الأصول في النحو هذه توابع الأسماء
في إعرابها
شرح الأول وهو التوكيد
...
هذه توابع الأسماء في إعرابها:
التوابع خمسة: التوكيد والنعت وعطف البيان والبدل والعطف بالحروف، وهذه
الخمسة: أربعة تتبع بغير متوسط، والخامس وهو العطف لا يتبع إلا بتوسط
حرف، فجميع هذه تجري على الثاني ما جرى على الأول من الرفع والنصب
والخفضِ.
شرح الأول: وهو التوكيد.
التوكيد يجيء على ضربين، إما توكيد بتكرير الاسم، وإما أن يؤكد بما
يحيط به.
الأول: وهو تكرير الاسم:
اعلم: أنه يجيء على ضربين، ضرب يعاد فيه الاسم بلفظه, وضرب يعاد معناه،
فأما ما يعاد بلفظه فنحو قولك: رأيت زيدًا زيدًا, ولقيت عمرًا عمرًا,
وهذا زيدٌ زيدٌ, ومررت بزيدٍ زيدٍ, وهذا الضرب يصلح في الأفعال والحروف
والجمل وفي كل كلام تريد تأكيده، فأما الفعل فتقول: قام عمرو, قامَ,
وقم قمْ, واجلس اجلسْ, قال الشاعر:
ألا فَاسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثَمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلاثُ تَحيَّاتٍ
وإنْ لم تكلَّمِي1
وأما الحروف فنحو قولك: في الدار زيدٌ قائمٌ فيها, فتعيد فيها
__________
1 الشاهد فيه جواز تأكيد الجملة تأكيدًا لفظيًّا كما يجوز تأكيد المفرد
كذلك، والجملة مستقبلة كما هو ظاهر. وتكلمي أصله: تتكلمي بتاءين فحذف
إحداهما, ولم أعثر على قائل هذا البيت. وانظر: ابن يعيش 3/ 39، وشرح
الحماسة 3/ 1374.
(2/19)
"توكيدًا" وفيك زيدٌ راغِبٌ فيك, وقال الله
عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ
فِيهَا} 1، إلا أن الحرف إنما يكرر مع ما يتصل به لا سيما إذا كان
عاملًا، وأما الجملُ فنحو قولك: قام عمرو قام عمرو, وزيدٌ منطلقٌ زيد
منطلقٌ، والله أكبر الله أكبر، وكل كلام تريد تأكيده فلك أن تكرره
بلفظه.
الثاني: الذي هو إعادة المعنى بلفظٍ آخر نحو قولك: مررتُ بزيدٍ نفسهِ،
وبكم أنفسكم، وجاءني زيدٌ نفسُه، ورأيت زيدًا نفسَهُ، ومررت بهم
أنفسِهم, فحق هذا أن يتكلم به المتكلم في عقب شك منه ومن مخاطبه فتقول:
مررت بزيدٍ نفسِه كما تقول: مررت بزيدٍ لا أشك, ومررت بزيد حقًّا لتزيل
الشك فإذا قلت: قمت نفسُك فهو ضعيف لأن النفس لم تتمكن في التأكيد؛
لأنها تكون اسمًا تقول: نزلتُ بنفس الجبلِ، وخرجت نفسه، وأخرج الله
نفسه، فلما وصلتها الاسم المضمر في الفعل الذي قد صار كأحد حروفه
فأسكنت له ما كان في الفعل متحركًا, ضعف ذلك من حيث ضعف العطف عليه.
فإن أكدته ظهر ما يجوز أن تحمل النفس عليه فقلت: قمتَ أنتَ نفسُكَ
وقاموا هم أنفسُهم فإن أتبعته منصوبًا أو مجرورًا حسنٌ؛ لأن المنصوب
والمجرور لا يغيران الفعل تقول: رأيتكم أنفسكم ومررت بكم أنفسِكم
ومررتُ بكم أنفسِكم وتقول: إن زيدًا قامَ هو نفسُه فتؤكد المضمر الفاعل
المتصل بالمكنى المنفصل وتؤكد المكنى المنفصل بالنفس كالظاهر. والمضمر
المتصل يؤكد بالمضمر المتصل وللمكنيات باب يذكر فيه, فإن قلت: إن زيدًا
قامَ نفسُه فحملتَهُ على المنصوب جاز وكذلك: مررت بهِ نفسِه ورأيتُك
نفسَك لأن المنصوب والمجرور المضمرين لا يغيرُ لهما الفعل.
__________
1 هود: 108.
(2/20)
الضرب الثاني في التأكيد وهو ما يجيء
للإِحاطة والعموم:
تقول: جاءني القومُ أجمعون، وجاءني القومُ كلهُم، وجاءوني أجمعون
وكلهم, وإن المال لكَ أجمع أكتع، ترفع إذا أردت أن تؤكد ما في "لك"
وإذا أردت أن تؤكد المال بعينه نصبت وكذلك: مررتُ بدارك جمعاء كتعاء أو
مررت بنسائك جمع كتع1. ولا يجوز بزيدٍ أجمع، ولا بزيدٍ كله وإنما يجوز
ذلك فيما جازت عليه التفرقة, وأجمعون وما تصرف منها، وكل إذا كانت
مضافة إلى الضمير وجميعهن يجرين على كل مضمر إلا أجمعين لا تكون إلا
تابعة, لا تقول: رأيت أجمعين ولا مررت بأجمعين, لا يجوز أن يلي رافعًا
ولا ناصبًا ولا جارا فلما قويت في الإتباعِ تمكنت فيه, وصلح ذلك في
"كُلٍّ" لأنها في معنى "أجمعين" في العموم وذلك قولك: إن قومك جاءوني
أجمعون ومررت بكم أجمعين فمعناها العموم وذلك مخالف لمعنى نفسه
وأنفسهم؛ لأن أنفسهم وأخواتها تثبت بعد الشك فإذا قلت: مررتُ بهم
كلِّهم فهو بمنزلة "أجمعين" ومررت بهم جميعهم, وتقول: مررت بدارك كلها
ولا تقول: مررت بزيدٍ كله ولو قلت: أخذت درهمًا أجمع لم يجزْ لأن
درهمًا نكرة وأجمع معرفة2 كما لا يجوز: مررت برجلٍ الظريف إلا على
البَدلِ ولا يجوز البدل في "أجمعَ" لأنه لا يلي العوامل, ولكن يجوز:
أخذت الدرهم أجمع وأكلت الرغيف كله.
فأما قولهم: مررت بالرجلِ كُلِّ الرجلِ، فقال أبو العباس: معناه: مررت
بالرجل المستحقِّ لأن يكون الرجلَ الكاملَ لأنك [لا] 3 تقول ذاك إلا
وأنت تريد حزمه ونفاذه أو جبنه وشجاعتَهُ، وما أشبه ذلك، فإذا
__________
1 انظر الكتاب 2/ 5.
2 قال المبرد في المقتضب 3/ 342، وأجمع لم يكن نكرة وإنما هو معرفة
ونعت, فإذا سميت به صرفته في النكرة.
3 أضفت كلمة "لا" لأن المعنى يحتاجها.
(2/21)
[قلت] 1: مررت بالرجلِ كل الرجلِ، فهو
كقولك: مررت بالعالمِ حقِّ العالمِ, ومررت بالظريف حقِّ الظريفِ, ولو
قلت على هذا: مررت بزيدٍ كل الرجل لم يجز إلا ضعيفًا، لأن زيدًا اسم
علم وليس فيه معنى تقريظ ولا تخسيس وكذلك: مررت برجلٍ كلِّ رجلٍ وبعالم
حق عالمٍ وبتاجر خيرِ تاجرٍ فجميع هذا ثناء مؤكد وليس بنعت يخلص واحدًا
من آخر ولو قلت: زيدٌ كلُّ الرجلِ فجعلته خبرًا صَلُحَ لأنه ليس بتأكيد
لشيء ولكنه ثناءٌ خالص كما تقول: زيدٌ حقٌّ العالمِ وزيد عينُ العالم
لأنك لو قلت: مررت بزيدٍ حَقِّ العالمِ لم يكن هذا موضعه وتقول: مررت
بالرجلين كليهما ومررت بالمرأتين كلتيهما ولك أن تجري ثلاثتهم
وأربعتَهم مجرى كلهم فتقول: مررت بهم ثلاثتهم ولك أن تنصب كما تنصب
"وحدَهُ" في قولك: مررت برجلٍ وحدَهُ وكذلك المؤنث: مررت بهن ثلاثَتِهن
وأربعَتهن ولك أن تقول: أتينني ثلاثتهن وأربعتهن نصبًا ورفعًا قال
الأخفش: فإذا جاوزت العشرة لم يكن إلا مفتوحًا إلى العشرين، تقول
للنساء: أتينني ثماني عشرهن وللرجال: أتوني ثمانية عشرهم وأما نصبكَ
"وحدَهُ" فعلى المصدر كأنك قلت: أوحدَتُه إيحادًا فصار وحده كقولك:
إيحادًا كأنك قلت: أفردتهُ إفرادًا وتقول: إنَّ المالَ لكَ أجمع أكتعُ
إذا أردت أن تؤكد ما في "لكَ". وأما "كُلهم" فالأحسن أن تكون جامعين
وقد يجوز أن تلي العوامل وتقول إن القومَ جاءوني كلهُم وكلهم: النصب
إذا أكدت "القومَ" والرفع إذا أكدت الفاعلين المضمرين في "جاءوني"
ويجوز أن تقول: إن قومَك كلهُم ذاهبٌ يحسن عند الخايل أن يكون مبتدأً
بعد أن تذكر "قومَك" فيشبه التوكيد لأن التوكيد لا يكون إلا جاريًا على
ما قبله ويجوز أيضًا قومكَ ضربت كلهم لهذه الإِضافة الواقعة في "كُلِّ"
فصار معاقبًا "لبعضهم" كقولك: ضربتُ بعضهم وهو على ذلك ضعيف والصواب
الجيد: قومك ضربتهم كلهم لأن المعنى معنى "أجمعينَ" في العموم والتأكيد
فأما قوله عز
__________
1 أضفت كلمة "قلت" لإيضاح المعنى.
(2/22)
وجل: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ} 1 فالنصب على التوكيد للأمر، والرفع على قولك: إن الأمر جميعه
لله2.
واعلم: أنه لا يجوز أن تقول: مررت بقومِكَ إما بعضهم وإما أجمعينَ،
وإما كلهُم وإما بعضهم لأن أجمعينَ لا تنفرد، ولكن تقول: إما بهم كلهم
وإما بهم أجمعينَ فإن قلت: مررت بقومكَ إما كلهم وإما بعضهم جاز على
قبحٍ فأما ما يؤكد به "أجمعون" من قولك: جاءني قومُكَ أجمعون أكتعونَ
ونحوه فإنما هو مبالغة ولا يجوز أن يكون أكتعون قبل "أجمعين" وكذلك
سائر هذه التوكيدات نحو قولك: ويلة وعولة وهو جائعُ نائعُ وعطشان نطشان
وحسن بسن وقبيح شقيح وما أشبه هذا إلا يكون المؤكِّدُ قبل المؤكَّدِ
وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى "كلهم" فأما النكرة فلا يجوز أن
تؤكدُ بنفسه ولا أجمعينَ ولا كلهم لأن هذه معارف فإن أكدت بتكرير اللفظ
بعينه لم يمتنع أن تقول: رأيتُ رجلًا رجلًا وأصبتُ درةً درة فأما
قولهم: "مررت برجلٍ كلِّ رجلٍ" فإنما هذا على المبالغة في المدح كأنك
قلت: مررت برجلٍ كاملٍ.
__________
1 آل عمران: 154.
2 أي: على الابتداء.
(2/23)
الثاني من التوابع
وهو النعتُ:
النعت ينقسم بأقسام المنعوتِ في معرفته ونكرتِه، فنعتُ المعرفةِ
معرفةٌ، ونعت النكرةِ نكرةٌ والنعت يتبع المنعوت في رفعه ونصبه وخفضه،
وأصل الصفة أن يقع للنكرةِ دون المعرفةِ، لأن المعرفةَ كان حقها أن
تستغني بنفسها، وإنما عرض لها ضرب من التنكير فاحتيج إلى الصفة، فأما
النكرات فهي المستحقة للصفات لتقرب من المعارف، وتقع بها حينئذٍ
الفائدة، والصفة: كل ما فرق بين موصوفين مشتركين في اللفظ، وهي تنقسم
على خمسة أقسام:
(2/23)
القسم الأول: حلية للموصوف تكون فيه أو في
شيء من سببه.
الثاني: فعلٌ للموصوف يكون به فاعلًا هو أو شيء من سببهِ.
الثالث: وصفٌ ليس بعمل ولا بحليةٍ.
الرابع: وصفٌ ينسبُ إلى أبٍ أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروبِ.
الخامس: الوصفُ "بذي" التي في معنى صاحبٍ لا بذو التي في معنى "الذي".
شرح الأول: وهو ما كان حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه نحو
الحلية:
نحو الزرقة والحمرةِ، والبياضِ والحول، والعور، والطول والقصر والحسنِ
والقبح وما أشبهُ هذه الأشياء، تقول: مررت برجل أزرق وأحمرَ وطويل
وقصير وأحول وأعور وبامرأة عوراء وطويلة زرقاء وبرجلٍ حَسَنٍ وبامرأة
حسنَةٍ فجميعُ هذه الصفات قد فرقت لك بين الرجلِ الأزرق وغيره والأحمر
وغيره والرفع والنصب مثل الخفضِ، والرجل والجمل والحجرُ في الوصف سواء
إذا وصفتهنَّ بما هو حليةٌ لهن، فأما الموصوف بصفة ليست له في الحقيقة
وإنما هي لشيء من سببه، وإنما جرت على الاسم الأول لأنها تفرق بينه
وبين منْ له اسم مثل اسمِه، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حَسنٍ أبوهُ ومضيت
إلى رجلٍ طويل أخوهُ وقد تقدم ذكر الصفة التي تجري على الموصوف في
الإِعرابِ إذا كان لشيءٍ من سببه عورض بها وقلنا: إنه إنما يجري على
الاسم منها ما كان مشبهًا باسم الفاعل مما تدخله الألف واللام أو يثنى
ويجمع بالواو والنون ويذكّر ويؤنث.
شرح الثاني من النعوت:
وهو ما كان فعلًا للموصوف يكون به فاعلًا أو متصلًا بشيءٍ من سببه وذلك
نحو "قائمٍ" وقاعدٍ، وضاربٍ ونائمٍ، تقول: مررت برجلٍ قائمٍ،
(2/24)
وبرجلٍ نائمٍ، وبرجل ضاربٍ، وهذا رجلٌ
قائمٌ ورأيت رجلًا قائمًا، فهذه صفة استحقها الموصوف بفعله، لأنه لما
قام وجب أن يقالَ له: قائمٌ ولما ضَرَبَ، وجب أن يُقال له: ضاربٌ،
وكذلك جميع أسماء الفاعلينَ على هذا، نحو: مكرم, ومستخرج، ومدحرج، كثرت
حروفُه أو قلت ولهذا حَسُنَ أن توصف النكرة بالفعل فتقول: مررتُ برجلٍ
ضَرب زيدًا وبرجلٍ قامَ وبرجلٍ يضربُ لأنه ما قيل له ضاربٌ إلا بعد أن
ضَربَ أو يضربُ في ذلك الوقت أو يكون مقدرًا للضربِ لأن اسم الفاعل
إنما1 يجري [مجرى] 2 الفعل، فجميع هذا الذي ذكرت لك -من أسماء
الفاعلين- يجري على الموصوفات التي قبلها فيفصل بين بعض المسميات وبعضٍ
إذا أخلصتها نحو: مررتُ برجلٍ ضاربٍ وقاتلٍ ومكرمٍ ونائمٍ وكذلك إن
كانت لما هو من سبب الأول نحو قولك: مررت برجلٍ ضاربٍ أبوه وبرجلٍ قائم
أخوهُ ورأيت رجلًا ضاربًا أخوه عمرًا وهذا رجلٌ شاكر أخوه زيدًا ولك أن
تحذف التنوين -وأنت تريده- من اسم وتضيف فتقول: مررت [برجل] 3 ضاربِ
زيدٍ غدًا، وبرجلِ قاتلِ بكرٍ الساعةَ، وقد بينت ذا فيما تقدم, وكذا إن
كان الفعل متصلًا بشيءٍ من سبب الأول تقول: مررت برجلٍ ضاربٍ رجلًا
أبوه وبرجلٍ مخالطِ بدنَه داءٌ ولك أن تحذف التنوين كما حذفت فيما قبله
فتقول: مررت برجلٍ ضاربِ رجلٍ أبوهُ وبرجلِ مخالطِ بدنه داءٌ.
وحكى سيبويه عن بعض المتقدمين من النحويين أنه كان [لا] 4 يجيز إلا
النصب في: مررتُ برجلٍ مخالطٍ بدنه داءٌ فينصبون "مخالطَ" وردَّ هذا
القول وقال: العمل الذي لم يقع والعمل والواقع الثابت في هذا الباب
__________
1 في الأصل: "إما".
2 أضفت كلمة "مجرى" لإيضاح المعنى.
3 أضفت كلمة "رجل" لإيضاح المعنى.
4 أضفت كلمة "لا" لأن المعنى يستقيم بها.
(2/25)
سواءٌ، قال: وناس من النحويين يفرقون بين
التنوين وغير التنوين، ويفرقون إذا لم ينونوا بين العمل الثابتِ الذي
ليس فيه علاجٌ يرونَهُ نحو الآخذِ واللازم والمخالطِ، وبين ما كان
علاجًا نحو الضاربِ والكاسر فيجعلون هذا رفعًا على كل حال ويجعلون
اللازم ما أشبههُ نصبًا إذا كان واقعًا فإن جعلت ملازمهُ وضاربه وما
أشبه هذا لما مضى صار اسمًا ولم يكن إلا رفعًا، تقول: مررتُ برجلٍ
ضاربهُ زيدٌ أمسِ، وبرجلٍ ضارب أبيه عمرو أمس ورأيتُ رجلًا مخالطه داءٌ
أمسِ1.
شرح الثالث: من النعوت وهو ما كان صفة غير عمل وتحلية:
وذلك نحو العقلِ والفهمِ، والعلم والحزنِ، والفرحِ, وما جرى هذا
المجرى، تقول: مررتُ برجلٍ عالم وبرجل عاقلٍ ورجل عالمٍ أبوهُ، وبرجل
ظريفةٍ جاريتُهُ فجميع هذه الصفات وما أشبهها وقاربها فحكمها حكمٌ
واحدٌ، وقياسُها قياسُ ضاربٍ وقائمٍ في إعرابها إذا كانت متصرفةً
كتصرفها.
