النهاية في غريب الحديث
والأثر الجزء الاول
مُقَدّمَةُ المؤلّفْ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أحْمدُ الله على نعمه بجميع مَحامده، وأُثني عليه بآلائه في بادئ الأمر
وعائِدِه، وأشكره على وافر عطائه ورافِدِه، وأعترف بلُطْفه في مَصادر
التوفيق ومَوارده.
وأَشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده
ورسوله، شهادَةَ مُتَحَلٍّ بقلائد الإخلاص وفرائِدِه، مستقل بإحكام
قواعد التوحيدِ ومَعَاقدِهِ.
وأصلي على رسوله جامعِ نَوافر الإيمان وشَوارِدِه، ورافع أعلام الإسلام
ومَطارِدِه «1» ، وشارع نَهْج الهُدى لقاصِدِه، وهادي سبيل الحق
وماَهِدِه، وعلى آله وأصحابه حُماة معالم الدين ومَعاهِدِه، ورَادَةِ
مَشْرَعِهِ السائغ لوارِدِه.
أما بعد، فلا خلاف بين أُولي الألباب والعقول، ولا ارتياب عند ذَوِي
المعارف والمحصول، أنّ علم الحديث والآثار من أشرف العلوم الإسلامية
قَدْرا، وأحسنِها ذكرا، وأكملها نفْعا وأعظمها أجرا.
وأنه أحَدُ أَقطاب الأسلام التي يَدُورُ عليها، ومعاقِدِهِ التي أضيفَ
إليها، وأنه فَرْضٌ من فروض الكفايات يجب التزامُه، وحق من حقوق الدين
يتعين إحكامه واعْتزَامُه.
وهو على هذه الحال- من الاهتمام البيِّن والالتزام المُتعيِّن- ينقسم
قسمين: أحدُهما معرفة ألفاظه، والثانى معرفة معانيه. ولا شك أن معرفَةَ
ألفاظه مُقَدّمةٌ في الرتبة؛ لأنها الأصل في الخطاب وبها يحْصُل
التفاهم، فإذا عُرِفَتْ تَرتَّبتِ المعاني عليها، فكان الإهتمام
ببيانها أوْلَى.
ثم الألفاظ تنقَسم إلى مفردة ومركبة، ومعرفة المفردة مقَّدمة على معرفة
المركبة؛ لأنّ التركيب فَرْعٌ عن الإفراد.
__________
(1) المطارد جمع مطرد- على وزن منبر-: الرمح القصير.
(1/3)
والألفاظ المفردة تنقسم قسمين: أحدهما
خاصٌّ والآخر عامٌّ.
أما العام فهو ما يَشْتَرِك في معرفته جُمهور أهل اللسان العربي مما
يَدُورُ بَينَهم في الخطاب، فهم في معرفته شَرَعٌ سَوَاءٌ أو قريبٌ من
السَّواء، تَناقَلوه فيما بينهم وتَداوَلوه، وتَلقَّفُوه من حال
الصِّغَر لضرورة التّفاهم وتعلّموه.
وأما الخاصّ فهو ما ورد فيه من الألفاظ اللُّغَوية، والكلمات الغريبة
الحوشيَّة، التي لا يعرفها إلا من عُنِيَ بها، وحافَظَ عليها
واستخرَجَها من مظانّها- وقليلٌ ماَ هُمْ- فكان الاهتمام بمعرفة هذا
النوع الخاصّ من الألفاظ أهمَّ مما سواه، وأولى بالبيان مما عداه،
ومُقَدَّماً في الرتبة على غيره، ومَبدُوًّا في التعريف بذكره؛ إذ
الحاجة إليه ضرورية في البيان، لازمة في الإيضاح والعِرْفان.
ثم معرفته تنقسم إلى معرفة ذاته وصفاته: أما ذاته فهي معرفة وَزْن
الكلمة وبنائها، وتأليف حروفها وضَبْطها؛ لئلاّ يتبدّل حرفٌ بحرف أو
بناءٌ ببناء. وأما صفاته فهي معرفة حركاتِه وإعرابِه، لئَلا يَخْتَلَّ
فاعل بمفعول، أو خبر بأمر، أو غير ذلك من المعاني التي مَبْنَى فَهْمِ
الحديث عليها، فمعرفة الذات استقل بها علماءُ اللغة والاشتقاق، ومعرفة
الصفات استقل بها علماء النحو والتَّصريف، وإن كان الفريقان لا يكادان
يَفْتَرِقاَنِ لاضْطِرارِ كلّ منهما إلى صاحبه في البيان.
