تهذيب اللغة

(أَبْوَاب الْكَاف والذال)
ك ذ ث: مهمل.
ك ذ ر
اسْتعْمل من وجوهه: ذكر.
ذكر: (الْحَرَّانِي) ، عَن ابْن السّكيت: عَن أبي عُبَيْدَة: يُقَال: مَا زالَ ذَاك مِنِّي على ذِكْر وذُكْرٍ.
وَقَالَ الْفراء: الذِّكْرُ: مَا ذكرْتَه بلسانك وأظهرْتَه.
قَالَ: والذُّكْرُ بِالْقَلْبِ.
يُقَال: مَا زالَ منِّي عَلَى ذُكْرٍ أَي لم أَنْسَه.
وَقَالَ اللَّيْث: الذِّكْرُ: الحفظُ للشَّيْء تَذكُرُه، والذِّكْرُ: جَرْيُ الشيءِ على لسَانك.
قَالَ: والذِّكْرُ: ذِكر الشّرف، والصوتُ قَالَ الله تَعَالَى: {مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} (الزخرف: 44) والذِّكْر: الكتابُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيل الدِّين، وكلُّ كتابٍ من كُتبِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ذِكْرٌ، والذِّكْرُ: الصَّلَاة لله تَعَالَى، والدعاءُ والثناءُ.
وَفِي الحَدِيث: (كَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِذا حَزَبَهم أمرٌ فزِعوا إِلَى الذِّكر أَي إِلَى الصَّلَاة يقومُونَ فيُصلونَ، وَذكر الحقِّ هُوَ الصَّكُّ وجمعُه: ذُكُور حقوقٍ) .
ويُقال: ذُكورُ حقَ، والذِّكْرى: اسْم للتذكِرة.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: الذكْرُ: الصَّلاةُ، والذكْرُ قِرَاءَة الْقُرْآن، والذِّكْرُ: التسبيحُ، والذِّكر: الدُّعَاء، والذكرُ: الشُّكْرُ، والذَّكْرُ: الطَّاعَة.
قَالَ: وَمعنى قَوْله جلّ وَعز: {الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ} (العنكبوت: 45) فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن ذِكْرَ الله إِذا ذَكَره العبدُ خير للْعَبد مِن ذكر العَبْد للْعَبد.
وَالْوَجْه الآخر: أَن ذكرَ الله يَنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر أكبرَ مِمَّا تنْهى الصَّلَاة.
وَقَول الله تَعَالَى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الْأَنْبِيَاء: 60) .
قَالَ الْفراء فِيهِ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (الْأَنْبِيَاء: 36) .
قَالَ: يُرِيد: يِعيب آلِهَتكُم.
قَالَ: وَأَنت قائلٌ للرجل: لَئِن ذكَرْتني لتَندَمنّ، وَأَتَتْ تريدُ: بسوءٍ فَيجوز ذَلِك.
قَالَ عنترة:
لَا تَذْكُرِي فَرَسي ومَا أَطْعَمْتُه
فَيَكونَ جِلْدُكِ مِثلَ جِلْدِ الأجْربَ
أَي لَا تعيبي مُهري، فَجعل الذِّكْرَ عَيْبا.

(10/94)