شرح الرابع: وهو النسب:
إذا نسبت إلى أبٍ أو بلدةٍ أو صناعةٍ أو ضربٍ من الضروب جرى مجرى
النعوت التي تقدم ذكرها، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ هاشمي، وبرجلٍ عربيٍّ
منسوب إلى الجنس وكذلك عجمي وبرجلٍ بزازٍ وعطارٍ, وسراج وجمّال ونجار
فهذا منسوبٌ إلى الأمور التي تعالج وبرجلٍ بصري، ومصري، وكوفي وشامي
فهذا منسوب إلى البلد وتقول: مررتُ برجلٍ دارعٍ ونابلٍ أي: صاحبُ درعٍ
وصاحبُ نبلٍ، وكذلك برجلِ
__________
1 انظر الكتاب 1/ 226-228.
(2/26)
فارسٍ، فجميع هذه الأشياءُ إنما صارت صفاتٍ
بما لها من معنى الصفةِ، وسنبين النسب في بابه، فإنه حدٌّ من النحو
كبير -إن شاء الله- فأما أبٌ وأخٌ وابنٌ وما جرى مجراهن، فصفاتٌ ليست
منسوبة إلى شيءٍ، وهي أسماءٌ أوائل في أبوابها و [لا] 1، يجوز أن تنسب
إليها كنسب هاشمي المنسوب إلى هاشم ولا كعطارِ المنسوب إلى العطرِ ولا
دارع المنسوب للدرعِ.
شرح الخامس: وهو الوصفُ بذي:
وذلك نحو: مررتُ برجلٍ ذي إبلٍ وذي أدبٍ وذي عقل وذي مروءة، وما أشبه
ذلك، ويفسر بأن معناه "صاحبٌ" ولا يكون إلا مضافًا ولا يجوز أن تضيفه
إلى مضمر وإذا وصفت به نكرةً أضفته إلى نكرةٍ وإذا وصفت به معرفةً
أَضَفْتَ إلى الألف واللام ولا يجوز أن تضيفه إلى زيدٍ وما أشبههُ
وتقول للمؤنث "ذاتِ" تقول: مررتُ بامرأةٍ ذات جمالٍ وإذا ثنيت قلت:
مررت برجلينِ ذوي مالٍ وهذان رجلانِ ذوا مالٍ وهاتانِ امرأتان ذواتا
مالٍ وهؤلاء رجالٌ ذوو مالٍ ونساء ذوات مالٍ فأما "ذو" التي بمعنى
"الذي" فهي لغةُ طيءٍ فحقها أن يوصفَ بها المعارف.
ذكر الصفات التي ليست بصفات محضة:
هذه الصفات التي ليست بصفات محضة في الوصف يجوز أن تبتدأ كما تبتدأ
الأسماء، ويحسن ذلك فيها وهي التي لا تجري على الأول إذا كانت لشيءٍ من
سببه، وهي تنقسم ثلاثة أقسام: مفردٍ، ومضافٍ، وموصولٍ.
فالأول: المفرد نحو قولك: مررتُ بثوبٍ سبعٍ، وقول العرب: أخذَ بنو
فلانٍ من بني فلانٍ إبلًا مائةً. وقال الأعشى:
لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قامةً ... ورقيتَ أسبابَ السماءِ بسلمِ2
__________
1 أضفت "لا" لإيضاح المعنى.
2 من شواهد سيبويه 1/ 231 "أجرى فيه الثمانين على الجب نعتًا له؛ لأنها
تنوب مناب طويل وعميق ونحوه، فكأنه قال: في جب بعيد القعر طويل، يقول
هذا ليزيد بن مسهر الشيباني متوعدًا له بالهجاء والحرب، لا ينجيك مني
بعدك وضرب رقيه في السماء وهويه تحت الأرض مثلًا، والأسباب الأبواب؛
لأنها تؤدي إلى ما بعدها، وكل ما أدى إلى غيره فهو سببه، وأصل، السبب
الحبل؛ لأنه يوصل إلى الماء، ونحوه مما يبعد مرامه، وانظر: ابن يعيش 2/
74.
(2/27)
ومررتُ بحيةٍ ذراعٍ، فإذا قلت: مررت بحيةٍ
ذراعٌ طولها رفعت "الذراع" وجعلت ما بعد "حيةٍ" مبتدأً وخبرًا وكذلك
مررت بثوب سبعٌ طوله, ومررت برجلٍ مائةٌ إبلُه.
قال سيبويه: وبعض العرب يجره كما يجر الخزَّ حين تقول: مررت برجلِ
خَزٍّ صُفَتُه1، وهو قليل: كما تقول: مررت برجل أسد أبوهُ، إذا كنت
تريد أن تجعله شديدًا ومررت برجلٍ مثل الأسد أبوهُ إذا كنت تشبهه فإن
قلت: مررت بدابةٍ أسدٌ أبوها، فهو رفعٌ لأنك إنما تخبر أن أباها هذا
السبعُ قال: فإن قلت: مررت برجلٍ أسدٌ أبوهُ على هذا المعنى رفعت لأنك
لا تجعل أباه خلقته كخلقة الأسد ولا صورته هذا لا يكون ولكنه يجيء
كالمثل ومن قال: مررتُ برجلٍ أسدٌ أبوهُ قال: مررت برجلٍ مائةٌ إبلُه
وزعم يونس: أنه لم يسمعهُ من ثقةٍ2 ولكنهم يقولون: هو نارٌ جُمْرة
لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها فالرفع فيما كان
بهذه الحال الوجه قال: ومن قال: مررتُ برجلٍ سواءٍ والعدمُ كان قبيحًا
حتى تقول: هو والعدمُ لأن في "سواءٍ" اسمًا مضمرًا مرفوعًا، كما تقول:
مررتُ بقومٍ عربٍ أجمعونَ، فارتفع "أجمعونَ" على مضمرٍ في "عَربٍ"3 في
النيةِ، فالعدم هنا معطوف على المضمر الثاني المضاف وذلك قولهم: مررتُ
برجلٍ أي رجلٍ, وبرجلٍ أيما رجلٍ, وبرجل أبي عشرةٍ، وبرجلٍ كُلِّ
__________
1 انظر الكتاب 1/ 230-231.
2 انظر الكتاب 1/ 231.
3 انظر الكتاب 1/ 232.
(2/28)
رجلٍ، وبرجل مثلِكَ، وغيرك وبرجلٍ أفضلَ
رجلٍ وما أشبههُ، فجميع هذا يجري على الموصوف في إعرابه في رفعه ونصبه
وجره إذا أخلصتها له فإن جعلت شيئًا من هذه الصفات رافعًا لشيء من سببه
لم يجز أن تصف به الأول، ولا تجريه عليه، ورفعته فقلت: مررت برجلٍ أبو
عشرةٍ أبوه وبرجلٍ أفضلَ رجلٍ أبوه وبرجلِ مثلكَ أخوهُ وبرجل غيركَ
صاحبُه, وكلُّ ما ورد عليك من هذا النحو فقسهُ عليه.
الثالث: النعت الموصول المشبه بالمضاف:
وإنما أشبه المضاف لأنه غير مستعمل إلا مع صلته، وذلك نحو: أفضل منكَ
وأب لكَ وأخ لكَ وصاحبٌ لكَ فجميع هذه لا يحسن أن تفردها من صلاتها لو
قلت: مررت برجلٍ أبٍ وبرجلٍ أخٍ لك وبرجلٍ خيرٍ وبرجل شَرٍّ لم يجز حتى
تقول: مررتْ برجلٍ أبٍ لك وبرجل أخٍ لك وبرجل خيرٍ منكَ فجميع هذه إذًا
أخلصتها للموصوف ولم تعلقها بشيءٍ من سببه أجريتها على الأول فقلت: هذا
رجلٌ خيرٌ منكَ وصاحبٌ لكَ وأبٌ لكَ ورأيت رجلًا خيرًا منكَ وأبًا لكَ
ومررت برجلِ خيرٍ منكَ وأبٍ لكَ فإن علقتها بشيء من سببه رفعت وغلبت
عليها الاسمية فقلت: مررت برجلٍ أبٍ لكَ أبوهُ وبرجلٍ صاحبٍ لكَ أخوه
وبرجلٍ خير منه أبوه ترفع جميع هذا على الابتداء والخبر والجر لغة،
وليست بالجيدة وتقول: ما رأيت رجلًا أبغضَ إليه الشرُّ منهُ إليه، وما
رأيتُ آخر [أحسن] 1 في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ فإنما جرى: "أبغضُ
وأحسنُ" على "رجلٍ" في إعرابه. وإن كان قد وقع بهما الشر والكحلَ، لأن
الصفة في المعنى له، وليس هنا موصوفٌ غيره لأنه هو المبغضُ للشر وهو
الحسنُ بالكحلِ فلهذا لم يشبه: مررت برجلٍ خيرٍ منهُ أبوهُ لأن أباه
غيره وليس له في الخبر الذي
__________
1 أضفت كلمة "أحسن" لإيضاح المعنى.
(2/29)
في "أبيهِ" نصيبٌ وقد تخفضُ العرب هذا
الكلام فتقول: ما رأيتُ رجلًا أحسن في عينه الكحل من زيدٍ، وما رأيت
أبغضَ إليه الشرُّ منهُ فإذا فعلوا هذا جعلوا الهاء التي كانت في
"منهُ" للمذكرِ المضمرِ وكانت للكحلِ والشرِّ وما أشبههما, قال الشاعر:
مَرَرْتُ عَلَى وادي السِّبَاعِ ولا أَرَى ... كَوَادي السِّبَاعِ
حِينَ يُظْلمُ وَادِيا
أقلَّ بهِ رَكْبٌ أَتَوْهُ تئيةً ... وأخوْفَ إلاّ ما وقى الله ساريا1
قال سيبويه: إنما أراد: أقلَّ به الركب تئيةً منهم ولكنه حذف ذلك
استخافًا كما تقول: أنت أفضلُ، ولا تقولُ من أحدٍ، وتقول: الله أكبرُ،
ومعناه: أكبر من كلِّ كبير وكلِّ شيءٍ. وكما تقول: لا مالَ ولا تقول
لك2.
واعلم: أن ما جرى نعتًا على النكرة فإنه منصوبٌ في المعرفة على الحال
وذلك قولك: مررتُ بزيدٍ حسنًا أبوهُ ومررتُ بعبد الله ملازمكَ وما كان
في النكرة رفعًا غير صفةٍ فهو في المعرفة رفعٌ فمن ذلك قولهُ عز وجل:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ} 3 لأنك تقول: مررت برجلٍ سواءٌ محياهُ ومماتهُ وتقول:
مررت بعبد الله خير منهُ أبوهُ، ومن أجرى هذا على الأول في
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 233 على قوله: "أقل به ركب" وحذفه تمام الكلام
اختصارًا لعلم السامع والتقدير: أقل به ركب أتوه منهم بوادي السباع،
فجرى في الحذف مجرى قولهم: الله أكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء.
والبيتان لسحيم بن وثيل، يقول: وافيت هذا الوادي ليلًا وهو وادٍ بعينه
فأوحشني لكثرة سباعه، فرحلت عنه ولم أمكث فيه لوحشته، والتئية: الثابت
والماكث، ورفع الركب "بأقل" والمعنى: ولا أرى كوادي السباع واديًا أقل
به الركب الآتوه تئية منهم بوادي السباع. وانظر منهج السالك/ 134,
وارتشاف الضرب/ 373, وشواهد الألفية للعاملي/ 302, وشرح شواهد ابن
عقيل/ 167.
2 انظر الكتاب 1/ 233.
3 الجاثية: 21
(2/30)
النكرة نصبه هنا على الحال، فقال: مررت
بعبدِ اللهِ خيرًا منهُ أبوهُ، وهي لغةٌ رديئةٌ1، وقد يكون حالًا ما لا
يكون صفةً، لأن الحال زيادة في الخبر فأشبهت خبر المبتدأ الذي يجوزُ أن
يكون صفةً ويجوز أن يكون اسمًا, والصفة ما كانت تفرق بين اسمين، والحال
ليست تفرق بين اسمين, وقد يجوز أن يكون من اسم لا شريكَ له في لفظه
ولكنها تفرق بين صاحبِ الفعل فاعلًا كان أو مفعولًا وبين نفسه في وقتهن
فمما استعملوه حالًا ولم يجز أن يكون صفةً.
قولهم: مررتُ بزيد أسدًا شدة، قال سيبويه: إنما قال النحويون: مررتُ
برجلٍ أسدًا شدةً وجرأةً، إنما يريدون: مثل الأسد وهذا ضعيفٌ قبيحٌ
لأنه لم يجعل صفةً، إنما قاله النحويون تشبيهًا بقولهم: مررتُ بزيدٍ
أسدًا شدةً، وقد يكون خبرًا ما لا يكون صفةً2 واعلم أنهم ربما وصفوا
بالمصدر نحو قولك: رجلٌ عدلٌ وعلم، فإذا فعلوا هذا فحقه أن لا يثنى ولا
يجمع، ولا يذكّر ولا يؤنث والمعنى إنما هو ذو عَدلٍ فإن ثنى من هذا
شيءٌ فإنما يشبه بالصفة إذا كثر الوصف به والنكرة توصف بالجمل
وبالمبتدأ والخبر والفعل والفاعلِ، لأن كلَّ جملة فهي نكرةٌ، لأنها
حديثٌ وإنما يحدث بما لا يعرف ليعيدهُ السامع فيقول: مررتُ برجلٍ أبوهُ
منطلقٌ فرجل صفته مبتدأ وخبره وتقول: مررتْ برجلِ قائمٌ أبوهُ فهذا
موصوف بفعل وفاعلٍ ولا يجوز أن تصف المعرفة بالجمل لأن الجملَ نكراتٌ
والمعرفة لا توصف إلا بمعرفةٍ فإذا أردت ذلك أتيت "بالذي" فقلت: مررتُ
بزيدٍ الذي أبوهُ قائمٌ، وبعمروٍ الذي قائمٌ أبوهُ.
ذكر وصف المعرفة:
وهو ينقسم بأقسام المعارف إلا المضمر فإنه لا يوصف به، وأقسام
__________
1 انظر الكتاب 1/ 233.
2 انظر الكتاب 1/ 233.
(2/31)
الأسماء المعارف خمسةٌ، العلم الخاصُ
والمضاف إلى المعرفةِ، والألف واللام، والأسماء المبهمةُ والإِضمار.
فالموصوف منها أربعٌ:
الأول: وهو العلم الخاص: يوصف بثلاثة أشياء بالمضاف إلى مثله، وبالألف
واللام نحو: مررتُ بزيدٍ أخيكَ والألف واللام نحو: مررتَ بزيدٍ الطويلِ
وما أشبه هذا من الإِضافة والألف واللام. وأما المبهمة فنحو: مررتُ
بزيدٍ هذا وبعمروٍ ذاكَ والمرفوع والمنصوب في أتباع الأول كالمجرورِ.
الثاني: المضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء، بما أضيف كإضافته،
وبالألف واللام والأسماء المبهمةُ وذلك مررتُ بصاحبِكَ أخي زيدٍ ومررتُ
بصاحبِكَ الطويلِ ومررتُ بصاحبِكَ هذا.
الثالث: الألف واللامُ: يوصف بالألف واللامِ، وربما أضيف إلى الألف
واللامِ، لأنه بمنزلة الألف واللامِ وذلك قولكَ مررتُ بالجميلِ
النبيلِ، ومررت بالرجلِ ذي المالِ.
الرابع: المبهمةُ: توصف بالأسماء التي فيها الألفُ واللامُ، والصفات
التي فيها الألف واللامُ جميعًا.
قال سيبويه: وإنما وصفت بالأسماء1 لأنها والمبهمة كشيءٍ واحدٍ. والصفات
التي فيها الألف واللام هي بمنزلة الأسماء في هذا الموضع وليست بمنزلة
الصفاتِ في زيدٍ وعمروٍ، يعني أنك إذا قلت: هذا الطويل، فإنما تريد:
الرجل الطويل أو الرمح الطويل أو ما أشبه ذلك، لأن هذا مبهم يصلح أن
تشير به إلى كل ما بحضرتك فإذا ألبس على السامع فلم يدر إلى الرجل تشير
أم إلى الرمح وجب أن تقول: بهذا الرجلِ أو بهذا الرمحِ فالمبهم يحتاج
إلى أن يميز بالأجناسِ عند الإِلباس، فلهذا صار هو وصفتُه بمنزلة شيءٍ
واحدٍ، وخالف
__________
1 انظر الكتاب 1/ 221.
(2/32)
سائر الموصوفات؛ لأنها لم توصف بالأجناس،
وإنما يجوز أن تقول بهذا الطويلِ، إذا لم يكن بحضرتكَ طويلانِ فيقع
لبسٌ، فأما إذا كان شيئانِ طويلانِ لم يجز إلا أن تذكر الاسم قبل الصفة
وهذا المعنى ذكره النحويون مجملًا وقد ذكرته مفصلًا واعلم أن صفة
المعرفة لا تكون إلا معرفةً كما أن صفة النكرةِ لا تكون إلا نكرةً ولا
يجوز أن تكون الصفةُ أخص من الموصوفِ ألا ترى أنك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ
الطويلِ فالطويلُ أعم من زيد وحدُه والأشياء الطوال كثيرة وزيدٌ وحدُه
أخص من الطويل وحده فإن قال قائل: فكان ينبغي إذا وصفت الخاص بالعامِ
أن تخرجه إلى العموم؟ قيلَ له: هذا كانَ يكونُ واجبًا لو ذكرَ الوصف
وحدهُ، فقلت: مررتُ بالطويلِ لكانَ لَعمري أعم من زيدٍ ولكنك إذا قلت:
بزيدِ الطويلِ كان مجموع ذلك أحسن من زيدٍ وحده ومن الطويل وحده ولهذا
صارت الصفة والموصوف كالشيء الواحد.
واعلم: أنه لك أن تجمع الصفة وتفرق الموصوف إذا كانت الصفة محضة، ولم
تكن اسما وصفت به مبهمًا. ولك أن تفرق الصفة وتجمع الموصوف في المعرفة
والنكرة فتقول: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ وبكرٍ الطوال تجمع النعت وتفرق
المنعوت وتقول: مررتُ بالزيدينِ الراكبِ والجالسِ والضاحكِ فتجمع الاسم
وتفرق الصفة, ولكن المفرق يجب أن يكون بعدد المجموع وليس لك مثل هذا في
المبهم لا يجوز أن تقول: مررتُ بهذينِ: الراكع والساجد، وأنت تريد
الوصف؛ لأن المبهم اسم وصفته اسم فهما اسمان يبين أحدهما، الآخر فقاما
مقام اسم واحد ولا يجوز أن يفرقا، لا يثني أحدهما ويفرد الآخر، بل يجب
أن يكون مناسبًا له في توحيده وتثنيته وجمعه ليكون مطابقًا له، لا يفصل
أحدهما عن الآخر.
