سر صناعة الإعراب

باب الكاف:
الكاف حرف مهموس، يكون أصلا لا بدلا ولا زائدا.
فإذا كان أصلا وقع فاء وعينا ولاما، فالفاء نحو: كعب وكعم1، والعين نحو: شكر وشكر، واللام نحو: محك2 وضحك. وأخبرني أبو علي قرءة عليه، عن أبي بكر، عن بعض أصحاب يعقوب عنه، قال: قال أبو عمرو: يقال أعرابي كح وأعرابية كحة، تريد قح وقحة. قال: وقال الأصمعي القح3: الخالص من اللؤم والكرم. فينبغي أن تكون الكاف في كح بدلا من قاف قح، لأن أبا زيد حكى في جمعه أقحاح، ولم نسمعهم قالوا أكحاح، فيجري هذا مجرى ما قلناه في جدث4 وجدف. وأما قولهم: كشطت وقشطت، فقد تقدم من القول فيه ما يدل على أنها لغتان.
وأخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي جعفر بن رستم الطبري قال: مر رجل برجلين وقد نحرا ناقة وهما يكشطانها، فسأل رجلا من ناحية، فقال: ما جلاء الكاشطين؟ أي ما اسماهما؟ فقال: خابئة مصادع5، ورأس بلا شعر، فأتاهما فقال: يا كنانة ويا صليع أطعماني. وقال أبو علي: اعرفه "خابية المصابع، وهصار الأقران6"، فقال: يا كنانة ويا أسد أطعماني.
__________
1 كعم: أي وضع في فمه الكعامة، وهي ما يجعل على فم الحيوان لئلا يعض أو يأكل.
2 محك: محك محكا: أي لج في المنازعة أو المساومة. مادة "م ح ك" اللسان "6/ 4147".
3 القح: ما خلا من الشوائب الغريبة فهو قح، وكذا الخالص في اللؤم أو الكرم، يقال رجل قح للجافي كأنه خالص فيه وعربي قح أي محض خالص. مادة "ق ح ح" اللسان "5/ 3535".
4 جدث: الجدث بفتحتين القبر "ج" أجدث، أجداث. مادة "ج د ث" اللسان "1/ 559".
5 خابية المصادع: الخابية: الوعاء الذي يحفظ فيه الماء ونحوه "ج" خوابي. اللسان "2/ 1098".
المصادع: "م" المصدع: وهو المشقص من السهام. مادة "ص د ع" اللسان "4/ 2415".
وجملة خابية المصادع كناية عن الجعبة الصغيرة من الجلد والتي تصنع للسهام والنبال.
6 هصار الأقران: هصار: هصر: اي أخذ برأسه فأماله إليه، أو كسره. اللسان "6/ 4669".
والجملة "هصار الأقران" كناية عن شدته وقوته في ميدان القتال.

(1/289)


وقد تقدم من قولنا في الحروف التي تبدل في بعض المواضع وهي غير مذكورة في حروف البدل الأحد عشر، وإنما لم تحتسب هناك من حيث كان البدل فيها قليلا غير مطرد، ما فيه مقنع إن شاء الله.
وأنشدنا أبو علي:
يابن الزبير طالما عصيكا
وطالما عنيتنا إليكا
لنضربن بسيفنا قفيكا1
أبدل الكاف من التاء، لأنها أختها في الهمس، وكان سحيم إذا أنشد شعرا جيدا قال: أحسنك والله، يريد: أحسنت.
وأما قول كثير2:
ومقربة دهم وكمت كنها ... طماطم يوفون الوفار هنادك3
فقال محمد بن حبيب: أراد بالهنادك: رجال الهند، وظاهر هذا القول منه يقتضي أن تكون الكاف زائدة. قال: ويقال: رجل هندي وهندكي. ولو قيل إن الكاف أصل، وإن هندي وهندكي أصلان، بمنزلة سبط وسبطر، لكان قولا قويا، وهو الصواب.
__________
1 الأبيات ذكره صاحب اللسان منسوبة إلى امرئ القيس.
2 كثير: هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الخزاعي، من قبيلة خزاعة وهي حي من الأزد، وكنيته أبو صخر، وقد هام بعزة حبا حتى نسب إليها ونسبت إليه فيقال: كثير عزة، ويقال عزة كثير.
3 البيت في ديوان كثير "2/ 168"، والبيت نسبه صاحب اللسان إلى كثير عزة.
الشاهد فيه قوله هنادك: حيث إن الكاف زائدة ويبدو أنه يقصد بالهنادك رجال بالهند.
إعراب الشاهد: ك: حرف متصل مبني زائد في محل جر بالإضافة.
مقربة: كناية عن الخيل، والخيل المقربة هي الخيل المكرمة.
دهم: "م" أدهم. ودهم دهمة أي اسود فهي دهماء وهو أدهم. مادة "د هـ م".
كمت: "م" الكميت، وهو الخيل الذي لونه بين الأسود والأحمر، والكمت: أي الحمر.
الوفار: "م" الوفرة، وهي الكثرة، أو الشعر المجتمع على الرأس، أو ما جاوز شحمة الأذن.

(1/290)


واعلم أن الكاف المفردة تستعمل في الكلام على ضربين: جارة وغير جارة، والجارة أيضا على ضربين: أحدهما حرف، والآخر اسم.
فأما الحرف فما لم يقع مواقع الأسماء وذلك نحو قولك: مررت بالذي كزيد، والكاف هنا حرف لا محالة، لأنك لو قلت مررت بالذي مثل زيد، أو مررت بالذي مثل جعفر، لكان خلفا1 وقبيحا من الكلام، حتى تظهر الضمير المبتدأ المحذوف، فتقول: مررت بالذي هو مثل زيد، ومررت بالذي هو مثل جعفر، فإجماعهم على استحسان مررت بالذي كزيد، دلالة على أن الكاف حرف جر، وأنه بمنزلة قولك: مررت بالذي في الدار، وضربت الذي من الكرام، وجاءني الغلام الذي لمحمد. وهذا استدلال سيبويه، وهو الصواب الذي لا معدل عنه.
وأما الكاف التي في تأويل الاسم، فالتي تقع مواقع الأسماء.
وذلك نحو قول الشاعر:
وصاليات ككما يؤثفين2
فالأولى حرف، والثانية اسم، لدخول حرف الجر عليها. فأما قول الآخر:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء3
فليست اللام الثانية باسم، وإن كانت قد دخلت عليها اللام الأولى، لأنه لم يثبت في موضع غير هذا أن اللام اسم، كما ثبت أن الكاف اسم، وإذا كان ذلك كذلك، فإحدى اللامين زائدة مؤكدة، وينبغي أن تكون الزائدة هي الثانية دون الأولى، لأن حكم الزائد ألا يبتدأ به.
__________
1 خلفا: الخلف بإسكان اللام الرديء من القول. مادة "خ ل ف". اللسان "2/ 1236".
2 يؤثفين: أي جعل لها أثافي. والأثافي "م" أثفية، والأثفية هي أحد أحجار ثلاثة يوضع عليها القدر. سبق تخريجها.
3 ذكر البيت صاحب خزانة الأدب ونسبه لمسلم بن معبد "1/ 364-366".
الشاهد فيه معاملة اللام الثانية معاملة الحرف مثل اللام الأولى.
يلفى: لفى -ألفاه أي وجده وصادفه. مادة "ل ف ا" اللسان "5/ 4056".
دواء: ما يتداوى به ويعالج "ج" أدوية. مادة "د وا" اللسان "2/ 1465".

(1/291)


وكذلك قول الأعشى:
هل تنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل1
فالكاف هنا موضع اسم مرفوع، فكأنه قال: ولن ينهى ذوي شطط مثل الطعن، فيرفعه بفعله.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن تكون الكاف في هذا البيت حرف جر، وتكون صفة قامت مقام الموصوف، وتقدير الموصوف على قولنا: ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن، فيكون الفاعل شيء المحذوف، وتكون الكاف حرف جر صفة لشيء الفاعل، لأن شيئا نكرة، والنكرات قد توصف بحروف الجر، نحو قولك: جاءني رجل من أهل البصرة، وكلمت غلاما لمحمد، ويكون حذف الموصوف هنا جائزا، كما جاز في قول من تأول الآية على إقامة الصفة مقام الموصوف، وهي قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} [الإنسان: 14] قالوا: أراد: وجزاهم بما صبرو جنة وحريرا، وجنة دانية عليهم ظلالها، فحذف جنة، وأقام دانية مقامها.
__________
1 ينسب البيت إلى الأعشى أبو بصير، وهو ميمون بن قيس بن جندل، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، وأحد أصحاب المعلقات وكان يغني بشعره فسمي صناجة العرب.
البيت من قصيدة يتغزل فيها بمحبوبته هريرة، ومطلعها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
تنتهون: تنتهون عن الشيء أي تكفون عنه. مادة "ن هـ ى". اللسان "6/ 4564".
شطط: شط - شططا: أي أمعن وجاوز الحد، واشتط في الحكم أي جار. اللسان "4/ 2263".
الطعن: طعن طعنا: وخذه برمح ونحوه. مادة "ط ع ن" اللسان "4/ 2676".
الفتل: "م" فتلة، وهي قطعة من خيط القطن أو الحرير ونحوهما. اللسان "5/ 3344".
يقول الأعشى: إن الإنسان الذي يظلم لا ينتهي عن الظلم إلا إذا طعن طعنا تذهب فيه الفتل.
الشاهد في قوله "كالطعن" حيث أن حرف التشبيه الكاف يعامل معاملة اسم التشبيه "مثل" ذلك أن أداة التشبيه تكون اسم أو فعل أو حرف، فالاسم مثل "مثل" والحرف مثل الكاف، والفعل مثل يشابه أو يشبه ونحوهما.
إعراب الشاهد: كالطعن: الكاف: اسم مبني في محل رفع فاعل وهو مضاف.
الطعن: مضاف إليه مجرور بالإضافة.

(1/292)


وكقول الآخر:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن1
أي جمل من جمال بني أقيش، وغير ذلك مما يطول ذكره.
فالجواب أن حذف الموصول وإقامة الصفة مقامة على كل حال قبيح، وهو في بعض الأماكن أقبح منه في بعض، فأما قوله عز وجل: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} فالوجه فيها أن تكون منصوبة على الحال، معطوفة على قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} فهذا هو القول الذي لا ضرورة فيه.
وأما قوله: "كأنك من جمال بني أقيش" فإنما جاز ذلك في ضرورة الشعر، ولو جاز لنا أن نجد "من" في بعض المواضع قد جعلت اسما، لجعلناها ها هنا اسما، ولم نحمل الكلام هنا على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه.
__________
1 البيت نسبه صاحب اللسان إلى النابغة "3/ 1655".
والنابغة الذبياني هو زياد بن معاوية ويعد من فحول الشعراء في الجاهلية ونبغ في قول الشعر في مرحلة متقدمة من عمره ويكنى بأبي أمامة.
والبيت من قصيدة قالها يدافع بها عن بني أسد، ومطلعها:
غشيت منازلا بعريتنات ... بأعلى الجزع في الحي المبن
وقوله: كأنك: أسلوب تشبيه يقوم على إضافة أداة التشبيه إلى المشبه، وهو تشبيه استعاري غرضه التصوير والتوضيح.
بني أقيش: قوم من العرب.
يقعقع: يحدث صوتا عند التحريك. ويقال: لا يقعقع له بالشنان أي لا يخدع ولا يروع.
بشن: الشن: القربة الخلق الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيره "ج" شنان.
يقول النابغة: كأنك أحد جمال بني أقيش التي يضرب بها المثل في النفور والوحشية، وكانوا يعلقون خلفها قربة صغيرة إذا تحركت الناقة اصطدمت تلك القربة بقدميها فتسرع في المشي.
الشاهد في قوله: "من جمال بني أقيش" حيث أنها صفة سدت مسد الموصوف المحذوف المقدر وتقديره كأنك جمل من جمال بني أقيش.
إعراب الشاهد:
كأنك: كأن: أداة تشبيه ونصب تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ وترفع الخبر.
الكاف: ضمير متصل مبني في محل نصب اسم كأن، وخبره محذوف تقديره جمل.
من جمال: جار ومجرور في محل رفع نعت.

