُو حَمْزَة. وَقَالَ
بَعضهم: والإسناد كُله بصريون. قلت: شهرة شَيْخه بالدورقي،
وَهُوَ شيخ الْجَمَاعَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن
عَمْرو بن زُرَارَة. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَزُهَيْر
بن حَرْب.
قَوْله: (أَبُو طَلْحَة) ، هُوَ زوج أم سليم، وَالِدَة
أنس، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (غُلَام)
، قَالَ أنس: فخدمته وَأَنا ابْن عشرَة، وَتُوفِّي وَأَنا
ابْن عشْرين، وَمَات أنس سنة ثَلَاث وَتِسْعين أَو
اثْنَتَيْنِ، وَقد زَاد على الْمِائَة وَهُوَ آخر من مَاتَ
بِالْبَصْرَةِ من الصَّحَابَة، وَكَانَ فِي كبره ضعف عَن
الصَّوْم، وَكَانَ يفْطر وَيطْعم. قَوْله: (كيس) ، بِفَتْح
الْكَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة
وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَهُوَ ضد الأحمق وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الْكيس الْعَاقِل، وَقد كاس يكيس كيساً،
والكَيْس: الْعقل.
وَفِيه: السّفر باليتيم إِذا كَانَ ذَلِك من الصّلاح.
وَفِيه: الثَّنَاء على الْمَرْء بِحَضْرَتِهِ إِذا أَمن
عَلَيْهِ الْفِتْنَة. وَفِيه: جَوَاز اسْتِخْدَام الْحر
الصَّغِير الَّذِي لَا يجوز أمره. وَفِيه: أَن خدمَة
الإِمَام والعالم وَاجِبَة على الْمُسلمين. وَأَن ذَلِك
شرف لمن خدمهم لما يُرْجَى من بركَة ذَلِك.
62 - (بابٌ إذَا وقَفَ أرْضاً ولَمْ يُبَيِّنِ الحُدُودِ
فَهْوَ جائِزٌ وكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وقف شخص أَرضًا،
وَالْحَال أَنه لم يبين حُدُود تِلْكَ الأَرْض فَهُوَ
جَائِز، وَهَذَا غير مُطلق بل المُرَاد مِنْهُ أَن الأَرْض
إِذا كَانَت مَشْهُورَة لَا يحْتَاج إِلَى ذكر حُدُودهَا،
وإلاَّ فَلَا بُد من التَّحْدِيد لِئَلَّا يلتبس بحدود
الْغَيْر فَيحصل الضَّرَر. قَوْله: (وَكَذَلِكَ
الصَّدَقَة) ، أَي: وَكَذَلِكَ الْوَقْف بِلَفْظ
الصَّدَقَة بِأَن جعل أرْضهَا صَدَقَة لله تَعَالَى، وتعظم
كَمَا جعل أَبُو طَلْحَة حَائِطه صَدَقَة لله تَعَالَى،
وَلم يذكر شَيْئا غير ذَلِك.
9672 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله ابنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ
سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ
كانَ أَبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ أنْصَارِيٍّ بالمَدِينَةِ
مَالا مِنْ نَخْلٍ وكانَ أحَبُّ مالِهِ إلَيْهُ بِيرُحَاءَ
مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ وكانَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُها ويَشْرَبُ مِنْ ماءٍ فِيهَا
طيِّبٍ قَالَ أنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قامَ أَبُو
طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رسولَ الله أنَّ الله يَقُولُ لَنْ
تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
وإنَّ أحَبَّ أمْوَالِي إلَيَّ بَيرُحَاءَ وإنَّها
صَدَقَةٌ لله أرْجُو بِرَّهَا وذُخْرَها عِنْدَ الله
فَضَعْها حَيْثُ أرَاكَ الله فقَال بَخْ ذَلِكَ مالٌ
رابِحٌ أوْ رايِحٌ شَكَّ ابنُ مسْلَمَةَ وقَدْ سَمِعْتُ
مَا قُلْتَ وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَها فِي الأقْرَبِينَ
قَالَ أبُو طَلْحَةَ أفْعَلُ ذَلِكَ يَا رسولَ الله
فقَسَمَها أبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وَفِي بَنِي
عَمِّهِ.
.
