عمدة القاري شرح صحيح البخاري

661 - (بابٌ مَنْ رَأى العَدُوَّ فَنَادَى بِأعْلَى صَوْتِهِ يَا صَباحَاهْ حتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ)

(14/284)


أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من رأى الْعَدو قد أقبل فنادي بِأَعْلَى صَوته: يَا صَبَاحَاه، يَعْنِي: أغير عَلَيْكُم فِي الصَّباح، أَو قد أَصْبَحْتُم فَخُذُوا حذركُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ الْإِعْلَام بِهَذَا الْأَمر المهم الَّذِي دهمهم فِي الصَّباح، قيل: لأَنهم كَانُوا يغيرون وَقت الصَّباح، وَكَأَنَّهُ قيل: جَاءَت وَقت الصَّباح فتأهبوا للقاء، فَإِن الْأَعْدَاء يتراجعون عَن الْقِتَال فِي اللَّيْل، فَإِذا جَاءَ النَّهَار عاودوه، وَالْهَاء فِيهِ للندبة تسْقط فِي الْوَصْل، وَالرِّوَايَة إِثْبَاتهَا، فتقف على الْهَاء، وَهُوَ منادى مستغاث، وَالْألف فِيهِ للاستغاثة، وَقيل: الْهَاء فِيهِ للسكت، كَأَنَّهُ نَادَى النَّاس استغاثة بهم فِي وَقت الصَّباح، أَي: وَقت الْغَارة، وَالْحَاصِل أَنَّهَا كلمة يَقُولهَا المستغيث. قَوْله: حَتَّى يسمع، أَي: حَتَّى إِن يسمع، بِضَم الْيَاء من الإسماع و: النَّاس، بِالنّصب مَفْعُوله.

1403 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخْبَرنا يَزِيدُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ أنَّهُ أخْبَرَهُ قَالَ خَرَجْتُ مِنَ المَدِينَةِ ذَاهِبَاً نَحْوَ الغَابَةِ حتَّى إذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الغابَةِ لَقِيَنِي غُلامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ قُلْتُ ويْحَكَ مَا بِكَ قَالَ أُخِذَتْ لِقاحُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْتُ مَنْ أخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ وفَزَارَةُ فصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ أسْمعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا يَا صبَاحاهُ يَا صَباحاه ثُمَّ انْدَفَعْتُ حتَّى ألْقَاهُمْ وقَدْ أخَذُوها فجَعَلْتُ أرْمِيهِمْ وأقُولُ أَنا ابنُ الأكْوَعِ. واليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ فاسْتَنْقَذْتُها مِنْهُمْ قَبْلَ أنْ يَشْرَبُوا فأقْبَلْتُ بِهَا أسُوقُها فلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ يَا رسولَ الله إنَّ القَوْمَ عِطاش وإنِّي أعْجَلْتُهُمْ أنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ فابْعَثْ فِي إثْرِهِمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الأكْوَعِ ملَكْتَ فأسْجِعْ إنَّ القَوْمَ يُقُرَوْنَ فِي قَوْمِهِم.
(الحَدِيث 1403 طرفه فِي: 4914) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والمكي، بتَشْديد الْكَاف وَالْيَاء: ابْن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد البرجمي التَّمِيمِي الْحَنْظَلِي الْبَلْخِي، وَيزِيد بن أبي عبيد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع.
وَهَذَا الحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ الثَّانِي عشر. وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَهَذَا الحَدِيث بأتم من هَذَا يَأْتِي فِي غَزْوَة ذِي قرد، بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء وبالدال الْمُهْملَة، وَيُقَال: بِضَمَّتَيْنِ. وَقَالَ السُّهيْلي: كَذَا لَقيته مُقَيّدا عَن أبي عَليّ، والقرد فِي اللُّغَة الصُّوف الرَّدِيء، وَهُوَ على نَحْو يَوْم من الْمَدِينَة.
قَوْله: (ذَاهِبًا) حَال. قَوْله: (نَحْو الغابة) ، بالغين الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة، وَهِي على بريد من الْمَدِينَة فِي طَرِيق الشَّام، وَهِي فِي الأَصْل: الأجمة والثنية فِي الْجَبَل كالعقبة فِيهِ. قَوْله: (أخذت لقاح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، اللقَاح: بِكَسْر اللَّام: الْإِبِل والواحدة: لقوح، وَهِي: الحلوب. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَت لقاح سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشْرين لقحة ترعى بِالْغَابَةِ، وَكَانَ أَبُو ذَر فِيهَا. قَوْله: (غطفان وفزارة) ، بِفَتْح الْفَاء: وهما قبيلتان من الْعَرَب وَكَانَ رَأس الْقَوْم الَّذين أَغَارُوا عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ، وَكَانَ فِي خيل من غطفان. قَوْله: (مَا بَين لابتيها) أَي: لابتي الْمَدِينَة، واللابة: الْحرَّة، وَقد مر غير مرّة. قَوْله: (ثمَّ اندفعت) ، أَي: أسرعت فِي السّير. قَوْله: (أَنا ابْن الْأَكْوَع) : الْأَكْوَع لقب، واسْمه: سِنَان بن عبد الله. قَوْله: (يَوْم الرضع) ، بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة بعْدهَا عين مُهْملَة، قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ الَّذِي رضع اللؤم من ثدي أمه، أَي: غذى بِهِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي يرضع مَا بَين أَسْنَانه مستكثراً من الجشع بذلك، والجشع أَشد الْحِرْص. وَقَالَت امْرَأَة من الْعَرَب تذم رجلا: إِنَّه لأكلة يكله يَأْكُل من جشعه خلله. أَي: مَا يَتَخَلَّل بَين أَسْنَانه. وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ الَّذِي يرضع الشَّاة أَو النَّاقة قبل أَن يحلبها من شدَّة الشره، وَقَالَ قوم: الراضع الرَّاعِي لَا يمسك مَعَه محلباً، فَإِذا جَاءَهُ إِنْسَان فَسَأَلَهُ أَن يسْقِيه احْتج أَنه لَا محلب مَعَه، وَإِذا أَرَادَ هُوَ أَن يشرب رضع النَّاقة أَو الشَّاة. وَقيل: هُوَ رجل كَانَ يرضع الْغنم وَلَا يحلبها لِئَلَّا يسمع صَوت الْحَلب فيطلب مِنْهُ. وَفِي (الموعب) : رضع الرجل رضاعة مِثَال كرم وَهُوَ رَضِيع وراضع: لئيم، وَجمعه: راضعون. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أصل الحَدِيث أَن رجلا من العمالقة طرقه ضيف لَيْلًا فمص ضرع شَاة لِئَلَّا يسمع الضَّيْف صَوت الشخب، فَكثر حَتَّى صَار كل لئيم راضعاً، فعل ذَلِك أَو لم يفعل. وَقيل: هُوَ الَّذِي يرضع طرف الْخلال الَّتِي يخلل بهَا أَسْنَانه ويمص مَا يتَعَلَّق بِهِ، وَقَالَ السُّهيْلي: الْيَوْم يَوْم الرضع، برفعهما، وبنصب الأول وَرفع الثَّانِي: قلت: وَجه رفعهما على كَونهمَا مُبْتَدأ وَخبر، أَو وَجه

(14/285)