(1/293)


فأما قوله: "ولن ينهى ذوي شطط كالطعن" فلو حملته على إقامة الصفة مقام الموصوف، لكان أقبح من تأول1 قوله عز اسمه {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} على حذف الموصوف، لأن الكاف في بيت الأعشى هي الفاعلة في المعنى، و"دانية" في هذا القول إنما هي مفعول به، والمفعول قد يكون غير اسم صريح، نحو: ظننت زيدا يقوم، وحسبت محمدا يفعل، والفاعل لا يكون إلا اسما صريحا محضا، وهم على إمحاضه اسما أشد محافظة من جميع الأسماء، ألا ترى أن المبتدأ قد يقع غير اسم محض، وهو قولهم "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، فتسمع، كما ترى فعل، وتقديره: أن تسمع، فحذفهم "أن" ورفعهم تسمع، يدل على أن المبتدأ قد يمكن أن يكون عندهم غير اسم صريح. وإذا جاز هذا في المبتدأ على قوة شبهه بالفاعل، فهو في المفعول الذي يبعد عنهما أجوز، فمن أجل ذلك ارتفع الفعل في قول طرفة2:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى3
__________
1 تأول: تأول الكلام أي فسره. مادة "أول" اللسان "1/ 172".
2 طرفة: هو طرفة بن العبد، أحد أصحاب المعلقات، وأحد فحول الشعراء الجاهليين.
3 شطر البيت لطرفة بن العبد ساقه في معلقته الشهيرة والتي تبدأ بقوله:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
البيت تكملته كالآتي:
ألا يهذا اللائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
حيث جاء اللائمي مكان الزاجري.
اللائمي: لام -يلوم- لوما أي عذله، فهو لائم ولوام. مادة "ل وم" اللسان "5/ 1004".
الزاجري: زجر -يزجر. أي كفه، وزجر فلانا: أي منعه ونهاه.
الوغى: أصله صوت الأبطال في الحرب ثم جعل اسما للحرب لما فيها من الصوت والجلبة.
اللذات: "م" لذة وهي إحدى الظواهر الوجدانية الأساسية. تتتميز بالإحساس بالراحة، وتقابل الألم وهي ضربان: حسية ومعنوية.
مخلدي: الخلود: البقاء. خلد: خلدا وخلودا أي دام وبقي. اللسان "2/ 1225".
يقول طرفة: ألا أيها الإنسان الذي يلومني على حضوري الحرب وحضور اللذت هل تخلدني إن كففت عنها، والاستفهام غرضه التوبيخ.
الشاهد فيه: نصب أحضر بأن، وهذا أكده الكوفيون، اما البصريون فأنكروا أن تعمل أن المحذوفة.

(1/294)


عند كثير من الناس، لأنه أراد: أن أحضر، وأجاز سيبويه في قوله "مره يحفرها" أن يكون الرفع على قوله "مره أن يحفرها"، فلما حذفت أن ارتفع الفعل بعدها، وقد حملهم كثرة حذف "أن" مع غير الفاعل، على أن استجازوا ذلك مع اسم ما لم يسم فاعله، وإن كان جاريا مجرى الفاعل، وقائما مقامه.
وذلك قول جميل:
جزعت حذار البيت يوم تحملوا ... وحق لمثلي يا بثينة يجزع1
أراد: أن يجزع، على أن هذا قليل.
فإن قلت: ألست تعلم أن خبر كان يجري مجرى الفاعل، وقد قالوا: كأنك من جمال بني أقيش وأرادوا: جمل من جمال بني أقيش، فحذف الموصوف وهو خبر كأن، فهلا أجزت حذف الفاعل وإقامة الصفة مقامه في قول الأعشى: "ولن ينهى ذوي شطط كالطعن"، وقلت إنه أراد: شيء كالطعن، حملا على بيت النابغة؟
فالجواب أن بينهما فرقا من وجهين:
أحدهما: أن خبر كان وإن شبه بالفاعل في ارتفاعه، فليس في الحقيقة فاعلا، ولا في مذهب الفاعل، أولا تراك تقول: كأن زيدا يصلي، وكن أخاك يقفوا أثرك، فجعلهم خبرها، فعلا يدلك على أنه لا تبلغ قوة الفاعل في الاسمية، لأن الفاعل لا يكون إلا اسما محضا.
__________
1 البيت لجميل بن معمر من قبيلة عذرة وهي قبيلة اشتهرت بالحب العذري، وكنيته أبو عمر، وقد وقع في هوى بثينة وارتبط اسمه بها حتى قيل جميل بثينة وقال فيها من الشعر الكثير.
جزعت: جزع جزعا: أي لم يصبر على ما نزل به، فهو جازع وجزوع وجزع.
البين: الفرقة، والكلمة من الأضداد فتكون أحيانا بمعنى الوصل. اللسان "1/ 403".
بثينة: تصغير بثنة وهي الأرض السهلة اللينة، والمرأة الجميلة البضة. اللسان "1/ 209".
ويقول جميل: إنني يا بثينة فقدت الصبر والتحمل على فراقك ومثلي لما به من حب وجوى حق له ألا يصبر على ألم الفراق، والأسلوب خبري تقريري.
الشاهد فيه أن الفعل "يجزع" يقرأ بالنصب عند الكوفيين وناصبه أن المحذوفة والتقدير "أن يجزع"، وعلى ذلك يكون إعراب الشاهد: يجزع: فعل مضارع منصوب بأن المحذوفة وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره لأنه مضارع صحيح الآخر.

(1/295)


والآخر: أن بيت النابغة: "كأنك من جمال بني أقيش" اضطررنا فيه إلى إقامة الصفة مقام الموصوف، وبيت الأعشى لم نضطر فيه إلى ذلك، لأنه قد قامت الدلالة المبنية عندنا على استعمالهم الكاف اسما في نحو قول الآخر:
وزعت بكالهراوة أعوجي ... إذا ونت الركاب جرى وثابا1
فدخول حرف الجر عليها يؤكد كونها اسما، وكذلك قول الآخر:
قليل غرار النوم حتى تقلصوا ... على كالقطا الجوني أفزعه الزجر2
__________
1 البيت ذكر في اللسان بغير نسبة "3/ 1965"، ولم نعثر على قائله فيما بين أيدينا من كتب.
وزعت: وزع: وزعا: أي كفه ومنعه وزجره ونهاه. مادة "وز ع" اللسان "6/ 4825".
الهراوة: العصا الضخمة "ج" هراوي. مادة "هـ ر ا" اللسان "6/ 4658".
أعوجي: الأعوج: فرس سابق ركب صغيرا فاعوجت قوائمه. اللسان "4/ 3155".
وقال عنه العرب: أن أعوج من أفضل أنواع الخيل كان في كندة ثم أخذته بنو سليم ثم بنو هلال.
ونت: وني: ونيا: وناء: أي فتر وضعف. مادة "ن وى" اللسان "6/ 4928".
الركاب: الإبل المركوبة أو التي يراد الحمل عليها "ج" ركب وركائب. اللسان "3/ 1713".
وثابا: وثب، يثب وثبا، أي قفز. مادة "وث ب" اللسان "6/ 4762".
الشاعر يقول: أنه رد الأعداء وزاد عن قومه عندما فترت وضعفت باقي الخيل بفرس أصيل قوي ضامر ضخم كالهراوة قادر على الكر والفر والنزال والقتال.
الشاهد فيه قول "بكالهراوة" حيث أن الكاف اسم وليست حرف وهي بمعنى مثل.
إعراب الشاهد: "بالكالهراوة": الباء حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر.
الكاف: اسم مجرور بحرف الجر الباء وعلامة الجر الكسرة، وهو: مضاف.
الهراوة: مضاف إليه مجرور بالإضافة.
2 نسب المخصص البيت للأخطل "14: 49".
غرار النوم: القليل من النوم وغيره، ويقال: ما ذقت النوم إلا غرارا. اللسان "5/ 3235".
تقلصوا: تقلص الشيء إذا تدانى وانضم، والمقصود أنهم شمروا ثيابهم واستعدوا.
القطا: "م" القطاة وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء ويتخذ أفحوصة في الأرض ويطير جماعات ويقطع مسافات شاسعة ويبيضه مرقط. مادة "ق ط ا" اللسان "5/ 3684".
الجوني: جان: جونا وجونة أي اسود، والجون الأسود "ج" جون. اللسان "1/ 732".
أفزعه: أي أخافه وروعه. مادة "ف ز ع" اللسان "5/ 3409".
الزجر: الكف والنهر، ويقال زجر فلانا أي كفه ومنعه ونهاه وانتهزه.
يقول الأخطل: إن نومي قليل ولذا فأنا أنتبه لأعدائي كذلك النوع من القطا والذي يسمى بالجوني لاسوداد لونه - عندما يفزعه الزجر مع أقل حركة.
الشاهد قوله: كالقطا، حيث إن الكاف اسم وليست حرف وهي هنا بمعنى مثل أي "مثل القطا".

(1/296)


وقال ذو الرمة:
أبيت على مي كئيبا وبعلها ... على كالنقا من عالج يتبطح1
وكذلك قول الآخر:
على كالخنيف السحق يدعو به الصدى ... له قلب عفى الحياض أجون2
__________
1 قائل البيت ذو الرمة وهو غيلان بن عقبة وكنيته أبو الحارث ولم يكن له من الوسامة نصيب، وكان كثير الغزل يتشبه بالنساء ومنهن خرقاء رومية، وقد نسب له البيت في خزانة الأدب وهو في ديوانه كالآتي:
أبيت على مثل الأشافي وبعلها ... يبيت على مثل النقا يتبطح
مي: اسم محبوبته.
كئيبا: كئب كآبة: أي تغيرت نفسه وانكسرت من شدة الهم والحزن فهو كئيب.
بعلها: البعل: السيد أو الزوج "ج" بعلا وبعول وبعولة. اللسان "1/ 316".
النقا: الكثيب من الرمل "ج" أنقاء. اللسان "6/ 4533". يتبطح: أي انبطح.
يقول ذو الرمة: إنني أبيت حزينا مهموما على محبوبتي مي التي تزوجت غيري.
الشاهد فيه قوله: كالنقا "حيث إن الكاف: هنا بمعنى مثل وهي اسم وليست حرفا.
2 ذكر هذا البيت صاحب اللسان في مادة "خ ن ف".
الخنيف: من الثياب بوزن العنيف أبيض غليظ يتخذ من كتان، وفي الحديث "تخرقت عنا الخنف"، "ج" خنف. مادة "خ ن ف". اللسان "2/ 1280".
السحق: البالي، ويقال ثوب سحق: أي ثوب بالي. مادة "س ح ق". اللسان "3/ 1956".
الصدى: رجع الصوت يرده الجبل ونحوه "ج" أصداء. اللسان "4/ 2421".
قلب: "م" قليب، وهو البئر قبل أن تطوى، أو قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها وهو يذكر ويؤنث فتقول هذه قليب وهذا قليب. ويقال: هي البئر العادية القديمة. مادة "ق ل ب".
عفى: "م" عاف أي دارس وبالي، أو ذهب أثره فمحى ودرس. وجمعه بهذه الصيغة جمع يندر التعامل به. مادة "ع ف ا" اللسان "4/ 3018".
الحياض: "م" الحوض وقد يجمع على أحواض وحياض وحيضان، والحوض مجتمع الماء.
أجون: "م" الآجن وهو الماء المتغير اللون والطعم، وأجن الماء من باب ضرب.
والشاهد فيه قوله: "كالخنيف" فإن الكاف اسم بمعنى مثل وليست حرفا.