(14/66)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة ظَاهِرَة، ومطابقته للجزء الأول من
التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن لفظ الْوَقْف وَلَفظ
الصَّدَقَة فِي الْمَعْنى متقاربان، حكمهمَا وَاحِد.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الزَّكَاة
على الْأَقَارِب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (أَكثر
أَنْصَارِي) ، رِوَايَة الْكشميهني، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
إِذا أُرِيد التَّفْضِيل أضيف إِلَى الْمُفْرد النكرَة،
أَي: أَكثر كل وَاحِد وَاحِد من الْأَنْصَار، وَفِي
رِوَايَة غَيره أَكثر الْأَنْصَار. قَوْله: (مَالا) ، نصب
على التَّمْيِيز، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: من نخل،
للْبَيَان، وَتقدم الْكَلَام فِي تَفْسِير: بيرحاء،
بِوُجُوه. قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يدخلهَا) وَزَاد فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز: ويستظل
فِيهَا. قَوْله: (شكّ ابْن مسلمة) ، هُوَ القعْنبِي شيخ
البُخَارِيّ، وراوي الحَدِيث عَن مَالك، وَالشَّكّ فِيهِ
بَين الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف.
قَوْله: (أفعل) ، على صِيغَة الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع،
وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى أبي طَلْحَة. قَوْله: (فِي
أَقَاربه) ، وهم أبي بن كَعْب وَحسان بن ثَابت وَأَخُوهُ
وَابْن أَخِيه شَدَّاد بن أَوْس ونبيط بن جَابر، فتقاوموه،
فَبَاعَ حسان حِصَّته من مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان
بِمِائَة ألف دِرْهَم، وَقد مر فِيمَا مضى.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ وعَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ ويَحْيَى
بنُ يَحْيَى عنْ مالِكٍ رايِحٌ
هَؤُلَاءِ الروَاة عَن مَالك، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي
أويس، وَعبد الله بن يُوسُف التينسي أَصله من دمشق، وَيحيى
بن يحيى بن بكير أَبُو زَكَرِيَّاء التَّمِيمِي
الْحَنْظَلِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي عمْرَة
الْحُدَيْبِيَة يَعْنِي: روى هَؤُلَاءِ الحَدِيث
الْمَذْكُور بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور عَن مَالك،
بِلَفْظ: رَايِح، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف.
0772 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ
أخبرَنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ قَالَ زَكَرِيَّاءُ بنُ
إسْحَاقَ قَالَ حدَّثني عَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ
عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما
أنَّ رَجلاً قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ أيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْتُ
عنْها قَالَ نَعَمْ قَالَ فإنَّ لِي مِخْرَافاً
وأُشْهِدُكَ أنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ عَنْها.
(انْظُر الحَدِيث 6572 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق،
وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى الَّذِي يُقَال
لَهُ: صَاعِقَة، وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ. وأفراده،
وروح بِفَتْح الرَّاء، وَعبادَة، بِضَم الْعين. والْحَدِيث
قد مر فِي: بَاب إِذا قَالَ أرضي أَو بستاني صَدَقَة،
وَفِي: بَاب الْإِشْهَاد فِي الْوَقْف.
72 - (بابٌ إذَا أوْقَفَ جَماعَةٌ أرْضاً مُشاعاً فَهْوَ
جائِزٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وقف جمَاعَة أَرضًا
مُشْتَركَة مشَاعا فَهُوَ جَائِز. قيل: احْتَرز بقوله:
جمَاعَة، عَمَّا إِذا وقف وَاحِد مشَاعا فَإِن مَالِكًا
لَا يُجِيزهُ لِئَلَّا يدْخل الضَّرَر على شَرِيكه، ورد
عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَن وقف الْمشَاع جَائِز
مُطلقًا، وَقد سبق بَيَان الْخلاف فِيهِ فِي: بَاب إِذا
تصدق، أَو وقف، بعض مَاله فَهُوَ جَائِز.