(قلت) : وَقد أنكر بعضُهم أَن يكون الذِّكْرُ عَيْبا.
وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم فِي قَول عنترة:
لَا تَذْكُرِي فَرَسي ...
مَعْنَاهُ: لَا تُولَعِي بِذكرِهِ، وذِكْرِ إِيثارِي إِياه باللَّبنِ على الْعِيَال.
وَقَالَ الزّجاج نَحوا من قَول الْفراء.
وَقَالَ: يُقَال: فلانٌ يذكُر الناسَ أَي يغتابُهم وَيذكر عيوبَهم، وفلانٌ يذكُر اللَّهَ أَي يصِفه بالعظمة ويُثني عَلَيْهِ ويوحِّدُه، وَإِنَّمَا يحدف مَعَ الذِّكر مَا عُقِل مَعْنَاهُ.
وَقَالَ اللَّيْث: الذَّكَرُ: مَعْرُوف وجمعُه: الذِّكَرَة، وَمن أَجله يُسمى مَا يَلِيهِ المَذَاكِيرُ، وَلَا يفرَدُ، وإنْ أُفرِدَ فَمُذْكِرٌ، مِثل: مُقْدِم ومقاديم.
والذَّكَرُ: خلاف الْأُنْثَى، وَيجمع الذُّكُورَ، والذُّكُورَةَ، والذِّكارَةَ، والذُّكْرَان.
وَقَالَ: الذَّكَرُ من الْحَدِيد: أَيبسهُ وأشدُّه، وَلذَلِك سُمِّيَ السيفُ مُذَكّراً ويذكَّرُ بِهِ القَدُومُ والفأسُ وَنَحْوه أعْنِي بالذَّكَرِ من الْحَدِيد، وامرأةٌ مُذَكَّرَةٌ، وناقةٌ مُذَكَّرةٌ إِذا كَانَت تُشْبِه فِي خِلقتها الذكَرَ أَو فِي شمائلها الرجلَ أَعْنِي الْمَرْأَة.
وَيُقَال للْمَرْأَة إِذا ولدت ذَكَراً قد أَذَكَرَت فَهِيَ مُذْكِرٌ، فَإِذا كَانَ من عَادَتهَا أَن تَلِدَ الذُّكورَ فَهِيَ مِذْكارٌ، والرجلُ أَيْضا مِذْكارٌ.
وَيُقَال للحُبْلَى، على الدعاءِ: أيْسَرْتِ وأَذْكَرْتِ.
والاستذكارُ: الدِّراسَةُ للْحِفْظ، والتَّذَكُّرُ، تذكُّرُ مَا أُنْسِيتَهُ.
وَقَالَ كَعْب:
وعرفتُ أنِّي مُصْبِحٌ بمَضِيعَةٍ
غَبْرَاءَ تعزِفُ جِنُّها مِذْكارِ
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: فَلاَةٌ مِذْكار: ذاتُ أهوالٍ، وَقَالَ مَرَّةً: لَا يسلكها إِلَّا الذَّكَرُ من الرِّجال، ويومٌ مُذَكّر إِذا وُصِفَ بالشدةِ والصعوبة وَكَثْرَة الْقَتْل. وَقَالَ لبيد:
فإِن كنتِ تَنْعَيْنَ الكرامَ فأَعْوِلِي
أَبَا حازمٍ فِي كلِّ يَوْم مُذكَّرِ
وطريقٌ مُذْكِرٌ: مَخُوفٌ صعبٌ، وفلاة مُذْكِرٌ: تُنبت ذكورَ البُقول، وذُكُورُه: مَا خشُنَ مِنْهُ وغَلُطَ، وأَحْرَارُ البُقُول: مَا رقَّ مِنْهُ وَطَالَ، وداهيةٌ مُذكِرٌ: شَدِيدَة.
وَقَالَ الْجَعْدِي:
وداهيةٍ عمياءَ صمَّاء مُذكِرِ
تَدُرُّ بِسَمَ فِي دَمٍ يتحلَّب
ورجلٌ ذَكَر إِذا كَانَ قويّاً شجاعاً أَنِفاً أَبِيّاً، ومَطر ذكرٌ: شديدٌ وابلٌ.
قَالَ الفرزدق:
فَرُبَّ ربيعٍ بالبلاليقِ قد رعتْ
بِمُسْتَنِّ أَغْيَاثٍ بُعَاقٍ ذكورها
وَقَول ذَكَرٌ: صُلْبٌ مَتِينٌ، وشِعْر ذكَرٌ: فَحْلٌ.