وقد عَرفْت- أيّدك الله وإيّانا بلُطفه وتوفيقه-: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أفصح العرب لسانا،
وأوضَحَهُمْ بيانا. وأعذَبَهم نُطقا، وأسَدَّهم لفظا. وأبيَنَهم
لَهجَة، وأقومَهم حُجة.
وأعرَفَهُم بمواقع الخطاب، وأهدَاهم إلى طُرق الصواب. تأييداً إلهِياً،
ولُطفا سماويا. وعنايَةً رَبَّانية، ورعايَةً رُوحانية، حتى لقد قال له
عليُّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه- وسَمِعَهُ يخاطبُ وَفْد بَني
نَهْد-:
يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بمالا نفهم
أكثره! فقال «أدَّبني رَبّي فأحْسَنَ تَأديبي، وَرُبِّيتُ في بني
سَعْد» . فكان صلى الله عليه وسلم يُخَاطب العرب على اختلاف شُعُوبهم
وقبائلهم، وتَبَاين بُطونهم وأفخاذهم وفصائِلِهم، كلاًّ منهم بما
يفهمون، ويحادثهم بما يعملون.
ولهذا قال- صَدَّق الله قَولَه-: «أُمرْتُ أن أخاطبَ الناسَ على قَدْر
عُقُولهم» ، فكأنّ الله عزّ وجل قد أعْلَمه ما لم يكن يَعْلَمُه غيرُه
من بني أبِيه، وجمع فيه من المعارف ما تفرَّق ولم يوجد في قَاصِي
العَرَب ودَانِيه. وكان أصحابُه رضي الله عنهم ومن يَفِدُ عليه من
الْعَرَب يعرفون أكثرَ ما يقوله، وما جَهِلوه سألوه عنه فيوضحه لهم.
(1/4)
واسْتمرَّ عصره صلى الله عليه وسلم إلى حين
وفاته على هذا السَّنَن المستقيم. وجاء العصر الثاني- وهو عصر الصحابة-
جاريا على هذا النَّمط سالكا هذا المَنهج. فكان اللسان العربي عندهم
صحيحا مَحْرُوسا لا يَتَدَاخَلُهُ الخَلل، ولا يَتَطرَّقُ إليه
الزَّلَل، إلى أن فُتحت الأمصار، وخالطَ العربُ غيرَ جنسهم من الروم
والفرس والحبش والنَّبَط، وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتح الله على
المسلمين بلادَهم، وأفاَءَ عليهم أموالَهم ورقابَهُم، فاختلطتِ الفرق
وامتزجت الألسُن، وتداخَلتِ اللغاتُ ونشأ بينهم الأولاد، فتعلموا من
اللسان العربى مالا بدّ لهم في الخطاب منه، وحفظوا من اللغة ما لا غنى
لهم في المحاورة عنه، وتركوا ما عداه لعدم الحاجة اليه، وأهمَلوه لقلّة
الرَّغبة في الباعث عليه، فصار بعد كونه من أهمّ المعارف مُطّرَحاً
مهجوراً، وبعد فَرْضِيَّتهِ اللازمة كأن لم يكن شيئا مذكورا. وتمادتِ
الأيامُ والحالة هذه على ما فيها من التَّماسُك والثَّبَات،
واسْتَمرَّت على سَنَنٍ من الاستقامة والصلاح، إلى أن انقرض عصرُ
الصحابة والشأنُ قريب، والقائمُ بواجب هذا الأمر لقلّته غريب. وجاء
التابعون لهم بإحسان فسلكوا سبيلهم لكنهم قلُّوا في الإتقان عددا،
واقْتَفَوْا هديَهُمْ وإن كانوا مَدُّوا في البيان يَدَا، فما انقضى
زمانُهم على إحسانهم إلاّ واللسانُ العربيُّ قد استحال أعجميا أو كَاد،
فلا ترى المُسْتَقِلَّ به والمحافِظَ عليه إلاّ الآحاد.
