كشف المشكل من
حديث الصحيحين كشف الْمُشكل من مُسْند الزبير بن الْعَوام
وَأمه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله. أسلم
قَدِيما وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، فَعَذَّبَهُ عَمه
ليرْجع عَن دينه فَلم يفعل، وَهَاجَر الهجرتين وَلم
يتَخَلَّف عَن مشْهد شهده رَسُول الله، وَهُوَ أول من سل
سَيْفا فِي سَبِيل الله، وَكَانَ يَوْم بدر على الميمنة
وَعَلِيهِ ريطه صفراء قد اعتجز بهَا، فَنزلت الْمَلَائِكَة
على سيماه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أول حربها، فَنزلت على
سِيمَا أول محَارب.
روى عَن رَسُول الله ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ حَدِيثا مثل
طَلْحَة، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تِسْعَة.
154 - / 174 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
أَن رجلا خَاصم الزبير عِنْد رَسُول الله فِي شراج
الْحرَّة، فَقَالَ النَّبِي: " اسْقِ يَا زبير، ثمَّ أرسل
المَاء إِلَى جَارك " فَغَضب الْأنْصَارِيّ ثمَّ قَالَ:
يَا رَسُول الله، أَن كَانَ ابْن عَمَّتك. فَتَلَوَّنَ
وَجه رَسُول الله، ثمَّ قَالَ للزبير: " اسْقِ يَا زبير،
ثمَّ احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر " وَفِي
لفظ:
(1/226)
فَلَمَّا أحفظ الْأنْصَارِيّ رَسُول الله
استوعى للزبير حَقه فِي صَرِيح الحكم، فَلَا أَحسب هَذِه
الْآيَة نزلت إِلَّا فِي هَذَا: {فَلَا وَرَبك لَا
يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم}
[النِّسَاء: 65] .
قَالَ أَبُو عبيد: الشراج: مجاري المَاء من الْحرار إِلَى
السهل، وَاحِدهَا شرج.
والحرة: الأَرْض الَّتِي قد ألبست حِجَارَة سَوْدَاء،
وَكَانَ واديان من أَوديَة الْمَدِينَة يسيلان بالمطر
فيتنافس أهل الحوائط فِي سيلهما، فَقضى بِهِ رَسُول الله
للأعلى فالأعلى، وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب.
وَقَوله: أَن كَانَ ابْن عَمَّتك، الْألف فِي أَن
مَفْتُوحَة، وَالْمعْنَى: تقضي لَهُ لكَونه ابْن عَمَّتك،
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {أَن كَانَ ذَا مَال وبنين}
[الْقَلَم: 14] الْمَعْنى: لِأَن كَانَ ذَا مَال تُطِيعهُ.
والجدر: الْجِدَار. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ:
وَقد رَوَاهُ بَعضهم الجذر بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة،
يُرِيد بِهِ مبلغ تَمام الشّرْب، من جذر الْحساب، وَالْأول
أصح.
وأحفظ: أغضب. وصريح الحكم: ظَاهره. واستوعى: استوفى لَهُ
الْحق، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْوِعَاء، كَأَنَّهُ جمعه فِي
وعائه.
وَشَجر مَا بَين الْقَوْم: اخْتلفُوا، واشتجروا: تنازعوا.
(1/227)
155 - / 175 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي:
كنت يَوْم الْأَحْزَاب مَعَ النِّسَاء فِي أَطَم حسان.
الأطم بِضَم الْألف: بِنَاء من حِجَارَة مَرْفُوع كالقصر
والحصن. وَقَالَ أَبُو عبيد: الأطم: الْحصن، وَجمعه آطام،
وَمثله الأجم وَجمعه آجام، وَهِي لُغَة حجازية.
156 - / 176 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد
البُخَارِيّ:
أَن الزبير قتل وَترك أَرضين من الغابة، وَأَنه خلف خمسين
ألف ألف ومائتي ألف.
الغابة: اسْم مَوضِع.
وَترك هَذِه الْأَمْوَال دَلِيل على أَنه لَا يكره جمع
الْأَمْوَال من حَلَال، وَأَن يخلفها الْإِنْسَان
لِعِيَالِهِ، خلافًا لجهلة المتزهدين.
157 - / 177 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من كذب عَليّ
مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
أصل التبوء من مباءة الْإِبِل: وَهِي أعطانها، يُقَال:
تبوأ لنَفسِهِ مَكَانا: إِذا اتَّخذهُ. وَظَاهر اللَّفْظ
الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر، وَقد يكون ظَاهر اللَّفْظ
الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْأَمر كَقَوْلِه: (والمطلقات
يَتَرَبَّصْنَ
(1/228)
بِأَنْفُسِهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228]
{والوالدات يرضعن} [الْبَقَرَة: 233] .
وَمَعْلُوم أَن الزبير مَا خَافَ تعمد الْكَذِب، إِنَّمَا
خَافَ الزلل.
158 - / 179 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لقِيت يَوْم بدر
عُبَيْدَة - وَيُقَال عَبدة - بن سعيد بن الْعَاصِ وَهُوَ
مدجج لَا ترى مِنْهُ إِلَّا عَيناهُ، وَكَانَ يكنى أَبَا
ذَات الكرش، فَقَالَ: أَنا أَبُو ذَات الكرش، فَحملت
عَلَيْهِ بالعنزة، فطعنته فِي عينه فَمَاتَ، وَلَقَد وضعت
رجْلي عَلَيْهِ، ثمَّ تمطيت فَكَانَ الْجهد أَن نزعتها
وَقد انثنى طرفها.
المدجج: المغطى بِالسِّلَاحِ.
والعنزة: الحربة.
وتمطيت: أَي تمددت، وَهُوَ مَأْخُوذ من المطا وَهُوَ
الظّهْر، فالمتمطي يمد ظَهره. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أصل
يتمطى يتمطط، فقلبت الطَّاء فِيهِ يَاء، كَمَا قَالُوا
يتظنى وَالْأَصْل يتظنن، وَمِنْه المشية الْمُطَيْطَاء،
وأصل الطَّاء فِي هَذَا كُله دَال يُقَال: مططت ومددت
بِمَعْنى.
قَوْله: وَكَانَ الْجهد أَن نزعتها - يَعْنِي الحربة.
والجهد بِالْفَتْح: الْمَشَقَّة. والجهد بِالضَّمِّ:
الطَّاقَة، وَبَعْضهمْ يَقُول لُغَتَانِ بِمَعْنى.
159 - / 180 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قَالُوا للزبير
يَوْم اليرموك: أَلا تشد فنشد مَعَك. قَالَ: إِنِّي إِن
شددت كَذبْتُمْ.
اليرموك: وقْعَة كَانَت فِي خلَافَة عمر.
(1/229)
وَمعنى قَوْله: كَذبْتُمْ: أَي حملتم ثمَّ
عدتم. يُقَال: كذب الرجل فِي الْقِتَال، وَهَلل وعرد: إِذا
حمل ثمَّ رَجَعَ.
160 - / 181 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ضربت للمهاجرين
يَوْم بدر بِمِائَة سهم.
أَي عَنْهُم.
161 - / 182 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ سيف الزبير
محلى بِفِضَّة.
اعْلَم أَن الْيَسِير من الْفضة إِذا كَانَ قَائِما مقَام
مَا لَا غناء لَهُ عَنهُ من الصفر والنحاس وَغَيره جَازَ،
كقبيعة السَّيْف، وشعيرة السكين، وتشعيب قدح، وَإِن لم يكن
إِلَى ذَلِك اليسيرحاجة كالحلقة فِي الْإِنَاء لم يجز،
فَإِن كَانَ كثيرا حرم على كل حَال. وَقَالَ أَصْحَاب
الشَّافِعِي: إِن كَانَ يَسِيرا يحْتَاج إِلَيْهِ كإصلاح
مَوضِع كسر فَهُوَ مُبَاح، فَأَما إِذا لم يحْتَج إِلَيْهِ
فَمنهمْ من أَبَاحَهُ وَمِنْهُم من كرهه. وَأما إِذا كَانَ
كثيرا: فَإِن احْتِيجَ إِلَيْهِ فَهُوَ مَكْرُوه عِنْدهم،
وَإِن لم يحْتَج إِلَيْهِ فَحَرَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَدَاوُد: لَا يكره ذَلِك، كثيرا كَانَ أَو يَسِيرا.