(2/33)
مسائل من هذا الباب:
تقول: إن خيرهم كلهم زيدٌ، وإن لي قبلكم كلكم خمسين درهمًا وإن خيرهما
كليهما أخوك، لا يكون "كلَيهما" من نعت "خيرٍ" لأن خيرًا واحدٌ.
(2/33)
وتقول: جاءني خيرُهما كليهما راكبًا، وإن
خيرهما كليهما نفسه زيد، فيكون "نفسُه" من نعت "خيرٍ" وتقول: جاءني
اليوم خيرهما كليهما نفسُه، وقال الأخفش: أن عبدَ الله ساجٌ بابُهُ
منطلقٌ فجعل "ساجٌ بابُه" في موضع نصب على الحال لأَنه كان صفة للنكرة.
وتقول: مررتُ بحسنٍ أبوهُ تريد: رجلٌ حَسن أبوه وبأحمرَ أبوهُ، ولا
يجوز: رأيت ساجًا بابُهُ تريد: رأيت رجلًا ساجًا بابُه.
وتقول: مررتُ بأصحابٍ لكَ أجمعونَ أكتعونَ لأن في "لَكَ" اسمًا مضمرًا
مرفوعًا, ومررتُ بقومٍ ذاهبينَ أجمعونَ أكتعونَ، لأن في "ذاهبين" اسمًا
مرفوعًا مضمرًا، وكذلك: مررت بدرهمٍ أجمع أكتع ومررت بدارٍ لك جمعاءَ
كتعاءَ ومررت بنساءٍ لكَ جمع كتع ولا يجوز أن تكون هذه الصفة للأول لأن
الأول نكرة وتقول: مررت بالقوم ذاهبينَ أجمعينَ أكتعينَ إذا أكدت
القومَ فإن أجريته على الاسم المضمر في "ذاهبين" رفعت فقلت: أجمعونَ
أكتعونَ.
وتقول: مررت برجلٍ أيما رجلٍ، وهذا رجلٌ أيما رجلٍ، وهذان رجلانِ أيما
رجلينِ وهاتان امرأتانِ أيتما امرأتين ومررت بامرأتين أيتما امرأتينِ
و"ما" في كل هذا زائدة وأضفت أيًّا وأية إلى ما بعدها.
وتقول: مررت برجل حسبكَ من رجلٍ, وبامرأة حسبكَ من امرأة, وهذه امرأةٌ
حسبك من امرأةٍ، وهاتان امرأتان حسبك من امرأتين وتقول: هذا رجلٌ،
ناهيكَ من رجلٍ وهذه امرأة، ناهيتك من امرأةٍ فتذَكر "ناهيًا" وتؤنثه
لأنه اسم فاعل ولا تفعل ذلك في "حسبكَ" لأنه مصدر وتقول في المعرفة:
هذا عبد الله حسبكَ من رجل وهذا زيد أيما رجلٍ فتنصب "حسبكَ" وأيما على
الحال. وهذا زيدٌ ناهيكَ من رجلٍ وهذه أمة الله أيتما جاريةٍ.
وتقول: مررت برجلين لا عطشاني المرأتين، فأقول: عطشاناهما ولا
ريانيهما، فأقول: رياناهما وتقول: مررت برجال لا عطاش النساء فأقول:
(2/34)
عطاشهن ولا روائهن، فأقول: رواؤهن، وإنما
قلت: رواء لأنه فعال من رويت. وتقول: هاتان امرأتان عطشيا الزوجين لا
ريياهما وتقول هؤلاء نساءٌ لا عطاش الأزواج، فأقول: عطاشهم، ولا
رواؤهم، فإذا جمعت: ريّا، وريان، فهو على فعال.
وتقول: مررت برجل حائضٍ جاريتُه، ومررت بامرأة خصي غلامُها، ولو قلت:
مررت برجلِ حائض الجارية لقَبحَ لأنك إن أدخلت الألف واللام جعلت
التأنيث والتذكير على الأول فأنت تريد أن تذكر حائضًا لأن قبله رجلًا
والحائض لا يكون مذكرًا أبدًا، وقال بعضهم: هذا كلام جائز لأن "حائضًا"
مذكر في الأصل، وقد أُجيز، مررت بامرأة خصي الزوجِ، لأن خصيًا فعيلٌ
مما يكون فيه مفعولُه فهذا يكون للمذكر والمؤنث سواء ولا يجوز: مررت
برجلٍ عذر الجاريةِ إذا كان الجارية، عُذرًا وكذلك: مررت بامرأة محتلمة
الزوجِ لأن محتلمًا مما لا يكون مؤنثًا وكذلك: مررت بامرأةٍ آدر1
الزوجِ، ولا يجوز: مررت برجلٍ أعْفلَ المرأةِ؛ لأن أعفل مما لا يكون في
الكلام2.
ومن قال: مررت برجل كفاكَ به رجلًا، قال للجميع: كفاكَ بهم، وللاثنين:
كفاكَ بهما، لأن اسم الفاعل هو الذي بعد الباء، والباءُ زائدةٌ وفي هذا
لغتان: منهم من يجريه مجرى المصدر فلا يؤنثه ولا يثنيه ولا يجمعه،
ومنهم من يجمعه فعلًا، فيقول: مررت برجل هدكَ من رجلٍ، وبامرأةٍ هدتك3
من امرأة، وإن أردت الفعل في "حسبكَ" قلت: مررت برجل
__________
1 آدر: الأدرة -بالضم- نفخة في الخصية.
2 يقال: عفلت المرأة عفلًا فهي عفلاء, والعفلة: بضارة المرأة، ولا يكون
بالأبكار ولا يصيب المرأة إلا بعد أن تلد، وقال ابن دريد: العفل في
الرجال غلظ يحدث في الدبر وفي النساء غلظ في الرحم.
3 انظر الكتاب 2/ 210 "وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقولون: مررت برجل
هدك من رجل وبامرأة هدتك من امرأة". وقال ابن يعيش 3/ 50: "وأما هدك،
فهو من القوة. يقال: فلان يهد على ما لم يسم فاعله: إذا نسب إلى
الجلادة، والكفاية, فالهد بالفتح للرجل القوي. وإذا أريد الذم والوصف
بالضعف كسر وقيل: هدك".
(2/35)
حسبكَ من رجلٍ، وبرجلين أحسباك من رجلينِ,
وبرجال أحسبوكَ, وتقول: مررت برجلين ملازماهما رجلانِ أمسِ كما تقول:
برجلين عبداهما رجلانِ ومررت برجل ملازموهُ رجالٌ أمسِ؛ لأن ملازمه هذا
اسم مبتدأ، لأنه بمنزلة غلام إذا كان لما مضى وقد بينا ذا فيما تقدم
فإذا كان اسمًا صار مبتدأً ولا بدّ من أن يكون مساويًا للخبر في عدته
كما تقول: الزيدانِ قائمانِ وغلاماك منطلقانِ وتقول: مررت برجلٍ حسبكَ
ومررت بعبد الله حسبكَ فيكون حالًا فإذا قلت: حسبك يلزمكَ فحسبك, مرتفع
بالابتداء والخبر محذوف, وهذا قول الأخفش وغيره من النحويين.
وقال أبو العباس, رحمه الله: الخبر محذوف لعلتين: إحداهما: أنك لا تقول
"حسبَك" إلا بعد شيء قد قاله أو فعله، ومعناه: يكفيك أي: ما فعلت
وتقديره: كافيكَ لأن حسبكَ اسم, فقد استغنيت عن الخبر بما شاهدت مما
فعل قال: وكذلك أخوات حسبك نحو "هدكَ". والوجه الآخر: في الاقتصار على
حسبٍ بغير خبرٍ, إن معنى الأمر لما دخلها استغنت عن ذلك كما تستغني
أفعال الأمر تقول: حسبُكَ ينم الناسُ كما تقول: اكففْ ينم الناسُ وكذلك
"قدكَ" و"قطكَ" لأن معناهما حسبك إلا أن حسبك معربة, وهاتان مبنيتان
على السكون يعني: قَدْ وقَطْ، وتقول: حسبكَ درهمانِ فأنت تجريه مجرى
يكفيك درهمانِ وتقول: إن حسبك درهمانِ.
قال الأخفش: إذا تكلمت "بحسب" وحدها -يعني إذا لم تضفها- جعلتها أمرًا
وحركت آخرها لسكون السين، تقول: رأيت زيدًا حسب يا فتى، غير منون، كأنك
قلت: حسبي أو حسبكَ فأضمر هذا فلذلك لم ينون لأنه أراد الإِضافة. وقال:
تقول: حسبُكَ وعبد اللهِ1 درهمان، على
__________
1 على أن عبد الله مفعول معه أو مفعول به بإضمار "يحسب" وهو الصحيح؛
لأنه لا يعمل في المفعول معه إلا ما كان من جنس ما يعمل في المفعول به،
وجواز جره قيل: بالعطف، وقيل: بإضمار "حسب" أخرى وهو الصواب، ورفعه
بتقدير حسب، فحذفت وخلفها المضاف إليه، وانظر المغني/ 619-620 تحقيق
مازن المبارك.
(2/36)
معنى يكفيك وعبد الله درهمانِ، فإن جررت
فهو جائز وهو قبيح، وقبحه أنك لا تعطف ظاهرًا على مضمر مجرور, وأنشدوا:
إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَسْبُكَ
والضَّحَّاك سَيْفٌ مُهَنَّدُ1
فمنهم من ينصب "الضحاكَ" ومنهم من يجر ومنهم من يرفع، فإن أظهرت قلت:
حسب زيدٍ وأخيهِ درهمانِ، وقبح النصب والرفع؛ لأنك لم تضطر إلى ذلك
وتقول مررت برجل في ماءٍ خائضهُ هُوَ لا يكون إلا هو, إذا أدخلت الواو
لأنك قد فصلت بينه وبين ماء وتقول: مررت برجلٍ معهُ صقْرٌ صائدٌ وصائد
بهِ, كما تقول: أتيتَ على رجلٍ ومررت بهِ قائمًا إن حملته على الرجل
جررت, وإن حملته على "مررت بهِ" نصبت, وتقول: نحن قومٌ ننطلق عامدونَ
وعامدينَ إلى بلد كذا وتقول: مررت برجلٍ معه بازٌ قابض على آخر وبرجل
معه جبةٌ لابس غيرها ولابسًا2 إن حملته على الإِضمار الذي في "معهُ"
وتقول: مررت برجل عندهُ صقرٌ صائدٍ ببازٍ وصائدًا, إن حملته على ما في
"عندَه" من الإِضمار، وكأنك قلت: عندَه صقرٌ صائدًا ببازٍ, وتقول: هذا
رجلٌ عاقلٌ لبيبٌ، لم تجعل الآخر حالًا وقع فيه.
__________
1 الشاهد فيه جواز الرفع في "الضحاك" والنصب والجر، على أنه مضاف إلى
"حسب" وكانت هنا فعل تام.
والهيجاء: الحرب. وانشقت العصا: تفرقت الجماعة ونسب هذا البيت في ذيل
الأمالي إلى جرير ولم يوجد في ديوانه.
وانظر: معاني القرآن 1/ 417، والسمط/ 899، وذيل الأمالي/ 140، والمغني/
622، تحقيق الدكتور مازن المبارك، والسيوطي 2/ 900, وكتاب الغريب لعيسى
بن إبراهيم الربعي/ 106, والأمالي لأبي علي القالي 2/ 262, وكتاب إيضاح
شواهد الإيضاح/ 118.
2 في الأصل "وإن" والواو زائدة.
(2/37)
الأول، ولكنك سويت بينهما في الإِجراء على
الاسم، والنصب فيه جائز ضعيفٌ.
قال سيبويه: وإنما ضعف؛ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال
ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان لم يكن واحد منهما قبل صاحبه1، وقد يجوز
في سعة الكلام، وتقول: مررت برجلٍ معه كيسٌ مختوم عليهِ، الرفع الوجهُ؛
لأنه صفة الكيس والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائمًا وهذا رجلٌ
ذاهبًا, وتقول: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائدًا به غدًا تريد: مقدرًا الصيد
به غدًا، ولولا2 هذا التقدير ما جاز هذا الكلامُ، وتقول: مررتُ برجلٍ
معهُ امرأةٌ ضاربتُه فهذا بمنزلة معه كيسٌ مختومٌ عليهِ, فإن قلت: مررت
برجلٍ معه امرأةٌ ضارِبها جررت ونصبت على ما فسر3. وإن شئتَ وصفت
المضمر في "ضاربها" في النصب والجر فقلت: مررت برجلٍ معهُ امرأةٌ
ضاربها هُوَ أو ضاربها هُو, فإن شئت جعلت "هو" منفصلًا فيصير بمنزلة
اسم ليس من علامات الإِضمار, فتقول: مررت برجلٍ معه امرأةٌ ضاربها
"هُوَ" كأنك قلت: معه ضاربها زيدٌ وتقول: يا ذا الجاريةُ الواطئَها
أبوه كما تقول يا ذا الجارية الواطئَها زيدٌ والمعنى: التي وطئَها
زيدٌ, وتقول: يا ذا الجاريةُ الواطئَها أبوهُ فجعل بها "الواطئَها" صفة
"ذا" المنادى.
ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجاريةُ الواطئُها زيدٌ، من قبل أن
"الواطئَها" من صفة المنادى فإذا لم يكن هو الواطئ ولا أحد من سببه؛ لم
يكن صفة له كما لا يجوز: يا عبد اللهِ الواطئ الجارية زيدٌ فلم يجز هذا
كما لم يجز: مررتُ بالرجل الحسنِ زيدٌ, وقد يجوز أن تقول: مررتُ بالرجل
الحسنِ أبوهُ وتقول: يا ذا الجاريةِ الواطئُها هُو, جعلت "هُو" منفصلًا
كالأجنبي, لا يجوز حذفه وإن شئت نصبته كما تقول: يا ذا الجاريةِ
الواطئَها تجريه على
__________
1 انظر الكتاب 1/ 242.
2 في الأصل "ولو" ولا يستقيم المعنى.
3 الجر على أنها نعت سببي، والنصب على الحال.
(2/38)
المنادى، فإن قلت: يا ذا الجاريةِ
الواطئَها، وأنت تريد: الواطئَها هُو, لم يجز أن تطرح "هُوَ" كما لا
يجوز بالجاريةِ الواطئها هو أو أنت حتى تذكرهما فإن ذكرتهما جاز, وليس
هذا كقولك: مررت بالجاريةِ التي وطئَها أو التي وطئتُها؛ لأن الفعل
يضمر فيه وتقع فيه علامة الإِضمار وقد فسرت هذا فيما تقدم, وإنما يقع
في هذا إضمار الاسم رفعًا إذا لم يوصف به شيء غير الأول, وذلك قولك: يا
ذا الجارية الواطئَها, ففي هذا إضمار "هُوَ" وهو اسم المنادى، والصفة
إنما هي للأول المنادى.
قال سيبويه: ولو جاز هذا لجازَ: مررت بالرجلِ الآخذيهِ، تريد: أنتَ,
ولجاز: مررت بجاريتِكَ راضيًا عنها1، تريد: أنْتَ ويقبح أن تقول: رُبَّ
رجلٍ وأخيهِ منطلقينِ، حتى تقول: وأخٍ لهُ, وإذا قيل: والمنطلقين,
مجروران من قبل أنّ قوله: وأخيهِ في موضع نكرة, والمعنى: وأخٍ لَهُ,
والدليلُ على أنه نكرةٌ دخول "رُبَّ" عليه, ومثل ذلك قول بعض العرب:
كُلُّ شاةٍ وسخلتِها2, أي: وسخلةٍ لَها، ولا يجوز ذلك حتى تذكر قبله
نكرة, فيعلم أنك لا تريد شيئًا بعينه, وأنشد سيبويه في نحو ذلك:
وأيُّ فَتى هَيْجَاءَ أنْتَ وَجَارِها ... إذا ما رجَالٌ بالرِّجَالِ
استقَّلتِ3
فلو رفع لم يكن فيه معنى: أي جارها، الذي هو في معنى التعجب، والمعنى:
أي فتى هيجاءَ, وأي جارٍ لها أنْتَ، قال الأعشى:
__________
1 انظر الكتاب 1/ 244.
2 انظر الكتاب 1/ 244, وانظر شرح الرماني 2/ 45.
3 من شواهد سيبويه 1/ 244 على عطف "جارها" على "فتى" والتقدير: أي فتى
هيجاء أنت، فجارها نكرة لأن أيًّا إذا أضيفت إلى واحد لم يكن إلا نكرة؛
لأنه فرد الجنس.
والهيجاء: الحرب. وأراد بفتاها القائم بها المبلى فيها، وبجارها:
المجير منها الكافي لها، واستقلت: نهضت، ولم ينسب سيبويه الشاهد إلى
قائل معين.
(2/39)
وكم دُونَ بيتِكَ منْ صَفْصَفٍ ...
ودَكْدَاكِ رمْلٍ وأعقادِهَا1
ووَضْعِ سِقاءٍ وأحْقابِهِ ... وحَلِّ حُلوسٍ وأغْمادِهَا
فجميع هذا حجة: لرب رجل وأخيه، وهذا المضافُ إلى الضمير لا يكون وحده
منفردًا نكرة, ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما
يشغل به "رُبَّ" نكرة ثم يعطف عليه ما أضيف إلى النكرة، وتقول: هذا
رجلٌ معهُ رجل قائمينِ, فهذا ينتصب؛ لأن الهاء التي في معهُ [معرفةٌ] 2
وانتصابه عندي بفعلٍ مضمر، ولا يجوز نصبه على الحال لاختلاف العاملين؛
لأنه لا يجوز أن يعمل في شيء عاملان, وتقول: "فوق الدار رجل وقد جئتُكَ
برجلٍ آخر عاقلينِ مسلمينِ" فتنصب بفعل آخر مضمر وتقول: "اصنع ما سرَّ
أخاكَ وما أحب أبوك الرجلانِ الصالحانِ" فترفع على الابتداء، وتنصب على
المدح, كقول الخرنق:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذِينَ هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفَةُ
الجُزْرِ
النَّازِلِينَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ
الأُزْرِ3
__________
1 من شواهد سيبويه أيضًا 1/ 245 على إضافة: أعقادها وأحقابه وأغمادها
وحملها كلها وهي مضافة إلى الضمائر على الأسماء المجرورة "بمن" وهي
أسماء منكورة لوقوعها موقع المنصوب على التمييز.
وصف بعد المسافة بينه وبين الممدوح الذي قصده ليستوجب بذلك جائزته.
والصفصف: المستوي من الأرض الذي لا ينبت، يريد: الفلاة، والدكداك:
الرمل المستوي. والأعقاد: جمع عقد، وهو المنعقد من الرمل المتراكم.
ووضع السقاء: حطه على الراحلة. وأغمادها: شدها تحت الرحل.
2 أضفت كلمة "معرفة" لتوضيح المعنى.