هذا والعصرُ ذلك العصرُ القديم، والعَهدُ ذلك العهدُ الكريم، فجهِل
الناس من هذا المُهِمّ ما كان يلزمُهم معرفَتُه، وأخّروا منه ما كان
يجب عليهم تَقْدِمَتُه، واتخذوه وراءَهم ظِهْرِيًّا فصار نِسْياً
منسياً، والمشتغل به عندهم بعيدا قصيّاً. فلما أعضَلَ الدَّاء وعزَّ
الدَّواء، ألهمَ الله عز وجل جماعة من أولِي المعارف والنُّهَى، وذوي
البصائر والحِجَى، أن صرفوا إلى هذا الشأن طَرَفاً مِن عنَايتهم،
وجانبا من رِعايَتهم، فشَرَّعوا فيه للناس مواردا، ومهَّدوا فيه لهم
معاَهدا، حراسةً لهذا العلم الشريف من الضياَع، وحفظا لهذا المهِم
العزيز من الاختلال.
فقيل إن أوّلَ من جَمعَ في هذا الفنّ شيئاَ وألَّف أبو عبيدة مَعْمَر
بن المثنّى التميمي، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتابا صغيرا ذا
أوراق معدودات، ولم تكن قِلَّتُهُ لجهله بغيره من غريب الحديث، وإنما
كان ذلك لأمرين: أحدهما أن كل مُبْتَدِئ لشىء لم يُسْبَق إليه،
وَمُبْتَدِعٍ لأمر لم يُتَقَدَّم فيه عليه، فإنه يكون قليلا ثم يكثر،
وصغيرا ثم يكبر. والثاني أنَّ الناسَ يومئذ كان فيهم بَقِيةٌ وعندهم
معرفة، فلم يكن الجهلُ قد عَمّ، ولا الخطبُ قد طَمّ.
ثم جَمَع أبو الحسن النَّضْر بن شُميل المازنيّ بعده كتابا في غريب
الحديث أكبر من كتاب أبى
(1/5)
عُبيدة، وشرح فيه وبَسَطَ على صغر حجمه
ولُطفه. ثم جمع عبدُ الملك بن قُرَيب الأصمعيّ- وكان في عصر أبي عُبيدة
وتأخر عنه- كتابا أحسن فيه الصُّنْعَ وأجاد، ونيَّف على كتابه وزاد،
وكذلك محمّد ابن المُسْتَنير المعروف بِقُطْرُب، وغيره من أئمة اللغة
والفقه جمعوا أحاديث تَكَلموا على لغتها ومعناها في أوراق ذواتِ عِدد،
ولم يَكَدْ أحدُهم ينفردُ عن غيره بكبير حديث لم يذكره الآخر.
واستَمَرَّتْ الحال إلى زمن أبي عُبيد القاسم بن سلاّم وذلك بعد
المائتين، فجمع كتابه المشهور َفي غريب الحديث والآثار الذي صار- وإن
كان أخيراً- أوّلا، لما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة، والمعاني
اللطيفة، والفوائد الجمَّة، فصار هو القدوةَ في هذا الشأن فإنه أفْنى
فيه عمره وأطاب به ذكره، حتى لقد قال فيما يروى عنه: «إني جَمَعْتُ
كتابي هذا في أربعين سنة، وهو كان خُلاصة عمري» . ولقد صدق رحمه الله
فإنه احتاج إلى تَتَبُّع أحاديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَثْرتها وآثار الصحابة والتابعين على
تَفَرُّقها وتعدُّدِها، حتى جمع منها ما احتاج إلى بيانه بطرق أسانيدها
وحفظ رواتها. وهذا فن عزيز شريف لا يوفّقُ له إلا السعداء. وظنَّ رحمه
الله- على كَثرة تعبه وطول نَصَبه- أنه قد أتى على معظم غريب الحديث
وأكثرِ الآثار، وما علم أن الشّوْطَ بَطِين «1» والمنهل مَعِين، وبقي
على ذلك كتابه في أيدي الناس يرجعون إليه، ويعتمدون في غريب الحديث
عليه، إلى عصر أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتَيْبَة الدِّيَنوَرِي
رحمه الله، فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار، حذا فيه حَذْوَ
أبي عبيد ولم يُودعْه شيئا من الأحاديث المودعةِ في كتاب أبي عبيد إلا
ما دعت إليه حاجة من زيادة شرح وبيان أو استدراك أو اعتراض، فجاء كتابه
مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر منه. وقال في مقدِّمة كتابه:
«وقد كنتُ زمانا أرى أن كتاب أبي عبيد قد جمع تفسير غريب الحديث، وأن
الناظر فيه مُسْتَغْنٍ به.