النصب على الظَّرْفِيَّة، وَيكون: يَوْم الرضع، مُبْتَدأ وَخَبره الظّرْف فِيمَا يتَعَلَّق قبله، تَقْدِيره: وَفِي هَذَا الْيَوْم يَوْم الرضع، يَعْنِي: يَوْم هَلَاك اللئام. قَوْله: (فاستنقذتها) أَي: استخلصتها مِنْهُم. قَوْله: (قبل أَن يشْربُوا) أَي: المَاء، بِدَلِيل قَوْله: إِن الْقَوْم عطاش. قَوْله: (فَأَقْبَلت بهَا) أَي: باللقاح. قَوْله: (أسوقها) أَي: حَال كوني أسوق اللقَاح الَّتِي أَخذهَا غطفان وفزارة. قَوْله: (فلقيني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَكَانَ ذَلِك عشَاء. وَمَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاس، وتوضيح ذَلِك: أَن عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ لما أغار على لقاح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خيل من غطفان أَرْبَعِينَ فَارِسًا، وَكَانَ ذَلِك لَيْلَة أربعاء، جَاءَ الصَّرِيخ فَنُوديَ: يَا خيل الله ارْكَبِي، وَكَانَ أول مَا نُودي بهَا، فَركب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج غَدَاة الْأَرْبَعَاء فِي الْحَدِيد مقنعا، فَوقف فَكَانَ أول من أقبل إِلَيْهِ الْمِقْدَاد بن عَمْرو، وَعَلِيهِ الدرْع والمغفر شاهراً سَيْفه، فعقد لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِوَاء فِي رمحه، وَقَالَ: إمضِ حَتَّى تلحقك الْخُيُول وَأَنا على إثرك، واستخلف على الْمَدِينَة ابْن أم مَكْتُوم، وَخلف سعد بن عبَادَة فِي ثَلَاثمِائَة من قومه يَحْرُسُونَ الْمَدِينَة، قَالَ الْمِقْدَاد: فأدركت أخريات الْعَدو وَقد قتل أَبُو قَتَادَة مسْعدَة، وَقتل عكاشة أبان بن عَمْرو، وَقتل الْمِقْدَاد حبيب بن عُيَيْنَة وفرقد بن مَالك بن حُذَيْفَة ابْن بدر، وَأدْركَ سَلمَة بن الْأَكْوَع الْقَوْم وَهُوَ على رجلَيْهِ، فَجعل يراميهم بِالنَّبلِ، وَيَقُول: خُذْهَا وَأَنا بن أكوع الْيَوْم يَوْم الرضع، حَتَّى انْتهى بهم إِلَى ذِي قرد، قَالَ سَلمَة: فلحقنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالنَّاس عشَاء وَهَذَا معنى قَوْله: (فلقيني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: يَا رَسُول الله إِن الْقَوْم عطاش) وَهُوَ جمع عطشان. قَوْله: (وَإِنِّي أعجلتهم قبل أَن يشْربُوا سقيهم) ، بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْقَاف، وَهُوَ: الْحَظ من الشّرْب، و: أَن يشْربُوا، مفعول لَهُ أَي: كَرَاهَة شربهم. قَوْله: (فَابْعَثْ فِي إثرهم) أَي: قَالَ سَلمَة: يَا رَسُول الله {إبعث فِي إثرهم، وَفِي رِوَايَة ابْن سعد قَالَ سَلمَة: فَلَو بعثتني فِي مائَة رجل استنقذت مَا بِأَيْدِيهِم من السَّرْح وَأخذت بأعناق الْقَوْم. فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا ابْن الْأَكْوَع ملكت) من المملكة وَهِي أَن يغلب عَلَيْهِم ويستعبدهم، وهم فِي الأَصْل أَحْرَار. قَوْله: (فاسجح) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْجِيم وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: من الإسجاح، وَهُوَ حسن الْعَفو، أَي: إرفق وَلَا تَأْخُذ بالشدة، وَهَذَا مثل من أَمْثَال الْعَرَب. قَوْله: (إِن الْقَوْم يقرونَ) أَي: يضافون، يَعْنِي: أَنهم وصلوا إِلَى غطفان وهم يضيفونهم ويساعدونهم فَلَا فَائِدَة فِي الْحَال فِي الْبَعْث لأَنهم لَحِقُوا بأصحابهم، ويقرون هُنَا من القري وَهُوَ الضِّيَافَة، فراعى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك لَهُم رَجَاء تَوْبَتهمْ وإنابتهم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يقرونَ، بِضَم الْيَاء وَالرَّاء، وَفَسرهُ بِأَنَّهُم: يجمعُونَ بَين المَاء وَاللَّبن، وَقيل: يغزون، بغين مُعْجمَة وزاي، وَهُوَ تَصْحِيف وَفِي كتاب (الدَّلَائِل) للبيهقي: إِنَّهُم ليغبقون الْآن فِي غطفان، فجَاء رجل من غطفان فَقَالَ: مرُّوا على فلَان الْغَطَفَانِي فَنحر لَهُم جزوراً، فَلَمَّا أخذُوا يكشطون جلدهَا رَأَوْا غيرَة فتركوها وَخَرجُوا هراباً. انْتهى.
وَتَمام الْقِصَّة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما لَقِي سَلمَة لم تزل الْخَيل تَأتي وَالرِّجَال على أَقْدَامهم حَتَّى انْتَهوا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي قرد، فاستنقذوا عشر لقائح، وأفلت الْقَوْم بِمَا بَقِي وَهِي عشر، وَصلى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي قرد صَلَاة الْخَوْف، وَأقَام بهَا يَوْمًا وَلَيْلَة. وَفِي (الإكليل) للْحَاكِم: بَاب غَزْوَة ذِي قرد، قَالَ أَبُو عبد الله: هَذِه الْغَزْوَة هِيَ الثَّالِثَة لذِي قرد، فَإِن الأولى: سَرِيَّة زيد بن حَارِثَة فِي جمادي الْآخِرَة على رَأس ثَمَانِيَة وَعشْرين شهرا من الْهِجْرَة. وَالثَّانيَِة: خرج فِيهَا سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ إِلَى فَزَارَة، وَهِي على رَأس تِسْعَة وَأَرْبَعين شهرا من الْهِجْرَة. وَهَذِه الثَّالِثَة: الَّتِي أغار فِيهَا عبد الرَّحْمَن بن عُيَيْنَة على إبل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج أَبُو قَتَادَة وَابْن الْأَكْوَع فِي طلبَهَا، وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فِي غَزْوَة ذِي قرد: إِنَّه كَانَ أول مَا بدر بهم سَلمَة بن عَمْرو بن الْأَكْوَع الْأَسْلَمِيّ غَدا يُرِيد الغابة متوشحاً قوسه ونبله وَمَعَهُ غُلَام لطلْحَة بن عبيد الله مَعَه فرس لَهُ، وَكَانَ يَقُودهُ، حَتَّى إِذا علا ثنية الْوَدَاع نظر إِلَى بعض خيولهم فَأَشْرَف فِي نَاحيَة سلع ثمَّ صرخَ: واصباحاه، ثمَّ خرج يشد فِي آثَار الْقَوْم، وَكَانَ مثل السَّبع حَتَّى لحق بالقوم، فَجعل يرميهم بِالنَّبلِ، وَيَقُول إِذا رَمَاهَا: خُذْهَا وَأَنا ابْن الْأَكْوَع الْيَوْم يَوْم الرضع. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَبلغ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صياح ابْن الْأَكْوَع، فَصَرَخَ بِالْمَدِينَةِ: الْفَزع الْفَزع، فترامت الْخُيُول إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ أول من انْتهى إِلَيْهِ من الفرسان الْمِقْدَاد بن الْأسود وَجَمَاعَة آخَرُونَ، ذكرهم ابْن إِسْحَاق قَالَ: وَسَار رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى نزل بِالْجَبَلِ من ذِي قرد، وتلاحق بِهِ النَّاس فَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَة. وَقَالَ لَهُ سَلمَة بن الْأَكْوَع: يَا رَسُول الله} لَو سرحتني فِي مائَة رجل

(14/286)


لاستنقذت بَقِيَّة السَّرْح وَأخذت بأعناق الْقَوْم، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْآن ليغبقون فِي غطفان، وَقسم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل مائَة رجل جزوراً، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ قَافِلًا حَتَّى قدم الْمَدِينَة. انْتهى. وَقيل: كَانَت غيبَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس لَيَال انْتهى.
وَفِي الحَدِيث: جَوَاز الْأَخْذ بالشدة، ولقاء الْوَاحِد أَكثر من المثلين، لِأَن سَلمَة كَانَ وَحده وَألقى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِنَفسِهِ إِلَى التَّهْلُكَة. وَفِيه: تَعْرِيف الْإِنْسَان بِنَفسِهِ فِي الْحَرْب بشجاعته وتقدمه. وَفِيه: فضل الرَّمْي، على مَا لَا يخفى.

761 - (بابُ مَنْ قالَ: خُذْهَا وَأَنا ابنُ فُلانٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر من قَالَ عِنْد ملاقاته الْعَدو وَهُوَ يَرْمِي: خُذْهَا، أَي: الرَّمية، وتنوه باسمه، بقوله: وَأَنا ابْن فلَان، وَقَالَ ابْن التِّين: وَهِي كلمة يَقُولهَا الرَّامِي عِنْدَمَا يُصِيب فَرحا، وَكَانَ ابْن عمر إِذا رمى فَأصَاب يَقُول: خُذْهَا وَأَنا أَبُو عبد الرَّحْمَن. وَرمى بَين الهدفين. وَقَالَ: أَنا بهَا، وَكَانَ رامياً يَرْمِي الطير على سَنَام الْبَعِير فَلَا يخْشَى أَن يُصِيب السنام، وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: أَنا ابْن العواتك.
وقالَ سلَمَةُ خُذْها وَأَنا ابنُ الأكْوَعِ

هَذَا مُطَابق للتَّرْجَمَة، وَبَيَان لَهَا وَقطعَة من الحَدِيث الْمَذْكُور قبله من حَيْثُ الْمَعْنى، وَقيل: موقع هَذَا من الْأَحْكَام أَنه خَارج عَن الافتخار الْمنْهِي عَنهُ، لِأَن الْحَال يَقْتَضِي ذَلِك، وَقَالَ ابْن بطال: معنى خُذْهَا وَأَنا ابْن الْأَكْوَع، أَنا ابْن الْأَكْوَع الْمَشْهُور فِي الرَّمْي بالإصابة عَن الْقوس، وَهَذَا على سَبِيل الْفَخر، لِأَن الْعَرَب تَقول: أَنا ابْن نجدتها، أَي: الْقَائِم بِالْأَمر، وَأَنا ابْن جلا، يُرِيد: المنكشف الْأَمر الْوَاضِح الْجَلِيّ، وَلَا يَقُول مثل هَذَا إلاَّ الشجاع البطل، وَالْعَادَة عِنْد الْعَرَب أَن يعلم الشجاع نَفسه بعلامة فِي الْحَرْب يتَمَيَّز بهَا من غَيره ليقصده من يَدعِي الشجَاعَة.