3 من شواهد سيبويه 1/ 104 و1/ 146 على قطع النازلين والطيبين من
الموصوف وحملهما على إضمار الفعل والمبتدأ، لما قصد بهما من معنى المدح
دون الوصف.
والعداة: الأعداء، جمع عاد، والجزر: جمع الجزور، وهي الناقة التي تنحر
وسكنت زاي الجزر للتخفيف.
وصفت قومها بالظهور على العدو نحر الجزور للأضياف والملازمة للحرب
والعفة عن الفواحش، فجعلت قومها سمًّا لأعدائهم يقضي عليهم، وآفة للجزر
لكثرة ما ينحرون منها.
وانظر الكامل/ 454, والمحتسب 2/ 198, والتمام في تفسير أشعار هذيل 209,
والحماسة البصرية 1/ 227, وأمالي ابن الشجري 2/ 158, ومعاني الفراء 1/
105، والإنصاف/ 249, والعيني 3/ 603, والخزانة 1/ 301, والديوان/ 29:
تحقيق الدكتور نصار.
(2/40)
وسيبويه يجيزُ نصب: هذا رجل مع امرأةٍ
قائمين على الحال, ويجيزُ: مررت برجلٍ مع امرأةٍ منطلقينِ على الحال
أيضًا, ويحتج بأن الآخر قد دخل مع الأول في التنبيه والإِشارة, وأنك قد
جعلت الآخر في مرورك فكأنك قلت: هذا رجل وامرأة, ومررت برجلٍ وامرأةٍ,
وتجعل1 ما كان معناهما واحدًا على الحال.
وإذا كان معنى ما بينهما يختلف فهو على "أعني" والقياس المحض يوجب إذا
اختلف عاملان في اسمين أو أكثر من ذلك لم يجز أن تثنى صفتهما ولا
حالهما؛ لاختلاف العاملين اللذين عملا في الاسمين, وكيف يجوز أن يفترقا
في الموصوفين ويجتمعا في الصفة, ولكن يجوز النصب بإضمار شيء ينتظم
المعنيين يجتمعان فيه.
واعلم: أنه لا يجوز أن تجيز وصف المعرفة والنكرة، كما لا يجوز وصف
المختلفين.
وزعم الخليل: أن الرفعين أو الجرين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر
والرفع, وذلك قولك: "هذا رجلٌ وفي الدار آخر كريمينِ" لأنهما2 لم
يرتفعا من جهة واحدة. وشبه بقوله: هذا لابنِ إنسانينِ عندنا كرامًا،
فقال: الجر ههنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جر الأول، ومثل ذلك: هذا
جارية أخوي
__________
1 انظر الكتاب 1/ 246.
2 انظر الكتاب 1/ 247.
(2/41)
ابنينِ لفلان كرامًا؛ لأن أخوي ابنينِ، اسم
واحد والمضاف إليه الآخر منتهاه، ولم يأت بشيء من حروف الإِشراك, ومثل
ذلك: هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء الحلماء؛ لأن هذا في المعرفة مثل ذلك
في النكرة, ولا يجوز إلا النصب على "أعني" ولا يكون الكرام العقلاء صفة
للأخوين والابنين, ولا يجوز أن يجري وصفًا لما انجر من وجهين، كما لم
يجز فيما اختلف إعرابه.
وقال سيبويه: سألت الخليل عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوهُ أنفسهما فقال:
الرفع على هُما صاحباي أنفسهُما والنصب على "أعنيهما" ولا مدح فيه؛
لأنه ليس مما يمدح به, وقال: تقول: هذا رجلٌ وامرأة1 منطلقان, وهذا عبد
اللهِ وذاكَ أخوك الصالحانِ؛ لأنهما ارتفعا من وجه وهما اسمان بنيا على
مبتدأَين وانطلق عبد اللهِ ومضى أخوك الصالحان؛ لأنهما ارتفعا بفعلين
معناهما واحد. والقياس عندي أن يرتفعا على "هُما" لأن الذي ارتفع به
الأول غير الذي ارتفع به الثاني. ولكن إن قدرت في معنى التأكيد، ورفعت
عبد اللهِ بالعطف من الفعل جازت عندي الصفة، ولا يجوز من: عبد اللهِ
وهذا زيدٌ الرجلينِ الصالحينِ، رفعت أم نصبت؛ لأنك لا تثني إلا على من
أثبته وعرفته فلذلك لم يجز المدح في ذا, ولا يجوز صفتهما لأنك من يعلم
ومن لا يعلمُ فتجعلهما بمنزلة واحدةٍ.
قال أبو العباس في قولهم: ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه الكحلُ منهُ في
عين زيدٍ، وما رأيت رجلًا أبغض إليه الشر منهُ إلى زيدٍ: قد علمنا أن
الاختيار: مررت برجلٍ أحسنَ2 منه أبوهُ، ومررت برجلٍ خير منه زيدٌ، فما
باله لم يجز الرفع في قوله: أحسنُ في عينه الكحلُ، وأبغض إليه الشر،
فقال: الجواب في ذلك: أنه إن أراد أن يجعل الكحل الابتداء كان
الاختيار،
__________
1 في أصل سيبويه 1/ 247 وامرأته، وهو خطأ؛ لأن امرأته معرفة ورجلًا
نكرة، ولا يجوز ذلك.
2 أكثر العرب يوجب رفع "أحسن" في ذلك على أنه خبر مقدم، و"أبوه" مبتدأ
مؤخر، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع خفض نعت لرجل. وانظر التصريح
2/ 106.
(2/42)
ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه منه في عين
زيدٍ الكحل، تقديره: ما رأيتُ رجلًا الكحل أحسن في عينه منه في عين
زيدٍ, وما رأيت رجلًا الكحل في عينه أحسنُ منهُ في عينِ زيدٍ، كل1 جيد،
كما تقول: زيدٌ أحسنُ في الدار منه في الطريق, وزيدٌ في الدار أحسن
منهُ في الطريقِ، فتقدم في الدار لأنه ظرف، والتفضيل إنما يقع بأفعل
فإن أردت أن يكون "أحسنُ" هو الابتداء فمحالٌ؛ لأنك تضمر قبل الذكر2؛
لأن الهاء في قولك: "منه" هي الكحل ومنه متصلة "بأفعلَ" لأن "أَفعلَ"
للتفضيل فيصير التقدير: ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه منهُ في عينِ زيدٍ
الكحلُ, فتضمر الكحل قبل أن تذكره؛ لأن الكحل الآن خبر الابتداء، وإن
قدمت الكحل فقلت, على أن ترفع "أحسنَ" بالابتداء: ما رأيتُ رجلًا أحسن
في عينه الكحلُ منه في عينِ "زيدٍ" فهو أردأ؛ وذلك لأنه خبر الابتداء
وقد فصلت بين "أحسنَ" وما يتصل به وليس منهما في شيء؛ فلذلك لم يجز على
هذه الشريطة, إلا أن الجملة على مثل قولك: مررت برجلٍ خيرٌ منهُ
أبوهُ3، فتقول: ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ,
فترفع الكحلَ "بأحسنَ" ويقع "منهُ" بعده فيكون الإِضمار بعد الذكر
وتقديره: ما رأيت رجلًا يحسنُ الكحل في عينه كحسنهِ في عينِ زيدٍ،
فالمعرفة والنكرة في هذا واحد إذا كان الفعل للثاني ارتفع به معرفة كان
أو نكرة, وإن كان للأول والثاني معرفة بطل, وإن كان الثاني نكرة انتصب
على التمييز, وذلك قولك: ما رأيت رجلًا أحسنَ وجهًا من زيدٍ ولا رأيتُ
رجلًا أكرمَ حسبًا منهُ؛ لأن أكرم وأحسن للأول لأن فيه ضميره, فإن
جعلته للثاني رفعته به ورددت إلى الأول شيئًا يصله بالثاني، كما
__________
1 انظر المقتضب 3/ 248-249.
2 في المقتضب 3/ 249: فإن أخرت الكحل فقلت: ما رأيت أحسن في عينه منه
في عين زيد الكحل وأنت تقدر أن "أحسن" هو الابتداء، كان خطأ لما قدمت
من ضمير الكحل قبل ذكره.
وانظر: الكتاب 1/ 232.
3 أي: إن خيرًا تعرب خبرًا مقدمًا، و"أبوه" مبتدأً مؤخرًا.
(2/43)
تقول: رأيتُ رجلًا حسَن الوجهِ؛ لأن حَسن
الوجه "لرجلٍ" فإن جعلته لغيره قلت: رأيتُ رجلًا حسنَ الوجهِ أخوهُ
وحسن الوجهِ رجلٌ عندهُ, فإن قلت: ما رأيت قومًا أشبه بعضُ ببعضٍ من
قومِكَ, رفعت البعض لأن "أشبَه" له وليس لقومٍ؛ لأن المعنى: ما رأيت
قومًا أشبه بعضُهم ببعضٍ كما ذكر ذلك سيبويه في قوله: مررتُ بكُلٍّ
صالحًا وببعضٍ قائمًا أنه محذوف من قولك: بعضُهم وكلهم, والمعنى يدل
على ذلك, ألا ترى أن تقديره: ما رأيتُ قومًا أشبَهَ بعضُهم بعضًا, كما
وقع ذلك في "قومِكَ" وتقول: ما رأيت رجلًا أبر أبٍ لهُ بأُم من أخيكَ؛
لأن الفعل للأب ووضعت الهاء في "لَهُ" إلى الرجل فلم يكن في "أُمٍّ"
ضمير؛ لأن الأب قد ارتفع به فإن لم يرد هذا التقدير, قلت: ما رأيتُ
رجلًا أبَر أبًا بأُمٍّ من زيدٍ كما تقول: ما رأيت رجلًا أحسنَ وجهًا
من زيدٍ, وكذلك: ما رأيت رجلًا أشبه وجهٍ لهُ بقفًا من زيدٍ, فإن حذفت
له قلت: ما رأيت رجلًا أشبه بقفًا من زيدٍ؛ لأن في "أشبَه" ضمير رجل.
وأما قولهم: "ما من أيامٍ أحبَّ إلى اللهِ فيها الصومُ منه في عَشْرِ
ذي الحجةِ" 1، ولكنه لما قال في الأول "إلى اللهِ" لم يحتج إلى أنْ
يذكر "إليه" لأن الرد إلى واحدٍ وليس كقولك: زيدٌ أحب إلى عمرو منه إلى
خالدٍ؛ لأنك رددت إلى اثنين فلا تحتاج إلى أن تقول: زيدٌ عندي أحسن من
عمرٍو عندي؛ لأن الخبر يرجع إلى واحد فأما قولهم: ما مِن أيامٍ أحب إلى
اللهِ فيها الصومُ منه في عَشْرِ ذي الحجةِ فإنما هو بمنزلة: ما رأيت
رجلًا أحسنَ في عينه الكحلُ منهُ في عينِ زيدٍ فقولُه: فيها بمنزلة
قولهِ: في عينهِ وإنما أضمرت الهاءَ [في] 2 "فيها" وفي عينِه لأنك ذكرت
الأيام وذكرت رجلًا،
__________
1 انظر الكتاب 1/ 232, والمقتضب 3/ 250, وجعل الأشموني هذا حديثًا،
والرواية في كتب الحديث: البخاري والترمذي وسنن ابن ماجه وسنن النسائي
ليس فيها "أحب" رافعًا للاسم الظاهر.
2 أضفت "في" لتوضيح المعنى.
(2/44)
وكذلك قلت: اللهُ عز وجلَّ: ما رأَيت
أيامًا أحب إليه فيها الصوم، لأضمرته في "إليهِ" ومنه للصوم، كما كان
للكحلِ، وأما قولُهُ: إلى اللهِ فتبيينٌ لأحب، وأحسن لا يحتاج إلى ذلك،
ألا ترى أنك تقول: زيد أحسن من عمرٍو، فلا تحتاج إلى شيء، وتقول: زيد
أحب إلى عمرٍو منكَ، فقولك: إلى عمرٍو كقولك: إلى الله في المسألة
الأولى، ولو قلت: ما رأيتُ رجلًا أحسن في عينه الكحلُ عند عمرٍو منهُ
في عينِ أخيكَ كان بمنزلة ذلك؛ لأن قولك عندَ عمرٍو قد صار مختصرًا
كقولك: إلى اللهِ في تلك المسألةِ وأما قولهم: ما رأيت رجلًا أبغضَ
إليه الشرُّ من زيدٍ, وما رأيت رجلًا أحسنَ في عينه الكحل من زيدٍ,
فإنما هو مختصر من الأول, والمعنى: إنما هو الأول لا أنك فضلت الكحل
على زيدٍ ولكنك أخبرت أن الكحل في عين زيدٍ أحسنُ منه في غيرها, كما
أردت في الأول, ولكنك حذفت لقلة التباسه وليست "مِنْ" ههنا بمنزلتها في
قولك: ما رأيتُ رجلًا أحسنَ من زيدٍ؛ لأنكَ هنا تخبر أنك لم ترَ من
يتقدم زيدًا وأنت في الأول تخبر أنك لم ترَ من يعمل الكحل في عينه عمله
في عين زيدٍ, فتقديره: ما رأيت رجلًا أحسنَ كحلًا في عينٍ من زيدٍ, لما
أضمرت رجلًا في "أحسَن" نصبت كحلًا على التمييز ليصح معنى الاختصار.
(2/45)
الثالث من التوابع: وهو عطف البيان.
اعلم: أن عطف البيان كالنعت والتأكيد في إعرابهما وتقديرهما، وهو مبين
لما تجريه عليه كما يبينان، وإنما سمي عطف البيان ولم يقل أنه نعت؛
لأنه اسم غير مشتق من فعل، ولا هو تحلية، ولا ضرب من ضروب الصفات فعدل
النحويون عن تسميته نعتًا.
وسموه عطف البيان لأنه للبيان، جيء به وهو مفرق بين الاسم الذي يجري
عليه وبين ما له مثل اسمه نحو: رأيتُ زيدًا أبَا عمرٍو, ولقيت أخاكَ
بكرًا.
(2/45)
والفرق بين عطف البيان والبدل أن عطف
البيان تقديره النعت التابع للاسم الأول، والبدل تقديره أن يوضع موضع
الأول, وتقول في النداء إذا أردت عطف البيان: يا أخانا زيدًا1، فتنصب
وتنون؛ لأنه غير منادى، فإن أردت البدل قلت: يا أخانا زيدُ, وقد بينت
هذا الباب في النداء ومسائله، وستزداد بيانًا في باب البدل إن شاء
الله2.
__________
1 قال المبرد في المقتضب 4/ 220: ومن قال: يا زيد الطويل، قال: يا هذا
الطويل، وليس بنعت لهذا، ولكنه عطف عليه، وهو الذي يسمى عطف البيان.
2 ذكر باب النداء في الجزء الأول.
(2/46)
الرابع من التوابع: وهو عطف البدل.
البدل على أربعة أقسام: إما أن يكون الثاني هو الأول أو بعضه، أو يكون
المعنى مشتملًا عليه أو غلطًا، وحق البدل وتقديره أن يعمل العامل في
الثاني كأنه خالٍ من الأول، وكان الأصل أن يكونا خبرين، أو تدخل عليه
واو العطف، ولكنهم اجتنبوا ذلك للبس.
الأول: ما ابتدلته من الأول وهو هُو: وذلك نحو قولك: مررتُ بعبد الله
زيدٍ، ومررت برجلٍ عبد الله، وكان أصل الكلام: مررت بعبد الله ومررت
بزيدٍ أو تقول: مررتُ بعبد اللهِ وزيدٍ, ولو قلت ذلك لظن أن الثاني غير
الأول؛ فلذلك استعمل البدل فرارًا من اللبس وطلبًا للاختصار والإِيجاز،
ويجوز إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة والمضمر من المظهر
والمظهر من المضمر، البدل في جميع ذلك سواء. فأما إبدال المعرفة من
النكرة فنحو قول الله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} 1 فهذا
إبدال معرفة من نكرة، فتقول على هذا: مررت برجلٍ عبد اللهِ، وأما إبدال
النكرة من المعرفة
__________
1 الشورى: 52-53, والآية: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} .
وانظر الكتاب 1/ 224.
(2/46)
فنحو قولك: مررت بزيدٍ رجلٍ صالحٍ كما قال
الله عز وجل: {بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 1، فهذا
إبدال نكرة من معرفة، وأما إبدال الظاهر من المضمر فنحو قولك: مررتُ
بهِ زيدٍ وبهما أخويك, ورأيت الذي قامَ زيدٌ، تبدل زيدًا من الضمير
الذي في "قام" ولا يجوز أن تقول: رأيتُ زيدًا أباهُ والأب غير زيدٍ؛
لأنك لا تبينه لغيره.
الثاني: ما أبدل من الأول وهو بعضه: وذلك نحو قولك: ضربتُ زيدًا
رأسَهُ2، وأتيتُ قومَكَ بعضَهم، ورأيتُ قومَكَ أكثَرهم، ولقيت قومكَ
ثلاثَتهم, ورأيت بني عمِّكَ ناسًا منهم, وضربت وجوهها أولها قال
سيبويه: فهذا يجيء على وجهيِن3: على أنه أراد أكثَر قومِكَ، وثلثي
قومكَ، وضربتُ وجوهَ أولِها، ولكنه ثنى الاسم تأكيدًا، والوجه الآخر:
أن يتكلم فيقول: رأيتُ قومَكَ ثم يبدو أن يبين ما الذي رأى منهم,
فيقول: ثلاثتَهم، أو ناسًا منهم، ومن هذا قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 4
والمستطيعونَ بعضُ الناسِ.
الثالث: ما كان من سبب الأول: وهو مشتمل عليه نحو: سُلبَ زيدٌ ثوبَهُ
وسرق زيد مالُه؛ لأن المعنى: سُلبَ ثوب زيد, وسرق مالُ زيدٍ, ومن ذلك
قول الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ} 5 لأن المسألة في المعنى عن القتال في الشهر الحرام، ومثله:
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} 6، وقال
الأعشى:
__________
1 العلق: 15، 16، والآية: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ....} وانظر الكتاب 1/ 260، و1/ 198.
2 أردت أن تبين موضع الضرب، فصار كقولك: ضربت رأس زيد.
3 انظر الكتاب 1/ 75.
4 آل عمران: 97، وانظر الكتاب 1/ 75-76.
5 البقرة: 217، وانظر الكتاب 1/ 75.
6 البروج: 4، وانظر المقتضب 4/ 297.
(2/47)
لَقدْ كَانَ في حَوْل ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ
... تفضى لَبَانَاتُ ويسأْمُ سائِمُ1
وقال آخر:
وذَكَرَتْ تَقْتُدَ بَرْدَ مَائِهَا ... وعَتَكُ البولِ على أنسائِها2
الرابع: وهو بدل الغلط والنسيان: وهو البدل الذي لا يقع في قرآن ولا
شعرٍ، وذلك نحو قولهم: مررتُ برجلٍ حمارٍ، كأنه أراد أن يقول: مررتَ
بحمار فغلط فقال: برجلٍ أو بشيءٍ.