ثم تَعَقبتُ ذلك بالنظر والتفتيش والمذاكرة فوجدت ما ترك نَحْوا مما
ذكر، فتتبَّعْتُ ما أغفل وفَسرتُه على نَحْو ما فَسَّر، وأرجو أن لا
يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحدٍ فيه مقال» .
وقد كان في زمانه الإمام إبراهيم بن إسحاق الحَرْبيّ رحمه الله، وجمع
كتابه المشهور في غريب الحديث، وهو كتاب كبير ذو مجلدات عِدَّةٍ، جمع
فيه وبسط القول وشرح، واستقصى الأحاديث بطرق أسانيدها، وأطاله بذكر
متونها وألفاظها، وإن لم يكن فيها إلا كلمة واحدة غريبة، فطال لذلك
كتابه وبسبب طوله ترك وهجر، وإن كان كثير الفوائد جم المنافع؛ فإن
الرجل كان إماما حافظا متقنا عارفا بالفقه والحديث واللغة والأدب، رحمة
الله عليه.
__________
(1) أي بعيد
(1/6)
ثمَّ صَنّف الناس غيرُ من ذكَرنا في هذا
الفنِّ تصانيف كثيرة، منهم شَمِرُ بن حمدويه، وأبو العباس أحمد بن يحيى
اللغوي المعروف بثعلب. وأبو العباس محمد بن يزيد الثُّمالي المعروف
بالمبرَّد.
وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري. وأحمد بن الحسن الكنْدي. وأبو عمر
محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب ثعلب. وغير هؤلاء من أئمة اللغة والنحو
والفقه والحديث.
ولم يَخْلُ زمانٌ وعصْرٌ ممن جمع في هذا الفن شيئا وانفرد فيه بتأليف،
واستبدَّ فيه بتصنيف.
واستمرَّتِ الحال إلى عهد الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن أحمد
الخطَابي الْبُسْتي رحمه الله، وكان بعد الثلثمائة والستين وقبلها،
فألف كتابه المشهور في غريب الحديث، سلك فيه نهج أبي عبيد وابن
قُتَيْبة، واقتفى هَدْيَهُما، وقال في مقدمة كتابه- بعد أن ذكر
كتابَيْهما وأَثْنى عليهما-: «وبقيت ْبعدهما صُبَابةٌ للقول فيها
مُتَبَرَّض توليتُ جمعها وتفسيرها، مُسْتَرْسلا بحسن هدايتهما وفضل
إرشادهما، بعد أن مضى عليّ زمان وأنا أحْسِب أنه لم يبقَ في هذا الباب
لأحدٍ مُتكلَّم، وأن الأوّلَ لم يترُكْ للآخر شيئا وأتّكلُ على قول ابن
قُتَيْبَةَ في خطْبَةِ كتابه: إنه لم يبقَ لأحد في غريب الحديث مقال» .