(1/297)


فهذا ونحوه يشهد بكون الكاف اسما، وبيت الأعشى أيضا يشهد بما قلنا، فلسنا ننزل عن الظاهر، ونخالف الشائع المطرد، إلى ضرورة واستقباح، إلا بأمر يدعو إلى ذلك، ولا ضرورة هنا، فنحن على ما يجب من لزوم الظاهر، ومخالفنا معتقد لما لا قياس يعضده، ولا سماع يؤيده.
ووجه ثالث: وهو أن خبر كأن هو خبر المبتدأ في الأصل، وخبر المبتدأ لا يلزم إمحاضه اسما.
فإن قال قائل: فما بال الفاعل خالف المبتدأ في وجوب كونه اسما محضا، وجواز كون المبتدأ غير اسم محض، وكلاهما محدث عنه، ومسند إليه؟
فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر لمتأمله، وذلك أن الجمل إنما تتركب من جزأين جزأين: إما اسم اسم، وهو نحو المبتدأ وخبره، وإما فعل واسم، نحو الفعل والفاعل، وما أقيم من المفعولين مقام الفاعل، ولا بد في كل واحدة من هاتين الجملتين إذا عقدت من اسم يسند إليه غيره، فأنت إذا أزلت عن المبتدأ أن يكون اسما محضا، فقد بقيت الجزء الذي هو اسم، وذلك نحو قولهم "تسمع بالمعيدي خير"1 فالمبتدأ الذي هو في اللفظ تسمع، قد أخبرت عنه باسم، وذلك الاسم خبر، فقد بقيت على كل حال في الجملة اسما، ولو ذهبت تحذف الفعل، وتقيم مقامه غير اسم، لبقيت الجملة معقودة بلا اسم، وهذا لفظ يناقض2 ما عقدت عليه الجمل في أول تركيبها، ولذلك رفض ذلك: فلم يوجد في الكلام.
فأما بيت جمل: "وحق لمثلي يا بثينة يجزع" فقليل شاد، على أن حذف "أن" في الكلام قد كثر، حتي صار كلا حذف، ألا ترى أن أصحابنا استقبحوا3
__________
1 تسمع بالمعيدي خير: هو مثل يضرب وتمامه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ذكره صاحب اللسان "3/ 2038".
2 يناقض: يخالف ويعارض. مادة "ن ق ض" اللسان "6/ 2524".
3 استقبحوا: عدوه قبيحا، والقبح ضد الحسن ويكون في القول والفعل والصورة.

(1/298)


نصب "غير" من قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] 1، بأعبد. قالوا: لأن التقدير والمعنى: قل أفغير الله تأمروني أن أعبد، فكأن "أن" هناك، وما بعد "أن" لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، لامتناع تقديم الصلة أو شيء منها على الموصول، أولا تراهم كيف تخيلوا أن التقدير: قل أتأمروني أن أعبد غير الله. ولولا أنهم قد أنسوا بحذف "أن" من الكلام، وإرادتها، لما استقبحوا انتصاب "غير" بأعبد، فهذا شرح الفاعل والمبتدأ وما لم يسم فاعله.
فأما خبر المبتدأ، فلا يلزم أن يكون اسما محضا، لأن الجمل تقع هناك وقوعا حسنا مطردا، وهذا في خبر "كان" أحسن منه في خبر "إن" لأنك قد استوفيت بكان واسمها لفظ الفعل والفاعل، ولم تستوف بإن واسمها إلا لفظ الفعل والمفعول، لأن اسم كان مشبه بالفاعل، واسم إن مشبه بالمفعول، إلا أنه جاز في خبر "إن" أن يكون جملة، وغير اسم محض، من حيث كان خبر المبتدأ في المعنى، فكما جاز أن يكون خبر المبتدأ غير اسم محض وجملة، جاز أيضا في خبر إن، إلا أنه في خبر إن ليس في حسن خبر المبتدأ، لأن المبتدأ اسم مرفوع، فقد حصل معك شب الفاعل، واسم إن وأخواتها منصوب، فإذا جعلت الخبر غير اسم محض، فقد أخليت العقدة من اسم مرفوع.
فأما اسم كان فجعلك إياه غير اسم محض، أقبح من فعلك ذلك بخبر إن، وذلك أن اسم كان مشبه بالفاعل من خبر إن، ألا ترى أنه يباشر كان مباشرة الفاعل لفعله، ويضمر في الفعل كإضمار الفاعل، وذلك نحو: كنت أخاك، كقولهم: ضربت أخاك، وخبر إن لا يباشر إن ولا يضمر فيها، فلم يقو في شبه الفاعل قوة اسم كان في ذلك.
__________
1 أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال:
قال المشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله تعالى الآية: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي ... } إلى قوله تعالى: {مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، والاستفهام غرضه التوبيخ والتحقير من شأن ما يدعونه إلى عبادته من دون الله.
الشاهد فيه: نصب "أعبد" بأن المحذوفة والتقدير "أن أعبد".
إعراب الشاهد: أعبد: فعل مضارع منصوب بأن المحذوفة وعلامة نصبه الفتحة.

(1/299)


فقد صح بما قدمنا أن كاف الجر قد تكون مرة اسما ومرة حرفا، فإذا رأيتها في موضع تصلح فيه لأن تكون اسما ولأن تكون حرفا، فجوز فيها الأمرين، وذلك نحو قولك زيد كعمرو، فقد تصلح أن تكون الكاف هنا اسما، كقولك زيد مثل عمرو، ويجوز أن تكون حرفا، كقولك زيد من الكرام، فكما أن من حرف جر وقع خبرا عن المبتدأ، فكذلك الكاف تصلح أن تكون حرف جر، فإذا قلت: أنت كزيد، وجعلت الكاف اسما، فلا ضمير فيها، كما أنك إذا قلت: أنت مثل زيد، فلا ضمير في مثل، كما لا ضمير في الأخ ولا الابن إذا قلت: أنت أخو زيد، وأنت ابن زيد.
هذا قول أصحابنا، وإن كان قد أجاز بعض البغداديين أن يكون في هذا النحو الذي هو غير مشتق من الفعل ضمير، كما يكون في المشتق، فإذا جعلت الكاف في قول: أنت كزيد حرفا، ففيها ضمير، كما تتضمن حروف الجر الضمير إذا نابت عن الأفعال في قولك: زيد من الكرام، ومحمد على الفرس.
واعلم أنه كما جاز أن تجعل هذه الكاف فاعلة في بيت الأعشى وغيره، فكذلك يجوز أن تجعل مبتدأة، فتقول على هذا: كزيد جاءني، وأنت تريد: مثل زيد جاءني، وكبكر غلام لمحمد، فإن أدخلت "إن" على هذا قلت: إن كبكر غلام لمحمد، فرفعت الغلام، لأنه خبر إن، والكاف في موضع نصب، لأنها اسم إن، وتقول إذا جعلت الكاف حرفا وخبرا مقدما: إن كبكر أخاك. وتريد: إن أخاك كبكر، كما تقول: إن من الكرام زيدا.
واعلم أن أقيس الوجهين إذا قلت: أنت كزيد، أن تكون الكاف حرفا جارا، بمنزلة الباء واللام، لأنها مبنية مثلهما، ولأنها أيضا على حرف واحد، ولا أصل لها في الثلاثة، فهي بالحرف أشبه، ولأن استعمالها حرفا أكثر من استعمالها اسما.
واعلم أن هذه الكاف التي هي حرف جار، كما كانت غير زائدة فيم قدمنا ذكره فقد تكون زائدة مؤكدة، بمنزلة الباء في خبر ليس، وما، ومن، وغير ذلك من حروف الجر، وذلك نحو قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشوري: 11] 1.
__________
1 أي أن الله عز وجل لا يشبب شيء من خلقه، فهو متفرد بذته وصفاته وأفعاله.
الشاهد فيه قوله عز وجل: {كَمِثْلِهِ} حيث إن الكاف الجارة زائدة للتوكيد.
إعراب الشاهد:
ك: حرف جر مبني زائد لا محل له من الإعراب يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر.
مثله: مثل اسم مجرور بحرف الجر لفظا منصوب محلا لوقوعه خبر ليس وهو مضاف، والهاء ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه.

(1/300)


تقديره والله أعلم: ليس مثله شيء، فلا بد من زيادة الكاف، ليصح المعنى، لأنك إن لم تعتقد ذلك أثبت له "عز اسمه" مثلا، فزعمت أنه ليس كالذي هو مثله شيء، فيفسد هذا من وجهين: أحدهما ما فيه من إثبات المثل له عز اسمه وعلا علوا عظيما، والآخر أن الشيء إذا أثبت له مثلا فهو مثل مثله، لأن الشيء إذا ماثله شيء، فهو أيضا مماثل لما ماثله، ولو كان ذلك كذلك -على فساد اعتقاد معتقده- لما جاز أن يقال: ليس كمثله شيء، لأنه تعالى مثل مثله، وهو شيء، لأنه تعالى قد سمى نفسه شيئا بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} 1 [الأنعام: 19] وذلك أن "أيا" إذا كانت استفهاما، فلا يجوز أن يكون جوابها إلا من جنس ما أضيفت إليه، ألا ترى أنك لو قال لك قائل: أي الطعام أحب إليك؟ لم يجز أن تقول له: الركوب، ولا المشي، ولا نحو ذلك، مما ليس من جنس الطعام. فهذا كله يؤكد عندك أن الكاف في كمثله لا بد أن تكون زائدة.
ومن ذلك أيضا قول رؤبة:
لواحق الأقراب فيا كالمقق2
__________
1 يقول عز وجل أنه لا يوجد أعظم شهادة من الله.
الشاهد فيها: استخدام الشيئية كوصف لله عز وجل.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: جاء النمام بن زيد وقروم بن كعب وبحري بن عمرو. فقالوا: يا محمد ما نعلم مع الله إلها غيره. فقال: لا إله إلا الله بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو، فنزل قوله تعالى: {أَيُّ شَيْءٍ} تفسير وبيان أسباب النزول للسيوطي "ص207".
الشاهد فيها قوله: {شَيْءٍ} وجاءت نكرة لتدل على العموم والشمول لتشمل وتعم كل ما يعلمون من أولئك الذين يصلحون للشهادة فالله أكبر وأعدل وأقوم شهادة.
إعراب الشاهد: شيء: مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة الظاهرة.
2 يقول الشاعر إن في لواحق الأقراب طول.
لواحق: "م" اللحق، وهو ما يجيء بعد شيء يسبقه، وتجمع على لواحق وإلحاق.
الشاهد في قوله: "كالمقق" حيث أن الكاف حرف جر زائد.
إعراب الشاهد: الكاف: حرف جر زائد مبني لا محل له من الإعراب.
المقق: اسم مجرور لفظا بحرف الجر الزائد، مرفوع محلا على الابتداء، والجار والمجرور قبله شبه جملة في محل رفع خبر مقدم.