2403 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ إسْرَائيلَ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سألَ رَجُلٌ البرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فقالَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ البَرَاءُ وأنَا أسْمَعُ أمَّا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ كانَ أبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ آخِذاً بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ فلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فجَعَلَ يَقُولُ:
(أَنا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ)

قالَ فَما رُئِيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أشَدُّ مِنْهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَنا النَّبِي لَا كذب) لِأَن فِيهِ تنويهاً بشجاعته وثباته فِي الْحَرْب، وَهَذَا أقوى من قَول الْقَائِل: خُذْهَا وَأَنا ابْن فلَان.
وَعبيد الله هُوَ ابْن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ عَمْرو بن عبد الله السبيعِي جد إِسْرَائِيل الْمَذْكُور.
والْحَدِيث مر فِي الْجِهَاد فِي: بَاب من قاد دَابَّة غَيره فِي الْحَرْب، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (يابا عمَارَة) ، هُوَ كنية الْبَراء. قَوْله: (وَأَنا أسمع) من كَلَام أبي إِسْحَاق وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (لم يول) ، ويروى: فَلم يول، على الأَصْل بِالْفَاءِ، وَقَالَ ابْن مَالك: حذف الْفَاء جَائِز نظماً ونثراً، يَعْنِي: لَا يخْتَص بِالضَّرُورَةِ. قَوْله: (فَلَمَّا غشيه الْمُشْركُونَ) ، أَي: أحاطوا بِهِ (نزل) عَن بغلته. قَوْله: (فَمَا رئي) ، بِضَم الرَّاء وَكسر الْهمزَة وَفتح الْيَاء. قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الرَّسُول.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إختلف السّلف: هَل يعلم الرجل الشجاع نَفسه عِنْد لِقَاء الْعَدو؟ فَقَالَ بَعضهم: ذَلِك جَائِز على مَا دلّ عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث، وَقد أعلم حَمْزَة بن عبد الْمطلب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَفسه يَوْم بدر بريشة نعَامَة فِي صَدره، وَأعلم نَفسه أَبُو دُجَانَة بعصابة بِمحضر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم بدر معمماً بعمامة صفراء، فَنزلت الْمَلَائِكَة معتمين بعمائم صفر. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} . انهم أَتَوا مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مسومين بالصوف، فسوم مُحَمَّد وَأَصْحَابه أنفسهم وخيلهم على سِيمَاهُمْ بالصوف.
وَكره آخَرُونَ التسويم والأعلام فِي الْحَرْب، وَقَالُوا: فعلُ ذَلِك من الشُّهْرَة، وَلَا يَنْبَغِي

(14/287)


للْمُسلمِ أَن يشهر نَفسه فِي الْخَيْر وَلَا فِي الشَّرّ، قَالُوا: وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ إِذا فعل شَيْئا لله تَعَالَى أَن يخفيه عَن النَّاس: {إِن الله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء} (آل عمرَان: 5) . رُوِيَ هَذَا عَن بُرَيْدَة الْأَسْلَمِيّ.
وَالصَّوَاب مَعَ الْفَرِيق الأول: أَنه لَا بَأْس بالتسويم والأعلام فِي الْحَرْب إِذا فعله من هُوَ من أهل الْبَأْس والشدة والنجدة، وَهُوَ قَاصد بذلك حث النَّاس على الثَّبَات وَالصَّبْر لِلْعَدو فِي الملاقاة، وَفِيه ترهيب الْعَدو إِذا عرفُوا مَكَانَهُ، وَأما إِذا لم يقْصد ذَلِك بل قصد بِهِ الافتخار فَهُوَ مَكْرُوه، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّن يُقَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا، وَإِنَّمَا يُقَاتل للذّكر.

861 - (بابٌ إذَا نَزَلَ العَدُوُّ علَى حُكْمِ رَجُلٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا إِذا نزل الْعَدو من الْمُشْركين على حكم رجل من الْمُسلمين، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، تَقْدِيره: ينفذ إِذا أجَازه الإِمَام.

3403 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِي أمَامَةَ هوَ ابنُ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنو قُرَيْظَةَ علَى حُكْمِ سَعْدٍ هوَ ابنُ معاذٍ بَعَثَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكانَ قَرِيباً مِنْهُ فَجاءَ علَى حِمارٍ فلَمَّا دَنا قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَجاءَ فَجَلَسَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ إنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا علَى حُكْمِكَ قَالَ فإنِّي أحْكُمُ أنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وأنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ قَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من معنى الحَدِيث. وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي، وَأَبُو أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة وبالميمين: اسْمه أسعد بن سهل بن حنيف، يروي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه: سعد بن مَالك بن سِنَان الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل سعد عَن مُحَمَّد بن عرْعرة وَفِي الاسْتِئْذَان عَن أبي الْوَلِيد وَفِي الْمَغَازِي عَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن بنْدَار بِهِ وَعَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن عَمْرو بن عَليّ عَن غنْدر بِهِ وَفِي السّير وَفِي الْفَضَائِل عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَنو قُرَيْظَة) ، بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالظاء الْمُعْجَمَة، وهم قَبيلَة من الْيَهُود كَانُوا فِي قلعة فنزلوا على حكم سعد بن معَاذ. قَوْله: (بعث) ، جَوَاب: لما، أَي: بعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَطْلُبهُ. قَوْله: (أَن تقتل الْمُقَاتلَة) ، أَي: الطَّائِفَة الْمُقَاتلَة مِنْهُم، أَي: البالغون (والذرية) : النِّسَاء وَالصبيان. قَوْله: (بِحكم الْملك) ، بِكَسْر اللَّام وَهُوَ: الله تَعَالَى، وَفِي بعض الرِّوَايَات: بِحكم الله تَعَالَى، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض، ضبط بَعضهم فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) كسرهَا وَفتحهَا، فَإِن صَحَّ الْفَتْح فَالْمُرَاد بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَتَقْدِيره: بالحكم الَّذِي جَاءَ بِهِ الْملك عَن الله تَعَالَى، ورد هَذَا عَن ابْن الْجَوْزِيّ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا نقل أَن ملكا نزل من السَّمَاء فِي شَأْنهمْ بِشَيْء، وَلَو نزل بِشَيْء أتبع وَترك اجْتِهَاد سعد. وَالثَّانِي: فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه: قضيت بِحكم الله، وَقَالَ ابْن التِّين: الْمَعْنى كُله وَاحِد على الْكسر وَالْفَتْح، وَقيل: فِي الْوَجْه الأول نظر، لِأَن فِي غير رِوَايَة البُخَارِيّ: قَالَ فِي حكم سعد بذلك: طرقني الْملك سحرًا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: لُزُوم حكم الْمُحكم برضى الْخَصْمَيْنِ، سَوَاء كَانَ فِي أُمُور الْحَرْب أَو غَيرهَا، وَهُوَ رد على الْخَوَارِج الَّذين أَنْكَرُوا التَّحْكِيم على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: أَن النُّزُول على حكم الإِمَام أَو غَيره جَائِز، وَلَهُم الرُّجُوع عَنهُ مَا لم يحكم، فَإِذا حكم فَلَا رُجُوع، وَلَهُم أَن ينقلوا من حكم رجل إِلَى غَيره. وَفِيه: أَن التحاكم إِلَى رجل مَعْلُوم الصّلاح وَالْخَيْر لَازم للمتحاكمين، فَكيف بَيْننَا وَبَين عدونا فِي الدّين وَالْمَال أخف مؤونة من النَّفس والأهل؟ وَفِيه: أَمر السُّلْطَان وَالْحَاكِم

(14/288)


بإكرام السَّيِّد من الْمُسلمين وإكرام أهل الْفضل فِي مجْلِس السُّلْطَان الْأَكْبَر وَالْقِيَام فِيهِ لغيره من أَصْحَابه وسَادَة أَتْبَاعه، وإلزام النَّاس كَافَّة بِالْقيامِ إِلَى سيدهم، وَلَا يُعَارض هَذَا حَدِيث مُعَاوِيَة: من سره أَن يتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار، لِأَن هَذَا الْوَعيد إِنَّمَا توجه للمتكبرين وَإِلَى من يغْضب أَو يسْخط أَن لَا يُقَام لَهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا الْمَكْرُوه الْقيام للمرء وَهُوَ جَالس، قَالَ: وَتَأَول بعض أَصْحَابنَا. قَوْله: (قومُوا إِلَى سيدكم) على أَن ذَلِك مَخْصُوص بِسَعْد، وَقَالَ بَعضهم: أَمرهم بِالْقيامِ لينزلوه عَن الْحمار لمرضه، وَفِيه بعد، وَقَالَ السُّهيْلي: وَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِصَفْوَان بن أُميَّة ولعدي بن حَاتِم حِين قدما عَلَيْهِ وَقَامَ لمَوْلَاهُ زيد بن حَارِثَة وَلغيره أَيْضا، وَكَانَ يقوم لابنته فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إِذا دخلت عَلَيْهِ، وَتقوم لَهُ إِذا قدم عَلَيْهَا، وَقَامَ لجَعْفَر ابْن عَمه. وَفِيه: جَوَاز قَول الرجل للْآخر: يَا سَيِّدي، إِذا علم مِنْهُ خيرا أَو فضلا، وَإِنَّمَا جَاءَت الْكَرَاهَة فِي تسويد الرجل الْفَاجِر. وَفِيه: أَن للْإِمَام إِذا ظهر من قوم من أهل الْحَرْب الَّذِي بَينه وَبينهمْ هدنة على خِيَانَة وغدر أَن ينبد إِلَيْهِم على سَوَاء، وَأَن يحاربهم، وَذَلِكَ أَن بني قُرَيْظَة كَانُوا أهل موادعة من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل الخَنْدَق، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحْزَاب ظاهروا قُريْشًا وَأَبا سُفْيَان على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وراسلوهم: إِنَّا مَعكُمْ فاثبتوا مَكَانكُمْ، فأحل الله بذلك من فعلهم قِتَالهمْ ومنابذتهم على سَوَاء، وَفِيهِمْ أنزلت: {وَإِمَّا نخافنَّ من قوم خِيَانَة فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء. .} (الْأَنْفَال: 85) . الْآيَة، فَحَاصَرَهُمْ والمسلمون مَعَه حَتَّى نزلُوا على حكم سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

961 - (بابُ قَتْلِ الأسِيرِ صَبْرَاً وقَتْلِ الصَّبْر)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قتل الْأَسير صبرا، أَي: من حَيْثُ الصَّبْر، وَالصَّبْر فِي اللُّغَة: الْحَبْس، وَيُقَال للرجل، إِذا شدت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَرجل يمسِكهُ حَتَّى يضْرب عُنُقه: قتل صبرا، وَفِي الحَدِيث أَنه نهى عَن قتل شَيْء من الدَّوَابّ صبرا، هُوَ أَن يمسك من ذَوَات الرّوح شَيْء حَيا ثمَّ يَرْمِي بِشَيْء حَتَّى يَمُوت، وَهُوَ معنى قَوْله: وَقتل الصَّبْر، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بَاب قتل الأصير صبرا، وَلَيْسَ فِي رِوَايَته: وَقتل الصَّبْر، وَهَذَا اللَّفْظ زَائِد لَا طائل تَحْتَهُ.