1772 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوارِثِ
عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
قَالَ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبِنَاءِ
المَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثامِنُونِي
بِحَائِطِكُم هَذَا قَالُوا لاَ وَالله لاَ نَطْلُبُ
ثَمَنَهُ إلاَّ إِلَى الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ظَاهره أَنهم تصدقوا
بحائطهم لله عز وَجل، فقبلها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْهُم، وَهَذَا وقف الْمشَاع من جمَاعَة. فَإِن
قلت: ذكر الْوَاقِدِيّ أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ دفع ثمن الأَرْض لمَالِكهَا مِنْهُم، وَقدره عشرَة
دَنَانِير، فَصَارَ ملكا لأبي بكر وَتصدق بِهِ أَبُو بكر،
فَلَا يكون وقف مشَاع. قلت: قَالَ بَعضهم: فَإِن ثَبت
ذَلِك كَانَت الْحجَّة للتَّرْجَمَة من جِهَة تَقْرِير
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَلم يُنكر
قَوْلهم ذَلِك، فَلَو كَانَ وقف الْمشَاع لَا يجوز لأنكر
عَلَيْهِم، وَفِيه نظر لِأَن معنى قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (ثامنوني بحائطكم) ، قرِّروا ثمنه معي
وبيعونيه بِالثّمن، فَهَذَا يكون بيعا عِنْد دفع الثّمن،
وَقد دَفعه أَبُو بكر، فَصَارَ بَينه وَبينهمْ
(14/67)
بيع الثّمن الَّذِي دَفعه إِلَيْهِم ثمَّ
إِن الظَّاهِر أَن أَبَا بكر هُوَ الَّذِي تصدق بِهِ إِلَى
الله تَعَالَى، وَلَيْسَ فِيهِ صُورَة وقف مشَاع، وَعبد
الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد وَأَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف،
وَفِي آخِره حاء مُهْملَة واسْمه يزِيد بن حميد الضبيعي،
وَرِجَال الحَدِيث كلهم بصريون، وَقد مضى بِهَذَا
الْإِسْنَاد مطولا فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب
هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ قَوْله: (لَا
نطلب ثمنه إلاَّ إِلَى الله) أَي: لَا نطلب ثمنه من أحد،
لكنه مَصْرُوف إِلَى الله، فالاستثناء مُنْقَطع أَو
مَعْنَاهُ: لَا نطلب ثمنه مصروفاً، إلاَّ إِلَى الله،
فالاستثناء مُتَّصِل.
82 - (بابُ الوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْوَقْف كَيفَ يكْتب، فعلى
هَذَا التَّقْدِير الْوَقْف مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ
مَقْطُوع عَمَّا قبله، وَخَبره قَوْله: كَيفَ يكْتب،
وَيجوز بِإِضَافَة لفظ الْبَاب إِلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يكون
لفظ الْوَقْف مجروراً بِالْإِضَافَة.
2772 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ
زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنُ نافِعٍ عنِ ابنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أصابَ عُمَرَ
بِخَيْبَرَ أرْضاً فَأتى النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ أصَبْتُ أرْضاً لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أنْفَسَ
مِنْهُ فَكَيْفَ تأمُرُنِي بِهِ قَالَ إنْ شِئْتَ حبَّسْتَ
أصْلَهَا وتَصَدَّقْتَ بِهَا فتَصَدَّقَ عُمَرُ أنَّهُ لاَ
يُباعُ أصْلُها ولاَ يُوهَبُ ولاَ يُورَثُ فِي الفُقَرَاءِ
والْقُرْبَى والرِّقَابِ وفِي سَبِيلِ الله والضَّيْفِ
وابنِ السَّبِيلِ لاَ جُنَاحَ على منْ ولِيهَا أنْ يأكُلَ
مِنْها بالمَعْرُوفِ أوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً غَيْرَ
مُتَمَوِّلٍ فيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (إِن شِئْت حبست
أَصْلهَا) إِلَى آخر الحَدِيث، وَيُؤْخَذ من هَذِه
الْأَلْفَاظ شُرُوط، وَهِي تكْتب كلهَا فِي كتاب الْوَقْف،
وَقد كتب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتاب وَقفه،
كتبه معيقيب، وَكَانَ كَاتبه، وَشهد عبد الله بن الأرقم،
وَكَانَ هَذَا فِي زمن خِلَافَته، لِأَن معيقيباً كَانَ
يكْتب لَهُ فِي خِلَافَته، وَقد وَصفه بأمير الْمُؤمنِينَ،
وَكَانَ وَقفه فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على مَا يشْهد لَهُ حَدِيث الْبَاب، وَقد روى أَبُو
دَاوُد: حَدثنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد الْمهرِي قَالَ:
أخبرنَا ابْن وهب قَالَ: أَخْبرنِي اللَّيْث عَن يحيى بن
سعيد عَن صَدَقَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: نسخهَا لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) هَذَا مَا كتب
عبد الله بن عمر فِي ثمغ، فَقص من خَبره نَحْو حَدِيث
نَافِع قَالَ: غير متأثل مَالا، فَمَا عفى عَنهُ من ثمره
فَهُوَ للسَّائِل والمحروم، وسَاق الْقِصَّة، قَالَ: فَإِن
شَاءَ: ولي ثمغ اشْترِي من ثمره رَقِيقا يعمله، وَكتب
معيقيب: وَشهد عبد الله بن الأرقم.