(1/301)


والمقق: الطول. ولا يقال في الشيء كالطول، وإنما يقال: فيه طويل، فكأنه قال: فيها مقق، أي طول.
وهذه مسألة من الكتاب.
قال سيبويه1: تقول: ما زيد كعمرو ولا شبيها به، وما عمرو كخالد ولا مفلحا النصب في هذا جيد، لأنك إنما تريد ما هو مثل فلان، ولا مفلحا، هذا معنى الكلام، فإن أردت أن تقول: ولا بمنزلة من يشبهه، جررت، وذلك نحو قولك: ما أنت كزيد ولا خالد، فإنما أردت ولا كخالد، فإذا قلت: ما أنت بزيد ولا قريبا منه، فليس هاهنا معنى بالباء لم يكن قبل أن تجيء بها، وأنت إذا ذكرت الكاف تمثل بها. انقضى كلام سيبويه.
واعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح، لتتلخص معانيه، فإن في ظاهره إشكالا2.
أما قوله: ما أنت كعمرو ولا شبيها به، فلا يخلو الكاف في كعمرو أن يكون اسما كمثل، أو حرفا فيه معنى مثل، على ما صدرناه3 من قولنا، فإن كانت الكاف في كعمرو اسما، فشبيه معطوف عليها، كما كان يعطف على مثل لو كانت هناك، فقلت: ما أنت مثل عمرو ولا شبيها به، كقولك: ما أنت غلام عمرو ولا جارا له، وهذا أمر ظاهر. وإن كانت الكاف في كعمرو حرفا كالتي في قولنا مررت بالذي كزيد، فشبيه المنصوب معطوف على كعمرو جميعا، لأن الجار والمجرور في موضع نصب، لأن هذه لغة حجازية، لأن نصب "شبيه" يدل على أن الأول في
__________
1 ذكر سيبويه ذلك في الكتاب "1/ 35".
2 إشكالا: الإشكال: الالتباس والخلط. مادة "ش ك ل". اللسان "4/ 2310".
3 صدرناه: صدر به أي بدأ به. مادة "ص د ر". اللسان "4/ 2412".

(1/302)


موضع نصب، إلا أن هذا الموضع متى عطفت على لفظه أفدت معنى، فإن عطفت على معناه دون
لفظه، أفدت معنى آخر، ألا ترى أنك لو قلت: ما زيد كعمرو ولا شبيه به، فجررت الشبيه، فإنما أردت ولا كشبيه به، فقد أثبت له شبيها، ونفيت أن يكون زيدا كالذي يشبه عمرا، وأنت إذا قلت: ما زيد كعمرو ولا شبيها، فإنما نفيت عن زيد أن يكون شبيها لعمرو، ولم تثبت لعمرو شبيها، وليس كذلك قولنا: ما أنت بعمرو ولا خالدا، لأنك إن نصبت خالدا على المعنى أو جررته على اللفظ، فإنما معناه في الموضعين واحد، أي ما أنت هذا ولا هذا.
فقول سيبويه "لأنك تريد ما هو مثل هذا ولا مفلحا، هذا معنى الكلام"، يحتمل أمرين:
أحدهما: أن معنى الكاف معنى مثل، وهي حرف.
والآخر: أن معنى الكاف معنى مثل، وهي اسم، كما أن مثلا اسم، فإن كانت الكاف اسما، فالعطف عليه ظاهر، وإن كانت حرفا، كان العطف عليها وعلى ما جره، لأنهما في موضع نصب، على ما تقدم من بياننا.
وقوله: فإن أراد أن يقول: ولا بمنزلة من يشبهه، جره" يقول: إذا جررت شبيها به، فقد أثبت لعمرو شبيها، لأنك أردت: ولا كمن يشبهه.
ومثل ذلك فقال: وذلك نحو قولك: ما أنت كزيد ولا خالد، فهذا يبين لك أنك إذا جررت، فعطفت على عمرو وحده، فقد أثبت هناك شبيها لعمرو، وهو غيره، كما أنك إذا قلت: ما أنت كزيد ولا خالد، فقد أثبت غير زيد وهو خالد.
وقوله "فإذا قلت: ما أنت بزيد ولا قريبا منه، فليس هاهنا معنى بالباء لم يكن قبل أن تجيء بها": يريد أن قولك: ما أنت بزيد، وما أنت زيدا، معناهما واحد، وإنما جئت بالباء زائدة مؤكدة، على ما تقدم في صدر كتابنا هذا من قول عقيبة:
................ ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا1
__________
1 نسب الزمخشري البيت لعبد الله الأسدي، والبيت بتمامه:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
ويقصد الشاعر معاوية بن أبي سفيان بن حرب، وأمه: هند بنت عتبة، ملك المسلمين بعد قتال دار بينه وبين علي كرم الله وجهه، ويطلب الشاعر من معاوية أن يترفق بهم فهم ليسوا جبالا ولا حديدا حتى يتحملوا.
الشاهد في قوله "بالجبال" حيث إن الياء حرف جر زائد يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر.
إعراب الشاهد: الجبال: اسم مجرور لفظا منصوب محلا باعتباره خبر ليس، ورويت الحديد بالنصب على التبعية للجبال، ورويت بالكسر بالتبعية على الظاهر.

(1/303)


وغيره. وأنت إذا قلت: ما أنت زيدا، فله معنى غير معنى: ما أنت كزيد، لأنك إذا قلت: ما أنت زيدا، فإنما نفيت أن يكون هو هو، وإذا قلت: ما أنت كزيد فإنما نفيت أن يكون مشبها له، ألا ترى أن من قال: أنا زيد، فمعناه غير معنى من قال: أنا كزيد، فكما كان الإيجابان مختلفين، كذلك يكون النفيان مختلفين، وهذا واضح.
فقول سيبويه: "فإن أردت أن تقول ولا بمنزلة من يشبهه جررت" يؤكد عندك أيضا زيادة الكاف في قوله عز اسمه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشوري: 11] ، لأنه نفى أن يكون كمثله شيء، والكاف غير زائدة، فقد أثبت له مثلا، كما أثبت سيبويه في مسألته إذا جررت، أن لزيد من يشبهه.
وقال أبو الحسن1 في قوله: ما أنت كزيد ولا شبيها به: إذا جررت الشبيه فقد أثبت لزيد شبيها، وإذا نصبت لم تثبت له شبيها. وهذا هو تلخيص قول سيبويه، لم يزد فيه شيئا، وهذا الكلام فيهما على أن الكاف في كزيد غير زائدة، وليست كالذي في بيت رؤبة: لواحق الأقراب فيها كالمقق".
وأجاز لنا أبو علي2 فيها الجر، وألا يكون مع الجر له شبيه. قال: وذلك على اعتقاده زيادة الكاف، فكأنه قال: ما أنت زيدا ولا شبيها به، ثم زاد الكاف، فقال: ما أنت كزيد ولا شبيه به، فلما جر زيدا بالكاف مع اعتقاده زيادته، عطف الشبيه على زيد، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي وجه صحيح، وهو رأي أبي الحسن، ونظيره "ليس كمثله شيء"، و"فيها كالمقق".
__________
1 أبو الحسن: هو أبو الحسن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي.
2 أبو علي: هو أبو الحسن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أستاذ ابن جني.

(1/304)


ومثله أيضا قوله عز اسمه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] 1 ذهب أبو الحسن إلى أن الكاف زائدة، وعطف "الذي" على" الذي" من قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] 2 وأجاز أبو علي أن يكون الكلام معطوفا على المعنى، وذلك أن معنى قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} : أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية، فلا تكون الكاف على هذا زائدة. وهذا وجه حسن.
فأما قول الآخر:
فصيروا مثل كعصف مأكول3
فلا بد فيه من زيادة الكاف. فكأنه قال: فصيروا مثل عصف مأكول. فأكد الشبه بزيادة الكاف، كما أكد الشبه بزيادة الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلا أنه في الآية أدخل الحرف على الاسم، وهذا شائع، وفي البيت أدخل الاسم، وهو مثل، على الحرف، وهو الكاف، فشبه شيئا بشيء.
فإن قال قائل: بماذا جر عصف؟ أبالكاف التي تجاوره؟ أم بإضافة مثل إليه، على أنه فصل بالكاف بين المضاف والمضاف إليه؟
__________
1 هو عزير أحد أنبياء بني إسرائيل.
الشاهد فيها: أن الكاف في قوله "كالذي" زائدة للتوكيد.
2 حاج: أي جادل. والذي حاج إبراهيم هو النمرود بن كنعان. اللسان "2/ 779".
الشاهد فيه: أن يكون الكلام معطوفا على المعنى.
والتقدير: أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية.
3 ذكر صاحب اللسان البيت في مادة "ع ص ف" دون أن ينسبه إلى قائله.
العصف: دقائق التبن. مادة "ع ص ف" اللسان "4/ 2972".
الشاهد فيه قوله: "كعصف" حيث إن الكاف زائدة جارة، ووظيفتها التوكيد.
والتقدير بعد الحذف "مثل عصف مأكول".
إعراب الشاهد:
الكاف: حرف جر زائد مبني لا محل له من الإعراب.
عصف: اسم مجرور بحرف الجر الزائد وعلامة الجر الكسرة.

(1/305)


فالجواب: أن "العصف" في البيت "لا يجوز أن يكون مجرورا إلا بالكاف، وإن كانت زائدة، يدلك على ذلك أن الكاف في كل موضع تقع فيه زائدة، لا تكون إلا جارة، كما أن من وجميع حروف الجر في أي موضع وقعن زوائد، فلا بد من أن يجررن ما بعدهن كقولك: ما جاءني من أحد، ولست بقائم، فكذلك الكاف في مثل "كعصف" هي الجارة للعصف، وإن كانت زائدة على ما تقدم.
فإن قيل: فإذا جررت العصف بالكاف، فإلام أضفت مثلا؟ وما الذي جررت به؟
فالجواب أن "مثلا" وإن لم تكن مضافة في اللفظ، فإنها مضافة في المعنى، وجارة لما هي مضافة إليه في التقدير، وذلك أن التقدير: فصيروا مثل عصف مأكول. فلما جاءت الكاف تولت هي جر العصف، وبقيت مثل غير جارة ولا مضافة في اللفظ، وكان احتمال هذه الحال في الاسم المضاف أسوغ1 منه في الحرف الجار، وذلك لأنا لا نجد حرفا جارا معلقا غير عامل في اللفظ، وقد نجد بعض الاسماء معلقا عن الإضافة، جارا في المعنى غير جار في اللفظ، وذلك نحو قولهم: جئت قبل وبعد. وقام زيد ليس غير، وقد قالوا أيضا:
يا من رأى عارضا أسر به ... بين ذارعي وجبهة الأسد2
أي بين ذراعي الأسد وجبهته، وجئت قبل كذا وبعد كذا، وقام زيد ليس غيره.
__________
1 أسوغ: أكثر قبولا: مادة "س وغ". اللسان "3/ 2125".
2 البيت ينسب للفرزدق وهو أبو فراس همام بن غالب التميمي الدرامي، من أفخر الشعراء الأمويين وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء، ولد سنة 19هـ، ونشأ بالبصرة والبادية، ومات سنة 114هـ.
العارض: السحاب المعترض في جو السماء، وفي القرآن {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} .
أسر به: أي أفرح به. مادة "س ر ر" اللسان "3/ 1992".
ذراعي وجبهة الأسد: من منزل الكواكب، حيث أن الذراعين أربعة كواكب كل اثنين منها يكونان ذراع، والجبهة أيضا أربعة كواكب.
الشاهد فيه: حذف المضاف إليه مع وجود ما يدل على المضاف إليه، والتقدير بين ذراعي الأسد وجبهته.
إعراب الشاهد:
بين: مفعول فيه منصوب بالمفعولية. ذراعي: مضاف إليه مجرور.
و: حرف عطف مبني لا محل له من الإعراب يفيد الاشتراك في الحكم.
جبهة: معطوف مجرور بالتبعية.
الأسد: مضاف إليه مجرور بالإضافة.