4403 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ عامَ الفَتْحِ وعَلى رَأسِهِ المِغْفَرُ فلَمَّا نَزَعَهُ جاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ ابنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ فَقَالَ اقْتُلُوهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل عبد الله بن خطل صبرا، وٌّ هـ حاد الله وَرَسُوله وارتد عَن الْإِسْلَام وَقتل مُسلما كَانَ يَخْدمه، وَكَانَ يهجو رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت لَهُ قينتان تُغنيَانِ بِهِجَاء الْمُسلمين. والْحَدِيث قد مر بِعَيْنِه فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج فِي: بَاب دُخُول الْحرم وَمَكَّة بِغَيْر إِحْرَام، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، والمغفر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْفَاء وَفِي آخِره رَاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرَّأْس يلبس تَحت القلنسوة.

071 - (بابٌ هَلْ يَسْتَأسِر الرَّجُلُ ومَنْ لَمْ يَسْتأثِرْ ومنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يستأسر الرجل؟ أَي: هَل يطْلب أَن يَجْعَل نَفسه أَسِيرًا؟ يَعْنِي: هَل يسلم نَفسه للأسر أم لَا؟ وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: هُوَ قَوْله: (هَل يستأسر الرجل؟) . وَالثَّانِي: هُوَ قَوْله: (وَمن لم يستأسر) ، أَي: وَفِي بَيَان من لم يسلم نَفسه للأسر. وَالثَّالِث: هُوَ قَوْله: (من ركع رَكْعَتَيْنِ عِنْد الْقَتْل) أَي: وَفِي بَيَان من صلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد الْقَتْل.

5403 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني عَمْرُو بنُ أبي سُفْيَانَ بنِ أسِيدِ بنِ جارِيَةَ الثَّقَفِي وهْوَ حَلِيفُ لِبَنِي زُهْرَةَ وكانَ مِنْ أصْحَابِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قالَ بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنَاً وأمَّرَ عَلَيْهِمْ عاصِمَ بنَ

(14/289)


ثابِتٍ الأنْصَارِيَّ جَدَّ عاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ فانْطَلَقُوا حتَّى إذَا كانُوا بالْهدْأةِ وهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ ومَكَّةَ ذُكِرُوا الِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ فنَفَّرُوا لَهُمْ قَرِيباً مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رامٍ فاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حتَّى وجَدُوا مأكَلَهُمْ تَمْراً تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ فقالُوا هَذا تَمْرُ يَثْرِبَ فاقْتَصُّوا آثارَهُمْ فلَمَّا رآهُمْ عاصِمٌ وأصْحَابُهُ لَجؤا إِلَى فَدْفَدٍ وأحاطَ بِهمُ القَوْمُ فَقَالُوا لَهُمُ انْزِلُوا وأعْطُونا بأيْدِيكُمْ ولَكُمْ العَهْدُ والمِيثَاقُ ولاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أحَداً قَالَ عاصِمُ بنُ ثابِتٍ أمِيرُ السَّرِيَّةِ أمَّا أَنا فوَالله لَا أنْزِلُ اليَوْمَ فِي ذِمَّةِ كافِرٍ أللَّهُمَّ أخْبِرْ عنَّا نَبِيَّكَ فرَمَوْهُمْ بالنَّبْلِ فقَتَلُوا عاصِماً فِي سَبْعَةٍ فنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بالعَهْدِ والمِيثاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِيُّ وابنُ دَثِنَةَ ورَجُلٌ آخَرُ فلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أطْلَقُوا أوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فأوْثَقُوهُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هذَا أوَّلُ الغَدْرِ وَالله لَا أصْحَبُكُمْ إنَّ لِي فِي هَؤلاَءِ لأُسْوَةً يُرِيدُ القَتْلَى فَجَرُّوهُ وعالَجُوهُ علَى أنْ يَصْحَبَهُمْ فَأبى فَقَتَلُوهُ فانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وابنِ دَثِنَة حتَّى باعُوهُمَا بِمَكَّةَ بعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ فابْتَاعَ خُبَيْبَاً بَنُو الحَارِثِ بنِ عامِرِ ابنِ نَوْفَلِ بنِ عَبْدِ منافٍ وكانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتْلَ الحَارِثِ بنَ عامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أسِيراً فأخْبرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عِياضٍ أنَّ بِنْتَ الحَارِثِ أخْبَرَتْهُ أنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتعارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فأعارَتْهُ فأخَذَ ابْناً لِي وأنَا غَافِلَةٌ حِينَ أتاهُ قالَتْ فوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ علَى فَخْذِهِ والمُوسَى بِيَدِهِ ففَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَها خُبَيْبٌ فِي وجْهِي فَقَالَ تَخْشَيْنَ أنْ أقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذالِكَ وَالله مَا رَأيْتُ أسِيراً قَطُّ خَيْراً مِنْ خُبَيْبً وَالله لَقَدْ وجَدْتُهُ يَوْماً يَأكُلُ مِنْ قِطَفِ عِنَبٍ فِي يدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ ومَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ وكانَتْ تَقُولُ إنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ الله رَزَقَهُ خُبَيْبَاً فلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ ذَرُوني أرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ فتَرَكُوهُ فرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قالَ لَوْلاَ أنْ تَظُنُّوا أنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُها أللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَدَاً
(مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... علَى أيِّ شِقٍّ كانَ لله مَصْرَعِي)

(وذالِكَ فِي ذَاتِ الإلاهِ وإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ)

فَقَتَلَهُ ابنُ الحَارِثِ فَكانَ خُبَيْبٌ هوَ سنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْراً فاسْتَجَابَ الله لِعَاصِمِ بنِ ثابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ فأخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا وبَعثَ ناسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ وكانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فبُعِثَ عَلَى عاصِمً مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا علَى أنْ يَقْطَعُوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئاً..
الْمُطَابقَة من الحَدِيث للجزى الأول وَهُوَ قَوْله: هَل يستأسر الرجل فِي قَوْله: (فَنزل إِلَيْهِم ثَلَاثَة رَهْط بالعهد والميثاق) وللجزء الثَّانِي، وَهُوَ قَوْله: وَمن لم يستأسر، فِي قَوْله: (قَالَ عَاصِم بن ثَابت أَمِير السِّيرَة: أما أَنا فوَاللَّه لَا أنزل الْيَوْم

(14/290)