(10/95)


(أَبُو عبيد عَن الْأَصْمَعِي) : المُذَكَّرَةُ وَهِي سيوف شَفَراتُها حَدِيد ذكَرٌ، ومُتونها: أَنيثٌ، يقولُ النَّاس إِنَّهَا من عمل الْجِنّ.
(أَبُو زيد) : ذهبتْ ذُكْرَةُ السَّيْفِ والرجلِ، أَي حِدته.
وَقَالَ الْفراء: يكون الذِّكْرَى بِمَعْنى الذِّكْر، وَيكون بِمَعْنى التَّذكير فِي قَوْله: {) وَالاَْبْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} (ص: 46) .
ك ذ ل
كلذ: (اسْتعْمل مِنْهُ) :
كلذ: أهمله اللَّيْث.
ورَوَى أَبُو الْعَبَّاس عَن ابْن الْأَعرَابِي: الكِلْوَاذُ: تَابوتُ التَّوْراة.
وكلْوَاذَي: قَرْيَة أسفلَ بَغْدَاد.
ك ذ ن
كذن: (اسْتعْمل مِنْهُ) :
كذن: قَالَ اللَّيْث: الكَذَّانَةٌ: حِجَارَة كَأَنَّهَا المَدَرُ فِيهَا رَخاوةٌ، وَرُبمَا كَانَت نَخِرَةً وجمعُها: الكَذَّانُ.
يُقَال: إِنَّهَا فَعْلانَةٌ، وَيُقَال: فَعَّالَةٌ.
(أَبُو عبيد عَن أبي عَمْرو) : الكَذّانُ: الْحِجَارَة الَّتِي لَيست بصُلْبةٍ.
ك ذ ف: مهمل.
ك ذ ب
كذب، ذكب: (مستعملان) .
كذب ذكب: قَالَ الْفراء فِي قَول الله جلّ وَعز: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} (الْأَنْعَام: 33) وقرىء ( ... لَا يُكْذِبونَكَ) قَالَ معنى التَّخْفِيف وَالله أعلم لَا يجعلونك كذَّاباً، وأنَّ مَا جِئْت بِهِ بَاطِل لأَنهم لم يجربوا عَلَيْهِ كَذِباً فَيُكْذِبوه، إِنَّمَا أكذبوه، أَي قَالُوا إِنَّمَا جِئْت بِهِ كَذِبٌ لَا يعرفونه من النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الزّجاج: معنى كذّبْتُهُ: قلت لَهُ كذبْتُ، وَمعنى أكذبْتُهُ: أَرَيْتُهُ أَن مَا أتَى بِهِ كذِب.
قَالَ وَتَفْسِير قَوْله: { ... لاَ يُكَذِّبُونَكَ} لَا يقْدِرُون أَن يَقُولُوا لَك فِيمَا أَنبَأت بِهِ مِمَّا فِي كُتبهم كذبْتَ.
قَالَ وَوجه آخر { ... لاَ يُكَذِّبُونَكَ} بقلوبهم أَي يعلمُونَ أَنَّك صَادِق.
قَالَ وجائزٌ أَن يكون: فَإِنَّهُم لَا يكذِّبونك أَي أَنْت عِنْدهم صَدُوقٌ، وَلَكنهُمْ جَحَدُوا بألسنتهم مَا تشهد قُلُوبهم بكذبهم فِيهِ، وَقَوله جلّ وعزّ: {وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (يُوسُف: 18) .
جَاءَ فِي التَّفْسِير أنَّ إِخوةَ يوسفَ لما طرحوه فِي الْجُبِّ أخذُوا قَمِيصه وذبحوا جَدْياً فلَطَّخُوا الْقَمِيص بدمِ الجَدْي، فَلَمَّا رأى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام الْقَمِيص قَالَ: كَذبْتُمْ لَو أكله الذئبُ لخرَّقَ قَمِيصه.
وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله: (بِدَمِ كذِبٍ) ،

(10/96)