(1/306)


ومن أبيات الكتاب قول الأعشى:
إلا بداهة أو علا ... له سابح نهد الجزارة1
أي إلا بداهة سابح أو علالة سابح.
وحكى الفراء عن بعض العرب أنه قال: "برئت إليك من خمس وعشري النخاسين، أي من خمس النخاسين" وعشري النخاسين.
وحكى هو أيضا: قطع الله الغداة2 يد ورجل من قاله. أي يد من قاله ورجل من قاله. وهذا كثير، وإنما أردت أن أوجدك أن الأسماء قد تعلق عن الإضافة في ظاهر اللفظ، وأن الحروف لا يمكن أن تعلق عن الجر في اللفظ البتة، ومعنى قولي في اللفظ: أن يوجد بعدها لفظ مجرور جرا مظهرا أو مقدرا.
__________
1 نسب صاحب اللسان البيت للأعشى.
والأعشى هو: أبو بصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل القيسي نشأ في بدء أمره راوية لخاله -المسيب بن علس- وقد عمي الأعشى، وطال عمره حتى انبلج فجر الإسلام وعظم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعد له قصيدة يمدحه بها فقابله كفار قريش وصدوه عن وجهته على أن يأخذ منهم مائة ناقة حمراء ويرجع إلى بلده، لتخوفهم من أثر شعره، ففعل، ولما قرب من اليمامة سقط عن ناقته فدقت عنقه فمات، ودفن ببلدته "منفوحة" اليمامة.
البداهة: اوكل شيء. ويقصد به أول جري الفرس. مادة "ب د هـ" اللسان "1/ 234".
علالة: الجري مرة بعد أخرى، سابح: يقصد الفرس. مادة "ع ل ل" اللسان "4/ 3079".
نهد: القوي الضخم. مادة "ن هـ د" اللسان "6/ 4555".
الجزارة: أطراف البعير "اليدين، الرجلين، الرأس" ويقال: فرس ضخم الجزارة: أي غليظ اليدين والرجلين كثير عصبهما. مادة "ج ز ر". اللسان "1/ 614".
الشاهد فيه قوله "بداهة وعلالة سابح" فقد حذف المضاف إليه، والأصل: إلا بداهة سابح أو علالته.
2 الغداة: الفترة من الفجر إلى طلوع الشمس. مادة "غ د و". اللسان "5/ 322".

(1/307)


فالمظهر نحو: مررت بزيد، والمقدر نحو: مررت بهذا، وذلك وغيرهما من المبني، فعلى ما قدمناه ينبغي أن يكون "عصف" من قوله "مثل كعصف" مجرورا بالكاف، دون أن يكون مجرورا بإضافة مثل إليه.
فأما قول الشاعر:
جياد بني أبي بكر تسامى ... على كان المسومة العراب1
فإنه إنما جاز الفصل بين حرف الجر وما جره بكان، من قبل أنها زائدة مؤكدة، فجرى مجرى "ما" المؤكدة في نحو قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} 2 [النساء: 155] ، و {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] ، و {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح: 25] ، فلذلك جاز لعلى، وإن كانت حرفا جارا، أن تتخطى إلى ما بعد كان فتجره، ولا يجوز في قوله: "ككما يؤثفين" أن تكون "ما" مجرورة بالكاف الأولى، لأن الكاف الثانية عاملة للجر، وليست "كان" جارة، فتجري مجرى الكاف في ككما.
فإن قيل: فمن أي جاز تعليق الأسماء عن الإضافة في اللفظ، ولم يجز في حروف الجر ألا تتصل بالمجرور في نحو ما قدمته.
__________
1 جياد: "م" الجواد، وهو النجيب من الخيل. مادة "ج ود" اللسان "1/ 720".
تسامى: تسامى القوم أي تفاخروا. مادة "س م ا" اللسان "3/ 2107".
المسومة: المعلمة بعلامة، ويقال وسم الشيء: كواه فأثر فيه بعلامة. اللسان "6/ 4838".
العراب: يقال خيل عراب، وإبل عراب: أي خالصة العروبة "م" عربي: اللسان "4/ 2866".
يقول الشاعر أن سادات بني بكر يفتخرون بجيادهم المميزة والموسومة، والتي تفضل جميع أنواع الخيل الأخرى.
الشاهد فيه قوله "كان" فهي زائدة بين الجار والمجرور.
إعراب الشاهد: كان: زائدة.
المسومة: اسم مجرور بحرف الجر على.
العراب: نعت مجرور بالتبعية.
2 الآية دليل على زيادة "ما" بين الجار والمجرور في {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} .
إعراب الشاهد:
الباء: حرف جر. ما: زائدة مبنية لا محل لها من الإعراب.
نقض: اسم مجرور. هم: ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه.

(1/308)


فالجواب أن ذلك جائز في الأسماء من وجهين:
أحدهما: أن الأسماء أقوى وأعم تصرفا من الحروف، وهي الأول الأصول. فغير منكر أن يتجوز فيه ما لا يتجوز في الحروف، ألا ترى أن التاء في ربت وثمت علامة تأنيث، كما أن التاء في مسلمة وعاقلة علامة تأنيث؟ وقد أبدلوا تاء التأنيث في الاسم هاء في الوقف، فقالوا مسلمه، وعاقله، ولم يبلدوا التاء في ربت وثمت ولات ولعلت في وقف ولا وصل، لأنه ليس للحرف قوة الاسم وتصرفه، والفعل أيضا في هذا جار مجرى الحرف.
ألا ترى أن التاء في قامت وقعدت ثابتة غير مبدلة في وصل ولا وقف؟ فهذا أحد الوجهين.
والوجه الآخر: أن الأسماء ليست في أول وضعها مبنية على أن تضاف ويجر بها، وإنما الإضافة فيها ثان لا أول، فجاز فيها أن تعرى1 في اللفظ من الإضافة، وإن كانت الإضافة فيها منوية2، وأما حروف الجر فوضعت على أنها للجر البتة، وعلى أنها لا تفارق المجرور لضعفها وقلة استغنائها عن المجرور، فلم يمكن تعليقها عن الجر والإضافة، لئلا يبطل الغرض الذي جيء بها من أجله، فهذا أمر ظاهر واضح.
فإن قال قائل: فمن أين جاز للاسم أن يدخل على الحرف في قوله "مثل كعصف".
فالجواب أنه إنما جاز ذلك، لما بين الكاف ومثل من المضارعة في المعنى، فلما جاز لهم أن يدخلوا الكاف على الكاف في قوله:
وصاليات ككما يؤثفين3
لمشابهته لمثل، حتى كأنه قال: كمثل ما يؤثفين، كذلك أدخلوا أيضا مثلا على الكاف في قوله: "مثل كعصف"، وجعلوا ذلك تنبيها على قوة الشبه بين الكاف ومثل.
__________
1 تعرى: يقصد تخلو. مادة "ع ر ى". اللسان "4/ 2920".
2 منوية: مقصودة. مادة "ن وى". اللسان "6/ 4589".
3 تم الحديث عن هذا الشاهد.

(1/309)


فإن قال قائل: فهل يجوز أن تكون الكاف في قوله "مثل كعصف" مجرورة بإضافة مثل إليها، ويكون "العصف" مجرورا بالكاف، فتكون على هذا قد أضفت كل واحد من مثل ومن الكاف، فيزول عنك الاعتذار لتركهم مثلا غير مضافة، على ما قدمت، ويكون جر الكاف بإضافة مثل إليها، كجرها بدخول الكاف على الكاف في قوله "ككما يؤثفين"، فكما أن الكاف الثانية هنا مجرورة بالأولى، كما انجرت بعلى في قول الآخر:
على كالقطا الجوني أفزعه الزجر1
فكذلك هلا قلت: إن الكاف في مثل "كعصف" مجرورة بإضافة مثل إليها؟
فالجواب: أن قوله "مثل كعصف" قد ثبت أن مثلا أو الكاف فيه زائدة، كما أن إحداهما زائدة في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، وإذا ثبت ذلك، فلا يجوز أن تكون مثل هي الزائدة، لأنها اسم، والأسماء لا تزاد، وإنما تزاد الحروف، فإذا لم يجز أن تكون مثل هذه الزائدة، ولم يكن بد من زائد، ثبت أن الكاف هي الزائدة.
وإذا كانت هي الزائدة، فلا بد من أن تكون كما قدمنا حرفا، وإذا كانت حرفا، بطل أن تكون مجرورة، من حيث كانت الحروف لا إعراب في شيء منها، وإذا لم تكن مجرورة بطل أن تكون "مثل" مضافة إليها كما سامنا السائل.
على أن أبا علي قد كان أجاز أن تكون "مثل" مضافة إلى الكاف، وتكون الكاف هنا اسما.
وفيه عندي ضعف، لما ذكرته.
فأما قول الآخر "ككما يؤثفين" فقد استدللنا بدخول الكاف الأولى على الثانية، أن الثانية اسم، وأن الأولى حرف قد جر الثانية، وهو مع ذلك زائد، ولا ينكر، وإن كان زائدا، أن يكون جارا، لما قدمناه من قولهم: ما جاءني من أحد، ولست بقائم.
__________
1 سبق الحديث عن هذا الشاهد.
2 مر الكلام على الآية.

(1/310)


ومن زيادة الكاف قول الشاعر:
من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت1
إنما تقديره: إلا ناشرة، والكاف زائدة.
ونحوه أيضا قول الآخر:
لولا ابن حارثة الأمير لقد ... أغضيت من شتمي على رغم
إلا كمعرض المحسر بكره ... عمدا يسببني على ظلم2
الكاف زائدة، وتقديره إلا معرضا.
__________
1 ذكر صاحب اللسان البيت الأول ولم يذكر الثاني وتركه دون أن ينسبه إلى أحد. مادة "ف ل ج" بينما نسبهما صاحب الكتاب لعنزة المازني "1/ 368".
فالج: يقال هو فالج بن مازن بن مالك من بني تميم، وأساء إليه بعض رهطه من بني مازن فرحل عنهم.
لبونه: أي النوق التي تدر اللبن. مادة "ل ب ن" اللسان "5/ 3989".
أعدت: أي أصابتها الغدة وهي مرض يصيب الحيوان أو الإنسان. اللسان "5/ 3215".
ناشرة: يقال هو ناشرة بن مالك قاتل همام بن مرة، ذكر صاحب اللسان ذلك "3/ 2074".
وناشرة هذا حاربه قومه أيضا حتى رحل عنهم مثل فالج.
غلوائه: ارتفاع السعر، وأيضا حدة الشباب، ولكنه يقصد بها النماء والخصب.
المتنبت: أي الذي خرج نباته. مادة "ن ب ت" اللسان "6/ 4318".
يقول الشاعر: إن بني مازن أجبروا فالجا وناشرة على الخروج حيث طردوهما ولذا فهو يدعو عليهم بأن "جربت" أي تجرب إبلهم فيصيبها الجرب والغدة.
والشاهد فيه: زيادة الكاف قبل ناشرة في قوله "كناشرة"، والتقدير "إلا ناشرة" وتم نصب ناشرة على الاستثناء.
2 نسب سيبويه البيتين في كتابه للنابغة الجعدي "1/ 368".
أغضيت: سكت وصبرت على الأذى. مادة "غ ض ا" اللسان "5/ 3268".
شتمي: سبي، وشتمه شتما أي سبه. مادة "ش ت م" اللسان "4/ 2194".
رغم: رغم فلانا رغما ومرغما: أي قسره وأذله. مادة "ر غ م" اللسان "3/ 1682".
المحسر: الحزين المتعب. مادة "ح س ر" اللسان "2/ 869". =

(1/311)


وكذلك قول الآخر:
إلا كخارجة المكلف نفسه ... وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا1
الكاف زائدة، وتقديره إلا خارجة، وهذا كله من الاستثناء المنقطع عن الأول، معناه: لكن.
ومن زيادة الكاف أيضا قولنا: لي عليه كذا وكذا، فالكاف هنا زائدا، لأنه لا معنى للتشبيه في هذا الكلام، إنما معناه: لي عليه عدد ما، فلا معنى للتشبيه هنا، وإذا لم يكن هنا تشبيه، فالكاف زائدة، إلا أنها زائدة لازمة، بمنزلة "آثرا ما"2 ونحوه مما تقدم ذكره، وذا مجرور بها.
واستدل أصحابنا على أن ذا مجرور بالكاف بقوله عز اسمه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الحج: 48] ، فالكاف في كأي هي الكاف في كذا وكذا، وإذا كانت الكاف زائدة، فليست متعلقة بفعل، كما أن الباء في لست بقائم لما كانت زائدة لم تكن متعلقة بفعل، ولا معنى فعل، ويدلك على أن الكاف في كذا وكذا زائدة، وأنها قد خلطت بذا، وصارت معه كالجزء الواحد، أنك لا تضيف ذا، ولا تؤكدها، ولا تؤنثها، لا تقول: له كذه وكذه ملحفة، فجريا مجرى حبذا.
__________
= بكره: البكر: الفتي من الإبل "ج" أبكر. مادة "ب ك ر" اللسان "1/ 334".
ظلم: مجاوزة الحد ووضع الشيء في غير موضعه.
يقول الشاعر إنني تغاضيت عن هذا الذي شتمني وسبني لأن له من الأمير منزلة ولهذا فهو لن يسبه ولن يشتمه، ولكن ذلك الذي يدعى معرض أباح سبه وشتمه لأنه شتمه وسبه ولذا فسبه مباح عن الأول الذي له قرابة وصلة بالأمير.
الشاهد فيه قوله "إلا كمعرض" والتقدير "إلا معرض"، حيث إن الكاف زائدة مبنية لا محل لها من الإعراب.
ومعرض: منصوب على الاستثناء.
1 "أغيب ويشهدا" بينهما طباق يبرز المعنى بالتضاد.
الشاهد فيه قوله "إلا كخارجة" والتقدير "إلا خارجة" حيث إن الكاف زائدة مبنية لا محل لها من الإعراب.
خارجة: منصوب على الاستثناء.
2 آثرا ما: أي أفعل هذا وإلا فلا تفعله.