فِي ذمَّة كَافِر) ، وللجزء الثَّالِث، وَهُوَ قَوْله: وَمن صلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد الْقَتْل. فِي قَوْله: (قَالَ لَهُم خبيب: ذروني أركع رَكْعَتَيْنِ فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَقَالَ بعض أَصْحَاب الزُّهْرِيّ: عمر، بِضَم الْعين، وَقَالَ يُونُس من رِوَايَة أبي صَالح عَن اللَّيْث عَن يُونُس وَابْن أخي الزُّهْرِيّ وَإِبْرَاهِيم بن سعد، عمر، بِضَم الْعين، غير أَن إِبْرَاهِيم نسبه إِلَى جده، فَقَالَ: عمر بن أسيد. قَالَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : الصَّحِيح: عَمْرو بن أبي سُفْيَان بن أسيد، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة: ابْن جَارِيَة بِالْجِيم الثَّقَفِيّ حَلِيف لبني زهرَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان أَيْضا وَفِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف عَن أبي الْيَمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن عمرَان بن بكار، وَفِيه الشّعْر دون الدُّعَاء.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عشرَة رَهْط) ، الرَّهْط من الرِّجَال مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى أَرْبَعِينَ، وَلَا يكون فيهم امْرَأَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حَدثنَا عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة. قَالَ: (قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَهْط من عضل والقارة، وَقَالُوا: يَا رَسُول الله! إِن فِينَا إسلاماً فَابْعَثْ مَعنا نَفرا من أَصْحَابك يفقهوننا فِي الدّين ويقرئوننا الْقُرْآن ويعلموننا شرائع الْإِسْلَام، فَبعث مَعَهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَفرا سِتَّة من أَصْحَابه، وهم: مرْثَد بن أبي مرْثَد الغنوي حَلِيف حَمْزَة بن عبد الْمطلب وَهُوَ أَمِير الْقَوْم، وخَالِد بن بكير اللَّيْثِيّ حَلِيف بني عدي أَخُو بني حججبي، وثابت بن أبي الْأَفْلَح، وخبيب بن عدي، وَزيد بن الدثنة، وَعبد الله بن طَارق، وَالأَصَح مَا قَالَه البُخَارِيّ: عشرَة رَهْط وأميرهم عَاصِم بن ثَابت، على مَا مر. قَوْله: (سَرِيَّة) ، نصب على الْبَيَان، والسرية: طَائِفَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَرْبَعمِائَة تبْعَث إِلَى الْعَدو، وَجَمعهَا السَّرَايَا: سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم من الشَّيْء السّري النفيس، وَقيل: سموا بذلك لأَنهم ينفذون سرا وخفية وَلَيْسَ بِوَجْه، لِأَن لَام السِّرّ: رَاء، وَهَذِه: يَاء، وَهَذِه السّريَّة تسمى: سَرِيَّة الرجيع، وَهِي غَزْوَة الرجيع. قَالَ ابْن سعد: كَانَت فِي صفر على رَأس سِتَّة وَثَلَاثِينَ شهرا، وَذكرهَا ابْن إِسْحَاق: فِي صفر سنة أَربع من الْهِجْرَة، والرجيع على ثَمَانِيَة أَمْيَال من عسفان. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سَبْعَة أَمْيَال. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الرجيع، بِفَتْح أَوله وبالعين الْمُهْملَة فِي آخِره: مَاء لهذيل لبني لحيان مِنْهُم بَين مَكَّة وَعُسْفَان بِنَاحِيَة الْحجاز، وَعُسْفَان قَرْيَة جَامِعَة مِنْهَا إِلَى كرَاع الغميم ثَمَانِيَة أَمْيَال، والغميم، بالغين الْمُعْجَمَة: وادٍ، والكراع: جبل أسود عَن يسَار الطَّرِيق شَبيه بِالْكُرَاعِ، وَمن كرَاع الغميم إِلَى بطن مر خَمْسَة عشر ميلًا، وَمن مر إِلَى سرف سَبْعَة أَمْيَال، وَمن سرف إِلَى مَكَّة سِتَّة أَمْيَال. قَوْله: (عينا) ، أَي: جاسوساً، وانتصابه على أَنه بدل من: سَرِيَّة. قَوْله: (وأمَّر) ، بتَشْديد الْمِيم من التأمير، أَي: جعل عَاصِم بن ثَابت أَمِيرا على الرَّهْط الْمَذْكُور، وَعَاصِم بن ثَابت بن أبي الْأَفْلَح، واسْمه قيس بن عصمَة بن النُّعْمَان بن مَالك بن أُميَّة بن ضبيعة بن زيد بن مَالك، بن عَوْف ابْن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا سُلَيْمَان شهد بَدْرًا، وَهُوَ جد عَاصِم بن عمر بن الْخطاب لأمه، لِأَن أم عَاصِم جميلَة بنت ثَابت بن أبي الْأَفْلَح، أُخْت عَاصِم بن ثَابت، وَكَانَ اسْمهَا: عاصية، فسماها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جميلَة، وَقيل: هُوَ خَاله لَا جده. قَوْله: (بالهداة) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْهمزَة، وَهُوَ: مَوضِع بَين عسفان وَمَكَّة. قَوْله: (ذكرُوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (من هُذَيْل) ، هُوَ ابْن مدركة بن الياس بن مُضر، قَالَ ابْن دُرَيْد: من الهذل، وَهُوَ الِاضْطِرَاب. قَوْله: (بَنو لحيان) ، بِكَسْر اللَّام، وَحكى صَاحب (الْمطَالع) فتحهَا، ولحيان من هُذَيْل، وَقَالَ الرشاطي: إِنَّهُم من بقايا جرهم دخلُوا فِي هُذَيْل، وَعَن ابْن دُرَيْد: اشتقاقه من اللحى، واللحي من قَوْلهم: لحيت الْعود ولحوته: إِذا قشرته. قَوْله: (فنفروا لَهُم) ، بتَشْديد الْفَاء أَي: استنجدوا لأجلهم قَرِيبا من مِائَتي رجل. وَفِي رِوَايَة: (فنفر إِلَيْهِم قريب من مائَة رجل) ، بتَخْفِيف الْفَاء أَي: خرج إِلَيْهِم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نفَّروا مِائَتي رجل، وَلَكِن مَا تَبِعَهُمْ إلاَّ مائَة. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (فنفذوا) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.

(14/291)


قَوْله: (فَاقْتَصُّوا آثَارهم) ، أَي: اتبعوها، وَقَالَ ابْن التِّين: وَيجوز بِالسِّين. قَوْله: (مَأْكَلهمْ) اسْم مَكَان مَنْصُوب بِتَقْدِير الْجَار، وَذَلِكَ جَائِز، نَحْو: رميت مرمَى زيد. قَوْله: (تزودوه) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لتمر. قَوْله: (فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِم) كَذَا هُوَ فِي (الصَّحِيح) و (شرح ابْن بطال) وَذكره بعض الشُّرَّاح بِلَفْظ: فَلَمَّا أحس بهم، ثمَّ قَالَ: أَي: علم. قَالَ تَعَالَى: {هَل تحس مِنْهُم من أحد} (مَرْيَم: 89) . وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : حس بِغَيْر ألف. قَوْله: (لجأوا) أَي: استندوا (إِلَى فدفد) بفاءين مفتوحتين بَينهمَا دَال مُهْملَة سَاكِنة، وَهُوَ الْموضع الْمُرْتَفع الَّذِي فِيهِ غلظ وارتفاع، وَقَالَ ابْن فَارس: إِنَّه الأَرْض المستوية، وَظَاهر الحَدِيث أَنه مَكَان مشرف تحَصَّنُوا فِيهِ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد) : (إِلَى قردد) ، بقاف مَفْتُوحَة وَرَاء سَاكِنة ثمَّ بدالين مهملتين وهما سَوَاء. قَوْله: (الْعَهْد) ، أَي: الذِّمَّة. قَوْله: (بِالنَّبلِ) ، أَي: السِّهَام الْعَرَبيَّة. قَوْله: (فِي سَبْعَة) ، أَي: فِي جملَة سَبْعَة، وَالْحَاصِل أَن السَّبْعَة من الْعشْرَة قتلوا، وَعَن إِبْنِ إِسْحَاق: الَّذين قتلوا ثَلَاثَة، لأَنا قد ذكرنَا عَنهُ عَن قريب أَن الَّذين أرسلهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا سِتَّة، وَقد ذَكَرْنَاهُمْ، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: غدروا بهم على الرجيع فاستصرخوا عَلَيْهِم هذيلا فل يرع الْقَوْم وهم فِي رحالهم إلاَّ الرِّجَال بِأَيْدِيهِم السيوف قد غشوهم، فَأخذُوا أسيافهم وَقَاتلهمْ أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقتل مِنْهُم ثَلَاثَة وَأسر مِنْهُم ثَلَاثَة، وهم: زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وَعبد الله بن طَارق، وَعند البُخَارِيّ: الْقَتْلَى سَبْعَة، وَالَّذين أَسرُّوا ثَلَاثَة، وَهُوَ قَوْله: (فَنزل إِلَيْهِم ثَلَاثَة رَهْط بالعهد) أَي: بِالذِّمةِ. قَوْله: (وَمِنْهُم) أَي: من هَؤُلَاءِ (خبيب) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا بَاء مُوَحدَة أُخْرَى: ابْن عدي الْأنْصَارِيّ الأوسي من بني حججبي بن كلفة بن عَمْرو بن عَوْف من الْبَدْرِيِّينَ. قَوْله: (وَابْن الدثنة) ، وَهُوَ زيد بن الدثنة بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة وسكونها وَالنُّون: ابْن مُعَاوِيَة بن عبيد بن عَامر بن بياضة الْأنْصَارِيّ البياضي، شهد بَدْرًا وأحداً. قَوْله: (وَرجل آخر) ، هُوَ عبد الله بن طَارق بَينه ابْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته وَهُوَ عبد الله بن طَارق بن عَمْرو بن مَالك البلوي حَلِيف لبني ظفر من الْأَنْصَار، شهد بَدْرًا وأحداً. قَوْله: (فَقَالَ الرجل الثَّالِث) : هُوَ عبد الله بن طَارق. قَوْله: (هَذَا أول الْغدر) ، ويروى: هَذَا أَوَان الْغدر. قَوْله: (فجروه) ، ويروى: فجروه، بِالْفَاءِ، ويروى بِالْوَاو. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: فَامْتنعَ من الرواح مَعَهم فَقَتَلُوهُ، وقبره بِمَ الظهْرَان. قَالَ أَبُو عمر: لما أَسرُّوا الثَّلَاثَة خَرجُوا بهم إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا كَانُوا بالظهران انتزع عبد الله بن طَارق يَده من الوثاق وَأخذ سَيْفه واستأخر عَنهُ الْقَوْم فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ فَقَتَلُوهُ. قَوْله: (فَابْتَاعَ) ، أَي: اشْترى خبيباً بَنو الْحَارِث بن عَامر. قَوْله: (وَكَانَ خبيب هُوَ قتل الْحَارِث بن عَامر يَوْم بدر) ، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: ابْتَاعَ خبيباً حُجَيْر بن أبي إهَاب التَّمِيمِي حليفاً لَهُم، وَكَانَ جحير أَخا الْحَارِث بن عَامر لأمه فابتاعه لعقبة بن الْحَارِث ليَقْتُلهُ بِأَبِيهِ، وَقيل: اشْترك فِي ابتياعه أَبُو إهَاب بن عَزِيز، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل، والأخنس بن أبي شريق، وَعبيدَة بن حَكِيم بن الأوقص، وَأُميَّة بن أبي عتبَة، وَبَنُو الْحَضْرَمِيّ، وَصَفوَان بن أُميَّة، وهم أَبنَاء من قتل من الْمُشْركين ببدر، ودفعوه إِلَى عقبَة فسجنه حَتَّى انْقَضتْ الْأَشْهر الْحرم فصلبوه بِالتَّنْعِيمِ، فَأَخْبرنِي عبيد الله بن عِيَاض: الْقَائِل بِهَذَا هُوَ ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله، بِضَم الْعين مصغر ابْن عِيَاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ضاض مُعْجمَة: ابْن عَمْرو الْقَارِي، من القارة، حجازي، وَسمع عبيد الله هَذَا عَن عَائِشَة وَغَيرهَا، قَالَه الْمُنْذِرِيّ وَلم يذكرهُ أحد فِي رجال البُخَارِيّ، كَمَا ادَّعَاهُ الدمياطي، نعم ذكره الْمزي، وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد. قَوْله: (إِن بنت الْحَارِث أخْبرته) قَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: اسْمهَا مَارِيَة، وَقيل: ماوية، وَهِي مولاة حُجَيْر بن أبي إهَاب، وَكَانَت زوج عقبَة بن الْحَارِث وسماها ابْن بطال: جويرة، وَفِي (مُعْجم الْبَغَوِيّ) : مَارِيَة بنت حُجَيْر بن أبي إهَاب. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: هِيَ مولاة بني عبد منَاف. وَقَالَ الْحميدِي فِي (جمعه) رِوَايَة عبيد الله عَنْهَا هُنَا إِلَى قَوْله: فَلَمَّا خَرجُوا من الْحرم. قَوْله: (اسْتعَار مِنْهَا مُوسَى) ، وَجَاز صرفه لِأَنَّهُ مفعل، وَعدم صرفه لِأَنَّهُ على خلاف بَين الصرفيين. قَوْله: (يستحد بهَا) ، من الاستحداد، وَهُوَ حلق شعر الْعَانَة، وَهُوَ استفعال من الْحَدِيد، اسْتعْمل على طَرِيق الْكِنَايَة والتورية، وَذَلِكَ لِئَلَّا يظْهر شعر عانته عِنْد قَتله. قَوْله: (فَأخذ إبناً لي) أَي: فَأخذ خبيب ابْنا لي، وَالْحَال أَنا غافلة حِين أَتَاهُ، ويروى: حَتَّى أَتَاهُ، وَاسم الابْن: أَبُو الْحُسَيْن ابْن الْحَارِث بن عَامر بن نَوْفَل، وَهُوَ جد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي حُسَيْن الْمَكِّيّ شيخ مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَوَجَدته) ، أَي: وجدت خبيباً (مَجْلِسه) أَي: مجْلِس ابْني، بِضَم الْمِيم وَسُكُون