وقال الخَطابي ايضا بعد أن ذكر جماعة من مُصَنفي الغريب وأثْنى عليهم:
«إلا أن هذه الكُتُبَ على كثرة عَدَدِها إذا حَصَلت كان مآلُها كالكتاب
الواحد. إذا كانَ مصنفوها إنما سبيلهم فيها أن يتوالوْا على الحديث
الواحد فَيَعْتَوِروه فيما بينهم، ثم يتَبَارَوْا في تفسيره ويدخل
بعضهم على بعض. ولم يكن من شرط المسبوق أن يُفَرِّج للسابق عما
أحْرَزَه، وأن يقْتَضِب الكلام في شيء لم يُفَسَّرْ قبله على شاَكلة
ابن قتيبة وصنيعه في كتابه الذى عقّب به كتاب أبي عبيد. ثم إنه ليس
لواحد من هذه الكتب التي ذكرناها أن يكون شىء منها على مِنْهاج كتاب
أبي عبيد في بيان اللفظ وصحة المعنى وجَوْدَة الاستنباط وكثرة الفقه،
ولا أن يكون من جنس كتاب ابن قتيبة في إشباع التفسير وإيراد الحُجة
وذكر النظائر وتخليص المعانى، إنما هى أوعامّتها إذا تقسمت وقعت بين
مُقَصِّر لا يورد في كتابه إلا أطْرَافاً وسَواقطَ من الحديث، ثم لا
يوفِّيها حقها من إشباع التفسير وإيضاح المعنى، وبين مُطِيل يسرُدُ
الأحاديث المشهورة التي لا يكاد يُشْكل منها شيء، ثم يتكلفُ تفسيرها
ويُطْنبُ فيها. وفي الكتابين غنى ومَنْدُوحَةٌ عن كلِّ كتاب ذكرناه
قبلُ؛ إذ كانا قد أتَيَا على جماع
(1/7)
ما تضمنتِ الأحاديث المودعة فيهما من تفسير
وتأويل، وزادا عليه فصارا أحق به وأملك له، ولعل الشيءَ بعد الشيء منها
قد يَفُوتُهَما.
قال الخطابي: وأما كتابنا هذا فإني ذكرت فيه ما لم يرد في كتابيهما،
فصرفْتُ إلى جمعه عِنايتي، ولم أزل أتتبع مظانّها وألتقط آحادها، حتى
اجتمع منها ما أحب الله أن يُوَفِّقَ له، واتسق الكتاب فصار كنحوٍ من
كتاب أبي عبيد أو كتاب صاحبه.
قال: وبلغنى أن أبا عبيد مكث في تصنيف كتابه أربعين سنة يسأل العلماء
عما أودعه من تفسير الحديث والأثر، والناس إذ ذاك متوافرون، والروضة
أُنُف، والحوضُ ملآن. ثم قد غادر الكثيرَ منه لمن بعده. ثم سعى له أبو
محمد سَعْيَ الجَواد، فأسأر القَدر الذي جمعناه في كتابنا، وقد بقي من
وراء ذلك أحاديث ذواتُ عددٍ لم أتيسر لتفسيرها تركتها ليفتحها الله على
من يشاء من عباده، ولكل وقت قوم، ولكل نشء علم. قال الله تعالى وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
قلتُ: لقد أحسنَ الخطابي رحمة الله عليه وأنصف، عرفَ الحق فقاله،
وتحرَّى الصدق فنطق به، فكانت هذه الكتب الثلاثة في غريب الحديث والأثر
أمَّهاتِ الكتب، وهي الدائرة في أيدي الناس والتي يُعَوِّلُ عليها
علماء الأمصار، إلا أنها وغيرها من الكتب المصنفة التى ذكرناها أو لم
نذكرها لم يكن فيها كتاب صنف مرتَّباً ومُقفَّى يرجع الإنسان عند طلب
الحديث إليه إلا كتاب الحربي، وهو على طوله وعسر ترتيبه لا يوجد الحديث
فيه إلّا بعد تعب وعناء. ولا خفاء بما في ذلك من المشقة والنّصب مع ما
فيه من كون الحديث المطلوب لا يُعرف في أيّ واحد من هذه الكتب هو،
فيحتاج طالبُ غريب حديث إلى اعتبار جميع الكتب أو أكثرِها حتى يجد غرضه
من بعضها. فلما كان زمنُ أبي عبيد أحمد بن محمد الهَروي صاحب الإمام
أبي منصور الأزْهَرِي اللغوي، وكان في زمن الخطابي وبعده وفي طبقته،
صنَّف كتابه المشهور السائر في الجمع بين غريبي القرآن العزيز والحديث،
ورتبه مقفى على حروف المعجم على وضع لم يُسْبَقْ في غريب القرآن
والحديث إليه. فاستخرَجَ الكلمات اللغويةَ الغريبة من أماكنها وأثبتها
في حروفها وذكر معانيها؛ إذ كان الغرضُ والمقصد من هذا التصنيف معرفةَ
الكلمة الغريبة لغةً وإعراباً ومعنًى، لا معرفةَ مُتُون الأحاديث
والآثار وَطُرق أسانيدها وأسماء رُوَاتها، فإن ذلك علم مستقل بنفسه
مشهور بين أهله.