(1/230)
كشف الْمُشكل من مُسْند سعد بن أبي وَقاص
واسْمه مَالك بن وهيب، أسلم قَدِيما، وَقَالَ: كنت ثَالِثا
فِي الْإِسْلَام وَأَنا أول من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل
الله، وَلم يفته مشْهد مَعَ رَسُول الله.
وروى عَنهُ مِائَتي حَدِيث وَسبعين حَدِيثا، أخرج لَهُ
مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ.
162 - / 183 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
قَوْله: كنت أُصَلِّي بهم صَلَاة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا أخرم عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاتي
الْعشي، فأركد فِي الأولتين، وأخف فِي الأخرتين.
قَوْله: لَا أخرم: أَي لَا أترك وَلَا أنقص.
وصلاتا الْعشي الظّهْر وَالْعصر؛ لِأَن الفدو من أول
النَّهَار إِلَى وَقت الزَّوَال، والعشي من عِنْد
الزَّوَال إِلَى الْمغرب.
وأركد: أثبت وأسكن. يُقَال: مَاء راكد: أَي وَاقِف.
والركعتان الأوليان هما الأَصْل فِي الصَّلَاة، فَلهَذَا
تطول.
(1/231)
163 - / 184 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي:
أعْطى رَسُول الله رهطا وَأَنا جَالس، فَترك مِنْهُم رجلا
هُوَ أعجبهم إِلَيّ، فَقُمْت فَقلت: مَالك عَن فلَان؟
وَالله إِنِّي لأراه مُؤمنا. فَقَالَ رَسُول الله: " أَو
مُسلما " ثمَّ قَالَ: " إِنِّي لأعطي الرجل وَغَيره أحب
إِلَيّ مِنْهُ خشيَة أَن يكب فِي النَّار على وَجهه ".
الرَّهْط: جمَاعَة دون الْعشْرَة.
وَقَوله: مَالك عَن فلَان؟ : أَي مَالك أَعرَضت عَنهُ فَلم
تعطه.
وَهَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي الْفرق بَين الْإِسْلَام
وَالْإِيمَان، وَذَلِكَ أَن الْإِسْلَام الْإِقْرَار
بِاللِّسَانِ، وَالْإِيمَان الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ.
وَقَوله: " أعطي الرجل وَغَيره أحب إِلَيّ خشيَة أَن يكب
فِي النَّار " كَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى الْمُؤَلّفَة، أَو
إِلَى من إِذا منع نسب الرَّسُول إِلَى الْبُخْل،
فَاسْتحقَّ بِهَذِهِ النِّسْبَة النَّار.
164 - / 185 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: جَاءَنِي رَسُول
الله يعودنِي، فَقلت: أَتصدق بِثُلثي مَالِي؟ قَالَ: " لَا
" قلت: فَالشَّطْر؟ قَالَ " لَا ".
الشّطْر: النّصْف.
وَقَوله: " إِنَّك أَن تذر وَرثتك " سمعناه من رُوَاة
الحَدِيث بِكَسْر " إِن " وَقَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد عبد
الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ بِفَتْح الْألف
وَلَا يجوز الْكسر؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَاب لَهُ. وَمثله
قَوْله تَعَالَى:
(1/232)
{وَأَن تَصُومُوا خير لكم} [الْبَقَرَة:
184] .
والعالة: الْفُقَرَاء، جمع عائل وَهُوَ الْفَقِير.
وَمعنى يَتَكَفَّفُونَ: يمدون الأكف سائلين. يُقَال: تكفف
واستكف: إِذا مد كَفه سَائِلًا. وَفِي هَذَا اسْتِحْبَاب
تخليف المَال للْوَرَثَة.
وَقَوله: " تبتغي بهَا وَجه الله " يَعْنِي الْإِخْلَاص،
فعلق الْأجر بالإخلاص.
وَقَوله: " وَلَكِن البائس سعد بن خَوْلَة " البائس: ذُو
الْبُؤْس. فعده من جملَة الْمَسَاكِين والفقراء لما
فَاتَهُ من الْفضل لَو مَاتَ فِي غير مَكَّة، وَذَلِكَ أَن
الْمُهَاجِرين هجروا مَكَّة فِي الله عز وَجل فكرهوا أَن
تكون حياتهم ومماتهم فِي مَكَان هجروه لله عز وَجل، فَيكون
ذَلِك كالعود فِيمَا تركُوا.
فَأَما ابْن خَوْلَة فَإِن الْجَمَاعَة يَقُولُونَ: سعد بن
خَوْلَة، سوى أبي معشر فَإِنَّهُ يَقُول: ابْن خولى.
وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا. وَاتفقَ أَنه خرج إِلَى مَكَّة
فَمَاتَ بهَا، وَكَانَ يكره لمن هَاجر من مَكَّة أَن يرجع
إِلَى مَكَّة فيقيم بهَا أَكثر من انْقِضَاء نُسكه، ليبين
أثر الْهِجْرَة.
وَقَوله: أخلف بعد أَصْحَابِي؟ أَي يرحلون عني وَأبقى
بِمَكَّة.
وَفِي قَوْله: " اللَّهُمَّ اشف سَعْدا " دَلِيل على
اسْتِحْبَاب الدُّعَاء للْمَرِيض بالعافية.
(1/233)
وَقَوله: إِن نَفَقَتك على عِيَالك صَدَقَة
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الْمَعْنى: يكْتب
لَك بذلك أجر الصَّدَقَة. وَالثَّانِي: أَنه لما أَرَادَ
أَن يتَصَدَّق بِمَالِه أخبرهُ أَن مَا يَنَالهُ من
الْعِيَال فِيهِ أجر، كَمَا أَن فِي الصَّدَقَة أجرا.
165 - / 186 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أعظم الْمُسلمين
فِي الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء لم يحرم على
النَّاس فَحرم من أجل مَسْأَلته.
هَذَا مَحْمُول على من سَأَلَ عَن الشَّيْء عنتا أَو
عَبَثا فَعُوقِبَ لسوء قَصده بِتَحْرِيم مَا سَأَلَ عَنهُ،
وَالتَّحْرِيم يعم.
166 - / 187 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: مَا سَمِعت
رَسُول الله قَالَ لأحد يمشي على الأَرْض إِنَّه من أهل
الْجنَّة إِلَّا لعبد الله بن سَلام، وَفِيه نزلت: {وَشهد
شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله} [الْأَحْقَاف: 10]
قَالَ الرَّاوِي: لَا أَدْرِي قَالَ مَالك الْآيَة أَو فِي
الحَدِيث.
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول سعد هَذَا وَقد علم أَن
رَسُول الله قد شهد لجَماعَة من الصَّحَابَة بِالْجنَّةِ
وَسعد مِنْهُم؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون سعد لم يسمع ذَلِك، فَإِن حَدِيث
الْعشْرَة أَنهم فِي الْجنَّة يرويهِ عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف، وَيَرْوِيه سعيد بن زيد.
وَالثَّانِي: أَن يُشِير بذلك إِلَى غير الْعشْرَة، فَإِن
أَمر الْعشْرَة مستفيض.
(1/234)
وَأما قَوْله: {وَشهد شَاهد من بني
إِسْرَائِيل} فأنبأنا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ:
أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر
أَحْمد بن عَليّ الْحَافِظ قَالَ: ذكر الْآيَة من قَول أنس
بن مَالك، رَوَاهُ عبد الله بن وهب عَن مَالك،
وَالزِّيَادَة فِيهِ مبينَة مفصولة من الحَدِيث.
وَأما الشَّاهِد فَهُوَ عبد الله بن سَلام.
وَإِسْرَائِيل: يَعْقُوب، وَفِيه لُغَات: إِسْرَائِيل،
وإسرائين، وإسرال.