واعلم: أن الفعل قد يبدل من الفعل وليس شيء من الفعل يتبع الثاني الأول
في الإِعراب إلا البدل والعطف, والبدل نحو قول الشاعر:
إنَّ على اللهِ أنْ تُبايعا ... تُؤخذَ كُرهًا أو تجيء طائعا3
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 423 على رفع الفعل "يسأم" واستشهد به المبرد على
بدل الاشتمال كذلك فعل المصنف. ثويته: الأصل: ثويت فيه، فحذف حرف الجر
واتصل الضمير بالفعل، والثواء: الإقامة، اللبانات: الحاجات. وانظر
المقتضب 4/ 297، و1/ 27, وأمالي ابن الشجري 1/ 363, وابن يعيش 3/ 65,
والديوان/ 177.
2 من شواهد سيبويه 1/ 75، على نصب برد مائها على البدل من "تقتد"
لاشتمال الذكر عليها. وصف ناقة بعد عهدها بورود الماء لإدمانها السير
في الفلاة، فيقول: ذكرت برد ماء تقتد وهو موضع بعينه وأثر بولها على
أنسائها ظاهر بين لخثارته. وإذا قل ورودها للماء خثر بولها وغلظ واشتدت
صفرته، وعتك البول أن يضرب إلى الحمرة.
ويروى: وعبك البول, وهو اختلاطه بوبرها وتلبده به والأنساء: جمع نسأ,
وهو عرق يستبطن الفخذ والساق. والبيت لجبر بن عبد الرحمن. وانظر:
الجمهرة 2/ 21.
3 من شواهد الكتاب 1/ 78، على حمل "تؤخذ على تبايع؛ لأنه مع قوله تجيء
تفسير للمبايعة إذ لا تكون إلا أحد الوجهين من إكراه أو طاعة". وأراد
بقوله الله: القسم. والمعنى: إن على والله، فلما حذف الجار نصبت.
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. وانظر المقتضب:
2/ 63, والخزانة 2/ 373, ومنهج السالك 26, وشواهد الألفية للعاملي/
347, وشرح شواهد ابن عقيل/ 179.
(2/48)
وإنما يبدل الفعل من الفعلِ إذا كان ضربًا
منه نحو هذا البيت, ونحو قولك: إن تأتني تمشي أمشي معكَ؛ لأن المشيَ
ضرب من الإِتيان, ولا يجوز أن تقول: إن تأتي تأكل آكلْ معكَ؛ لأن الأكل
ليس من الإِتيان في شيء.
(2/49)
مسائل من هذا الباب:
تقول: بعتُ متاعَك أسفلَهُ قبلَ أعلاهُ، واشتريتُ متاعَك بعضَهُ أعَجلَ
من بعضٍ، وسقيت إبلَك صغارها أحسن من سقي كبارها، ودفعت الناس بعضَهم
ببعضٍ، وضربت الناسَ بعضَهم قائمًا وبعضَهم قاعدًا، وتقول: مررت
بمتاعِكَ بعضِه مرفوعًا، وبعضِه مطروحًا، كأنك قلت: مررت ببعضِ متاعِكَ
مرفوعًا وببعض مطروحًا؛ لأنك مررتَ به في هذه الحال، وإذا كان صفة
للفعل لم يجز الرفع, وتقول: بعتُ طعامَكَ بعضه مكيلًا وبعضَهُ موزونًا
إذا أردت أن الكيل والوزن وقعا في حال البيع، فإن رفعت فإلى هذا
المعنى، ولم يكن متعلقًا بالبيع فقلت: بعتُ طعامَك بعضهُ مكيلٌ وبعضهُ
موزونٌ، أي: بعته وهو موجود كذا, فيكون الوزن والكيل قد لحقاه قبل
البيع وليسا بصفة للبيع, وتفهم هذا بأن الرجل إذا قال: بعتُكَ هذا
الطعامَ مكيلًا وهذا الثوب مقصورًا, فعليه أن يسلمه إليه مكيلًا
ومقصورًا, وإذا قال: بعتُكَ وهو مكيل فإنما باعه شيئًا موصوفًا بالكيل
ولم يتضمنه البيع، تقول: خَوفتُ الناسَ ضعيفَهم وقويهم، كأنك قلت: خوفت
ضعيفَ الناسِ وقويهم, وكان تقدير الكلام قبل أن ينقل فعل إلى "فَعَلتُ"
خافهُ الناس ضعيفُهم وقويهم, فلما قلت: خَوَّفتُ صار الفاعلُ مفعولًا
وقد بينت هذا فيما
(2/49)
تقدم. ومثل ذلك ألزمت الناس بعضهم بعضًا،
كان الأصل: لزمَ الناسُ بعضهم بعضًا، فلما قلت: ألزمتُ صار الفاعل
مفعولًا، وصار الفعل يتعدى إلى مفعولين، وتقول: دفعتُ الناس بعضهم
ببعضٍ على قولكَ: دفع الناسُ بعضُهم بعضًا فإذا قلت: دفعَ صار ما كان
يتعدى لا يتعدى إلا بحرف جر فتقول: دفعَ الناسُ بعضهم ببعضٍ وتقول:
فضلتُ متاعَكَ أسفلَهُ على أعلاه كأنه في التمثيل: فَضل متاعُكَ أسفلهُ
على أعلاه، فلما قلت: فضَّلتُ صار الفاعل مفعولًا، ومثله: صككتُ
الحجرينِ أحدهما بالآخرِ, كان التقدير: اصطك الحجرانِ أحدهما بالآخرِ،
فلما قلت: صككتُ، صار الفاعل مفعولًا، ومثل ذلِكَ: "ولولا دفاعُ* اللهِ
الناسَ بعضَهُم ببعضٍ"1 والمعنى: لولا أن دفعَ الناسُ بعضهُم ببعضٍ،
ولو قلت: دفعَ الناسُ بعضهم بعضًا لم يحتج إلى الباء؛ لأنه فعل يتعدى
إلى مفعول، قلت: دفَع اللهُ الناسَ واستتر في الفعلِ عمله في الفاعل،
لم يجز أن يتعدى إلى مفعول ثانٍ إلا بحرفِ جرٍّ، فعلى هذا جاءت الآيةُ؛
ولذلك دخلت الباء وتقول: عجبتُ من دفعِ الناسِ بعضهم بعضًا، إذا جعلت
الناس فاعلين كأنك قلت: عجبت من أن دفع الناسُ بعضَهم بعضًا فإن جعلت
الناس مفعولين قلت: عجبت من دفعِ الناسِ بعضِهم ببعضٍ؛ لأن المعنى:
عجبتُ من أنْ دفَع الناسُ بعضهم ببعضٍ وتقول: سمعتُ وقع أَنيابهِ
بعضِها فوقَ بعضٍ, جرى على قولك: وقعت أنيابهُ بعضُها فوقَ بعضٍ,
فأنيابُه هنا فاعلةٌ وتقول: عجبتُ من إيقاعِ أنيابهِ بعضِها فوقَ بعضٍ
جرًّا, فأنيابه هنا مفعولةٌ قامت مقام الفاعل, ولو قلت: أوقعت أنيابُه
بعضُها فوقَ بعضٍ لقلت: عجبتُ من إيقاعي أنيابَهُ بعضَها فوقَ بعضٍ
فنصبت أنيابَه, وتقول: رأيتُ متاعك بعضَهُ فوقَ بعضٍ إذا جعلت "فوقَ"
في موضع الاسم المبني، على المبتدأ, وجعلت المبتدأ بعضهُ كأنك قلت:
رأيتُ متاعَكَ بعضهُ أجود من
__________
1 البقرة: 251، وانظر الكتاب 1/ 76.
* قال شعيب: هي قراءة نافع، وقرأ الباقون: {وَلَوْلا دَفْعُ} حجة
القراءات ص140.
(2/50)
بعضٍ، فإن جعلت "فوقَ" وأجودها حالًا نصبتَ
"بعضَهُ" وإن شئت قلت: رأيت متاعَك بعضه أحسنَ من بعض فتنصبُ "أَحسنَ"
على أنه مفعول ثانٍ وبعضه منصوب بأنه بدلٌ من متاعِكَ.
قال سيبويه: والرفع في هذا أعرف، والنصب عربي جيدٌ1، فما جاء في الرفع:
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ
وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 2. ومما جاء في النصب: "خلقَ اللهُ الزرافةَ
يديها أطول من رجلِيها" قال: حدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت لعبدة
بن الطبيب:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُه هُلْك وَاحِدٍ ... ولكنهُ بُنيانُ قَوْمٍ
تَهَدَّما3
وقال رجل من خثعم أو بجيلة:
ذَرِيني إنَّ أَمركِ لَنْ يُطاعَا ... وما ألفيتِني حِلْمي مُضَاعا4
وتقول: جعلتُ متاعَكَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ، كما قلت: رأيتُ متاعَك
__________
1 انظر الكتاب 1/ 77.
2 الزمر: 60، وانظر الكتاب 1/ 77.
3 من شواهد سيبويه 1/ 77، على رفع "هلك واحد" ونصبه على جعل هلكه بدلًا
من قيس، أو مبتدأ أو خبره فيما بعد.
رثى الشاعر: قيس بن عاصم المنقري وكان سيد أهل الوبر من تميم, فيقول:
كان لقومه وجيرته مأوًى وحرزًا، فلما هلك تهدم بنيانهم وذهب عزهم.
وانظر: شرح المفصل لابن يعيش 3/ 65.
4 من شواهد سيبويه 1/ 78 على حمل الحلم على الضمير المنصوب بدلًا منه
لاشتمال المعنى عليه، يخاطب عاذلته على إتلافه ماله، فيقول: ذريني من
عذلك فإني لا أطيع أمرك، فالحلم وصحة التمييز والفعل يأمرني بإتلافه في
اكتساب الحمد ولا أضيع، والبيت من قصيدة لعدي بن زيد العبادي.
وانظر: الهمع 2/ 172, والدرر اللوامع 2/ 165, والمفصل لابن يعيش 3/ 65،
ومعاني الفراء 2/ 73، وشواهد الألفية للعاملي 345, وشرح شواهد ابن عقيل
للجرجاوي/ 178.
(2/51)
بعضَهُ فوقَ بعضٍ، وأنتَ تريد رؤية العين،
وتنصب "فوقَ" بأنه وقع موقع الحال, فالتأويل: جعلت ورأيتُ متاعك بعضهُ
مستقرًّا فوقَ بعضٍ أو راكبًا فوق بعضٍ أو مطروحًا فوق بعضٍ أو ما أشبه
هذا المعنى "ففوقَ" ظرف نصبه الحال وقام مقام الحال كما يقوم مقام
الخبر في قولك: زيدٌ فوقَ الحائِط إذا قلت: رأيتُ زيدًا في الدار,
فقولك "في الدارِ" يجوز أن يكون ظرفًا لرأيت ويجوز أن يكون ظرفًا
لزيدٍ, كما تقول: رميتُ من الأرضِ زيدًا على الحائِط فقولك: على
الحائِط، ظرف يعمل فيه استقرار زيدٍ, كأنكَ قلت: رميتُ من الأرضِ زيدًا
مستقرًّا على الحائِط, ونحو هذا ما جاء في الخبر: كتب عمر إلى أبي
عبيدة بالشام: الغوثَ الغوثَ وأبو عبيدة وعمر -رحمه اللهُ- كتب إليه من
الحجاز، فالكتاب لم يكن بالشام ولك أن تعدي "جعلتَ" إلى مفعولين فتقول:
جعلتُ متاعَكَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ, فتجعل "فوقَ بعضٍ" مفعولًا ثانيًا كما
يكون في "ظننتُ" متاعَكَ بعضَه فوقَ بعضٍ "فجعلتُ" هذه إذا كانت بمعنى
"علمتُ" تعدت إلى واحد مثل "رأيتُ" إذا كانت من رؤية العين، وإذا كانت
جعلتُ ليست بمعنى علمتُ وإنما تكلم بها عن توهم أو رأيٍ أو قولٍ كقول
القائل: جَعلتُ حسني قبيحًا وجعلتُ البصرةَ بغدادَ وجعلت الحلالَ
حرامًا, فإذا لم ترد فجعلت العلاج والعمل في التعدي بمنزلة "رأيتُ" إذا
أردت بها رؤية القلب ولم ترد رؤية العين ولك أن تعدي "جعلتُ" إلى
مفعولين على ضرب آخر على أن تجعل المفعول الأول فاعلًا في الثاني, كما
تقول: أَضربتُ زيدًا عمرًا تريد: أنك جعلتَ زيدًا يضربُ عمرًا فيكون
حينئذٍ قولك: فوقَ بعضٍ مفعول مفعولٍ, وموضعه نصب تعدى إليه الفعل بحرف
جرٍّ؛ لأنك إذا قلت: مررت بزيدٍ فموضع هذا نصب وهذا نحو: صُكَّ
الحجرانِ أحدهما بالآخرِ, فإذا جعلت أنت أحدهما يفعل بالآخر قلت: صككتُ
الحجرين أحدهما بالآخر ولم يكن بُدٌّ من الباء لأن الفعل متعدٍّ إلى
مفعولٍ واحدٍ, فلما جعلت المفعول في المعنى فاعلًا احتجت إلى مفعول،
فلم يتصل الكلام إلا بحرف جرٍّ، وقد بينت ذا فيما تقدم وأوضحته، فهذه
ثلاثة أوجهٍ في نصب "جَعَلْتُ"
(2/52)
متاعَكَ بعضَهُ على بعضٍ، وهي النصب على
الحال، والنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ، والنصب على أنه مفعولُ مفعولٍ،
فافهمهُ فإنه مشكل في كتبهم ويجوز الرفعُ فتقول: جعلت متاعَك بعضه على
بعضٍ, وتقول: أبكيتَ قومكَ بعضهم على بعضٍ, فهذا كان أصله: بكى قومُكَ
بعضُهم على بعضٍ, فلما نقلته إلى "أبكيتُ" جعلت الفاعل مفعولًا، وهو في
المعنى فاعلٌ، إلا أنك أنت جعلتهُ فاعلًا وقولك: على بعضٍ لا يجوز أن
يقع موقع الحال لأنك لا تريد أنّ بعضَهم مستقرٌّ على بعضٍ ولا مطروحٌ
على بعضٍ, كما كان ذلكَ في المتاعِ, قال سيبويه: لم ترد أن تقول:
بعضُهم على بعضٍ في عونٍ ولا أن أجسادَهم بعضًا على بعضٍ1، وقولك:
بعضُهم، في جميع هذه المسائل منصوب على البدل, فإن قلت: حزنتُ قومك
بعضُهم أفضلُ من بعضٍ، كان الرفع حُسنًا لأن الآخر هو الأول وإن شئت
نصبت على الحال يعني "أفضلَ" فقلت: حَزنت قومَكَ بعضَهم أفضلَ من بعضٍ,
كأنك قلت: حَزنت بعضَ قومِكَ فاضلين بعضهم.
قال سيبويه: إلا أن الأعرف والأكثر إذا كان الآخر هو الأول أن يبتدأ،
والنصب عربي جيد2 وتقول: ضُربَ عبد اللهِ ظهرُه وبطنُهُ، ومُطرنا سهلنا
وجبلنا، ومطرنَا السهل والجبل، وجميع هذا لك فيه البدل, ولك أن يكون
تأكيدًا كأجمعينَ لأنك إذا قلت: ضُرب زيدٌ الظهرُ والبطنُ, فالظهر
والبطن هما3 جماعة زيدٍ وإذا قلت: "مطرنا" فإنما تعني: مطرت بلادُنا,
والبلاد يجمعها السهل والجبل.
قال سيبويه: وإن شئت نصبت فقلت: ضُربَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ، ومطرنا
السهل والجبل، وضُرب زيد ظهرهُ وبطنهُ4، والمعنى: حرف الجر،
__________
1 انظر الكتاب 1/ 79.
2 انظر الكتاب 1/ 79.
3 في الأصل: "هو".
4 انظر الكتاب 1/ 79.
(2/53)
وهو "في" ولكنهم حذفوه قال: وأجازوا هذا
كما أجازوا: دخلتُ البيتَ، وإنما معناه: دخلت في البيتِ والعامل فيه
الفعل، وليس انتصابه هنا انتصاب الظروف، قال: ولم يجيزوا حذف حرف الجر
في غير السهلِ والجبلِ، والظهر والبطنِ، نظير هذا في حذف حرف الجر:
نُبئت زيدًا، تريد: عن زيدٍ، وزعم الخليل أنهم يقولون: مطرنا الزرع
والضرع، وإن شئت رفعت على البدل على أن تصيره بمنزلة أجمعينَ1،
توكيدًا.
قال سيبويه2: إن قلت: ضُربَ زيد اليدُ والرجلُ، جاز أن يكون بدلًا، وأن
يكون توكيدًا, وإن نصبته لم يحسن، والبدل كما قال جائزٌ حَسنٌ،
والتوكيد عندي يَقْبُحُ إذا لم يكن الاسم المؤكدُ هو المؤكدُ, واليد
والرجل ليستا جماعة زيدٍ وهو في السهلِ والجبلِ عندي يحسنُ لأن السهلَ
والجبلَ هما جماعة البلادِ، وكذلك البطنُ والظهرُ، إنما يراد بهما3
جماعة الشخص، فإن أراد باليد والرجل أنه قد: ضُربت جماعة، واجتزأ بذكر
الطرفين في ذلك جاز.
قال: وقد سمعناهم يقولون: ضربتهم4 ظهرًا وبطنًا، وتقول: ضربت قومَك
صغيرهم وكبيرهم على البدل، والتأكيد جميعًا فإن قلت: أو كبيرهم لم يجز
إلا البدل وتقول: زيد ضربتهُ أخاكَ فتبدل "أخاك" من الهاء؛ لأن الكلام
الأول قد تم وقد خبرتك: أن البدل إنما هو اختصار خبرين فإن قلت: زيدٌ
ضربتُ أخاكَ إيّاهُ لم يجز لأن الكلام الأول ما تم فإن قلت: مررتُ
برجلٍ قائمٍ رجل أبوهُ، فجعلت أباه بدلًا من رجل، لم يجز لأنه لا يصلح
أن تقول: مررت برجلٍ قائمٍ أبوهُ وتسكت ولا يتم بذلك الكلام, فإن قلت:
مررتُ برجلٍ قائمٍ زيدٍ أبوهُ فقد أجازه الأخفش
__________
1 انظر الكتاب 1/ 79.
2 انظر الكتاب 1/ 79.
3 في الأصل: "به".
4 في سيبويه 1/ 80: مطرتهم.