(1/312)


وعلى هذا قالوا: إن كذا وكذا درهما مالك، فرفعوا المال، لأن الغرض في كذا وكذا إنما هو التوكيد والتكثير، وإذا كانت الكاف غير زائدة تعلقت بالفعل، لأنها حينئذ بمنزلة غيرها من سار حروف الجر، فكما أن تلك كلها متى لم تزد فهي متعلقة بأفعال، فكذلك ينبغي أن تكون الكاف غير الزائدة، وذلك نحو قولك: أنت كزيد، فالتقدير: أنت "كائن" كزيد، كما أنك إذا قلت: أنت لزيد، فكأنك قلت: أنت كائن لزيد.
وفي هذا الفصل مسألتان تحتاجان إلى شرح وبيان:
أما إحداهما فقولنا: كأن زيدا عمرو.
إن سأل سائل فقال: ما وجه دخول الكاف هنا، وكيف أصل وضعها وترتيبها؟
فالجواب: أن أصل قولنا: كأن زيدا عمرو، إنما هو أن زيدا كعمرو، فالكاف هنا تشبيه صريح، وهي متعلقة بمحذوف، فكأنك قلت: إن زيدا كائن كعمرو، ثم إنهم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذي هو عليه عقدوا الجملة، فأزالوا الكاف من وسطها، وقدموها إلى أولها، لإفراط1 عنايتهم بالتشبيه، فلما أدخلوها على إن من قبلها، وجب فتح إن، لأن المكسورة لا يتقدمها حروف الجر، ولا تقع إلا أولا أبدا، وبقي معنى التشبيه، الذي كان فيها وهي متوسطة بحاله فيها وهي متقدمه، وذلك قولهم: كأن زيدا عمرو، إلا أن الكاف الآن لما تقدمت، بطل أن تكون متعلقة بفعل، ولا معنى فعل، لأنها فارقت الموضع الذي يمكن أن تتعلق فيه بمحذوف، وتقدمت إلى أول الجملة، وزالت عن الموضع الذي كانت فيه متعلقة بخبر إن المحذوف، فزال ما كان لها من التعلق بمعاني الأفعال، وليست هاهنا زائدة، لأن معنى التشبيه موجود فيها، وإن كانت قد تقدمت، وأزيلت عن مكانها، وإذا كانت غير زائدة فقد بقي النظر في "أن" التي دخلت عليها، هل هي مجرورة بها أو غير مجرورة، فأقوى الأمرين عليها عندي أن تكون "أن" في قولك كأنك زيد، مجرورة بالكاف.
فإن قلت: إن الكاف الآن ليست متعلقة بفعل، فلم يجر به؟
__________
1 إفراط: أفرط إفراطا: أي جاوز الحد والقدر في قول أو فعل.

(1/313)


قيل له: الكاف وإن لم تكن متعلقة بفعل، فليس ذلك بمانع من الجر بها، ألا ترى أن الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هي غير متعلقة بفعل، وهي مع ذلك جارة؟ ويؤكد عندك أيضا أنها هنا جارة، فتحهم الهمزة بعدها، كما يفتحونها بعد العوامل الجارة وغيرها، وذلك نحو قولك: عجبت من أنك قائم، وأعطيتك لأنك شاكر، وأظن أنك منطلق، وبلغني أنك كريم، فكما فتحت "أن" لوقوعها بعد العوامل قبلها موقع الأسماء، كذلك فتحت أيضا في كأنك قائم، لأن قبلها عاملا قد جرها، فاعرف ذلك.
ونظير هذا الكلام في أنه قد خلط بعضه ببعض، وصارت فيه كأن حرفا واحدا، مذهب الخليل في "لن"، وذلك أن أصلها عنده "لا أن"، وكثر استعمالها، فحذفت الهمزة تخفيفا، فالتقت ألف "لا" ونون "أن" وهما ساكنتان، فحذفت الألف من "لا" لسكونها وسكون النون بعدها، فصارت "لن" فخلطت اللام بالنون، وصار لهما بالامتزاج والتركيب الذي وقع بينهما حكم آخر.
يدلك على ذلك قول العرب: زيدا لن أضرب، فلو كان حكم أن المحذوفة مبقي بعد حذفها وتركيب النون مع لام "لا" قبلها، كما كان قبل الحذف والتركيب، لما جاز لزيد أن يتقدم على "لن" لأنه كان يكون في التقدير من صلة أن المحذوفة الهمزة، ولو كان من صلتها لما جاز تقدمه عليها على وجه.
فهذا يدلك أن الشيئين إذا خلطا حدث لهما حكم ومعنى لم يكن لهما قبل أن يمتزجا، ألا ترى أن لولا مركبة من "لو" و"لا" ومعنى "لو" امتناع الشيء لامتناع غيره، ومعنى "لا" النفي أو النهي. فلما ركبا معا حدث معنى آخر، وهو امتناع الشيء لوقوع غيره.
فهذا في "لن" بمنزلة قولنا كأن، ومصحح له، ومؤنس به، وراد على سيبويه ما ألزمه الخليل: من أنه لو كان الأصل "لا أن" لما جاز: زيدا لن أضرب، لامتناع جواز تقديم الصلة على الموصول، وحجاج الخليل في هذا ما قدمنا ذكره، لأن الحرفين حدث لهما بالتركيب ما لم يكن لهما مع الأفراد.
مضت المسألة الأولى.

(1/314)


المسألة الثانية:
قول عمرو بن شأس، وهو من أبيات الكتاب:
وكاء رددنا عنكم من مدجج ... يجيء أمام الألف يردي مقنعا1
وقال الآخر2:
وكاء ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
إن سأل سائل فقال: ما تقول في كاء هذه، وكيف حالها؟ وهل هي مركبة أو بسيطة؟
__________
1 وكاء: أي وكم. رددنا: رد الشيء أي منعه وصرفه وأرجعه.
مدجج: دجج فلان: أي لبس سلاحه. مادة "د ج ج" اللسان "2/ 1328".
يردي: أي يمشي مشية الرديان وهو نوع من المشي فيه زهو وفخار وتبختر، ويقال: فيها رجم للأرض بحوافر الفرس في سيره وعدوه. مادة "ر د ى". اللسان "3/ 1631".
مقنعا: أي لابسا درعه وبيضته وخلافها من الأسلحة التي يتقنع بها عند خوض الحرب ويقال المقنع الذي ستر وجهه ووضع على رأسه بيضة الحديد.
يقول الشاعر: كم من معركة كثيرة هي تلك المعارك التي دافعنا عنكم ورددنا الأعداء عن أهلنا فيها ونحن نتقنع ونلبس الدروع ونمشي مشية الرديان.
والبيت خبري تقريري غرضه الفخر.
الشاهد فيه قوله "كاء" بمعنى كم، وهي كم الخبرية التي تدل على الكثرة.
2 البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، من مزينة، وكان مشهورا برزانته وحبه للسلام، وقد نظم معلقته التي منها هذا البيت على أثر الحرب التي دارت رحاها بين عبس وفزارة بسبب سباق داحي فرس قيس بن زهير سيد بني عبس، والغبراء حجرة حمل بن بدر سيد بني فزارة من غطفان، ذلك أن زهيرا وحملا تراهنا على مائة بعير يدفعها من يخسر السباق إلى من يربحه، وحدث أن سبقت الغبراء، فبعث حمل ابنه مالكا إلى قيس يطلب منه حق السبق فأبى قيس وقتل مالكا ولد حمل فقامت الحرب بين الطرفين إلى أن أصلح بينهما هرم بن سنان والحارث بن عوف ودفعا ديات القتال فنظم زهير معلقته هذه يمدحهما ويرحب بالسلام.
يقول زهير في هذا البيت أنه كم صامت يعجبك صمته فتستحسنه، وإنما تظهر زيادته على غيره ونقصانه عن غيره عند تكلمه.
الشاهد فيه قوله "وكاء" وهي بمعنى كم.

(1/315)


فالجواب أنها مركبة، والذي علقته عن أبي علي عن أصحابنا، أن أصلها كأي، كقوله عز اسمه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} ثم أن العرب تصرفت في هذه اللفظة، لكثرة استعمالها إياها، فقدمت الياء المشددة، وأخرت الهمزة، كما فعلت ذلك في عدة مواضع، نحو قسي وأشياء في قول الخليل، وشاك ولاث ونحوهما في قول الجماعة، وجاء وبابه في قول الخليل أيضا، وغير ذلك، فصار التقدير فيما بعد: كيأ، ثم إنهم حذفوا الياء الثانية تخفيفا، كما حذفوها في نحو: ميت وهين ولين، فقالوا: ميت، وهين، ولين، فصار التقدير كيء، ثم إنهم قلبوا الياء ألفا لانفتاح ما قبلها، كما قلبوها في طائي وحاري وآية في قول غير الخليل، فصارت كاء.
وأخبرنا أبو علي: قال: قرأت على أبي بكر في بعض كتب أبي زيد: سمعت أبا عمر الهذلي يقول في تصغير دابة: دوابة. قال أبو علي: أراد دويبة، فقلبت الياء ألفا. فهذا أيضا كما قلنا في كاء. وفيها لغات أخرى غير هذه.
يقال: كأي وكاء، وكأي بوزن كعين، وكأ بوزن كعن. حكى ذلك أحمد بن يحيى، فمن قال كأي فهي "أي" دخلت عليها الكاف، ومن قال كاء فقد شرحنا أمره، ومن قال كأي بوزن كعين، فأشبه ما فيه أنه لما أصاره التعبير على ما ذكرنا إلى كيء، قدم الهمزة، وأخر الياء، ولم يقلب الياء ألفا، وحسن له ذلك ضعف هذه الكلمة، وما اعتورها1 من الحذف والتغيير.
ومن قال: "كأ" بوزن كعن، فإنه حذف الياء من كيئ تخفيفا أيضا.
فإن قلت: إن في هذا إجحافا بالكلمة، لأنه حذف بعد حذف، قلت: ليس ذاك بأكثر من مصيرهم من أيمن الله إلى م الله وم الله. وإذا كثر استعمال الحرف حسن فيه ما لا يحسن في غيره: من التغيير والحذف، فاعرف ذلك إن شاء الله.
فهذه حال الكاف الجارة في مواقعها، وانقسامها، وتشعبها.
وأما الكاف غير الجارة فهي على ضربين:
أحدهما اسم، والآخر: حرف.
__________
1 اعتورها: أي أصابها من شين وقبح. مادة "ع ور" اللسان "4/ 3166".