وَقَوله: {على مثله} الْمثل صلَة، وَالْمعْنَى: شهد على
أَن هَذَا الْقُرْآن من عِنْد الله.
167 - / 188 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " من تصبح بِسبع
تمرات عَجْوَة لم يضرّهُ ذَلِك الْيَوْم سم وَلَا سحر "
وَفِي لفظ: " من عَجْوَة الْعَالِيَة " وَفِي لفظ " من أكل
سبع تمرات مِمَّا بَين لابتيها ".
معنى تصبح: أكلهن وَقت الصَّباح قبل أَن يَأْكُل شَيْئا.
والعجوة: نوع من التَّمْر يكون بِالْمَدِينَةِ. والعالية:
مَكَان قريب من الْمَدِينَة.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَكَونهَا عوذة من
السم وَالسحر إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق التَّبَرُّك
لدَعْوَة من الرَّسُول سبقت فِيهَا، لَا لِأَن من طبع
التَّمْر أَن يصنع شَيْئا من ذَلِك.
وَقَوله: " مَا بَين لابتيها " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
اللابة: الْحرَّة، وَهِي
(1/235)
الأَرْض الَّتِي قد ألبستها حِجَارَة سود.
وَجمع اللابة لابات، مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْر،
فَإِذا كثرت فَهِيَ اللاب واللوب. وَمثله قارة وقور، وساحة
وسوح.
168 - / 189 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: اسْتَأْذن عمر
على النَّبِي وَعِنْده نسْوَة يسألنه ويستكثرنه.
أَي يطلبن مِنْهُ الْكثير، وَإِنَّمَا علت أصواتهن لعلمهن
بصفحه وحلمه.
وَقَوله: " إيه " كلمة تقال عَن استزادة الحَدِيث. وإيها
عِنْد الْأَمر بالكف.
والفج وَاحِد الفجاج، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ
المسالك. وَقَالَ الزّجاج: كل منخرق بَين جبلين فَهُوَ فج.
169 - / 190 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: خلف رَسُول الله
عَليّ بن أبي طَالب فِي غَزْوَة تَبُوك، فَقَالَ: يَا
رَسُول الله، أتخلفني فِي النِّسَاء وَالصبيان! فَقَالَ: "
أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى،
غير أَنه لَا نَبِي بعدِي ".
لما شبهه فِي تخليفه إِيَّاه بهَارُون حِين خَلفه مُوسَى،
خَافَ أَن يتَأَوَّل متأول فيدعي النُّبُوَّة لعَلي
عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: " غير أَنه لَا نَبِي بعدِي
"
(1/236)
وَإِنَّمَا كَانَت خلَافَة هَارُون فِي
وَقت خَاص فِي حَيَاة مُوسَى.
170 - / 191 - الحَدِيث التَّاسِع: عَن مُصعب بن سعد
قَالَ: صليت إِلَى جنب أبي، فطبقت بَين كفي ثمَّ وَضَعتهَا
بَين فَخذي، فنهاني عَن ذَلِك وَقَالَ: كُنَّا نَفْعل
هَذَا فنهينا عَنهُ، وأمرنا أَن نضع أَيْدِينَا على الركب.
كَانُوا يلصقون الرَّاحَة بالراحة ويضعونهما بَين الفخذين
فَوق الركب، وَكَانَ ذَلِك يُسمى التطبيق، فنهوا عَن ذَلِك
وَأمرُوا بِوَضْع الْكَفَّيْنِ على الركب، وَهُوَ أمكن
للْمُصَلِّي.
171 - / 193 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: رد رَسُول
الله على عُثْمَان ابْن مَظْعُون التبتل، وَلَو أذن لَهُ
لاختصينا. أصل التبتل الِانْقِطَاع. يُقَال: بتلت الشَّيْء
أبتله: إِذا أبنته عَن غَيره وَمِنْه: طلق الرجل زَوجته
بتة بتلة. والمتبتل: الْمُنْقَطع إِلَى الله عز وَجل.
وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا الِانْقِطَاع عَن النِّسَاء
وَترك النِّكَاح، وَمِنْه قيل لِمَرْيَم الْعَذْرَاء:
البتول، لانقطاعها عَن التَّزْوِيج. وَإِنَّمَا نهى
نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التبتل ليكْثر
الموحدون وَالْمُجَاهِدُونَ.
والاختصاء: نزع الخصى.
172 - / 194 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: نثل رَسُول
الله كِنَانَته.
(1/237)
أَي أخرج مَا فِيهَا من النبل.
قَوْله: وَكَانَ رجل قد أحرق الْمُسلمين: أَي بَالغ فِي
أذاهم.
قَوْله: فَضَحِك حَتَّى نظرت إِلَى نَوَاجِذه. قَالَ ابْن
قُتَيْبَة: قَالَ أَبُو زيد للْإنْسَان أَربع ثنايا
وَأَرْبع رباعيات، الْوَاحِدَة ربَاعِية مُخَفّفَة.
وَأَرْبَعَة أَنْيَاب، وَأَرْبَعَة ضواحك، واثنتا عشرَة
رحى، ثَلَاث فِي كل شقّ، وَأَرْبَعَة نواجذ وَهِي أقصاها.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي مثل ذَلِك كُله، إِلَّا أَنه جعل
الأرحاء ثمانيا: أَرْبعا من فَوق وأربعا من أَسْفَل.
والناجذ: ضرس الْحلم، يُقَال: رجل منجذ: إِذا أحكم
الْأُمُور، وَذَلِكَ مَأْخُوذ من الناجذ. والنواجذ
للْإنْسَان بِمَنْزِلَة القارح من الْفرس: وَهِي الأنياب
من ذَوَات الْخُف. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي:
النواجذ: آخر الأضراس، وَاحِدهَا نجذ، وَلَا تبدو إِلَّا
عِنْد الشَّديد من الضحك، وَفِي الْفَم اثْنَان
وَثَلَاثُونَ سنا: ثنيتان من فَوق، وثنيتان من تَحت،
ورباعيتان من فَوق، ورباعيتان من تَحت، ونابان من فَوق،
ونابان من تَحت، وضاحكان من فَوق، وضاحكان من تَحت،
وَثَلَاث أرحاء من فَوق، وَثَلَاث أرحاء من تَحت فِي
الْجَانِب الْأَيْمن، وَفِي الْجَانِب الْأَيْسَر. وناجذان
فِي الْجَانِب الْأَيْمن، وناجذان فِي الْجَانِب
الْأَيْسَر. وَيُقَال لما بَين الثَّنية والأضراس:
الْعَارِض، قَالَ جرير:
(أَتَذكر يَوْم تصقل عارضيها ... 000000000)
(1/238)
وَقد رتبها بعض أهل اللُّغَة فَقَالَ:
الثنايا أَربع: اثْنَتَانِ من فَوق، وَاثْنَتَانِ من تَحت،
ثمَّ يليهن الرباعيتان: اثْنَتَانِ من فَوق، وَاثْنَتَانِ
من تَحت، ثمَّ يليهن الأنياب وَهِي أَربع، ثمَّ يليهن
الأضراس وَهِي عشرُون، من كل جَانب من الْفَم خَمْسَة من
أَسْفَل وَخَمْسَة من فَوق، مِنْهَا الضواحك وَهِي
أَرْبَعَة أضراس تلِي الأنياب، إِلَى جنب كل نَاب من
أَسْفَل الْفَم وَأَعلاهُ ضَاحِك، ثمَّ بعد الضواحك
الطواحن، وَيُقَال لَهَا الأرحاء، وَهِي اثْنَا عشر طاحنا
من كل جَانب ثَلَاثَة، ثمَّ يَلِي الطواحن النواجذ، وَهِي
آخر الْأَسْنَان، من كل جَانب من الْفَم وَاحِد من فَوق
وَوَاحِد من أَسْفَل.