(1/8)
ثم إنه جمع فيه من غريب الحديث ما في كتاب
أبي عُبيد وابن قتيبةَ وغيرهما ممن تَقَدَّمه عصرهُ من مُصَنِّفي
الغريب، مع ما أضاف إليه مما تتبعه من كلمات لم تكن في واحد من الكتب
المصنَّفة قَبله، فجاء كتابهُ جامعا في الحُسن بين الإحاطة والوضع.
فإذا أراد الإنسانُ كلمةً غريبةً وجَدَها في حرفها بغير تَعب، إلا أنه
جاء الحديث مُفَرَّقاً في حروف كلماته حيث كان هو المقصودَ والغرضَ،
فانتشر كتابهُ بهذا التسهيل والتيسير في البلاد والأمصار، وصار هو
العمدة في غريب الحديث والآثار.
وما زال الناس بعده يَقْتَفُون هَدْيَه، ويَتْبَعُون أَثَره، ويشكرون
له سعيه، ويستدركون مافاته من غريب الحديث والآثار، ويجمعون فيه
مجاميعَ. والأيامُ تَنْقَضِى، والأعمارُ تَفْنَى ولا تنقضى إلا عن
تصنيفٍ في هذا الفن إلى عهد الإِمام أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري
الخُوارَزمي رحمه اللَّه، فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث وسماه
«الفائق «1» » . ولقد صادف هذا الاسمُ مُسَمَّى، وكشف من غريب الحديث
كل مُعَمَّى، ورتَّبه على وضعٍ اخْتارَه مُقَفَّى على حروف المعجم،
ولكن في العُثُور على طلب الحديث منه كُلْفَةً ومشقة، وإن كانت دون
غيره من مُتَقدم الكتب لأنه جَمعَ في التَقْفِيةِ بين إيراد الحديث
مَسْرُوداً جميعه أو أكثره أو أقله، ثم شَرَحَ ما فيه من غريب فيجيء
شرحُ كل كلمة غريبة يشتمل عليها ذلك الحديث في حرف واحد من حروف
المعجم، فترِدُ الكلمة في غير حرفها، وإذا تَطَلَّبها الإِنسان تَعِب
حتى يَجدها، فكان كتابُ الهروي أقرب مُتَنَاولا وأسهل مأخذاً، وإن كانت
كلماته متفرقة في حروفها، وكان النفع به أتمَّ والفائدة منه أعمَّ.
فلما كان زمنُ الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى المديني
الأصفهاني، وكان إماما في عصره حافظا متقنا تُشدُّ إليه الرحال، وتُناط
به من الطلبة الآمال، قد صنف كتابا جمع فيه مافات الهروي من غريب
القرآن والحديث ينُاسبهُ قَدْراً وفائدة، ويُماَثلهِ حجمْاً وعائدة،
وسلك في وضعه مَسْلَكه، وذهب فيه مَذهَبه، ورتَّبَه كما رتّبَه، ثم
قال: «واعلم أنه سيبقى بعد كتابي أشياء لم تقع لي ولا وقفتُ عليها؛ لأن
كلام العرب لا ينحصر» . ولقد صدق رحمه اللَّه فإن الذي فَاتَه من
الغريب كثيرٌ، ومات سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
وكان في زماننا أيضا معاصرُ أبي موسى الإمامُ أبو الفرج عبدُ الرحمن بن
علي ابن الجوْزِي
__________
(1) طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة 1366 هـ- 1947 م.
(1/9)
البغدادي رحمه اللَّه، كان مُتَفنّناً في
علومه مُتَنَوِّعا في معارفه، فاضلا، لكنه كان يَغْلِبُ عليه الوعظ.