(1/316)


فأما الاسم فكاف المذكر والمؤنث المخاطبين. فكاف المذكر مفتوحة، وكاف المؤنث مكسورة، نحو: ضربتك يا رجل، وضربتك يا امرأة، فهذه اسم بدلالة دخول حرف الجر عليها، نحو مررت بك وبك، وعجبت منك ومنك.
وأما الكاف التي هي حرف، فالتي تأتي للخطاب، مجردة من الاسمية، وذلك نحو كاف ذلك، وذاك، وتيك، وتلك، وأولئك.
ومن العرب من يقول: ليسك زيدا، أي ليس زيدا، والكاف لتوكيد الخطاب. ومن ذلك: كاف ذانك وتانك، وأبصرك زيدا أي: أبصر زيدا. وكاف النجاءك، إذا أردت: انج، وكاف قوله عز اسمه: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} 1 [الإسراء: 62] فهذه الكاف في هذه المواضع كلها حرف يفيد الخطاب، وليست باسم، والدلالة على ذلك، أن الكاف لو كانت في ذلك ونحوه من أسماء الإشارة، نحو: تلك وأولئك اسما، لم تخل من أن تكون مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة، فلا يجوز أن تكون مرفوعة، لأن الكاف ليست من ضمير المرفوع، ولا يجوز أيضا أن تكون منصوبة، لأنك إذا قلت: ذلك زيد، فلا ناصب هنا للكاف، ولا يجوز أيضا أن تكون مجرورة، لأن الجر إنما هو في كلامهم من أحد وجهين: إما بحرف جر، وإما بإضافة اسم، ولا حرف جر هنا، ولا يجوز أيضا أن يضاف اسم الإشارة، من قبل أن الغرض في الإضافة إنما هو التعريف، وأسماء الإشارة معارف كلها، فقد استغنت بتعريفها عن إضافتها، وإذا كان من شروط الإضافة أنه لا يضاف الاسم إلا وهو نكرة، فما لا يجوز أن ينكر البتة لا يجوز أيضا أن يضاف البتة، وأسماء الإشارة مما لا يجوز تنكيره، فلا يجوز أيضا إضافته، ولأجل ما ذكرناه أيضا لم تجز إضافة الأسماء المضمرة، لأنها لا تكون إلا معارف.
فإن قلت: فإذا كانت أسماء الإشارة لا تنكر البتة، فما تصنع بما حكاه أبو زيد من قولهم: هؤلاء قوم، ورأيت هؤلاء. قال: فنونوا وكسروا. قال: وهي لغة بني عقيل، والتنوين عندك في هذه المبنيات إنما يجيء علما للتنكير، نحو سيبويه وعمرويه وغاق غاق، وصه، وأيهات، وإيه، وحيهلا، وما أشبه ذلك، فكيف يكون هؤلاء نكرة، وهو اسم إشارة؟ وقد تقدم من قولك ما يمنع تنكير اسم الإشارة.
__________
1 أرأيتك: أي أخبرني. والشاهد فيها زيادة كاف الخطاب للتوكيد.

(1/317)


فالجواب من وجهين:
أحدهما شذوذ هذه الحكاية، وأنه لا نظير لها.
والآخر: ما كان يقوله أبو علي، وهو أنه إنما جاز أن ينكر هذا الاسم وإن كان اسم إشارة، من قبل أنه قد يجوز أن ينظر إلى قوم من بعيد، فيتشكك في الأشباح1: ناس هم أم غيرهم، فإنما نون هؤلاء من هذا الوجه، إلا أنك لا تقيسه لضعفه.
ويؤكد عندك أيضا أن هذه الكاف حرف، وليست باسم، ثبوت النون في: تانك وذانك، ولو كانت اسما لوجب حذف النون قبلها، وجرها هي بالإضافة، كما تقول: قام غلاماك وصاحباك وجاريتاك.
ويدل على ذلك أيضا قولهم: النجاءك، أي انج. ولو كانت الكاف اسما لما جازت إضافة ما فيه الألف واللام إليها، وكذلك قولههم أبصرك زيدا، لا يجوز أن يكون الكاف اسما، لأن هذا الفعل لا يتعدى إلى ضمير المأمور به.
ألا تراك لا تقول: اضربك ولا أقتلك: إذا أمرته بضرب نفسه وقتله إياها، وكذلك أيضا قولهم: عندهم رجل ليسك زيدا، لا يجوز أن تكون الكاف اسما، لأنك قد نصبت زيدا، لأنه خبر ليس، ولو كانت الكاف منصوبة لما نصبت اسما آخر.
فإن قلت: فاجعل الكاف خبر ليس، واجعل زيدا بدلا من الكاف. فذلك خطأ، من قبل أن ضمير المخاطب لا يبدل منه بدل الكل، لأنه في غاية الوضوح والبيان، فلا حاجة به إلى الإبدال منه.
ألا ترى أنك لا تقول: أنك زيدا قائم، ولا ضربتك محمدا، على أن تجعل زيدا ومحمدا بدلا من الكاف.
وأما قولهم: "أرأيتك زيدا ما صنع؟ "، فإنما الكاف هنا أيضا للخطاب بمنزلة ما تقدم، ولا يجوز أن تكون اسما، لأن "زيدا" هو المفعول الأول، و"ما صنع" في موضع المفعول الثاني، فالكاف إذا لا موضع لها من الإعراب.
فإن قلت: فهلا جعلت الكاف هي المفعول الأول، وزيدا هو المفعول الثاني؟
__________
1 الأشباح: شبح الشيء: أي بدا غير جلي، أو ما بدا لك شخصه غير جلي من بعد.

(1/318)


فذلك غلط، من قبل أن السؤال إنما هو عن زيد في صنيعه، ولست تسأل عن المخاطب ما صنع؟ وأيضا فلو كانت الكاف هي المفعول الأول، وزيد هو المفعول الثاني، لجاز أن يقتصر على زيد، فتقول: أرأيتك زيدا، كما تقول: ظننتك زيدا، فحاجة زيد إلى ما بعده، يدل على أنه هو المفعول الأول، وأن ما بعده في موضع المفعول الثاني، وأيضا فإنا نجد معنى: أرأيتك زيدا ما صنع، وأرأيت زيدا ما صنع واحدا، فدل هذا على أن الكاف للخطاب، وليست مغيرة شيئا من الإعراب.
وأيضا فلو كانت الكاف هي المفعول الأول، وزيدا هو المفعول الثاني، لوجب أن تقول للمؤنث: أرأيتك زيدا، فتكسر التاء، كما تقول: ظننتك قائمة، ولوجب أن تقول للاثنين: أرأيتما كما الزيدين، كما تقول: ظننتماكما قائمين. وكذلك في الجماعة المذكرة والمؤنثة، فترك العرب هذا كله، وإقرارهم التاء مفتوحة على كل حال، يدل على أن لها وللكاف في هذا النحو مذهبا ليس لهما في غير هذا الموضع.
وإنما فتحت التاء في كل حال، واقتصر في علامة المخاطبين وعددهم على ما بعد التاء في قولك للرجل: أرأيتك زيدا ما صنع؟ وللمرأة: أرأيتك زيدا ما فعل؟ وأرأيتكما وأرأيتكم وأرأيتكن، بفتح التاء البتة، لأنها أخلصت اسما، وجعلت علامة الخطاب والعدد فيما بعد، فاعرف ذلك.
وهذه مسألة لطيفة عنت1 لنا في أثناء هذا الفصل، نحن نشرحها، ونذكر خلاف العلماء فيها، ونخبر بالصواب عندنا في أمرها، وهي قوله عز اسمه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وما كان مثله.
أخبرني أبو علي عن أبي بكر محمد بن السري عن أبي العباس محمد بن زيد: أن الخليل يذهب إلى أن إيا اسم مضمر مضاف إلى الكاف. وحكي عن المازني مثل هذا القول المحكي عن الخليل، في أنه مضمر مضاف.
قال: وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن الأخفش، وأبو إسحاق عن أبي العباس غير منسوب إلى الأخفش: أنه اسم مفرد مضمر، يتغير آخره، كما تغير أواخر المضمرات، لاختلاف أعداد المضمرين، وأن الكاف في إياك كالتي في
__________
1 عنت: بدت وظهرت. مادة "ع ن ن" اللسان "4/ 3139".

(1/319)


ذلك، في أنه دلالة على الخطاب فقط، مجردة من كونها علامة للضمير، ولا يجيز أبو الحسن فيما حكي عنه إياك وإيا زيد، وإياي وإيا الباطل.
انتهت الحكاية عن أبي علي.
وقال سيبويه: حدثني من لا أتهم عن الخليل: أنه سمع أعرابيا يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب.
وحكى سيبويه أيضا عن الخليل أنه قال: لو أن قائلا قال: إياك نفسك لم أعنفه1.
وحكى ابن كيسان قال: قال بعض النحويين: "إياك" بكمالها: اسم. قال: وقال بعضهم: الياء والكاف والهاء هي الأسماء، وإيا عماد لا، لأنها لا تقوم بأنفسها.
قال: وقال بعضهم: إيا: اسم مبهم، يكنى به عن المنصوب، وجعلت الهاء والياء والكاف بيانا عن المقصود، ليعلم المخاطب من الغائب، ولا موضع لها من الإعراب، كالكاف في ذلك وأرأيتك. وهذا هو قول أبي الحسن الأخفش. قال: وقال بعضهم: الهاء والكاف والياء في موضع خفض.
قال: والدليل على هذا قول العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشراب. وهذا قول الخليل، واحتج ابن كيسان في هذا الفصل بحجاج لا غرض لنا في ذكره، وإنما أورده ما حكاه، لنتبعه من القول فيه ما تراه.
وقال أبو إسحاق الزجاج: الكاف في إياك في موضع جر بإضافة إيا إليها، إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات، ولو قلت: إيا زيد حدثت كان قبيحا، لأنه خص به المضمر، وحكى ما رواه الخليل من إيا الشواب.
وتأملنا هذه الأقوال على اختلافها، والاعتلال لكل قول منها، فلم نجد فيها ما صيح مع الفحص والتنقير2، غير قول أبي الحسن الأخفش.
__________
1 أعنفه: أعنف به وعليه أي أخذه بشدة وقسوة. مادة "ع ن ف" اللسان "4/ 3132".
2 التنقير: نقر عن الأمر تنقيرا ونقرا: أي بحثه وبحث عنه. اللسان "6/ 4520".