173 - / 196 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: كُنَّا نغزو
مَعَ رَسُول الله مالنا طَعَام إِلَّا ورق الحبلة وَهَذَا
السمر، حَتَّى إِن كَانَ أَحَدنَا ليضع كَمَا تضع الشَّاة،
مَاله خلط، ثمَّ أَصبَحت بَنو أَسد تعزرني على
الْإِسْلَام.
الحبلة بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْبَاء - كَذَلِك قَالَ
أَبُو عبيد وَغَيره: وَهِي ثَمَر الْعضَاة، والعضاة: كل
شجر من شجر الشوك كالطلح والعوسج. قَالَ ابْن قُتَيْبَة:
والحبلة أَيْضا: ضرب من الْحلِيّ يكون فِي القلائد، قَالَ
النمر بن تولب:
(1/239)
(وكل حليل عَلَيْهِ الرعاث ... والحبلات
كذوب ملق)
وَإِنَّمَا قيل لَهُ حبلة لِأَنَّهُ يصاغ على مِثَال ثَمَر
الْعضَاة.
والسمر: شجر الطلح.
وَقَوله: مَاله خلط: أَي من اليبس وقشف الْعَيْش.
وتعزرني: تؤدبني، وَمِنْه التَّعْزِير الَّذِي هُوَ
التَّأْدِيب على التَّفْرِيط. وَالْمعْنَى: يعلمونني
الصَّلَاة، ويعيرونني بِأَنِّي لَا أحْسنهَا. وَقَالَ
أَبُو عمر الزَّاهِد: يعلمونني الْفِقْه.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ مدح هَذَا الرجل نَفسه وَمن
شَأْن الْمُؤمن التَّوَاضُع؟
فَالْجَوَاب: أَنه إِذا اضْطر الْإِنْسَان إِلَى إِظْهَار
فَضله حسن إِظْهَاره، كَمَا قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ
السَّلَام: {إِنِّي حفيظ عليم} [يُوسُف: 55] فَهَذَا لما
عيره الْجُهَّال اضْطر إِلَى ذكر فَضله.
وَاعْلَم أَن المدحة إِذا خلت عَن الْبَغي والاستطالة على
أهل الْحق، وَكَانَ مَقْصُود قَائِلهَا إِقَامَة حق أَو
إبِْطَال جور أَو إِظْهَار نعْمَة، لم يلم. فَلَو أَن
قَائِلا: إِنِّي لحافظ لكتاب الله، عَالم بتفسيره وبالفقه
فِي الدّين، يقْصد بِهَذَا إِظْهَار الشُّكْر، أَو
تَعْرِيف المتعلم مَا عِنْده ليستفيده، إِذْ لَو لم يبين
ذَلِك لم يعلم مَا عِنْده فَلم يطْلب، لم يستقبح ذَلِك.
وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام:
{إِنِّي حفيظ عليم} وَقَالَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام: "
أَنا أكْرم ولد آدم على ربه ". وَقَالَ عمر حِين أعْطى
السَّائِل
(1/240)
قَمِيصه: وَالله لَا أملك غَيره. وَقَالَ
عَليّ: سلوني عَن كتاب الله، فو الله مَا من آيَة إِلَّا
وَأَنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار، أم فِي سهل نزلت أم فِي
جبل. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: وَالله مَا نزلت فِي
الْقُرْآن سُورَة إِلَّا أَنا أعلم حَيْثُ أنزلت، وَلَو
أعلم أحدا أعلم مني بِكِتَاب الله تبلغه الْإِبِل لأتيته،
وَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر: أَنا جذيلها المحكك،
وعذيقها المرجب. وَقَالَ الْأَحْنَف بن قيس: مَا جلس
إِلَيّ اثْنَان قطّ ثمَّ انصرفا من عِنْدِي فذكرتهما
بِسوء. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: قَرَأت الْقُرْآن فِي
رَكْعَة فِي الْكَعْبَة. وَقَالَ مُورق الْعجلِيّ: مَا قلت
فِي الْغَضَب شَيْئا قطّ فندمت عَلَيْهِ فِي الرِّضَا.
وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ: مَا تركت سَارِيَة فِي
الْجَامِع إِلَّا صليت عِنْدهَا وبكيت عِنْدهَا.
وَقد كَانَت الْجَاهِلِيَّة تصف محاسنها لتبعث على
الِاقْتِدَاء بهَا. قَالَ حَاتِم طَيء: وَالله مَا خاتلت
جَارة لي قطّ، وَلَا ائتمنت على أَمَانَة إِلَّا أديتها،
وَلَا أُتِي أحد قطّ من قبلي بِسوء، وَقَالَ:
(وَلَا تشتكيني جارتي، غير أنني ... إِذا غَابَ عَنْهَا
بَعْلهَا لَا أزورها)
(سيبلغها خيري وَيرجع بَعْلهَا ... إِلَيْهَا، وَلم تقصر
عَليّ ستورها)
(1/241)
وَقَالَ الآخر:
(وَإِنَّا لقوم مَا نرى الْقَتْل سبة ... إِذا مَا
رَأَتْهُ عَامر وسلول)
(يقصر حب الْمَوْت آجالنا لنا ... وتكرهها آجالهم فتطول)
(وَمَا مَاتَ منا ميت فِي فرَاشه ... وَلَا طل منا -
حَيْثُ كَانَ - قَتِيل)
(تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وَلَيْسَت على غير الظبات
تسيل)
(وَإِن قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... خطانا إِلَى
أَعْدَائِنَا فتطول)
(وإيامنا مَعْلُومَة فِي عدونا ... لَهَا غرر مَشْهُورَة
وحجول)
(وأسيافنا فِي كل شَرق ومغرب ... بهَا من قراع الدارعين
فلول)
(معودة أَلا تسل نصالها ... فتغمد حَتَّى يستباح قبيل)
وَقَالَ الآخر:
(أيا ابْنة عبد الله وَابْنَة مَالك ... وَيَا بنت ذِي
البردين وَالْفرس الْورْد)
(إِذا مَا صنعت الزَّاد فالتمسي لَهُ ... أكيلا، فَإِنِّي
لست آكله وحدي)
(وَكَيف يسيغ الْمَرْء زادا وجاره ... خَفِيف المعى بَادِي
الْخَصَاصَة والجهد)
(وَإِنِّي لعبد الضَّيْف مَا دَامَ ثاويا ... وَمَا فِي
إِلَّا تِلْكَ من شِيمَة العَبْد)
(1/242)
174 - / 197 - الحَدِيث الْخَامِس عشر: "
لَا يكيد أهل الْمَدِينَة أحد إِلَّا امّاع كَمَا يماع
الْملح فِي المَاء ".
الكيد: الْمَكْر وَالْحِيلَة وَالِاجْتِهَاد فِي المساءة.
وَالْمَدينَة دَار الْهِجْرَة، وَقد سبق معنى هَذَا
الِاسْم فِي مُسْند أبي بكر.
وَذكرنَا " اللابة " آنِفا، وَالْمَدينَة بَين لابتين.
وَقَوله: " بَارك لَهُم فِي مدهم " الْمَدّ: مكيال
مَعْرُوف قدره رَطْل وَثلث بالعراقي وَقد سبق ذكر تَحْرِيم
الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
175 - / 198 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد
البُخَارِيّ:
لقد رَأَيْتنِي وَأَنا ثلث الْإِسْلَام: يَعْنِي ثَالِث
الْمُسلمين.
176 - / 200 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " أعوذ بك من
الْبُخْل والجبن، وَأَن أرد إِلَى أرذل الْعُمر، وَمن
فتْنَة الدَّجَّال ".
أما الْبُخْل فَهُوَ أَن يضن الْإِنْسَان بِمَالِه أَن
يبذله فِي اللوازم أَو المكارم.
والجبن ضد الشجَاعَة، وَإِنَّمَا يكون من ضعف الْقلب وخسة
النَّفس. والشجاعة تنبعث من قُوَّة الْقلب وَعز النَّفس.
(1/243)
وأرذل الْعُمر: أردؤه، وَهِي حَالَة
الْهَرم.
والدجال: الْكذَّاب، وَالْمرَاد بِهِ الْمَسِيح الْخَارِج
فِي آخر الزَّمَان.