(14/292)


الْجِيم وَكسر اللَّام: من الإجلاس، وَالْوَاو وَفِي: (الموسى بِيَدِهِ) للْحَال. قَوْله: (فَفَزِعت فزعة) أَي: خفت خوفًا. قَوْله: (من قطف عِنَب) ، بِكَسْر الْقَاف وَهُوَ العنقود. قَوْله: (وَإنَّهُ لموثق) أَي: المربوط فِي الْحَدِيد، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَا الْوَاو فِي: قَوْله: (وَمَا بِمَكَّة من ثَمَر) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم. قَوْله: (ذروني) ، أَي: اتركوني. قَوْله: (فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ) أَي: صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ أول من صلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد الْقَتْل. قَوْله: (جزع) ، بِفَتْح الْجِيم وَالزَّاي، وَهُوَ نقيض الصَّبْر. قَوْله: (أللهم إحصهم عددا) دُعَاء عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ استئصالاً أَي: لَا تبْق مِنْهُم أحدا، ويروى بعده: واقتلهم بدداً، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، والبدد: التَّفَرُّق. قَالَ السُّهيْلي: وَمن رَوَاهُ بِكَسْر الْبَاء فَهُوَ جمع بدة، وَهِي: الْفرْقَة والقطعة من الشَّيْء المتبدد، ونصبه على الْحَال من الْمَدْعُو، وبالفتح مصدر. قَوْله: (مَا أُبَالِي) إِلَى آخِره. بيتان أنشدهما بعد الْفَرَاغ من دُعَائِهِ عَلَيْهِم، وهما من بَحر الطَّوِيل، وَالصَّحِيح: وَلست أُبَالِي، وعَلى الرِّوَايَة الأولى فِيهِ: وهما من قصيدة أَولهَا هُوَ قَوْله:
(لقد جمع الْأَحْزَاب حَولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ)

(وَقد قربوا أَبْنَاءَهُم ونساءهم ... وَقربت من جزع طَوِيل ممنعِ)

(وَكلهمْ يُبْدِي الْعَدَاوَة جاهداً ... عَليّ لِأَنِّي فِي وثاق بمضيعِ)

(إِلَى الله أَشْكُو غربتي بعد كربتي ... وَمَا جمع الْأَحْزَاب لي عِنْد مصرعِ)

(يذا الْعَرْش صبّرني على مَا أصابني ... وَقد بضعوا لحمي وَقد قل مطمعِ)

(وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ ... يُبَارك على أوصال شلو ممزعِ)

(وَقد عرضوا بالْكفْر وَالْمَوْت دونه ... وَقد ذرفت عَيْنَايَ من غير مدمعِ)

(وَمَا بِي حذار الْمَوْت، إِنِّي لمَيت ... وَلَكِن حذَارِي حر نَار تلفعِ)

(فلست بمبدٍ لِلْعَدو تخشعاً ... وَلَا جزَعاً إِنِّي إِلَى الله مرجعِ)

(وَلست أُبَالِي حِين أقتل مُسلما ... على أَي شقّ كَانَ لله مضجعِ)

وَقَالَ ابْن هِشَام: أَكثر أهل الْعلم بالشعر ينكرها لَهُ. قَوْله: الْأَحْزَاب، الْجمع من طوائف مخلفة. قَوْله: وألبوا، أَي: جمعُوا قبائلهم، قَالَ الْجَوْهَرِي: ألبت الْجَيْش: إِذا جمعته، وتألبوا تجمعُوا. قَوْله: بمضيع، مَوضِع الضّيَاع أَي: الْهَلَاك. قَوْله: يذا الْعَرْش، أَصله: يَا ذَا الْعَرْش، حذفت الْألف للضَّرُورَة. قَوْله: (بضعوا) ، أَي: قطعُوا قطعا قطعا. قَوْله: (فِي ذَات الْإِلَه) ، أَي: فِي وَجه الله وَطلب ثَوَابه. قَوْله: (أوصال) ، جمع وصل. قَوْله: شلو، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام: الْعُضْو. قَوْله: ممزع، أَي: مقطع والمزعة: الْقطعَة. قَوْله: تلفع، من لفعته النَّار إِذْ شملته من نواحيه وأصابه لهيبها. قَوْله: فلست بمبدٍ: أَي: بمظهر. قَوْله: وَلَا جزعاً: الْجزع قلَّة الصَّبْر. قَوْله: (فَقتله ابْن الْحَارِث) وَهُوَ: عقبَة بن الْحَارِث، وَقيل: أَخُوهُ، وَكِلَاهُمَا أسلم بعد ذَلِك، وَقَالَ أَبُو عمر: روى سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر أَنه سَمعه يَقُول: الَّذِي قتل خبيباً أَبُو سروعة عقبَة بن الْحَارِث بن عَامر بن نَوْفَل، وَكَانَ الْقَتْل بِالتَّنْعِيمِ، وَأَبُو سروعة، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَقيل: بِفَتْحِهَا وَفتح الرَّاء، وَقيل: بِفَتْح السِّين وَضم الرَّاء. قَوْله: (حِين حدثوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: حِين أخبروا بقتل عَاصِم بن ثَابت. قَوْله: (ليؤتوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِشَيْء مِنْهُ) ، أَي: من عَاصِم، يَعْنِي بِقِطْعَة مِنْهُ يعرف بهَا. قَوْله: (وَكَانَ قد قتل) ، أَي: وَكَانَ عَاصِم قد قتل رجلا من عظمائهم، أَي: من أَشْرَافهم وأكابرهم يَوْم بدر، وَهُوَ عقبَة بن أبي معيط بن أبي عَمْرو بن أبي أُميَّة بن عبد شمس، وَكَانَ عَاصِم قتل يَوْم أحد فَتبين من عبد الدَّار أَخَوَيْنِ أمهما سلاقة بنت سعد بن شَهِيد، وَهِي الَّتِي نذرت إِن قدرت على قحف عَاصِم لتشربن فِيهِ الْخمر. قَوْله: (مثل الظلة) ، بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: وَهِي السحابة المظلة كَهَيئَةِ الصّفة. قَوْله: (من الدبر) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء، وَهِي: ذُكُور النَّحْل، وَقَالَ الْقَزاز: الدبر الزنابير وَاحِدهَا: دبرة، وَقَالَ ابْن فَارس: هِيَ النَّحْل جمعه: دبور، وَقَالَ ابْن بطال: الدبر جمَاعَة النَّحْل لَا وَاحِد لَهَا. قَوْله: (فحمته) ، أَي: حفظته، وَيُقَال: حمته، أَي: عصمته، وَلِهَذَا سمي عَاصِم محمي الدبر، فعيل بِمَعْنى مفعول، وَيُقَال: لما عجزوا قَالُوا: إِن الدبر يذهب بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل أرسل الله سيلاً فاحتمله فَلم يجدوه، وَقيل: إِن الأَرْض