مَعْنَاهُ: مَكْذُوب.
قَالَ وَالْعرب تَقول للكذِبِ: مَكْذُوب وللضعفِ مضعوف، وللجَلد مجلود، وَلَيْسَ لَهُ مَعْقودُ رأيٍ يُرِيدُونَ عَقْد رأيٍ فيجعلون المصادر فِي كثيرٍ من كَلَامهم مَفْعُولا.
وَحكي عَن أبي ثَرْوَان أَنه قَالَ: إنَّ بني نُميرٍ لَيْسَ لِحِدِّهم مَكذُوَبةٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَش: بِدَمٍ كَذِبٍ فَجعل الدَّمَ كذبا لِأَنَّهُ كُذِبَ فِيهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} (الْبَقَرَة: 16) .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هُوَ مصدر فِي معنى مفعول، أَرَادَ بدمٍ مَكذُوب.
وَقَالَ الزّجاج: بدمٍ كَذِبٍ أَي ذِي كَذبٍ، وَالْمعْنَى: مكذوبٌ فِيهِ.
ابْن الأنباريِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} (الْأَنْعَام: 33) .
قَالَ سألَ سَائل: كيفَ خَبَّرَ عَنْهُم أَنهم لَا يكذِّبون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَقد كَانُوا يظهرون تَكْذِيبه ويخفونه.
قَالَ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك بقلوبهم بل يكذبُونَك بألسنتهم.
وَالثَّانِي: قراءةُ نافعٍ والكسائيّ ورُوِيت عَن عليّ صلوَات الله عَلَيْهِ (فَإِنَّهُم لَا يُكذِبُونَك) بِضَم الْيَاء وتسكين الْكَاف على معنى لَا يُكْذِبُونَ الَّذِي جِئْت بِهِ إِنَّمَا يجحدونَ آيَات الله ويتعرَّضون لعقوبته، وَكَانَ الكسائيُّ يحتجُّ لهَذِهِ الْقِرَاءَة بِأَن الْعَرَب تَقول: كذَّبْتُ الرجلَ إِذا نسبته إِلَى الْكَذِب، وأكذبته إِذا أخْبَرْتَ أنَّ الَّذِي يحَدِّثُ بِهِ كذب.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَيُمكن أَن يكونَ {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} (الْأَنْعَام: 33) أَن يكونَ بِمَعْنى لَا يجدونك كذّاباً عِنْد الْبَحْث والتَّدَبُّر والتفتيش.
وَالثَّالِث: أَنهم لَا يكذّبونك فِيمَا يجدونه مُوَافقا فِي كِتَابهمْ لِأَن ذَلِك من أعظم الْحجَج عَلَيْهِم.
وَقَالَ جلّ وَعز: (حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كُذِّبوا) (يُوسُف: 110) قرأهُ أهل الْمَدِينَة وَهِي قراءةُ عَائِشَة بِالتَّشْدِيدِ وضمِّ الْكَاف.
رَوَى عبد الرَّزَّاق عَن مَعْمَرٍ عَن الزُّهرِيّ عَن عُروَةَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كذَّبهم من قَومهمْ أَن يصدِّقوهم، وظنت الرُّسل أَن مَنْ قد آمنَ من قَومهمْ قد كذبوهم جَاءَهُم نصر الله، وَكَانَت تقرؤه بِالتَّشْدِيدِ، وَهِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن كثيرٍ وَأبي عَمْرو وَابْن عامرٍ، وقرأَ عَاصِم وَحَمْزَة والكسائيّ (كُذبوا) بِالتَّخْفِيفِ.
ورَوَى حَجَّاجٌ عَن ابْن جُرَيْجٍ عَن ابْن أبي مُلَيْكة عَن ابْن عبّاس أَنه قَالَ: (كُذِبُوا)

(10/97)