(2/54)
على الصفة، وقال: لأن قولك: أبوه من صفة
زيدٍ، فصار كأنه بعض اسمه، ولو كان بدلًا من زيدٍ لم يكن كلامًا، ونظير
هذا: مررتُ برجلٍ قائمٍ رجلٌ يحبهُ, وبرجلٍ قائمٍ زيدٌ الضاربه.
(2/55)
الخامس من التوابع: وهو العطف بحرف:
حروف العطف عشرة أحرف يتبعنَ ما بعدهن ما قبلهن من الأسماء والأفعال في
إعرابها.
الأول: [الواو] 1 ومعناها إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول وليس فيها
دليل على أيهما كان أولًا نحو قولك: جاء زيدٌ وعمرٌو، ولقيت بكرًا
وخالدًا، ومررت بالكوفةِ والبصرةِ، فجائز أن تكون البصرة أولًا، وجائز
أن تكون الكوفةُ أولًا، قال الله عز وجل: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ} 2 والركوع قبل السجود.
الثاني: الفاء. وهي توجب أن الثاني بعد الأول، وأن الأمر بينهما قريبٌ،
نحو قولك: رأيتُ زيدًا فعمرًا، ودخلت مكةَ فالمدينةَ3، وجاءني زيدٌ
فعمرٌو، ومررت بزيدٍ فعمرٍو، فهي تجيء لتقدم الأول واتصال الثاني فيه.
الثالث: ثُمَّ. وثم مثل الفاء، إلا أنها أشد تراخيًا، وتجيء لتعلم أن
بين الثاني والأول مهلة، تقول: ضربتُ زيدًا ثم عمرًا، وجاءني زيدٌ ثم
عمرٌو، ومررت بزيدٍ ثم عمرٍو.
الرابع: أو. ولها ثلاثة مواضع، تكون لأحد الشيئين بغير تعيينه عند
__________
1 أضفت "الواو" لإيضاح المعنى، وانظر الموجز/ 65.
2 آل عمران: 43.
3 في سيبويه 2/ 304 وإنما جئت بالواو لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما،
وليس فيه دليل على أن أحدهما قبل الآخر، وانظر سيبويه أيضًا 1/ 219.
(2/55)
شك المتكلم، أو قصده أحدهما، أو إباحة وذلك
قولك: أتيت زيدًا أو عمرًا، وجاءني رجلٌ أو امرأةٌ هذا إذا شك, فأما
إذا قصد بقوله أحدهما، فنحو: كُلِ السمكَ أو اشربِ اللبنَ، أي: لا
تجمعهما, ولكن اختر أيهما شئت, وكقولك: أعطني دينارًا أو اكسني ثوبًا,
والموضع الثالث الإِباحة1، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، وائت
المسجد أو السوق، أي: قد أذنت لك في مجالسة هذا الضرب من الناسِ, وعلى
هذا قولُ الله عز وجلَ: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}
2.
الخامس: إما. وإما في الشك والخبر بمنزلة "أو" وبينهما فصل، وذلك أنك
إذا قلت: جاءني زيدٌ أو عمرٌو وقع الخبر في "زيدٍ" يقينًا حتى ذكرت
"أو" فصار فيه وفي عمرٍو شك و"إما" تبتدئ به شاكًّا, وذلك قولك: جاءني
إما زيدٌ وإما عمرٌو أي: أحدهما, وكذلك وقوعها للتخيير3، تقول: اضرب
إما عبد الله وإما خالدًا، فالآمر لم يشك ولكنه خير المأمور كما كان
ذلك في "أو" ونظيره قول الله عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ
إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 4 وكقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 5.
السادس: "لاَ". وهي تقع لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول، وذلك قولك:
ضربتُ زيدًا لا عمرًا، ومررت برجلٍ لا امرأةٍ6، وجاءني زيدٌ لا عمرٌو.
__________
1 في سيبويه 1/ 489 "تقول: جالس عمرًا أو خالدًا أو بشرًا، كأنك قلت:
جالس أحد هؤلاء، ولم ترد إنسانًا بعينه، ففي هذا دليل على أن كلهم أهل
أن يجالس، كأنك قلت: جالس هذا الضرب".
2 الإنسان: 24.
3 أضفت كلمة "التخيير" لإيضاح المعنى.
4 الإنسان: 3.
5 سورة محمد "صلى الله عليه وسلم": 4.
6 في سيبويه 1/ 218 "ومن ذلك": مررت برجل لا امرأة، أشركت بينهما "لا"
في الباء وأحقت المرور للأول وفصلت بينهما عند من التبس عليه فلم يدرِ
بأيهما مررت.
(2/56)
السابع: بلْ. ومعناها الإِضراب عن الأول،
والإِثبات للثاني نحو قولك: ضربتُ زيدًا بلْ عمرًا, وجاءني عبد الله
بلْ أخوهُ, وما جاءني رجلٌ بل امرأةٌ.
الثامن: لكنْ. وهي للاستدراك بعد النفي، ولا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا
لترك قصةٍ إلى قصةٍ "تامةٍ"، فأما مجيئها للاستدراك بعد النفي فنحو
قولك: ما جاءني زيدٌ لكنْ عمرٌو, وما رأيت رجلًا لكن امرأة، ومررت
بزيدٍ لكنْ عمرٍو، لم يجز1.
التاسع: أَمْ. وهي تقع في الاستفهام في موضعين: فأحدهما أن تقع عديلة
الألف على معنى "أي" وذلك نحو قولك: أزيدٌ في الدار أم عمرٌو؟ وكقولك:
أأعطيتَ زيدًا أم أحرمته؟ فليس جوابُ هذا لا، ولا "نَعَمْ" كما أنه إذا
قال: أيهما لقيتَ أو أي الأمرين فعلت؟ لم يكن جواب هذا لا ولا "نعم"
لأن المتكلم مدعٍ أن أحد الأمرين قد وقع، لا يدري أيهما هو فالجواب أن
يقول: زيدٌ أو عمرٌو2، فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب: أن تقول:
لم ألقَ واحدًا منهما، [أو كليهما] 3، فمن ذلك قول الله عز وجل:
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} 4، ومثل ذلك:
{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} 5 فخرج هذا من الله مخرج التوقيف
والتوبيخ، ومخرجه من الناس يكون استفهامًا، ويكون توبيخًا6، ويدخل في
هذا
__________
1 في الأصل الجملة مسبوقة "بما" وقد حذفتها؛ لأنه لا مانع من الاستدراك
بعد النفي، والذي يريده المصنف عدم التدارك بعد الإيجاب، ولكنها يثبت
بها بعد نفي. وانظر الكتاب 1/ 216.
2 في سيبويه 1/ 482-483 هذا باب "أم" إذا كان الكلام استفهامًا. ويقع
الكلام بها في الاستفهام على وجهين: على معنى: أيهم، وأيهما.
3 أضفت "أو كليهما" لإيضاح المعنى.
4 النازعات: 27.
5 الدخان: 37.
6 انظر المقتضب 3/ 287.
(2/57)
الباب التسوية؛ لأن كل استفهام فهو تسوية,
وذلك نحو قولك: ليتَ شعري أزيدٌ في الدارِ أمْ عمرٌو؟ وسواءٌ عليَّ
أذهبت أم جئتَ فقولك: سواءٌ عليَّ تخبر أن الأمرين عندك واحدٌ وإنما
استوت التسوية والاستفهام لأنك إذا قلتَ مستفهمًا: أزيدٌ عندك أم
عمرٌو؟ فهما في جهلك لهما مستويان لا تدري أن زيدًا في الدار كما لا
تدري أن عمرًا فيها, وإذا قلت: قد علمتُ أزيدٌ في الدار أم عمرٌو, فقد
استويا عند السامع كما استوى الأولانِ عند المستفهم, وأي داخلة في كل
موضع تدخل فيه أم مع الألف, تقول: قد علمتُ أيّهما في الدار, تريد أذَا
أم ذَا, قال الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} 1،
وقال: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا
أَمَدًا} 2 فأي تنتظم معنى الألف مع أم جميعًا، وأما الموضع الثاني من
موضعي "أمْ" فإن تكون منقطعة مما قبلها خبرًا كان أو استفهامًا, وذلك
نحو قولك فيما كان خبرًا: إنَّ هذا لزيد أم عمرٌو يا فتى3، وذلك أنك
نظرت إلى شخصٍ فتوهمته زيدًا فقلت [على] 4 ما سبق إليك، ثم أدركك الظن
أنه عمرو، فانصرفت عن الأول, فقلت: أم عمرٌو مستفهمًا، فإنما هو إضراب
على معنى "بَلْ" إلا أن ما يقعُ بعد "بَلْ" يقينٌ وما يقع بعد "أمْ"
مظنون مشكوك فيه, وذلك أنك تقول: ضربتُ زيدًا ناسيًا أو غالطًا ثم تذكر
فتقول: بَلْ عمرًا مستدركًا مثبتًا للثاني تاركًا للأول فهي تخرج من
الغلط إلى استثباتٍ ومن نسيان إلى ذكر و"أمْ" معها ظن أو استفهام
وإضراب عما كان قبله ومن ذلك: هل زيدٌ منطلقٌ أم عمرٌو يا فتى قائمًا,
أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد، وجعل السؤال عن عمرو، فهذا مجرى هذا،
وليس على منهاج
__________
1 الكهف: 19.
2 الكهف: 12.
3 في شرح الكافية للرضي 2/ 347 "المتصلة يليها المفرد والجملة بخلاف
المنقطعة, فإنه لا يليها إلا الجملة ظاهرة الجزأين نحو: أزيد عندك أم
عمرو، مقدرًا أحدهما، نحو: إنها إبل أم شاء، أي: أم هي شاء".
4 أضفت كلمة "على" لتوضيح المعنى.
(2/58)
قولك: أزيدٌ في الدار أم عمرٌو، وأنت تريد:
أيهما في الدار لأن "أَمْ" عديلة الألف ولا تقع "هَلْ" موقع الألف مع
"أَمْ" وقد تدخل "أَمْ" على "هلْ". قال الشاعر:
أمْ هَلْ كَبيرٌ بكى1 ...
العاشر: حتى. تقول: ضربتُ القومَ حتىَّ زيدًا، وقد ذكرتها كيف تكون
عاطفة فيما تقدم2 حين ذكرناها مع حروف الخفض وأفردنا لها بابًا, واعلم
أن قومًا يُدخلون ليس في حروف العطف ويجعلونها كلا، وهذا شاذ في
كلامهم، وقد حكى سيبويه أن قومًا يجعلونها "كَما" فيقولون: لَيس الطيبُ
إلا المسكَ3.
واعلم: أن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض فإن وجدت ذلك في كلام فقد
أُخرج أحدهما من حروف النسق، وذلك مثل قولهم: لم يقم عمرٌو ولا زيدٌ،
الواو نَسقٌ و"لا" توكيد للنفي, وكذلك قولك: والله لا فعلتُ ثم والله
لا فعلتُ, ثم نَسق والواو قَسمٌ، وحروف العطف لا يفرق
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 487 على دخول "أم" المنقطعة على "هل" و"أم"
المتصلة لا تدخل على أدوات الاستفهام، أما "أم" المنقطعة فتدخل عليها
إلا ألف الاستفهام.
والشاهد جزء من صدر بيت وتكملته:
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم
المشكوم: المجزى، وقال الشجري: مشكوم: مثاب مجازى.
إثر الأحبة -بكسر الهمزة وسكون الثاء- وفتحها لغة.
البين: الفراق, وإثر ويوم متعلقان "ببكى".
والعبرة: الدمعة، أي: لم يشتفِ من البكاء؛ لأن في ذلك راحة والبيت مطلع
قصيدة لعلقمة بن عبدة.
وانظر المقتضب 3/ 290, وأمالي ابن الشجري 2/ 334, وابن يعيش 8/ 153،
والخزانة 4/ 516, والمفضليات/ 397, وشرح المفضليات للأنباري/ 786,
وديوان علقمة/ 12.
2 ذكر ذلك في الجزء الأول.
3 انظر الكتاب 1/ 31.
(2/59)
بينها وبين المعطوف بشيء مما يعترض بين
العامل والمعمول فيه، والأشياء التي يعترض بها: الأيمانُ، والشكوكُ
والشروطُ. وقد يجوز ذلك في "ثم وأو ولا" لأنها تنفصل وتقوم بأنفسها وقد
يجوز الوقوف عليها فتقول: قامَ زيدٌ ثم والله عمرٌو وثم أظن عمرٌو
و"لا" التي للعطف يصح أن تلي الماضي لأنه قد غلب عليه الدعاء وقد يجوز
أن يكون مع الماضي بمنزلة "لَم" وذلك قولك: زيدٌ قامَ لا قعد, فيلتبس
بالدعاء فإن لم يلتبس جاز عندي وقد جاءت "لا" نافية مع الماضي في غير
خبر كما جاءت "لَم" وذلك قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} 1
وتقول: لم يقمْ زيدٌ ولم يقعد، ولا يجوز: ولا يقعدُ إلا أن ترفعه
وكذلك: لن يقومَ زيدٌ ولا يقعدُ، بواوٍ وغير واوٍ.
__________
1 القيامة: 31.
(2/60)
باب العطف على
الموضع:
الأشياء التي يقال: إن لها موضعًا غير لفظها على ضربين: أحدهما اسمٌ
مفرد مبني، والضرب الآخر اسم قد عمل فيه عامل أو جعل مع غيره بمنزلة
اسم، فيقال: إن الموضع للجميع، فإن كان الاسم معربًا مفردًا، فلا يجوز
أن يكون له موضع؛ لأنا إنما نعترف بالموضع إذا لم يظهر [في] 1 اللفظ
الإِعراب، فإذا ظهر الإِعراب فلا مطلوب.
الضرب الأول:
وهو الاسم المضمر والمبني، وذلك نحو: هذا، تقول: إن هذا أخوكَ، فموضع
"هذَا" نصب؛ لأنك لو جعلت موضع هذا اسمًا معربًا قلت: إن زيدًا أخوكَ
فمن أجل هذا جاز أن تقول: إن هذا وزيدًا قائمان؛ ولهذا جاز أن تقول: يا
زيدُ العاقلَ، فتنصب على الموضع، وإنما جاز الرفع على اللفظ لأنه مبني
يشبه المعرب؛ لاطراده في الرفع، وقد بينت هذا في باب النداء، وليس في
قولك "هذا" حركة تشبه الإِعراب فإذا قلت: يا زيد وعمرو فحكم الثاني حكم
الأول؛ لأنه منادى فهو مضموم، وقد قالوا على
__________
1 أضفت "في" لإيضاح المعنى.
(2/61)
ذلك: يا زيدُ والحارثُ، كما دخلت الألف
واللام، و"يا" لا تدخل عليهما, ومن قال: إن موضع الاسم الذي عملت فيه
"إنَّ" رفعٌ فقد غلط من قبل أن المعرب لا موضع له, ومن أجل أنه يلزمه
أن يكون لهذا موضعان في قولك: إن هذا وزيدًا أخواكَ؛ لأن موضع زيدٍ
عنده إذا قال: إن زيدًا, رفعٌ, فيلزمه أن يكون موضع "هذا" نصبًا
ورفعًا.
الضرب الثاني:
ينقسم أربعة أقسام: جملة قد عمل بعضها في بعضٍ، أو اسم عمل فيه حرف, أو
اسمٌ بني مع غيره بناء, أو اسم موصول لا يتمُّ إلا بصلته.
الأول: جملة قد عمل بعضها في بعض: اعلم أن الجمل على ضربين: ضربٍ لا
موضع له وضرب له موضع. فأما الجملة التي لا موضع لها فكل جملة
ابتدأتها، فلا موضع لها نحو قولك مبتدئًا: زيدٌ في الدار وعمرٌو عندكَ
فهذه لا موضع لها.
الضرب الثاني: الجملة موقع اسم مفرد نحو قولك: زيدٌ أبوهُ قائمٌ، فأبوه
قائم جملة موضعها رفع؛ لأنك لو جعلت موضعها اسمًا مفردًا نحو: منطلق
لصلح, وكنت تقول: زيدٌ منطلقٌ فتقول على هذا: هندٌ منطلقةٌ وأبوها
قائمٌ فيكون موضع أبوها "قائمٌ" رفعًا؛ لأنك لو وضعت موضع هذه الجملة
"قائمةً" لكان رفعًا, فإن قلت: هندٌ أبوها قائمٌ ومنطلقةٌ جاز, والأحسن
عندي أن تقدم "منطلقةً" لأن الأصل للمفرد، والجملة فرع ولا ينبغي أن
تقدم الفرع على الأصل إلا في ضرورة شعرهم، وكذلك: مررت بامرأةٍ أبوها
شريفٌ وكريمةٌ حقه أن يقول: بامرأةٍ كريمةٍ وأبوها شريفٌ؛ لأن الأصل
للمفرد وإن وصفه مثله مفردا, وتقديم الجملة في الصفة عندي على المفرد
أقبح منه في الخبر, إذا قلت: هندٌ أبوها كريمٌ وشريفةٌ؛ لأن أصل الصفة
أن تكون مساوية للموصوف تابعة له في لفظها ومعرفتها ونكرتها، وليس
الخبر، من
(2/62)
المبتدأ بهذه المنزلة، فإذا قلت: زيدٌ أبوه
قائمٌ، و [كريم] 1 لزيدٍ لم يحسنْ؛ لأنه ملبس، يصلح أن يكون لزيدٍ
وللأبِ, والأولى أن يكون معطوفًا على "قائمٍ" لما خبرتك فإن لم يلبس
صلُحَ, وكذلك حق حروف العطف أن تعطف على ما قرب منها أولى.
القسم الثاني: اسم عمل فيه حرف.
هذا القسم على ضربين:
ضرب يكون العامل فيه حرفًا زائدًا للتوكيد سقوطه لا يخل بالكلام، بل
يكون الإِعراب على حقه والكلام مستعمل.
والضرب الآخر أن يكون الحرف العامل غير زائد، ومتى أسقط لم يتصل الكلام
بعضه ببعض.
فالضرب الأول: نحو قولك: لستَ بقائمٍ ولا قاعدٍ، الباء زائدة لتأكيد
النفي, ولو أسقطتها لم يخلّ بالكلام واتصل بعضه ببعضٍ، فموضع "بقائمٍ"
نصب لأن الكلام المستعمل قبل دخولها "لستَ قائمًا" فهذا لك أن تعطف على
موضعه فتقول: "لستَ بقائمٍ ولا قاعدًا"، ومن ذلك: هل من رجلٍ عندك؟ وما
من أحد في الدار، فهذا لك أن تعطف على الموضع لأن موضع "من رجلٍ" رفعٌ،
وكذلك: خَشَّنتُ بصدره، وصدر زيدٍ2، ولو أسقطت الباء كان جيدًا فقلت:
خَشنت صدره وصدر زيدٍ، وكذلك: كفى
__________
1 أضفت كلمة "كريم" لأن المعنى يقتضيها.