(14/293)


ابتلعته، وَالْحكمَة فِيهِ: أَن الله حماه من قطع شَيْء من جسده، وَمَا حماه من الْقَتْل، إِذا الْقَتْل مُوجب للشَّهَادَة، وَلَا ثَوَاب فِي الْقطع مَعَ مَا فِيهِ من هتك حرمته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِي نزُول خبيب وَصَاحبه جَوَاز أَن يستأسر الرجل، قَالَ الْمُهلب: إِذا أَرَادَ أَن يَأْخُذ بِالرُّخْصَةِ فِي إحْيَاء نَفسه فعل كَفعل هَؤُلَاءِ، وَعَن الْحسن: لَا بَأْس أَن يستأسر الرجل إِذا خَافَ أَن يغلب. وَقَالَ الثَّوْريّ: أكره للأسير الْمُسلم أَن يُمكن من نَفسه إلاَّ مجبوراً، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ: لَا بَأْس للأسير الْمُسلم أَن يَأْبَى أَن يُمكن من نَفسه، بل يَأْخُذ بالشدة والإباء من الْأسر والأنفة من أَن يجْرِي عَلَيْهِ ملك كَافِر، كَمَا فعل عَاصِم. وَفِيه: استيثار الاستحداد لمن أسر وَلمن يقتل، والتنظيف لمن يصنع بعد الْقَتْل لِئَلَّا يطلع مِنْهُ على قبح عَورَة. وَفِيه: أَدَاء الْأَمَانَة إِلَى الْمُشرك وَغَيره. وَفِيه: التورع من قتل أَطْفَال الْمُشْركين رَجَاء أَن يَكُونُوا مُؤمنين. وَفِيه: الامتداح بالشعر حِين ينزل بِالْمَرْءِ هُوَ أَن فِي دين أَو ذلة الْقَتْل يرغم بذلك أنف عدوه ويحدد فِي نَفسه صبرا وأنفة. وَفِيه: كَرَامَة كَبِيرَة لخبيب فِي أكله من قطف عِنَب فِي غير أَوَانه، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا مُمكن أَن يكون آيَة لله على الْكفَّار وتصحيحاً لرسالة نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد الْكفَّار من أجل مَا كَانُوا عَلَيْهِ من تَكْذِيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: عَلامَة من عَلَامَات نبوته بإجابة دَعْوَة عَاصِم بِأَن أخبر الله نبيه مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالْخبر قبل بُلُوغه على أَلْسِنَة المخلوقين.

261 - (بابُ فَكاكِ الأسِيرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب فكاك الْأَسير من أَيدي الْعَدو بِمَال أَو غَيره، والفكاك، بِفَتْح الْفَاء أَي التخليص، وَيجوز بِالْكَسْرِ.
فِيهِ عنْ أبِي مُوسَى عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: فِي الْبَاب: روى عَن أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ. وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيثه هُنَا عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْأَطْعِمَة وَفِي النِّكَاح وَفِي الْأَحْكَام: عَن مُسَدّد، وَفِي الطِّبّ: عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة وَفِي الطِّبّ أَيْضا عَن مَحْمُود بن غيلَان.

6403 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فُكُّوا العَانِيَّ يَعْنِي الأسِيرَ وأطْعِمُوا الجَائِعَ وعُودُوا المَرِيضَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فكوا العاني) وَهُوَ: الْأَسير، وَجَرِير بن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
قَوْله: (العاني) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالنون: مثل القَاضِي، من: عَنَّا يعنو فَهُوَ عانٍ، وَالْجمع: عناة، وَالْمَرْأَة عانية، وَالْجمع: عوان، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: والعاني الْأَسير وكل من ذل واستكان وخضع فقد عَنَّا، وَقد فسره، إِمَّا قُتَيْبَة أَو جرير، بقوله: يَعْنِي الْأَسير، وفكاك الْأَسير فرض على الْكِفَايَة، قَالَ ابْن بطال: على هَذَا كَافَّة الْعلمَاء، وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فكاك أسرى الْمُسلمين من بَيت المَال، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَعَن الْحسن بن عَليّ: هُوَ على أهل الأَرْض الَّتِي يُقَاتل عَلَيْهَا، وَعَن أَحْمد يفادون بالرؤوس، وَأما بِالْمَالِ فَلَا أعرفهُ. والْحَدِيث عَام، فَلَا معنى لقَوْل أَحْمد: وَقد قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز، إِذا خرج الذِّمِّيّ بالأسير من الْمُسلمين فَلَا يحل للْمُسلمين أَن يردوه إِلَى الْكفْر فيفادوه بِمَا اسْتَطَاعُوا. قَوْله: (وأطعموا الجائع) ، عَام يتَنَاوَل كل جَائِع من بني آدم وَغَيرهم، وإطعام الجائع فرض على الْكِفَايَة، فَلَو أَن رجلا يَمُوت جوعا وَعند آخر مَا يحييه بِهِ بِحَيْثُ لَا يكون فِي ذَلِك الْموضع أحد غَيره، فَفرض عَلَيْهِ إحْيَاء نَفسه وَإِذا ارْتَفَعت حَالَة الضَّرُورَة كَانَ ذَلِك ندبا. قَوْله: (وعودوا الْمَرِيض) ، و: عودوا، أَمر من العيادة، وعيادة الْمَرِيض فرض كِفَايَة أَيْضا، وَقيل: سنة مُؤَكدَة.

(14/294)


7403 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا مُطَرِّفٌ أنَّ عامِرَاً حدَّثَهُمْ عنْ أبِي جُحَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إلاَّ مَا فِي كِتابِ الله قَالَ لَا والَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ مَا أعْلَمُهُ إلاَّ فَهْماً يُعْطَيهِ الله رَجُلاً فِي القُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قُلْتُ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ العَقْلُ وفَكَاكُ الأسِيرِ وأنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وفكاك الْأَسير) . وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَزُهَيْر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة أَبُو خَيْثَمَة الْجعْفِيّ الْكُوفِي، سكن الجزيرة، ومطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالفاء: ابْن طريف الْحَارِثِيّ أَبُو بكر الْكُوفِي، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، وَأَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء: واسْمه وهب بن عبد الله السوَائِي.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب كِتَابَة الْعلم فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مطرف عَن الشّعبِيّ عَن أبي جُحَيْفَة ... إِلَى آخِره نَحوه، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَالَّذِي فلق الْحبَّة) ، من أَيْمَان الْعَرَب، وَمعنى: فلق الْحبَّة: شقها فِي الأَرْض حَتَّى تنبث ثمَّ أثمرت، فَكَانَ مِنْهَا حب كثير، وكل شَيْء شققته فقد فلقته. قَوْله: (وبرأ) أَي: خلق. (والنسمة) الْإِنْسَان وَالنَّفس. قَوْله: (فهما) ، بِسُكُون الْهَاء وَفتحهَا. قَوْله: (الْعقل) الدِّيَة.

271 - (بابُ فِدَاءِ المُشْرِكِينَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فدَاء الْمُشْركين بِمَال يُؤْخَذ مِنْهُم.

8403 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبِي أوَيْسٍ قَالَ حدَّثَنا إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ ابنِ عُقْبَةَ عنْ مُوسَى ابنِ عُقْبَةَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رِجَالاً مِنَ الأنْصَارِ اسْتَأذَنُوا رسولَ لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا يَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أخْتِنَا عبَّاسٍ فِدَاءَهُ فَقالَ لاَ تَدَعونَ مِنْهُ دِرْهَمَاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (إيذن لنا. .) إِلَى آخر الحَدِيث. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعتْق فِي: بَاب إِذا أسر أَخُو الرجل، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لم يسمع مُوسَى بن عقبَة من ابْن شهَاب، قلت: الْإِثْبَات أولى من النَّفْي. قَوْله: (لَا تدعون) ، أَي: لَا تتركون، ويروى: لَا تدعوا على صِيغَة الْأَمر. قَوْله: (مِنْهُ) ، ويروى: مِنْهَا.