بِالتَّخْفِيفِ وَضم الْكَاف.
وَقَالَ: كَانُوا بشرا يَعْنِي الرُّسل يذهبُ إِلَى أَن الرُّسلَ ضَعُفوا فظنُّوا أَنهم قد أُخْلِفُوا.
(قلت) : إنْ صَحَّ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس فَوجْهُهُ عِندي وَالله أعلم أَن الرُّسُلَ خَطَرَ فِي أَوهامِهم مَا يخطُرُ فِي أَوْهامِ البَشَرِ من غير أَن حَقَّقوا تِلْكَ الخواطرَ وَلَا رَكَنُوا إِلَيْهَا وَلَا كَانَ ظنُّهمْ ظَنّاً اطْمأْنُّوا إليهِ، وَلكنه كَانَ خاطراً يَغْلِبهُ اليَقينُ، وَقد رَويْنَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (تجَاوز اللَّهُ عَن أُمَّتي مَا حَدَّثَتْ بهِ نَفسهَا مَا لم يَنطِقْ بِهِ لِسانٌ أَو تَعْملْهُ يَد) فَهَذَا وجهُ مَا روى ابْن أَبي مُليكة عَن ابْن عباسٍ.
وَقد رُوِيَ عَنهُ فِي تفسيرهَا غَيره.
روى سُفيانُ الثّوري عَن حُصْين بن عمرَان بن الْحَارِث عَن ابْن عَبَّاس أَنه قرأَ (حَتَّى إِذا اسْتيأَسَ الرُّسُل مِنْ قَوْمِهم الإجابةَ وظَنَّ قَوْمُهُمْ أَن الرُّسُلَ قد كَذبتْهُمُ الوعيدَ) .
(قلت) : وَهَذِه الروايةُ أَسلم، وبالظاهِر أَشْبَهُ، وممَّا يُحقِّقُها مَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَيرٍ أَنه قَالَ: (اسْتيْأسَ الرُّسُلُ من قَومهمْ وظنَّ قَومُهمْ أنَّ الرُّسُلَ قد كُذِبُوا جاءَهم نَصْرُنَا) .
وَسَعِيد بن جُبيرٍ أَخذَ التَّفْسِير عَن ابْن عَبَّاس، وقرأَ بَعضهم: (وظَنُّوا أَنهم قد كَذَبُوا) أَي ظَنَّ قَوْمُهمْ أَنَّ الرسُلَ قد كَذَبُوهمْ.
(قلت) : وأَصَحَّ الأقاويلِ مَا رَوَينَا عَن عائشةَ، وبقرَاءتها قرأَ أهلُ الْحَرَمَيْنِ وأهلُ البَصْرَةِ وأَهلُ الشامِ.
وَقَول الله جلّ وَعز: {الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (الْوَاقِعَة: 2) .
قَالَ الزجاجُ أَي لَيْسَ يَرُدُّها شيءٌ كَمَا تَقول: حَمْلةُ فلانٍ لَا تَكْذِبْ أَي لَا يَرُدُّ حَمْلتَهُ شيءٌ.
قَالَ: وكاذبةٌ مَصدَرٌ كقولكَ: عافاهُ الله عافِيةً، وكذلكَ كَذَبَ كاذِبةً، وهذهِ أَسماءٌ وُضعَتْ مَواضعِ المصادِر.
وَقَالَ الْفراء: فِي قولهِ: {الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (الْوَاقِعَة: 2) .
يَقُول: لَيْسَ لَهَا مَرْدُودٌ وَلا رَدٌّ فالكاذبةُ هَا هُنَا مَصْدرٌ.
يُقَال: حَمَلَ فَمَا كذَبَ، وَقَول الله جلّ وعزّ: {أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النَّجْم: 11) يَقُول: مَا كَذبَ فُؤَادُ مُحمدٍ مَا رَأَى، يَقُول: قد صَدقَة فؤادُه الَّذِي رَأَى، وقُرىء (مَا كَذَّبُ الفؤادُ مَا رَأَى) وَهَذَا كلَّهُ قَول الفراءِ.
وروى المنذريُّ عَن أَبي الْهَيْثَم أَنه قَالَ فِي قولهِ: {أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النَّجْم: 11) أَي لم يَكذِبِ الفؤادُ رُؤيتَهُ، وَمَا رأَى بِمَعْنى الرؤيةِ كقولكَ: مَا أنْكرتُ