وقد صَنَّفَ كتابا في غريب الحديث خاصَّة نَهَج فيه طريق الهَرَوي في
كتابه، وسلك فيه محَجَّته مجردا من غريب القرآن. وهذا لفظه في مقدمته
بعد أن ذكر مُصَنَّفي الغريب: قال:
«فَقَوِيت الظُّنون أنه لم يَبْقَ شيء، وإذاً قد فاتَهُمْ أشْياء،
فرأيت أن أبذلَ الوُسع في جمع غريب حديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصْحابه وتابعيهم، وأرجو ألاّ يَشذَّ عني
مهِمّ من ذلك، وأن يُغْنِيَ كتابي عن جميع ما صُنّف في ذلك» . هذا
قوله.
ولقد تتبعت كتابه فرأيتُه مخْتَصراً من كتاب الهروي، مُنْتَزَعا من
أبوابه شيئاً فشيئاً ووَضعاً فوَضْعاً، ولم يزد عليه إلا الكلمة
الشّاذّةَ واللفظَة الفاذّة. ولقد قايست ما زاد في كتابه على ما أخَذَه
من كتاب الهروي فلم يكن إلا جزءاً يسيرا من أجزاءٍ كثيرة.
وأما أبو موسى الأصفهاني رحمه الله فإنه لم يذكر في كتابه مما ذكره
الهروي إلا كلمة اضطر إلى ذكرها إما لخَلل فيها، أو زيادة في شرحها، أو
وَجْهٍ آخرَ في معناها، ومع ذلك فإن كتابَهُ يُضَاهي كتاب الهروي كما
سبق؛ لأن وضع كتابه استدراك مافات الهَروي.
ولما وقفت على كتابه الذي جعله مُكمّلا لكتاب الهروي ومُتَمِمّا وهو في
غاية من الحسن والكمال، وكان الإنسان إذا أراد كلمة غريبة يَحْتَاجُ
إلى أن يَتَطلّبها في أحد الكتابين فإن وجدها فيه وإلا طَلَبها من
الكتاب الآخر، وهما كتابان كبيران ذَوَا مجلدات عٍدَّة، ولا خفاء بما
في ذلك من الكلفة، فرأيتُ أن أجمع ما فيهما من غريب الحديث مُجرَّدا من
غريب القرآن، وأضِيف كل كلمة إلى أختها في بابها تسهيلا لكُلْفة الطلب،
وتمادت بي الأيام في ذلك أُقدِّم رجلا وأُؤخِّر أخرى، إلى أن قَوٍيت
العزيمة وخلَصت النية، وتحقّقت في إظهار ما في القوة إلى الفعل، ويسَّر
الله الأمر وسهَّله، وسنّاه ووفق إليه، فحينئذ أمْعَنْتُ النظر
وأَنْعَمْتُ الفِكر في اعتبار الكتابين والجمع بين ألفاظهما، وإضافة كل
منهما إلى نظيره في بابه، فوجدتهما- على كثرة مما أودع فيهما من غريب
الحديث والأثر- قد فَاتَهُما الكثير الوافرُ، فإني في بادِئ الأمر
وأوَّل النظر مرّ بِذكري كلماتٌ غريبة من غرائب أحاديث الكتب الصّحاح
كالبخاري ومسلم- وكفاك بهما شُهْرَةً في كتب الحديث- لم يَرِدْ شيء
منها في هذين الكتابين، فحيث عرفتُ ذلك تنبهتُ لاعتبار غير هذين
الكتابين من كتب الحديث المدَوَّنة المصنفة في أول الزمان وأوسطه
وآخره. فتتبعتها واسْتَقْرَيْتُ ما حَضَرَني منها،
(1/10)
واسْتَقْصَيْتُ مُطالَعتها من المَسَانيد
والمجاميع وكتب السُّنَن والغرائبِ قديمها وحديثها، وكتب اللغة على
اختلافها، فرأيتُ فيها من الكلمات الغريبة مما فات الكتابين كثيرا،
فَصَدَفْتُ حينئذ عن الاقتصار على الجمع بين كتابَيْهما، وأضفت ما
عَثَرتُ عليه ووَجدتُه من الغرائب إلى ما في كتابيهما في حروفها مع
نظائرها وأمثالها.