2 قال المبرد في المقتضب 4/ 73: "وإنما اختاروا إعمال الآخر؛ لأنه أقرب
من الأول ألا ترى أن الوجه أن تقول: خشنت بصدرك وصدر زيد، فتعمل الباء؛
لأنها أقرب، وانظر الكتاب 1/ 37".
(2/63)
بالله1، إنما هو: كفى الله، فعلى ذا تقول:
كفى بزيدٍ وعمروٍ, ومن ذلكَ: إن زيدًا في الدار وعمرًا، ولو أسقطت
"إنّ" لكان: زيدٌ في الدار وعمرٌو, فإن مع ما عملت فيه في موضع رفعٍ,
وينبغي أن تعلم أنه ليس لك أن تعطف على الموضع الذي فيه حرف عامل إلا
بعد تمام الكلام، من قبل أن العطف نظير التثنية والجمع ألا ترى أن معنى
قولك: قامَ الزيدانِ إنما هو: قامَ زيدٌ وزيدٌ فلما كان العاملان
مشتركين في الاسم ثُنيا ولو اختلفا لم يصلح فيهما إلا الواو, فكنت
تقول: قامَ زيدٌ وعمرٌو, فالواو نظير التثنية وإنما تدخل إذا لم تكن
التثنية, فلما لم يكن يجوز أن يجتمع في التثنية الرفع والنصب، ولا
الرفع والخفض، ولا أن يعمل في المثنى عاملان، كذلك لم يجز في المعطوف
والمعطوف عليه. فإذا تم الكلام عطفت على العامل الأول، وكنت مقدرًا
إعادته وإن كنت لا تقيده في اللفظ لأنك مستغنٍ عنه, ألا ترى أنه لا
يجوز أن تقول: إن زيدًا وعمرٌو منطلقان لما خبرتك به, ولأن قولك:
"منطلقانِ" يصير خبرًا لمرفوع ومنصوب وهذا مستحيل، فإذا قلت: "إن زيدًا
منطلق وعمرٌو" صَلُح؛ لأن الكلام قد تم ورفعت، لأن الموضع للابتداء وإن
زائدةٌ فعطفت على موضع "إنّ" وأعملت الابتداء وأضمرت الخبر وحذفته
اجتزاءً بأن الأول يدل عليه, فإن اختلف الخبران لم يكن بد من ذكره ولم
يجز حذفهُ نحو قولك: إن زيدًا ذاهبٌ وعمرٌو جالسٌ؛ لأن "ذاهبًا" لا يدل
على "جالس" فإذا تم الكلام فلك العطف على اللفظ والموضع جميعًا, وإذا
لم يتم لم يجز إلا اللفظ فقط وكذلك لو قلت: "هَلْ من رجلٍ وحمارٍ
موجودان" فإن قلت: وحمارٌ جاز كما تقول: إن عمرًا وزيدًا منطلقان,
وكذلك إذا قلت: خشنت بصدره وصدر زيدٍ عطفت على "خشنت" ولم يعرج على
الباء2 وجاز؛ لأن الكلام قد تم، فكأنك قد أعدت: خشنت
__________
1 في كتاب الله العزيز: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} النساء: 79.
2 جعل ابن جني في الخصائص 2/ 278 "خشن" مما يتعدى بنفسه تارة، وبحرف
الجر أخرى مثل جاء، ومعنى: خشنت صدره: أوغر صدره وأغضبه. وانظر:
المقتضب 4/ 73.
(2/64)
ثانية، فالفرق بين العطف على الموضع والعطف
على اللفظ أن المعطوف على اللفظ كالشيء يعمل فيهما عامل واحد؛ لأنهما
كاسم واحد والمعطوف على المعنى يعمل فيهما عاملان, والتقدير تكرير
العامل في الثاني إذا لم يظهر عمله في الأول, وتصير كأنها جملة معطوفة
على جملة وكل جملتين يحذف من أحدهما شيء ويقتصر بدلالة الجملة الأخرى
على ما حذف, فهي كالجملة الواحدة ونظير هذا قولهم: ضربتُ وضربني زيدٌ,
اكتفوا بذكر زيد عن أن يذكروا أولًا إلا أن هذا حذف منه المعمول فيه،
وكان الثاني دليلًا على الأول، وذاك حذف العامل منه إلا أن حذف العامل
إذا دل عليه الأول أحسن مع العطف؛ لأن الواو تقوم مقام العامل في كل
الكلام.
الضرب الآخر: أن يكون الحرف العامل غير زائد، وذلك نحو قولك: مررتُ
بزيدٍ وذهبتُ إلى عمرٍو ومُرَّ بزيدٍ وذهب إلى عمرو، فتقول: إن موضع
"بزيدٍ" في: "مررتُ بزيدٍ" منصوب، وموضع إلى عمرو في: ذهبت إلى عمرو
نصب، وموضع بزيد في: "مر بزيدٍ" رفع، وإنما كان ذلك لأنك لو جعلت موضع:
"مررتُ" ما يقارب معناه من الأفعال المتعدية لكان زيد منصوبًا نحو:
أتيتُ زيدًا, ولو أسقطت الباء في قولك: مررت بزيدٍ لم يجز؛ لأن الأفعال
التي هي غير متعدية في الأصل لا تتعدى إلا بحرف جر، وقد بينت فيما تقدم
صفة الأفعال المتعدية والأفعال التي لا تتعدى, فتقول على هذا إذا عطفت
على الموضع: مررتُ بزيدٍ وعمرًا وذهبتُ إلى بكرٍ وخالدًا ومُرَّ بزيدٍ
وعمروٍ، كأنك قلت: وأتى عمرٌو، وأتيتُ عمرًا، ودل "مررتُ" على "أتيتُ"
فاستغنيت بها وحذفت, قال الشاعر:
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهم ... أو مِثْل أسرةِ مَنظورِ
بن سيارِ1
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 86 و1/ 48 "على حمل الاسم المعطوف على موضع الباء
وما عملت فيه؛ لأن معنى قوله: جئتني بمثل بني بدر: هاتني مثلهم، فكأنه
قال: هات مثل بني بدر أو مثل أسرة منظور والبيت لجرير يخاطب الفرزدق
فيفخر عليه بسادات قيس، لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة وفيهم شرف قيس
بن عيلان وبنو سيار من سادات فزارة أيضًا، وفزارة من ذبيان من قيس،
وأسرة الرجل: رهطه الأدنون إليه، واشتقاقه من أسرت الشيء إذا شددته
وقويته".
لأن الإنسان يقوى برهطه على العدو ويعز, وانظر المقتضب 4/ 153 ورواه:
جيئوا بمثل، والخصائص 2/ 278, وجمهرة الأنساب/ 258, وديوان جرير/ 312,
ومعاني الفراء 2/ 22, والمحتسب 2/ 78, وابن يعيش 6/ 96.
(2/65)
كأنه قال: أو هاتِ مثل أسرة منظور؛ لأنّ
جئني بمثل بني بدرٍ، يدل على: هاتِ أو أعطني وما أشبه هذا.
القسم الثاني: اسم بني مع غيره.
وذلك نحو: خمسةَ عشرَ وتسعةَ عشرَ، فحكم هذا حكم المبني المفرد، تقول:
إن خمسةَ عشرَ درهمًا ويكفيك خمسةَ دنانير وخمسةُ دنانير النصب على
"إنَّ" والرفع على موضع "إنَّ" وقولك: لا رجل في الدار بمنزلةِ: خمسة
عشر في البناء إلا أن "رجل" مبني يضارع المعرفة فجاز لك أن تقول: لا
رجلَ وغلامًا لكَ فتعطف عليه لأن "لا" تعمل في النكرة عمل "إنّ" فبنيت
مع "لا" على الفتح الذي عملته "لا" ومنعت التنوين؛ ليدل منع التنوين
على البناء لأنه اسم نكرة منصوبٌ متمكنٌ ودل على ذلك قولهم: لا ماءَ
ماءَ باردًا لك, ألا تراهم بنوا ماء مع ماءٍ فعلمت بذلك أن هذا الفتح
قد ضارعوا به المبني وأشبه خمسة عشر وكان هو الدليل على أن "لا" مبنية
مع النكرة المفردة إذا قلت: لا ماءَ لك وقد بينت هذا في باب النفي1،
فلهذا جاز أن تقول لا رجل وغلامًا لك على اللفظ، ولا رجل وغلامٌ لك على
موضع "لا" ويدل على بناء رجل في قولك: لا رجلَ أنه لا يجوز أن تقول: لا
رجلَ وغلامُ لكَ فلو لم يعدلوا فتحة النصب إلى فتحة البناء [لما] 2
جاز؛ لأنّ الواو تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول، ولو وجدنا في كلامهم
اسمًا نكرة
__________
1 انظر الجزء الأول/ 441 وما بعدها.
2 أضفت "لما" لأن المعنى يحتاجها.
(2/66)
متمكنًا ينصب بغير تنوين لقلنا: إنه منصوب
غير مبني، فكما تقول: إن المنادى المفرد بني على الضم كالمعرب المرفوع،
تقول في هذا: إنه معرب كالمبني المفتوح؛ ولهذا لا يجوز أن ينعت الرجل
على الموضع1، فيرفع لأن موضع "رجلٍ" نصبٌ؛ لأنه لو كان موضعه مضافًا ما
كان إلا نصبًا؛ فلهذا قلنا: إنه بني على التقدير الذي كان له وموضع
"لا" مع رجلٍ رفعٌ موضعُ ابتداءٍ كما كانت إن مع ما عملت فيه, إلا أن
النحويين أجازوا: لا رجلَ ظريفٌ وقالوا: رفعناه على موضع: لا رجل وإنما
جاز هذا مع "لا" ولم يجز مع "أن" لأن "لا" مع رجلٍ بمنزلة اسم واحد
وليست "إنَّ" مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد, لو قلت: إن زيدًا
العاقلُ منطلقٌ لم يجز وقد ذكرت هذا في باب إنّ ويدلك أيضًا على أن
"لا" مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل بين "لا"
والاسم ومتى فعلت ذلك لم يكن إلا الرفع، وذلك قولك: لا لك مالٌ, ولا
تقول: لا لكَ مالَ، لأن "لكَ" قد منع البناء وقد حكي عن بعضهم: لا رجلَ
وغلامَ لك فحذف التنوين من الثاني وشبهه بالعطف على النداء وهذا شاذٌّ
لا يعرج عليه وإنما حكمنا على "لا" أنها نصبت في قولك: لا رجلَ لقولهم:
لا رجلَ وغلامًا لكَ, وأنه يجوز أن تقول: لا رجل وغلامًا منطلقان, فلو
لم تكن "لا" نصبت لم يجز أن تعطف على رجل منصوبًا, فهذا الفرق بين "لا"
رجلَ وخمسة عشَر. وقد عرفتك من أين تشابها ومن أين افترقا, وأما عطف
المفرد على المفرد في النداء فلا يجوز أن تعطفه على الموضع لو قلت: يا
زيدُ وعمرًا لم يجز من قبل أن زيدًا إنما بني؛ لأنه منادى مخاطب باسمه.
والصلة التي أوجبت البناء في زيدٍ هي التي أوجبت البناء في عمرٍو وهُما
في ذلك سواءٌ, ألا ترى أنهم يقولون: يا عبد الله وزيدٌ فيضمون الثاني
والأول منصوب لهذه العلة، ولولا ذلك لما جاز وليس مثل هذا في سائر ما
يعطف عليه.
__________
1 في الأصل: الموضوع.
(2/67)
القسم الرابع: وهو ما عطف على شيء موصول لا
يتم إلا بصلته.
وذلك قولك: ضربت الذي في الدارِ وزيدًا عطفت على الذي مع صلتها ولو
عطفت على الذي مفردًا، لم يجز ولم يكن اسمًا معلومًا، وكذلك "مَن" إذا
كانت بمعنى الذي تقول: ضربتُ مَن في الدار وزيدًا, ومثل ذلك "مَا" إذا
كانت بمعنى "الذي" تقول: أخرجتُ ما في الدار وزيدًا, فالذي ومَنْ وما
مبهمات لا تتم في الإِخبار إلا بصلات، وما يوصل فيكون كالشيء الواحد
"أن" مع صلتها تكون كالمصدر نحو قولك: يعجبني أن تقوم, فموضع أن تقوم
رفع لأن المعنى: يعجبني قيامُك وكذلك إن قلت: كرهتُ أن تقومَ، فموضع أن
تقوم نصب1، وعجبت مِنْ أن تقومَ خَفضٌ, فتقولُ على هذا: عجبتُ من أن
يقومَ زيدٌ وقعودِكَ، تريد: من قيامِ زيدٍ وقعودِك.
__________
1 أي: إنه مفعول به، على تقدير: كرهت قيامك.
(2/68)
باب العطف على
عاملين:
اعلم: أن العطف على عاملين، لا يجوز من قبل أن حرف العطف إنما وضع
لينوب عن العامل، ويغني عن إعادته، فإن قلت: قامَ زيدٌ وعمرٌو فالواو
أغنت عن إعادة "قام" فقد صارت ترفع كما يرفع قامَ, وكذلك إذا عطفت بها
على منصوب نحو قولك: إن زيدًا منطلقٌ وعمرًا فالواو نصبت كما نصبت
"إنَّ" وكذلك في الخفض إذا قلت: مررت بزيدٍ وعمروٍ, فالواو جرت كما جرت
الباء فلو عطفت على عاملين أحدهما يرفع والآخر ينصب, لكنت قد أحلت؛
لأنها كان تكون رافعةً ناصبة في حال قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن
تقول: مَرَّ زيدٌ بعمروٍ وبكرٌ خالدٍ, فتعطف على الفعل والباء ولو جاز
العطف على عاملين لجاز هذا واختلفوا إذا جعلوا المخفوض يلي الواو,
فأجاز الأخفش1 ومن ذهب مذهبه: مَرَّ زيدٌ بعمرٍو وخالدٌ بكرٍ، واحتجوا
بأشياء منها قول الشاعر:
هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمورَ ... بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا
فَلَيْسَ بآتِيكَ مَنْهِيُّهَا ... ولاَ قَاصِرٍ عَنْكَ مأمورُهَا2
__________
1 انظر المقتضب 4/ 195, وشرح الكافية 1/ 299, وابن يعيش 3/ 27, والمغني
2/ 101.
2 من شواهد سيبويه 1/ 31 على جواز النصب في الخبر المعطوف على خبر
"ليس" وإن كان الآخر أجنبيًّا؛ لأن "ليس" تعمل في الخبر مقدمًا ومؤخرًا
لقوتها، وقال ابن هشام في المغني: ومما يشكل على مذهب سيبويه قوله: هون
عليك؛ لأن "قاصر" عطف على مجرور الباء، فإن كان مأمورها عطفًا على
مرفوع "ليس" لزم العطف على معمول عاملين، وإن كان فاعلًا بقاصر لزم عدم
الارتباط بالمخبر عنه، إذ التقدير حينئذ: فليس منهيها بقاصر عنك
مأمورها.
والبيتان للأعور الشني, وكان الخليفة عمر "رضي الله عنه" كثيرًا ما
يتمثل بالبيتين، وهو على المنبر.
وانظر: المقتضب 4/ 196, والمغني 1/ 128 و2/ 101, والسيوطي/ 146,
والأشباه والنظائر 4/ 12, وشرح السيرافي 1/ 420.
(2/69)
وقال النابغة:
فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ لَنَا أنْ نَرُدَّها ... صِحَاحًا ولا مستنكرًا
أن تُعقَّرا1
وما يحتجون به:
ما كل سوداءَ تمرةً، ولا بيضاءَ شحمةً، فعطف على كُل وما، ومن ذلك:
أَكُلَّ امرِئٍ تَحْسَبِينَ امرأً ... ونَارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ
نَارَا2
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 32 قال الأعلم: فرد قوله: ولا مستنكرًا على قوله
"بمعروف" وجعل الآخر من سبب الأول؛ لأن الرد ملتبس بالخيل، وكأنه
والعقر متصل بضميرها، فكأنه اتصل بضمير الرد حيث كان من الخيل ...
فتقدير البيت: فليس بمعروفة خلينا ردها صحاحًا ولا مستنكر عقرها، لما
ذكر من التباس الرد بالخيل، فكأنه من الخيل, والبيت للنابغة الجعدي من
قصيدة قالها حينما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنشده إياها.
وانظر: المقتضب 4/ 194، والخزانة 1/ 513، واللآلئ/ 247، وأمالي المرتضى
1/ 267، وجمهرة أشعار العرب/ 303، وديوان النابغة/ 73.
2 من شواهد سيبويه 1/ 33 أراد: "وكل نار" فحذف لما جرى من ذكر كل مع
تقديمه المجرورين وحصول الرتبة في آخر الكلام، واتصال المجرور بحرف
العطف لفظًا ومعنى ... فسيبويه يحمله على حذف مضاف تقديره: وكل نار إلا
أنه حذف، ويقدرها موجودة، والأخفش يحمله على العطف على عاملين فيخفض
نارًا بالعطف على امرئ المخفوض بكل، وينصب نارًا بالعطف على الخبر.
والبيت لأبي دواد الإيادي حارثة بن الحجاج من إياد بن نزار, شاعر قديم
من شعراء الجاهلية. وانظر المحتسب 2/ 281، وأمالي ابن الشجري 1/ 196,
ومفاتيح العلوم: 69، والكامل/ 163، وابن يعيش 3/ 27، ومشكل إعراب
القرآن 489.
(2/70)
ومذهب سيبويه في جميع هذه أن لا يعطف على
عاملين، ويذكر أن في جميعها تأويلًا يرده إلى عمل واحد، ونحن نذكر ما
قاله سيبويه في باب "ما"1 تقول: ما أبو زينب ذاهبًا ولا مقيمةٌ أُمها،
ترفع لأنك لو قلت: ما أبو زينبَ مقيمةً أمها لم يجز؛ لأنها ليست من
سببه ومثل ذلك قول الأعور الشني: هَوّنْ عليكَ فأنشد البيتين ورفَع,
ولا قاصر عنك مأمورها, وقال: لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله
من سبب المذكر وهو المنهي ومعنى كلامه أنه لو كان موضع ليس "ما" لكان
الخبر إذا تقدم في "ما" على الاسم لم يجز إلا الرفع, لا يجوز أن تقول:
ما زيدٌ منطلقًا ولا خارجًا معنٌ, فإن جعلت في "خارجٍ معن" شيئًا من
سبب زيدٍ جاز النصب، وكان عطفًا على الخبر لأنه يصير خبرًا لزيدٍ لأنه
معلق بسبب له، فكذلك لو قلت: فما يأتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنك مأمورها
غير قولك منهيها، ثم قال: وجَرهُ قومٌ فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي
هو الأمور؛ لأنه من الأمور وهو بعضُها فأجراه [وأنثه] 2 كما قال جرير3:
إذا بَعْضُ السِّنين تَعرَّقتْنا ... كَفَى الأيتام فَقْد أَبي
اليتيمِ4
__________
1 انظر الكتاب 1/ 31.