177 - / 201 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ سعد فِي
قَوْله تَعَالَى: {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا}
[الْكَهْف: 103] هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
قَالَ: والحرورية: الَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
إِنَّمَا خسرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى لأَنهم تعبدوا على
غير أصل صَحِيح، فخسروا الْأَعْمَال. والحرورية الَّذِي
قَاتلُوا عليا عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد سبق وَصفهم،
فَلَمَّا خالفوا مَا عهد إِلَيْهِم فِي الْقُرْآن من
طَاعَة أولي الْأَمر بعد إقرارهم بِهِ، كَانَ ذَلِك نقضا
مِنْهُم.
178 - / 202 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن سَعْدا رأى
أَن لَهُ فضلا على من دونه، فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: " هَل تنْصرُونَ وترزقون إِلَّا بضعفائكم
".
إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِي كسر سورته فِي اعْتِقَاده فَضله
على غَيره ليستعمل التَّوَاضُع والذل، فَأعلمهُ أَن
الضُّعَفَاء فِي مقَام انكسار وذل، وَهُوَ المُرَاد من
العَبْد، وَهُوَ الْمُقْتَضِي للرحمة والإنعام.
179 - / 203 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل الوزغ،
وَسَماهُ فويسقا.
أصل الْفسق: الْخُرُوج، وَقد سميت الْفَأْرَة فويسقة
لخروجها من
(1/244)
جحرها على النَّاس، كَذَلِك قَالَ الْفراء
وَغَيره. فَلَمَّا كَانَ الوزغ يخرج من جُحْره فيؤذي
النَّاس سَمَّاهُ فويسقا، وَيُمكن أَن يُقَال لما صدر
مِنْهُ الْأَذَى كَمَا يصدر من الْفَاسِق سمي بذلك.
180 - / 204 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كنت أرى النَّبِي
يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره حَتَّى أرى بَيَاض خَدّه.
ظَاهر هَذَا الْفِعْل يدل على وجوب التَّسْلِيم، وَهُوَ
مَذْهَب أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب، بل يخرج
من الصَّلَاة بِكُل مَا ينافيها، وَيدل على أَن التسليمة
الثَّانِيَة وَاجِبَة، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا سنة، وَهُوَ
قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي " الْجَدِيد ".
وَقَالَ مَالك: السّنة الِاقْتِصَار على وَاحِدَة.
181 - / 205 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " الحدوا لي
لحدا، وانصبوا عَليّ اللَّبن نصبا كَمَا صنع برَسُول الله
".
اللَّحْد: شقّ فِي جَانب الْقَبْر، وَمِنْه الْإِلْحَاد:
وَهُوَ الْميل عَن الاسْتقَامَة فِي الدّين. وَفِي حَدِيث
جرير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: "
اللَّحْد لنا، والشق لغيرنا " وَإِنَّمَا يكون الشق فِي
وسط الْقَبْر، وَهُوَ فعل الْيَهُود، فَإِذا كَانَ لحدا
كَانَ اللَّبن منتصبا.
(1/245)
182 - / 206 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع:
أَن سَعْدا ركب إِلَى قصره بالعقيق، فَوجدَ عبدا يقطع
شَجرا أَو يخبطه، فسلبه، فَلَمَّا رَجَعَ سعد جَاءَهُ أهل
العَبْد فكلموه أَن يرد عَلَيْهِم غلامهم، فَقَالَ: معَاذ
الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله.
العقيق: اسْم مَوضِع، بَينه وَبَين الْمَدِينَة عشرَة
أَمْيَال، وَبِه مَاتَ سعد وَحمل إِلَى الْمَدِينَة، فَصلي
عَلَيْهِ وَدفن بهَا.
الْخبط بتسكين الْبَاء: ضرب الشّجر بعصا ليسقط ورقه، وَاسم
الْوَرق السَّاقِط خبط بِفَتْح الْبَاء، والضارب مختبط.
وَقَوله: فسلبه: أَي أَخذ ثِيَابه.
ونفلنيه: أعطانيه. وَهَذَا كَانَ فِي حرم الْمَدِينَة.
وَقد بَينا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَن
جَزَاء صيدها وَقطع شَجَرهَا سلب الْقَاتِل، يَتَمَلَّكهُ
الَّذِي يسلبه. وَمَا كَانَ سعد شَرها إِلَى مثل تملك
الثِّيَاب، وَلَكِن أَرَادَ أَن يعلم حُرْمَة الْمَكَان،
وَيظْهر الْعقُوبَة على ذَلِك، فيكف النَّاس.
183 - / 208 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: مَا مَنعك أَن
تسب أَبَا تُرَاب؟
إِنَّمَا كني عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام بِأبي تُرَاب،
لِأَنَّهُ خرج من بَيته يَوْمًا مغاضبا لفاطمة عَلَيْهَا
السَّلَام، فَنَامَ فِي الْمَسْجِد، فجَاء النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهَا عَنهُ، فَأَخْبَرته،
فَدخل الْمَسْجِد فَرَآهُ نَائِما وَبَعض جسده على
(1/246)
التُّرَاب، فَقَالَ: " قُم أَبَا تُرَاب "
وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل ابْن سعد.
وَقَوله: " أحب إِلَيّ من حمر النعم ". قَالَ أَبُو بكر
الْأَنْبَارِي: النعم: الْإِبِل، وحمرها: كرامها وأعلاها
منزلَة. وَالنعَم فِي قَول بَعضهم لَا يَقع إِلَّا على
الْإِبِل، والأنعام يَقع على الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم،
فَإِذا انْفَرَدت الْإِبِل قيل لَهَا نعم وأنعام، وَإِذا
انْفَرَدت الْبَقر وَالْغنم لم يقل لَهَا نعم وَلَا أنعام.
وَقَالَ آخَرُونَ: النعم والأنعام بِمَعْنى وَاحِد،
وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس:
(أكل عَام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه)
وَقَالَ عز وَجل {وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم
مِمَّا فِي بطونها} [الْمُؤْمِنُونَ: 21] فَذكر الْهَاء
لِأَنَّهُ حمل الْأَنْعَام على معنى النعم كَمَا قَالَ
الشَّاعِر:
(بَال سُهَيْل فِي الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللقَاح
وَبرد)
أَرَادَ: وطاب لبن اللقَاح.
(1/247)
184 - / 209 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع:
كَانَ سعد فِي إبِله فجَاء ابْنه عمر، فَلَمَّا رَآهُ سعد
قَالَ: أعوذ بِاللَّه من شَرّ هَذَا الرَّاكِب.
قلت: لقد نظر سعد فِي ابْنه عمر بِنور الله عز وَجل،
فَإِنَّهُ كَانَ لَا خير فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي تولى قتال
الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: إِن الله يحب التقي الْغَنِيّ الْخَفي. اعْلَم
أَن صَاحب القناعة هُوَ الْغَنِيّ وَلَيْسَ بالكثير
المَال؛ فَإِن الْغنى غنى النَّفس، وَالْإِشَارَة بالخفي
إِلَى خمول الذّكر، وَالْغَالِب على الخامل السَّلامَة.
185 - / 210 - الحَدِيث الثَّامِن: " إِنِّي أحرم مَا بَين
لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها ".
قد فسرنا اللابة فِي الحَدِيث السَّادِس من هَذَا الْمسند،
وَذكرنَا الْعضَاة فِي الحَدِيث الرَّابِع عشر، وتكلمنا
فِي تَحْرِيم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام.
" وَالْمَدينَة خير لَهُم " إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن
أَقْوَامًا كَانُوا يستوخمون الْمَدِينَة ويصعب عَلَيْهِم
شدائدها.
وَقَوله: " لَا يَدعهَا أحد رَغْبَة " إِنَّمَا كَانَ
هَذَا فِي حَيَاته عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ من خرج
يرغب عَن جواره، فَأَما بعد وَفَاته فقد خرج خلق كثير من
خِيَار أَصْحَابه.
واللأواء: شدَّة الْحَال.