(10/98)


مَا قَالَ زيدٌ أَي قَول زيدٍ.
وَيُقَال: كذَبني فلانٌ أَي لم يَصْدُقْنِي فَقَالَ لي الكذِبَ.
وَأنْشد قَول الأخْطَلِ:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رأَيتَ بِواسِط
غَلَسَ الظَّلاَمِ من الرَّياب خَيَالاَ
مَعْنَاهُ أوْهمتكَ عَينُكَ أَنَّهَا رأتْ وَلم ترَ، يَقُول مَا أَوْهَمهُ الفؤادُ أَنه رأى وَلم يرَ، بل صَدَقه الفؤادُ رؤيتَهُ.
وَقَول الله جلَّ وعزّ: {حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً} (النبأ: 28) .
وَقَالَ: { (دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ} (النبأ: 35) .
قَالَ الفراءُ: خَفَّفهُمَا عَليّ ابْن أبي طالِبٍ جَمِيعًا كِذَاباً، كِذَاباً.
قَالَ وثقَّلَهمَا عاصمٌ وأهلُ الْمَدِينَة، وَهِي لُغةٌ يمَانية فصيحةٌ، يقولُون: كذَّبتُ بِهِ كِذَّاباً، وخَرّقْتُ القَميصَ خِرّاقاً، وكلُّ (فَعّلْتُ) فمصْدَرَه (فِعَّالٌ) فِي لُغتهمْ مُشَدّدَةً.
وَقَالَ لي أعرابيٌّ مَرّةً على المَرْوَة يَسْتفْتيني آلْحَلْقُ أَحَبُّ إليكَ أم القِصَّارُ؟ وأنشدني بعضُ بَنِي كلابٍ:
لقد طالما ثَبّطْتِني عَن صَحَابتي
وعَن حِوجٍ قِصَّاؤهَا من شِفَائيَا
وَقَالَ الفراءُ: كَانَ الْكسَائي يُخفّفُ (لَا يَسْمعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَاباً) لِأَنَّهَا لَيست مُقَيّدَة بِفعل يُصَيِّرها مصدرا ويُشَدِّد {حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً} (النبأ: 28) لِأَن كَذّبُوا يُقيِّدُ الكِذّابَ، وَالَّذِي قَالَ حَسَنٌ، وَمعناه لَا يَسمعونَ فِيهَا لَغواً أَي بَاطِلا، وَلَا كِذّاباً لَا يُكَذِّبُ بَعضهمْ بَعْضاً.
(ثَعْلَب عَن ابْن نجدةَ عَن أبي زيد) قَالَ: الكذوبُ والكذوبة: من أسماءِ النفْس.
وَرُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ: (كَذَبَ عَلَيْكُم الحجُّ والعُمْرَة والجهادُ، ثَلَاثَة أسْفار كذبنَ عَليكم) .
وَرُوِيَ عَنهُ أنَّ رجلا شكا إليهِ النّقْرِسَ فَقَالَ: كَذبَ عَلَيْك الظَهائر.
قَالَ أَبُو عبيد قَالَ الْأَصْمَعِي: معنى كَذَبَ عَلَيْكُم: معنى الإغراءِ، أَي عَلَيْكُم بهِ، وَكَانَ الأصلُ فِي هَذَا أَن يكون نَصْباً ولكنّه جَاء عَنْهُم بالرَّفع شَاذّاً على غيْرِ قِيَاسٍ.
قَالَ: وَممّا يُحقِّقُ ذَلِك أنّه مرفوعٌ قَوْلُ الشاعِر:
كَذَبْتُ عليْك لَا تَزَالُ تَقُوفُني
كَمَا قَافَ آثَارَ الوسِيقَةِ قَائف
فَقَوله: كَذَبْتُ عَلَيْك إنمَا أَغْرَاه بنفْسِه أَي عليْكَ بِي فَجَعَل نفسهُ فِي مَوضِع رَفْعٍ ألاَ