9403 - وقَالَ إبْرَاهِيمُ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ قَالَ أُتِيَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فَجاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ يَا رسولَ الله أعْطِنِي فإنِّي فادَيْتُ نَفْسِي وفادَيْتُ عَقِيلاً فَقال خُذْ فأعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 124 وأطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه فِي ذكر الْفِدَاء، وَهَذَا تَعْلِيق أوردهُ مُخْتَصرا، وَذكره مُعَلّقا أَيْضا بأتم مِنْهُ فِي الصَّلَاة فِي أَبْوَاب الْمَسَاجِد فِي: بَاب الْقِسْمَة وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد، وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن طهْمَان، صرح بِذكرِهِ هُنَاكَ، وَهنا ذكره مُجَردا وَلم ينْسبهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

0503 - حدَّثني مَحْمُودٌ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ مُحَمَّدِ ابنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ وكانَ جاءَ فِي أَسَارَي بَدْرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بالطّورِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بدر) أَي: جَاءَ فِي طلب فدَاء أُسَارَى بدر، ومحمود هُوَ ابْن غيلَان الْمروزِي

(14/295)


وَجبير مصغر ضد كسير ابْن مطعم، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الْإِطْعَام، كَانَ من سَادَات قُرَيْش، أسلم يَوْم الْفَتْح، وَكَانَ حِين جَاءَ فِي فدَاء أُسَارَى بدر وفكاكهم كَافِرًا، قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأكلمه فِي أُسَارَى بدر، فوافيته وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ الْمغرب، فَسَمعته وَهُوَ يقْرَأ، وَقد خرج صَوته من الْمَسْجِد: {إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع مَا لَهُ من دَافع} (الطّور: 7 8) . قَالَ: فَكَأَنَّمَا صدع قلبِي، فَلَمَّا فرغ من صلَاته كَلمته فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ: لَو كَانَ أَبوك حَيا فَأَتَانَا فيهم لقبلنا شَفَاعَته. وَذَلِكَ أَنه كَانَت لَهُ عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَد. قَوْله: (يقْرَأ فِي الْمغرب بِالطورِ) أَي: يقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب بِسُورَة الطّور، وَقد مضى هَذَا فِي كتاب الصَّلَاة، فِي: بَاب الْجَهْر فِي الْمغرب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

371 - (بابُ الحَرْبيِّ إذَا دَخَلَ دارَ الإسْلاَمِ بِغَيْرِ أمَانٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحَرْبِيّ من أهل دَار الْحَرْب إِذا دخل دَار الْإِسْلَام بِغَيْر أَمَان مَا يكون أمره؟ هَل يجوز قَتله أم لَا؟ لم يذكر الْجَواب لأجل الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَقَالَ مَالك: يتَخَيَّر فِيهِ الإِمَام وَحكمه حكم أهل الْحَرْب. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: إِن ادّعى أَنه رَسُول قبل مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَأحمد: لَا يقبل ذَلِك مِنْهُ، وَهُوَ فَيْء للْمُسلمين. وَقَالَ مُحَمَّد: هُوَ لمن وجده.

1503 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا أبُو العُمَيْسِ عنْ إيَاسِ بنِ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ عنْ أبِيهِ قالَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهْوَ فِي سَفَرٍ فجَلَسَ عِنْدَ أصْحَابِهِ يتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطْلُبُوهُ واقْتُلُوهُ فقَتَلَهُ فنَفَّلَهُ سَلَبَهُ.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن الحَدِيث فِي عين الْمُشْركين وَهُوَ جاسوسهم، والترجمة فِي الْحَرْبِيّ الْمُطلق الَّذِي يدْخل بِغَيْر أَمَان. وَأجِيب: بِأَن الْعين الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث أوهم أَنه مِمَّن لَهُ أَمَان، فَلَمَّا قضى حَاجته من التَّجَسُّس انْفَتَلَ مسرعاً، فَعَلمُوا أَنه حَرْبِيّ دخل بِغَيْر أَمَان، فَلهَذَا قتل.
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَأَبُو العميس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: واسْمه عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن عبد الله الْهِلَالِي مر فِي كتاب الْإِيمَان، وَإيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: ابْن سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: ابْن الْأَكْوَع.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن الْحسن بن عَليّ عَن أبي نعيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان.
قَوْله: (عين) ، أَي: جاسوس. قَوْله: (فِي سفر) ، بَينه مُسلم فَإِنَّهُ أخرج الحَدِيث فِي الْمَغَازِي عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن عمر ابْن يُونُس عَن عِكْرِمَة بن عمار عَن إِيَاس بن سَلمَة بن الْأَكْوَع عَن أَبِيه: غزونا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هوَازن يَعْنِي: حنيناً فَبينا نَحن نتضحى مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جَاءَ رجل على جمل أَحْمَر فأناخه ثمَّ انتزع طلقاً من جعبته فقيد بِهِ الْجمل، ثمَّ تقدم فتغدى مَعَ الْقَوْم، وَجعل ينظر وَفينَا ضعفة ورقة من الظّهْر، وبعضنا مشَاة، إِذْ خرج يشْتَد فَأتى جمله فَأطلق قَيده ثمَّ قعد عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجمل، فَاتبعهُ رجل على نَاقَة وَرْقَاء، قَالَ سَلمَة: وَخرجت اشْتَدَّ فَكنت عِنْد ورك النَّاقة، ثمَّ أخذت بِخِطَام الْجمل فأنخته، فَلَمَّا وضع رُكْبَتَيْهِ على الأَرْض ضربت رَأسه، فبدر ثمَّ جِئْت بالجمل أقوده عَلَيْهِ رَحْله وسلاحه، فاستقبلني رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس مَعَه، فَقَالَ: من قتل الرجل؟ قَالُوا: ابْن الْأَكْوَع. قَالَ: لَهُ سلبه أجمع. وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَليّ بِالرجلِ، اقْتُلُوهُ، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْم، وَفِي رِوَايَة: قَامَ رجل من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبر أَنه عين من الْمُشْركين، فَقَالَ: من قَتله فَلهُ سلبه. قَوْله: (ثمَّ انْفَتَلَ) أَي: ثمَّ انْصَرف. قَوْله: (اطلبوه واقتلوه) وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق يحيى الْحمانِي عَن أبي العميس: أدركوه فَإِنَّهُ عين، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فسبقتهم إِلَيْهِ فَقتلته، وفاعل: اسبقتهم، سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَكَذَلِكَ فَاعل: فَقتلته. قَوْله: (فَقتله) ، أَي: فَقتله سَلمَة. وَفِيه الْتِفَات من الْمُتَكَلّم إِلَى الْغَائِب، وَالْقِيَاس: فَقتلته، بالإخبار عَن نَفسه كَمَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَهَكَذَا روى أَيْضا هُنَا. قَوْله: (فنفله) ، أَي: فنفل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سلب هَذَا الْعين سَلمَة، وَفِيه الْتِفَات أَيْضا، وَالْقِيَاس فَقتلته ونفلني سلبه، أَي: أعطَاهُ مَا سلب مِنْهُ، وَأما النَّفْل فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء مَا شَرطه الْأَمِير لمتعاطي خطر، وَالسَّلب

(14/296)


بِفَتْح اللَّام: مركب الْمَقْتُول وثيابه وسلاحه وَمَا مَعَه على الدَّابَّة من مَاله فِي حقيبته أَو فِي وَسطه، وَمَا عدا ذَلِك فَلَيْسَ بسلب، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مَعَ غُلَامه على دَابَّة أُخْرَى.
وَفِيه: قتل الجاسوس الْحَرْبِيّ، وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع. وَأما الجاسوس الْمعَاهد أَو الذِّمِّيّ فَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ: يصير ناقضاً للْعهد، فَإِن رأى الإِمَام استرقاقه أرقه، وَيجوز قَتله، وَعند الْجُمْهُور: لَا ينْتَقض عَهده بذلك إِلَّا أَن يشْتَرط عَلَيْهِ انتقاضه بِهِ، وَأما الجاسوس الْمُسلم فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعض الْمَالِكِيَّة: يُعَزّر بِمَا يرَاهُ الإِمَام إلاَّ الْقَتْل. وَقَالَ مَالك: يجْتَهد فِيهِ الإِمَام. وَقَالَ عِيَاض: قَالَ كبار أَصْحَابه: يقتل. وَاخْتلفُوا فِي تَركه بِالتَّوْبَةِ، فَقَالَ ابْن الْمَاجشون: إِن عرف بذلك قتل، وإلاَّ عزّر، وَالله أعلم.

471 - (بابٌ يُقاتَلُ عنْ أهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ يُقَاتل عَن أهل الذِّمَّة أَي: عَن أهل الْكتاب لأَنهم إِنَّمَا بذلوا الْجِزْيَة على أَن يأمنوا فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وأهليهم فَيُقَاتل عَنْهُم، كَمَا يُقَاتل عَن الْمُسلمين. قَوْله: (وَلَا يسْتَرقونَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَمَا ذكر من الاسترقاق فَلَيْسَ فِي الْخَبَر. قلت: هَذَا من كَلَام ابْن التِّين: وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَخذه من قَوْله فِي الحَدِيث: (وأوصيه بِذِمَّة الله) فَإِن مُقْتَضى الْوَصِيَّة بالإشفاق أَن لَا يدخلُوا فِي الاسترقاق. قلت: يحْتَمل أَنه ذكره لمَكَان الْخلاف فِيهِ، فَإِن مَذْهَب ابْن الْقَاسِم: أَنهم يسْتَرقونَ إِذا نقضوا الْعَهْد، وَخَالفهُ أَشهب، وَقيل: أغرب ابْن قدامَة فَحكى الْإِجْمَاع، فَكَأَنَّهُ لم يطلع على خلاف ابْن الْقَاسِم. قلت: يحْتَمل أَنه أَرَادَ بِهِ إِجْمَاع الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.

2503 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ حُصَيْنٍ عنْ عَمْرِو بنِ مَيْمُونٍ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ وأُوصِيهِ بِذِمَّةِ الله وذِمَّةِ رَسُولهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وأنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلَا يُكَلَّفُوا إلاَّ طَاقَتَهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَن يُقَاتل من ورائهم) ، وَأَبُو عوَانَة، الوضاح الْيَشْكُرِي، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. والْحَدِيث قد مر مطولا فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (بِذِمَّة الله) أَي: عهد الله. قَوْله: (وَأَن يُقَاتل من ورائهم) أَرَادَ بِهِ دفع الْكَافِر الْحَرْبِيّ، وَنَحْوه عَنْهُم. قَوْله: (وَلَا يكلفوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّكْلِيف، وَمَعْنَاهُ: أَن لَا يزِيدُوا على مِقْدَار الْجِزْيَة.

571 - (بابُ جَوَائِزِ الوَفْدِ)