والجهد: الْمَشَقَّة.
(1/248)
186 - / 211 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: "
سَأَلت رَبِّي أَلا يهْلك أمتِي بِالسنةِ فَأَعْطَانِيهَا،
وَسَأَلته أَلا يَجْعَل بأسهم بَينهم فَمَنَعَنِيهَا ".
السّنة: الجدب. والبأس: الشجَاعَة والشدة فِي الْحَرْب.
وَالْمرَاد أَلا يقتتل الْمُسلمُونَ، وَإِنَّمَا يَقع
قِتَالهمْ على الدُّنْيَا، لأَنهم قد اجْتَمعُوا فِي
الدّين.
187 - / 212 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " لِأَن يمتلئ
جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى يرِيه خير لَهُ من أَن يمتلئ
شعرًا ".
الْقَيْح: الْمدَّة لَا يخالطها دم، يُقَال: قاح الْجرْح
يقيح.
قَالَ أَبُو عبيد: يرِيه، من الوري، يُقَال مِنْهُ: رجل
موري: وَهُوَ أَن يدوى جَوْفه، قَالَ العجاج:
(عَن قلب ضجم توري من سبر ... )
يصف الْجِرَاحَات، شبهها بِالْقَلْبِ: وَهِي الْآبَار،
يَقُول: إِن سبرها إِنْسَان أَصَابَهُ الوري من شدتها.
وَقَالَ عبد بني الحسحاس:
(وراهن رَبِّي مثل مَا قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن
المكاويا)
وَقَالَ الراجز:
(1/249)
(قَالَت لَهُ وريا إِذا تنحنحا ... )
وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول على من جعل جَمِيع شغله حفظَة
الشّعْر، فَلم يحفظ شَيْئا من الْقُرْآن وَلَا من الْعلم،
لِأَنَّهُ إِذا امْتَلَأَ الْجوف بالشَّيْء لم يبْق فِيهِ
سَعَة لغيره. قَالَ النَّضر بن شُمَيْل لم تمتلء أجوافنا
من الشّعْر، فِيهَا الْقُرْآن وَغَيره. قَالَ: وَهَذَا
كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأما الْيَوْم فَلَا. وَقَالَ
أَحْمد بن حَنْبَل: أكره من الشّعْر الهجاء وَالرَّقِيق
الَّذِي يشبب بِالنسَاء، فَأَما الْكَلَام الجاهلي فَمَا
أنفعه.
قلت: فَأَما مَا رَوَاهُ الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن
أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا ودما خير لَهُ من
أَن يمتلئ شعرًا هجيت بِهِ " فَإِنَّهُ حَدِيث بَاطِل؛
لِأَن الْكَلْبِيّ لَا يوثق بِهِ، وَحفظ بَيت من ذَلِك
يَكْفِي فِي الذَّم دون تَعْلِيق ذَلِك بملء الْجوف.
وَالصَّحِيح عِنْدِي مَا ذكرته أَولا، وَأَن المُرَاد
بامتلاء الْجوف بالشعر حَتَّى لَا يكون لغيره مَوضِع. وَقد
مدح رَسُول الله الشّعْر بقوله: " إِن من الشّعْر حِكْمَة
" وَكَانَ يسمعهُ ويستنشده، وَكَانَ أَبُو بكر يَقُول
الشّعْر، وَعمر وَعُثْمَان، وَكَانَ عَليّ أشعرهم. وَقَالَ
حبيب بن أبي ثَابت: كَانَ ابْن
(1/250)
عَبَّاس يُعجبهُ شعر زُهَيْر وَيَقْضِي
لَهُ، وَكَانَ مُعَاوِيَة يُعجبهُ شعر عدي وَيَقْضِي لَهُ،
وَكَانَ ابْن الزبير يُعجبهُ شعر عنترة وَيَقْضِي لَهُ.
قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَار ابْن عَبَّاس شعر زُهَيْر
لِأَنَّهُ كَانَ يخْتَار من الشّعْر أَكْثَره أَمْثَالًا
وأدله على الْعلم وَالْخَيْر. وَاخْتَارَ مُعَاوِيَة شعر
عدي لِأَنَّهُ كَانَ كثير الْأَخْبَار. وَاخْتَارَ ابْن
الزبير شعر عنترة لشجاعته.
أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد
بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد
الْمعدل قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الرزاز. قَالَ:
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد قَالَ: حَدثنَا نصر بن
عَليّ قَالَ: حَدثنَا نوح بن قيس عَن يُونُس بن مُسلم عَن
وادع بن الْأسود عَن الشّعبِيّ قَالَ: مَا أروي شَيْئا أقل
من الشّعْر، وَلَو شِئْت لأنشدتكم شهرا لَا أُعِيد.
قلت: وَمَا زَالَ الْعلمَاء يَقُولُونَ الشّعْر ويحفظونه
ويسمعونه، وَقد ذكرت من هَذَا مَا يَكْفِي فِي كتابي
الْمُسَمّى ب " إحكام الْأَشْعَار فِي أَحْكَام
الْأَشْعَار ".
188 - / 213 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: ضرب رَسُول
الله يَده على الْأُخْرَى، وَقَالَ: " الشَّهْر هَكَذَا
وَهَكَذَا " ثمَّ نقص فِي الثَّالِثَة إصبعا.
هَذَا مَحْمُول على أحد مَعْنيين: إِمَّا أَن يُشِير بِهِ
إِلَى الشَّهْر بِعَيْنِه، فَإِنَّهُ آلى من نِسَائِهِ
شهرا، فاتفق ذَلِك تسعا وَعشْرين، فَقَالَ: " الشَّهْر تسع
وَعِشْرُونَ " أَو أَن يُرِيد بِهِ أَنه قد يكون هَكَذَا.
(1/251)
189 - / 214 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
عشر: " الله أكبر كَبِيرا ".
ينْتَصب " كَبِيرا " على وَجْهَيْن: أَحدهمَا على
التَّعْظِيم: تَقْدِيره: أعظم كَبِيرا، وَدلّ على الْفِعْل
الْمَحْذُوف قَوْله: " الله أكبر " لِأَنَّهُ تَعْظِيم.
وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون صفة لمَحْذُوف تَقْدِيره:
تَكْبِيرا كَبِيرا، وَدلّ على هَذَا الْمصدر قَوْله: "
الله أكبر " لِأَن الْمَعْنى أكبر الله تَكْبِيرا. وَقد
كثر مَجِيء " كَبِيرا " صفة للمصدر، من ذَلِك قَوْله
تَعَالَى: {وعتوا عتوا كَبِيرا} [الْفرْقَان: 21] وَمِنْه:
{والعنهم لعنا كَبِيرا} [الْأَحْزَاب: 68] على قِرَاءَة من
قَرَأَ بِالْبَاء.
190 - / 216 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: حَلَفت أم
سعد لَا تكَلمه أبدا حَتَّى يكفر بِدِينِهِ.
كَانَ سعد رَضِي الله عَنهُ برا بِأُمِّهِ، فَلَمَّا أسلم
قَالَت: مَا هَذَا الدّين الَّذِي قد أحدثت، لتدعنه أَو
لَا أكل وَلَا أشْرب حَتَّى أَمُوت فتعير بِي وَيُقَال:
يَا قَاتل أمه. فَقَالَ لَهَا: لَا تفعلي؛ فَإِنِّي لَا
أدع ديني لشَيْء، فَمَكثت ثَلَاثًا لَا تَأْكُل وَلَا تشرب
حَتَّى غشي عَلَيْهَا من الْجهد، فَأَصْبَحت وَقد جهدت،
فَقَالَ لَهَا سعد: وَالله يَا أُمَّاهُ لَو كَانَت لَك
مائَة نفس فَخرجت نفسا نفسا مَا تركت ديني هَذَا لشَيْء،
فَأكلت، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان
بِوَالِديهِ 000} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاك
على أَن تشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم 00} [لُقْمَان:
14 - 15] أَي لتتخذ
(1/252)
معي شَرِيكا لَا تعلمه لي.