(10/99)


تراهُ قد جَاءَ بالتَّاءِ فَجَعَلها اسمهُ، قَالَ مُعَقِّرُ بن حِمَار البَارقيُّ:
وذُبْيَانيَّةٍ وَصَّتْ بَنيها
بأَنْ كَذَبَ القَرَاطِفُ والقُرُوف
قَالَ أَبُو عبيد: وَلم أَسْمَع فِي هَذَا حَرْفاً مَنْصوباً إلاَّ فِي شيءٍ كَانَ أبوعبيدة يَحْكِيه عَن أَعرابي نظر إِلَى ناقةٍ نِضْوٍ لرجلٍ فَقَالَ: كَذَب عَلَيْك البَزْرَ والنَّوى.
وَقَالَ ابْن السكيتِ: تَقول للرَّجلِ إِذا أمرتَهُ بالشَّيءْ وأَغْرَيته: كَذَبَ عليكَ كَذَا وَكَذَا أَي عليكَ بِهِ، وَهِي كَلمةٌ نادِرَةٌ.
قَالَ: وأَنشدني ابْن الأعرابيّ لخداشِ بن زُهَيرٍ:
كَذَبْتُ عليكُم أَوْعِدوني وعَلّلُوا
بيَ الأرْضَ والأقْوَامَ قِردانَ مَوْظبَا
أَي عَلَيْكُم بِي وبِهِجَائي إِذا كُنْتم فِي سَفَرٍ واقطعوا بذكرِى الأَرْض وأنْشِدوا القَوْم هِجَائي يَا قِردان موظَبَ.
وَقَالَ الفرّاء: كَذَبَ عَلَيْك الحَجُّ أَي وَجَبَ، وَهُوَ الكذْبُ فِي الأَصْل إِنَّمَا هُوَ أنْ قيل: لَا حَجَّ فَهُوَ كَذِبٌ. وَقَالَ عَنْترة:
كَذَبَ العَتيقُ وماءُ شَنَ بارِدٍ
إِن كُنتِ سائلتي غَبُوقاً فاذْهَبي
وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِيرُ: معنى قَوْله: كَذَبَ عليكَ الحجُّ أنّه حضٌّ على الحجّ. وَقَالَ: إِن الحجَّ ظَنَّ بكْم حِرصاً عَلَيْهِ ورغْبةً فِيهِ فَكَذَب ظَنُّه لقلَّة رغبَتكم فِيهِ.
قَالَ وقولُه:
كَذَبْتُ عليْكَ لَا تزَالُ تَقُوفُني
أَي ظننْتُ أنَّكَ لَا تنام عَن وِتْري فكَذَبْتُ عليكَ فأَذَلَّه بِهَذَا الشِّعرِ وأَخْمَل ذِكْرَه، وَقَالَ فِي قَوْله:
بِأنْ كَذَبَ القَرَاطِفُ والقُرُوفُ
قَالَ: القَراطف: أكْسَيةٌ حُمرٌ، وَهَذِه امرأةٌ كَانَ لَهَا بَنُونَ يركبون فِي شارةٍ حَسَنةٍ وهم فُقَرَاء لَا يملكونَ وراءَ ذَلِك شَيْئا فَسَاءَ ذَلِك أُمَّهم لأنْ رأَتهم فُقَراءَ، فَقَالَت: كَذَب القرَاطِفُ أَي زِينتهم هَذِه كاذبةٌ لَيْسَ وراءَهَا عندهمْ شيءٌ.
(ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي) : تَقول العَرَب لِلْكَذَّاب فُلان لَا يُؤَالَفُ خَيْلاَهُ، وَلاَ تُسَايَرُ خَيْلاه كَذِباً.
قَالَ اللحيانيُّ: يقالُ للكذَّابِ إِنَّه لَكَيْذُبَانٌ، وكُذُبْذُبٌ وكُذُّبْذُبٌ وَأنْشد:
وَإِذا سَمِعتَ بأنَّني قد بِعْتكم
بوصالِ غانيةٍ فقُلْ كذُّبْذُبُ
وَيُقَال لِلكَذِبِ: كِذَّابٌ، قَالَ الله تَعَالَى: { (دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ} (النبأ: 35) أَي كَذِباً، وَأنْشد أَحْمد بن يحيى قَول أبي دُوادٍ الإِياديِّ:
قُلتُ لمَّا نَصَلاَ منْ قُنَّةٍ
كَذَبَ العَيْرُ وَإِن كَانَ برحْ
قَالَ مَعْنَاهُ: كَذَبَ العَيْرُ أَن ينجوَ منِّي أيَّ طريقٍ أَخذ سَانحاً أوْ بَارِحاً.