(1/320)


أما قول الخليل إن إيا اسم مضمر مضاف، فظاهر الفساد، وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر، فلا سبيل إلى إضافته على وجه من الوجوه، لأن الغرض في الإضافة إنما هو التعريف والتخصيص، والمضمر على نهاية الاختصاص، فلا حاجة به إلى الإضافة.
فإن قلت: فقد قالوا ربه رجلا، وربها امرأة، فأدخلوا رب على المضمر، وهو عندك على نهاية الاختصاص، فما وجه ذلك؟
فالجواب: أنه إنما جاز دخول رب في هذا الموضوع على المعرفة لمضارعتها1 النكرة، بأنها أضمرت على غير تقدم ذكر، ومن أجل ذلك احتاجت إلى التفسير بالنكرة المنصوبة، نحو رجلا وامرأة، ولو كان هذا المضمر كسائر المضمرات لما احتاج إلى تفسير، وليس كذلك إياك وإياه وإياي، لأن هذه مختصة معروفة بمنزلة أنا وأنت وهو، فكما أن هذه مضمرات مختصة، فكذلك إيا، هي مضمرة مختصة، فهذا يفسد قول الخليل والمازني جميعا.
فأما ما حكاه سيبويه عنه من قولهم: فإياه وإيا الشواب، فليس سبيله مثله مع قلته أن يعترض على السماع والقياس جميعا، ألا ترى أنه لم يسمع منهم إياك وأيا الباطل ولا حكي عنهم تأكيد الهاء والكاف بعد إيا.
فأما قول الخليل: لو أن قائلا قال: إياك نفسك لم أعنفه، فهذا ليس بتصريح قول ولا محض إجازة، وإنما قاسه على ما سمعه من قولهم، فإياه وإيا الشواب، ولو كان ذلك قويا في نفسه، وسائغا في رأيه، لما قال: لم أعنفه، كما لا يقال في قول من قال: قام زيد، فرفع زيدا بفعله: إنك في هذا عندي غير معنف، وإنما يقال له أصبت ووافقت صحيح كلام العرب الذي لا معدل عنه. أو كلام هذا نحوه.
فأما قول من قال: إن إياك بكماله الاسم، فليس بقوي، وذلك إن إياك في أن فتحة الكاف تفيد الخطاب المذكر، وكسرة الكاف تفيد الخطاب المؤنث، بمنزلة أنت، في أن الاسم هو الهمزة والنون، والتاء المفتوحة تفيد خطاب المذكر، والتاء المكسورة تفيد خطاب المؤنث، فكما أن ما قبل التاء في أنت هو الاسم، والتاء حرف خطاب.
__________
1 مضارعتها: مشابهتها. وضارع الشيء: شابهه.

(1/321)


فكذلك "إيا" هو الاسم، والكاف بعدها حرف خطاب، أوَلا تراك تقول: إياك وإياكما وإياكم، كما تقول: أنت وأنتما وأنتم.
وأما من قال: إن الكاف والهاء والياء في إياك وإياي هي الأسماء، وأن "إيا" إنما عمدت بها هذه الأسماء لقلتها، فغير مرضي أيضا، وذلك أن إيا في أنه ضمير منفصل، بمنزلة أنا وأنت ونحن، وهو وهي، في أن هذه مضمرات منفصلة، فكما أن أنا وأنت ونحوها مخالف للفظ المرفوع المتصل، نحو التاء في قمت والنون والألف في قمنا، والألف في قاما، والواو في قاموا، بل هي ألفاظ أخر غير ألفاظ الضمير المتصل، وليس شيء منها معمودا به شيء من الضمير المتصل، بل هو قائم بنفسه، فكذلك "إيا" اسم مضمر منفصل، ليس معمودا به غيره، وكما أن التاء في "أنت" وإن كانت بلفظ التاء في: قمت، فليست اسما مثلها، بل الاسم قبلها هو "أن"، وهي بعده للخطاب، وليست "أن" عمادا للتاء، فكذلك "إيا" هي الاسم، وما بعدها يفيد الخطاب تارة، والغيبة تارة، والتكلم أخرى، وهو حرف، كما أن التاء في أنت حرف، وغير معمودة بالهمزة والنون من قبلها، بل ما قبلها هو الاسم، وهي حرف خطاب، فكذلك ما قبل الكاف في إياك اسم، وهي حرف خطاب، فهذا هو محض القياس1.
وأما قول أبي إسحاق إن "إيا" اسم مظهر خص بالإضافة إلى المضمر، ففاسد أيضا، وليس "إيا" بمظهر كما زعم، والدليل على أن إيا ليس باسم مظهر اقتصارهم به على ضرب2 واحد من الإعراب، وهو النصب، كما اقتصروا بأنا وأنا ونحوهما على ضرب واحد من الإعراب، وهو الرفع.
فكما أن أنا وأنت وهو ونحن وما أشبه ذلك أسماء مضمرة، فكذلك "إيا" اسم مضمر، لاقتصارهم به على ضرب واحد من الإعراب، وهو النصب، ولم نعلم اسما مظهرا اقتصر به على النصب البتة، إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية، وذلك نحو: ذات مرة، وبعيدات بين، وذا صباح، وما جرى مجراهن.
__________
1 محض القياس: أي القياس لا يخالطه شائبة.
2 ضرب: نوع وصنف.

(1/322)


وشيئا من المصادر نحو: سبحان الله1، ومعاذ الله، ولبيك2، وليس إيا ظرفا ولا مصدرا فيلحق بهذه الأسماء.
فقد صح إذن بما أوردناه سقوط هذه الأقوال، ولم يبق هنا قول يجب اعتقاده3، ويلزم الدخول تحته، غير قول أبي الحسن إن "إيا" اسم مضمر، وإن الكاف بعده ليست باسم، وإنما هي للخطاب بمنزلة كاف ذلك، وأرأيتك، وأبصرك زيدا، وليسك عمرا، والنجاءك.
فإن قال قائل: فإذا كانت الكاف ليس اسما في إياك، فكيف يصنع أبو الحسن بقولهم إياه وإياي، ولا كاف هناك، وإنما هناك هاء وياء، ولم نرهم جردوا الهاء ولا الياء في نحو هذا من مذهب الاسمية، وأخلصوهما حرفين، كما فعلوا ذلك بكاف ذلك وهنالك.
فالجواب أنه لا يمتنع أن يكون الهاء والياء في إياه وإياي وتثنيتهما وجمعهما حروفا، كما كانت الكاف في إياك حرفا، أن يكون ما بعد "إيا" إنما اختلف لاختلاف أعداد المضمرين وأحوالهم، من الحضور والمغيب، ولسنا نجد حالا سوغت هذا المعنى للكاف، وانكفت عن الهاء والياء، ويؤكد أيضا صحة هذا المذهب عندك، أنا قد وجدنا غير الكاف لحقه من سلب الاسمية عنه، وإخلاصه للحرفية، ما لحق الكاف، وهو التاء في أنت، والألف في قول من قال: قاما أخواك، والواو في قول من قال: قاموا إخوتك، والنون في قول من قال: قمن الهندات، ألا ترى أن من قال أخواك قاما، فالألف عنده علامة الضمير والتثنية، وإذا قال: قاما أخواك، فالألف في قاما إنما هي مخلصة لمعنى التثنية، مجردة من مذهب الاسمية، لامتناع تقدم المضمر، وخلو الفعل من علم الضمير، بارتفاع الاسم الظاهر بعده.
__________
1 سبحان الله: كلمة تنزيه والمقصود نزهه وقدسه.
إعرابها:
سبحان: مفعول مطلق منصوب، وهو من المصادر المضافة.
الله: لفظ الجلالة: مضاف إليه وهو بدل من اللفظ بالفعل.
2 لبيك: أي إجابة لك ولزوما لطاعتك، وهي قولة الحاج إذا لبى.
3 اعتقاد: اعتقد اعتقادا: أي صدق وعقد على الأمر قلبه وضميره. اللسان "4/ 3030".

(1/323)


وكذلك من قال: إخوتك قاموا، فالواو في قاموا علم الضمير والجمع، وإذا قيل قاموا إخوتك، فالواو علم الجمع مجردة من معنى الاسمية البتة، وكذلك القول في نون الجمع، نحو قولك الهندات قمن وقمن الهندات، فكما جاز لجميع هذه الأشياء أن تكون في بعض المواضع دالة على معنى الاسمية والحرفية، ثم تخلع عنها دلال الاسمية في بعض المواضع، فكذلك لا ينكر أن تكون الهاء والياء في نحو ضربه وضربني يدلان على معنى الاسمية والحرفية. فإذا قلت "إياه، وإياي" تجردتا من معنى الاسمية، وخلصتا لدلالة الحرفية.
فاعرف هذا، فإنه من لطيف ما تضمنه هذا الفصل، وبه كان أبو علي رحمه الله ينتصر لمذهب أبي الحسن ويذب1 عنه، ولا غاية في جودة الحجاج بعده.
ونحو من الكاف في ذلك وهنالك وإياك، الكاف في قولك للرجل: هاك، وللمرأة هاك، فالكاف هنا حرف لمعنى الخطاب. ويدلك على ذلك أن معنى هاك زيدا، أي خذ زيدا، فزيد هو منصوب هذا الفعل، ولا يتعدى إلى مفعولين، وقد كنا قدمنا أن زيدا في نحو هذا لا يجوز أن يكون بدلا من الكاف لو كانت اسما، وهو أن ضمير المخاطب لا يبدل منه، فيقال: ضربتك زيدا، على أن زيدا بدل من الكاف.
ويدلك على أن الكاف في هاك وهاك حرف لا اسم، إيقاعهم موقعها ما لا يكون اسما على وجه، وذلك قولك: هاء وهاء، وعلى هذا قوله عز وجل: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] 2 وعلى هذا قالوا للاثنين: هاؤما، وللنساء هاؤن، كما يقال: هاك، وهاك، وهاكما، وهاكم، وهاكن.
وفيها لغة ثالثة، وهي أن تترك الهمزة مفتوحة على كل حال، وتلحقها كافا مفتوحة للمذكر، ومكسورة للمؤنث، فتقول: هاءك، وهاءكما، وهاءكم، وهاءك، وهاءكما، وهاءكن.
__________
1 يذب: ينحي ويطرد ويدفع ويمنع. مادة "ذ ب ب" اللسان "3/ 1483".
2 هاؤم: خذوا، والأسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الفخر.
الشاهد في قوله عز وجل: {هاؤم} وهي دليل على أن الكاف في: هاك، وهاك، حرف لا اسم، ولذا يقول الرجل: هاء، هاء، هاؤما، هاؤم، هاؤن.

(1/324)


وفيها لغة رابعة، وهي قولك للرجل: هأ، بوزن هع، وللمرأة هائي، بوزن هاعي، وللاثنين وللاثنتين هاءا، بوزن هاعا، وللمذكرين هاءوا، بوزن هاعوا، وللنساء هأن، بوزن هعن.
فهذه اللغة تتصرف تصرف خف، وخافي، وخافا، وخافوا، وخفن، وهي لغة مع ما ذكرناه قليلة.
فأما ما أنشدنيه أبو علي من قول الشاعر:
أفاطم هاء السيف غير مذمم1
فالوجه في أن تكون على قول من كسر الهمزة للمؤنث، لأن القرآن بهذه اللغة نزل، ولغته أفصح اللغات.
وقد يجوز أن يكون على قول من قال للمرأة: هائي، بوزن خافي، إلا أنه حذف الياء من اللفظ، لسكونها وسكون السين الأولى من السيف، كما تقول في اللفظ: خافي السيف.
وفيه لغة خامسة، وهي أن تقول للواحد، والواحدة، والتثنية، والجمع "ها" على صورة واحدة، والذي ينبغي أن يحمل هذا عليه، أن تجعله بمنزلة صه2، ومه3، ورويدا4، وإيه5، وما أشبه ذلك مما يصلح للواحد والواحدة فما فوقهما.
واعلم أن من كلام العرب إذا قيل لأحدهم كيف أصبحت؟ أن يقول: كخير، والمعنى على خير.
__________
1 هذا صدر بيت ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، وقد أنشده ابن دريد في جمهرته "1/ 193"، كما أنشده المؤلف هنا، وعجزه:
......... ... فلست برعديد ولا بلئم
2 صه: اسم فعل أمر بمعنى اسكت.
3 مه: اكفف.
4 رويدا: أي تمهل، وهو مصغر تصغير الترخيم من إرواد. مصدر أرود، يرود.
5 وإيه: اسم فعل للاستزادة من حديث أو عمل معهود فإذا نونت كانت للاستمرار.

(1/325)


قال أبو الحسن: فالكاف في معنى على، وقد يجوز عندي أن تكون في معنى الباء، أي بخير.
قال أبو الحسن: ونحو منه قولهم: كن كما أنت، أي كن على الفعل الذي هو أنت عليه.
انتهى الجزء الأول بحمد الله تعالى
ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى
وأوله:
"حرف اللام"

(1/326)