وَقَوله: فَإِذا أَرَادوا أَن يطعموها شجروا فاها: أَي
فتحوه بعصا ثمَّ أوجروها. والوجور: مَا أَدخل فِي الْفَم
من دَوَاء أَو غذَاء تستدرك بِهِ الْقُوَّة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث نفلني: أَي أعطنيه من النَّفْل،
وَهُوَ الزِّيَادَة على سهم الْغَنَائِم.
وَالْقَبْض بِفَتْح الْبَاء: اسْم لما قبض من الْمَغَانِم
وَجمع.
والحش: الْبُسْتَان، وَيُقَال بِضَم الْحَاء.
وَقَوله: أَخذ رجل أحد لحيي الرَّأْس. يُرِيد عظم الفك.
والفرز: الشق.
قَوْله: فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخمر
وَالْميسر 000} [الْمَائِدَة: 90] قد ذكرنَا فِي مُسْند
عمر معنى تَسْمِيَة الْخمر خمرًا. فَأَما الميسر فَقَالَ
الزّجاج: إِنَّمَا كَانَ الميسر قمارا فِي الجزر خَاصَّة،
وكل الْقمَار حرَام قِيَاسا عَلَيْهِ. قَالَ ابْن
قُتَيْبَة: يُقَال: يسرت: إِذا ضربت بِالْقداحِ. وَيُقَال
للضارب بِالْقداحِ يَاسر وياسرون وَيسر وأيسار وَكَانَ
أَصْحَاب الثروة والأجواد فِي الشتَاء عِنْد شدَّة
الزَّمَان وكلبه ينحرون جزورا ويجزءونها أَجزَاء، ثمَّ
يضْربُونَ عَلَيْهَا بِالْقداحِ، فَإِذا قمر القامر جعل
ذَلِك لِذَوي الْحَاجة، وَكَانُوا يتمادحون بذلك، ويتسابون
بِتَرْكِهِ، ويعيبون من لَا ييسر.
(1/253)
وَأما الأنصاب فَفِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا أصنام تنصب فتعبد، قَالَه ابْن عَبَّاس
وَالْفراء والزجاج. وَالثَّانِي: حِجَارَة كَانُوا يذبحون
عَلَيْهَا. ويشرحون اللَّحْم عَلَيْهَا ويعظمونها، قَالَه
ابْن جريج.
وَأما الأزلام فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ القداح،
وَاحِدهَا زلم وزلم، وَكَانُوا يضْربُونَ بهَا فيعملون
بِمَا يخرج فِيهَا من أَمر وَنهي قَالَ مُجَاهِد: الأزلام:
سِهَام الْعَرَب. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: الأزلام: حَصى
بيض كَانُوا إِذا أَرَادوا غدوا أَو رواحا كتبُوا فِي قدح:
أَمرنِي رَبِّي، وَفِي آخر: نهاني رَبِّي، ثمَّ يضْربُونَ
بهَا، فَأَيّهمَا خرج عمِلُوا بِهِ. وَقَالَ السّديّ:
وَكَانَت الأزلام تكون عِنْد الكهنة. وَقَالَ مقَاتل: فِي
بَيت الْأَصْنَام.
وَأما الرجس فَقَالَ الزّجاج: هُوَ اسْم لكل مَا استقذر من
عمل. يُقَال: رِجْس الرجل يرجس، ورجس يرجس: إِذا عمل عملا
قبيحا. والرجس بِفَتْح الرَّاء: شدَّة الصَّوْت، فَكَأَن
الرجس الْعَمَل الَّذِي يقبح ذكره ويرتفع فِي الْقبْح،
يُقَال: رعد رجاس: إِذا كَانَ شَدِيد الصَّوْت.
وَقَوله: {من عمل الشَّيْطَان} نِسْبَة ذَلِك إِلَى
الشَّيْطَان تجوز، إِلَّا أَنه لما كَانَ الدَّاعِي
إِلَيْهِ جَازَت النِّسْبَة.
(1/254)
191 - / 217 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس
عشر: فِي الطَّاعُون: " إِن هَذَا الوجع رِجْس وَعَذَاب ".
وَالرجز: الْعَذَاب المقلقل. وَقد ذكرنَا تَفْسِير
الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَوْف.
192 - / 218 - الحَدِيث السَّادِس عشر: " لَا يزَال أهل
الغرب ظَاهِرين على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة ".
كَأَن الْإِشَارَة إِلَى جهادهم للْكفَّار وهم فِي ذَلِك
على الْحق. وَالظَّاهِر: الْغَالِب.
193 - / 219 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سَأَلت
سَعْدا عَن الْمُتْعَة فِي الْحَج، قَالَ: فعلناها وَهَذَا
يَوْمئِذٍ كَافِر بالعرش.
قد ذكرنَا الْمُتْعَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ
السَّلَام.
وَقَوله: وَهَذَا، إِشَارَة إِلَى مُعَاوِيَة، لِأَنَّهُ
كَانَ ينْهَى عَن الْمُتْعَة.
وَالْعرش بِضَم الْعين وَالرَّاء: الْبيُوت، وَأَرَادَ
بيُوت مَكَّة، وَهَذَا مُفَسّر فِي الحَدِيث.
وَقَالَ أَبُو عبيد: سميت بالعرش لِأَنَّهَا عيدَان تنصب
ويظلل عَلَيْهَا، وَاحِدهَا عَرِيش، نَحْو قليب وقلب،
وَالْمعْنَى: وَهُوَ مُقيم بِمَكَّة على
(1/255)
كفره. وَقد غلط بعض قرأة الحَدِيث فَقَالَ:
كَافِر بالعرش، بِفَتْح الْعين وتسكين الرَّاء.
(1/256)
كشف الْمُشكل من مُسْند سعيد بن زيد بن
عَمْرو بن نفَيْل
أسلم قَدِيما، وَلم يفته مشْهد سوى بدر للْعُذْر الَّذِي
ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمَة طَلْحَة.
وروى عَن رَسُول الله ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين حَدِيثا،
أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
194 - / 221 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " الكمأة
من الْمَنّ ".
الكمأة نبت مَعْرُوف.
وَفِي قَوْله: " من الْمَنّ " ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: من الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل. أخبرنَا
عَليّ بن مُحَمَّد بن عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَيُّوب
قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن شَاذان قَالَ: أخبرنَا
أَبُو سهل أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ: حَدثنَا
القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد البرتي
قَالَ: حَدثنَا القواريري قَالَ حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة
عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَمْرو بن سعيد يَعْنِي
ابْن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الكمأة من الْمَنّ الَّذِي أنزل
على بني إِسْرَائِيل ".
(1/257)
أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن
الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ:
حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أبي
قَالَ: حَدثنَا عبد الصَّمد قَالَ: حَدثنِي أبي عَن عَطاء
بن السَّائِب عَن عَمْرو بن حُرَيْث قَالَ: حَدثنِي سعيد
بن زيد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "
الكمأة من السلوى ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا مِمَّا من الله عز وَجل
بِهِ من غير بذر وَلَا تَعب، كَمَا من على بني إِسْرَائِيل
بالمن. قَالَ أَبُو عبيد: إِنَّمَا شبهها بالمن الَّذِي
سقط على بني إِسْرَائِيل؛ لِأَن ذَلِك كَانَ ينزل
عَلَيْهِم عفوا بِلَا علاج، فيصبحون وَهُوَ بأفنيتهم،
فَكَذَلِك الكمأة، لَيْسَ على أحد مِنْهَا مؤونة فِي بذر
وَلَا سقِِي.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا من الْمَنّ الَّذِي يسْقط على
الشّجر فِي بعض الْبِلَاد، يشبه طعمه طعم الْعَسَل فَيجمع،
ذكره أَبُو عبد الله الْحميدِي.
وَقَوله: " وماؤها شِفَاء للعين " فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه مَاؤُهَا حَقِيقَة، إِلَّا أَن أَرْبَاب
هَذَا القَوْل اتَّفقُوا على أَنه لَا يسْتَعْمل بحتا فِي
الْعين. ثمَّ اخْتلفُوا كَيفَ يصنع بِهِ، على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يخلط فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي يكتحل بهَا.
قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: إِنَّه لَيْسَ معنى الحَدِيث
أَن يُؤْخَذ مَاؤُهَا بحتا فيقطر فِي الْعين، وَلكنه
(1/258)
يخلط مَاؤُهَا فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي
تعالج بهَا الْعين. وَيصدق قَول أبي عبيد أَن الْأَطِبَّاء
يَقُولُونَ: أكل الكمأة يجلو الْبَصَر. وَالثَّانِي: أَن
تُؤْخَذ الكماة فتشق وتوضع على الْجَمْر حَتَّى يغلي
مَاؤُهَا، ثمَّ يُؤْخَذ الْميل فَيصير فِي ذَلِك الشق
وَهُوَ فاتر فيكتحل بِمَائِهَا، وَلَا يَجْعَل الْميل فِي
مَائِهَا وَهِي بادرة يابسة، قَالَه إِبْرَاهِيم
الْحَرْبِيّ. قَالَ: وَقَالَ لي صَالح وَعبد الله ابْنا
أَحْمد بن حَنْبَل: إنَّهُمَا اشتكت أعينهما فأخذا كماة
فدقاها وعصراها فاكتحلا بِمَائِهَا، فهاجت أعينها ورمدت.
وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا ذكرنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه إِنَّمَا أَرَادَ المَاء
الَّذِي ينْبت بِهِ، وَهُوَ أول مطر ينزل إِلَى الأَرْض،
فِيهِ تربى الأكحال، قَالَه لنا شَيخنَا أَبُو بكر بن عبد
الله الْبَاقِي. وَقد عصر بعض النَّاس الكماة فداوى بِهِ
عينه فَذَهَبت.
195 - / 222 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن سعيد بن زيد
خاصمته أروى إِلَى مَرْوَان، وَادعت أَنه أَخذ شَيْئا من
أرْضهَا، فَقَالَ: أَنا كنت آخذ من أرْضهَا شبْرًا بعد
الَّذِي سَمِعت من رَسُول الله، سمعته يَقُول: " من أَخذ
شبْرًا من الأَرْض ظلما طوقه من سبع أَرضين " فَقَالَ
مَرْوَان: لَا أَسأَلك بَيِّنَة بعْدهَا.
فِي معنى طوقه ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن يخسف بِهِ الأَرْض بعد مَوته أَو فِي حشره،
فَتَصِير
(1/259)
الْبقْعَة الْمَغْصُوبَة مِنْهَا فِي
عُنُقه كالطوق، وَيُؤَيّد هَذَا حَدِيث ابْن عمر: " خسف
بِهِ إِلَى سبع أَرضين ".
وَالثَّانِي: أَن يُكَلف حمل ذَلِك، فَيكون من تطويق
التَّكْلِيف لَا من تطويق التَّقْلِيد، وَلَيْسَ ذَلِك
بممتنع، فَإِن قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَنه قَالَ: " لَا أَلفَيْنِ أحدكُم يَأْتِي وعَلى
رقبته بعير 000، وعَلى رقبته شَاة ".
وَالثَّالِث: أَن يُرِيد بِهِ تطويق الْإِثْم، وَإِنَّمَا
قَالَ: " من سبع أَرضين " لِأَن حكم أَسْفَل الأَرْض تَابع
لأعلاها.
وَأما قَول مَرْوَان: لَا أَسأَلك بَيِّنَة، أَي لَا
أُرِيد أبين من هَذَا الحَدِيث فِي معنى غصب الأَرْض،
وَإِلَّا فَلَيْسَتْ رِوَايَته للْحَدِيث بَيِّنَة لَهُ.
196 - / 223 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن سعيد
بن زيد قَالَ:
لقد رَأَيْتنِي موثقي عمر على الْإِسْلَام أَنا وَأُخْته،
وَمَا أسلم، وَلَو أَن أحدا انقض - وَقيل: ارْفض - للَّذي
صَنَعْتُم بعثمان لَكَانَ محقوقا أَن ينْقض.
كَانَ سعيد بن زيد زوج أُخْت عمر بن الْخطاب، فجَاء عمر
فَأَغْلَظ لَهما وأوثقهما ليصدهما عَن الْإِسْلَام قبل أَن
يسلم.
أخبرنَا أَبُو بكر بن أبي طَاهِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو
مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر بن حيويه
قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن مَعْرُوف قَالَ:
(1/260)
أخبرنَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا إِسْحَق بن يُوسُف
الْأَزْرَق قَالَ: أخبرنَا الْقَاسِم بن عُثْمَان
الْبَصْرِيّ عَن أنس بن مَالك قَالَ: خرج عمر مُتَقَلِّدًا
السَّيْف، فَلَقِيَهُ رجل من بني زهرَة فَقَالَ: أَيْن
تعمد؟ فَقَالَ: أُرِيد أَن أقتل مُحَمَّدًا. قَالَ: وَكَيف
تأمن فِي بني هَاشم وَبني زهرَة وَقد قتلت مُحَمَّدًا؟
فَقَالَ لَهُ عمر: مَا أَرَاك إِلَّا قد صَبَأت وَتركت
دينك الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَفلا أدلك على
الْعجب يَا عمر، إِن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك، فَمشى
عمر ذامرا حَتَّى أتاهما وَعِنْدَهُمَا خباب بن الْأَرَت،
فَلَمَّا سمع خباب حس عمر توارى فِي الْبَيْت، فَدخل
عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا هَذِه الهينمة الَّتِي سَمعتهَا
عنْدكُمْ؟ قَالَ: وَكَانُوا يقرءُون (طه) . فَقَالَا: مَا
عدا حَدِيثا تحدثناه. قَالَ: فلعلكما قد صبوتما. فَقَالَ
لَهُ ختنه: أَرَأَيْت يَا عمر إِن كَانَ الْحق فِي غير
دينك. فَوَثَبَ عمر على ختنه فوطئه وطئا شَدِيدا، فَجَاءَت
أُخْته فَدَفَعته عَن زَوجهَا، فنفحها نفحة بِيَدِهِ، فدمي
وَجههَا، فَقَالَت وَهِي غَضبى: يَا عمر، إِن كَانَ الْحق
فِي غير دينك اشْهَدْ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، واشهد
أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَلَمَّا يئس عمر قَالَ:
أعطوني هَذَا الْكتاب الَّذِي عنْدكُمْ فأقرؤه، وَكَانَ
عمر يقْرَأ الْكتب، فَقَالَت أُخْته: إِنَّك رِجْس، وَلَا
يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ، فَقُمْ فاغتسل أَو تَوَضَّأ،
فَقَامَ فَتَوَضَّأ، ثمَّ أَخذ الْكتاب فَقَرَأَ: {طه}
حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله: {إِنَّنِي أَنا الله لَا
إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وأقم الصَّلَاة لذكري} [طه: 14]
فَقَالَ عمر: دلوني على مُحَمَّد، فَلَمَّا سمع خباب قَول
عمر خرج من الْبَيْت فَقَالَ: أبشر يَا عمر، فَإِنِّي
أَرْجُو أَن تكون دَعْوَة رَسُول الله لَك لَيْلَة
الْخَمِيس: " اللَّهُمَّ أعز الْإِسْلَام بعمر بن
(1/261)
الْخطاب أَو بعمر بن هِشَام " فَانْطَلق
عمر فَأسلم.
وَأما قَوْله: وَلَو أَن أحدا انقض، فَمَعْنَاه هوى وَسقط.
وَارْفض: تفرق. وَكَانَت الْمُنَاسبَة بَين ذكر مَا
صَنَعُوا بعثمان وَبَين مَا فعل عمر أَن عمر رأى الْخَطَأ
صَوَابا قبل أَن يسلم فِي إيثاق ختنه وَأُخْته على
الْإِسْلَام، فَكَذَلِك من رأى مَا فعل بعثمان صَوَابا.
(1/262)
|