(10/100)


قَالَ: وَقَالَ الفرّاء: هَذَا إغراءٌ أَيْضا.
وَيُقَال: كَذَبَ لبنُ النَّاقةِ: أَي ذهب، وكَذَبَ البَعيرُ فِي سَيْرِهِ إِذا سَاءَ سَيرهُ.
قَالَ الْأَعْشَى:
جُمَاليَّة تَغْتَليِ بالرِّدافْ
إِذا كَذَبَ الآثماتُ الهجيرا
وَمن أمثالهم: (لَيْسَ لمكْذُوبٍ رأْي) وَمِنْهَا (المعاذِر مَكاذِبُ) .
وَمن أمثالهم: (إنّ الكَذُوب قد يَصدُقُ) ، وَهُوَ كَقَوْلِهِم: (مَعَ الخواطِىء سهمٌ صائب) .
وَقَالَ اللحياني: رجل تِكذَّابٌ وتِصِدَّاقٌ أَي يَكذِبُ ويَصْدُقُ.
وَقَالَ النّضر: يُقَال للنّاقةِ الَّتِي يضربُها الفحْل فتشولُ ثمَّ ترجع حَائِلا مُكَذِّبٌ، وكاذِبٌ، وَقد كَذَبَتْ وكذَّبَتْ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو: يُقَال للرجل يُصاح بِهِ وَهُوَ ساكِتٌ يُرى أنّه نَائِم: قد أكْذَب وَهُوَ الإكْذَابُ.
وَفِي حَدِيث الزبير أنّه حَمَل يَوْم اليَرمُوك على الرُّوم، وَقَالَ للْمُسلمين إِن شددتُ عَلَيْهِم فَلَا تُكَذِّبوا.
قَالَ شمر: يُقَال للرجل إِذا حَمَل ثمَّ ولَّى وَلم يمضِ: قد كَذَّبَ تَكذِيباً، وَقد كَذّب عَن قِرْنه، وَقَالَ زُهَيْر:
ليثٌ بِعَثّرَ يصطادُ الرجالَ إِذا
مَا الليثُ كَذَّب عَن أَقْرانه صَدَقَا
وَيُقَال: حَمَل فَمَا كَذّب أَي مَا جُبنَ وَمَا رَجَعَ، وَكَذَلِكَ حَمل فمَا هَلّل.
(ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي) : المَكْذُوْبةُ من النِّساء: الضعيفة.
قَالَ: المَذْكوَبة: المرأةُ الصالحةُ.
وَقَالَ ابْن شميلٍ: كَذَبَك الحجُّ أَي أمكنك فَحُج، وكَذَبك الصَّيْدُ أَي أمكنك فَارْمِهِ.
ك ذ م: مهمل.