وما أحْسَنَ ما قال الخطّابي وأبو موسى رحمة الله عليهما في
مُقَدّمَتَيْ كتابَيْهما، وأنا أقول أيضا مُقْتَدياً بهما: كم يكونُ قد
فَاتَنِي من الكلمات الغريبة التي تشتملُ عليها أحاديث رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصْحابه وتابعيهم رضي الله عنهم،
جَعَلَها الله سبحانه ذَخِيرة لغيري يُظْهِرُها على يده ليُذْكر بها.
ولقد صَدَق القائل الثَّاني: كم ترك الأوَّل للآخر، فحيث حقق الله
سبحانه النية في ذلك سَلَكْتُ طريق الكتابين في التَّرتيب الذي اشتملا
عليه، والوَضْع الذي حَوياه من التَّقْفِيَةِ على حروف المعجم بالتزام
الحرف الأوّل والثَّاني من كلّ كلمة، وإتباعهما بالحرف الثالث منها على
سِياق الحروف، إلا أنّي وجدتُ في الحديث كلماتٍ كثيرةً في أوائلها حروف
زائدة قد بُنِيتِ الكلمةُ عليها حتى صارت كأنها من نفسها، وكان
يَلْتَبِسُ مَوْضِعها الأصْلي على طالبها، لا سِيَّما وأكْثَرُ طَلَبةِ
غريب الحديث لا يَكادُون يَفْرِقُون بين الأصلي والزائد، فرأيتُ أن
أثبتَها في باب الحرف الذي هو في أوّلها وإن لم يكن أصليّاً ونَبَّهتُ
عند ذكره على زيادته لئَلاَّ يَرَاها أحد في غير بابها فيظنّ أني
وضعتُها فيه للجهل بها فلا أُنْسَبُ إلى ذلك، ولا أكون قد عَرَّضتُ
الواقف عليها لِلغيِبَة وسوء الظن. ومع هذا فإن المُصِيبَ في القول
والفِعْل قليل بل عَدِيم. ومَن الذي يأمَن الغلطَ والسهوَ والزَّلل؟
نسأل الله العصمةَ والتوفيق.
وأنا أسأل مَن وَقَف على كتابي هذا ورأى فيه خطأ أو خللا إن يُصْلِحه
ويُنَبّه عليه ويُوضّحَه ويُشيرَ إليه حائزا بذلك مني شكرا جميلا، ومن
الله تعالى أجرا جزيلا.
وجعلتُ على ما فيه من كتاب الهروي (هاء) بالحمرة، وعلى ما فيه من كتاب
أبي موسى (سينا) وما أضفتهُ من غيرهما مهملا بغير علامة ليتميز ما
فيهما عما ليس فيهما.
وجميع ما في هذا الكتاب من غريب الحديث والآثار ينقسم قسمين: أحدهما
مُضاف إلى مُسمًّى، والآخَر غير مُضاف، فما كان غيرَ مضاف فإن أكثره
والغالبَ عليه أنه من أحاديث رسول الله صلى الله
(1/11)
عليه وسلم إلا الشيء القليل الذي لا تُعْرف
حقيقتُه هل هو من حديثه أو حديث غيره، وقد نبَّهْنَا عليه في مواضعه.
وأما ما كان مضافا إلى مسمى فلا يخلو إما أن يكون ذلك المسمّى هو صاحبَ
الحديث واللفظُ له، وإما أن يكون راويا للحديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره، وإما أن يكون سببا في ذكر
ذلك الحديث أضيفَ إليه، وإما أن يكون له فيه ذكرٌ عَرف الحديث به
واشتهر بالنسبة إليه، وقد سميتُه:
(النهايةَ في غريب الحديث والأثر) وأنا أرغب إلى كرم الله تعالى أن
يجعل سعيي فيه خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبلَهُ ويجعله ذخيرةً لي عنده
يَجْزِيني بها في الدار الآخرة، فهو العالم بمُودَعَاتِ السَّرَائر
وخَفيَّات الضَّمائر. وأن يَتَغَمَّدَني بفضله ورحمته، ويَتَجاوز عنّي
بسَعَة مغفرته. إنه سميع قريب. وعليه أتوكل وَإِلَيْهِ أُنِيبُ*.
(1/12)
|