وَابْن عون فِي السَّنَد هُوَ عبد الله ابْن عون، وَقد
تقدم فِي آخر الشُّرُوط: عَن ابْن عون أنبأني نَافِع،
والإنباء بِمَعْنى الْإِخْبَار عِنْد الْمُتَقَدِّمين،
جزما، وَوَقع عِنْد الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر: عَن ابْن
عون أَخْبرنِي نَافِع. قَوْله: (عَن ابْن عمر قَالَ: أصَاب
عمر) ، كَذَا لأكْثر الروَاة عَن نَافِع، ثمَّ عَن ابْن
عون جَعَلُوهُ من مُسْند ابْن عمر. لَكِن أخرجه مُسلم
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ،
كِلَاهُمَا عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عمر، جَعَلُوهُ من
مُسْند عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْمَشْهُور
الأول.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْوَقْف فِي آخر
كتاب الشُّرُوط، وَمضى أَيْضا فِي: بَاب قَول الله
تَعَالَى: {وابتلوا الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 6) . وَمضى
قِطْعَة مِنْهُ فِي: بَاب إِذا وقف شَيْئا فَلم يَدْفَعهُ
إِلَى غَيره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (أصَاب عمر بِخَيْبَر أَرضًا) هِيَ الَّتِي تدعى
(ثمغ) ، وَقد مر بَيَانه. قَوْله: (وَتصدق بهَا عمر) أَي:
تصدق بغلَّتها، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ بعد
قَوْله: وَلَا يُورث، من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن
نَافِع: (حبيس مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض) ،
وَهَذَا يدل على أَن التَّأْبِيد شَرط. قَوْله: (أَو يطعم)
، وَقد مر فِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة: أَن يُوكل بِضَم
الْيَاء.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من
طَرِيق مَالك عَن ابْن شهَاب، قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: (لَوْلَا أَنِّي ذكرت، صدقني لرَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لرددتها) . وَاسْتدلَّ
بِهِ لأبي حنيفَة وَزفر فِي أَن إيقاف الأَرْض لَا يمْنَع
من الرُّجُوع فِيهَا، وَأَن الَّذِي منع عمر من الرُّجُوع
كَونه ذكره للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فكره أَن
يُفَارِقهُ على أَمر ثمَّ يُخَالِفهُ إِلَى غَيره. وَقَالَ
بَعضهم: لَا حجَّة فِيمَا ذكره من وَجْهَيْن. أَحدهمَا:
أَنه مُنْقَطع لِأَن ابْن شهَاب لم يدْرك عمر، رَضِي
(14/68)
الله تَعَالَى عَنهُ. ثَانِيهمَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون
عمر كَانَ يرى بِصِحَّة الْوَقْف ولزومه، إلاَّ أَن شَرط
الْوَاقِف الرُّجُوع فَلهُ أَن يرجع، انْتهى. قلت:
الْجَواب عَن الأول: أَن الْمُنْقَطع فِي مثل رِوَايَة
الزُّهْرِيّ لَا يضر، لِأَن الِانْقِطَاع إِنَّمَا يمْنَع
لنُقْصَان فِي الرَّاوِي بِفَوَات شَرط من شَرَائِطه
الْمَذْكُورَة فِي موضعهَا، وَالزهْرِيّ إِمَام جليل
الْقدر لَا يتهم فِي رِوَايَته، وَقد روى عَنهُ مثل
الإِمَام مَالك، فِي هَذِه، وَلَوْلَا اعْتِمَاده عَلَيْهِ
لما رَوَاهُ عَنهُ. وَعَن الثَّانِي: بِأَن الِاحْتِمَال
الناشيء عَن غير دَلِيل لَا يُعمل بِهِ، وَلَا يلْتَفت
إِلَيْهِ. |