2 زيادة من سيبويه، انظر الكتاب 1/ 31-32.
3 في الأصل: حديث ولا معنى لها.
4 من شواهد سيبويه 1/ 25 و1/ 32 على تأنيث تعرقتنا فعل بعض لإضافته إلى
السنين, ولأنه أراد سنة، فكأنه قال: إذا سنة من السنين تعرقتنا.
عنى بالبيت هشام بن عبد الملك، فيقول: إذا أصابتنا سنة جدب تذهب المال
قام للأيتام مقام آبائهم. وأراد أن يقول: كفى الأيتام فقد آبائهم، فلم
يمكنه، فقال: فقد أبى اليتيم؛ لأنه ذكر الأيتام أولًا، ولكنه أفرد حملا
على المعنى، لأن الأيتام هنا اسم جنس فواحدها ينوب مناب جمعها، كان
المقام مقام الإضمار فأتى بالاسم الظاهر.
وانظر المقتضب 4/ 198، وابن يعيش 5/ 96، والفائق للزمخشري 3/ 137،
والمذكر والمؤنث لابن الأنباري/ 318، والخزانة 2/ 167، وديوان جرير/
507.
(2/71)
فصار تأويل الخبر ليس: بآتيك الأمور ولا
قاصرٌ بعضها، فجعل: بعض الأمور أمورًا وكذلك احتج لقول النابغة في الجر
فقال: يجوز أن تجر وتحمله على الرد لأنه من الخيل يعني في قوله: أن
تردَها.... لأن "أن تردهَا" في موضع ردهَا، كما قال ذو الرمة:
مَشَيْنَ كَمَا اهتزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهتْ ... أَعَاليها مَرَّ
الرِّياحِ النَّواسِمِ1
كأنه قال: تسفهتها الرياح، فهذا بناء الكلام على الخيل وذلك ردَّ إلى
الأمور وقال: كأنه قال: ليس بآتيكَ منهيها وليست بمعروفة ردها حين كان
من الخيلِ والخيلُ مؤنثةٌ فأنثَ وهذا مثل قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا
[خَوْفٌ] 2 عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3 أجرى الأول على لفظ
الواحد والآخر على المعنى، هذا مثله في أنه تكلم به مذكرًا ثم أنث، كما
جمع وهو في قوله: ليس بآتيتكَ منهيها، كأنه قال: ليس بآتيتكَ الأمور،
وفي ليس بمعروف ردَها، وكأنه قال: ليست بمعروفةٍ خيلنا صحاصًا قال: وإن
شئت نصبت فقلت: ولا مستنكرًا ولا قاصرًا4.
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 23، 25 على اكتساب المضاف التأنيث وكذلك استشهد
به المبرد في المقتضب. وتسفهت: تحركت. والنواسم التي تهب بضعف. وصف
نساء فقال: إذا مشين اهتززن في مشيهن وتثنين فكأنهن رماح نصبت فمرت
عليها الرياح فاهتزت وتثنت، وخص النواسم لأن الزعازع الشديدة تعصف ما
مرت به وتغيره. ويروى: مرضى الرياح، يريد الفاترة. ولا شاهد فيه، على
هذه الرواية، وذكر المبرد في الكامل عن بعضهم أن البيت مصنوع، وأن
الصحيح فيه مرضى الرياح النواسم. وانظر المقتضب 4/ 197, والخصائص 2/
417, وشرح السيرافي 1/ 322, ومعجم المقاييس 3/ 79, وشرح ابن عقيل/ 291,
والمذكر والمؤنث لابن الأنباري/ 318, والمحتسب 1/ 237، والكامل للمبرد/
313 طبعة أوروبا, والديوان/ 116 ورواية الديوان: رويدًا كما اهتزت.
2 خوف، ساقطة من الآية.
3 البقرة: 112 وانظر الكتاب 1/ 33.
4 انظر الكتاب 1/ 33.
(2/72)
قال أبو العباس1: قال الأخفش: وليس هذان
البيتان على ما زعم سيبويه، يعني في الجر؛ لأنه يجوز عند العطف، وأن
يكون الثاني من سبب الأول وأنكر ذلك سيبويه لأنه عطف على عاملين على
السين والباء فزعم أبو الحسن: أنها غلط منهُ وأن العطف على عاملين جائز
نحو قول الله عز وجل في قراءة بعض الناس: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا
يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ} 2، فجر الآيات وهي في موضع نصب، ومثل
قوله: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3 عطف على خبر "إنّ"
وعلى "الكل".
قال أبو العباس: وغلطَ أبو الحسن في الآيتين جميعًا ولكن قوله:
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 4 وابتدأ الكلام:
{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} 5،
{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ
مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} 6 بعد هذه الآية، وإن جرَّ
آيات فقد عطف على عاملين وهي قراءة عطف على "إن" و"في" قال: وهذا عندنا
غير جائز7؛ لأن الذي تأوله سيبويه بعيدٌ وقال: لأن الرد غير الخيل
والعقرُ راجع إلى الخيل فليس بمتصل بشيء من الخيل ولا داخل في المعنى,
وقال: أما قوله: فليس بآتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنكَ مأمورها فهو أقرب
قليلًا وليس
__________
1 انظر المقتضب 4/ 195.
2 الجاثية: 4، قرأ حمزة والكسائي {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ}
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} بالخفض فيهما، وقرأ الباقون بالرفع
فيهما. انظر حجة القراءات ص658, وغيث النفع/ 236، والنشر2/ 371,
والإتحاف/ 389, والبحر المحيط 8/ 43.
3 سبأ: 24.
4 الجاثية: 5.
5 الجاثية: 3.
6 الجاثية: 5, وانظر "ت" 14.
7 انظر المقتضب 4/ 195، وهذه الآية موجودة والتي قبلها غير موجودة.
(2/73)
منه لأن المأمورَ بعضها والمنهي بعضها،
وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور، وقال: وليس يجوزُ الخفض عندنا إلا على
العطف على عاملين فيمن أجازه.
وأما قولُهم: ما كلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمة, فقال سيبويه:
كأنكَ أظهرت كُلَّ مضمرٍ فقلت: ولا كُلَّ بيضاء1، فمذهب سيبويه أنَّ
"كُلَّ" مضمرة هنا محذوفة وكذلك:
أُكَلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امرأً ... ونَارٍ تَوقَّدُ بالليلِ نَارا2
يذهب إلى أنه حذف "كُلُّ" بعد أن لفظ بها ثانية، وقال: استغنيت عن
تثنيةِ "كلِّ" لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب
قال: وجاز كما جازَ في قوله: ما مثلُ عبد اللَّهِ يقول ذاكَ ولا أخيهِ
وإن شئت قلت: ولا مثلَ أخيهِ فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في
تفريقه وتفريقُه أن تقول: ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاك ولا أخيه يكرهُ
ذاكَ قال: ومثلُ ذلك: ما مثلُ أخيكَ ولا أبيكَ يقولانِ ذلكَ3، فلما جاز
في هذا جاز في ذاك.
وأبو العباس -رحمه الله- لا يجيزُ: ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاكَ، ولا
أخيهِ يكرهُ ذاكَ والذي بدأ به سيبويه الرفعُ في قولكَ: ما كُلُّ
سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمةٌ، والنصب في "ونارًا"4 هو الوجه، وهذه
الحروف شواذ، فأما من ظنَّ أن من جَر آياتٍ5 في الآية فقد عطف على
عاملين فغلطٌ منهُ، وإنما نظير ذلك قولك: إنَّ في الدار علامةً
للمسلمين والبيتِ عَلامةً للمؤمنينِ, فإعادة علامة تأكيد وإنما حسنت
الإِعادة للتأكيد لما طال الكلام، كما تعاد "إن" إذا طال الكلام، وقد
ذكرنا هذا في باب إنَّ وأنَّ، ولولا أنا ذكرنا التأكيد
__________
1 انظر الكتاب 1/ 33.
2 مر تفسيره/ ص71.
3 انظر الكتاب 1/ 33.
4 يشير إلى قول الشاعر: ونار توقد في الليل نارا.
5 يشير إلى قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ
آيَاتٌ} .
(2/74)
وأحكامه فيما تقدم لذكرنا ههنا منه طرفًا،
كما أنك لو قلت: إنَّ في الدار الخيرَ والسوق والمسجدَ والبلدَ الخير,
كان إعادته تأكيدًا وحسُن لما طال الكلام فآياتٌ الأخيرةُ هي الأولى,
وإنما كانت تكون فيه حجة لو كان الثاني غير الأول حتى يصيرا1 خبرين
وأما من رفع وليست "آيات" عنده مكررة للتأكيد فقد عطف أيضًا على عاملين
نصب أو رفع؛ لأنه إذا قال: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ
دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ
فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2، فإذا رفع فقد عطف "آياتٍ" على
الابتداء واختلافًا على "في" وذلك عاملان, ولكنه إذا قصد التكرير رفع
أو نصب فقد زال العطف على عاملين فالعطف على عاملين خطأ في القياس غير
مسموعٍ من العرب, ولو جاز العطف على عاملين لجاز على ثلاثة وأكثر من
ذلك, ولو كان الذي أجاز العطف على عاملين أي شاهد عليه بلفظ غير مكرر
نحو: "إنَّ في الدار زيدًا والمسجدَ عمرًا" وعمرٌو غيرُ زيدٍ لكان ذلك
له شاهدًا على أنه إنْ حكى مثله حاكٍ ولم يوجد في كلام العرب شائعًا
فلا ينبغي أن تقبله وتحمل كتاب الله عز وجل عليه.
__________
1 في الأصل: "بصير".
2 الجاثية: 3، 4، 5 على التوالي.
(2/75)
باب مسائل العطف:
نقول: مررتُ بزيدٍ أنيسِكَ وصاحبِكَ فإن قلت: مررت بزيدٍ أخيك فصاحبِك،
والصاحب زيدٌ لم يجز وتقول: اختصم زيدٌ وعمرٌو ولا يجوز أن تقتصر في
هذا الفعل وما أشبهه على اسم واحد؛ لأنه لا يكون إلا من اثنين ولا يجوز
أن يقع هنا من حروف العطف إلا الواو1 لا يجوز أن تقول: اختصم زيدٌ
فعمرٌو لأنك إذا أدخلت الفاء وثم اقتصرت على الاسم الأول؛ لأن الفاء
توجب المهلة بين الأول والثاني وهذا الفعل إنما يقع من اثنين معًا
وكذلك قولك: جمعت زيدًا وعمرًا ولا يجوز أن تقول: جمعت زيدًا فعمرًا
وكذلك المال بين زيدٍ وعمروٍ ولا يجوز: بين زيدٍ فعمرٍو وتقول: زيدٌ
راغبٌ فيك وعمرٌو تعطف "عمرًا" على الابتداء فإن عطفت على "زيدٍ" لم
يكن بُد من أن تقول: زيدٌ وعمرٌو راغبانِ فيكَ فإن عطفت عمرًا على
الضمير الذي في "راغبٍ" قلت: "زيدٌ راغبٌ هو وعمرو فيكَ" فإن عطفت على
ابتداء والمبتدأ لم يجز أن تقول: زيد راغبٌ وعمرو فيك لأن "فيك" معلقة
براغب فلا يجوز أن تفصل بينهما وقد أجازوا تقديم حرف النسق في الشعر
فتقول على ذاك: قامَ وزيدٌ عمرٌو وقامَ ثُمَّ زيدٌ وعمرو وتقول: زيدٌ
وعمرو قاما ويجوز: زيد وعمرو قامَ فحذف "قامَ" من الأول اجتزاءً
بالثاني وتقول: زيدٌ ثم عمرو قامَ وزيد فعمرٌو قامَ وقد أجازوا
التثنية،
__________
1 لأن الواو تشرك الثاني فيما دخل فيه الأول.
(2/76)
فتقول: زيدٌ فعمرو قاما وزيد ثم عمرو قاما
ولا يجيزون مع "أو ولا" إلا التوحيد لا غير نحو زيدٍ لا عمرٍو قامَ
وزيد أو عمرو قامَ لا يجوز أن تقول: زيدٌ لا عمرٌو قاما لأنك تخلط من
قام بمن لم يقم وكذلك لو قلت قَاما لجعلت القيام لهما إنما هو لأحدهما
ومن أجاز: لقيتُ وزيدًا عمرًا لم يجز ذلك في المخفوض لا تقول: مررت
وزيدٍ بعمروٍ تريد: مررت بعمروٍ وزيد لأنه قد قدم المعطوف على العامل
وإنما أجازوا للضرورة أن يقدم معمولٌ فيه على معمولٍ فيه والعامل
قبلهما وذا ليس كذلك وقد حلت بينه وبين ما نسقته عليه بغيره وهو الباء.
وأجاز قوم: قام ثم زيد عمرٌو، ولا يجيزون: إن وزيدًا عمرًا قائمانِ لأن
"إنَّ" أداة. ويجيزون: "كيف وزيدٌ عمرٌو" ويقولون: كلُّ شيءٍ لم يكن
يرفع لم يجز أن يليه الواو نحو: "هل وزيد عمرو قائمانِ" محال وإنما صار
العطف إذا لم يكن قبله ما يرفع أقبح لأنه يصير مبتدأً وفي موضع مبتدأ
وليس أحد يجيز مبتدأً: وزيدٌ عمرٌو قائمانِ يريد: عمرو وزيد قائمان وإن
بمنزلة الابتداء فلذلك قبح أيضًا فيها وتقول: زيدٌ رغبَ فيكَ وعمرٌو
وزيد فيكَ رغبَ وعمرٌو فإن أخرجت "رغب" على هذا لم يجز: أن تقول: زيدٌ
فيكَ وعمرٌو رغبَ لأنك قد فصلت بين المبتدأ وخبره بالمعطوف وقدمت ما هو
متصل بالفعل وفرقت بينهما بالمعطوف أيضًا وتقول: أنت غير قائمٍ ولا
قاعدٍ تريد: وغير قاعد لما في "غير" من معنى النفي وتقول: أنت غير
القائم ولا القاعد تريد: غير القاعد كما قال الله عز وجل: {غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 ولم يجئ هذا في المعرفة،
لا يستعملون "لا" مع المعرفة العلم في مذهب "غير" لا يجوز: أنت غيرُ
زيدٍ ولا
__________
1 الفاتحة: 7. قال ابن خالويه في إعراب ثلاثين سورة/ 32: "غير" نعت
للذين والتقدير: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} , غير اليهود؛ لأنك إذا قلت: مررت برجل صادق
غير كاذب، فغير كاذب هو الصادق، وانظر المحيط 1/ 28.
(2/77)
عمروٍ1 تقول: زيدٌ قام أمس ولم يقعدْ، ولا
يجوز: زيد قامَ ويقعدُ، وإنما جاز مع "لم" لأنها مع عملت فيه في معنى
الماضي، ولا يجوز أن تنسق على "لن ولم" بلا مع الأفعال لا تقول: لم يقم
عبد الله لا يقعد وكذلك: لن يقوم عبد الله لا يقعدُ يا هذا لأن "لا"
إنما تجيء في العطف لتنفي عن الثاني ما وجب للأول وتقول: ضربتُ عمرًا
وأخاهُ وزيدٌ ضربتُ عمرًا ثم أخاه وزيدٌ ضربت عمرًا أو أخاهُ وقوم لا
يجيزون من هذه الحروف إلا الواو فقط ويقولون: لأن الواو بمعنى الاجتماع
فلا يجيزون ذلك مع ثم وأو لأن مع "ثم وأو" عندهم فعلًا مضمرًا فإن قلت:
"زيدٌ ضربت عمرًا وضربتُ أخاهُ" لم يجز: لأن الفعل الأول والجملة
الأولى قد تمت ولا وصلةٌ لها بزيد وعطفت بفعل آخر هو المتصل لسببه وليس
لأخيه في "ضربتُ" الأولى وصلةٌ فإن أردت بقولك: وضربتُ إعادة للفعل
الأول على التأكيد جازَ ومن أجاز العطف على عاملين قال: زيدٌ في الدار
والبيت أخوهُ وأمرتُ لعبد الله بدرهمٍ وأخيه بدينارٍ لأن دينارًا ليس
إلى جانب ما عملت فيه الباء وحرف النسق مع الأخِ ولا يجوز أيضًا أمرتُ
لعبد الله بدرهمٍ ودينارٍ أخيهِ لأن أخاهُ ليس إلى جانب ما عملت فيه
اللام وحرف النسق مع دينارٍ وتقول: ضربتُ زيدٌ وعمرًا ويجوز أن ترفع
عمرًا وهو مضروب فتقول: ضربتُ زيدًا وعمرٌ تريد: وعمرو كذلك وإنما يجوز
هذا إذا علم المحذوف ولم يلبس وتقول: هذان ضاربٌ زيدًا وتاركهُ لأن
الفعل لا يصلح هنا لو قلت: هذانِ يضربُ زيدًا ويتركهُ لم يجز وإنما جاز
هذا في "فاعلٍ" لأنه اسم فإذا قلت: هذانِ زيدٌ وعمرٌو لم يجز إلا
بالواو لأن الواو تقوم مقام التثنية والجمع.
واعلم: أنه لا يجوز عطف الظاهر على المكني المتصل المرفوع حتى تؤكده
نحو: قمتُ أنا وزيدٌ وقامَ هُو وعمرٌو قال الله عز وجل: {اذْهَبْ
أَنْتَ
__________
1 لأن "غيرًا" لا تكون إلا نكرة عند المصنف، وغيره يقول: تكون معرفة في
حال، ونكرة في حال، وانظر البحر المحيط 1/ 28.
(2/78)
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 1, فإن فصلت بين
الضمير وبين المعطوف بشيءٍ حسنَ، نحو: ما قمتُ ولا عمرٌو، ويجوز أن
تعطف بغير تأكيد ولا يجوز عطفُ الظاهر على المكنى المخفوض نحو: مررت به
وعمروٍ إلا أن يضطر الشاعر وتقول: أقْبَل إن قيلَ لك الحقُّ والباطل
إذا أمرت بالحقِّ: أردت: أقْبَل الحقَّ إن قيلَ لك هُو والباطلُ.
قد ذكرنا جميع هذه الأسماء المرفوعة والمنصوبة والمجرورة وما يتبعها في
إعرابها، وكنت قلت في أول الكتاب أن الأسماء تنقسم قسمين: معربٍ ومبنيٍ
فإن المعرب ينقسم قسمين: منصرفٍ وغير منصرفٍ وقد وجب أن يذكر من
الأسماء ما ينصرفُ وما لا ينصرف ثم نتبعهُ المبنياتِ.
__________
1 المائدة: 24.
(2/79)
|